على الشيخ أنه تصرف في وقف المدرسة، و[أنه] اقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادَّعاه، وأنكر الشيخ وصدق وبر، وأفردت للشيخ دار بدرب الديوان، وعلى بابها بواب، وأفرد له من يخدمه، وكان بعض الناس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملي عليهم، وكان يرسل أشعارًا كثيرة إلى بغداد.
وأقام بواسط خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه، ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولا يتمكن من خروج إلى حمام ولا غيره، وقد قارب الثمانين.
وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد، وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحًا زائدًا، ونودي له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة، فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر في الليل فراشون وروزجارية١، فنظفوا موضع الجلوس، وفرشوا فيه دقاق الحصى والبواري٢، ومضى الناس وقت المطر إلى قبر معروفٍ [الكرخي] تحت الساباط٣ حتى سكن المطر، ثم جلس الشيخ بكرة السبت، وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم.
وأعاد الخليفة الشيخ إلى بغداد وخلع عليه، وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ، وأنشد:
شقينا بالنوى زمنًا فلما ... تلاقينا كأنا ما شقينا
سخطنا عندما جنت٤ الليالي ... فما زالت بنا حتى رضينا
سعدنا بالوصول وكم شقينا ... بكاسات الصدود وكم فنينا
فمن لم يحي بعد الموت يومًا ... فإنا بعد ما متنا حيينا
ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ ونشر العلم وكتابته إلى أن مات.
_________
١ قال النووي: الروزجار هو براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم زاي، ثم جيم، ثم ألف، ثم راء: وهو الذي يعمل الطين بالمجرفة ونحوها.
٢ جمع "بوريّة" وهي: الحصير.
٣ الساباط: ممر مسقوف.
٤ جنت من الجناية.
1 / 18