72

ولئن خشيت حبا فإنما هذه الفتاة التي يحق لي أن أخشى حبها وأخشاها.

سنحت هذه الخاطرة في حدس همام مع سنوح سارة في أول الطريق طفرة واحدة.

وكان همام ممن يقيسون ارتقاء المرأة بسلوكها في مسألة المواعيد، فأبغض النساء إليه المرأة التي تحسب سرور الرجل بلقياها سببا كافيا لتنكيده بالانتظار وتكديره بالإبطاء في الحضور إلى الموعد، ولو كان في وسعها أن تسبقه إليه ... وعندها أنه ما دام راغبا في لقائها فلا يصح أن يهنأ بهذه الرغبة خالصة ويسعد بهذه المتعة صافية، وعليه أن يبذل ثمنها نكدا لا ضرورة له وغصة لا حاجة إليها، وهو صاغر راغم يحرق الأرم ولا يعرف له حيلة غير الإنابة والتسليم، وإلا فماذا هو صانع؟

وجواب «ماذا هو صانع؟» هذه يختلف باختلاف الرجال واختلاف أنواع الهوى، أما جوابها عند همام فهو الانتظار خمس عشرة دقيقة على الأكثر ريثما ينقضي أقصى المدى المفروض لاختلاف الساعات في التقديم والتقدير، ثم ينصرف ولا يسأل عن العاقبة، إلا إذا اتضح له بعد ذلك أن العذر مقبول.

فلما رأى سارة - وهو يراقب الطريق من وراء النافذة - قد أقبلت في أول الطريق قبل الموعد بدقيقتين أو ثلاث، ولاحظ للمرة الثانية أنها تتحرى الدقة في رعاية المواعيد، فرح بمعرفتها ورحب بالعلاقة بينه وبينها، وأوجس في حينها أن تنشب هذه العلاقة جذورها في فؤاده فيتبعها ما لا بد أن يتبعها من لواعج ونكبات وفواجع، وأيقن أن هذه الفتاة تفهم كثيرا جدا؛ لأن الفتاة التي تفهم أن لها قيمة غير قيمة الدلال المصطنع، وأن العاطفة أنفس من أن تشاب بالتنكيد والتكدير لغير داع، لهي صاحبة ذكاء مطبوع يفقه قيمة الزمن وقيمة الشعور وقيمة السرور، ولا يقتصر ذكاؤها على النظر على عقربي الساعة لإدراك الميعاد!

وفي الحق أن سارة قد بهرت همام بأشياء كثيرة في أول زياراتها لمنزله غير رعايتها للمواعيد.

فلو كانت تعرف ما يروقه ويستهويه من النساء معرفة تفصيل وتدقيق لحسب أنها تجوز امتحانا عسيرا وتتعمد أن تخرج منه بالتزكية التي ليس بعدها تزكية، والشهادة التي ليس فوقها شهادة.

هو قليل المرح، فيروقه من المرأة أن تكون مرحة بغير تكلف ولا مبالغة، ويسمى المرح الذي يزين المرأة ويشوق الرجل مرحا «موقعا» تشبيها له بالغناء الذي ينطلق انطلاقا وينبعث انبعاثا ولكنه يقف حينما يحسن به الوقوف، ويسكن حينما يطيب منه السكون؛ يقف ويسكن لا على اقتضاب موحش وانقطاع ناشز، ولكن على نغمة تفصل اللحن من اللحن، أو على قافية تختم البيت بعد البيت، فهو الوقوف الذي يريح ويشوق ويزيد لذة الإيقاع وطرافة السماع.

وهو يحب من المرأة الزينة التي تغري من يبصرها إغراء لا يخفى، ولكنها لو أنكرته وزعمت أنها لم تتعمده ولم تفكر فيه لما استطاع أحد تكذيبها ببرهان.

وهو يحب المرأة التي تدرك الفكاهة، ويكره التي تتخذ من فكاهتها صناعة أو معرضا مفتوحا في كل ساعة، وأقرب دليل عنده على اتفاق المزاجين هو دليل «نيتشه» الذي يقول إن الضحك من نكتة واحدة هو العنوان الواضح على تقارب الضاحكين في المزاج والتفكير، وما انفصل اثنان بفاصل هو أبعد من ابتعادهما في تمييز النكات.

अज्ञात पृष्ठ