فقال له التلميذ وقد امتقع لونه وهل النحاة أيضا ماتوا ولم ينهوا قواعد هذا العلم. وهل قراءتي له عليك تغني عن إعادته عند غيرك هنا. وهل يجب على الطالب في كل بلد سافر إليه أن يتعلم نحو أهله أم هو علم مرة واحدة. فقال له شيخ إما عن المسألة الأولى فأجيب أنه ما جرى على البيانيين فقد جرى أيضا على النحاة. فقد قال الفراء أموت وفي قلبي شيء من حتى. وقد مات سيبويه وبقي في قلبه من فتح همزة أن وكسرها أشياء. ومات الكسائي وفي صدره من الفاء العاطفة والسببية والفصيحة والتقريعية والتعقيبية والرابطة حزازات. ومات اليزيدي وفي رأسه من الواو العاطفة والاستئنافية والقسمية والزائدة والإنكارية صداع وأي صداع. ومات الزمخشري وفي كبده من لام الاستحقاق والاختصاص والتمليك وشبه التمليك والتعليل وتوكيد النفي وغير ذلك قروح. ومات الأصمعي وفي عنقه من رسم كتابة الهمزة غدة. وفي الجملة فإن معرفة حرف واحد من هذه الحروف إذا تعمد الطالب استقصاءها وجب عليه أن يترك جميع أشغاله ومصالحه ويعكف على ما قيل فيه وأجيب عنه. وما قيل من الأمثال. أعط العلم كلك يعطك جزأه إلا لأجل ذلك. وأما قولك هل يلزم أن تقرأ النحو أيضًا على غير هنا أي في بلادنا فذلك غير لازم. فإن أهل بلادنا كلهم لا يطالعون غير هذا الكتاب الذي تطالعه أنت. بل قل من يطالعه ويفهمه أو يعمل بمقتضى قواعده. وأما عن سؤالك الثالث فأقول إنه لا ينبغي إعادة هذا العلم في كل بلد ولكنك حيثما سرت وأيان توجهت وجدت أُناسًا ينتقدون عليك كلامك. فإن عبرت بالواو مثلا قالوا الأفصح هنا الفاء أو باء وقالوا الأولى أم. وفي بعض البلاد إذا علم إنك تنقط ياء قائل سقط اعتبارك من عيون الناس. فقد قرأت في بعض كتب الأدب أن بعض العلماء عاد صديقا له في حال مرضه فرأى عنده كراسة قد كتب فيها لفظة قائل بنقطتين تحت الياء تحت الياء فرجع في الحال على عقبه وقال لمن صار معه لقد أضعنا خطواتنا في زيارته.
وهذا هو سبب قلة التأليف في عصرنا. فإن المؤلف والحالة هذه نفسه للطعن والقدح والبلاء. ولا يراعي الناس ما في كتابه من الفوائد والحكم. إلا إذا كان مشتعلًا على جميع المحسنات البديعة والدقائق اللغوية ومثل ذلك رجل فاضل يدخل على قوم بهيئة رئة ورعابيل شماطيط. فالناس لا تنظر إلى أدبه الباطني بل إلى بزّته وزيه. والحمد لله على قلة المؤلفين اليوم في بلادنا، إذ لو كثروا وكثر نقدهم وتخطبهم لكثرت أسباب البغض والمشاحنة بينهم. وقد استغنى الناس عن ذلك بتلفيق بعض فقر مسجعة في رسائل ونحوها كقولك السلام والإكرام. والسنية والبهية. فأخفه ما كان ساكنًا. فأما الشعر في عصرنا هذا فأنه عبارة عن وصف ممدوح بالكرم والشجاعة أو وصف إمرأة بكون خصرها نحيلًا وردفها ثقيلًا. وطرفها كحيلًا ومن تعمد قصيدة جعل جل أبياتها غزلًا ونسيبًا وعتابًا وشكوى وترك الباقي للمدح.
ثم أن التقليد النجيب أستمر يقرأ على شيخه الأديب في النحو حتى وصل إلى باب الفاعل والمفعول فأعترض على أن الفاعل يكون مرفوعًا والمفعول منصوبًا. وقال هذا الاصطلاح فاسد لأن الفاعل إذا كان مرفوعًا كان الذي عمل فيه الرفع آخر. والحال أنه هو العامل. وبياته إنا نرى الفاعل في البناء يرفع الحجر وغيره على كتفه فالحجر هو المرفوع والفاعل رافع وكذلك فاعل ال ... فإنه هو الذي يرفع الساق. فقال له المعلم مه مه لقد أفحشت، فكان ينبغي لك التأديب في مجلس العلم فإنه غير مجلس الإمارة. ثم ختم التلميذان قراءة الكتاب ولم يستفيدا شيئًا وكأن الشرح كله كان موجهًا إلى الفارياق. ومذ ذلك الوقت أخذ في تجويد عبارته بمقتضى القواعد النحوية فصار يهوّل بها على رعاع الناس كما يظهر في الفصل الآتي.
أكلة وأكال
1 / 35