قال: «أنا هنا في انتظارك من ساعة، كيف حال مولانا الإمام الآن يا ترى؟» قال بهاء الدين وهو يقعد على مقعد في تلك الغرفة: «إن مرضه شديد، شفاه الله.» ولم يدع أبا الحسن للقعود كالعادة.
فقعد أبو الحسن من تلقاء نفسه. وأخذ يظهر الأسف على حال العاضد ويفرك يديه ويعصر عينيه ويهز رأسه وهو مطرق ثم قال: «هل أنت متأكد أنه شديد المرض؟»
قال: «هكذا قيل لي الساعة، شفاه الله. إنه رضي الخلق.»
فبادر إلى الجواب باهتمام وقال: «صدقت يا أستاذ، إن الإمام كان من أحسن أهلنا خلقا وأطيبهم قلبا ولذلك.» وتنحنح وهز رأسه كأنه يحاول كتمان أمر خطر له ثم التفت إلى قراقوش وقال: «لا بد أنك لاحظت بدقة نظرك يا أستاذ ماذا كان نتيجة طيبة قلبه وتساهله، وإن لم تر رأي العين. أما أنا فقد رأيته. على أن الأمر الآن أعظم مما تعلمه وينبغي لنا ملاقاة الخطر قبل وقوعه. أنا أعلم أنك ساهر متيقظ لا تحتاج إلى تنبيه، لكنني أستمحيك عذرا إذا رأيت في قلقا فإني أضن بسمعة أهلي أن يلحقها ما يشوهها. وقد علمت ما كان بالأمس من أمر ذلك الغريب الذي دخل هذا القصر وخرج منه ولم تتمكن من القبض عليه؛ لأن أهل هذا القصر أرشدوه إلى طريق الفرار. لا أقول ذلك طعنا في أحد لأني أعتقد أن ذلك من عواقب الطيش عن جهل لا عن سوء نية. فسيدة الملك هذا حالها وأخوها حي، فإذا أصابه سوء لا سمح الله كيف يكون حالها؟»
وتنحنح وتوجه بنظره نحو قراقوش وهو يظهر الثقة فيه والاعتماد عليه وقال: «ولا ينبغي لي أن أخفي عليك أمرا أخفيته على سائر الناس ولم يطلع عليه غير صديقي وصديقك ضياء الدين الهكاري. أعني أن الإمام العاضد بايعني بالخلافة بعده، وخطبت أخته هذه وهي لا تعلم بعد. وإنما يعلم الجليس الشريف بذلك، ويعلمه أيضا ضياء الدين، والسلطان صلاح الدين. وكان لي معه حديث طويل في هذا الشأن صباح اليوم، لا أدري إذا كان قد أطلعك عليه.» وصبر ليرى ما يبدو من قراقوش فإذا هو ما زال مصغيا لا يبدي حراكا.
فعاد أبو الحسن إلى إتمام حديثه فقال: «وإذا كان لم يطلعك عليه فلا بد أنه مطلعك قريبا. وإنما جئتك الآن أستعينك في صيانة عرضي وعرض الإمام - شفاه الله - ريثما يستقر الأمر في نصابه ويشرف عليه السلطان صلاح الدين حفظه الله. هذا أمر قد تم الاتفاق عليه بيني وبينه. وإنما أطلب إليك أن تحتفظ بهذا القصر وأنت فاعل ذلك. لكنني أخاف أن يتمكن الأعداء من دخوله سرا فأرى أن تأمر بنقل أخت الخليفة منه إلى قصر آخر ليس فيه سراديب. وأظن دار الضيافة أفضل القصور لهذا الغرض.» قال ذلك وهو يتفرس في عيني بهاء الدين وينتظر رأيه في ذلك.
أما بهاء الدين فأظهر عدم الاهتمام وقال: «لا أرى باعثا على هذا القلق يا أبا الحسن والخليفة ما زال حيا.»
قال: «إنما العاقل من فكر في الأمر قبل وقوعه، أما إذا وقع فلا فائدة من التفكير، اسمع ... اسمع ... أليس هذا صياح النساء في القصر؟ يظهر أن العاضد قد فارق الحياة. مسكين!» وأخذ يفرك كفيه ويبكي.
أما بهاء الدين فحالما سمع الصياح وقف والاهتمام باد في محياه. وأشار إلى بعض الغلمان أن يمضي في مهمته، وأومأ إلى أبي الحسن أن يمكث ريثما يعود وألا يخرج قبل رجوعه. وتحول قراقوش إلى مكان آخر في القصر وقد علا الضجيج، فتحقق أبو الحسن موت الخليفة فأصبح همه القبض على سيدة الملك. وأسف لذهاب قراقوش ولم يعلم سبب ذلك. فقعد في تلك الغرفة وهو مطرق يفكر كأنه على الجمر. فسمع قرقعة اللجم، وصهيل الخيل فأطل من النافذة فرأى فرسانا يسرعون نحو القصر كأنهم يحيطون به من كل ناحية فعجب لذلك. ثم شعر بيد تهز كتفه برعشة فالتفت فإذا بالغلام الذي كان قد اصطنعه وجعله جاسوسا على سيدة الملك في ذلك القصر وقف يرتعد والبغتة ظاهرة في وجهه فصاح به: «جوهر! ما وراءك؟» فقال: «هلم يا سيدي، انج بنفسك.» قال: «إلى أين؟ لا. إني باق حتى أرى هذه اللعينة وآخذها. ألم ترها؟» قال: «انج بنفسك يا سيدي. إن الأمر على غير ما تظن. اخرج من هذه الغرفة قبل أن يتم النطاق حول القصر.» قال ذلك وجره من كمه واغتنم اشتغال الناس بالصياح والارتباك وخرج به من الغرفة. ولم يصدق أنه خارج القصر وهو يلهث من الخوف. فقال أبو الحسن وهو يطاوعه في المسير: «إلى أين أنت ذاهب بي؟»
فأجابه وهو يشير إليه أن يتبعه: «تعال يا سيدي. سأقص عليك الخبر. انج بنفسك.»
अज्ञात पृष्ठ