أبطال الرواية
مراجع رواية صلاح الدين الأيوبي
1 - فذلكة تاريخية
2 - الخليفة العاضد وصلاح الدين
3 - أبو الحسن والحشاشون
4 - سيدة الملك
5 - عماد الدين
6 - الهكاري وقراقوش
7 - آخرة الفاطميين
8 - السلطان نور الدين
9 - عند زعيم الحشاشين
10 - مقتل أبي الحسن
11 - هناء الحبيبين
أبطال الرواية
مراجع رواية صلاح الدين الأيوبي
1 - فذلكة تاريخية
2 - الخليفة العاضد وصلاح الدين
3 - أبو الحسن والحشاشون
4 - سيدة الملك
5 - عماد الدين
6 - الهكاري وقراقوش
7 - آخرة الفاطميين
8 - السلطان نور الدين
9 - عند زعيم الحشاشين
10 - مقتل أبي الحسن
11 - هناء الحبيبين
صلاح الدين الأيوبي
صلاح الدين الأيوبي
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
الخليفة العاضد:
آخر الخلفاء الفاطميين.
ست الملك:
أخت العاضد.
السلطان صلاح الدين الأيوبي.
نجم الدين:
والد صلاح الدين.
بهاء الدين قراقوش:
وزير صلاح الدين.
عماد الدين:
من خاصة صلاح الدين.
عيسى الهكاري:
من خاصة صلاح الدين.
أبو الحسن:
محتال طامع في الخلافة.
السلطان نور الدين زنكي:
صاحب الشام.
راشد الدين سنان:
زعيم الإسماعيلية (الحشاشين).
مراجع رواية صلاح الدين الأيوبي
هذه المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ الدولة السلجوقية.
تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان.
الهلال، مجلد 19.
تاريخ المقريزي.
طبقات الأطباء.
حسن المحاضرة.
تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان.
كتاب الروضتين.
ابن خلكان.
Burckhardt, Travels in Syria and Holy Land, London, 1822, 10 .
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
كان دخول مصر في حوزة الفاطميين أو العبيديين سنة 358ه. على يد القائد جوهر، فبادت بذلك دولة الإخشيد وخرجت مصر من حوزة الدولة العباسية؛ لأنها كانت في زمن الطولونيين والإخشيديين - مع استقلال هاتين الدولتين بالحكومة - تحت رعاية الخليفة العباسي في بغداد، فكان هو يثبتهم على الإمارة ويبعث إليهم بالخلع أو بكتاب التولية (الفرمان) على نحو ما كان يفعل السلطان العثماني بأمراء مصر، أما إدارة الحكومة الداخلية وسائر أعمالها فكان يجريها الأمير الطولوني أو الإخشيدي مستقلا دون مراجعة بغداد، وهو يشبه ما يعبر عنه كتاب هذا العصر بالاستقلال الإداري، على تفاوت في درجات ذلك الاستقلال.
فلما دخلت مصر في حوزة الفاطميين تغيرت حالها السياسية وأصبحت دولة مستقلة استقلالا تاما، لا تراجع أحدا ولا تعترف بسيادة أحد غير الخليفة الفاطمي المقيم بالقاهرة.
وهي أول مرة استقلت فيها مصر بالسيادة بعد الإسلام. وبقيت الخلافة العباسية في بغداد كما كانت، وظهرت الخلافة الأموية بالأندلس في بني مروان. فأصبحت المملكة الإسلامية يتنازعها ثلاثة خلفاء، كل منهم يجعل لنفسه الحق في الخلافة الحقيقية وينكرها على الآخرين. وكان النزاع على أشده بين خليفة بغداد وخليفة القاهرة. كما كان بينهما اختلاف في المذهب، فالخلافة العباسية سنية، بينما الفاطمية شيعية. وهو في أصله تنازع سياسي أدخلوا فيه الدين وسيلة لتأييد دعواهم.
والدولة الفاطمية أول دولة شيعية تسمي ملوكها بالخلفاء. وعاصرتها دولة أخرى شيعية في العراقين وفارس، وهي الدولة البويهية، لكن ملوكها لم يسموا أنفسهم خلفاء ولا ادعوا نسبا قرشيا يؤهلهم لذلك، بل حافظوا على الخلافة العباسية مع اعتقادهم أن أصحابها اغتصبوها من مستحقيها. وإنما استبقوها ليحكموا بها العامة، وأشار بعضهم على معز الدولة البويهي بعد قيام الدولة الفاطمية أن ينقل الخلافة إلى الفاطميين أو غيره من العلويين فاعترض عليه بعض خاصته قائلا: «ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم لقتلوه مستحلين دمه. ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لقتلوك.» فرجع معز الدولة عن عزمه.
استقرت الخلافة الفاطمية بمصر، والخلفاء العباسيون في بغداد، وأتباعهم السنيون في أنحاء العالم ينكرون على الفاطميين صحة انتسابهم إلى فاطمة الزهراء وهم لا يبالون. وإنما كان يهمهم تأييد سلطانهم بالسيف والدهاء ولا سيما في أوائل دولتهم. فإن المعز لدين الله لما بنى له جوهر مدينة القاهرة ودعاه إليها خرج الناس للقائه، فاجتمع به أناس من الأشراف وفيهم عبد الله بن طباطبا المشهور، فتقدم إلى الخليفة المعز وقال له: «إلى من ينتسب مولانا؟» فقال له: «سنعقد مجلسا نجمعكم فيه ونسرد عليكم نسبنا.» ولما استقر المعز في القصر جمع الناس في مجلس عام، وجلس لهم وقال: «هل بقي من رؤسائكم أحد؟» قالوا: «لم يبق معتبر.» فسل سيفه وقال لهم: «هذا نسبي.» ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال: «هذا حبسي.» فقالوا جميعا: «سمعنا وأطعنا.»
وقد توالى على مصر الفاطميين أحد عشر خليفة، حكموا مائتي عام ونيفا (من سنة 358 حتى 567ه). أولهم المعز لدين الله، وآخرهم العاضد لدين الله. ومرت الدولة في أثنائها بثلاثة أدوار: كانت في أول أمرها قائمة بالعرب والبربر وهم الذين فتحوا مصر مع جوهر، فكان النفوذ مشتركا بين هذين العنصرين. ثم صار إلى البربر، ثم إلى الأتراك. كما انتقل النفوذ في الدولة العباسية من العرب والفرس إلى الأتراك.
وكان السبب في تكاثر الأتراك بمصر أنه لما مات الخليفة الحاكم بأمر الله وخلفه ابنه الظاهر لإعزاز دين الله سنة 411ه أكثر من اللهو والقصف، ومال إلى الأتراك والمشارقة فانحط جانب البربر، وما زال قدرهم يتناقص حتى كاد يتلاشى. فلما ملك المستنصر سنة 427ه بعد الظاهر، كانت أمه سوداء فاستكثرت في جنوده من العبيد أبناء جلدتها حتى بلغوا ألف عبد أسود. وكان ابنها يستكثر من الأتراك، فأصبح الجند طائفتين كبيرتين تتنافسان وتتسابقان إلى الاستئثار بالنفوذ، وإلى التنافس إلى حرب أتعبت مصر واضطر الخليفة إلى استنصار صاحب الشام فأتاه أمير الجيوش بدر الجمالي من سوريا، وهو أرمني الأصل، فقتل أهل الدولة وأقام بمصر جندا من الأرمن والأتراك، وصار معظم الجيوش منهم، وذهب نفوذ البربر وصاروا من جملة الرعية ولم يبق لهم شأن في الدولة بعد أن كانوا وجوهها وأكابر أهلها.
وكان السلاجقة في أثناء ذلك قد غلبوا على العراق وفارس، وذهبت دولة آل بويه وضعف أمر الشيعة هناك، وولي السلاجقة مماليكهم وقوادهم (الأتابكة) على الولايات، واستقل كل منهم بولايته، ومنهم نور الدين زنكي في الشام. وكان في جملة قواد نور الدين جماعة من شجعان الأكراد، منهم: نجم الدين أيوب، وأخوه أسد الدين شركويه، وقد بلغنا عنده منزلة رفيعة. وكانت خلافة مصر قد أفضت سنة 556ه إلى العاضد لدين الله بن يوسف، وكان ضعيف الرأي، وقد غلب وزراؤه على دولته وتنافسوا في الاستئثار بالنفوذ وطال تنافسهم حتى خربوا البلاد، والخليفة لا يستطيع عملا.
وكان في جملة المتنافسين وزير اسمه «شاور» غلب على أمره، فذهب إلى نور الدين زنكي واستنجده على رجل آخر كان ينافسه في الوزارة، فاغتنم نور الدين تلك الفرصة للاستيلاء على مصر، وأنجده بأسد الدين شركويه في جند من المماليك، فرد الوزارة إلى شاور، وصار هذا يدفع ثلث خراج مصر إلى نور الدين.
وكانت الحروب الصليبية في تلك الفترة قد احتدمت فزاد تدخل نور الدين في شئون مصر، ونائبه فيها شركويه ومعه ابن أخيه «يوسف ابن نجم الدين» وهو صلاح الدين الأيوبي.
ومات شركويه بمصر سنة 564ه فخلفه صلاح الدين في منصب النيابة وسمي وزيرا، فاتخذ صلاح الدين ذلك وسيلة إلى الاستقلال بسلطنة مصر لنفسه. وهو ما تبسطه هذه الرواية.
الفصل الثاني
الخليفة العاضد وصلاح الدين
قال العم حسن لعمر المكاري: «انهض يا أخي، أما كفاك نوما والقاهرة تضج والناس يتراكضون؟ قم وانج بحمارك.»
فأجاب عمر قائلا: «إلى أين؟ ولماذا؟ هل أحرقوا القاهرة كما أحرقوا الفسطاط؟ أم هناك ضريبة جديدة علينا؟ تركت مواقف القاهرة وأتيت بحماري إلى هذا الموقف خارج باب الفتوح لأتخلص من عدوانهم وعدوان الأتراك والأكراد و...»
فقاطعه العم حسن بقوله: «اسكت يا عمر، إن هؤلاء الأكراد كل الخير منهم. هل نسيت ما كنا نقاسيه من العذاب قبلهم حتى إن أحدنا لم يكن يتحرك ما لم يضربوا عليه ضريبة؟ ومن كان يجسر أن يذكر أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما؟»
قال: «صدقت. إن والدي ندما على تسميتي بهذا الاسم! لكن ماذا جرى الآن يا عم حسن؟ هل نقدر أن نتحرك وها أنت ذا تقول لي: «قم انج بحمارك».»
قال: «أقول ذلك؛ لأن الخليفة العاضد لدين الله خارج من قصره في موكبه، وستتبعه طائفة من الأتراك وغيرهم، فربما سطا أحدهم على حمارك فيركبه. وربما أخذه لنفسه!»
قال: «الخليفة خارج من قصره؟ وأين نحن وقصره؟ إننا خارج القاهرة!»
قال: «إنه آت إلى هنا وسيخرج من باب الفتوح هذا.»
قال: «من هذا الباب؟ إلى أين؟»
قال: «إنه خارج لاستقبال نجم الدين أيوب.»
قال: «الخليفة خارج من القاهرة لاستقبال نجم الدين؟ من هو نجم الدين هذا؟»
قال: «هو والد صلاح الدين بن يوسف، جاء من الشام لزيارة ابنه.»
قال: «الله الله يا دنيا! الخليفة أمير المؤمنين ابن بنت الرسول، وظل الله في الأرض، يخرج من قصره إلى خارج بلده لملاقاة والد وزيره! متى كان الخلفاء الفاطميون يفعلون ذلك يا عم حسن؟»
قال: «تغيرت الأحوال يا صاحبي. إن الخليفة لم يبق له من الخلافة إلا الاسم، وصار النفوذ إلى هذا الكردي. مسكين العاضد!»
قال: «مسكين؟ بل نحن المساكين، ولعل هذا الكردي أحسن منه.»
قال: «الكردي؟ أحسن من الخليفة؟ لا ...»
قال: «وما الذي يصيبنا من هؤلاء الحكام؟ إنهم يختصمون على الاستبداد فينا، وماذا يهمني إن كان حاكمي كرديا أو عربيا أو هنديا. إنما المهم ألا يظلمني ... أليس كذلك؟»
قال: «اسكت، إنهم قادمون، ألا تسمع الأبواق والصنوج؟ انج بحمارك، أو خبئه في مكان وتعال.»
قال: «ها أنا ذا ذاهب وسأرجع إليك على عجل لأرى موكب الخليفة. لقد طالما سمعت بهذا الموكب وما يحف به من الفرسان وما يلبسه الخليفة من الجواهر والحرير و...»
قال: «أنا في انتظارك.»
قال: «لا. لا. الأحسن أن تتبعني أنت لتضع الحمار في هذا البيت، ثم نصعد إلى سطحه فنكون أقدر على المشاهدة وأبعد من الخطر.»
قال: «إذن هيا بنا.»
ولما صعدا إلى السطح وأشرفا على الموكب قال عم حسن: «إنهم قادمون من القصر. وبعد قليل يصلون إلى باب الفتوح هذا فنراهم وهم خارجون. ألا تسمع الضوضاء وقرقعة اللجم؟» قال: «نعم أسمع، وأخاف أن يكون علينا خطر.» قال: «لا خطر، أراك تخاف من خيالك.» قال: «لا تؤاخذني يا عم حسن، إن الملدوغ يخاف من جرة الحبل، وهؤلاء الجنود لم يخرجوا بمثل هذه الحركة إلا تعدوا علينا وأخذوا دوابنا.»
قال: «أتى الموكب، انظر نظرة عامة إليه في هذا الشارع الداخلي قبل خروجه.»
قال: «إني أرى الأعلام تخفق، والخيول تصهل، والرماح تتلألأ، والسيوف تلمع، والشارع يموج بمن فيه كالنيل في فيضانه. يا حفيظ! أشكرك يا عم حسن على هذه الفرجة ... قل لي الآن وقد أخذوا يخرجون من باب الفتوح، من منهم هو الخليفة؟ هل هو هذا الراكب على هذا الفرس الأشهب وعليه الثياب القصبية؟»
قال: «يظهر أنك لم تشاهد أحدا من رجال الدولة في حياتك. إن الذين يتقدمون موكب الخليفة كثيرون. وهل تظن الخليفة يلبس القصب؟ إنه لباس بعض أتباعه. أما الذين تراهم في مقدمة الموكب فهم الأمراء وأولادهم وأخلاط من العسكر، ووراءهم أرباب القصب ثم أرباب الأطواق والأساتذة وهم أكبر رجال الدولة. انظر إلى ألبستهم الفاخرة التي تأخذ بالأبصار وإلى سروج خيولهم المفضضة ومن في ركابهم من الخدم الأتراك وغيرهم. إن ذلك كله ليس شيئا بالنظر إلى موكب الخليفة. انظر. انظر، هذا هو موكب الخليفة عند تلك المظلة.»
قال: «إن المظلة تغطيه فلا أراه جيدا. وإنما أرى فرسه وما يحدق بها من الأعلام والفرسان بجانبه، من هم؟»
قال: «لا تستعجل في الاستفهام. إن الموكب يسير ببطء وأنا شارح لك كل شيء. هل ترى فرس الخليفة؟ تأملها جيدا إن سرجها من الديباج الأحمر مصوغ بالذهب ومنزل فيه الميناء، ولو تأملت مقدم السرج لرأيت عليه أحجارا كريمة. وفي عنق الفرس قلائد الذهب، ولو استطعت النظر إلى قوائم الفرس لرأيت حولها الخلاخل الذهب. ويقدرون كل فرس بما عليها من العدة بألف دينار، وأفراس الوزراء والأمراء أيضا في مثل هذا الترتيب وهي كلها في الأصل هدية من الخليفة يهبها لأمرائه في الأعياد.»
قال: «هنيئا لك يا عم حسن، لا بد أنك ذقت الركوب على هذه الأفراس وأنت من غلمان القصر الكبير.»
قال: «ذقت يا بني أشياء كثيرة كدت أنساها الآن. ورأيت جواهر ومصوغات تبهر العقل. فكيف بما يلبسه الخليفة؟ انظر إلى هذه المظلة فإنها تشبه الهرم بشكلها وهي من الديباج الأزرق السماوي وثوب الخليفة تحتها في هذا اللون أيضا. ولو كانت حمراء لكان ثوبه أحمر. انظر إلى الأهلة الذهبية التي تتدلى من حواشي المظلة وكيف أن أضلاع المظلة أو قوائمها ملبسة بالذهب. وفي قمتها رمانة ذهب كبيرة فوقها رمانة ذهب صغيرة مرصعة بالجواهر. انظر إلى لمعانها فإنه يخطف البصر.»
قال: «صحيح. ولكني لا أرى حامل المظلة. وكيف يستطيع حملها وهي ثقيلة؟»
قال: «إن حاملها راكب فرسه بجانب فرس الخليفة. وللمظلة قناة يركزها ذلك الفارس في قربوس فرسه. وهمه في أثناء الركوب أن يراقب موقف الخليفة من جهة الشمس بحيث لا تقع أشعتها عليه.»
قال: «وماذا يحدث إذا وقعت الأشعة عليه؟ ها أنا ذا أرى رأس الخليفة، فإن صاحب المظلة انحرف عنه. ما هذا الذي على رأسه؟» قال: «تمهل لأتم حديثي. انظر إلى هذه العمامة على رأس الخليفة فإنها بيضاء وشكلها إهليجي. وفي أعلاها فوق الجبهة حلية بشكل الهلال من ياقوت أحمر ليس له مثال في الدنيا، وفي وسط الهلال جوهرة عظيمة مشهورة يقال لها اليتيمة لا يعرف لها قيمة. ويقال إن وزنها 7 دراهم ووزن الهلال كله 11 مثقالا وبدائرة اليتيمة قصبة زمرد ذبابي له قدر عظيم.»
قال: «يا حفيظ! يا حفيظ! أتكون مثل هذه الجواهر عند هذا الرجل بلا فائدة والناس في مملكته يتضورون جوعا وهو يأخذ أموالهم ظلما! آه يا عم حسن لقد أوجع قلبي هذا المنظر!»
قال: «اسكت يا شيخ إن النعم من عند الله يؤتيها من يشاء. ولعلك لو عرفت ما في قلب هذا الخليفة لم تحسده على هذه الجواهر. لكن ما لنا ولهذا الآن. اسمع، ألا ترى الفارس الذي إلى يسار الخليفة وفي يده منديل أبيض؟»
قال: «نعم أراه، ماذا يوجد في هذا المنديل؟» قال: «في هذا المنديل الدواة الثمينة التي هي من أعاجيب الزمان، فإنها من الذهب وحليتها من المرجان. انظر إلى يمين الخليفة تر فارسا آخر يحمل سيفا حليته من الذهب مرصعة بالجوهر، وهو معمد لا يظهر إلا رأسه وحامله يقال له «حامل السيف» وهو من أصحاب الرتب العالية. وانظر إلى حوالي فرس الخليفة فإنك تجد عشرات من الصبيان وعليهم المناديل وأوساطهم مشدودة بمناديل وفيها السيوف، وفي أيديهم الحراب مشهورة، وهم بجانبي الخليفة كالجناحين. وبينهما فسحة أمام وجه الفرس ليس فيها أحد. وبالقرب من عنق الفرس صقلبيان يحملان المذبتين وهما مرفوعتان كالنخلتين لذب ما يسقط من طائر أو غيره.»
قال: «إني أرى فارسا فخما يذهب ويجيء إلى يسار الموكب ويأمر وينهي، من هو؟»
قال: «هذا والي القاهرة يحافظ على ترتيب الموكب ليسهل مروره ويمنع الازدحام. انظر إلى الذين وراء دابة الخليفة. هناك جماعة من الصبيان يقال لهم صبيان الركاب يحملون الصماصم المصقولة المذهبة بدل السيوف المحدبة، وبأيديهم الدبابيس من الكيمخت الأحمر والأسود ورءوسها مدورة مضرسة، وبعضهم يحملون عمد الحديد وبين أيديهم لواء الحمد المختص بالخليفة وحوله 21 راية على كل منها كتابة بالحرير تختلف ألوانها، أما الكتابة فهي «نصر من الله وفتح قريب» ألم تقرأها؟»
فضحك عمر وقال: «من أين لي ذلك؟ إن أهلي لم يضعوني في الأزهر؛ لأن التعليم على مذهب الشيعة وأهلي سنيون.»
فقطع العم حسن كلامه وقال: «فالآن صرت تقدر أن تتعلم؛ لأن صلاح الدين جعل التعليم فيه عاما لكل المذاهب.»
قال عمر: «لقد تأخر علي بهذه النعمة، وهل بعد الأربعين من العمر تعليم؟ لنترك ذلك لأولادنا. قل لي من هذا الذي أراه؟ إن موكبه لا يقل عن موكب الخليفة في شيء وأرى عليه لباسا أفخر من لباسه!»
قال: «هذا هو يا صاحبي صلاح الدين الوزير. وهذا الثوب الذي عليه هو خلعة السلطة خلعها عليه هذا الخليفة نفسه ثلاث سنوات. وهي كما ترى عمامة بيضاء من نسج تنيس. لها طرف مذهب وتحتها ثوب ديبقي بطراز ذهب. وكذلك الجبة التي عليه فإن طرازها من الذهب، وفوق ذلك طيلسان مطرز بالذهب. وانظر في عنقه هل ترى العقد؟ إنه من الجوهر يساوي عشرة آلاف دينار، وإلى جانبه سيف محلى بخمسة آلاف دينار، وتحته فرس قيمتها ثمانية آلاف دينار. وعليها سرج مذهب وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وانظر إلى قوائمها فإن حولها أربعة عقود جوهر وعلى رأسها قصبة بذهب وفيها شدة بياض بأعلام بيض. هذا هو صلاح الدين. إن منظره يدعو إلى الهيبة أكثر من منظر الخليفة. انظر إلى هيبته وكيف أن الشجاعة ظاهرة في وجهه ولا يراه إنسان إلا احترمه وخافه. والحق يقال إن الأمور الآن في يديه، وهو الآمر الناهي كما قلت لك. وانظر إلى الرجال المحيطين بموكبه، وفيهم قوم يقال لهم صبيان الزرد من أقوياء الأجناد يختارهم لنفسه. وهم مئات يمشون إلى الجانبين وبينهم فسحة أمامه مثل فسحة الخليفة. وراءه الطبول والصنوج والصفافير ألا تسمع صوتها يدوي به البر؟ ووراء موكب الوزير يأتي حامل الرمح. تأمله فإنه رمح لطيف في غلاف منظوم من اللؤلؤ وله سنان قصير بحلية من الذهب. ومعه درقة بكوامخ يقولون إنها درقة حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه.»
كان عمر الحمار يسمع كلام صديقه العم حسن وقد أخذته الدهشة، فلما سمع قوله درقة حمزة بغت وقال: «درقة حمزة؟! حمزة بن عبد المطلب عم النبي
صلى الله عليه وسلم ؟!»
قال: «نعم هكذا يقولون. وقد آن لي أن أختصر لك الوصف؛ لأن الموكب لا يزال طويلا. فانظر إلى ما وراء موكب الوزير إنك تجد فرقا من الأجناد المختلفة زمرة زمرة في عدة وافرة على أربعة آلاف. ثم أصحاب الرايات ووراءهم طوائف من العسكر على اختلاف أجناسهم الأتراك والأكراد والديلم وغيرهم.»
فقال عمر: «قف بالله قليلا وأخبرني عن فارس أراه راكبا بجانب صلاح الدين وعليه ثياب فاخرة.»
قال: «إنه من بعض خاصته، ولكنه يحبه كثيرا ولا صبر له على فراقه واسمه عماد الدين.»
فبغت الحمار عند ذلك وقال: «ما بال هؤلاء لا يسمون اسما إلا منسوبا إلى الدين. هؤلاء ثلاثة ذكرت لي أسماءهم: نور الدين وصلاح الدين ونجم الدين، وهذا عماد الدين.»
فقال العم حسن: «تلك عادتهم في التسمية. ها قد انتهى الموكب وقصصت عليك خبره، فأذن بانصرافي.»
فقال: «مع السلامة أكثر الله خيرك.»
وانصرفا، وسار الموكب على هذه الصورة بعد خروجه من باب الفتوح والناس في أثره راكبين أو مشاة، وآخرون وقفوا على أسطح المنازل يشرفون على الموكب وقد تصاعد الغبار حتى حجب وجه السماء وغشي الرءوس والمناكب، ولم تبق فتاة ولا غلام إلا خرجا إلى الشارع أو صعدا إلى السطح ، والبسطاء يستغربون خروج الخليفة لاستقبال ذلك الكردي، والعارفون لا يرون فيه غرابة لضعف أمر الخلافة. •••
ما زال الموكب سائرا على هذه الصورة حتى وصل إلى مسجد التبر (في آخر الحسينية)، وأتت البشائر باقتراب نجم الدين فالتقوا به هناك. وحالما تقابلا ترجل نجم الدين احتراما للخليفة وكذلك فعل رجاله الذين معه وفيهم أخوه شمس الدين. وترجل صلاح الدين وقبل يدي والده. فقبله والده، ولما رأى الموكب وما على ابنه من الخلع لم يتمالك عن البكاء من الفرح وشكر الله على نعمه. وكان نجم الدين عاقلا مدبرا فترامى على يد الخليفة يقبلها ويظهر امتنانه من ذلك الإكرام والخليفة يجيبه بلطف، لكنه لم يتحول عن فرسه. ثم عاد الموكب بجلاله نحو القصرين، وقد ركب نجم الدين إلى جانب ابنه وبجانبهما عماد الدين الشاب الشجاع وتحادثا مليا. وكان حديثهما بلغة لا يفهمها رجال العاضد وهي اللغة الكردية. وكان أكثر الحديث عن نور الدين صاحب الشام وعن العاضد صاحب مصر.
أما الخليفة العاضد فلو دنوت منه تحت المظلة وتفرست في عينيه لرأيت الدمع يترقرق فيهما. ولو جسست قلبه لسمعت خفقانه الشديد من الأسف والغم ولاضطراره إلى الخروج في هذا الموكب لتكريم رجل يخافه على حياته كما يخافه على منصبه. ولكنه لم ير بدا من مسايرته، فكظم غيظه لاستقبال والده. وذلك أثقل على قلبه من الجوع والعري. ولعله يتمنى أن يكون من بعض العامة ولا يتحمل ذلك الضيم.
ووصل الموكب قبيل الغروب إلى القصر الكبير الشرقي من قصور القاهرة. وهو مجموع قصور ربما زاد عددها على بضعة عشر قصرا، منها قصر الزمرد، وقصر المظفر، وقصر الإقبال، وقصر البحر، وقصر الحريم، وقصر الشوك، ودار الوزارة، ودار الضيافة، ودار الضرب، وخزانة البنود، وخزانة الكتب، وحجر الصبيان الحجرية وغيرها. وتسمى كلها معا القصر الكبير الشرقي. كما كانت تسمى قصور عبد الحميد في الآستانة قصر يلدز.
وموضع القصر الكبير الشرقي الآن في شرقي القاهرة القديمة وشماليها فيما بين الأزهر وباب الفتوح، ويدخل في ذلك خان الخليلي وبيت القاضي والجمالية والنحاسين . وقد سمي هذا القصر بالشرقي؛ تمييزا له عن قصر آخر أصغر منه كان غربي القصر الشرقي، وبينهما ساحة يقال لها الميدان بين القصرين. ووراء القصر الغربي نحو الغرب متنزه كبير يقال له البستان الكافوري يحده من الغرب خليج القاهرة، وعلى هذا الخليج كانت متنزهات الخلفاء الفاطميين.
وكان في جملة أبنية القصر الكبير الشرقي بناء يسمونه قصر الذهب، كان الخليفة يجلس فيه للناس في يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، فوقف الموكب عنده.
فترجل الخليفة ودخل القاعة المعدة للاستقبال وتسمى قاعة الذهب، يدخل إليها من باب يسمى باب الذهب (حيث المارستان المنصوري في النحاسين). فجلس على سرير من الذهب في صدر القاعة، يزن ألوف المثاقيل، وحوله ستر محلى بطراز من الذهب المرصع بالجواهر فيه خمسمائة وستون قطعة جوهر مختلفة الألوان. وفوق السرير مظلة من ذهب وزنها ثلاثون ألف مثقال. وأكثر جدران الغرفة مغطاة بستور الديباج المزركش. حتى إن الناظر إليها يحسب نفسه في حلم، ولا سيما متى نظر إلى ما فوق عمامة العاضد من الجواهر المتلألئة.
وبعد جلوس الخليفة على سريره دخل الوزير صلاح الدين. فجلس في مرتبة خاصة به. ولم يؤذن في الدخول يومئذ لأحد من رجال الدولة، وإنما جعلت الجلسة خاصة بإكرام نجم الدين. فأمر صاحب الباب باستقباله وإدخاله عليه. فدخل نجم الدين وكان بهي الطلعة عظيم الهيبة فوقع من نفس العاضد موقعا عظيما فأشار إليه بالجلوس ورحب به، فقعد نجم الدين باحترام. وكانت العادة إذا دخل الوزير على الخليفة الفاطمي أن يقبل يد الخليفة ورجله، ولم يفعل صلاح الدين ذلك ولا جعل والده يفعله، ولم يستغربه الخليفة.
وكان في جملة الحضور في تلك القاعة كهل ربعة دقيق العضل ممتقع اللون، قاعد في مجلس أقارب الخليفة قعود من يريد الاستتار ويود ألا ينتبه إليه أحد، لكن صلاح الدين لمحه فعلم من مجلسه أنه من بعض الأمراء ولم يكن رآه من قبل.
ولما استقر بالجالسين المقام بدأ العاضد بالكلام وهو يومئذ شاب لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره مع أنه تولى الخلافة منذ عشر سنين (سنة 556ه)؛ لأنه كان عند مبايعته في الحادية عشرة من عمره، والذي يراه الآن يحسبه في حدود الأربعين لكثرة ما كابده من الهموم وتحمله من الإحن. وكان لا يقع نظره على صلاح الدين إلا ندم على استنجاده بنور الدين زنكي صاحب الشام! •••
لما جلس القوم، وجه الخليفة كلامه إلى نجم الدين قائلا: «عسى ألا يكون القائد نجم الدين قد تعب في أثناء الطريق.»
قال: «كلا يا سيدي، إن سفري كان غاية في الراحة، وخاصة لأني أتوقع التشرف بلقيا الإمام، أعزه الله.»
فابتسم الخليفة ابتسامة مصطنعة وقال: «أهلا وسهلا بكم قد نزلتم على الرحب والسعة. وقد أمرت أن تعد لمقامكم منظرة اللؤلؤة وهي أجمل قصورنا، بل أحد متنزهات الدنيا، فعسى أن تجدوا فيها راحة.»
فتأدب نجم الدين في مجلسه وأبدى الاحترام وأثنى على الخليفة ثناء كثيرا. ثم قال صلاح الدين: «إن تنازل مولانا بالخروج للقاء والدي نعمة لا أنساها له، نحن حينما كنا فإننا ندعو له بطول البقاء.»
فحك الخليفة عثنونه بسبابته وتناول قضيب الخلافة من فوق الوسادة التي إلى جانبه (وهو قصير مغشى بالذهب) وتشاغل بالنظر إليه. ثم سعل والتفت إلى نجم الدين وقال: «كيف فارقت صديقنا الأتابك نور الدين؟»
فأجاب وهو يتلطف قائلا: «فارقته في خير، وقد حملني سلاما كثيرا ومودة لمولانا العاضد - حفظه الله - وهو يدعو بطول بقائه ودوام سلامته.»
قال: «إني مسرور من صداقته وأرجو دوامها.»
قال: «إن ذلك شرف عظيم له، وقد كلفني أن أبلغ مولانا - أعزه الله - أنه هو ورجاله في خدمته لنصرة الحق.»
فوقع هذا الكلام موقعا مؤلما من نفس العاضد؛ لأنه ذكره بالسبب الذي جره إلى هذه المتاعب، فإنها تبدأ من استنصاره نور الدين. لكنه تجلد، والتفت إلى نجم الدين، ثم قال: «لقد نصرنا غير مرة، جزاه الله خيرا. وقد كفينا الآن مئونة الاستنصار بوجود ولدكم الملك الناصر.» وأشار إلى صلاح الدين.
فقال نجم الدين: «إن ولدنا من مواليكم يا سيدي ولا يدخر وسعا في خدمتكم والأخذ بناصركم .»
فمد العاضد يده إلى عنقه واستخرج عقدا من الجوهر يشبه العقد الذي في عنق صلاح الدين وقدمه إلى نجم الدين وهو يبتسم وقال: «هذه هدية منا تتذكرون بها هذه الزيارة أيها القائد الباسل. وقد استحققت عندنا أن ندعوك (الملك الأفضل) وستحمل إليك الألطاف والهدايا إلى قصر اللؤلؤة ونوليك الإقطاعات السنية، فإنك أهل لأكثر من ذلك.»
فوقف نجم الدين وتناول العقد وهو يقبل يد الخليفة. ثم قبل العقد ووضعه في عنقه وهو يقول: «لقد غمرتني يا مولاي بنعم لا أستحقها. إن اللقب الذي خلعته علي فوق قدري و...»
فقطع الخليفة كلامه قائلا: «بل أنت الملك الأفضل، كما أن نجلك الملك الناصر.» فكرر نجم الدين شكره وجلس متأدبا.
ولاحت من صلاح الدين التفاتة إلى الكهل المتقدم ذكره فرأى في وجهه اهتماما وقد أبرقت عيناه وكادتا تتقدان من التفكير فشغله أمره لحظة، وأدرك الخليفة اشتغاله بذلك وأراد تحويل الأذهان عن هديته فوجه خطابه إلى صلاح الدين وقال وهو يشير بيده إلى ذلك الجليس: «أظنك لا تعرف الشريف أبا الحسن، إنه من أعمامنا. كان في سفر وقد جاءنا من عهد قريب.» والتفت إلى أبي الحسن وقال: «لا أظنك تحتاج إلى التعريف بوزيرنا الباسل أبي المظفر صلاح الدين.»
فأشار أبو الحسن بعينه ورأسه ويديه أنه شاكر لهذا التعريف، وانحنى كأنه يهم بالقيام، فقال صلاح الدين: «سررت كثيرا بمعرفة هذا الشريف ويكفي أنه متصل النسب بمقام الخلافة.»
وكان نجم الدين في أثناء ذلك ينظر إلى أبي الحسن نظر المتفرس ولم يعجبه ما في سحنته من الدهاء وما في عينيه من المكر. لكنه تجاهل وتوجه إلى الخليفة يبدي شكره على هذا التعريف.
ثم وضع العاضد قضيب الخلافة من يده على الوسادة ففهم القوم أنه قد آن الذهاب، فاستأذن نجم الدين بالانصراف وهم بوداع الخليفة. ثم تقدم صلاح الدين وودع الخليفة وأظهر أنه يهم بتقبيل يده. فاجتذب الخليفة يده تلطفا.
خرج نجم الدين وابنه من مجلس الخليفة ورجالهما ينتظرونهما خارج القصر بالأفراس والسلاح، وفيهم الشاب عماد الدين الذي كان راكبا بجانب صلاح الدين في الموكب ، يختصه بالالتفاف لما يراه فيه من البسالة. وهو شاب في مقتبل العمر قلما يفارق ركاب صلاح الدين إلا لأمر مهم. ولم يكن يراه أحد إلا أحبه لجماله وبسالته مع ذكاء وفصاحة. فلما خرج صلاح الدين صاح: «أين عماد الدين؟» فتقدم الشاب وعيناه تتكلمان قبل لسانه، وقد لبس ثوبا من أثواب الحرس الخاص بصلاح الدين وهو مؤلف من سروال قصير، وحول الخصر منطقة من جلد فيها عروة مذهبة، وفوقها دراعة مطرزة بالقصب. وعلى رأسه عمامة صغيرة كالطاقية مزركشة بالقصب، وقد علق بمنطقته سيفا قصيرا وغرس فيه خنجرا. فلما وقف بين يدي صلاح الدين قال له: «هلم بنا إلى منظرة اللؤلؤة، فقد أمر الخليفة أن ينزل والدي هناك وأنا أنزل معه الآن.»
فقام عماد الدين بإرشاد الركاب إلى المنظرة على خليج القاهرة. فقطعوا الميدان بين القصرين ومروا بجانب القصر الغربي إلى البستان الكافوري وانتهوا منه إلى المنظرة على ضفة الخليج اليمنى؛ أي من جهة قصور الخلفاء المتقدم ذكرها. وهي تشرف على الخليج من الغرب، ووراء الخليج غربا بركة كان يقال لها بطن البقرة ووراءها أرض الطبالة وبستان المقسي (الفجالة وباب الشعرية وما يليهما الآن) ووراءها بركة الأزبكية إلى مجرى النيل.
وكانت المنظرة المذكورة من أجمل متنزهات القاهرة، لها حديقة تتصل بالخليج فيها الأشجار والرياحين والأزهار. وفيها القاعات والمقصورات في أجمل ما يكون من الفرش الثمين الذي يشبه ما كان للخلفاء في قصورهم، من ستائر الديباج المطرز بالذهب، والبسط المحوكة بالذهب؛ وسائر الآنية من العاج وخشب الصندل، وفيها الأرائك والوسائد. وقد سرح في البستان مئات من الطيور الداجنة على اختلاف أنواعها وألحانها بعضها في الأقفاص والبعض الآخر مطلق. وعلى ضفة الخليج مجالس من الخشب كالشرفات قد فرشت بالسجاد، عليها المساند المزركشة وفوقها مظلات من الخشب تعرش على النبات، وكل ما في المنظرة ثمين يستوقف النظر، وناهيك بأنها كانت متنزها للخلفاء الفاطميين في إبان دولتهم.
وصل نجم الدين وابنه ومن في ركابهما من الحاشية، فتلقاهم غلمان المنظرة بالأطياب والبخور، فدخلوا إلى قاعة كبيرة للاستراحة ومعهم بعض الخاصة من رجالهم. جلسوا ساعة لم يدر فيها من الحديث غير العام المتعلق بالأسفار وما قد يراه المسافر في طريقه من التعب أو الراحة. وتخلل الحديث طبعا ذكر الإفرنج (الصليبيين) الذين كانوا يومئذ أصحاب السيادة في نواحي سوريا وفلسطين وكثير من مدنها.
ثم مالت الشمس إلى المغيب وقد أعدت مائدة العشاء، فتناوله معهما طائفة من الخاصة وفيهم شمس الدين. فلما فرغوا من الطعام انصرف الخاصة كل منهم إلى فراشه في المنظرة وتركوا نجم الدين وابنه على حدة؛ لعلمهم أن نجم الدين لم يأت مصر إلا لأمر مهم يريد أن يسره إلى صلاح الدين.
اختلى نجم الدين بابنه في غرفة أنيرت بالشموع الضخمة وفيها ما تزن عدة أرطال. وقد رأى نجم الدين في قصور القاهرة ما لم ير مثله في دمشق الشام. وما كاد يخلو بصلاح الدين حتى اتكأ على وسادة وأشار إليه أن يقعد بين يديه وقد تخففا بلباس الرقاد. وفي يد نجم الدين أنبوبة حرص عليها منذ بدل ثيابه.
فلما قعدا قال نجم الدين: «سرني يا يوسف ما رأيته من منزلتك عند هذا الرجل. ولكنني رأيتك لا تحترمه كثيرا وهو يرى نفسه خليفة وملكا.»
فضحك صلاح الدين وقال: «هل يخيفك يا أبي أن يرى نفسه كذلك ونحن نعلم أنه أسيرنا وصنيعنا؟»
فقطع نجم الدين كلامه قائلا: «ولكن الأمر لم يتم لنا بعد، فلا ضرر من المجاملة ومراعاة العادات الجارية. على أنني أراك من الجهة الأخرى تحاذر غضب رجاله وأنصاره رغم ما يأتيك من لدن نور الدين في أمر البيعة والدعوة للخليفة العباسي.» قال: «وكيف ذلك يا أبت؟» قال: «ألم نكتب إليكم منذ عام أن تدعو للخليفة العباسي على منابر القاهرة. ولماذا هذا التأخير؟»
فأطرق صلاح الدين لحظة وقد ظهر الاهتمام في محياه، ثم رفع بصره إلى أبيه وقال: «تدعوني إلى المجاملة ثم تعاتبني على تأخير الدعوة. وليست تلك الدعوة إلا إعلان سيادة العباسيين على مصر وسقوط دولة الفاطميين. ولا يخفى عليك ما يكون من تأثير ذلك في نفس هذا الخليفة المسكين. وما الذي يهمنا من مصر غير أن يكون لنا فيها الكلمة النافذة والصوت المسموع والريع المطلوب؟ لنترك هذا الخليفة الشاب يفرح بألقاب الخلفاء ومجاملاتهم حتى نرى ما يأتي به القدر. إن إعلان سيادتنا على مصر أمر ميسور متى شئنا. وعهدي بك أنك تحب التؤدة.»
قال: «نعم يا بني، ولكن نور الدين يلح في ذلك، وقد وعد الخليفة العباسي المستنجد بالله أن يدعو له على منابر مصر. فلما تأخرت الدعوة بعث الخليفة إليه يستبطئه فكتب نور الدين إليك خطابا يستحثك فيه على ذلك. وقد أوفدني لتبليغك هذه الرسالة، وهذا هو كتابه.» ودفعه إليه.
فتناول صلاح الدين الرسالة، وقرأها، وأكثر من الإمعان في فحواها ولا سيما قوله بعد التحريض على إعلان الدعوة: «وهذا أمر تجب المبادرة إليه لتحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت. ولا سيما أن أمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من هم أمنيته.»
وأطال صلاح الدين النظر في ذلك الكتاب، وأبوه يراقب ما يبدو في وجهه من التغيير وقد أدرك ما في خاطره فقال: «ما بالك يا يوسف، وما الذي تحدثك نفسك به؟»
قال: «تحدثني نفسي بأمر لا تجهله يا سيدي.»
قال: «لا بد من إعلان الدعوة العباسية، هل ذلك صعب عليك؟»
قال: «كلا. ولكنني أراك تتجاهل أمرا آخر أضمره.»
قال: «فهمت مرادك، إنك تفكر في أمر نور الدين، وهل إذا أعلنت الدعوة في المساجد للعباسيين تكون مصر ملحقة بالشام تابعة لنور الدين أم ...»
فأبرقت أسرة صلاح الدين ولمعت عيناه وأتم كلام أبيه قائلا: «أم لصلاح الدين وحده؟»
فابتسم أبوه وقال: «إنك تتعجل أمرا لا بد من التؤدة فيه، إنما يهمنا الآن الدعوة.»
قال: «أما الدعوة فسننظر في أمرها ولكنك لم توضح لي رأيك من الوجه الآخر.» قال: «وما هو؟» قال: «أنت تعلمه ولكنك تريد أن تسمعه من فمي فاسمع. إني قد دبرت أمر مصر وضبطت شئونها بسيفي وتدبيري وبسيف عمي من قبلي. ونور الدين قاعد في قصره بدمشق ومملكته واسعة ومماليكه كثيرون. فهل من العدل أن تكون مصر له أيضا ونبقى نحن من خدمه أو قواده؟ ما الذي يمتاز به نور الدين عنا؟ هل ابتاعنا بماله؟ نحن لسنا من مماليكه. إننا قواد. وهذه مصر يستحيل عليه إخضاعها بدوني. فأنا لا أبايع للخليفة العباسي إلا على أن أكون صاحب مصر وليس نور الدين.»
وما أتم كلامه حتى بان الغضب في جبينه مع الاهتمام، وتفرس في وجه أبيه ليرى رأيه في ذلك. فابتسم نجم الدين وقال: «بورك فيك يا يوسف إنك تطلب السيادة، وأنت أهل لها، ولكن لكل أجل كتاب.»
قال: «أحب أن أعلم رأيك، ألا ترى لي حقا فيما أقول؟»
فضحك نجم الدين ضحك استخفاف، وعبث بلحيته يمشطها بأصابعه ثم قال: «إن الحق يا بني للقوة، تلك هي قاعدة أصحاب السياسة، وإلا لوجب علينا أن نخرج من هذا البلد ونتركه لأهله؛ لأن صاحبه إنما استنجد الأتابك نور الدين على رجل من خاصته تمرد عليه، فأنجده بعمك أسد الدين وأنت معه، وكان ينبغي لكما أن تخرجا من مصر بعد الفراغ من تلك المهمة وقبض ما تستحقانه من الأجر على نصركما. فبقاؤك هنا سواء أكان باسم نور الدين أم باسمك إنما هو جشع. وإنما تعده حقا إذا كنت قادرا على تنفيذه، فالحق هو القوة يا بني. تلك هي شريعة الفاتحين.»
وكانت حجة نجم الدين قوية إلى درجة لم يقو معها صلاح الدين على المدافعة وكاد يفحم. لكنه طامع في البلد ويريد أن يتذرع بأية وسيلة كانت لبلوغ غايته. فنهض وهو يتشاغل بإصلاح عمامته الصغيرة، ثم أخذ في فتل شاربيه وهو ينظر إلى أحد جدران الغرفة التي كانا فيها ويتأمل صورا ملونة مرسومة هناك لم يشاهدها من قبل. وكان بجانب كل صورة رف لطيف مذهب. فتقدم نحو الجدار وتفرس في الصور فرأى تحت كل صورة اسم صاحبها. وإذا هم من شعراء الدولة الفاطمية الذين كانوا يفدون على الخلفاء في أيام مجدهم. وهنا تذكر حديثا سمعه عن الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي. ذلك أنه لما بنى منظرة بركة الحبش صور الشعراء على جدرانها كل شاعر وبلده، ونظم كل واحد منهم يومئذ قطعة من الشعر في المدح نقشوها عند رأسه في الصورة. وبجانب صورة كل منهم رف مذهب. فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يوضع على كل رف صرة مختومة فيهما خمسون دينارا وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده.
وقف صلاح الدين هنيهة عند تلك الصرة وهو غارق في الهواجس، فأدرك أبوه ما يجول في خاطره فسكت ليرى ما يكون منه، وتشاغل بالنهوض أيضا ثم أظهر أنه يهم بالذهاب إلى الفراش وصلاح الدين لا يستطيع رقادا قبل أن يوافقه أبوه على الطلب. فالتفت إليه وقال: «تمهل يا أبتاه. إن هذا الخليفة دعانا إلى نصرته على الإفرنج، وأهل القاهرة أنفسهم راسلوا نور الدين وبذلوا له ثلث بلاد مصر إقطاعا، وأن يقيم عمي أسد الدين عندهم وله الإقطاع هو ورجاله أيضا. لا أن يقضي مهمته وينصرف كما تقول. ثم نكث وزيره شاور ولم يف بما وعد فقتلته أنا بيدي فصفا لنا الجو. ولو لم أقتله لم يكن لنور الدين إقطاع ولا ...»
فقطع نجم الدين كلامه وهو يمشي نحوه وقال بلهجة الشيخ الوقور: «إنك تخاصم نور الدين على غنيمة لا تزال في حوزة أصحابها، ولا يحق التنازع بينكما عليها إلا بعد إخراجها من قبضتهم. وهذا لا يكون إلا بنقل الدعوة من الفاطميين إلى العباسيين ثم نرى بعد ذلك، وهذا يكفي الآن.»
وكان لنجم الدين نفوذ على ابنه مثل نفوذ السحر، فاكتفى صلاح الدين بما سمعه وتحول وهو يقول: «أظنك في حاجة إلى الرقاد يا أبي.» وأمر الخدم أن يهيئوا الفراش وذهب كل إلى منامه.
الفصل الثالث
أبو الحسن والحشاشون
تركنا الخليفة العاضد في قاعة الذهب، بعد خروج نجم الدين وابنه، ولم يبق معه إلا أبو الحسن. فلما خرج الكرديان أمر الحاجب أن يأتي بصاحب اللباس لينزع عنه ثيابه وحلاه؛ لأنه في حاجة إلى الراحة وألا يأذن لأحد في الدخول. فأتى صاحب اللباس وأخذ في نزع العمامة وما عليها من الجواهر ووضع كل قطعة في علبة خاصة بها وجاءت الوصائف يحملن الثوب الآخر ليلبسه الخليفة، وقد تغيرت سحنته وانقبضت أساريره واحمرت عيناه وشعر ببرد طقطقت له أسنانه واصطكت ركبتاه حتى لم يعد يستطيع الوقوف. فبادر أبو الحسن إليه فأسنده وبالغ في التخفيف عنه. ولكنه حالما لمس يده أحس بحرارتها، فعلم أن الخليفة مصاب بالحمى لكنه لم يشأ أن يخوفه.
ولما فرغ الخليفة من تبديل الثياب، ألقى نفسه على السرير وقد أحس بانحطاط عزيمته. فقال أبو الحسن: «بماذا تشعر مولاي أمير المؤمنين.»
قال: «أشعر بارتعاد مفاصلي وببرد يتمشى في ظهري، لا أظنه إلا من عواقب الكظم وتحمل الضيم، آه يا أبا الحسن.» قال ذلك بصوت مختنق وترقرق الدمع في عينيه.
فبادر أبو الحسن إلى التهوين عليه فقال: «لكل أجل كتاب يا مولاي. ولا بد من زوال هذه الأزمة.»
فقال وهو يلهث من شدة الحمى: «شعرت بهذه القشعريرة منذ ركبت في هذا الموكب لملاقاة هذا الكردي. آه كيف أقوى على احتمالهم وقد سلبوني ما في يدي من سيادة وثروة؟ وأنا مع ذلك لا أقدر إلا أن أجاملهم وألاطفهم وأرحب بهم.»
فمشط أبو الحسن لحيته بأنامله ثم قبض عليها وهو يتمتم كأنه يدعو أو يصلي ويظهر التقوى وسعة الصدر وقال: «لا بد من الصبر يا مولاي، ولا شك أن الله سامع دعاءنا. فإني أصلي ليل نهار وأطلب إليه تعالى أن ينصفك من هؤلاء الظالمين.»
فقال: «إلى متى الصبر يا أبا الحسن. كأنك لم تعلم بما فعلوه معي. ولم تسمع إلا مجاملتهم لي بالكلام ومخاطبتي بالإمارة. إنهم لم يتركوا لي من هذه الإمارة إلا لفظها. إن يوسف صلاح الدين هذا قد منع المؤذنين من الأذان بجملة «حي على خير العمل» كما كانوا يفعلون في دولتنا. وعزل قضاة مصر لأنهم من شيعتنا، وولى قضاة شافعية على مذهبه، وقبض على مرافق البلاد بيد من حديد، وتقول لي اصبر! أين الصبر؟» قال ذلك وغص بريقه.
وكان أبو الحسن صفراوي المزاج لمفاويه، لا يبدو في سحنته شيء من التأثرات مهما يبلغ من تأثيرها في قلبه. أو لعل قلبه لا يتأثر إلا مما يريده، أو هو قادر على التظاهر بما يشاء من غضب أو فرح أو حزن بغير أن يكون ذلك ناتجا عن تأثر قلبي. فلما سمع قول الخليفة تنحنح وأظهر الاهتمام وقال: «لا أزال أقول اصبر. اتكل علي فإني باذل نفسي في سبيل هذا الأمر وهو يهمني كما يهمك. أليست الدولة دولتنا والشيعة شيعتنا، وفي حياتها حياتنا وفي موتها موتنا. ثق أني فاعل ما تريد، ولولا خوفي من أن أثقل عليك لذكرت لك التفاصيل. لكنك الآن في حاجة إلى الراحة فامض إلى فراشك إذا شئت. وسأقص الخبر على الشريف الجليس وهو يقصه على مولاي.»
قال الخليفة وهو يتململ من القشعريرة: «افعل. إني ذاهب إلى دار النساء.» قال ذلك ونهض فأعانه أبو الحسن على القيام، وأتى بعض الخصيان تعاونوا على حمله على محفة في دهليز يؤدي إلى دار النساء، فودعه أبو الحسن وقال: «أنا ذاهب بأمرك إلى الشريف الجليس أقص عليه ما يسرك ثم يلحق هو بك إلى دار النساء.»
فأشار الخليفة أن افعل. وكانت دار النساء قصرا قائما بنفسه لكنه يستطرق إلى قاعة الذهب بممر مسقوف لانتقال الخليفة إليه متى شاء. وللقصر باب خاص عليه الحرس من الخصيان، وكان رئيسهم من عهد غير بعيد خصيا يسمى مؤتمن الخلافة، فأتى عملا أغضب صلاح الدين فقتله وجعل مكانه الطواشي بهاء الدين قراقوش أحد رجاله المخلصين.
وحالما صار العاضد في تلك الدار أنزلوه من المحفة، فمشى وهو يتوكأ على بعض الغلمان وهم يظنونه يطلب الذهاب إلى حجرة إحدى نسائه. فإذا هو يشير إليهم أن يأخذوه إلى حجرة أخته سيدة الملك، وكانت عاقلة حازمة يرتاح العاضد لحديثها ويستأنس بآرائها. كأنه وهو في تلك الحال أحس بحاجته إلى رأيها.
ساروا به في رواق يؤدي إلى غرفتها وهي منفردة عن سائر غرف القصر، ولما بلغها نبأ قدومه خرجت لاستقباله، وأعانته على الدخول إلى غرفتها، فجلس على مقعد وهي تقول له: «ما بال أمير المؤمنين؟ ومم يشكو؟ روحي فداه.»
قال: «أشكو من برودة وقشعريرة. اصرفي الخدم، فإني أحب السكينة وألا يبقى في هذه الغرفة غيرنا.»
ففعلت. وكانت سيدة الملك جميلة الخلقة طويلة القامة صبوحة الوجه، ذهبية الشعر جذابة المنظر، إذا نظرت في وجهها شعرت بهيبة تنجلي في عينيها. وهي أكبر من أخيها الخليفة ببضع سنين؛ إذ إنها في الخامسة والعشرين من العمر.
فلما خلت به جلست بجانبه على السرير وطوقت عنقه بيدها وهي تقول: «مم يشكو أخي - حماه الله من كل أذى. إذا اعتل أمير المؤمنين اعتل الناس جميعا!»
فأسند رأسه إلى كتفها وتنفس الصعداء وهو يقول: «أشكو حسب الظاهر من حمى تنتابني، لكن العلة الحقيقية في هذا القلب.» وأشار إلى صدره. ثم أرخى يده من شدة الحمى فجستها فرأتها شديدة الحرارة فقالت: «هل أدعو لك الطبيب؟»
قال: «كلا. إن هذه الحمى ستنصرف الليلة، ولكن إذا كنت تعرفين طبيبا ينقذني من أولئك الأكراد فعلي به.»
فأظهرت أنها تمازحه وقالت: «لو عرفت طبيبا في الهند وعلمت أنه يشفيك لذهبت إليه بنفسي ولكن ...»
فرفع رأسه عن كتفها ليعاتبها بنظره. فوقعت عمامته فمد يده ليتناولها فتناولتها هي ووضعتها على رأسه فقال: «إنك تتجاهلين يا سيدة الملك. إنك أفطن من ألا تنتبهي إلى مرادي.»
فضحكت وقالت: «هب أني فهمت مرادك، فأنا لا أرى الأمر يستوجب الاهتمام إلى هذا الحد. اصبر لا بد من الفرج.»
فتنهد وهو ملق رأسه على كتفها، وحول عينيه نحو وجهها وقال: «لم أجد بين رجالي من يسعفني في هذا الأمر إلا ابن عمنا أبو الحسن فإنه تقي غيور. وقد أكد لي أنه باذل جهده في هذا السبيل.»
فلما سمعت اسم أبي الحسن أجفلت وكادت البغتة تظهر في وجهها لو لم تبادر إلى التجلد. ولو انتبه العاضد وهو مستلق على صدرها لشعر بتسارع ضربات قلبها حالما سمعت ذلك الاسم. لكنه تطرق شاغل من أمر نفسه. أما هي فتجلدت وقالت: «كيف أكد لك ذلك؟»
قال: «أكده لي اليوم وسيذكر تفصيله للشريف الجليس وهو يقصه علينا متى جاء بعد قليل.»
قالت: «هل تصدق هذا الرجل؟» وبان الكدر في عينيها.
قال: «كيف لا أصدقه! إنه رجل محب مخلص ومن ذوي قرابتنا، وأنت تعلمين غيرته على دولتنا.»
فهزت رأسها وسكتت، ولسان حالها يقول: «إنه منافق.»
فاعتدل العاضد في مجلسه؛ لأن الحمى أخذت في الهبوط واشتدت عزيمته، وقبض على يد أخته وهو يقول: «أرى الحمى تخف وطأتها عني أليس كذلك؟ أنت يا سيدة الملك سيئة الظن في هذا الرجل منذ عرفناه لغير سبب أو دليل، فإنه من أبناء عمنا. نعم إنه ليس من أحفاد الحافظ لدين الله جدنا. ولكنه من أحفاد الآمر بأحكام الله فهو من أعمامنا.»
قالت: «فليكن ما شئت.» وتشاغلت بطرف ضفيرتها الذهبية تفتله بين أناملها وبان الغضب في وجهها.
فقال: «وما الذي يغضبك من ذكره؟ إنك تكرهينه بلا سبب وهو بعكس ذلك. لم أسمع منه إلا التعلق بك. إنه يتفانى في سبيل إرضائك.»
فنظرت إليه شزرا نظر العاتب وقالت: «أكثر الله خيره. إني لا ألتمس هذا الرضا.»
قال: «لا حاجة بنا إلى التمسك بالرفض وهو ابن عمنا.»
فقالت بصوت المرتاب: «ومن يؤكد لنا صدق انتسابه إلى الآمر؟ ليس عنده دليل غير شهادته لنفسه ... دعنا منه إنه لا يستحق الاهتمام.»
قال: «إنك تظلمينه بهذا الحكم.» وأراد أن يتم كلامه فإذا بأحد الغلمان دخل ووقف فعلمت سيدة الملك أنه آت بخبر فقالت: «ما وراءك؟» قال: «إن الشريف الجليس بباب القصر يطلب المثول بين يدي مولانا أمير المؤمنين، والطواشي بهاء الدين قراقوش يمنعه.»
فالتفتت إلى الخليفة وسألته إذا كان يشعر براحة تؤهله لمجالسة الشريف الجليس فقال: «إني أشعر براحة فليأت.»
فالتفتت إلى الغلام وقالت: «امض إلى الطواشي أنبئه أن أمير المؤمنين هنا يريد أن يرى الشريف الجليس فلا يمنعه من الدخول.»
فمضى الغلام. وأحست سيدة الملك باستياء أخيها من معاملة بهاء الدين ولكنها تجاهلت. وبعد قليل جاء الجليس، وهو شيخ طاعن في السن، يجالس الخليفة ويؤانسه ويحدثه وهو مستودع أسراره.
فلما رآه الخليفة هش له وأمره بالجلوس بين يديه . ولم تحتجب سيدة الملك عنه؛ لأنه من المقربين، وقد عرفته من صغرها، فاكتفت بتغطية شعرها والالتفاف بمطرف من الخز فوق أثوابها وجلست على كرسي بجانب سرير أخيها.
أما الخليفة فنظر إلى الجليس نظر استفهام عما جاء به، فأدرك هذا غرضه فقال: «جئت للسؤال عن صحة مولاي. فقد بلغني من الشريف أبي الحسن أنك أصبت بحمى. لا أصابك الله بسوء وأرواحنا فداك.»
فابتسم وقد استلطف عبارة الجليس وقال: «إني بدعائك وحسن نيتك قد زال عني كل بأس، جس يدي، قد ذهبت الحمى. ما الذي جئتنا به غير ذلك؟» فجس يده وأشار بعينيه إشارة الاقتناع وإن لم يقتنع وقال: «نحمد الله على ذلك.»
فقال الخليفة: «قل ما الذي جئتنا به؟» قال: «خيرا إن شاء الله.» وظهر في ملامح وجهه أنه يكتم شيئا لا يستحسن ذكره بين يدي سيدة الملك.
فأدركت ذلك ونهضت وقالت: «إذا كان وجودي يمنع الجليس من الكلام فإني خارجة.» فأمسك أخوها بثوبها وقال: «اجلسي. لست ممن يكتم عنهم، تكلم يا عماه ما الذي جئت به؟»
قال: «إني جئت بأمر ذي بال. هل تأذن أن أقول كل شيء؟»
قال: «قل ولا تخف. ما الذي أطلعك عليه أبو الحسن من مساعيه في سبيل مصلحتنا؟ إنه محب غيور.»
قال: «أصبت يا سيدي، إن أبا الحسن شديد الغيرة على منصب أمير المؤمنين، وهو ساع في إنقاذنا من هذا العدو المقيم.»
قال الخليفة: «سمعته يقول ذلك لكنه وعد بتفصيله. فهل فصله لك؟»
قال: «فصله تفصيلا أعجبني.»
فتوجه الخليفة نحو الجليس بلهفة وقال: «وما هو؟» •••
قال الجليس وهو يخفض صوته ويتطاول بعنقه كأنه يحاذر أن يسمعه أحد: «يرى أبو الحسن يا مولاي أن العقدة التي يطلب حلها إنما هي يوسف صلاح الدين هذا. فإذا ذهب تخلصنا من كل هذه الشرور ... وأبو الحسن يسعى في إنقاذنا منه.»
فقال العاضد: «وكيف ينقذنا؟»
فأشار الجليس بكفه على عنقه إشارة الذبح؛ يعني أنه يقتله. فبان الاستغراب في وجه الخليفة وقال: «من يقتله ؟ ليس في مصر كلها من يجسر أن يمد يده إليه.»
قال: «ليست هذه خطته. إنه سيقتل هذا الرجل بدون أن يعرف القاتل.»
قال: «وكيف يمكن ذلك؟»
قال: «ألا يعرف مولاي جماعة الباطنية أو الإسماعيلية؟!»
فأجفل العاضد عند سماع ذلك الاسم وقال: «نعم أسمع بهم، وأسمع أنهم من أنصارنا.»
قال: «أصلهم من شيعتنا ولكنهم الآن قوم شغلهم القتل.»
فقطع الخليفة كلامه وقال: «ليس هذا شأنهم اليوم فقط. أظنك حدثتني عن أفعالهم غير مرة. ألم تقل لي إنهم قتلوا الملك الأفضل أمير الجيوش وزير الآمر بأحكام الله. وكان رئيسهم يومئذ يدعى بهرام. وهم قتلوا نظام الملك وزير ملك شاه السلجوقي وقتلوا غيره؟»
قال: «نعم يا سيدي، لقد قتلوا كثيرين. هذا هو شغلهم.»
فقال العاضد: «من هو زعيمهم الآن وأين هم؟»
قال: «إن أصلهم يا سيدي من أتباع الحسن بن الصباح في زمن جدك الحاكم بأمر الله - رحمه الله - أي منذ أكثر من مائة وخمسين سنة. فأقام حسن هذا في قلعة ألاموت قرب قزوين. وألف جمعية من الفدائيين الذين لا يخافون الموت، ويعرفون بالحششة أو الحشاشين نسبة إلى عقار مخدر يتناولونه يسمونه الحشيشة. وتوالى عليهم زعماء كثيرون في بلاد فارس والعراق والشام. وزعيمهم الآن يقال له راشد الدين سنان يقيم في جبل السماق من أعمال حلب، يعتصم هناك بالقلاع وعنده رجال مجربون يطيعونه حتى الموت. إذا أمر أحدهم بقتل ملك أو سلطان بادر إلى الطاعة حالا. وقد قتلوا كثيرين كما ذكرت. وللشريف أبي الحسن صداقة شخصية مع سنان هذا بالنظر إلى نسبه الشريف وله عليه دالة، فإذا أمره أن يبعث رجلا يقتل هذا الرجل فعل.»
فبان البشر في عيني العاضد يخالطه الاستغراب وقال: «وكيف يستطيع القاتل أن ينجو من هذا المعسكر؟ وكيف يصل إلى يوسف ودون الوصول إليه سدود وعراقيل كما تعلم؟»
قال: «إن هؤلاء الفدائيين يتنكرون عادة بألبسة السياس أو الخدم ويختلطون بالخدم زمنا يترقبون الفرص، فإذا سنحت فرصة فعلوا فعلهم ثم لا يهمهم ماذا يصيبهم بعد ذلك ولا يبالون بالموت؛ لأنهم يرون القتل في هذا السبيل حياة سعيدة .»
فالتفت الخليفة إلى أخته يلتمس مشاركتها إيه في الإعجاب. فرآها مطرقة تفكر فقال لها: «أرأيت اهتمام هذا الشريف بمصلحتنا؟»
فظلت ساكتة ولم تجب.
فالتفت إلى الجليس وقال: «هل أخبرك متى يباشر هذا العمل؟» فتشاغل الشيخ بحك عثنونه وسعل وتنحنح وبان الارتباك في عينيه، فلم ينتبه الخليفة له. أما سيدة الملك فلم يفتها ما ينطوي تحت تلك الحركات، فأخذت تختلس النظر وتصيخ سمعها فإذا هو يقول: «إنه مولاي يشترط علي هذا العمل شرطا واحدا. وإن مولاي يعلم أن أبا الحسن عريق في النسب الشريف. وهو أكبر أبناء عمكم المرشحين لولاية العهد سنا و... و...»
فلحظت سيدة الملك غرضه فبادرت قائلة: «أظنه يشترط أن يكون وليا للعهد بعد أمير المؤمنين.»
فأجاب الشريف بسرعة كأنه يعتذر عن تطاول أبي الحسن قائلا: «إن طلبه هذا من قبيل الجنون. ولا معنى له؛ لأن مولانا أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه وعجل موتنا قبل أن يصاب بسوء - ما زال شابا في مقتبل العمر، وأبو الحسن في حدود الكهولة. ولكنه يشترط ذلك ترضية لنفسه على تحمل تلك المشقة، مع ما يحدق بها من الخطر. ومن يدري هل يبقى حيا يوما واحدا بعد تنفيذ مهمته؟»
فقال الخليفة: «يشترط أن يكون ولي عهد الخلافة بعدي؟»
قال: «أطال الله عمر أمير المؤمنين. إن الرجل لا يرجو أن يتولى الملك ولكنه يحب أن يتمتع بولاية العهد فقط على ما يظهر.»
فأطرق الخليفة وهو يعمل فكره، والتردد ظاهر في عينيه، ثم رفع بصره إلى الجليس وقال: «وما رأيك؟» قال: «إذا أذن لي مولاي فإني أرى أن يوليه الولاية ويشترط في عقدها أن تكون بعده إلى نجلكم سيدي الحامد لله الأمير داود ولي العهد الحقيقي، فإذا استطاع إنقاذنا من هذا الكردي وإعادة النفوذ إلى مولاي أمير المؤمنين فإنه يكون قد استطاع عملا لم يستطعه سواه، وتكون ولاية العهد ترضية معنوية له.» •••
ولحظت سيدة الملك أن أخاها أوشك أن يقبل، وظهر لها من خلال حديثه أنه راض أن يزوجها به وهي لا تقدر أن تتصوره ، بل هي تكرهه كرها شديدا لغير سبب سوى الشعور الذاتي. فإنها تتصور فيه الخبث والخيانة، ثم هي منصفة لا ترى صلاح الدين يستحق القتل لأنه لم يعمل عملا يستوجب ذلك، وإنما هي نعرة السيادة تحمل طلابها على انتحال الأسباب الباطلة. فنظرت إلى أخيها وقالت: «تريد أن تقتل صلاح الدين وتستبدل به أبا الحسن هذا؟»
قال: «لا. لكنه إذا استطاع قتله سميته ولي العهد.»
قالت: «وماذا تفعل بداود ابنك؟»
قال: «يكون وليا للعهد بعده.»
قالت: «ولماذا هذا العمل. ولماذا تريد التخلص من صلاح الدين. وترتكب كل هذه الآثام والأخطار في سبيل قتله. ماذا فعل؟»
قال: «تسألينني عما فعله كأنك لا تعلمينه؟»
قالت: «ربما كنت أعلمه، لكنني أحب أن أسمع ذلك من أمير المؤمنين.»
قال: «إنه جعل كل النفوذ له ولم يبق لي من السيادة غير الاسم.»
قالت: «وهل كان النفوذ إليك قبله؟ ألم يكن الوزراء هم أصحاب النفوذ، وكلهم من الأجانب الأرمن أو الأتراك. وهذا كردي، وما الفرق بينهم؟»
فقال: «لكنه استبدل وغير وبدل و...»
فأحست أنها فازت عليه بالبرهان، فلم تصبر حتى يتم كلامه فقالت: «إذا كان قد استبد فإنما استبد في رفع الظلم عن الناس. كانت المكوس لا تحتمل فرفعها أو خففها. ألأجل ذلك تدس الدسائس عليه وتكيد المكايد لقتله؟ إن الساعين في ذلك هم طلاب السلطة. وهم يحسدون الرجل على مكانته، ولذلك يثيرون غضب أمير المؤمنين عليه. وإذا شاء أخي أن يعرف حقيقة منزلة هذا الكردي فليتذكر الطريقة التي استنجدنا بها سلطانه نور الدين. ألم ترسل شعورنا مع كتاب نور الدين تقول فيه: «هذه شعور نسائي في قصري يستعن بك لتنقذهن من الصليبيين؟» فالرجل لبى الطلب وأنجدك بأسد الدين وابن أخيه هذا يوسف صلاح الدين. هل يستنجد قائد بطريقة أذل من هذه؟ إن شعري لا يزال ينقص تلك الخصلة التي قطعتها منه.» قالت ذلك وجست ضفائرها كأنها تتحقق من ذلك. ثم عادت إلى الحديث فقالت: «ومع ذلك فقد اشترطنا لنور الدين أن نعطيه ثلث البلاد إقطاعا غير إقطاع رجاله. ولما أتوا وأنقذونا من الإفرنج نسينا جميلهم وصار وزيرك شاور يدافعهم ويماطلهم فقتلوه. ويشهد الله أن صلاح الدين أحسن قلبا وأشد إخلاصا لك من شاور هذا. لكننا لم نستفد من هذا الحادث فشجعنا الخصي مؤتمن الخلافة قيم هذه الدار على مناهضة صلاح الدين ورجاله حسدا منه. ألا يعلم مولاي وأخي ماذا فعل مؤتمن الخلافة؟ إنه اتفق مع جماعة من المصريين على مكاتبة الصليبيين ليتحد معهم على قتل صلاح الدين. فهل فعل ذلك غيرة عليك أو على الدولة؟ وبلغ خبره إلى صلاح الدين فقتله، فغضب خصيان القصر لمقتله لأنهم سود من جنسه فاجتمع منهم خمسون ألفا وناهضوا رجال صلاح الدين، والتقى الجيشان أمام هذا القصر ونحن فيه. لا أنسى هول ذلك اليوم ولا أنسى أمير المؤمنين يومئذ وقد جلس في المنظرة يشرف على المعركة، ويشجع العبيد. فاشتدت عزائمهم وخاف صلاح الدين أن تعود العائدة عليه وعلى رجاله، فأمر النفاطين أن يرموا قوارير النفط المشتعل على المنظرة وعلى القصر و...»
فقطع الخليفة كلامها قائلا: «ولكنني شجعت رجال صلاح الدين فأرسلت زعيم الخلافة يقول: «دونكم والكلاب العبيد أخرجوهم من بلادكم.» فامتنعوا عن إرسال النفط.»
قالت: «ولكنك لم تقل ذلك إلا خوفا على المنظرة من الحريق.» وكانت سيدة الملك تتكلم بحماسة وكل جوارحها تتكلم معها وقد توردت وجنتاها وأبرقت عيناها. فلما وصلت إلى ذكرى الحريق امتقع لونها وتغيرت ملامحها كأنها فوجئت بذكرى محزنة فتوقفت عن الكلام. فاستغرب أخوها تغيرها فجأة والتفت إلى الجليس فرآه ينظر إليها أيضا.
أما هي فتجلدت وعادت إلى الكلام قائلة: «ولم يكن كلامك وحده الذي أوقفهم.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قالت: «دعنا من هذا الموضوع الآن؛ لأن في تذكره ما يؤلمني ويؤلمك، وأنت أحوج إلى الراحة والسكينة.» وتشاغلت بإصلاح نقابها على رأسها، فجس العاضد يده وقال: «إني في خير ولا بأس بي وقد زالت الحمى والحمد لله. قولي ما هو السبب الآخر.» فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت خصلة من الشعر ذهبية من لون شعرها ودفعتها إليه وهي تقول: «هل تعرف هذا الشعر؟»
فأجفل وقال: «هو شعرك. هذه هي الخصلة التي قطعتها من شعرك وأرسلتها في جملة شعور نسائي إلى صاحب دمشق. من أين أتتك؟ وكيف وصلت إليك؟» قالت: «وصلت إلي في ذلك اليوم الذي نشبت فيه الحرب بين عبيدنا ورجال صلاح الدين!» قال: «وكيف ذلك؟» قالت: «قد ذكرت أنت الآن أن صلاح الدين منع رجاله من إرسال قوارير النفط قبل أن ينطلق منها شيء على القصر. قد يكون هذا الواقع، لكنني أعلم أننا ونحن في هذا القصر وقلوبنا ترتجف هلعا والسهام تترامى علينا من رجال صلاح الدين رأيت قارورة مشتعلة وقعت في الدار قرب حجرتي هذه لا أدري من أين أتت، فذعرت وصحت بالخدم أن يتلافوا خطرها فلم يسمعني أحد لاشتغال الرجال برمي النشاب بعيدا عني. وبينما أنا في ذلك وأهل القصر كل منهم في شاغل من نفسه، إذ رأيت رجلا متنكرا بثوب الخصيان قد غطى وجهه باللثام وثب من داخل الدار لا أدري كيف دخلها. فذعرت ولكنني ظننته أسرع إلى نجدتي فما عتمت أن رأيته أمسك بيدي وجذبني إليه كأنه يريد أن أتبعه، فتخلصت منه، فعاد وأمسكني ثانية وجذبني إليه كأنه يريد أن يحملني ويطير بي. ولم يكن في هذه الغرفة أحد يراني فصحت واستغثت فلم يسمع صوتي؛ لأن الضوضاء كانت قد ملأت هذا الفضاء، ثم جاء رجل آخر أعان الأول على اجتذابي وهما يشيران إلي أن أتبعهما، وهددني أحدهما بخنجر استله من منطقته فأثر في ذلك المنظر وخارت قواي. وكدت أغلب على أمري وقد ذهب نقابي وانحل شعري. وإني لفي ذلك إذ رأيت شابا وثب نحوي يظهر من لباسه أنه من رجال صلاح الدين فأيقنت أنه سيعين ذينك الرجلين علي، وإذا به صاح بهما صيحة الجبارين وخنجره مسلول في يده وأوشك أن يقتلهما، فلما رأياه خافا وتركاني وعمدا إلى الفرار. وظل هو واقفا كالأسد ونظر إلي بلطف وقال: «من هم أولئك الأنذال؟».»
قلت: «لا أعلم. ومن أنت وما تريد مني؟»
فقال : «لا تخافي يا سيدتي إني من رجال صلاح الدين المحاصرين لهذا القصر، ورأيت ذينك الرجلين يعذبانك، وحالما رأيت شعرك الذهبي علمت أنك من نساء الخليفة فبادرت إلى إنقاذك وأحمد الله أني قد فزت.»
فسألته: «هل يخشى علينا من الاحتراق.» فأكد لي أنهم لم يلقوا نفطا علينا وإنما كان ذلك من بعض اللصوص رموا النفط من جهة أخرى لغرض لهم. ولعلهم أرادوا أن يشغلوا الناس بالنار ويختطفوك.»
ولما وصلت سيدة الملك إلى هذه العبارة تغيرت سحنتها وتوردت وجنتاها وبلعت ريقها وهي تلهث من التأثر.
وكان الخليفة والجليس يسمعان كلامها ويراعيان الحماسة التي كانت تتجلى في محياها، ولحظا التغير الذي طرأ عليها عند ذكر ذلك الشاب، ولم ينتبها لما يخالج قلبها من جهته. فلما سكتت قال العاضد: «من هو هذا الشاب؟ وكيف عرف أنك من نساء الخليفة؟ إنه لأمر غريب! كيف يعرفك شاب غريب وأنت لا تخرجين إلا محتجبة؟ هو مع ذلك من رجال صلاح الدين. قولي الحق.»
قالت وهي تنظر إليه شزرا: «إنك تتهمني يا أمير المؤمنين. ولا مكان للريب. قد سألت الشاب كيف عرفني فمد يده إلى جيبه واستخرج هذه الخصلة ودفعها إلي وقال: «أليست هذه من شعرك؟» وأدناها من شعر رأسي فإذا هما بلون واحد.»
فابتدرها الخليفة قائلا: «مس شعرك بيده؟»
قالت: «لم يمسه، ولكنه أدناها من شعري. إنه شاب غير متهم وأنا مدينة له بحياتي وشرفي ولولاه لذهبت فريسة ذينك الخائنين.»
قال: «ألم تعرفي من هما؟»
قالت: «لم أعرفهما يقينا، ولكنني كدت أعرف أحدهما.»
قال: «من هو؟» قالت: «لا أقول؛ لأني أخاف أن يخطئ ظني فأجلب الأذى لرجل بريء. ولولا ذلك لأطلعتك على هذا الحادث من ذلك اليوم وقد مضى عليه الآن أكثر من سنة، ولم أذكره لك لئلا ألقي الشك في خاطرك.»
فصاح العاضد وقد امتقع لونه من شدة الغضب: «لماذا لم تخبريني حتى الآن. أيصيبك مثل هذا الأمر وتكتميه طول هذه المدة؟ من تجاسر على هذا العمل؟ من تظنين ذلك الرجل؟ قولي.»
قالت: «لا تغضب يا أخي. إني لم أقل ولا أقول الآن خوف الوقيعة بالأبرياء، وقد نجوت والحمد لله. ولكنني قصرت في حق ذلك الشهم الذي أنقذني.» قالت ذلك وأبرقت عيناها، ولو تفحص أخوها صدرها لرأى قلبها يخفق خفقانا سريعا. لكنه لم يفقه ذلك فقال: «لا تعرفين اسم الذي أنقذك، من هو؟»
قالت: «لم أسأله عن اسمه، وكنت أتوقع أن يأتيك في اليوم التالي ويقص عليك ما وقع فتكافئه، إنه لم يفعل. وأنا لم أتمكن من رؤيته، أما هو فبعد أن اطمأن علي وتحقق نجاتي من الخطر دفع إلي هذه الخصلة وهو يقول: «خذي يا سيدتي هذه الخصلة من شعرك، صيانة لها من أن يمسها غير مستحقيها. ولم يكن يجدر بالخليفة أن يرسلها وسيلة للاستغاثة.» قال ذلك وانصرف مسرعا سرعة البرق ولم أعد أراه من ذلك الحين.» •••
غلى صدر الخليفة من شدة الحنق ونسي ضعفه في ذلك اليوم، ونهض بسرعة فقبض على الخصلة واجتذبها من يد سيدة الملك وجعل يتفرس فيها ويقابلها بسائر الشعر، فإذا هي منه فالتفت إلى الجليس وقال: «ماذا ترى يا عماه؟ كيف يدخل الغرباء قصري ومعهم شعور نسائي؟ ولكن آه! أنا المذنب لأني تسرعت في الاستغاثة فأرسلت شعور نسائي إلى صاحب دمشق، ولكن كيف وصلت هذه الخصلة إلى هذا الشاب؟ وكيف احتفظ بها حتى عرف صاحبتها؟»
وكان الجليس يسمع ويرى وقد أخذته الدهشة، فلما رأى غضب الخليفة وشدة تأثره قال: «خفف عنك يا سيدي. لكل شيء سبب، ولا يهمنا سبب وصول هذه الخصلة إلى ذلك الكردي بقدر ما يهمنا معرفة الرجل المتنكر الذي أراد اختطاف مولاتي سيدة الملك. من يجسر على ذلك؟»
فالتفت العاضد إلى أخته وقال: «قولي. قولي من تتهمين؟ من هو ذلك النذل الذي تجاسر على دخول قصري وخرق حرمتي؟» قال ذلك وهو يلهث وقد احمرت عيناه وأرجع الخصلة إليها ورجع إلى مقعده وقد أحس بانحلال قواه.
فتقدمت أخته نحوه وأخذت تخفف عنه وتمسح جبينه وتقول له: «لا تغضب يا أخي. اسمح لي ألا أذكر اسم الرجل الذي أتهمه ؛ لأني اتهمته بالظن وبعض الظن إثم. وأنا واثقة أن هذه التهمة مهما تكن ضعيفة فهي تكفي لإيقاع الأذى بصاحبها. فحرام علي أن أعرض نفسها للهلاك.»
قال: «وحياة رأسي ألا قلت من هو ذلك الخائن، وأعدك ألا أسارع إلى الانتقام إلا بعد التبصر.»
فأطرقت وهي تصلح نقابها على رأسها، ثم جعلت تلاعب خصلة الشعر بين أناملها وأخوها شاخص فيها ينتظر نطقها، فلما استبطأ جوابها قال: «ما بالك لا تقولين؟» قالت: «بالله دعني. سأقول لك ذلك بعد الآن، دعني أفكر قليلا ...»
فالتفت الشيخ الجليس إلى العاضد وقال: «دعها يا مولاي الآن ولا تغضبها. وستقول لنا. وليس في الأمر ما يدعو إلى العجلة، ولنرجع الآن إلى ما كنا فيه من أمر النجاة من هؤلاء الأكراد. ماذا رأى مولاي فيما عرضه علينا ابن عمه أبو الحسن؟»
فلما سمعت سيدة الملك ذلك الاسم مرة أخرى اقشعر بدنها، ولكنها تمالكت وصبرت لتسمع ما يقوله أخوها فالتفت إلى الجليس وقال: «هو يعدنا بقتل الرجل ويطلب ولاية العهد مكافأة له. فنحن نعده بذلك.»
قال: «وعد أمير المؤمنين يكفي، وقوله حجة، لكن أبا الحسن لا يصدقني فهل تكتب له كلمة؟»
قال: «لا. لا. يكفي أن تقول له ذلك شفاها.»
فقال: «حسنا، سأقول له ذلك، ولكن هناك ...» وسكت وهو يتشاغل بحك لحيته كأنه يكتم أمرا آخر يخاف المجاهرة به.
فقال العاضد: «ولكن هناك ماذا؟ قل.»
قال: «أخاف أن تغضب سيدتي الأميرة لأنها ...» وسكت.
فقالت: «ما الذي يغضبني، كيف عرفت أنه يغضبني؟»
فتبسم وقال: «قد أدركت من حديثك أنك لا تحبين أبا الحسن.»
فابتدرته قائلة: «ولماذا أحبه، وهل هو يتطلب مني ذلك؟»
قال: «لا. لكنه يلتمس التقرب من أمير المؤمنين والتشرف ب ...»
قالت: «بماذا؟»
فالتفت الجليس إلى العاضد وقال: «هل أقول يا مولاي؟»
قال: «قل بماذا يريد أن يتشرف؟ أظنني علمت مراده؛ لأنه طالما لمح إلى ذلك في حديثه معي، والحق يقال إنه كفؤ لما يطلبه ...»
وتنحنح، ثم حول وجهه نحو سيدة الملك.
فأدركت ما يعنيه. وكان قد ذكر لها مرة قبل هذه رغبة أبي الحسن في الزواج بها فرفضت. فلما سمعته يشير إلى ذلك تجاهلت وقالت: «لا أفهم مرادك. ماذا تعني؟» قال: «أظنك فهمت ما أعنيه.» والتفت إلى الجليس وقال: «ما هو رأيك في هذا الأمر يا عماه؟ إني لا أرى أكفأ من أبي الحسن لأختي.»
فاعتدل الجليس في مقعده وقال: «لا ريب أنه خير كفء لما يتصل به من النسب الشريف، فضلا عن تعقله ودهائه. ويكفي ما رأيناه من تفانيه في مصلحة مولاي لإنقاذه من هؤلاء القوم. والذي أراه أن نوافقه على هذا الطلب، فيهون عليه السكوت عن الشرط الآخر؛ أعني إذا كان جواب مولاي من حيث خطبة مولاتي له بالإيجاب لا أظنه يشدد في طلب الشرط بولاية العهد، بل يكتفي بهذا؛ لأنه شديد الاحترام لسيدة الملك، ويعد حصوله عليها منة كبرى. وعند ذلك يكون هو عونا لنا فيما نريد بلا شرط.»
فلما سمعت سيدة الملك ذلك التصريح قالت وهي تتصنع خفض صوتها: «هو يطلب أن يتزوجني وأنت تستحسن ذلك؟ وأحب أن أعرف رأي أخي أمير المؤمنين أيضا.»
فظنها تعني ما تقوله حقيقة وهو يريد أن تقبل طمعا في النجاة من صلاح الدين فقال: «وهذا هو رأيي أيضا كما تعلمين من قبل.»
فأجابت ببرود: «لكنه ليس رأيي أنا.» وحولت وجهها عنه.
فقال العاضد: «يظهر أنك ما زلت على خطتك. إن أبا الحسن ليس في أهلنا جميعا من هو أكفأ منه لك، هذا إلى تفانيه في خدمتنا.»
فقالت: «إني لا أطلب كفؤا ولا غير كفء، قلت لك من قبل إني لا أطلب الزواج. دعنا من هذا الآن، وليطلب النصيب من طريق آخر.»
فقال الجليس: «ولكن يا سيدتي، إذا قبلت فإنك تخدمين مصلحة مولانا الأمير؛ لأن أبا الحسن أقدر إنسان في الدنيا على إنقاذه.»
قالت وهي تنظر إليه نظر الاستخفاف: «إن أبا الحسن كاذب، إنه لا يستطيع شيئا من ذلك.»
فضحك الجليس ضحك استعطاف وقال: «قد ظلمته بهذا الحكم يا سيدتي؛ لأني على يقين من تفانيه في خدمة مولانا، وهو صادق الغيرة على شرف آل البيت؛ لأنه من صميمهم.»
فقالت: «وهو كاذب في هذا أيضا. إن آل البيت عرفوا بصدق اللهجة والإخلاص، وهذا رجل كاذب منافق وكفى.»
فامتعض العاضد من حكمها بهذه الصراحة وقال: «لا دليل على ما تقولين غير قولك، وقد عرفت الرجل من بضعة أعوام ولم أر منه إلا كل مودة وإخلاص، ولا أعلم كيف جاز لك الحكم عليه بالكذب والنفاق؟
قالت: «أما أنا فأعلم. وستبدي لك الأيام صدق قولي. أظنك قد تعبت يا أخي وأتأسف لأننا شططنا بالحديث إلى هذا الحد. وأنت منحرف المزاج فاذهب إلى فراشك وسترى في الغد أني أقول الحق.»
وكان العاضد قد تعب فعلا وكان لقولها تأثير شديد فيه ... فرأى أن يطيعها ويؤجل الأمر إلى فرصة أخرى. فنهض الجليس وذهب كل إلى فراشه والخليفة أحوج إلى الرقاد. •••
كان الجليس أقلهم رغبة في الرقاد لما أصابه من الفشل في المهمة التي كلفه أبو الحسن بقضائها. وكان الجليس شيخا حسن الظن قد استهواه أبو الحسن بدهائه ومواعيده، وأقنعه ببرهانه وذلاقة لسانه أن انتقال ولاية العهد إليه خير للدولة وله ولكل من فيها. ولم يكن عند الجليس شك في اقتدار أبي الحسن على إنقاذ الدولة من صلاح الدين. فلما كلفه بهذه المهمة سعى فيها من كل قلبه وصمم على ترغيب العاضد فيها وهو يعتقد أنه يخدم بها مصلحته.
فلما عاد بالفشل أصبح لا يدري كيف يبلغ أبا الحسن نتيجة تلك المهمة، فأعمل فكرته في تلطيف الأسلوب حتى لا يثقل الأمر عليه.
وكان أبو الحسن نازلا في دار الأضياف على مقربة من القصر الغربي، وهي دار كبيرة كانت في الأصل قصرا للمظفر بن أمير الجيوش أقام بها حتى توفي، فجعلت دارا لأضياف الأمراء والوافدين من قبل الملوك، ويتولاها نائب يسمى عدي الملك ينوب عن صاحب الباب في لقاء هؤلاء الضيوف وينزل كلا منهم في دار تصلح له ويقيم له من يقوم بخدمته. ثم صار صاحب دار الأضياف يسمى في الدولة التركية «المهمندار».
وكان عدي الملك كثير العناية بابن الحسن لما رأى من تقربه إلى الخليفة ومنزلته عنده، فأفرد له دارا خاصة وأمر الغلمان بخدمته. وكان أبو الحسن قد سحره بمظاهراته وبما يقصه عليه من اقتداره وعلو منزلته. والدولة في أواخر أيامها تروج فيها السفاسف والمظاهرات ويتعلق أصحابها بالأوهام دون الحقائق وبالقشور دون اللب. ويشتغل كل منهم بنفسه ويصبح همه الاحتفاظ برزقه ورزق أهله وهو يتوقع زوال الدولة فلا يرجو ضمان ذلك فيها، فتطيش آماله وتتعلق بأضعف الأسباب وأوهى المواعيد. والإنسان إذا تولاه اليأس في أمر صدق كل قول يعيد إليه الأمل ولو كان ذلك القول من المستحيلات. ويتكاثر أهل الدسائس في مثل هذه الحال للاصطياد في الماء فيزينون القول ويزوقون الأعمال فيصبح أكثر معول الناس على الظواهر.
وكان أبو الحسن من أولئك الصيادين، وهو من أهل الدهاء والذكاء قوي الحجة لا يبالي بما قد يرتكب في سبيل الوصول إلى غرضه من قتل أو كذب أو تملق أو تزلف. والذكي الداهية إذا أغضى عن مراعاة الذمة وصدق النية لا يعجزه الوصول إلى ما يبغيه من الأغراض. وكان أبو الحسن طامعا في الخلافة أو ولاية العهد على الأقل كما تبين لك من حديث الجليس الشريف. فاتخذ كل وسيلة تؤديه إلى ذلك الغرض. ومن جملة ذلك طلبه التزوج بسيدة الملك؛ لعلمه بنفوذها على أخيها ولأن انتسابه إلى العلويين يتأيد بزواجها. حتى إنه يفضل التزوج بها أولا فيسهل عليه كل ما يبغيه. لكنها لم تكن تحبه ولا تخلص له ولا كانت تعتقد صحة نسبه.
وفي الصباح التالي بكر الجليس إلى أبي الحسن في دار الأضياف قبل أن يطلبه الخليفة لمجالسته. وكان أبو الحسن في انتظاره على مثل الجمر لكنه حالما جاءه الغلام ينبئه بمجيئه نهض لاستقباله ورحب به وأظهر أنه لم يكن يتوقع مجيئه واهتمامه إلى هذا الحد، فابتدره بالسؤال عن صحة الخليفة فقال: «فارقته مساء أمس أحسن حالا.» قال: «أرجو أن يكون العارض قد زال بحول الله بزوال السبب.»
فأدرك الجليس غرضه فقال: «أرجو أن يزول السبب تماما، وعند ذلك نتحقق زوال المسبب.» قال: «إن السبب لا بد من زواله بإذن الله. وهل تظنني أرجع عن هذا الأمر؟ إني أفعل ذلك لمصلحة أمير المؤمنين. وأنا أحبه وأحترمه لا لغرض يهمني.»
فأعجب الجليس بطيب عنصره وازداد خجلا من التصريح له بما جرى أمس. ولحظ أبو الحسن سبب ارتباكه؛ لأنه كان يتوقع رفض الخليفة طلبه، ويعلم أن سيدة الملك لا تقبل خطبته من أول طلب، فتجاهل ونظر إلى الجليس وهو يظهر السذاجة وسلامة النية وقال: «إنما أرجو أن يطمئن مولانا أمير المؤمنين منذ الآن أنه ناج من كل شر ليرتاح خاطره ويسترجع صحته. هل أقنعته بذلك؟»
قال: «أكدت له عزمك وهو يعتقد اقتدارك على هذا الأمر لكنه.» وتشاغل بحك لحيته وقد ارتج عليه.
فابتدره أبو الحسن قائلا: «أود أنك لم تفاتحه بما كنا تحادثنا به البارحة من حيث ولاية العهد؛ لئلا يظنني أعلق أهمية على هذا الشرط. إني لم أعن اشتراطه، ولا جعلت نجاة الخليفة متوقفة على إنفاذه لكنني متى وفقت إلى إنقاذه لا أظنه إلا فاعلا ذلك من نفسه.»
فلم يصبر الجليس إلى إتمام كلامه فقاطعه قائلا: «بارك الله فيك، وهذا ما كنت أتوقعه من أريحيتك ولكنني صرحت بالأمر، و...»
فأسرع أبو الحسن قائلا: «ولا شك أن الأمر شق عليه؛ لأنه غريب على خاطره. ولكن هل ذكرت ذلك في جلسة سرية؟»
قال: «لا. لم أوفق إلى ذلك، إذ قضت الأحوال أن أذكره له وهو في دار الحريم و...» فقال أبو الحسن مسرعا: «وفي حضور أخته على ما أظن.» قال: «نعم هكذا حصل.» فقال: «لا بد أنها كانت أكثر استغرابا منه. أنا لا ألومها على ذلك كما أني لم ألم أخاها. ولعلك ذكرت لهما شيئا آخر غير ولاية العهد.» قال ذلك وهو ينظر في عيني الجليس ويظهر المداعبة. فابتسم الجليس وقال: «نعم ذكرت لهما وتكلمت بما يمليه علي إخلاصي لك.»
قال هذا وبلع ريقه، فعلم أبو الحسن أن جوابها لم يكن بالرضا ولولا ذلك لانتهج الجليس أسلوبا آخر في التبليغ فرأى أبو الحسن أن يغطي فشله بالدهاء فقال: «أتمنى أن تكون قد ترددت في إجابة هذا الطلب أيضا.» فاستغرب تمنيه وقال: «نعم ترددت قليلا، وأظنها أجلت الحكم في ذلك إلى ما بعد انقضاء هذه الأزمة أو ...»
قال: «كن صريحا يا عماه. إنها رفضت وقد تكون عالقة القلب بأحد، أو ... فليكن ما تريد. أنا لا أعتب عليها، ولكني أعتب على أخيها الخليفة فإنه مطالب بسيرة أخته وسمعتها.»
قال: «أؤكد لك أن أمير المؤمنين حسن الظن بك.» فقال أبو الحسن وهو يتشاغل بتمشيط لحيته: «يكفي. كنت أحسبها عاقلة كما يقولون، ولكن يظهر أنها لا تعرف مصلحة نفسها ولا لوم علي بعد الآن.» لا أعني أني أكف عن فداء أمير المؤمنين بدمي. ولكنني لا أرى وجها للرفض. إلا أن تكون مشغولة ببعض الرجال فهذا شيء آخر.»
قال: «كلا، لكنها قالت إنها لا تريد الزواج.» فضحك أبو الحسن وهو ينهض من مجلسه وقال: «لا تريد أن تتزوج؟! هذا كلام غير معقول. ولكنها سترى بنفسها مضطرة للزواج بغيري وتندم.»
فنهض الجليس لنهوضه وصبر ليرى ما يريده، فقال أبو الحسن: «أظنني أخرتك عن مجالسة أمير المؤمنين، وقد يكون في حاجة إليك، فأرجو أن تؤكد له أني مقيم على ولائه أفديه بروحي، ولا تذكر له شيئا عن سيدة الملك. إنما أقول سامحها الله؛ لأنها لم تحسن المعاملة.»
فودعه الجليس وهو معجب بطيب سريرته وعلو همته وسعة صدره وعاد إلى منزله ينتظر أمر الخليفة.
الفصل الرابع
سيدة الملك
ما كاد أبو الحسن يخلو بنفسه حتى رفس الأرض برجله من الغضب، وقد أخذ الحنق منه مأخذا عظيما وتمشى في الغرفة. ويداه متعانقتان وراء ظهره وهو يعمل فكرته، ويتشاغل حينا بالنحنحة أو السعال أو بحك ذقنه أو يصلح عمامته. ثم وقف وقال يخاطب نفسه: «رفض العاضد أن أكون ولي العهد بعده. لكنه سيراني خليفة. وأما تلك الملعونة أخته فإنها ما زالت ترفض الزواج بي، وإن رفضها هذا لأشد وطأة على نفسي من رفض الخليفة، لكنها ستندم وتعود صاغرة متى رأت ما يبلغ من كيدي. سوف تأتيني صاغرة باكية. وأظنها تحسبني مغرما بها وأني أريد التزوج بها عن شغف بجمالها. لست ممن يتعلقون بهذه الأوهام. ليس في قلبي حب لأحد. لا أحب أحدا. إن حب النساء من الأوهام الباطلة التي تصرف الرجل عن المطالب العالية. إني أطلب ما يقصر عنه أخوها الخليفة نفسه. سأقتل صلاح الدين ولكن ليس إكراما لها ولا لأخيها. سأقتله ليخلو لي الجو. سأقتله وأقتل العاضد وأقتل كل من يقف في سبيل وصولي إلى الخلافة. إنها حق لي.» قال ذلك وكاد صوته يرتفع من عظم التأثر فانتبه لنفسه وسكت.
ثم مشى إلى غرفة داخلية أقفل بابها وراءه وقال وهو يشير بيده إشارة التهديد: «أما تلك الخائنة فسأذيقها مر العذاب. سأجعلها تندم ولات ساعة مندم.»
ثم اشتغل بتبديل ثيابه وهو يعمل فكرته في تدبير الحيلة لإغاظة سيدة الملك قبل كل شيء. فلما فرغ من اللبس أمر بالبغلة فأتته وركب إلى حيث يقيم صلاح الدين ووالده ورجال حاشيته. وفي جملتهم رجل يقال له ضياء الدين عيسى الهكاري من الأمراء الصلاحية كبير القدر كان صلاح الدين يعول عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به. فلما توجه أسد الدين إلى مصر مع بهاء الدين قراقوش صحبهما عيسى هذا وكان مخلصا لصلاح الدين. فلما توفي أسد الدين اتحد عيسى وقراقوش على تنصيب صلاح الدين موضعه في الوزارة، ودققا الحيلة حتى بلغا المقصود. فلذلك كان لعيسى دالة على صلاح الدين يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره، وكان من الجهة الأخرى علوي النسب فكان له مع أبي الحسن صداقة. وكان عيسى يحاسن أبا الحسن وفي نيته انه سيحتاج إلى استخدامه في مصلحة صلاح الدين، فكان يكرمه ويرحب به وصلاح الدين لا يعلم؛ لأن أبا الحسن كان يجتنب الاجتماع بصلاح الدين. وكان عيسى الهكاري في ذلك الحين في منظرة اللؤلؤة يجالس صلاح الدين ويباحثه، ويرشد أباه نجم الدين إلى ما يسهل عليه المهمة التي جاء من أجلها إلى مصر.
ركب أبو الحسن إلى منظرة اللؤلؤة لا يريد دخولها، ولكنه كان يعلم أن ضياء الدين الهكاري يختلف إلى هناك في تلك الأيام، فتوقع أن يراه في الطريق فيظهر أنه التقى به مصادفة؛ ليهون جره في الحديث عفوا إلى الغرض المطلوب. وكان يعلم أيضا أنه يتردد إلى دار العلم بجوار القصر الصغير. ودار العلم هذه أنشأها الحاكم بأمر الله وجمع فيها الكتب وجعلها مباءة لطلاب العلم للمطالعة أو النسخ. وفيها الأقلام والمحابر. ووقف على ذلك أماكن ينفق على دار العلم من ريعها. وكان يجتمع فيها العلماء للمناظرة والمجادلة فأصبحت في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش مجتمعا للمجادلة الدينية الخطرة، فأمر الأفضل بمنع الجمهور من دخولها. لكنها ظلت تحتوي على كثير من كتب الفقه والتاريخ فمن أحب من الخاصة أن يطالع شيئا منها أذن له، فكان الهكاري من جملة المترددين إلى هناك.
فلما دنا أبو الحسن من منظرة اللؤلؤة سأل بعض الخدم عن الهكاري فقيل له إنه ذهب إلى دار العلم. فحول شكيمة البغلة إلى هناك وأظهر أنه ذاهب لغرض آخر غير ملاقاته. فلما وصل الباب منعه البواب من الدخول لأنه لا يعرفه، فلم يعرفه بنفسه بل قال: «أحب الاطلاع على بعض الكتب وأعود.» فقال: «ذلك لا يجوز يا سيدي.» فقال: «كيف لا يجوز وقد علمت أن رجلا دخل هذه الدار منذ هنيهة؟» فقال: «هو الفقيه ضياء الدين.» فأظهر أبو الحسن الاستغراب لوقوع هذه المصادفة وقال: «الفقيه ضياء الدين هنا؟ إنه صديقي ... استأذنه في الدخول إليه.» قال: «من أقول له؟» قال: «قل له أبو الحسن يطلب الدخول.»
فذهب البواب ثم عاد ومعه ضياء الدين. فلما وقع نظره على أبو الحسن أسرع إليه ورحب به فتحول أبو الحسن عن البغلة ودخل مع الهكاري وهو يتظاهر أنه فرح بهذه المصادفة. وكان ضياء الدين يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فجمع بين اللباسين، فلما التقيا قال أبو الحسن مداعبا: «إنك قد جمعت بين زي الجند وزي الفقهاء، فهل أنت فقيه الآن أو جندي؟»
قال: «إني فقيه في بحثي الآن.»
قال: «أما أنا فقد طلقت الفقه، وإنما جئت للمطالعة في بعض الكتب لغرض علمي.» قال ذلك ومشى، فدخل ضياء الدين معه وهو يقول: «تفضل ادخل، لعلك تبحث في مسألة لغوية؟» قال: «كلا، إني لا أرى ذلك نافعا الآن، ولكنني أطلب مسألة تاريخية، أحب الاطلاع على تاريخ السلاجقة فإن هؤلاء القوم أشداء ولهم تاريخ مجيد.»
فالتفت ضياء الدين إليه وقال: «أظنك تحب البحث عن سبب مقتل نظام الملك. مسكين!» قال: «لا. فإن قاتله من الإسماعيلية أصحاب شيخ الجبل ... أليس كذلك؟ ليس لهذا جئت. ولكنني أريد الاطلاع على أصل هذه الدولة.»
قال: «اتبعني إلى خزانة كتب التاريخ.» •••
مشى أبو الحسن في أثره حتى أدخله غرفة فيها رفوف عديدة رتبت فيها الكتب حسب منوعات العصور. وساعده ضياء الدين حتى جمع له بضعة كتب تبحث في الدولة السلجوقية ومبدأ أمرها. فتناولها أبو الحسن وأخذ يقلب فيها وهو يقول: «فتش معي عن كتاب فيه ترجمة طغرل بك مؤسس هذه الدولة إنه كان رجلا شديدا.»
وبعد البحث وقف ضياء الدين على كتاب فيه سيرة طغرل بك دفعه إليه فتناوله أبو الحسن وهو يقول: «أظنني شغلتك عما جئت لأجله.»
قال: «كلا، بل أنا في غاية السرور من هذه المصادفة؛ لأني أحب أن أعرف تاريخ هذا الرجل مؤسس هذه الدولة التي ملأت الدنيا فتحا. تفضل اقعد.» وأشار إلى طراحة على مقعد بالقرب منه. فقعد أبو الحسن وقعد الهكاري بين يديه وأخذ كتابا آخر دفعه إليه أبو الحسن فجعل يقلب أوراقه وعيناه في الكتاب الذي يقرأ أبو الحسن فيه. فرآه وقف عند صفحة وجعل يقرأها ويعيد قراءتها ويهز رأسه إعجابا أو استغرابا. ثم قلبها وقرأ غيرها حتى فرغ من الكتاب فوضعه بجانبه وتناول غيره. فاشتاق ضياء الدين إلى مطالعة الصفحة التي رأى أبا الحسن يحدق فيها. فتناول الكتاب وهو يتوهم أنه فعل ذلك خلسة وأبو الحسن لا يعلم. ففتح تلك الصفحة فإذا هي تبحث في خطبة طغرل بك لابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة 454ه. وكيف أن السلطان طغرل بك وهو تركي طلب أن يتزوج بابنة هذا الخليفة مما لم يجسر عليه أحد قبله. وأن بعض القضاة أخبر الخليفة يومئذ أن غرض السلطان من هذا الزواج أن يأتيه من بنت الخليفة غلام فيه الدم العباسي. فيوليه الخلافة بهذه الحجة وتتوالى الخلافة في أعقابه وتخرج من العباسيين. وأن الخليفة انزعج لهذا الطلب واستعطف السلطان أن يعفيه من الإجابة إلى طلبه. فأبى ألا يجاب بحيث اضطر الخليفة إلى إجابته وزوجه ابنته. لكن طغرل بك مات في تلك السنة ولم يرزق من امرأته هذه أولادا.
وكان ضياء الدين يقرأ ذلك وأبو الحسن يظهر أنه يقرأ في كتاب آخر وعيناه تختلسان النظر إلى الهكاري. فلما علم أنه فرغ من قراءة ذلك الفصل رفع نظره إليه وقال: «أرأيت شجاعة طغرل بك، وكيف أنه استطاع بحكمته وتعقله تأسيس هذه الدولة التي لولاها لم يكن صاحب الشام ولا صاحب العراق ولا غيرهما.»
قال: «نعم إنه رجل ذو بطش غريب وأنا أستغرب الآن ما قرأته في هذه الصفحة من مطامعه في الخلافة مما لم يطمع فيه أحد سواه من غير القرشيين فيما أظن.»
فتوجه أبو الحسن نحوه باهتمام وقال: «طمع فيها قبله عضد الدولة ابن بويه فأراد أن يزوج الخليفة الطائع لله بابنته لتلد من الخليفة ولدا فيه من دمه فيجعل الخلافة فيه، فلم يوفق إلى ذلك، وأما هذا فإنه خطا خطوة أكبر من تلك. أراد أن يتزوج هو ببنت الخليفة ليكون ابنها فيه دم العباسيين، ولكن هل علمت كيف نجا الخليفة من هذا الخطر فحفظ الخلافة في العباسيين؟»
فقال: «إنه نجا بالمصادفة.»
قال: «أتظن موت طغرل بك كان مصادفة؟ وهل يموت بالمصادفة على أثر ذلك العقد المغتصب؟ لا أشك في أنهم سقوه السم. ولو أحسن الأسلوب لاحتاط لنفسه ونجا من ذلك الخطر ولم يذهب سعيه عبثا.»
فقال: «وكيف يحتاط؟» قال يحتاط بألا يعرض نفسه للقتل بخطبة ابنة الخليفة فيظهر غرضه. أعني لو طلب أن يتزوج أخت الخليفة أو إحدى بنات أعمامه مثلا لا أظنهم كانوا ينتبهون لغرضه. فإذا ولدت له ولدا ذكرا كان فيه من الدم العباسي ما يكفي لادعاء حق الخلافة، ولكن ذلك التركي كان قصير النظر.»
ونظرا إلى اهتمام ضياء الدين الهكاري بصلاح الدين وشغفه بتثبيت دولته كان كلما قرأ تاريخا أو سمع حادثة مهمة طبق مغزاها على حال صلاح الدين لعله يستفيد منها ما يؤيد دولته. فلما سمع كلام أبي الحسن انتبه إلى أن صلاح الدين يقدر أن يفعل ذلك بالتزوج من أخت العاضد، وكان يسمع بجمالها وتعلقها، والعاضد أضعف من أن ينكر على صلاح الدين طلبه. وبذلك تصير الدولة إليه حتى نور الدين قد يدخل في سلطانه. فأشرق وجهه لهذه الفكرة. وصمم أن يفاتح صلاح الدين بها في ذلك اليوم. ولكنه تظاهر بأنه لم ينتبه لشيء وجعل يتشاغل بقراءة فصول أخرى وأبو الحسن يظهر من الجهة الأخرى أنه يتكلم بكل سذاجة. ثم غير الحديث فسأل ضياء الدين عن نجم الدين وهل هو مسرور من الإقامة في منظرة اللؤلؤة، فأجابه بما يقتضيه المقام وأصبح ضياء الدين شديد الرغبة في انصراف أبي الحسن ليمضي في مهمته الجديدة.
وبعد قليل استأذن أبو الحسن في الانصراف وودع صديقه الهكاري، وعاد على بغلته إلى دار الضيافة وهو يهمهم في أثناء الطريق ويكاد يخاطب البغلة من فرحه بانطلاء حيلته؛ إذ لم يشك أن الهكاري ذاهب حالا إلى صلاح الدين ليحرضه على خطبة سيدة الملك. وهو يعلم يقينا أن ذلك سيقع وقوع الصاعقة على رأسها ورأس أخيها، ولا يجدان سبيلا لرد طلب ذلك الخاطب القاهر إلا إذا ادعيا أن الفتاة مخطوبة لابن عمها أي له (هو) فينال غرضه على أهون سبيل. •••
لما ذهبت سيدة الملك إلى غرفتها لقيتها هناك حاضنتها وأخذت في مساعدتها على نزع ثيابها استعدادا للرقاد، ولم تفاتحها بشيء من الحديث الذي جرى لها مع أخيها برغم شدة رغبتها في ذلك - والخدم من أكثر الناس ميلا إلى استطلاع الأسرار لفراغ رءوسهم من المشاغل المهمة مع اطلاعهم على مخبآت تجري في منازل أسيادهم، ووقوفهم أمامها وقوف المتفرج ينتقدون هذا ويحسنون عمل ذاك على ما توحيه أغراضهم أو مداركهم، فيلذ لهم التحدث فيما بينهم كل واحد عما يعلمه من أحوال مخدومه، ويندر فيهم من يحافظ على سر مولاه ويغار على سمعته، ويسعى في درء الشبهات عنه - وكانت حاضنة سيدة الملك من هذا النوع واسمها ياقوتة، وقد ربيت في دار الخلافة وسيدة الملك طفلة، فكانت لها عناية خاصة بها. فشبت سيدة الملك على الوثوق بها حتى جعلتها مستودع أسرارها فلم يكن يفوتها شيء مما يخالج ضميرها. وذلك طبيعي في مثل حال هذه المرأة من الحجاب في ذلك العصر، فإنها لا تختلط بالناس ولا تجد من تحادثه إلا الخدم. وكانت ياقوتة قد علمت منذ جاء الخليفة أنه يشكو انحرافا وتلصصت من وراء الستر لتتسمع ما يدور من الحديث على عادة أمثالها من حب الاطلاع ورغبة في خدمة سيدتها. ولم تتوقع أن يدور بين الخليفة وأخته ما دار. فلما جاءت سيدة الملك لنزع ثيابها كانت ترجو أن تسمع منها شيئا جديدا ولحظت فيها تغيرا يدل على قلقها واضطرابها.
فلما فرغت سيدة الملك من تبديل الثياب قعدت على سريرها وقد حلت شعرها الذهبي وأرسلته ضفيرة واحدة إلى ظهرها وتنفست الصعداء وأطرقت، ولحظت ياقوتة في عيني سيدتها ما يشبه الدمع فترامت على قدميها وأخذت تقبل ركبتيها وتقول: «ما بالك سيدتي، لماذا تبكين؟ وأظهرت أنها لم تكن مطلعة على شيء.
فرفعت سيدة الملك عينيها إليها وبان الدمع فيهما وتنهدت ثانية وقالت: «تسألينني يا ياقوتة عن سبب بكائي، وتستغربين حزني؟ ليس حزني غريبا، وإنما الغريب ألا أقضي يومي باكية نادبة!» قالت ذلك وغصت بريقها.
فشاركتها ياقوتة البكاء لكنها أظهرت التجلد وقالت: «ماذا يجري يا سيدتي هل جرى شيء جديد؟
قالت: «ألا يكفي ما جرى مما تعلمينه؟ أنت عاقلة لا يخفى عليك شيء وتعلمين حالنا مع هؤلاء الأكراد واستبدادهم في الدولة. وهذا أخي جاءني اليوم وقد أصابته الحمى من شدة الغيظ لما صارت إليه الخلافة، فكيف لا أبكي؟»
قالت: «لا بأس من البكاء ولكن لا فائدة، وإنما الفائدة بالصبر والحكمة حتى يقضي الله بما يشاء، فلكل أمر نهاية، وإنما ...»
فقطعت كلامها قائلة: «لا. لا. ليس لهذه الكارثة نهاية إلا بالموت، من ينقذنا من هؤلاء الأكراد وقد وضعوا أيديهم في كل شيء حتى دارنا هذه فإن عليها حارسا من رجالهم؟» وبلعت ريقها ومسحت دموعها وهي تستعد لاستئناف الحديث ثم قالت: «وهذا كله هين يا ياقوتة، كله هين سهل بالنظر إلى أمر آخر جاءنا به الجليس من عند أبي الحسن في هذا اليوم.»
فتطاولت ياقوتة بعنقها وقالت: «وما هو يا سيدتي؟»
قالت: «جاءنا بمهمة يزعم أنها تنجينا من هذا الضنك. ولكنها إذا صحت أوقعتنا فيما هو أشد وطأة وأصعب مراسا.»
قالت ياقوتة: «وهل أشد وطأة من هذه الحال يا سيدتي؟»
قالت: «نعم أشد وطأة منها أن يكون ذلك الكهل الوقح وليا للعهد بعد أخي - حفظه الله.»
فأظهرت أنها لم تفهم مرادها فاستفهمتها فأوضحت لها شروطه التي تقدم بيانها ثم قالت: «ولنفرض قدرة ذلك الشريف الكاذب على قتل صلاح الدين فإن صيرورة ولاية العهد إليه بدل ابن أخي أصعب عندي من البقاء في حوزة صلاح الدين.»
فقالت ياقوتة وهي تظهر الاهتمام: «لا أرى رأيك في ذلك يا سيدتي، بل أعد سعي أبي الحسن هذا بابا للفرج؛ لأنه إذا لم يستطع قتل صلاح الدين لا ينال شيئا. وإن استطاع فإن ولاية العهد لا تصير إليه؛ لأن مولانا أمير المؤمنين شاب في مقتبل العمر، أطال الله بقاءه. ومن يعلم المستقبل؟»
فلم تعد سيدة الملك تصبر على سماع هذا العذر، فنهضت فجأة ونهضت معها ياقوتة وهي تنتظر ما تقوله فإذا هي تقول: «ولكنه يشترط أيضا شرطا آخر، الموت أهون علي من قبوله.»
وكانت ياقوتة تعلم برغبة أبي الحسن فيها، فأظهرت أنها فهمت مرادها فقالت: «إنك تكرهين هذا الرجل كرها شديدا بلا سبب، اصبري يا سيدتي حتى أتم كلامي. إذا نظرنا في مطالبه وشروطه لا نجد ما يبعث على هذا القلق. إن الرجل من أبناء عمك ويعرض أن يقتل أعدى عدو لنا وينقذ هذه الدولة من الخطر الذي لم يقدر عليه أحد سواه، فإذا فاز صار وليا للعهد وتزوج بأخت الخليفة ولا أظنك تستنكفين أن تكوني زوجة رجل أنقذ الدولة، وهو مع ذلك شريف النسب، تبصري فيما أقول.» قالت ذلك وأكبت عليها وجعلت تقبلها وتضمها للتخفيف عنها.
فحولت سيدة الملك وجهها عنها نحو ستارة معلقة على الحائط عليها صور عربية وأظهرت أنها تتأملها ولكنها لم تكن ترى شيئا لفرط اضطرابها وغضبها. وظلت ساكتة فظنتها ياقوتة تستسيغ رأيها فعادت إلى الموضوع وأحاطت عنق سيدتها بذراعها وهي تقول: «لا تتعجلي يا سيدتي برأيك، فكري في الأمر مليا، إن عليه يتوقف بقاء هذه الدولة وفضلا عن ذلك فإنك لا تجدين من أبناء عمك من يستطيع هذا العمل، فلا باعث على النفور منه.»
فقطعت سيدة الملك كلامها وتحولت نحوها وقد بان الغضب في عينيها وقالت: «تقولين لا باعث على هذا النفور؟»
قالت: «نعم أقول ذلك؛ لأني لا أرى باعثا. وإلا قولي ما يبعثك على رفضه؟»
قالت: «يبعثني على ذلك أني لا أطيق أن أرى هذا المنافق. إذا رأيته ارتعدت فرائصي من رؤيته. تبا له كأن عينيه من نوافذ جهنم! إذا نظر إلي خيل لي أن الشيطان يطل من حدقتيه ويهم بأن يأخذ بتلابيبي، دعيني لا أقدر أن أتصوره!»
فهزت ياقوتة رأسها هزة الإنكار وقالت: «يا للعجب إنك تكرهين هذا الرجل عفوا. أظنك تظلمينه. لم أر منه ما يبعث على شيء من ذلك!»
قالت: «ألا ترين الشر في سحنته؟ إني أرى ذلك واضحا يكاد يلمس باليد. دعيني منه.»
قالت وهي ممسكة يدها تجلسها على السرير: «اقعدي يا سيدتي لأخاطبك كما تخاطب الأم ابنتها وإن كنت لا أستحق هذا الشرف.»
فقعدت وهي تنظر في عيني ياقوتة فقالت ياقوتة: «إنك يا سيدتي شابة في مقتبل العمر وقد منحك الله جمالا وتعقلا، ولا بد من أن تتزوجي بمن هو كفؤ لك وأنا لا أرى أكفأ من أبي الحسن فإنه عريق في النسب العلوي الشريف.»
فوثبت سيدة الملك من السرير وقد تغيرت سحنتها وغلب عليها الغضب وقالت: «ليس الزواج ضروريا لي. وإذا كان لا بد منه فلا يهمني أن يكون ذلك الزوج من النسب العلوي.» قالت ذلك وتنهدت تنهدا عميقا وامتقع لونها ثم احمرت وجنتاها فجأة وبان الحياء في عينيها، فحولت وجهها عن ياقوتة وغطت عينيها بكفيها. فاستغربت ياقوتة حركاتها وأدركت أن ذلك لا يبدو إلا من فتاة عالقة القلب برجل يمنعها الحياء من ذكره، فغيرت لهجتها في الحديث وضمتها إلى صدرها وقبلتها بين عينيها وقالت: «فهمت الآن شيئا لم أكن أعرفه من قبل، أنت عالقة القلب برجل آخر.»
فنفرت سيدة الملك من هذا التعبير الصريح وتراجعت وهي ما زالت مطرقة وظلت ساكتة فتبعتها ياقوتة وهي تقول: «لعلي بالغت في التصريح فوقعت عبارتي ثقيلة على سمعك. لكنني أرجو أن تصدقيني الخبر. فأنا معك كل يوم وكل ساعة لا أفارقك ولا يدخل علينا أحد من الرجال غير أخيك وبعض الأطفال من أبنائه وأبناء عمك فيبعد أن تكوني عالقة بأحد، لكني أرى دلائل الحب في عينيك.»
فازداد احمرار وجهها وزاد حياؤها وهمت بالكلام ثم توقفت. فقالت ياقوتة: «قولي. لا تخافي. هل تحبين أحدا؟» قالت: «دعيني يا خالة. دعيني من هذا البحث الآن. لا فائدة منه غير زيادة الأشجان.» قالت ذلك وأظهرت أنها تميل إلى الرقاد فأعانتها ياقوتة حتى استلقت على السرير ووضعت الغطاء عليها وجعلت تصلح ما يحيط بها من الملاءة والوسادة وهي تراقب ما يبدو منها، فإذا آنست ميلها إلى الحديث استأنفته وإلا تركتها تنام.
أما سيدة الملك فإن الحديث هاج أشجانها ومالت إلى مفاتحة حاضنتها بما يكنه ضميرها، ولكن الحياء كان غالبا عليها. وكانت تظن الحاضنة تصر من نفسها على استتمام الحديث، فلما رأتها أطاعتها وأعانتها على الرقاد ندمت وأخذت تتذرع إلى استئناف الكلام، فأظهرت ضجرها من الغطاء وتنهدت والتفتت إلى ياقوتة لفتة أثرت في أعماق قلبها فانحنت فوقها وهي جاثية بجانب السرير وقالت: «ما بالك يا سيدتي يا حبيبتي، لماذا تكتمين همك عني؟» فقالت ولسانها يتلعثم: «أخاف أن تضحكي مني أو تهزئي بي.» قالت: «معاذ الله أن أفعل ذلك! وكيف أفعله ولماذا؟» قالت: «لأني أحب رجلا لا يخطر ببالك أني أحبه، ولو علم أخي به لاستغرب عملي وحسبني مجنونة!» وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها تحت رأسها ورفع الغطاء وإصلاحه.
فوقعت ياقوتة في حيرة ولم تفهم حقيقة مرادها أو لعلها أدركت قصدها وتجاهلت لتسمع زيادة، ثم قالت: «لم أفهم يا سيدتي مرادك. من هو الرجل الذي وقع من نفسك هذا الموقع لا بد أن يكون نادرة الزمان.»
قالت: «إنك تعرفينه جيدا. قد رأيته في هذه الدار كما رأيته. وشهدت أنت نفسك أنك لا تعرفين أشرف منه خلقا ولا أكبر همة ولا أعز نفسا، رأيته وبيده خصلة الشعر التي كان أخي قد بعث بها إلى صاحب دمشق يستغيث به باسم نساء قصره. إن أخي ارتكب بذلك ذلا لم يمحه إلا هذا، فرد علي شعري بعد أن أنقذ حياتي من الموت ونجى شرفي من الدنس.»
فصاحت ياقوتة: «أظنك تعرفين الشاب الفردي.»
فابتدرتها بلهفة وقالت: «نعم إياه أعني. أعني ذلك الشهم الباسل!» قالت ذلك وقد عاد إليها نشاطها وتحمست وبان الاهتمام في عينيها.
فتقدمت ياقوتة إليها وهي تبتسم وقد شاركتها ذلك الشعور وقالت: «الآن فهمت المراد. قد عرفت الشاب جيدا ولا أنسى ذلك اليوم.»
فقالت سيدة الملك: «هل عرفت اسمه؟» فأطرقت الحاضنة وأعملت فكرتها كأنها تراجع ذاكرتها ثم قالت: «نعم علمت اسمه، ولكن هل تعلمين أنت من هو وما هي علاقته بصلاح الدين عدونا الألد الذي يشكو أخوك أمير المؤمنين ظلمه؟» قالت: «لا. لا أعلم.» قالت: «إنه من رجال خاصته، لا يخطو خطوة إلا وهو معه!»
قالت وهي تبتسم: «فهو إذن قد نال ثمرة تلك المناقب السامية فتقدم عند مولاه. وما اسمه؟» قالت: «اسمه عماد الدين. وكثيرا ما رأيته واقفا بباب قاعة الذهب في انتظار صلاح الدين وهو عند مولانا أمير المؤمنين. ألم تشاهديه من نافذة قصرك؟» قالت: «لم أشاهده هناك، لكنني رأيته غير مرة واقفا بباب هذا القصر يخاطب الأستاذ بهاء الدين قراقوش وعيناه لا ترتفعان إلى النوافذ، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا كأنه لا يعرف أهل هذا القصر. وكثيرا ما وددت لو يرفع بصره لعله يلتقي ببصري، وربما أقرأ في عينيه شيئا يدلني على رأيه في، فلم يزدني ذلك إلا شغفا بمناقبه. اعذريني يا خالة. طالما كتمت هذا الحب حياء وخجلا وكنت أرى في كتمانه لذة. أما الآن فقد بحت به وقضي الأمر.»
فقالت: «أنت يا سيدتي تحبين عماد الدين، خادم صلاح الدين! بالله ما هذا؟ كيف علقت به من النظر إليه مرة واحدة. هذا أمر عجيب، إن بين أعمامك وفي قصور أخيك عشرات من الشبان أجمل منه، ويقع نظرك عليهم منذ أعوام، وكلهم يتمنون نظرة منك ولكنك لم تكترثي لأحد منهم!»
فقالت سيدة الملك: «صدقت يا خالة إني أكثر منك استغرابا لما أصابني من تلك النظرة! ولكنها في الحقيقة ليست نظرة. إنها ساعة أطول من العمر كله. كنت فيها بين الحياة والموت فنظرت ذلك الشاب وأنا أكاد ألقى وجه ربي أو أتلطخ بالعار. فمد يده وأنقذني. فخيل لي أنه ملاك هبط علي من السماء!»
قالت ذلك وعادت إلى الإطراق وقد توردت وجنتاها.
فقالت ياقوتة: «إذن أنت تحبين عماد الدين؟»
فأبرقت عيناها رغم ذبولهما من البكاء والانكسار وابتسمت ابتسامة لطفت ما تكاثف في وجهها من الحزن، وأومأت برأسها أن «نعم»، وأسرعت إلى الغطاء فرفعته إلى رأسها استحياء.
وقع قولها عند ياقوتة موقع الاستغراب وقالت وهي تزيح الغطاء عن وجهها بلطف: «نعم يا سيدتي إن عماد الدين شهم نادر المثال، ولكنه لا يليق بسيدة سليلة المعز لدين الله.»
فنهضت وقعدت وقد انحل شعرها حتى غطى كتفيها وخديها ونظرت إلى ياقوتة نظر العتاب وقالت: «إن المعز - رحمه الله - لم يبلغ إلى هذا السؤدد ولا توارث أبناؤه هذا الملك الواسع إلا بمناقبه وعلو همته وكرم أخلاقه. ومناقب عماد الدين لا تقل عنها شيئا. إنك تعلمين ما أتاه هذا الشاب من المروءة يوم واقعة العبيد، وكيف تفانى في سبيل نجاتي وحمل إلي خصلة الشعر ولا يعرفني. إن كنت فد نسيت ذلك فإني لا أنساه. لا أنسى يوم أتاني ذانك الشقيان وأرادا حملي من الدار فأنقذني هذا الغريب منهما بغير ثواب يرجوه ولا عقاب يخافه، وإنما فعل ذلك مندفعا بأخلاقه السامية! فأنا من أجل هذه الأخلاق أحببته ولم أنظر إلى أصله وفصله.» وتوقفت لحظة وهي ترفع شعرها عن عينيها ثم قالت: «أتذكرين ذينك الرجلين اللذين هما بي في ذلك اليوم؟ إذا علمت الآن أنهما من أبناء الملوك أو الخلفاء وطلبني أحدهما هل ترضين أن أكون زوجة له؟»
قالت: «معاذ الله! إنهما ساقطا الهمة.» قالت: «اعلمي أن أحدهما يغلب على ظني أنه أبو الحسن الشريف الذي ترغبونني فيه، والآخر خادم له استعان به لاختطافي في وسط الغوغاء بعد أن علم أني لا أريده.» قالت ذلك وكأنها ندمت على ما فرط منها فسكتت وأطرقت.
فقالت ياقوتة وقد تولتها الدهشة: «هل أنت على يقين مما تقولين يا سيدتي؟»
قالت: «لا أقول إني على يقين، ولكنني أرجح هذا الظن كثيرا. ومع ذلك فأنا لا أقول هذا ولا ذاك، وإنما أقول إني منذ رأيت عماد الدين وما أتاه من المروءة شعرت بشيء اجتذب قلبي نحوه، وكنت أتوقع أن أراه مرة أخرى يأتي فيها إلى أخي يطلب مكافأة على صنيعه. فلما لم يأت ازددت إعجابا به وارتفعت منزلته في قلبي وتحول الإعجاب إلى حب شديد.» ثم تنهدت وقالت: «ويلاه! هل هو يشعر مثل شعوري؟» قالت ذلك وخنقتها العبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء، والحاضنة تستغرب هذا التعلق بنظرة واحدة فأخذت تخفف عنها وتقبلها وتقول لها «خففي عنك يا سيدتي ... ارجعي إلى رشدك، إن مثلك لا يسترسل في عواطفه إلى هذا الحد مع شخص لم يره إلا بضع مرات ولا يعرف شعوره من جهته، تجلدي وفكري في الأمر. لو فرضنا أنك وأنت في هذا الهيام علمت أن عماد الدين يحب سواك كيف تكون حالك؟ تبصري قليلا.»
فاستجمعت سيدة الملك قواها واسترجعت رشدها وأطرقت وهي تتأمل في عبارة حاضنتها فرأت الحق معها. ولكن الحب سلطان مستبد لا يذعن للحق ولا يعرف الصواب. وإنما يلذ له الاستبداد بلا سبب والفتك بلا حساب. ولا يحلو الحب إلا أن يكون مستبدا؛ لأنه ومتى أذعن للأحكام العقلية والأقيسة المنطقية أو الاعتبارات الاقتصادية صار معلما أو تاجرا أو فقيها. وإنما هو سلطان مطلق لا يقيده دستور ولا يردعه خوف من عقاب. فهو لا يسأل عما يفعل ورعيته راضية باستبداده تعد ظلمه عدلا وتحسب عسفه رفقا.
ذلك كان شعور سيدة الملك في تلك اللحظة كان عقلها يدلها على مكان الخطأ وهي لا تريد أن تراه. فاسترسلت في عواطفها ونظرت إلى ياقوتة والاعتراف على شفتيها والإنكار في عينيها وقالت: «صدقت يا خالة. ولكني لا أظنه يفعل ذلك ... لا. لا. ولن مهما يكن فإني لا أرى سبيلا إلى غير ما ذكرت فدبريني برأيك.»
فتحيرت ياقوتة في الجواب ورأت الحديث قد طال وتوالت الغرائب التي كشفت لها في تلك الليلة، فعزمت على استخدام الوقت للتفكير على انفراد لعلها تهتدي إلى حل يرضي سيدتها ويوافق ضميرها. فترامت على يدي سيدتها تقبلهما وهي تقول: «خففي عنك يا مولاتي. إني أمتك أفديك بروحي. كوني مطمئنة وقد تعبت اليوم من هذا الحديث، وآن الرقاد فتوسدي فراشك. وأمهليني لأنظر في الأمر ولا بأس عليك في كل حال. فإن أخاك - حفظه الله - لا يجبرك على من لا تحبينه. وأنا أعلم منزلتك عنده لكن لا بد من تدبير طريقة لمشاهدة عماد الدين. توسدي فراشك وها إني ذاهبة. وسأفكر فيك كثيرا الليلة وأما أنت فلا أظنك تفكرين في.» وضحكت مداعبة ثم قالت: «فكري فيمن تحبين.» فاستلطفت سيدة الملك تعبيرها؛ لأنه كان من أقصى أمانيها أن توافقها ياقوتة على اعتقادها وتشعر معها بما في قلبها فيهون عليها كل شيء. فسري عنها وأطاعت حاضنتها فرقدت وذهبت ياقوتة أيضا إلى فراشها. •••
قضت سيدة الملك بقية الليل بين اليقظة والمنام لفرط قلقها وأفاقت في الصباح التالي على صوت المؤذن لصلاة الصبح، ولم يكن يطلب منها القيام حينذاك لكنها لم تعد تستطيع رقادا. فجعلت تتقلب على الفراش وأفكارها تائهة. وتذكرت أخاها وأحبت أن تعلم حاله بعد ذهابه من عندها هل شفي مما كان فيه. فنهضت من الفراش والتفت بمطرف من الخز التماسا للدفء وخرجت من غرفتها إلى ممر يؤدي إلى شرفة تطل على مصلى الخليفة، فرأت أخاها قد خرج للصلاة فاطمأن بالها عليه. ولما عادت إلى فراشها استقبلتها الحاضنة وسألتها عن حالها وأخذت تحادثها وتؤانسها ومشت معها إلى غرفتها وأعانتها في لبس ثيابها وأمرت بإعداد المائدة وجلست إليها وهي تقول: «أطمئنك عن صحة سيدي أمير المؤمنين فإنه في خير.»
قالت: «عرفت ذلك من خروجه للصلاة، وأحمد الله على ذلك. ولكني أحب أن أراه.»
قالت: «سترينه الليلة بعد رجوعه من قصر الذهب والفراغ من مهام الدولة. هيا بنا إلى الطعام الآن.»
فمشت إلى غرفة المائدة فتناولت الطعام وهي تتوقع أن تفاتحها ياقوتة بالحديث عن عماد الدين فلم تفعل، فاستحيت هي أن تذكره. قضت نصف ذلك النهار وهي تتشاغل بشئون مختلفة. وأحست بعد الغداء بميل إلى الرقاد من فرط تعب أمس فتوسدت فراشها فنامت ملء جفونها. وأفاقت وقد هدأت أعصابها وهان عليها ما هي فيه بالنسبة إلى ما كانت عليه من التعب؛ لأن تعب الأعصاب يزيد صاحبه قلقا ولا يريه الأمور إلا من وجهها الأسود.
فنهضت من الفراش وقد أشرق وجهها وعاد إليه ابتسامه وصفقت تطلب الحاضنة فأبطأت عليها. ثم جاءتها وفي وجهها خبر فخفق قلب سيدة الملك عند رؤيتها ولم تصبر عن الاستفهام عما وراءها، فقالت ياقوتة: «ما ورائي إلا الخير يا سيدتي هلم بنا.» فأجفلت وقالت: «إلى أين؟ قالت: «إلى خزانة الجوهر.»
فأعرضت عنها إعراض المنكر لما يسمعه وقالت: «أين الجوهر إنهم لم يتركوا فيها شيئا.» قالت: «إنهم أخذوا كثيرا وتركوا كثيرا. لكنني لا أدعوك للجوهر يا سيدتي وإنما أريد ذهابك إلى تلك الخزانة لملاقاة سيدي أمير المؤمنين، فإنه أنفذ في طلبك إليه على أن توافيه إلى تلك الخزانة لسبب لا أعلمه.» قالت بلهفة: «أخي يطلب ذهابي لملاقاته هناك؟»
قالت: «نعم يا سيدتي. ولا حاجة إلى تبديل ثيابك؛ لأنك تذهبين إلى ذلك المكان في ممر يؤدي إليه لا تجدين فيه أحدا. هلم بنا.»
قالت ذلك وأشارت إليها أن تمشي فلفت رأسها بملاءة لازوردية اللون ومشت وهي تفكر فيما عساه أن يكون الغرض من هذه الدعوة في ذلك النهار.
خرجا من قصر النساء إلى ممر أخلاه الخدم والجواري. فمرت سيدة الملك ولم تجد أحدا في طريقها حتى أتت خزانة الجوهر. وهي غرف عديدة نصبت فيها الخزائن والرفوف وأقيمت فيها الأرائك فوق الطنافس، ولم تكن دخلت تلك الدار من عهد طويل. ولكنها كانت تسمع بما تحوي من الذخائر النفيسة والجواهر الثمينة وتعلم أنها أخذت في أيام المستنصر بالله أبي تميم لما غلب على أمره منذ نحو مائة عام. ولم تكن تتوقع أن تجد فيها شيئا من الجوهر يستحق الذكر.
وصلت إلى الباب فاستبقها الحاجب وأدخلها وأشار إلى ياقوتة بالانصراف فانصرفت. أما سيدة الملك فدخلت وعيناها شائعتان تبحثان عن أخيها. فرأته جالسا في صدر القاعة الوسطى وحده على مقعد، وقد تخفف بعمامة صغيرة وبيده سبحة يعد حباتها وهو مطرق يفكر. فلما أنبأه الحاجب بمجيء أخته رفع بصره إليها وهش لها وأخذ يرحب بها فترامت عليه وسألته عن صحته فقال: «إني والحمد لله في خير وعافية، وكيف أنت؟»
قالت: «طالما كان أمير المؤمنين سالما فأنا سالمة، أبقاه الله لنا ركنا وسندا.» قالت ذلك وهي تقرأ في وجهه خبرا جديدا. ولكنها تجاهلت وخاطبته وهي تقعد على وسادة بالقرب منه قائلة: «إني لم أدخل هذه الدار منذ سنين عديدة، وآخر مرة دخلتها كنت طفلة ولا أذكر أني علمت ما فيها و...»
فقطع كلامها قائلا: «وماذا عساك أن تعلمي؟» كفى أن تسمعي بما كان فيها قبل عهد جدنا الإمام المستنصر، رحمه الله. انظري إلى هذا الصندوق.»
فنظرت إليه وهو متقن الصنعة وعليه نقوش فظنته يلفت نظرها إلى نقشه فقالت: «إنه جميل.» قال: «لا أعني جمال ظاهره، ولكنني أعني ما كان فيه من الحجارة الكريمة، أخبرني والدي - رحمه الله - أنهم أخرجوا منه في زمن المستنصر سبعة أمداد زمرد قيمتها 300000 دينار، تخاطفها الناس.»
فدهشت من ذلك وقالت: «إن ذلك غريب نادر.» قال: «ولو أسرد ما كان من التحف في هذه الدار لاستغرق سردها فقط عدة ساعات، وإنما أذكر عقدا من الجواهر قيمته ثمانون ألف دينار بيع يومئذ بألفي دينار. وأخذوا من خواتم الذهب والفضة فقط نحو 1200 خاتم فصوصها من الجواهر المختلفة، فيها ثلاثة خواتم ذهب مربعة، على كل منها ثلاثة فصوص: أحدها زمرد والآخران ياقوت سماقي ورماني، بيعت باثني عشر ألف دينار. غير ما أخرجوه من الجواهر ونحوها، فإنها كانت تحصى بالويبة وتكال بالكيل. منها ويبة جواهر مشتراة في الأصل بسبعمائة ألف دينار باعوها بعشرين ألف دينار. وطاووس ذهب مرصع بالجوهر عيناه من ياقوت أحمر وريشه من زجاج المينا المجرى بالذهب على ألوان ريش الطاووس. غير التحف المتوارثة عن الخلفاء أو المنقولة إلينا من العباسيين وغيرهم، ورقع للشطرنج أحجارها من الجواهر والذهب والفضة والعاج. كل هذه ومئات مثلها أخذت في نكبة المستنصر ولا فائدة من الكلام الآن.»
فانقبضت نفس سيدة الملك مما سمعته وقالت: «إن مصيبتنا قديمة يا أخي. ولا فائدة من التذكار الآن.» قالت ذلك وهي تتعجل ما في خاطر أخيها عن سبب استقدامها إليه. فقال: «صدقت ولكنني أطمئنك أن أولئك اللصوص لم يأخذوا كل ما كان لنا، فإن بعض خواصنا وأهل بطانتنا المخلصين يومئذ احتفظوا لنا ببعض ما كان من الذخائر ولا يزال مخبأ إلى الآن.» قال ذلك ونهض إلى خزانة داخلة في الحائط لا تلفت الناظر إليها ففتحها بمفتاح استخرجه من جيبه، ومد يده فأخرج منها علبة بها عقد من الجوهر يبهر النظر دفعه إليها فتناولته وجعلت تقلبه فقال لها: «خذيه جربيه على عنقك.» فتراجعت وأعادته إلى العلبة. فمد يده وأخرجه وألبسها إياه في عنقها وقال: «هذا لك.»
فأرادت أن ترجعه فمنعها وقال: «خذيه إنه لا يليق بأحد سواك.» واستخرج من علبة أخرى خاتما حجارته من الزمرد والياقوت نحو الذي ذكره وألبسه إياها في إصبعها فلم يعجبها منه هذا الكرم ولحظ استغرابها فقال: «لا تستغربي، ما ترينه فإن في هذه الخزائن تحفا أخرى لا يعلم بها سواي، وسأدفعها كلها إليك لئلا تذهب كما ذهبت تلك.»
فتوسمت من كلامه شيئا يعنيه لسبب طرأ عليه، فقالت: «ماذا تعني يا أخي، معاذ الله أن يكون ما تشير إليه. لا يتمتع بهذه الذخائر سواك وسوى أولادك.» قالت ذلك واختنق صوتها رغم إرادتها، لكنها تجلدت وهمت أن تتم كلامها فلحظت في عيني أخيها شيئا كالدمع وهو ينظر إليها نظر المستعطف. ثم قال: «أنت لا تريدين أن تبقي هذه التحف!»
أدركت ما يشير إليه من تمنعها عن قبول أبي الحسن زوجا لها بعد أن تكفل بقتل صلاح الدين. فأحست بوخز الضمير وأثر فيها الأسلوب الذي اختاره أخوها لمعاتبتها. لكنها لا تستطيع أن توافقه، ولا تعتقد أن أبا الحسن يستطيع القيام بوعده ولم تجد الوقت مناسبا للدفاع في تلك الساعة فقالت: «أنت تعنفني يا أخي على أمر ليس في طاقتي، فأنا قد عاهدت نفسي ألا أتزوج وإذا كان ذلك الرجل يقدر على شيء فليفعله ثم نرى ما يكون.»
فرأى في جوابها شبه الرضا فقال: «إنما المطلوب قبل كل شيء أن تظهري الرضا به ليقدم على هذا العمل، أليس كذلك؟» قال ذلك وهو يبتسم ويهش ليسترضيها، فكادت تغلب على أمرها وأوشك أن يحملها حبها لأخيها على أن توافقه، لكنها ما لبثت أن تصورت أبا الحسن فنفرت منه وتذكرت عماد الدين فاختلج قلبها في صدرها وتوردت وجنتاها.
فظنها أخوها تريد إجابته لكنها تستحي فقال: «ما الذي يضرك أن تجيبي طلبي وهذا الرجل أكفأ إنسان لك، فضلا عما وعدنا به من الخير؟ قولي إنك ترضينه خطيبا لك، وإذا كنت تحسبين قبولك له مصيبة ... فإنها مصيبة صغرى.» وأبرقت عيناه كأنهما تنطقان بسر يكتمه. وتشاغل بعد حبات سبحته.
فأطرقت سيدة الملك وأعملت فكرتها في كلام أخيها فخافت أن يصح ظنها فقالت: «ماذا تعني يا أخي بالمصيبة الصغرى؟ وهل هناك مصيبة أكبر منها؟» - «يا أختي أن يطلبك رجل أعجمي من غير أهلك لا قبل لنا برد طلبه، فهمت؟»
قال: «يتجاسر عليه الذي تجاسر على سلب حقوقنا من أيدينا واستبد بالأمر دوننا ونحن أحياء. الرجل الذي نخاف سطوته ونحسب لحركاته ألف حساب. ألا يستطيع هذا الرجل أن يطلب الزواج منك؟»
فبغتت واستبعدت ما يفهم من كلام أخيها فقالت: «صرح يا أخي بما تقول. هل تعني صلاح الدين؟» قال: «نعم، إياه أعني، فما قولك؟» فتراجعت وقد اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها ولم تتمالك فجلست على المقعد وقد امتقع لونها وأوشك الدم أن يجمد في عروقها وسكتت. فقعد أخوها بجانبها وأحاط كتفيها بذراعه ليلطف من بغتتها وقال: «إني أزعجتك بهذا الخبر ولكنك أحرجتني. ولا تظني الأمر قد نفذ. إنه لم يطلبك صريحا بعد. لكن رجلا من خاصته جاءني في هذا الصباح وفاجأني بهذه المصيبة بعد أن مهد للكلام بمقدمات طويلة عريضة إلى أن قال: «إن السلطان صلاح الدين يريد أن يتشرف بهذا القران، فأحب أن يسألك عن طريقي قبل الإقدام على الطلب لعل هناك مانعا».»
فقالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «هممت أن أجيبه بأنك مخطوبة إلى أبي الحسن لعلمي أن هذه الحجة تكفي للنجاة من هذه الورطة، لكني استمهلته في الجواب إلى الغد لأسألك، وقد اخترت هذا المكان للمقابلة حتى لا يكون معنا ثالث. ها إني قد أطلعتك على جلية الأمر فما رأيك؟ ألا ترين أن قبول ابن عمنا أولى؟»
ولم يكن العاضد ينتظر منها غير القبول فلما أبطأت في الجواب وهي مطرقة كرر السؤال، أما هي فكانت تفكر في طريقة للنجاة من هذه الورطة؛ لأنها كانت لا تريد صلاح الدين ولا أبا الحسن. لكنها تفضل عماد الدين على كليهما. وحدثتها نفسها أن تصرح له بما يكنه ضميرها فخافت العاقبة. فلما كرر أخوها السؤال قالت: «صدقت، إن الاحتجاج بكوني مخطوبة قد يرجع صلاح الدين عن عزمه. قل له إني مخطوبة إذا شئت ولا تذكر لمن.»
قال: «لكنه لا يصدق إلا إذا ذكرنا الخطيب لئلا يحسبنا نكذب لنتخلص منه. سأقول له إنك مخطوبة لأبي الحسن.»
فابتدرته قائلة: «كلا. لا تقل هذا ؛ لأن ذلك لا يكون أبدا.» ولم تتمالك عن هذا التصريح وقد ارتفع صوتها رغم إرادتها.
فبان الغضب في وجهه وقال: «كنت أجاملك وألاطفك قبل هذا المشكل. أما الآن فلا أرى لرفضك معنى بعد أن بينت لك السبب. ليست هذه شعائر الأخت المحبة لأخيها. وأنت تعلمين ما وعدنا أبو الحسن به. ولا شك أنه بعد أن يعلم أن صلاح الدين مناظره فيك سيزداد اهتماما في تنفيذ غرضه. قولي إنك قبلته وإلا ضعف اعتقادي في تعقلك وصدق محبتك. واعلمي مع ذلك أن أمير المؤمنين يخاطبك ويطلب ذلك منك وهو ولي أمرك.» قال ذلك بشيء من السلطة.
فعظم ذلك التهديد عليها وهبت الحمية في صدرها ورجعت إليها عزة نفسها، فنظرت إلى أخيها نظر العاتب وقالت: «تهددني بما لك من السلطة علي، وبأنك ولي أمري؟ إن هذا لا يغير شيئا من عزمي. وإذا شئت أن تنفذ هذه السلطة من نفسك فافعل. وأما أنا فيستحيل علي قبول ذلك المنافق المرائي، وربما فضلت صلاح الدين عليه عند الضرورة. ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك.»
فدهش العاضد لهذا التصريح وقال: «هل إلى هذا الحد تبلغ جسارتك وتخاطبينني بهذه القحة؟ أظنني أخطأت لأني شاورتك في الأمر. وكان لي ألا أستشيرك لأني ولي أمرك من جملة وجوه. وأنا فاعل ما أراه خيرا لك. إذ يظهر لي أنك مستمسكة بالخطأ لغير سبب أعلمه. لم يبق إلا أن تخرجي للسوق وتختاري لك زوجا من المارة وأبناء السبيل! ليس ذلك من شأن بنات الخلفاء. إن العناية جعلتك من طبقة الملوك وميزتك بالنسب الشريف فلا يجوز لك الاقتران بغير الأكفاء. وهذا أبو الحسن ابن عمنا وهو أكفأ إنسان لك.» قال ذلك وتحفز للمسير كأنه قال ما لا يقبل نقضا ولا إبراما.
أما هي فظلت واقفة وأوشكت أن تسقط على الأرض من التأثر؛ لأنها لا تقدر أن تبوح بما في خاطرها بعد أن رأت أخاها يكبر تفضيلها صلاح الدين، فكيف لو علم أنها تحب خادمه. فرأت السكوت في تلك الحال أولى وصممت أن تفعل ما يحلو لها ولو خالفت الشرع والعرف. فلما رأته يتحرك للمسير مشت بهدوء وسكينة ولم تفه بكلمة فظنها شعرت بسلطته عليها فقبلت. فكتم فرحه وظل على إظهار الغضب والعتب.
وحالما خرجت من الباب رأت حاضنتها تنتظرها في الممر فرافقتها إلى غرفتها وقد لحظت الحاضنة تغيرا بينا في وجهها فأصبح همها استطلاع الخبر.
أما سيدة الملك فإنها صممت على عمل لا يخطر لحاضنتها ولا غيرها، وفضلت البقاء على كتمانه لئلا تحول ياقوتة دون إنفاذه. خطر لها أن تستقدم عماد الدين وتفر معه من قصر أخيها وتنجو من ذلك الأسر. ولكنها لا تستغني عن ياقوتة في البحث عنه واستقدامه فعزمت على كتمان ذلك عنها.
أما ياقوتة فإنها تهيبت من غضب سيدتها. ورغم ما لها من الدالة عليها لم تجسر على مخاطبتها. فأخذت تتذرع إلى استطلاع حالها بالتجاهل، فحالما دخلت الغرفة قالت لها: «ما لي أرى سيدتي غاضبة؟ إني أرى في جيدك عقدا من الجوهر وفي إصبعك خاتما من الزمرد والياقوت لو كانا لي لزالت عني هموم الدنيا.»
فانتبهت سيدة الملك إلى العقد والخاتم وكانت قد نسيتهما لفرط قلقها فنزعت العقد من عنقها والخاتم من إصبعها ورمت بهما إلى الأرض، وجلست على السرير وهي تتنهد.
فالتقطت ياقوتة العقد والخاتم وهي تقول: «ما بالك يا سيدتي، ما الذي أغضبك؟ إذا كان هذا العقد قد غيرك أعطيني إياه.»
قالت: «خذيه، بل هاتيه.» واسترجعته من يدها ووضعته في جيبها مع الخاتم.
فابتسمت ياقوتة على سبيل المداعبة وقالت: «إذا كنت قد غضبت من أمير المؤمنين فما هو ذنبي يا سيدتي وأنا أتفانى في خدمتك؟»
فأظهرت الارتياح إلى قولها وكظمت غيظها وقالت: «بارك الله فيك دعيني الآن.» قالت: «لا. لا أتركك حتى تقولي ماذا جرى بينك وبين مولانا أمير المؤمنين.» قالت: «إنه مولاك وليس مولاي!» قالت: «إنه مولانا بحكم الله، أطال الله لنا بقاءه.» قالت: «أطال الله بقاءه لكنه ...» وسكتت وقد شرقت بدموعها.
فقالت ياقوتة: «ما بالك قد غيرت عادتك معي، لماذا لا تشكين إلي همك لعلي أستطيع خدمتك بشيء. ألم نكن على موعد للنظر في أمر عماد الدين؟» فلما سمعت اسم عماد الدين سري عنها وهان عليها الصبر والتفتت إلى ياقوتة وابتسمت وعيناها تلمعان من الدمع. فأثر منظرها في ياقوتة وأكبت على يديها تقبلهما وتقول: «بالله لا تغضبي يا سيدتي، ولا تعامليني بالجفاء. أفصحي لي عما يكنه ضميرك وأنا أمتك أفديك بروحي. قولي لا تخافي.»
فتنهدت وهي تتجلد وقالت: «نعم كنا على موعد من أمر عماد الدين ماذا رأيت وماذا دبرت؟»
قالت: «لم أر شيئا، إن الأمر لك وأنا طوع إرادتك، ماذا تريدين أن أفعل.» فنظرت إليها نظرة اخترقت أحشاءها وقالت: «أريد أن يأتي عماد الدين إلى هنا في هذه الليلة!» قالت: «في هذه الليلة؟ ولماذا؟» قالت: «لا تسأليني عن السبب. أنت تقولين إنك طوع إرادتي وهذه هي إرادتي. أريد أن أرى عماد الدين هذه الليلة.»
قالت: «لك علي ذلك. خففي عنك الآن وارجعي إلى رشدك واحكي لي عما جرى لك اليوم مع سيدي أمير المؤمنين.»
فلما اطمأن بالها من جهة استقدام عماد الدين خف قلقها فجلست وأمرت حاضنتها أن تجلس وقصت عليها ما دار بينها وبين أخيها من أوله إلى آخره، فأثر ذلك في رأيها ورأت سيدتها أخطأت بمقاومة الخليفة، ولكنها لم تجسر على تخطئتها فأظهرت أنها ترى رأيها على نية أن تعود إلى البحث معها في الأمر بعد قليل، فطمأنتها أنها تفعل ما تريده وغيرت الحديث وشغلتها بمهام أخرى.
الفصل الخامس
عماد الدين
قد علمت من حديث العاضد وأخته أن صلاح الدين بعث يخطب سيدة الملك شفاها، وسبب ذلك أن عيسى الهكاري لما خرج من دار العلم سار توا إلى صلاح الدين وأسرع في مقابلته على انفراد في خلوة، وتطرق في الحديث إلى خطبة أخت الخليفة وأقنعه بما تقدم من الأدلة السياسية، فاستحسن صلاح الدين رأيه واستمهله ليشاور أباه، فنهاه عن مشورته؛ إذ ربما اقتضى رأيه ملاطفة الخليفة وهم لا يرون ذلك. وذكره الهكاري بسعيه في مصلحته منذ عرفه. فقال صلاح الدين: «إننا قابضون على أزمة الدولة نفعل بها ما نشاء من عزل وتولية وغير ذلك، فكيف نطمع في الخلافة؟! وهذا لم يقدم عليه أحد قبلنا من غير العرب، وأخاف أن نطلب الزيادة فنقع في النقصان.»
فقال: «لا أعهدك ضعيف العزم يا مولاي، إذا كنت لا تعرف أحدا طلب الخلافة من غير العرب ألا يجوز أن تطلبها أنت أو تمهدها لأولادك بسبب الاقتران بأخت الخليفة؟ زد على ذلك أن سيدة الملك من أجمل النساء خلقة وأحسنهن ذكاء ودهاء. أما الخلافة فإذا طلبتها وأحوجنا النسب القرشي فإنه ميسور؛ لأن كثيرين من الصحابة القرشيين تفرقوا بالفتح ونزل بعضهم في بلاد الأكراد، فقد يكون جدك متسلسلا من أحدهم.» قال ذلك وهو يظهر الجد. وأدرك صلاح الدين أنه يهون عليه ادعاء الخلافة بزواجه بأخت الخليفة، وإذا لزم النسب القرشي انتحل له نسبا فيهم. ولكنه ما زال يتهيب من الإقدام على الخطبة، فلما رأى إلحاح عيسى قال له: «إذا لم يكن بد من العمل برأيك، فاجعل ذلك منك على سبيل الاختبار بلا كتابة مني.»
قال: «إني فاعل ذلك، فأخاطب الخليفة في رغبتك وأرى ما يكون.»
قال: «حسنا.» وذهب الهكاري في تلك الساعة إلى العاضد وأطلعه على ذلك بأسلوب لطيف فاستمهله في الجواب كما رأيت.
أما صلاح الدين فإنه بعد ذهاب الهكاري من عنده خلا بنفسه وراجع ما دار بينهما، فرأى أنه تسرع في الأمر، وكان ينبغي أن يكاشف أباه قبل الإقدام عليه. لكنه أجل ذلك حتى يعود الهكاري بالجواب وهو لا يزال في حل من الأمر. وبعد قليل أتاه غلام يدعوه إلى الطعام مع أبيه في الجانب الآخر من قصر اللؤلؤة فمضى. وفيما هما في الغداء قال نجم الدين يخاطب ابنه صلاح الدين: «يا يوسف لم أر عندكم اهتماما بميادين السباق. لا ينبغي أن تترك رجالك يرتاحون طويلا. أنشئ لهم الميادين للمسابقة على الخيول، فإنهم بذلك تتقوى أبدانهم ويشغلون عن الدسائس.»
قال: «صدقت يا أبي، ونحن لا يمضي أسبوع لا نجري فيه سباقا، فمن فاز بالسبق قدمناه وخلعنا عليه. وأحب أن أجرب ذلك بين يديك في هذه الساعة، وسأختار من رجالي أمهرهم في الركوب.» ونادى عماد الدين فأتى مسرعا وخفة الروح ظاهرة في وجهه والشجاعة تتجلى في عينيه والنشاط ظاهر في انتصاب قامته وامتلاء عضله، فلما وقع نظر نجم الدين عليه استلطفه فأطال النظر فيه وصلاح الدين يأمره أن يستعد للسباق مع آخرين سماهم. فأشار عماد الدين مطيعا وانصرف، فتحول صلاح الدين إلى أبيه وهو يبتسم ابتسام الإعجاب وقال: «كيف رأيت هذا الشاب يا أبي؟»
قال: «كنت عازما على أن أسألك عنه؛ لأنه وقع في نفسي موقعا جميلا وأتوسم فيه الشجاعة والبسالة ولا أظنه إلا بالغا مقاما رفيعا بين رجالك.»
قال: «وكيف إذا رأيت مهارته في ركوب الخيل وخبرت أخلاقه الحميدة؟ كفى تفانيه في سبيل خدمتي، إنه يحبني حبا مفرطا فلو قلت له ألق نفسك في النار لفعل.»
قال: «احرص عليه وقدمه.»
قال: «إني لا أترك فرصة تمر إلا أكرمته، وهو الآن من حرسي ويستحق أن يكون من كبار القواد لكنه ما زال صغير السن وسيكون له شأن، وقد سرني أنك توسمت فيه ما توسمته أنا وتحققته بالاختبار.»
فقال نجم الدين: «هل زوجته؟» فقال: «أردت تزويجه بجارية جميلة فلم أجد فيه ميلا للزواج.»
فهز نجم الدين رأسه وقال: «تلك هي مناقب أصحاب المطامع طلاب السيادة، ينصرفون بكليتهم إلى تلك المطامع فاحتفظ بالشاب.»
وبينما هما في ذلك إذ سمعا قرع الطبول استعدادا للسباق، فجلس صلاح الدين مع أبيه على أريكة نصبوها لهما بين يدي القصر تشرف على حلبة السباق وفوقها مظلة من الحرير الملون. وأطلق الفرسان الأعنة، وكان عماد الدين على جواد أزرق يمتاز عن سائر الجياد يعرفه الناظرون عن بعد، ولحظ نجم الدين أنه يفوق سائر الفرسان بالخفة واللباقة. ولعبوا ألعابا عديدة وتسابقوا وتراموا وكفة عماد الدين راجحة.
قضوا في ذلك بضع ساعات وصلاح الدين جالس مع أبيه تحت تلك المظلة. ثم أخذ الفرسان يتوافدون للمرور أمام المظلة لإلقاء التحية وصلاح الدين يثني على مهارتهم ويكلمهم بما يقتضيه المقام، حتى جاء عماد الدين فأمره صلاح الدين أن يترجل ويأتي إلى أبيه، فترجل ووقف بين يدي نجم الدين وقوف الاحترام. فقال له: «يا عماد الدين، ستكون رجلا مقدما، ويسرني أنك حائز إعجاب سلطانك.»
فأكب عماد الدين على يدي نجم الدين يقبلهما وقال: «إني عبد لمولاي السلطان أفديه بروحي. وإذا قدر لي أن أكون شيئا مذكورا فيكون ذلك من فضله لا لاستحقاقي.»
فربت كتفه متلطفا وتناول خنجرا كان في منطقته ودفعه إليه وقال: «احتفظ بهذا بالخنجر تذكارا مني.»
فأكبر عماد الدين هذا الإكرام من والد صلاح الدين وهو يعلم أن صلاح الدين نفسه يهابه، فترامى على يديه يقبلهما. وكان صلاح الدين يخاطب بعض الفرسان فلما فرغ من خطابه تحول إلى أبيه فوجده يخاطب عماد الدين فانبسطت نفسه لإعجابه بذلك الشاب، وقال: «يسرني أنك راض عنه.»
فقال نجم الدين: «وهو جدير بذلك وأرى أن تقدمه وتجعله من خاصتك.»
قال: «هو من حرسي كما قلت لك.»
قال: «أحب أن يلازمك ولا يفارقك ليلا ولا نهارا، وأن تكون له دالة الصديق فيدخل عليك بلا إذن.»
فالتفت صلاح الدين إلى عماد الدين وقال له: «أمر والدي بذلك، فأنت من الآن لا تفارقني في حلي ولا ترحالي.» ونهض ومشى مع أبيه نحو القصر وعماد الدين يتبعهما. وأمر صلاح الدين قيم القصر أن يختص عماد الدين بغرفة قرب غرفته ففعل، وأصبح عماد الدين لفرط امتنانه لا يعرف كلاما يؤدي به ما في خاطره، ولكنه أضمر أن يتفانى في خدمة مولاه. ويغلب في صادقي المودة والمخلصين في أعمالهم أن يكون لسانهم قصيرا فيعبرون عن شعورهم بالعمل دون الكلام.
ولم يكن لهم في ذلك اليوم شاغل مهم، فبعد العشاء ذهب كل إلى غرفته وقضى نجم الدين ليلته في غرفة ابنه صلاح الدين يتحادثان في شئون كثيرة ترجع إلى علاقة مصر بنور الدين. ثم انصرف كل منهما إلى فراشه. •••
بات صلاح الدين تلك الليلة كعادته وهو يفكر في أمر مصر ومطامعه فيها حتى غلب عليه النعاس فنام، وفد أطفئت مصابيح القصر واطمأن الحراس إلا عماد الدين فإنه شعر بعد أن اختصه صلاح الدين بقربه أنه يجب أن يكون أكثر يقظة وسهرا على حياته. فبات وهو يفكر في ذلك فحلم لفرط قلقه أن صلاح الدين يناديه فنهض مذعورا وأصاخ بسمعه فلم يسمع شيئا، فحدثته نفسه أن ينهض ويتسمع فخاف أن يوقظ مولاه وهو على يقين أنه سمع ذلك في الحلم. فعاد إلى فراشه وقد طار نومه وكثر تقلبه بين اليقظة والمنام. وإذا هو يسمع وقع خطوات، فهب من رقاده وتسمع فلم يسمع شيئا فغلب على خاطره أنه يسمع هاجسا. ونظر إلى السماء فعلم أن الفجر قريب ورأى أنه لم يعد قادرا على الرقاد فلبس ثيابه. وحالما لاح الفجر خرج ليطل على غرفة صلاح الدين فرآها مقفلة وكل شيء هادئ والحراس بالباب كالعادة فعاد إلى غرفته.
ولم تمض هنيهة حتى سمع صلاح الدين يناديه فلباه ودخل غرفته فرآه جالسا على سريره بلباس النوم وقد أخذته الدهشة. فأسرع إليه وحياه، فصاح به صلاح الدين: «ما هذا؟» وأشار إلى الوسادة عند رأسه. فتقدم عماد الدين فرأى خنجرا مسلولا عليه آثار دم قديم قد ألقي عند موضع رأس صلاح الدين من الوسادة فأجفل وصاح: «من فعل هذا يا سيدي؟» قال: «لا أدري، لكني صحوت في هذه الساعة فرأيت الحال كما تراها.» فأطرق عماد الدين يفكر فوقع بصره على شيء عند قدمي السرير فإذا هو غمد ذلك الخنجر، فتناوله وتأمله فلم يذكر أنه يعرف صاحبه. وبينما هو يتفرس فيه إذ رأى في جوفه بطاقة استخرجها ودفعها إلى مولاه ففضها وقرأها فبانت البغتة في عينيه، ثم دفعها إلى عماد الدين وصفق فدخل عليه أحد الغلمان فأمره أن ينادي الأمير نجم الدين والده حالا.
أما عماد الدين فإنه قرأ البطاقة وأعاد قراءتها وتناول الخنجر وتأمله وأعاد النظر فيه، فقال صلاح الدين: «كيف يدخل الناس علي وأنا نائم داخل هذا القصر والأبواب موصدة ولا يشعر أحد من الحراس؟»
فأحس عماد الدين أن التوبيخ موجه نحوه؛ لأنه أقرب الحراس إليه، فارتج عليه من شدة التأثر، وهم أن يجيب وإذا بنجم الدين قد دخل، فلما رآهما في تلك الحال تناول البطاقة وقرأها وإذا فيها:
من أحد مريدي سيد الإسماعيلية إلى يوسف صلاح الدين
اعلم يا يوسف أنك وإن أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس لا تقدر أن تنجو من القصاص. أراك قد بالغت في القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبل زعيم الإسماعيليين. لو أردت قتلك الليلة لما أبقيت عليك، ولكنني عفوت عنك وأنا منذرك أن تصلح من سيرك. ولا تطمع أن تعرف من أنا، فإن ذلك بعيد المنال؛ إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطا في عمامتك أو شعرة في رأسك، وأنت لا تدري! وإنما أطلب منك أن تلزم حدك والسلام.
فاستولى السكوت على الجميع لحظة. ثم أشار نجم الدين إلى عماد الدين أن يقفل الباب وأن يجلسوا في خلوة لا يدخل عليهم أحد، ففعل وقلبه يتقد غيظا وقد ساءه حدوث هذا الأمر في الليلة الأولى التي تولى فيها الحراسة الخاصة، وأصابه الجمود لا يدري ما يقول، وأدرك نجم الدين قلقه فناداه وابتسم له وقال: «لا تضطرب يا بني ولا يداخلك خوف، إنكم لا تعرفون هؤلاء القوم ولا أظن يوسف يعرفهم.»
فقال صلاح الدين: «أذكر أني عرفت عنهم شيئا. ولكن من هم الإسماعيلية هؤلاء؟ وما هذه الجسارة؟ وكيف يستطيعون الدخول علي في غرفة نومي والحرس حولي. صدقوا، لم يكن يمنعهم شيء من قتلي.»
فصاح عماد الدين: «خسئوا! إن ذلك بعيد عنهم. إنهم لا ينالون من مولاي السلطان شعرة قبل أن يقتل زعيمهم اللعين.» •••
جلس نجم الدين وأمر عماد الدين أن يجلس وقال: «هل تعرف من هو هذا الزعيم؟» قال: «كلا يا سيدي. ومهما يكن من شأنه ...»
فقطع نجم الدين كلامه وقال: «تمهل يا شاب واسمع ما سأقصه على يوسف من خبر هذا الطاغية الذي يسمي نفسه رئيس الإسماعيلية الذين هم في الحقيقة طائفة الحشيشية.» ووجه خطابه إلى صلاح الدين وقال: «اعلم يا بني أن الإسماعيلية أو الباطنية أو الحشيشية طائفة من الشيعة لها بالدولة العبيدية علاقة قل من يعرفها، ولذلك أحببت أن أفصلها لك. إن مذهب الإسماعيلية كان مذهب هذه الدولة عند الفتح وقد نصروه ولا سيما الحاكم بأمر الله، فإنه أحياه ونشره بمساعدة رجل فارسي اسمه حمزة الدرزي.» «وفي أيامه ظهر رجل فارسي اسمه حسن بن الصباح له حديث طويل مع نظام الملك وعمر الخيام لا محل له هنا، فأنشأ حسن هذا جمعية من الفدائيين وأقام في جبل «ألاموت» قرب قزوين منذ أكثر من مائة سنة. وكان يغري رجاله بالفتك بمن شاء من كبار الرجال، ومن جملة الذين قتلوهم نظام الملك وزير السلاجقة وكثيرون من القواد والملوك. كانوا يقتلون ولا يعرف قاتلوهم. أو إذا عرفوا لا يبالون أن يقتلوا في سبيل تنفيذ أمر مولاهم!»
وكان صلاح الدين مصغيا لما يسمعه بكل جوارحه فقال: «كأني سمعت بشيء من هذا القبيل ... ولكنني لم أكن أصدقه؛ إذ لا يعقل أن يعرض الرجل نفسه للقتل على هذه الصورة تنفيذا لأمر مولاه فقط.»
فاعترض عماد الدين وعيناه تتقدان وقد هاجت الحمية في رأسه وقال: «نعم يا سيدي. هذا أمر معقول. إن الرجل ليفدي مولاه بروحه إذا كان يحبه ويحترمه.»
فأدرك نجم الدين غرضه وقال: «بارك الله فيك يا بني، لكن مثلك قليل وأكثر الناس يفعلون ذلك طمعا في شيء. أما الفدائيون هؤلاء فإنما يفعلون ما يفعلونه طاعة لرئيسهم وكفى. وقد اختلفوا في سبب هذا التفاني، فيقول بعض العارفين إن ابن الصباح كان يستهويهم بالسحر أو يسقيهم الحشيشة التي تأخذ بالعقل. ولذلك عرفوا بالحشيشية أو الحشاشين، ومهما يكن السبب فإن وجود هذه الطائفة خطر على كبار الرجال.» «وكان مقرها في زمن «ابن الصباح» في قزوين بعيدا عن هذه الديار. أما الآن فإن مركزها في جبل السماق من أعمال حلب، ولهم فيه معاقل وحصون ودعاة في الأطراف، ولهذه الطائفة تاريخ طويل قبل انتقالها إلى الشام، خلاصته أن الرياسة انتقلت بعد ابن الصباح إلى غيره وغيره، وكان رابعهم في «ألاموت» منذ نحو خمسين سنة يسمى حسنا أيضا، ويضيفون إلى اسمه قولهم: «على ذكره السلام»، وكانت دعوته قد انتشرت في الشام فلما فتحها الإفرنج قربوا الإسماعيليين واستعانوا بهم على المسلمين في مواقع كثيرة سرا وجهرا. فأذن لهم ملك الإفرنج صاحب حلب أن يقيموا في جبل السماق (جبل النصيرية) ونزلوا «بانياس» وزعيمهم يومئذ اسمه بهرام، وفي أيامه تمكنوا من الفتك بطائفة من الملوك والقواد بمصر والشام، منهم الملك الأفضل أمير الجيوش بمصر، ويقال إنهم فعلوا ذلك به؛ لأنه استبد بالآمر بأحكام الله. وبلغني أن الآمر تغلب على بهرام وقتله لسبب لا أعلمه، ولعله ساءه قتل أمير الجيوش وإن كان قتله دفاعا عنه. وطافوا برأس بهرام في شوارع القاهرة هذه، وقتلوا أيضا كثيرين من الإفرنج بحجج مختلفة، ومن هؤلاء ريمون صاحب طرابلس. ولهم بجبل السماق عدة قلاع حتى الآن، منها مصياف ومرقب وعليقة والرصافة وغيرها. وهم يعتصمون بها. أما زعيمهم الآن فأظنه أدهى الرؤساء جميعا، واسمه راشد الدين سنان بن سليمان، وأصله من البصرة. خدم رئيس الإسماعيلية في «ألاموت» وتفقه في العلم والفلسفة، ثم انتقل إلى الشام وأقام في حلب، وهو أعرج وقد تظاهر بالتقوى والتدين فاجتذب العامة بذلك. ولا تجد شيئا يستهوي العامة مثل الدين. وبلغني من بعض رجالنا هناك أن سنانا هذا كان يجلس للوعظ على صخرة وهو جامد مثلها، فكثر دعاته وكانت دعوته لهم أن يتعاونوا، فتغلب على عقولهم بالدهاء أو السحر لا أعلم، حتى جعلوا أموالهم مشتركة بينهم حتى النساء والبنات. ثم منعهم من ذلك.» «وبلغ خبره إلى رئيس الإسماعيلية يومئذ في جبل السماق واسمه أبو محمد فاستقدمه إليه. وبعد قليل خلفه وتسلم زعامة هذه الطائفة منذ بضع سنوات فقط. وقد سمعت خبره قبل سفري بقليل، وهو الآن صاحب السطوة والكلمة النافذة، وقد التف حوله ألوف من الدعاة الفدائيين الذين يفدونه بأرواحهم. إذا أمر أحدهم بقتل أمير أو ملك، فإنه سرعان ما يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الأمير أو الملك بصفة سائس أو خادم أو حارس. ولا يزال يترقب الفرص حتى تسنح له ويغمد خنجره في صدره. فالحمد لله أنهم لم يفعلوا ذلك هذه المرة، ولكن تهديدهم هذا أثقل وقعا من القتل!» •••
كان صلاح الدين في أثناء سماع الحديث مطرقا يفكر، وعماد الدين يراعي حركات نجم الدين بعينيه ويتلقف ألفاظه بأذنيه وقد هاجت أريحيته وجاشت الحماسة في صدره. فلما فرغ نجم الدين من الكلام نظر إلى عماد الدين فرأى عينيه يكاد الشرر يتطاير منهما فتجاهل.
أما صلاح الدين فقال: «لا بد من وسيلة نتخذها لنتجنب شر هذه الطائفة. إننا غير متفرغين لمراقبتها.»
فتصدى عماد الدين قائلا: «إن مراقبتها لا تفيد شيئا، ولا بد من قطع دابرها.» قال ذلك وعيناه تدلان على ما يعنيه من العزم الأكيد.
فأجابه نجم الدين: «ماذا تعني؟» قال: «إذا أذن لي في إبداء الرأي فعندي أن أحسن دواء لهذا الداء أن يقتل رئيس هذه العصابة فتتفرق عصابته.» فقال نجم الدين: «هذا أمر شاق لا سبيل إليه؛ لأن القوم معتصمون في الجبال الوعرة وعيونهم مبثوثة في كل مكان. وقد علمنا الآن أن منهم أناسا في هذا القصر فكيف يتأتى الوصول إلى رئيسهم وقتله؟»
قال عماد الدين: «إن من يحب مولاه يتفانى في خدمته كما قلت يا سيدي. فكما يستطيع الإسماعيلي الملعون أن يدخل غرفة السلطان صلاح الدين ويعمل ما عمله، فيمكن لسواه أن يدخل على زعيم الإسماعيلية ويغرس هذا الخنجر في صدره. وإذا قتل بعد ذلك فقد أدى واجبا لينقذ أنفسا شريفة من الفتك؛ لأن هذا اللعين لا يتعمد إلا قتل العظماء. فالموت في سبيل قتله فخر يتطلبه كل أبي النفس.»
فأحس نجم الدين أن الشاب يعني أن يذهب هو نفسه في هذه المهمة، فأراد أن يثني عزمه حرصا على حياته لاعتقاده بالخطر الذي يهدده فقال: «إن هذا الأمر لا يقدم عليه إلا المجنون، ولكنا لا نعدم وسيلة أخرى لاسترضائهم بالمال، فإنهم كثيرا ما يرتكبون القتل طمعا فيه؛ إذ يغريهم بعض رجال السلطة بقتل أعدائهم.»
فقال عماد الدين: «صدقت يا سيدي قد يسترضون بالمال ، ولكن هذا لا نهاية له. وأما إذا قتل زعيمهم فإن دابرهم ينقطع.»
فقال: «ليس هذا بالرأي الصواب لأنه صعب، ولا تجد من يقدم عليه إذا عرف خطره.»
فقال عماد الدين وهو يشير بيده إلى صدره وعيناه تلمعان حماسة: «هذا عبدك عماد الدين يقدم نفسه للقيام بهذه المهمة من هذه الساعة، وأرجو ألا ترد طلبي.»
فقال نجم الدين: «بارك الله فيك، إنها حمية يندر مثالها. ولكننا في حاجة إليك هنا.»
فقال: «وما الفائدة من وجودي هنا وهذه أول ليلة من حراستي أوشك مولاي السلطان أن يقتل فيها. أما ذهابي فأرجو أن يكون قاطعا فاصلا، أستحلفك برأس مولانا السلطان صلاح الدين أن تأذن في قيامي بهذه المهمة وهذا شرف كبير لي.»
وكان صلاح الدين في أثناء هذا الجدال غارقا في التفكير في سبب وقوع هذا الأمر في هذه الليلة، فلما سمع اسمه انتبه لما يقوله عماد الدين فأجابه قائلا: «إن هذه المهمة خطرة جدا ونحن في حاجة إليك هنا.» قال: «أقسمت برأسك أن أذهب فأذن لي.» فالتفت صلاح الدين إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال نجم الدين: «أطعني ودع عنك هذا الخطر.» قال: «إني عبد مطيع ولكني أقسمت برأس مولاي أني ذاهب في صباح الغد، وأحب أن يكون ذهابي سرا عن كل إنسان لا يعلم به سواكما؛ لأننا أصبحنا لا نعرف صديقنا من عدونا، فلا ينبغي أن يعلم أحد بسبب ذهابي.»
فقال صلاح الدين: «إذا لم يكن بد من ذلك فامض، وفقك الله لما تريده، ولكنني كنت وأنتما تتباحثان أفكر في السبب الذي أوجب وقوع هذا الأمر الليلة فلم أهتد. ولكنني ...» وتذكر خطبة سيدة الملك على يد الهكاري فترجح له أن هذا الأمر هو الذي بعث على تحمس أحد الإسماعيلية المستترين. ولكنه لم يجد هذا التعليل معقولا فسكت.
فلحظ أبوه تردده فقال له: «ما بالك يا يوسف؟ قل ما يخطر لك لعلك تتقي التصريح أمام عماد الدين الذي يفديك بروحه.» فقال: «كلا يا أبت، ولكنني فكرت في سبب ما حصل الليلة فلم يستقم حكمي ففضلت السكوت.» قال: «قل ما خطر لك .» قال: «أعترف لك يا أبي بأني ارتكبت خطأ في صباح أمس ساقني إليه تسرعي بإغراء صديق لي حميم. وذلك أني أمضيت أمرا كان ينبغي قبل إمضائه أن أستشيرك فيه، وها إني الآن ألاقي عاقبة تسرعي.»
قال: «ما ذلك؟» قال: «أتاني صديقنا عيسى الهكاري - وأنت تعلم صدق مودته لي ونصحه إياي - فاقترح علي اقتراحا يرى فيه خيرا كبيرا لي فأطعته، ولكنني لم أكتب فيه كتابة، بل تركت الأمر مبهما ريثما أستشيرك.»
فلم يعد نجم الدين يستطيع صبرا على فهم مراده فقال: «وما هو هذا الاقتراح؟» قال: «عرض علي أن يخاطب الخليفة العاضد في أمر أخته سيدة الملك أن تكون زوجة لي.» فبانت البغتة في وجه نجم الدين وصاح فيه: «وهل وافقته على ذلك؟» قال: «ترددت كثيرا، وأخيرا رضيت أن يكتفي بالسؤال من عند نفسه.» قال: «ما زلت تقدم على أمور لا تليق بالسلاطين! ما لنا ولهذا الرجل ولأهل بيته؟ لماذا نعرض نفسنا للفشل؟ هل تعرف الفتاة؟»
قال: «قيل لي إنها بارعة في الجمال جدا.»
وكان عماد الدين يسمع الحديث ساكتا، فعلم أنهم يتكلمان عن سيدة الملك وكان قد رآها يوم واقعة العبيد وأرجع إليها خصلة الشعر كما تقدم، وقد استلطفها لكنه لم يحلم بالحصول عليها؛ ولذلك شعر من طلب مولاه لها بلذة ممزوجة بالغيرة لذ له أن تكون تلك الفتاة الجميلة لسيده أفضل من أن تكون لسواه، لكنه لما تصور ذلك أحس بالغيرة منه. ولحظ نجم الدين في وجهه فكرا في الموضوع فقال له: «هل تعرف الفتاة يا عماد الدين؟»
قال: «أتيحت لي فرصة رأيتها وهي في أشد الاضطراب، أعني يوم واقعة العبيد، حين أمر مولاي النفاطين برمي النفط على القصر، ثم أمرهم أن يكفوا عن رميه، وكنت في جملة من دخل القصر فرأيت الفتاة في ضيق أنقذتها منه وما زلت أذكر وجهها الجميل وشعرها الذهبي. إنها تليق بسيدي صلاح الدين. وهل هي تتوقع من هو خير منه؟»
فقال نجم الدين وهو يظهر أنه واثق مما يقول: «ما لنا ولها؟ أشك في أن يوسف لم يطع الهكاري إلا حياء.» ووجه كلامه إلى صلاح الدين قائلا: «هل أتاك الهكاري بجواب من الخليفة؟»
قال: «ذكر أنه خاطب الخليفة فاستمهله في الجواب ولا ندري ما يكون.»
فهز نجم الدين رأسه هز الإنكار وقال: «لا يسهل عليه الإيجاب في هذا الأمر؛ لأن هؤلاء المساكين شديدو التمسك بهذه البقية الباقية من سيادتهم. أعني تمسكهم بمجد الأسلاف وأنهم من سلالة بيت الرسول، وأننا لسنا أكفاء لبناتهم لأننا من الأعاجم.» قال ذلك وضحك ملء فيه والتفت إلى صلاح الدين فرآه مطرقا يفكر، وكان قد تذكر قول الهكاري أنه إذا احتيج إلى نسب عربي وضعه له، كما تذكر ما توقعه من صيرورة الخلافة إليه أو إلى أولاده بسبب ذلك الزواج، فلما التفت أبوه إليه تنبه قائلا: «ألا يحق لهم الافتخار بذلك النسب الشريف؟»
قال: «كيف لا! ولذلك قلت إنهم ضنينون به لا يفرطون فيه، فكيف ترجو قبول طلبك وأنت كردي؟» وضحك، فرأى صلاح الدين أن يقطع الحديث ليرى ما يأتي به الغد، فقال وهو يتحفز للنهوض من الفراش: «متى أتانا جواب الخليفة ننظر فيه.» ولما نهض كان الخنجر ما زال ملقى على الفراش فأسرع عماد الدين إليه وتناوله وهو يقول: «هل يأذن لي مولاي في أخذ هذا الخنجر؟»
فقال: «أليس عندك خنجر؟» قال: «عندي لكنني أود أن أغمده في صدر ذلك الطاغية الذي هددنا به.» قال صلاح الدين وهو يلبس ثيابه: «أما زلت مصمما على قتله؟» قال: «أقسمت برأس مولاي أن أقتله؛ إذ لا سبيل إلى الراحة منه إلا بذلك. فأرجو ألا تراجعني. وألتمس من مولاي الأمير نجم الدين أن يزودني برضاه ودعائه وقد أقسمت ألا تطلع شمس الغد إلا وأنا خارج القاهرة.»
فابتسم نجم الدين وهو ينظر إلى عماد الدين نظر العطف والإعجاب وقال: «يسرني ما أراه فيك من الحمية والغيرة على يوسف، بل هي غيرة على المسلمين كافة؛ لأن هذا الإسماعيلي الشيطان قد أقلق العالم بدسائسه وفتكه فإذا تمكنت من قتله فأنت أمير كبير وقائد عظيم لا يتقدمك أحد من رجال هذه الدولة غير ابني يوسف هذا.»
فأكبر عماد الدين هذا الوعد الصريح بالمكافأة الكبرى، فازداد تمكنا من عزمه ولكنه أطرق خجلا. فعاد نجم الدين إلى إتمام حديثه فقال: «ولكن هل تعرف الطرق وما يعترض عملك هذا من المخاطر؟»
قال: «هب أني لا أعرف شيئا الآن فلا يعجزني علمه.» قال: «فتبقى هنا بضعة أيام لأجل الاستعداد.» قال: «قد أقسمت على الخروج الليلة من هذا البلد. وإنما ألتمس ألا يعلم أحد بجهة مسيري ولا الغرض منه.»
وكان صلاح الدين قد أتم لبس ثيابه فقال: «بورك فيك.» ونظر إلى أبيه فرآه ينظر إلى عماد الدين وهو يقول له: «وفقك الله في أمرك، كن شجاعا واثقا بنفسك، واعلم أنك إذا وفقت إلى ما تريد أتيت عملا لم يستطعه سواك، فتنال ما لم ينله أحد.»
فهم عماد الدين بتقبيل يد نجم الدين ثم يد صلاح الدين وقال: «أستأذنكما في تدبير شئوني اليوم، وربما لا تريانني بعد الآن؛ لأني أحب أن أخرج من هذا البلد خلسة.»
قال نجم الدين: «افعل ما بدا لك.» •••
خرج عماد الدين لتدبير سفره وإعداد ما يلزمه، وقد أخذت مهمته تتجلى له بما يحدق بها من الخطر العظيم، ولكنه صمم عليها ولا سيما بعد ما سمعه من الوعد بالمكافأة.
قضى معظم النهار في منظرة اللؤلؤة وهو يتهيأ للسفر حتى أعد كل ما يحتاج إليه، وقد مالت الشمس إلى الأصيل. فانفرد في غرفته يفكر في مهمته وإذا بطارق بابه، فأجفل لأنه لا يطرق بابه أحد لا سيما وهو على أهبة السفر. فنهض وفتح الباب فرأى غلاما صقلبيا يظهر من ثوبه وشكله أنه من غلمان قصر الخليفة. فاستغرب ذلك فدخل الغلام وقال: «لعلي في حضرة الفارس عماد الدين؟»
قال: «نعم ما وراءك؟» فمد الغلام يده إلى جيبه وهو يشير إلى عماد الدين أن يغلق الباب؛ خوفا من أن يراه أحد، واستخرج لفافة دفعها إليه. فتناولها ولم يتم فضها حتى اقشعر بدنه؛ لأنه رأى فيها خصلة الشعر الذهبي التي كان قد أرجعها إلى سيدة الملك، فبانت البغتة في وجهه لكنه تجلد وأخذ يتفرس في الكتاب فإذا هو رسالة مختصرة بلا توقيع. فأغلق الباب وتحول نحو الداخل وهو يقرأ، وهذا نص الكتاب:
إلى البطل الباسل عماد الدين. اعلم يا سيدي أنك نجيت نفسا شريفة من القتل والعار. وهذه النفس تحتاج إلى رؤيتك لتكافئك على صنيعك. وقد كلفتني أن أرسل إليك العلامة التي ينطوي عليها هذا الكتاب لتتأكد صدق قولي. فأسرع إلينا على عجل فإننا نستصرخك، وقد لبيتنا من قبل بلا استصراخ. وحامل هذا الكتاب يرشدك إلى الطريق.
فرغ من تلاوة الكتاب وهو يحسب نفسه في حلم فظل هنيهة كالغائب يفكر فيما يعمله، أيجيب دعوة الداعي وهو على أهبة السفر؟ أم يعتذر وهي تستصرخه. وأحس عند رؤية الشعر بجاذب يدعوه إلى الإجابة. وتذكر ما بعثه على حمل تلك الخصلة من دمشق إلى القاهرة حتى دفعها إلى صاحبتها حرصا على كرامتها بدون أن يعرفها، فكيف تدعوه بلفظ الاستصراخ ولا يذهب إليها؟
وكان الغلام في أثناء ذلك واقفا ينتظر الجواب، فلما استبطأه خطا خطوة نحو عماد الدين فانتبه هذا لنفسه فالتفت إلى الغلام وقال: «ما وراءك غير هذا الكتاب؟»
قال: «هذا كل ما لدي، ولكنني أمرت إذا استفهمتني عن الطريق أن أرشدك إليه.»
قال: «وكيف ذلك؟ هل يجهل أحد الطريق إلى قصر الخليفة؟!»
فابتسم الغلام وخفض صوته وقال: «ليس القصر مجهولا، ولكن صاحب هذه الرسالة في قصر النساء، ولا سبيل لرجل إلى هناك ولا سيما بعد أن جعلتم الأستاذ بهاء الدين قراقوش قيما عليه فأصبح أمنع من عقاب الجو.»
قال: «إذن كيف الوصول إلى المكان المقصود؟»
قال: «إذا كنت قد صممت على الذهاب فإني أدلك على طريق توصلك إلى داخل قصر النساء ولا يشعر بك أحد.»
فاستغرب قوله وقال: «أظنك تعني أن أتنكر بثوب جارية.» قال: «كلا. فإن هذا لا يغني شيئا؛ إذ لا يستطيع أحد المرور من الباب إن لم يعرفه الحاجب باسمه ولقبه.»
قال: «كيف إذن؟»
قال: «أعرف طريقا سريا في سراديب تحت الأرض بين هذه المنظرة وقصر الخليفة لا يعرفها إلا القليلون.» قال: «سراديب تحت الأرض؟» قال: «نعم يا مولاي. لما بنى الخلفاء الفاطميون قصورهم أرادوا أن يكون لنسائهم طريق يخرجن منه إلى الحدائق والبساتين أو إلى المناظر القائمة على ضفاف هذا الخليج. فاصطنعوا لهن سراديب تحت الأرض ينزلن إليها من وسط القصر ويمشين فيها بلا حجاب حتى يخرجن إلى البساتين. وفي جملتها السراديب المؤدية إلى هذه المنظرة فإنها كانت مطروقة أكثر من سواها لكثرة تردد الخلفاء وإقامتهم هنا. حتى إن ثلاثة منهم ماتوا في هذه المنظرة وحملوا في هذه السراديب إلى القصر، وهم الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز. ثم أهمل أمرها بعد نزول غير الخلفاء المنظرة. وتنوسيت منذ عدة سنوات ولكنني أعرفها فإذا أحببت أن أسير في خدمتك فعلت.» •••
تحير عماد الدين في أمره واستغرب وجود هذه السراديب وفكر هل يجيب الدعوة أم يعتذر لأنه على وشك السفر. والتفت إلى نافذة الغرفة فرأى الشمس دنت من المغيب وهو لا بد له من مغادرة القاهرة في تلك الليلة كما أقسم ووعد، فنادى الغلام إليه وقال: «كم يقتضي لنا من الوقت لنصل إلى القصر؟»
قال: «لا يستغرق سيرنا إلا دقائق معدودة.» فقال في نفسه: «أجيب الدعوة وأعود سريعا فأسافر.» والتفت إلى الغلام وقال: «هلم بنا.» قال: «تمهل ريثما تغيب الشمس فنذهب في الظلام لئلا يشعر بنا أحد من أهل هذا القصر.» فتصور عماد الدين الخطر المحدق به في هذه المهمة، لكنه أكبر أن يتخوف أو يحسب للمخاطر حسابا وهو الذاهب لقتل زعيم الإسماعيليين. فقال: «انتظرني إذن خارج هذه المنظرة فألاقيك هناك بعد الغروب.» قال: «حسنا، سأمكث في انتظارك تحت هذه الجميزة بجانب الخليج، فإذا رأيتك قادما تقدمت نحوك ومعي الرداء الذي ينبغي أن تلتف به في أثناء الطريق، وعند الوصول إلى القصر، لئلا ينكرك أحد من أهله.» قال ذلك وخرج وخلف عماد الدين على مثل الجمر من القلق. فلما خلا بنفسه استأنف النظر إلى ذلك الكتاب وأعاد قراءته، وتذكر المرة الأولى التي شاهد فيها صاحبة ذلك الشعر وما سمعه عنها أمس من أمر صلاح الدين، فرأى أنه قد يستطيع خدمة مولاه بإجابة سؤالها فيحرضها على قبوله. ولما تصور ذلك هبت الغيرة في قلبه. ولكنه تعمد الإغضاء عن هذا الشعور حبا في مصلحة مولاه.
ولما أسدل الليل نقابه خرج بأخف ملابسه وسلاحه حتى دنا من الجميزة، فرأى شبحا كأنه امرأة قادما نحوه فتقدم إليه وتفرس فيه فإذا هو الغلام قد التف بملاءة كالإزار أو المطرف ودفع إليه ملاءة ليلتف بها أيضا، ثم مشى الغلام بين يديه في البستان وهما لا يريان شيئا غير أشباح الأشجار تتراءى بينهما وبين الأفق. مشيا مدة لا يتكلمان، ثم التف الغلام إلى عماد الدين وأمسك بيده كأنه يقوده فهبط معه إلى حفرة. ومد الغلام يده إلى أعشاب يابسة أزاحها فوصل إلى باب من حديد فيه حلقة قبض عليها وأعانه عماد الدين ففتحا الباب فشعر عماد الدين بريح فيها رطوبة وعفونة، فعلم أنها أتت من ذلك السرداب. فقال له الغلام: «اتبعني يا سيدي. اقتص خطواتي.»
فشعر وشعر بأنه يمشي على أرض مرصفة بالحجارة. ولكن الظلام كان شديدا جدا وأخذت، رائحة العفونة تشتد كلما أمعنا في السرداب. فخاف عماد الدين أن يكون قد ورط نفسه فقال: «هل أنت على ثقة من أمر هذا الطريق؟» قال: «نعم وقد جئت فيه إليك اليوم.» فاطمأن خاطره وسكت وهو يخطو ويتلمس الجدران. ثم سمع وقع أقدام فوق السرداب فقال له الغلام: «نحن الآن تحت القصر الصغير، وبعد قليل نمر تحت الميدان وليس بعده إلا قصر الخليفة فقصر النساء.»
ولما أحس الغلام أنهما تحت قصر النساء أشار إلى عماد الدين أن يقف فوقف. فتقدم هو الهوينى حتى رفع باب السرداب، فبصر عماد الدين بالنور وبعد قليل أتاه الغلام وأمسك بيده وأشار إليه أن يخرج. فصعد بضع درجات فإذا هو في غرفة فيها مصباح فنظر إلى نفسه وإلى رفيقه على النور بعد هذه السفرة في الظلام فرأى عليهما التراب ونسيج العناكب، فنفض الرداء ونظر إلى الغلام وأشار بيده يستفهم عما يعمله، فأومأ إليه أن ينزع الملاءة ففعل ودخلا حجرة مفروشة بأحسن الرياش فتحقق أنه في قصر النساء. ثم أشار إليه الغلام أن يقعد وينتظر وخرج هو، فقعد وقلبه يخفق تطلعا لما سيراه في تلك الليلة، وتذكر مجيئه إلى هذا القصر من عهد غير بعيد، وكيف رأى سيدة الملك. وطال انتظاره حتى تولاه القلق. وإذا بالغلام قد عاد ومعه ياقوتة الحاضنة فحالما وقع نظره عليها تذكر أنه رآها قبل ذلك الوقت.
أما هي فأسرعت إليه وحيته وأشارت إلى الغلام أن ينصرف فانصرف، وظلت ياقوتة وحدها مع عماد الدين فقالت: «لقد أتعبناك يا سيدي وأتينا بك في هذا الليل.» فقال: «لا بأس يا سيدتي وإنما أرجو ألا يكون لاستقدامي سبب يوجب القلق.» فتنحنحت وقالت: «لا والحمد لله. ألا تذكر أنك رأيتني يا عماد الدين؟» قال: «بلى أذكر ذلك جيدا.» قالت: «أما أنا فلا أنسى قدومك في ذلك اليوم العصيب، وما أتيته من الأريحية والنخوة في إنقاذ مولاتي سيدة الملك من خطر الموت. إنها لا تنفك تذكر ذلك الفضل لك. وكثيرا ما تمنت أن تراك لتكافئك على صنيعك ولكنك لم تعد.» فقال مسرعا: «لأني لم أفعل ما فعلت لأجل المكافأة، وأنا غني عن ذلك بفضل مولاي صلاح الدين.» قالت: «طبعا، ولكن المكافأة لا تعطى دائما للحاجة إليها، بل هي تدل على امتنان المعطي للمعطى له. وعلى كل حال فليس ذلك من شأني بل هو يرجع إليك وإليها فإذا التقيتما صرت أنا غريبة. أليس كذلك؟» قالت ذلك وضحكت وفي عينيها وغنة صوتها معنى لا يعبر عنه بالكلام، فتوسم عماد الدين في كلامها معنى اختلج له قلبه. ولم يصدق نفسه لما يعلمه من البون البعيد بينه وبين سيدة الملك، وهي أخت الخليفة أعظم نساء المسلمين بمصر. فقال وهو يتجاهل مرادها: «كيف مولاتنا سيدة الملك؟ أرجو أن تكون في خير وعافية.»
قالت: «ألم تصل إليك رسالتها؟» قال: «كيف لا؟ ما الذي أتى بي في هذا الوقت؟» قالت: «وخصلة الشعر؟» فمد يده واستخرجها من جيبه وقال: «هذه هي.»
قالت: «ألا تريد أن تردها إليها كما رددتها في المرة الماضية؟»
قال: «بلى. وأنا جئت إجابة لدعوتك؛ لأنك قلت إن سيدة الملك تستصرخني، فهل هناك باعث مهم؟»
قالت: «إنما بعثها على ذلك رغبتها في مكافأتك. وقد كلفتني أن أدفع إليك هذا العقد.» واستخرجت عقدا من اللؤلؤ لم يقع بصر عماد الدين عليه حتى دهش. وقدمت العقد إليه فتناوله ولم ينظر إليه بل أعاده إليها وهو يقول: «شكرا لمولاتي. إنني في غنى عن تحميلها هذه الثقلة لأني لم أفعل ما فعلته طمعا في المكافأة.»
فاستعظمت هذه الأنفة منه وقالت: «إني مأمورة بإيصال هذه الهدية إليك، فإذا كنت لم تقبلها فإني أدعو صاحبتها لتقدمها بنفسها، ولكن احذر أن تكون قاسيا يا عماد الدين.»
فزاده هذا التعبير بيانا لما توسمه في عبارتها الأولى، فسكت وقد ارتبك في أمره. •••
أما هي فنهضت وخرجت وتركت العقد في مكانها على البساط، وظل عماد الدين وحده وهو مرتبك لا يدري ما يقول أو يعمل. ثم عادت ياقوتة وسيدة الملك وراءها وقد التفت بالنقاب حتى لا يظهر إلا عيناها وبعض جبينها فلاحظ في عينيها ذبولا وقد تغيرت عن ذي قبل. فلما رآها دخلت وقف لها وتأدب وأطرق فتقدمت إليه وهي تتماسك وقالت: «اجلس يا عماد الدين. إنك ذو فضل على حياتي وشرفي ولا حاجة إلى الوقوف لي. اجلس. قد أتعبناك بهذه الدعوة الليلة وأزعجناك فضاعفت فضلك علينا.» قالت ذلك وهي تقعد وتشير إليه أن يقعد فقعد، وظلت ياقوتة واقفة وهي تتناول العقد عن البساط ثم دفعته إلى سيدة الملك وقالت: «هذا العقد دفعته إليه حسب أمرك فلم يقبله.» فتناولته واتجهت نحو عماد الدين وقالت: «أترفض هدية صغيرة قدمتها إليك وأنت قد أهديتني حياتي؟» ومدت يدها نحوه والعقد في كفها وهي تتوقع أن يمد يده فيتناوله منها. فلما أبطأ تصدرت ياقوتة للكلام قائلة: «بماذا أوصيتك يا عماد الدين؟ ألم أقل لك لا تكن قاسيا؟»
فخجل ومد يده وتناول العقد وهو يقول: «إني أقبله هدية لا مكافأة.» ولما مد يده ليتناوله لمست أنامله كفها فأحس ببردها وارتعاشها، وأحست هي برعشة كهربائية سرت في عروقها. وبان البشر في محياها فقعدت ياقوتة وهي تضحك وتقول: «ها إنه قبله منها ولم يقبله مني.»
فقطع كلامها قائلا: «لأنك أردت أن آخذه مكافأة على خدمة فلم أقبله طبعا؛ لأني إن كنت قد فعلت خيرا فلم أفعله طمعا في المال ... و...»
فقطعت ياقوتة كلامه قائلة: «طمعا في أي شيء إذن؟ يظهر أنكما تعارفتما قبل ذلك اليوم ... و...» وضحكت فاستغرب تعريض هذه الحاضنة بحب متبادل بينهما وهو لا يعلم بشيء من ذلك، وإنما يعلم أنه استلطفها ومال إليها ولم يحلم أنها استلطفته أو مالت إليه. ولذلك لم يفكر فيها لاعتقاده استحالة حصوله عليها. فلما سمع ذلك التعريض تحرك قلبه وأوشك أن يشعر بالأمل فاعترض أفكاره صلاح الدين وما سمعه في ذلك اليوم من خطبته إياها، فأنكر على نفسه أن يتصدى لأمر يخص مولاه وهو يفديه بروحه. وأصبح يعد حديثه معها خيانة، لكنه لم يجسر على التصريح بذلك فتجاهل وقال: «إنما فعلت ما فعلته يومئذ مدفوعا بما تفرضه علي المروءة، من يستطيع أن يرى سيدة الملك بين يدي الأشرار يريدون أن يلحقوا بها الأذى ولا يفديها بروحه؟»
فالتفتت سيدة الملك نحوه وقد ضايقها النقاب وخافت أن يمنعها عن الكلام فأزاحته عن فيها وقالت: «لا بأس عليك من كشف هذا الوجه بين يديك، فإنك صاحب الفضل في بقائه، إنك تستغرب وجود رجل يستطيع أن يراني في ذلك الخطر ولا يفديني بروحه. لا تستغرب ذلك يا عماد الدين فقد كان في قصري عشرات من أهلي وعشيرتي لم يقدم أحد منهم على ما أقدمت عليه. وكأنك كنت على موعد من تلك الساعة. فدفعت إلي بخصلة الشعر صيانة لها ولي. فهل ألام إذا نظرت إليك نظري إلى ملاك هبط من السماء لإنقاذي؟ ولكني لا أعلم كيف كان شعورك في تلك الساعة.»
فرأى في إطرائها إشارة إلى حبها، لكنه كذب نفسه وعاد إلى الإنكار فقال: «أما شعوري فهو أني وأنا في خدمة مولاي السلطان صلاح الدين، وقد أمرنا أن نكف عن رمي النفط، وقع بصري على زجاجة نفط سقطت في هذه الدار وأنا على يقين أنها ليست من عندنا فاستغربت وقوعها. ثم رأيت نذلا ملثما اغتنم اشتغال أهل القصر بأنفسهم ودخل كالذئب الكاسر ومعه أناس أرادوا القبض عليك، فلم أتمالك عن الوثوب عليهم، ولم أكن أعلم أنهم يريدونك ولا أنك سيدة الملك أخت الخليفة. فلما اتجه نظري إليك ورأيت هذا الشعر الذهبي علمت أنك هي. وكانت تلك الخصلة في جيبي فدفعتها إليك.»
فلما سمعت اسم صلاح الدين أجفلت، لكنها مالت إلى معرفة قصة خصلة الشعر فقالت: «من أين وصلت هذه الخصلة إليك؟»
فتوقف عن الجواب حتى خاف أن ترتاب فيه ثم قال: «أتيت بها من دار السلطان نور الدين صاحب دمشق. ما لنا ولهذا؟ وقد سألتني عن شعوري في تلك الساعة فهو أني شعرت بحمية لم أستطع دفعها ووثبت لمقاومة أولئك الأشرار وأنا لا أعرفهم ولا أعرف على من هم واثبون. فلا فضل لي على سيدة الملك؛ لأني لم أكن أعرف أنها هي المقصودة بالأذى وإنما فعلت ما فعلته مدفوعا بالمروءة.»
وكان يتكلم وهي تنظر إليه وتكاد تتلقفه بعينيها، فلما وصل إلى ذكر المروءة صاحت فيه: «من أجل هذه المروءة شعرت بهذا الشعور ورغبت في استقدامك لأعترف بجميلك.»
فخجل من هذا الإطراء وقال: «العفو يا سيدتي، إن مثلي لا يستحق هذا الإطراء من أخت أمير المؤمنين؛ لأننا عبيد ويجب علينا التفاني في الدفاع عن صاحب هذا المقام السامي.»
قالت: «اسمع يا عماد الدين، لست عبدا، ولو أنك اندفعت إلى هذه المنقبة لأجل أخت الخليفة لقلنا إنك فعلت ذلك تقربا من أمير المؤمنين. ولكنك إنما دفعك إليها نفس أبية وهمة عالية وأريحية ومروءة لا نعهد مثلها فيمن نعرفهم بين أظهرنا من الأمراء وأبناء الخلفاء. فهذه الخصال رفعت قدرك وجعلتك في مصاف الملوك ... لا تقل إنك عبد، معاذ الله! بل أنت أمير من أعظم الأمراء، وستكون كذلك قريبا إذا شئت.» وظهر في عينيها معنى لم يترك لعماد الدين سبيلا للتجاهل، وأعجبه قولها إنه سيكون أميرا وهو في ذلك اليوم أوشك أن يصير من الأمراء بما آنسه من إعجاب نجم الدين وتقديمه. وتذكر المهمة التي هو ذاهب فيها وما وعده به نجم الدين إذا فاز بها. فتفاءل من مطابقة قولها قول نجم الدين إنه أمير وسيصير أميرا عن قريب. ثم انتبه فجأة إلى أنه قد مضى هزيع من الليل فخاف أن يطول الكلام في تلك الجلسة، ولم تعجبه مقدمات الحديث؛ لعلمه بما طلبه صلاح الدين من أخيها. وخيل له أنها استقدمته لأمر يتعلق بذلك الطلب؛ إذ لا يزال يستبعد أن يكون هو المقصود به، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «إذا صرت شيئا مذكورا فإنما يكون الفضل فيه لمولاتي سيدة الملك؛ لأنها أحسنت الظن بعبدها فقدمه مولاه السلطان صلاح الدين في مساء أمس حتى جعله أقرب أعوانه إليه.»
فلما سمعت ذكر صلاح الدين للمرة الثانية أجفلت وانقبضت نفسها وتذكرت ما جرى لها بسببه ولم يعجبها اقتران اسمها باسمه في هذا الموضوع، لكنها سرت لقوله إن صلاح الدين قدمه فقالت: «لا غرابة في تقديمك، فأنت أهل لأكثر من ذلك. إنك أمير وسيد وستنال مقاما لم ينله صلاح الدين ولن يناله هو ولا غيره من السلاطين أو الأمراء. هذا إذا شئت.» وتلعثم لسانها وغلبت على أمرها وأبرقت عيناها وبان الحياء في محياها، فأطرقت وكأنها ندمت على ما فرط منها، فجعلت تتشاغل بتثنية طرف جديلتها المرسلة على صدرها من تحت النقاب.
أما هو فلم يبق عنده شك فيما تعنيه، واستعظمه منها وهاجت عواطفه وأحس بانعطاف جديد نحوها بعد أن سمع تصريحها أنها تحبه وأنها تفضله على صلاح الدين. لكنه تذكر أن مولاه صلاح الدين يريدها مع أنه لا يرجو أن ترضى به فاستنكف أن يقوم مقامه أو يقف في سبيله أو يعتدي عليه وهو صنيعته وقد صمم أن يفتديه بروحه. فلم يتمالك عن النهوض وقال: «إن سيدتي بالغت في إطراء عبدها كثيرا، فأنا صنيعة مولاي السلطان، ولا أخفي أني ذاهب الليلة في مهمة تخصه وأخاف أن أتأخر عنها إذا أطلت المقام هنا.»
فأمسكت بيده وأقعدته وقد بانت أنفة الملوك في وجهها وقالت بصيغة الأمر: «لا. لست عبدا لأحد ولا صنيعة أحد، وقد قلت لك إنك أمير وسيد. لا، لا ينبغي أن تذهب في خدمة أحد إني في حاجة إليك وقد استصرختك. أين حميتك ومروءتك؟»
فلما قبضت على يده سرت الرعشة في أعضائه وقعد بالرغم منه. لكنه لما سمع كلامها خاف أن يغلب على أمره فقال وهو يتحفز للنهوض: «إن هذه المروءة نفسها تحملني على الذهاب الآن؛ لأني تعهدت بأمر لا بد من الذهاب فيه وهو يخص مولاي صلاح الدين. وإذا كانت مولاتي ترى في هذه المناقب وأنا صنيعة صلاح الدين وخادمه، فكيف لو عرفته هو؟»
فنفرت من هذا الجواب، وكانت لا تزال قابضة على يده فتركتها وأعرضت بوجهها وهي تظهر الغضب، فتصدت الحاضنة ياقوتة وقالت: «ما هذا يا عماد الدين؟ تخاطبك مولاتي من الشرق فتجيبها من الغرب؟ ألم تفهم مرادها؟»
قال: «نعم فهمت، ويسرني رضاها عني وقد غمرتني بفضلها وإنعامها. ولكنني صنيعة السلطان صلاح الدين وأنا ذاهب في خدمته.» وتحول نحو سيدة الملك وقال: «لماذا غضبت مني يا سيدتي؟ إنما ألتمس رضاك؟»
فسرها عتابه، فالتفتت نحوه وعيناها تعاتبه وقالت: «لأني أخاطبك وأطلب الجواب عن نفسك فتجيبني عن صلاح الدين. ما لنا وله؟ دعه في سلطانه إنه لا دخل له في هذا الحديث. ألم تفهم؟»
فتحير عماد الدين في أمره وارتج عليه وعلم أنها لا تريد صلاح الدين، وأوشك أن يغلب على عقله. ومن الذي يقف هذا الموقف ولا يغلبه الهيام ويتسلط على قلبه؟ لكن عماد الدين كان قوي الإرادة شديد الاحترام لصلاح الدين، وكان تلك الليلة في شاغل عن كل شيء بأمر زعيم الإسماعيلية وسفره فتجلد ونهض بلطف وهو يقول: «قد فهمت يا سيدتي على قدر إمكاني، وإذا لم أفهم فلأني أرى نفسي لا أستحق هذه النعمة. وما زلت أرى مولاي صلاح الدين أحق بها. ولا تغضبي يا سيدتي، إن صلاح الدين لم تعرفيه، ولو عرفته لضربت بعماد الدين عرض الحائط. ومع ذلك فإني طوع أمرك ولكن ...»
فقطعت كلامه وتوجهت نحوه وهي تبتسم والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «لا تقل ولكن. بل قل إنك تطيعني فيما أطلبه.»
قال: «أطيعك في كل شيء، ولكن بعد رجوعي من هذا السفر. إن سفري لا بد منه وقد أقسمت أن أكون في صباح الغد خارج هذا البلد. ومضى بعض الليل وأنا لم أتحرك من مكاني. فبالله اسمحي لي بالانصراف الآن.»
فقالت والدهشة ظاهرة في وجهها: «تنصرف الآن، إلى أين؟»
قال: «إلى منظرة اللؤلؤة، ومن هناك أركب حالا وأسافر.»
قالت: «تسافر؟ ويلاه إلى أين؟»
قال: «في غرض يختص بمولاي السلطان.»
فأطرقت وهي لا تدري ما تقول، فخاف أن يجر الحديث إلى ما لا يقوى على دفعه، وقد أحس أن الحب كاد يستولي على إرادته وهو حريص على القيام بوعده ولا سيما بعد أن أقسم وصمم فقال: «اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف. واعلمي أني رهين أمرك، ولولا ما سبق من تعهدي بأمر السفر لما خالفتك في شيء. ولكنني سأعود سالما إن شاء الله، وعند ذلك لا ترين مني إلا ما يرضيك. أستودعك الله الآن.» •••
قال ذلك ومد يده لمصافحتها فلم تمد له يدها رغبة في استبقائه لتتم حديثها أو لعلها تثنيه عن السفر. وإذا هي تسمع وقع أقدام مسرعة خارج باب الغرفة فنظرت إلى ياقوتة فرأتها قد امتقع لونها وتحفزت للنهوض. ولم تكد تقف حتى رأت غلامها الذي جاء بعماد الدين داخلا والبغتة على وجهه من الخوف فصاحت فيه: «ما وراءك؟» فقال وصوته يرتجف: «إن الأستاذ بهاء الدين قراقوش يطلب أن يراك.» فأجفلت عند ذكر اسمه وقالت: «ولماذا؟ ما له ولنا؟»
قال: «كنت ساهرا لمراقبة كل حركة كما أمرتني الخالة أطل على القصر من شرفة الإيوان فرأيت شبحا قادما من الخارج نحو باب هذا القصر لم أعرفه؛ لأنه ملتف بعباءة كبيرة كأنه جاء متنكرا، فجعلت أراقبه حتى وصل إلى باب القصر وطلب مقابلة الأستاذ بهاء الدين. فجاء لمقابلته ودار بينهما حديث لم أفهمه، ولكنني لحظت أن القادم ألح عليه أن يفتش داخل القصر وتأكد لي ذلك لما رأيت الأستاذ بهاء الدين دخل القصر بسرعة ورجع ذلك الرجل كما جاء. وسمعت بهاء الدين يأمر أحد الخصيان بالذهاب إلى سيدتي فأسرعت لأخبرك بذلك.»
فاستولت الدهشة على الجميع وظلوا سكوتا إلا سيدة الملك فقالت: «تبا لذلك الخائن. لا أعلم كيف اطلع على مجيء عماد الدين إلى هنا حتى وشى بنا إلى الأستاذ.»
فقالت ياقوتة: «أتظنين مجيء بهاء الدين يتعلق بعماد الدين؟»
قالت: «لا بد من ذلك، ولكنه سيعود خائبا.»
فقال عماد الدين: «لا تخافي يا سيدتي إن روحي فداك ماذا جرى؟»
قالت: «لم يجر شيء، ولكنني سآذن في ذهابك برغم إرادتي. وهذا يسرك ولكنه يسوءني.» والتفتت إلى الغلام وقالت: «يا غلام، عد بعماد الدين من هذا السرداب كما جئت به منه.» والتفتت إلى عماد الدين وقالت: «أرجو أن تبقى على وعدك وأن تذكرني في أثناء سفرك. واعلم أن صاحبكم بهاء الدين هذا قد قطع كلامي وحال دون إتمامه وأنا ما زلت في أوله، لكنني أترك فهم الباقي إلى فطنتك وما يدلك عليه قلبك. وأحسبني عبرت عن مرادي بملامحي أكثر من نطقي! كنت قبل استقدامك في يأس شديد، وكنت أرجو أن يزول كل يأس بحضورك. فإذا أنت على سفر، ثم جاء هذا الأستاذ فلم أتمكن من إتمام شكواي، فأقول لك بالاختصار إني أفكر فيك دائما وأنا سجينة في هذا القصر. ويا حبذا لو أني أخرج منه معك الساعة.» قالت ذلك وشرقت بدموعها.
فكان لذلك وقع شديد على قلب عماد الدين وهو شاب في مقتبل العمر وبين يديه أشرف نساء مصر وأجملهن تشكو له حبها وتدعوه إلى قربها، فهاجت عواطفه وكاد يغلب على أمره وينسى مهمته، وإنما عصمه أدب نفسه وعلو همته واحترامه لمولاه فتجلد وسكت، لكنه أشار برأسه وعينيه أنه رهين أمرها بعد عودته، وأرادت أن تستزيده إيضاحا فتصدت الحاضنة بلهفة قائلة: «يكفي يا سيدتي. يكفي. إن بهاء الدين يطلب مقابلتك بإلحاح ولا أستطيع استمهاله.» وتقدمت إلى عماد الدين فأمسكت بيده وجرته حتى خرج من تلك الغرفة إلى باب السرداب. وكان الغلام في انتظاره هناك وقد فتح الباب، فالتف كل منهما بردائه وذهبا، وأغلق الباب وعاد كل شيء إلى أصله. وتمشت سيدة الملك إلى غرفة الاستقبال فرأت قراقوش في انتظارها هناك. فأظهرت الاستغراب من طلبه مقابلتها في تلك الساعة.
فقال: «بلغني أن رجلا غريبا دخل هذا القصر الليلة أين هو؟»
فقالت: «تسألني سؤالا أنت أولى بالجواب عليه؛ لأن مفاتيح القصر بيدك وقد سددت علينا الطرق والنوافذ، فإذا دخل غريب علينا فأنت المسئول.» قال: «لم يدخل أحد من باب القصر.» قالت: «هل هبط من السماء؟» قالت ذلك بغضب. فقال: «لا تغضبي يا سيدتي، إنما أتصدى للسؤال حرصا على كرامة سيدة الملك وعملا بأمر أمير المؤمنين.» فضحكت ضحكة استهزاء وغضب وقالت: «ما أحرصكم على أوامر أمير المؤمنين وكرامة أخته! من أنبأك بدخول الرجال إلينا خلسة؟» فخجل بهاء الدين من هذا التوبيخ وندم على تسرعه وقال: «لم أقل شيئا من ذلك يا سيدتي، ولكنني أقول ما بلغني ولم أسمع من رجل حقير أو جاهل.»
فقطعت كلامه وقالت: «مهما يكن من أمر الذي بلغك فإنه نذل كاذب، هذا هو قصري ابحث فيه عمن شئت.» قالت ذلك وتحولت من القاعة نحو غرفتها والحاضنة تهرع في أثرها وقلبها يرقص فرحا للنجاة من تلك التهمة الشنيعة. •••
فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك في غرفتها أكبت عليها وجعلت تقبلها وتداعبها وهي ساكتة وقد عادت إليها هواجسها ثم نهضت وقالت: «دعيني يا ياقوتة، دعيني وشأني، إني تعيسة شقية، ويلاه ما هذا البلاء! لم أكد أتوسم بابا للفرج حتى أقفلت علي الأبواب وسدت دوني السبل.» وأخذت في البكاء.
فعملت ياقوتة على التخفيف عنها وقالت: «لا تنكري نعمة الله، ألم تطمئني إلى أنه يحبك؟ وهذا ما كنت تطلبين معرفته و...»
فقطعت كلامها بغضب وقالت: «يحبني؟ هل فهمت من قوله أنه يحبني. ألم تريه كيف كان مرتبكا في أمره وكلما ذكرت له ما في نفسي حول الموضوع إلى مولاه صلاح الدين. إنه يحب مولاه فقط.» قالت ذلك ومسحت عينيها بمنديلها وهمت أن تعود إلى الكلام.
فسبقتها ياقوتة قائلة: «ولكن حبه هذا مبني على همة عالية وأريحية و...»
قالت: «وما يفيدني إذا كانت هذه المناقب فيه ولا يحبني. ثم هو مسافر في مهمة لخدمة مولاه، ولم يشأ أن يتأخر ساعة لأجلي، وأنا تركت حسبي ونسبي وعرضت نفسي لغضب أخي وسائر أهلي من أجله، فهل يدل هذا على حبه؟»
قالت: «لا شك في أنه يحبك، وقد توسمت ذلك في عينيه، لكنه شهم إذا وعد وفى. وقد أقسم أن يسافر الليلة فلا يريد أن يحنث في يمينه. وأؤكد لك أنه لو طال جلوسنا برهة لرأيت منه كل ما يسرك؛ لأنه لم يكن في أول الحديث يصدق أنك تحبينه ولم يكن يحلم بهذه النعمة. فلما دنا من الموضوع جاء الطواشي وكدر علينا أمرنا. ولكن كوني مطمئنة أنه سيعود إليك.»
فغلب عليها الأمل - والمحب كثير الريب لكنه سريع التصديق قريب الأمل - فلما سمعت قولها إنه يحبها وإنه سيعود إليها أشرق وجهها وبان الابتسام حول شفتيها، وأقبلت بوجهها نحوها وقالت: «صحيح؟ هل أنت على ثقة مما تقولين؟ هل هو يحبني؟» ثم أطرقت كأنها ثابت إلى رشدها وضمت خديها بين كفيها وقالت: «ويلاه! ماذا جرى لي؟ من أنا؟ ألست سيدة الملك العاقلة الحازمة ابنة أمير المؤمنين وأخت أمير المؤمنين من سلالة فاطمة الزهراء بنت الرسول؟ ما الذي أصابني حتى صرت كالمجنونة وأصبح قلبي أسيرا بين يدي شاب غريب لا حسب له ولا نسب، أتسقط ما يجود به علي من كلمة عطف أو تودد؟ وهؤلاء أبناء عمي الشرفاء يتمنون رضاي! لله ما أشد وطأة الحب وما أقوى سلطانه!»
فلما سمعتها ياقوتة تقول ذلك توسمت منها الرجوع إلى الصواب لعلها تنجو من لواعج الحب فبادرتها قائلة: «ألم أقل لك يا سيدتي؟ قد كنت في نعيم وراحة قبل أن ...»
فأسرعت سيدة الملك فوضعت كفها على فم ياقوتة تعجيلا في إسكاتها وقالت: «ومع ذلك فإن الحب يعزيني عن كل شيء. يكفي ما رأيته من اقتناعي بكلمة من عماد الدين لو قالها لنسيت كل شيء. ومع ذلك فإن أملي بأن أسمعها منه أنساني القصور والخلافة والنسب الشريف. أنساني كل شيء. ذلك هو الحب يا ياقوتة. ليس في الدنيا ألذ منه إذا كان متبادلا.»
فعادت ياقوتة إلى مسايرتها وقالت: «هذا ما قلته لك يا سيدتي، فاتكلي على الله واصبري فإن الفرج قريب.»
فأحبت سيدة الملك أن تختم الحديث بهذا الوعد، فهمت بالذهاب إلى الفراش وياقوتة تساعدها.
أما عماد الدين فإنه دخل السرداب مرغما ولم يكن يريد الرجوع هاربا من وجه قراقوش أو غيره. ولكنه فعل ذلك صيانة لكرامة سيدة الملك وفرارا من التأخير عن المهمة التي هو سائر فيها. مر في السرداب متحمسا والغلام يسير بين يديه حتى وصل إلى الطرف الآخر عند منظرة اللؤلؤة. فخرج وعاد الغلام إلى القصر. مشى عماد الدين بين الأشجار يطلب غرفته وإذا هو يسمع المؤذن يدعو الناس لصلاة الفجر فأجفل. ولم يكن يظن نفسه تأخر بهذا المقدار فأسرع إلى غرفته وأمر بإعداد جواده واستعد للسفر وهم بالخروج قبل طلوع النهار حسب وعده. وإذا بصلاح الدين يناديه من غرفته فأسرع ملبيا فرآه قاعدا في فراشه فأكب على يده يقبلها فقال له: «أنت مسافر يا عماد الدين؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد أبطأت قليلا ولكن لا تطلع علي الشمس إلا خارج القاهرة كما قلت.» قال: «كنت أحب أن أراك قبل الآن وقد سألت عنك مرارا فلم يجدوك في حجرتك. أحببت أن أراك لعلي أثنيك عن عزمك وأنت سائر في مهمة يمكن الاستغناء عنها، وربما كنت أحوج إليك هنا مما في الخارج.»
قال: «إني طوع أمر مولاي، لكنني قد تأهبت للذهاب، فادع لي بالنجاح وإذا فزت فببركة سلطاني ومولاي. وإذا مت فإن روحي فداه.» قال ذلك ووقف ينتظر الأمر، فأجابه صلاح الدين: «سر يحرسك المولى، ولا أوصيك بالشجاعة فإنك شجاع، ولكنني لا أحب أن تلقي بنفسك إلى التهلكة فإنك عزيز علينا.»
فعاد وقبل يد صلاح الدين، وخرج فركب جواده وسار، ولم تمض دقائق حتى صار خارج القاهرة وهو عليم بالطرق ومسالكها. وحالما خلا بنفسه عادت إليه هواجسه بما لاقاه من الغرائب المدهشة في الليل الماضي. ولما أشرقت الشمس توهم أن ما مر به من ذلك حلم رآه في منامه؛ إذ استبعد وقوع ما لقيه من الحفاوة والتقرب من سيدة نساء مصر. لكنه ما لبث أن حبس جيبه فوجد العقد فيه، فتحقق أن ذلك حدث في اليقظة.
الفصل السادس
الهكاري وقراقوش
تركنا قراقوش بعد مفارقة سيدة الملك وقد استغرب ما سمعه. لكنه ما زال يتوقع أن يجد أحدا في القصر؛ لأن أبا الحسن أكد له وجود رجل غريب. فعاد إلى التفتيش في كل مكان فلم ير أحدا. فعاد إلى غرفته قرب باب القصر فرأى أبا الحسن في انتظاره على مثل الجمر. وكان ينتظر أن يراه قادما إليه ومعه عماد الدين يرسف في القيود، فلما رآه وحده صاح به: «أين الرجل؟» وكان قراقوش يحترم أبا الحسن؛ لما يعلم من نفوذه عند الخليفة، فأجابه بلطف قائلا: «لم أجد أحدا يا سيدي.»
قال: «يا للعجب! كيف لم تجده؟ أنا على يقين من دخوله هذا القصر، وأنت تعرفه.»
قال: «من هو؟»
قال: «عماد الدين خادم سلطان صلاح الدين.» قال: «عماد الدين لا يعقل دخوله هنا. إن هذا الشاب من رجالنا ولا يجسر على المجيء. وكيف يمكنه أن يدخل هذا القصر ويخرج منه ولا أراه وأنا ساهر لا تفوتني حركة من حركات أهله والمفتاح بيدي، وأي غرض له من المجيء؟ لا بد من خطأ في البلاغ الذي اتصل بك.»
قال: «أنا على يقين يا أستاذ، إن عماد الدين دخل هذا القصر. وأما غرضه فيه فلا أدري ما هو. لكنني سمعت من بعض غلمان القصر أن لهذا الشاب معرفة بأهل هذا القصر قبل أن صار الأستاذ بهاء الدين قيمه والآمر الناهي فيه. بلغني أنه دخل إليه يوم واقعة العبيد و...»
فاستغرب قراقوش هذا الحديث فقال: «قل لي من أنبأك الآن بدخوله هنا؟»
قال: «خادمي وهو من العارفين بدخائل القصر وإذا شئت دعوته إليك.»
قال: «ادعه أين هو؟»
فوقف أبو الحسن بالباب ونادى: «يا غلام.» فلما دخل الغلام تذكر قراقوش أنه من قدماء الغلمان في قصور الخلفاء فقال له: «كيف تقول بدخول الرجال هذا القصر؟ ومن أنبأك بذلك؟» فالتفت الغلام إلى أبي الحسن وقال: «هل أقول ما أعرفه؟» قال: «قل.»
فالتفت الغلام إلى قراقوش وقال: «علمت بدخوله لأني رأيته داخلا القاعة الكبرى.»
فصاح فيه قائلا: «رأيته بعينيك؟» قال: «نعم يا سيدي، وقد مكث هناك مع سيدة الملك وحاضنتها مدة.» قال: «ولماذا لم تخبرني؟» قال: «لم أتجاسر خوفا من سيدتي، فبلغت الأمر إلى مولاي أبي الحسن ليبلغك إياه وهو من أقرباء أمير المؤمنين وله دالة ونفوذ. وقد فعل.»
قال: «هذا لا يمكن. لا يمكن أن يدخل أحد هذا القصر ولا أعلم به، وليس للقصر باب آخر غير هذا. إلا أن يدخل من الممر الذي يمر به الخليفة من قصر الذهب، وهذا عليه الحراس يمنعون أيا كان من المرور، فكيف يتيسر لهذا الرجل الدخول؟»
قال: «إن سيدي الأستاذ قيم القصور حديث العهد في هذا القصر لا يعرف دخائله وسراديبه وممراته. وفي جملتها سرداب بينه وبين منظرة اللؤلؤة، ربما جاء عماد الدين فيه.»
فلما سمع ذكر منظرة اللؤلؤة أجل البحث إلى وقت آخر وختم الحديث بقوله: «على كل حال إن هذا القصر ليس فيه أحد من الرجال الغرباء الآن، وإذا كان فيه أحد فإنه لا يفلت منه، وسينال جزاءه؛ لأن مولاي السلطان أوصاني خيرا بالقصر وشدد علي بالمحافظة عليه لصيانة أهله. وإني شاكر للشريف أبي الحسن غيرته.»
فقطع أبو الحسن كلامه قائلا: «إني أفعل ذلك غيرة على النسب الشريف الذي يجمعني بأهل هذا القصر، ولكن لا بأس سيظهر الحق.» ثم خرج وهو يقول: «لقد أزعجناك الليلة بلا طائل.» وانصرف.
فلما خلا قراقوش بنفسه عاد إلى التفكير واستعاد ما سمعه من ذلك الغلام عن وجود الممرات والسراديب. وبعد إعمال الفكر ترجح له صدق التهمة، فرأى أن يرفع الأمر إلى صلاح الدين. فلما كان الضحى ركب إلى منظرة اللؤلؤة، ولكنه رأى أن يلقى صديقه ضياء الدين الهكاري ليستشيره في الأمر قبل الدخول على صلاح الدين؛ لأنه أصبح في أثناء ذلك أكثر مخالطة له منه. فلما وصل إلى المنظرة سأل عن الفقيه عيسى الهكاري، فقيل له إنه منفرد في غرفته. وهم الحراس أن يرحبوا بقراقوش ويبلغوا خبره إلى صلاح الدين، فأشار إليهم ألا يفعلوا وتحول عن فرسه وطلب غرفة الهكاري في بعض أطراف البستان. فلما علم الفقيه بقدومه وقف له ورحب به، وكانا صديقين اصطحبا في خدمة صلاح الدين وتعبا في إسناد الوزارة إليه بعد عمه كما تقدم. وهما يتفانيان في سبيل مصلحته.
رحب الهكاري ببهاء الدين قراقوش ترحيبا كثيرا وقال له: «ماذا جرى؟ إني لم أشاهدك من عهد بعيد، شغلوك بحراسة النساء وما أجدرك بقيادة الرجال.» وأشار إليه أن يجلس على وسادة فوق الطنفسة.
فجلس بهاء الدين وهو يقول: «إن حراسة النساء أصعب مراسا من قيادة الجند؛ لأنها تشتمل على حراسة النساء من الرجال. وأنت ماذا تعمل؟ هل دبرت شيئا جديدا في خدمة هذا السلطان العظيم؟ إني لا أذكر اسمه إلا ويتهلل قلبي فرحا.»
فقطع الهكاري كلامه قائلا بصوت خافت: «خصوصا لما تتذكر أننا استطعنا أن نضعه في هذا المنصب كما تعلم.»
فابتدره بهاء الدين قائلا بلهفة: «احذر يا صاح أن تقول هذا ويسمعك أحد؛ إذ ليس على الملوك أثقل وقعا من المن. والآن ماذا تفعل؟»
فضحك الهكاري وقال: «أنا ساع الآن في أمر لا أستغني فيه عن يدك. وإذا نجحنا فيه يحق لنا أن نفاخر بما أديناه من الخدم الجليلة للسلطان صلاح الدين.»
فتطاول بهاء الدين بعنقه نحوه وقال: «وماذا عسى أن نفعل فوق ما فعلناه، إنه سلطان مطلق وليس بعد هذا المنصب مطمع.»
قال: «نعم، ولكن السلطان يقدر أن يطمع في الخلافة.»
فحول وجهه عنه بازدراء وقال: «لا فائدة من مطمع لا سبيل إليه.»
فقال: «لم أعهدك متسرعا ، متى علمت الطريق الذي اخترته غيرت ظنك في الأمر.»
قال: «وماذا عسى أن يكون الطريق؟» قال: «طريق الزواج وقد خطبت له سيدة الملك أخت الخليفة فإذا تزوجها فابنه منها يكتسب حقا في الخلافة إذا اتحدت معه القوة كفى لنيل هذا المنصب كما أراد طغرل بك السلجوقي أن يفعل و...»
فقطع بهاء الدين كلامه قائلا: «فهمت ما تريده وهو نعم الرأي، ولكن هل رضي الخليفة أن يزوج أخته لهذا المولى الكردي؟» ثم ضحك وقال: «لا أظنه يرضى.» قال: «إذا لم يرض طوعا رضي كرها. وقد وعدنا بالجواب بعد قليل.»
فقال قراقوش: «لقد أذكرتني أمرا جئت من أجله وشغلتني عنه بحديثك. إن عماد الدين خادم السلطان ارتكب شططا لا أدري إذا علم به السلطان ما يكون قصاصه خصوصا بعد ما علمته من خطبته و...»
فقطع الهكاري كلامه قائلا: «لا تقل خادم السلطان، بل قل صاحبه وحارسه الخاص.»
قال: «ومتى بلغ هذا المنصب؟»
قال: «بلغه أول من أمس على يد الأمير نجم الدين، لله هو من رجل كبير العقل عالي الهمة!»
قال: «صدقت، إن نجم الدين جدير أن يكون والد هذا السلطان. وأين هو عماد الدين؟ أحب أن أراه لأهنئه وأسأله سؤالا.» قال: «خرج من هذه المنظرة في هذا الصباح في مهمة لا يعلم أحد حقيقتها. وماذا تريد أن تسأله؟» فقص قراقوش خبر أمس كما جرى. فأظهر الهكاري ارتيابه في صحة الرواية وأكد له أن عماد الدين قضى طول ليله في الاستعداد للسفر وبرح المنظرة في الفجر. فوقع قراقوش في حيرة وعاد إلى الارتياب في الأمر، خصوصا بعد أن سمع حديث الخطبة. لكنه أراد أن يطلع صلاح الدين على ما سمعه، فاستشار الهكاري في ذلك فقال: «دعه الآن لا تخبره، لئلا يغير ذلك من عزمه على الخطبة، وأنا أحب أن يتم اقترانه لأني ضامن المستقبل بإذن الله.» •••
وفيما هما في ذلك وقد هم قراقوش أن يتكلم، دخل غلام الهكاري وقال: «بالباب رسول من مولانا السلطان .» فقال الفقيه: «يدخل.» فدخل الغلام، ولما رأى قراقوش هناك بانت البغتة في وجهه وقال: «سيدي الأستاذ بهاء الدين هنا؟ كنت ذاهبا إليه أيضا.» فقال الهكاري: «ما وراءك؟»
قال: «إن السلطان يطلب حضوركما في القاعة الآن، وقد أمرني أن أدعو سائر الخاصة، وكنت عازما على الذهاب إلى القصر الكبير لأدعو سيدي الأستاذ فإذا هو هنا.» فقال قراقوش: «إننا ذاهبان، وماذا عسى أن يكون الباعث على هذه الدعوة؟» قال: «لا أدري يا سيدي، ولكنني رأيت نجابا وصل في هذا الصباح قادما من دمشق ومعه رسالة رفعها إلى مولانا السلطان، فما زال منذ تلقاها وهو يقلب فيها وقد تغير وجهه وبان الغضب فيه. ثم شاور مولانا الأمير نجم الدين، والظاهر أنهما اتفقا على عقد جلسة للبحث في أمر مهم.»
فأشار قراقوش إلى الهكاري بيده مستفهما عما يعلمه من هذا الأمر. فأشار إلى الغلام أن ينصرف ومشى مع قراقوش وخاطبه في أثناء الطريق سرا وقال: «إني علمت بأمر هذا الكتاب في الصباح، وقد استقدمني السلطان وأطلعني عليه وعملت عملا ترضاه مني.»
قال: «وما ذلك؟» قال: «إن الكتاب من السلطان نور الدين صاحب دمشق شديد اللهجة جدا.» قال: «وما سبب ذلك؟» قال: «ألا تذكر خروج مولانا السلطان في صفر من هذا العام إلى بلاد الشام لمحاربة الإفرنج، وقد صحبته في هذا السفر، فنازل حصن الشوبك، ثم طلب الكرك وحصره وضيق عليه وعلى من به من الإفرنج حتى طلبوا التسليم والأمان، لكنهم استمهلوه عشرة أيام فأجابهم إلى ذلك. وكان السلطان نور الدين في دمشق فلما بلغه ما فعله صلاح الدين ارتاب في أمره وأنت تعلم ما بينهما من المحاذرة وما في نفس صلاح الدين من الطمع في سلطنة مصر لنفسه.» قال ذلك وضحك فبادره قراقوش قائلا: «لا أظن أحدا أطمعه فيها سواك وقد أحسنت. أكمل.»
فقال الهكاري: «ألا تراه أهلا لها؟ ما لنا ولذاك؟ إن نور الدين لما سمع بما فعله صلاح الدين في الكرك خرج من دمشق قاصدا حرب الإفرنج ليغتنم تضييق صلاح الدين عليهم من جهة ويضيق عليهم هو من جهة أخرى فيذهب ملكهم. وقد رأيت في ذلك خطرا على سلطاننا؛ لأن نور الدين متى أذل الإفرنج وأخضعهم تفرغ للسلطان صلاح الدين وهو وزيره والناس أطوع له منه فتذهب مطامع صلاح الدين في مصر أدراج الرياح، والأفضل أن يبقى نور الدين مشغولا عن صلاح الدين بمحاربة الإفرنج حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.»
فقطع قراقوش حديثه قائلا: «لله درك من داهية! وأحسبك عرضت هذا الرأي على السلطان.»
قال: «عرضه عليه بعض الناس وأشار عليه أن يرجع إلى مصر بحجة ينتحلها ومما ذكروه له أن نور الدين إذا دخل بلاد الإفرنج وهم على هذه الحال وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام معه. وإن جاء نور الدين إلى مصر وصلاح الدين فيها فلا بد له من الاجتماع به، وحينئذ يكون نور الدين المتحكم فيه بما يشاء. إن شاء تركه أو لا، وقد لا يقدر على الامتناع عليه. وقد رجع مولانا السلطان إلى مصر كما تعلم. وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأطال في الاعتذار. ولكن يظهر أن نور الدين لم يصدق هذه الأعذار. فبعث إليه كتابا يهدده فيه إن لم يأت إلى دمشق، فلقيته في هذا الصباح وقد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما، فأسر إلي بسبب غضبه وأنه لم يعد يستطيع صبرا على كتمان غرضه، فخففت عنه واستمهلته، ولا أراه مصغيا، ولا أخال هذه الدعوة إلا لأمر يتعلق بالكتاب.»
وكانا قد وصلا إلى قاعة الاجتماع والحرس ببابها فأزاحوا لهما الستر فدخل الهكاري أولا وتبعه قراقوش، وكانت جلسة حافلة اجتمع فيها نخبة الخاصة من رجال صلاح الدين وأهله، وفي جملتهم أبوه نجم الدين، وخاله شهاب الدين الحارمي، وابن أخيه تقي الدين.
فألقى الهكاري وقراقوش التحية، فرد صلاح الدين عليهما وقال: «مرحبا بالفقيه الحكيم ضياء الدين، وبالبطل الأستاذ قيم القصر بهاء الدين.» وأشار إليهما بيده فجلسا وعينا الهكاري تراعيان صلاح الدين فرآه برغم ما يحاول إظهاره من التؤدة وسعة الصدر وسكون البال قد تجلى الغضب في عينه.
فلما استقر المقام بالجلوس قال صلاح الدين: «يا نخبة الأمراء الأبطال وخيرة الأهل والخلان، إن السلطان نور الدين صاحب دمشق أقلق راحتنا بمراسلاته وهو يطلب إلينا الذهاب إليه. ونحن فيما تعلمون من حرج المقام وما يحدق بنا من الدسائس والمكايد في بلد كل أهله أعداؤنا يترقبون منا غفلة أو ضعفا ليثبوا علينا. فلما اعتذرت له بذلك كتب إلي يهددني أنه حامل بخيله ورجله. وأنتم رجالي وأهلي وما يقال لي كأنه يقال لكم، فلم أشأ أن أقطع في الجواب قبل أن أشاوركم، فماذا ترون؟»
وكان صلاح الدين يتكلم والحضور سكوت كأن على رءوسهم الطير، ولعلك لو استطلعت خفايا سرائرهم لرأيت كلا منهم ينتظر ما يقوله الآخرون ولا يريد أن يكون هو البادئ في الرأي. وعيونهم متجهة بالأكثر إلى الأمير نجم الدين والد صلاح الدين لما يعلمونه من حزمه وعلو همته ودهائه. ولكنه لم يقل شيئا. وظل مطرقا يفكر وقد قعد على وسادة عالية وفي يده هناة كالقلم يداعبها بين أصابعه ولا يخفى اضطرابه على المتفرس فيه.
وكان الهكاري جالسا بجانب قراقوش، وحدثته نفسه أن يتكلم ويقوي عزم صلاح الدين على مقاومة نور الدين، فالتفت إلى قراقوش كأنه يستشيره في الأمر، وهم قراقوش بأن يوافقه على ذلك، فإذا بتقي الدين ابن أخي صلاح الدين قد غلبت عليه حمية الشباب فوقف وقال: «إذا كان عمي السلطان قد جمعنا ليشاورنا في أمر نور الدين، فهو يعلم أننا نتفانى في نصرته. فإذا جاء نور الدين إلى مصر منعناه بحد السيف.»
فبان البشر في وجه صلاح الدين استحسانا لتلك الجرأة وابتسم، فكان لابتسامه تأثير شديد في ضمائر الحضور فجعلوا يتسابقون إلى الموافقة على رأي ذلك الشاب بمثل قوله. وعلا الضجيج ونجم الدين ما زال مطرقا والعيون محدقة به لترى ما يبدو منه، وإذا به أشار بالقلم الذي في يده إشارة استمهال فأصغى الكل وعيونهم إلى شفتيه. فنظر إلى تقي الدين نظرة زجر وتوبيخ ، وأمره أن يقعد، وانتهر من وافقه من الحضور . ثم التفت إلى صلاح الدين وقال: «يا يوسف، أراك تبغي أمرا عظيما أنت أقصر باعا من أن تناله. أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى. والله لو أنني وخالك هذا وقع نظرنا على السلطان نور الدين لم نلبث إلا أن نقتل بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟ إن كل من تراهم عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها. فإن أمر سمعنا وأطعنا. والرأي أن تكتب كتابا مع نجاب تقول فيه: «بلغني أنك تريد الحركة إلى هذه البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك وما هنا من يمتنع.» هذا هو الرأي يا بني ...»
فلما قال نجم الدين ذلك أطرق الحضور وندموا على ما كان منهم. وأما هو فحالما فرغ من كلامه نهض وخرج فنهض الأمراء جميعا وتفرقوا. وفي جملتهم عيسى الهكاري. فإنه قبض على يد قراقوش وخرج به إلى خلوة فقال قراقوش: «ما هذا؟ لا أعهد نجم الدين جبانا ضعيف العزم إلى هذا الحد. والله أوشكت أن أقف لمعارضته.»
فضحك الهكاري وقال: «لقد أخطأت يا أستاذ. ليس بين هؤلاء من هو أقوى قلبا وأجرأ على الأمور منه. ولكنه داهية حكيم، والله إني كنت أقرأ فكره وهو مطرق يسترق النظر إلى الحضور وهم يتكلمون. وقد تبين ما في كلامهم من الحدة فخاف أن يجاريهم بالكلام فيفسد التدبير. وإذا شئت أن تتحقق ذلك فاتبعني فإني أراه داخلا إلى غرفة صلاح الدين وحده.»
فمشى قراقوش في أثره حتى اقتربا من الغرفة فلمحهما نجم الدين فأشار إليهما أن يدخلا فدخلا وأغلقا الباب وراءهما وصلاح الدين يهم أن يعاتب أباه على ما سمعه منه. فالتفت نجم الدين إلى الهكاري وقال: «أنت حكيم وصاحب تدبير. وقد أخبرني يوسف بما كان من تدبيرك مع الأستاذ قراقوش في سبيل مصلحته. لذلك فإني لا أخشى أن أقول رأيي أمامكما.» والتفت إلى صلاح الدين وقال: «بأي عقل فعلت هذا يا يوسف؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا في مقدمة أعدائه، وحينئذ لا تقوى عليه. وأما إذا بلغه قولي وأننا في طاعته تركنا واشتغل بغيرنا ريثما تعمل الأقدار عملها.» ثم وجه كلامه إلى الهكاري وقراقوش وقال: «والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر بمصر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل.» قال ذلك وعيناه تتلألآن.
فهم صلاح الدين بتقبيل يد أبيه وقال: «صدقت يا أبي. قد نطقت بالصواب، وأنا فاعل ذلك بإذن الله. ما أحوجني إلى رأيك وتدبيرك.»
والتفت الهكاري إلى قراقوش ولسان حاله يقول: «ألم أقل لك هذا؟»
فأكب قراقوش على يد نجم الدين فقبلها وقال: «لا حرمنا الله من رأيك يا سيدي.» وقبل أن يفترقوا سمعوا الأذان فذهبوا للصلاة ثم إلى الغداء. •••
أما أبو الحسن فلما عاد بصفقة المغبون ولم يظفر بعماد الدين ولا استطاع إغاظة سيدة الملك، رأى أن يبلغ ذلك إلى الخليفة بأسلوب يمكنه من مرامه. فصبر حتى طلع النهار وهو صباح الاثنين وكان أحد اليومين اللذين يجلس الخليفة فيهما للناس من كل أسبوع، أما اليوم الآخر فكان يوم الخميس. وأجل مقابلة الخليفة إلى اليوم التالي. وقضى ذلك اليوم وهو يدبر الحبائل وينصب المكايد، ثم بكر في الصباح التالي إلى بيت الجليس الشريف وسأله عن الخليفة فقال: «إنه مريض وقد اشتد المرض عليه أمس حتى شغل بالنا.» فابتدره أبو الحسن قائلا: «يظهر أنه انتكس لما بلغه خبر قصر النساء.»
فلم يفهم الجليس مراده فقال: «وماذا جرى؟» وأشار إليه أن يتفضل بالدخول. فأظهر أنه أخطأ بذلك التصريح وأنه يريد الكتمان محافظة على كرامة أخت الخليفة فقال: «لم يجر شيء.» وجعل يبلع ريقه وهو يناول لجام البغلة إلى السائس ويمشي مع الجليس إلى قاعة الاستقبال.
فانطلت الحيلة على الجليس فقال: «كيف لم يجر شيء وقد قلت إنه جرى؟ قل لا تخف علي شيئا، فإني لا أخاطب الخليفة في شأنه إذا أحببت كتمانه عنه.»
قال وهو يقعد ويظهر عدم الاكتراث: «ليس هذا وقت الكلام بما يكدر الخليفة وإنما يهمني أن يشفى من مرضه. ما الذي جد عليه حماه الله من كل سوء؟»
قال: «ما زال منذ أصيب بالحمى يوم ذلك الاجتماع وهو متوعك المزاج. فلما كان صباح أمس - وهو يوم الجلوس للناس - لم يحضر، فسألت عنه فقيل لي إنه قضى يومه في دار النساء، وعلمت بعد الظهر أن الحمى عاودته بشدة.»
فأظهر أبو الحسن الاهتمام الشديد بالأمر وقال وهو ينظر في البساط: «قضى نهار أمس في دار النساء وأصيب بعد الظهر بالحمى؟ فلا بد أن يكون ظني الأول في محله.»
قال: «وما هو؟ قل يا أبا الحسن، فما عهدتك تخفي علي شيئا. قل ماذا جرى في دار النساء؟»
قال: «لا أحب أن يشيع هذا الخبر حفظا لكرامة أهل القصر. علمت أن غريبا دخل ذلك القصر مساء أول البارحة وقضى معظم الليل فيه. ولما علمت بخبره أسرعت إلى قيم القصر قراقوش وطلبت إليه القبض عليه فإذا به قد فر في السراديب. أرأيت؟»
فأطرق الجليس دهشة واستبعد ذلك الخبر؛ لعلمه أنه ما من أحد يستطيع الدخول إلى القصر مع ما حوله من الحراسة. ثم إن أخت الخليفة بعيدة عن مثل هذه الظنون. ولحظ أبو الحسن تردده في تصديق الخبر فبادره قائلا: «أراك مطرقا تفكر كأنما لم تصدق قولي. ولكن لك أن ترتاب، غير أن هذه المرأة التي تزعم أنها لا تريد الزواج فرارا من أبي الحسن إنما هي عالقة القلب بشاب غريب من الأكراد أعدائنا.»
فصاح متعجبا: «من الأكراد؟» فأجاب بهدوء وتألم: «ومن خدم الأكراد!»
فدق الشيخ كفا بكف وقال: «يا للفضيحة! ماذا يكون حال أمير المؤمنين إذا بلغه ذلك الخبر؟ ولكن ...»
فقال أبو الحسن: «ومن يتجاسر على تبليغه هذا الخبر؟ لا ينبغي أن يعلم به، أو لعله علم وكظم فأصابته الحمى ... أتأسف كثيرا لأني اطلعت على هذه الفعلة، ولكن ما العمل؟ لا بد من تدبير حيلة ننقذ بها عرضنا من العار!» فتألم الجليس مما سمعه واعتقد صحته وهو سليم القلب كما علمت، فأوشك أن تدمع عيناه من الغضب فوق ما هو فيه من الكدر على مرض الخليفة. وكان ما زال واقفا فقعد وهو خائر القوى. فأخذ أبو الحسن يتظاهر بالتخفيف عنه. وهو يعد ذهنه لمكيدة يفوز بها بمرامه فقال: «يحق لنا البكاء في هذا اليوم، فلنبك يا عزيزي فلنبك!» وأخذ في البكاء حتى نسي الجليس حزنه واشتغل بالتخفيف عن أبي الحسن فقال له: «لا بد من الصبر يا مولاي، إن البكاء لا ينفعنا شيئا. لا بد من تدبير طريقة.» فأسرع أبو الحسن إلى مسح عينيه وتظاهر بالجد والاهتمام والتفت إلى الجليس وقال: «نعم لا بد من تدبير طريقة، ولكن الأمر أعظم مما يظهر لك يا عماه.» قال: «وهل بقي ما هو أعظم من ذلك؟» قال: «إن الأمر نفسه عظيم كما علمت، ولكنني أفكر في المستقبل وأراقب ما قد تأتي به الأقدار مما لم يكن في الحسبان.» فظل الجليس ساكتا يفكر ولم يجب، حتى قطع أبو الحسن سلسلة أفكاره بالسؤال قائلا: «من هو طبيب مولانا أمير المؤمنين؟»
قال: «طبيبه الشيخ السديد رئيس الأطباء، وهو لا يثق إلا به لسعة علمه وطول اختباره.»
فقال أبو الحسن: «الشيخ السديد؟ هل هو ماهر في صناعة الطب؟»
قال: «كيف لا وقد نال الحظوة عند الأئمة الفاطميين من أيام الآمر، رحمه الله؟! وكان صغير السن وأبوه طبيب قبله ثم ورث هذا المنصب بعده. وما زال يطبب الأئمة - رحمهم الله - إلى الآن وقد أصبح شيخا طاعنا في السن.» فقال: «وماذا يقول عن مرض مولانا، هل سألته؟» قال: «سألته ولكنه لم يجبني جوابا صريحا.» قال: «إني أخاف جواب الأطباء إن لم يكن صريحا؛ لأنهم إذا خافوا على مريضهم الموت جعلوا كلامهم عنه مبهما!»
فأجفل الجليس عند سماع لفظ الموت؛ لأنه كان يحب العاضد وقال: «لا سمح الله يا سيدي، لا سمح الله أن يكون على الإمام العاضد بأس.»
فقال أبو الحسن: «أعوذ بالله أن يخرج من فمي أو يمر بذهني سوء يصيب إمامنا، وأطلب إلى الله إذا كان قد كتب شيء على أمير المؤمنين أن يفديه بروحي. ولكن العاقل من فكر في الأمر قبل وقوعه ولا سيما في الإمامة؛ لأن الإمام قطب تدور عليه أمور الدولة وبه تتعلق القلوب. والإصابة فيه غير الإصابة في آحاد الناس. وهذا معنى قولي لك إن المسألة أعظم مما تتصور. هل فهمت مرادي؟»
فأدرك الجليس أنه يعني لو مات العاضد كيف يكون حال الأمة بعده فقال: «فهمت يا بني، إن الأمر جليل ولكن ...»
فأسرع أبو الحسن وهو يروغ كالثعلب وقال: «كلنا عبيد الموت يا عماه، وعسى أن تكون حياة الإمام العاضد أطول من حياة كل منا. وأضرع إليه تعالى أن لا يميتني إلا في حياته.» ودمعت عيناه فتأثر الجليس وشاركه ذلك الشعور في الظاهر وقال: «ذلك ما نتمناه جميعا خصوصا لأن مولانا - حفظه الله - ليس لنا ملجأ سواه، وقد كابد في إمامته من أولئك الأكراد ما لم يكابده سواه لولا حزمه وتعقله لا أدري كيف كانت حالنا.»
فاعتدل أبو الحسن في مجلسه كأنه فطن لأمر مهم وقال: «هذا ما يدور في خلدي ويجول في خاطري ويحوم حول لساني ولا يطاوعني قلبي عليه. إذا كان هذا حالنا الآن فكيف يكون شأننا لو حدث ما نتمنى موتنا قبله. لو أن في بيت العاضد رجلا حازما يخلفه لكان خيرا، ولكنهم أطفال كما تعلم، وهذا المنصب لا يستطيعه إلا المحنكون نظيرك. كم كنت أود أن يكون لك يد في هذا الأمر.»
فاستعظم الجليس هذا الإطراء وأخذ يتنصل من هذا الحق فقال: «إني عبد خادم لا يقال لي مثل هذا القول، وإنما يطمع في هذا الأمر من كان مثلك يا أبا الحسن.»
فأخذ أبو الحسن يهز رأسه هز الإنكار وقال: «أنا؟ نعم كنت راغبا في هذا المنصب كما علمت، وقد قلت لي إن الإمام رضي أن أكون ولي عهده، وهذا شرف لي لكنني أتردد كثيرا في القبول .»
فقال الجليس: «لا ينبغي أن تتردد؛ فإن في قبولك إنقاذ هذه الدولة.»
فوجد الفرصة قد سنحت ليستشهد الجليس بأن العاضد بايعه بولاية العهد فقال: «وهب أني أردت أن أتفانى وأرضى فهل يصدق القول إن العاضد بايعني؟»
قال: «أنا أشهد بذلك. ألم يكن رضي على الشرط المعدوم؟ وإنما أجل الأمر مؤقتا وقد اعترضته شئون مختلفة.»
فرقص قلب أبي الحسن طربا عند سماع ذلك الوعد فعاد إلى المغالطة وقال: «أنا أعلم أن مثلك إذا شهد فشهادته أوثق من عقد مبرم، ولكن ما لنا ولهذا الآن، أرجو ألا يحدث ما يدعو إلى استشهادك وأن ينهض مولانا الإمام صحيحا معافى ونتمتع برؤيته ونقبل يديه ونصلي وراءه.»
قال: «أرجو ذلك إن شاء الله.»
وفيما هما في ذلك سمعا وقع أقدام مسرعة ودخل غلام عرفا أنه من غلمان القصر فأجفلا فقال الجليس: «ما وراءك؟» قال وصوته يرتجف: «إن مولانا الإمام يحب أن يراك عاجلا.» فقال: «وكيف هو؟» قال: «لا أدري لكنني رأيت الشيخ السديد عنده ومعه أطباء كثيرون!»
فنهض الجليس وهو يقول: «يظهر أن المرض اشتد عليه.» فقال أبو الحسن: «لا بد من ذهابك إليه حالا. ولو كنت أعلم أني أنفعه لسرت معك ولكنني سأسعى بعد قليل للاطمئنان. وأنا ذاهب إلى المسجد لأدعو له بالشفاء.» قال ذلك وخرج وترك الجليس يتأهب للركوب إلى الخليفة. •••
رجع أبو الحسن على بغلته إلى منزله. وخلا في غرفته وأخذ يفكر في حيلة يدبرها لنيل بغيته. وقد تأكد له دنو أجل الخليفة فكيف يمهد الأمر لنفسه وهو يعلم أن شهادة الجليس لا تكفي، وأن القول الفصل لصلاح الدين. إذا أظهر رضاه عن مرشح للخلافة نالها. فانزوى في الغرفة على كرسي وأقفل الباب وجعل يفكر في الطريقة المؤدية إلى غرضه، وبعد أن قضى ساعة لا يحرك رأسه ولا يده وإنما كان يحرك شفتيه وعينيه، وثب من مكانه وصفق فجاء الغلام فقال له: «أسرج البغلة.» فقال: «لا تزال مسرجة يا سيدي.» فركبها وسار قاصدا عيسى الهكاري صديقه. وكان الهكاري في غرفته المعهودة يطالع في بعض كتب الفقه، فلما أنبأه الغلام بمجيء الشريف أبي الحسن خف له واستقبله أحسن استقبال؛ لأنه كان يتوقع أن يحتاج إليه في تدبير بعض الشئون لمصلحة صلاح الدين.
فبدأ أبو الحسن الحديث عن الفقه والتاريخ كأنه يتمم ما دار بينهما عند اجتماعهما في دار العلم فقال: «أراك ما زلت تفتش في الكتب، هل ترى منها نفعا؟» قال: «كيف لا؟ إن مثلك لا يسأل هذا السؤال!»
قال: «صدقت، لكني لا أعني الفائدة الشرعية وصيانة الحقوق، وإنما أعني الفائدة التي يطلبها الناس من أعمالهم، أم أنت مثلي تهتم بالعلم لأجل العلم نفسه؟»
قال: «أطلب العلم لأجل العلم، ولكن العاقل قد يستفيد منه فوائد أخرى.»
فأدرك أبو الحسن أنه يشير إلى ما يتوهم الهكاري أنه استنبطه من مطالعة تاريخ طغرل بك من تلقاء نفسه حتى حرض صلاح الدين على زواج أخت الخليفة. فعمد إلى إطرائه والتغرير به ليتوصل إلى مرامه فقال: «إنك حكيم عاقل، وقد علمت الآن صدق خدمتك للسلطان صلاح الدين. ألم تكن أنت أشرت عليه بخطبة أخت الخليفة؟ لا تنكر ذلك.»
فأراد أن يتواضع ويتنصل من ذلك الفضل فقال: «ليس لي هذه الدالة يا أبا الحسن.»
فقال: «مهما يكن من تنصلك، فأنا أعتقد نفوذ كلمتك. والآن أتعلم لماذا جئتك؟» قال: «لا.» قال: «جئتك لأمر إذا علمت كيف تفهمه وتقوم به خدمت مولاك خدمة حسنة، وإن كان فيه خدمة لصديقك أبي الحسن ولك أيضا.»
فتطاول بعنقه وقال: «رحم الله من نفع واستنفع، قل ما وراءك.»
قال: «أتعلم أن الإمام العاضد في حال الاحتضار الآن؟» قال: «أعلم أنه مريض، فهل اشتد عليه المرض؟»
قال: «إنه في أشد حالات المرض، وإذا مات صارت الخلافة إلى ولي عهده، وأنت تعلم أنه غلام عنيد لا يعرف فضل الرجال.»
قال: «اسمع. إني مطلعك على سر يهمك الاطلاع عليه، إن العاضد مائت الليلة أو غدا. وأنت أكثر أهله معرفة بفضل السلطان صلاح الدين. لا أقول إني أحب أن يتولى هذا الأمر ويخرجه من أيدينا. ولو قلت لك ذلك لا تصدقني، ولكنني أعلم أن مقاومة القوة الغالبة لا تفيد شيئا. وإذا صارت الخلافة إلى ولي العهد الذي تعرفه كان ذلك باعثا على القلاقل. إني أعرف أفكاره وأعلم أنه ينوي أن يثير الشيعة ويحرضهم على مناوأة السلطان ورجاله. وهذا لا يفيد أحدا من الجانبين، ولا أخفي عليك أن العاضد كان معتزما أن يجعل ولاية العهد إلي فأوصى بذلك على يد الجليس الشريف وأوشك أن يكتب العهد لكن المرض منعه. فأخاف إذا توفي في مرضه هذا أن ينكر رجاله وأهله علي ذلك. فإذا أخذتم بيدي وصيرتم هذا الأمر إلي عرفت لكم فضلكم وأغنيتكم عن التعب. أرجو أن تكون قد فهمت مرادي، وأظن ما بيننا من الصداقة القديمة يكفي للوثوق بي والتعويل على قولي.»
وكان الهكاري يسمع كلام أبي الحسن ويفكر فيه. فلما وقف عند هذه العبارة سأله: «ثم ماذا؟» قال: «أعني إذا خاطبت أنت السلطان صلاح الدين في الأمر، وعرضت عليه هذا الرأي كأنه منك فيعرف لك هذا الفضل وأنت رابح من كل وجه. إن ما أعرضه عليك عظيم الأهمية وفيه نفع للسلطان ولك ولي فما قولك؟»
فرأى الهكاري كلام أبي الحسن معقولا. فأدرك أن عمله هذا خيانة لأهل الخليفة، لكنه نظر فيه من حيث مصلحة السلطان؛ لأنهم إذا أعانوا هذا الخائن على تولي الخلافة كان عونا لهم فيما يريدون ويهون عليهم أن يخلعوه فيما بعد إذا شاءوا، فضلا عن أنه يسهل على صلاح الدين التزوج بسيدة الملك على يده فيتم تدبيره. فنظر إلى أبي الحسن نظر متفرس وقال: «أنت مقدم على عمل عظيم فيه نفع كبير لك.» قال: «لا أنكر ذلك ولكنني أخدم مصلحة السلطان صلاح الدين أيضا من كل وجه، وإذا لم تصغ لرأيي تعبتم جميعا؛ لأن المصريين قلوبهم مع خلفائهم كما لا يخفى عليك. أرني مهارتك في إتمام هذا الأمر، واعلم أنك ستكون أقرب المقربين.» قال: «لك علي ذلك. سأبذل ما في وسعي في هذا السبيل ونرى ما يكون.» فتحفز أبو الحسن للنهوض وهو يقول: «أنا ذاهب وسنلتقي غدا ولا حاجة بي إلى تنبيهك لأن يبقى ما قلناه مكتوما عن كل إنسان.»
قال: «لا حاجة إلى التوصية.»
ونهض أبو الحسن وركب بغلته وعاد. وظل الهكاري واقفا برهة يعيد في ذهنه ما سمعه فرأى فيه خيرا كثيرا. فبادر إلى تنفيذه وسار إلى صلاح الدين، فرآه مع أبيه في شرفة تطل على الخليج وقد جلسا هناك للاستراحة فاستأذن عليهما، ولما دخل أمره نجم الدين بالجلوس فجلس وتكاد عيناه تنطقان بما في خاطره، فقال له صلاح الدين: «ما وراءك يا ضياء الدين؟» قال: «جئت مولاي بأمر مهم.» قال: «كل ما تأتي مهم به نافع. إني لا أنسى بلاءك في مصلحتنا. قل.»
فأخذ يقص عليه ما دار بينه وبين أبي الحسن من أوله إلى آخره والاهتمام ظاهر في عينيه، فلما فرغ من كلامه أبرقت عينا صلاح الدين ونظر إلى أبيه كأنه يستشيره في الأمر. وكان نجم الدين يسمع كلام الهكاري ويمحصه ويزنه ويتدبره. فلما رأى صلاح الدين ينظر إليه قال: «إنه رأي جميل لكنه ما زال فطيرا ولا سيما أن العاضد ما زال حيا، فإذا مات نظرنا في الأمر. بارك الله في همتك يا أبا محمد.» وسكت. فعلم الهكاري أنه ينبغي له أن ينصرف ليخلو الأميران ويتباحثا فاستأذن وخرج.
فلما خلا نجم الدين بابنه جعل يتفرس في عينيه كأنه يطلب إليه أن يقول ما في خاطره فقال صلاح الدين: «ما رأي والدي فيما سمعه؟» قال: «إنما أسألك عن رأيك.» قال: «إني أرى فرصة لا ينبغي ضياعها. لا أنكر أنها خيانة من أبي الحسن هذا لكنها تفيدنا. وإذا وليناه الخلافة بأمرنا زاد نفوذنا وكان آلة في يدنا.» فابتسم نجم الدين ابتسامة استخفاف وقال: «إنك يا يوسف رجل حرب ورأي. ولكنك ما زلت في حاجة إلى الدربة والحيلة ... استفدنا من وشاية هذا الرجل أن القوم إذا مات خليفتهم تضعضعوا واختلفوا فيما بينهم، وهي فرصة لقطع تلك الخلافة من جذورها. ولا نبايع هذا ولا غيره، وإنما نقبض على القصور ونحبس أهلها الذكور أصحاب الحق في الخلافة حتى يبيدوا. وقد خطبنا للخليفة العباسي منذ مدة ولا بد من الشدة والحزم فينتهي الأمر. أليس ذلك خيرا من أن نبايع خليفة آخر ونعود إلى التعب من أوله؟» فأعجب صلاح الدين برأي أبيه ورأى الصواب فيه، وخجل لما فاته إدراكه من الأمر، ولم يسعه إلا الإصغاء والإذعان وقال: «بورك فيك يا أبتاه من حكيم حازم.»
فقال: «ولا يكفي ذلك، وإنما يجب أن نتأهب من الآن ونجعل الجند على استعداد للهجوم على القصور حالما يلفظ الخليفة السيئ الحظ نفسه الأخير. وأتقدم إليك أن تكتم ما أقوله لك الآن عن كل واحد حتى يأتي وقته فننفذه. واحذر أن تفعل ما فعلت أمس فتكشف سرك في جلسة علنية. فقد قيل «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».»
فحنى صلاح الدين رأسه إعجابا وطاعة وهم بتقبيل والده اعترافا باقتداره. فاجتذب نجم الدين وقال: «أرجو أن تستفيد من قولي يا بني. إنك ستكون سلطانا عظيما، فاعمد إلى التؤدة والحزم واذكر وصية أبيك.»
أما أبو الحسن فخرج من عند الهكاري وقد امتلأ صدره أملا وتحقق لديه الفوز بالمكيدة وسار توا إلى دار الخليفة وهو يتنسم خبر العاضد في أثناء الطريق. فعلم أنه في أشد حالات المرض فأيقن أنه مائت في ذلك الليل، فأعمل فكرته في الوصول إلى غرضه. وقد توهم فوزه بالخلافة، وبقي القبض على سيدة الملك، فأظهر اهتمامه بمرض الخليفة وسأل عن الجليس الشريف فقيل له إنه في غرفة الخليفة لا يأذن بخروجه والأطباء وقوف بين يديه يبدلون الدواء بالدواء بلا فائدة. فاحتال أبو الحسن في الوصول إلى الشيخ السديد طبيب الخليفة فاستفهمه عن حقيقة حال العاضد فأجابه: «إنه يكاد يكون في حالة الاحتضار.» فبكى وبالغ في البكاء حتى أشفق الطبيب عليه وأخذ يخفف عنه. فخرج توا إلى قصر النساء وقد مالت الشمس إلى الأصيل وطلب أن يرى بهاء الدين قراقوش. فقيل له إنه خرج لمقابلة السلطان صلاح الدين، فجلس أبو الحسن في غرفة الاستقبال بباب القصر ينتظر رجوعه.
وبعد قليل عاد قراقوش وعلى وجهه علامات الاهتمام. وكان أبو الحسن يتوقع أن يسمع منه ترحابا بعد رجوعه من عند صلاح الدين لاعتقاده بأن السلطان لا بد من أن يكون قد خاطبه في أمره بعد ما كان من تدبيره مع الهكاري. فلما رأى بهاء الدين مقبلا على فرسه تصدى له بالباب وهو يبتسم فلم يكترث له قراقوش وأظهر أنه لم يره، فخاطبه أبو الحسن قائلا: «مرحبا بالأستاذ، كيف فارقت السلطان؟»
فالتفت إليه بهاء الدين كأنه رآه لأول مرة وقال: «أنت هنا يا أبا الحسن؟»
قال: «أنا هنا في انتظارك من ساعة، كيف حال مولانا الإمام الآن يا ترى؟» قال بهاء الدين وهو يقعد على مقعد في تلك الغرفة: «إن مرضه شديد، شفاه الله.» ولم يدع أبا الحسن للقعود كالعادة.
فقعد أبو الحسن من تلقاء نفسه. وأخذ يظهر الأسف على حال العاضد ويفرك يديه ويعصر عينيه ويهز رأسه وهو مطرق ثم قال: «هل أنت متأكد أنه شديد المرض؟»
قال: «هكذا قيل لي الساعة، شفاه الله. إنه رضي الخلق.»
فبادر إلى الجواب باهتمام وقال: «صدقت يا أستاذ، إن الإمام كان من أحسن أهلنا خلقا وأطيبهم قلبا ولذلك.» وتنحنح وهز رأسه كأنه يحاول كتمان أمر خطر له ثم التفت إلى قراقوش وقال: «لا بد أنك لاحظت بدقة نظرك يا أستاذ ماذا كان نتيجة طيبة قلبه وتساهله، وإن لم تر رأي العين. أما أنا فقد رأيته. على أن الأمر الآن أعظم مما تعلمه وينبغي لنا ملاقاة الخطر قبل وقوعه. أنا أعلم أنك ساهر متيقظ لا تحتاج إلى تنبيه، لكنني أستمحيك عذرا إذا رأيت في قلقا فإني أضن بسمعة أهلي أن يلحقها ما يشوهها. وقد علمت ما كان بالأمس من أمر ذلك الغريب الذي دخل هذا القصر وخرج منه ولم تتمكن من القبض عليه؛ لأن أهل هذا القصر أرشدوه إلى طريق الفرار. لا أقول ذلك طعنا في أحد لأني أعتقد أن ذلك من عواقب الطيش عن جهل لا عن سوء نية. فسيدة الملك هذا حالها وأخوها حي، فإذا أصابه سوء لا سمح الله كيف يكون حالها؟»
وتنحنح وتوجه بنظره نحو قراقوش وهو يظهر الثقة فيه والاعتماد عليه وقال: «ولا ينبغي لي أن أخفي عليك أمرا أخفيته على سائر الناس ولم يطلع عليه غير صديقي وصديقك ضياء الدين الهكاري. أعني أن الإمام العاضد بايعني بالخلافة بعده، وخطبت أخته هذه وهي لا تعلم بعد. وإنما يعلم الجليس الشريف بذلك، ويعلمه أيضا ضياء الدين، والسلطان صلاح الدين. وكان لي معه حديث طويل في هذا الشأن صباح اليوم، لا أدري إذا كان قد أطلعك عليه.» وصبر ليرى ما يبدو من قراقوش فإذا هو ما زال مصغيا لا يبدي حراكا.
فعاد أبو الحسن إلى إتمام حديثه فقال: «وإذا كان لم يطلعك عليه فلا بد أنه مطلعك قريبا. وإنما جئتك الآن أستعينك في صيانة عرضي وعرض الإمام - شفاه الله - ريثما يستقر الأمر في نصابه ويشرف عليه السلطان صلاح الدين حفظه الله. هذا أمر قد تم الاتفاق عليه بيني وبينه. وإنما أطلب إليك أن تحتفظ بهذا القصر وأنت فاعل ذلك. لكنني أخاف أن يتمكن الأعداء من دخوله سرا فأرى أن تأمر بنقل أخت الخليفة منه إلى قصر آخر ليس فيه سراديب. وأظن دار الضيافة أفضل القصور لهذا الغرض.» قال ذلك وهو يتفرس في عيني بهاء الدين وينتظر رأيه في ذلك.
أما بهاء الدين فأظهر عدم الاهتمام وقال: «لا أرى باعثا على هذا القلق يا أبا الحسن والخليفة ما زال حيا.»
قال: «إنما العاقل من فكر في الأمر قبل وقوعه، أما إذا وقع فلا فائدة من التفكير، اسمع ... اسمع ... أليس هذا صياح النساء في القصر؟ يظهر أن العاضد قد فارق الحياة. مسكين!» وأخذ يفرك كفيه ويبكي.
أما بهاء الدين فحالما سمع الصياح وقف والاهتمام باد في محياه. وأشار إلى بعض الغلمان أن يمضي في مهمته، وأومأ إلى أبي الحسن أن يمكث ريثما يعود وألا يخرج قبل رجوعه. وتحول قراقوش إلى مكان آخر في القصر وقد علا الضجيج، فتحقق أبو الحسن موت الخليفة فأصبح همه القبض على سيدة الملك. وأسف لذهاب قراقوش ولم يعلم سبب ذلك. فقعد في تلك الغرفة وهو مطرق يفكر كأنه على الجمر. فسمع قرقعة اللجم، وصهيل الخيل فأطل من النافذة فرأى فرسانا يسرعون نحو القصر كأنهم يحيطون به من كل ناحية فعجب لذلك. ثم شعر بيد تهز كتفه برعشة فالتفت فإذا بالغلام الذي كان قد اصطنعه وجعله جاسوسا على سيدة الملك في ذلك القصر وقف يرتعد والبغتة ظاهرة في وجهه فصاح به: «جوهر! ما وراءك؟» فقال: «هلم يا سيدي، انج بنفسك.» قال: «إلى أين؟ لا. إني باق حتى أرى هذه اللعينة وآخذها. ألم ترها؟» قال: «انج بنفسك يا سيدي. إن الأمر على غير ما تظن. اخرج من هذه الغرفة قبل أن يتم النطاق حول القصر.» قال ذلك وجره من كمه واغتنم اشتغال الناس بالصياح والارتباك وخرج به من الغرفة. ولم يصدق أنه خارج القصر وهو يلهث من الخوف. فقال أبو الحسن وهو يطاوعه في المسير: «إلى أين أنت ذاهب بي؟»
فأجابه وهو يشير إليه أن يتبعه: «تعال يا سيدي. سأقص عليك الخبر. انج بنفسك.»
وما زالا يمشيان حتى بعدا عن قصور الخلفاء ودخلا بيتا من بيوت العامة لا تقع عليه شبهة. وهو منزل لذلك الغلام كان يختبئ فيه عند الحاجة، فلما دخلا البيت أقفل الغلام الباب وقعد وقد امتقع لونه، وأبو الحسن يستغرب ذلك منه ولا يزال يعتقد أن الغلام مخطئ في توهمه، اعتمادا على ما دار بينه وبين الهكاري.
فلما استقر بهما الجلوس قال أبو الحسن: «قل الآن ما الذي حملك على هذا الفرار؟»
قال: «لو لم أفر بك لكنت الآن في السجن.»
فضحك أبو الحسن بتهكم وقال: «في السجن؟ هه هه، هذا أمر بعيد. ولا ألومك على هذا الخوف؛ لأنك لا تعلم ما دار بيني وبين القوم في هذا الصباح.»
قال: «علمت كل شيء وعلمت أن تدبيرك لم يفلح، وأن قراقوش اللعين لما كنت أنت في انتظاره بالقصر كان هو عند صلاح الدين ذهب إليه بأمر مستعجل، فأمره أن يحيط قصور الخلفاء بالجند. وحالما يموت الخليفة يقبض على كل ما في القصور من النساء والأولاد والرجال والغلمان وكل شيء.»
سمع أبو الحسن هذا القول ولم يصدقه فقال: «كيف عرفت ذلك؟ ومن أطلعك على هذا السر يا جاهل؟ لا يبعد أن يكون صلاح الدين قد أمر هذا الطواشي أن يحتفظ بالقصور وما فيها، وهو إنما أمره بذلك لئلا يتعدى عليها أحد من دعاة الإمامة سواي. ولا ألومك على توهمك؛ لأنك لا تعلم ما تم الاتفاق عليه بيني وبينهم مما سأطلعك عليك في وقت آخر.»
فقال: «قلت لك يا سيدي إني مطلع على كل شيء، وما أنا بجاهل كما تقول، بل أنا عاقل ساهر على مصلحة مولاي الشريف، وقد تحققت أن صلاح الدين أمر طواشيه هذا أن يقبض على من في القصر، وأن يبحث عنك بنوع خاص، وإذا كنت لا تصدق ارجع إلى القصر وانظر ماذا تكون النتيجة.»
فأطرق أبو الحسن وهو يرتعد من الغيظ وأخذ يعبث بلحيته وهو يراجع ما سمعه ويستغربه والغلام ساكت لا يبدي حراكا. ثم التفت أبو الحسن إليه وقال: «يا جوهر، هل أنت واثق مما تقول؟»
قال: «إني واثق تمام الثقة، إن شئت أن تتحقق قولي فاخرج متنكرا وانظر إلى الجند يبحثون عن الشريف أبي الحسن كما يبحثون عن سائر أبناء الخلفاء في قصر النساء. ولا أضمن أنهم لا يكشفون أمرنا ويقبضون علينا ولو تنكرنا.»
فلما تحقق أبو الحسن صدق غلامه وأيقن بفشله حمي غضبه حتى أصبح صدره يرتفع وينخفض وهو يغلي كالمرجل. ونسي موقفه مع غلامه فأخذ يزمجر كالأسد ثم صار يرغي كالثعلب ويتظاهر بالتجلد والتفت إلى الغلام وقال: «ما لنا ولهم، دعنا منهم، لا أعلم السبب في نقمتهم علي أيضا. إني بذلت الجهد في خدمتهم ... من يا ترى سيخلف العاضد على كرسي الإمامة؟»
فقال الغلام: «يظهر أنهم سوف يولون أحدا مكانه؛ لأنهم ينوون القبض على كل من بقي من أصحاب هذا النسب ولذلك خفت عليك.»
فعاد إلى الإطراق وأخذ في تدبير حيلة للانتقام؛ لأن فشله كان مزدوجا، إذ ذهبت آماله في الخلافة وأبعد ما بينه وبين سيدة الملك. لكنه لم يشك أنها ستندم عليه متى أكرهها صلاح الدين على أن تكون له. •••
أما سيدة الملك فتركناها مساء الأمس بعد ذهاب عماد الدين من عندها وقد ذهبت إلى الفراش. ولكن النوم لم يزرها وتراكمت عليها الهواجس. وبكرت في الصباح للاستفهام عن أخيها فقيل لها إنه مريض، لكن الأطباء عنده ولا تقدر أن تراه. فصبرت وهي تتوقع الإذن في رؤيته فلم تستطع ذلك إلا بعد الظهر. فأذن لها وكان أحسن حالا مما تظن فاطمأن خاطرها عليه وجعلت تخفف عنه وتطمئنه. وتذكرت مقاومتها له في ذينك اليومين بشأن خطبتها وتعب ضميرها لئلا يكون لمرضه علاقة بتلك المقاومة فندمت على ذلك.
وبعد قليل أنبئ العاضد بمجيء الطبيب والجليس، فأشار إلى سيدة الملك بالذهاب وطمأنها أنه في خير. فعادت إلى غرفتها وهي في قلق على أخيها. ولم يطمئن خاطرها عليه وأتتها ياقوتة وسألتها فبكت وأغرقت في البكاء برغم إرادتها، فظنت ياقوتة أن الخليفة مات فصاحت صياح الندب فسمعتها سائر الجواري فاقتدين بها فعلت الضوضاء وأبو الحسن عند قراقوش فظنوا الخليفة مات كما تقدم وهو لم يمت.
وكان قراقوش قد استقدمه صلاح الدين في ضحى ذلك اليوم على أثر ما جاءه به الهكاري من أبي الحسن وأنبأه بما علموه عن داخلية القوم وأوصاه أن يكون على حذر وأن يجعل الجند قريبا من القصور، فإذا علم بوفاة العاضد أحاط القصور بالجند وبعث إليه بخبر ذلك. ولا يأذن لأحد من أهلها بالخروج لأية علة كانت. ونبه بنوع خاص إلى أبي الحسن والقبض عليه، فجاء قراقوش فرأى أبا الحسن عنده فاستبقاه حتى يروا ما يكون. فلما سمع الصياح داخل القصر وظن الخليفة مات، خرج لتوجيه الفرسان، وأمر أبا الحسن بالبقاء ريثما يعود. فلما عاد لم يجده هناك فبعث في طلبه فلم يقف على خبره فأسف لنجاته وبث العيون للقبض عليه، وأخذ يهتم بإرسال الخبر إلى صلاح الدين بوفاة العاضد. ثم علم أن الخليفة ما زال على قيد الحياة فسر لأنه لم يتعجل في إرسال خبر الوفاة إلى صلاح الدين لئلا يأتي ويجد الخبر كاذبا فيوبخه. على أنه أبقى الجند حول القصر ليرى ما يكون. فلما دنت الشمس من المغيب جاءه أحد الغلمان يقول: «إن مولانا السلطان قادم بموكبه.» فخف قراقوش للقائه فرآه تحول نحو قصر الذهب حيث يقيم الخليفة، فاستغرب ذلك ومكث في مكانه لا يدري سبب مجيء السلطان في تلك الساعة وإذا بصديقه الهكاري يمشي نحوه فرحب به وسأله عن سبب قدوم السلطان، فقال: «لأن العاضد طلب أن يراه.» فاستغرب قوله وصاح فيه: «الخليفة طلب أن يرى مولانا السلطان.» قال: «وما مكان الغرابة؟» فأجاب: «أنت أدرى مني بمكانها، وسنرى السبب بعد قليل.»
فدخل قراقوش وأدخل الهكاري معه وجلسا ودار بينهما الحديث عن مقاصد صلاح الدين ودهاء نجم الدين ونحو ذلك. •••
علمت سيدة الملك بعد قليل أن بكاءها وبكاء حاضنتها أشاعا خبر وفاة الخليفة فتشاءمت وسكتت. ولكنها انزوت في غرفتها لا تريد أن ترى أحد وقلبها يشتعل قلقا على حياة أخيها فضلا عن متاعبها الأخرى. ولما غربت الشمس انقبضت نفسها وهي في أنواع من الشدة كل منها يقبض النفس ويبعث على القلق. لكن ساعة الغروب زادتها انقباضا وأصبحت شديدة الرغبة في رؤية أخيها. وإذا بالحاضنة أتتها مسرعة وقالت: «إن سيدي أمير المؤمنين يطلب أن يراك.» فأجفلت لكنها فرحت وأسرعت في الذهاب. والتفت بمطرفها وخمارها ومشت في الممر والحاضنة تسير بين يديها، فسمعت ضوضاء ولغطا من جوانب الدهليز ولم يساعدها النور الضعيف على تبين الوجوه، لكنها استأنست بأصوات بعض أهلها فاستفهمت الحاضنة عما سمعته فقالت: «إنك تسمعين أصوات أبناء أخيك وأخوتك.»
فأجفلت وتراجعت. فقالت لها ياقوتة: «ما بالك يا سيدتي؟»
فقالت: «ما الذي جاء بهم إلى هنا؟ ماذا جرى؟ هل من بأس على أخي؟»
قالت: «إنه بعث في استقدامهم كما بعث في استقدامك.»
فمشت وركبتاها ترتعدان وقلبها يخفق تطلعا لما عساه أن يكون من حال أخيها؛ لأنه لا يبعث في طلب أهله إلا وهو في أشد حالات المرض. ولما علم أولاد العاضد بقدومها وسعوا لها واقترب أكبرهم داود ولي العهد من عمته وقبل يدها فقبلته وهي تتماسك عن البكاء تشجيعا له. وصلت إلى باب الغرفة وركبتاها ترتعدان وأذناها مصغيتان لعلها تسمع كلاما تطمئن له فسمعت صوتا استغربته لا تذكر أنها سمعته قبلا. فالتفت بالخمار ووسع لها الحرسي وأزاح الستار عن الباب والغرفة قد أضيئت فيها الشموع فأرسلت نظرة إلى الداخل فرأت أخاها مستلقيا على السرير وعلى وجهه دلائل الضعف الشديد. لكنه لما وقع بصره عليها ابتسم وسبقته العبرات فترامت سيدة الملك عليه ولم تلتفت إلى أحد من الحضور وأخذت تقبله وتقول: «لا بأس عليك يا أخي ويا سيدي، لا بأس عليك.»
فقبلها وهو لم يجب، لكنها أحست بدموعه تتساقط على خدها فتجلدت ونهضت وهي تقول: «لا بأس عليك يا سيدي إنك في عافية والحمد لله.»
والتفتت إلى ما حولها فرأت الجليس الشريف جاثيا بجانب فراش الإمام ورجلا قاعدا على وسادة لم تكد تتفرس فيه حتى ارتعدت فرائصها وتذكرت أنها رأت وجهه في بعض المواقف الرسمية من خلال النوافذ وهو صلاح الدين. فأوشكت أن ترتبك ويظهر الارتباك عليها فتجلدت ولم تشك أن صلاح الدين جاء ليخطبها.
وكان سائر أبناء الخليفة قد دخلوا في أثرها إلى الغرفة، فأشار العاضد إليهم جميعا أن يتقدموا فقبلهم واحدا واحدا وهو يبكي ومنظره يفتت الأكباد. ولم يبق أحد من الحضور إلا بكى حتى صلاح الدين. أما العاضد فأشار إلى أبنائه بالجلوس وأومأ إلى سيدة الملك أن تقعد على فراشه بالقرب منه. فجلست وهي تحاذر أن يظهر وجهها لصلاح الدين.
جلسوا والسكوت مستول على المكان مدة، ثم تكلم العاضد ووجه خطابه إلى سيدة الملك قائلا بصوت ضعيف مضطرب متقطع: «يا أختاه، أنت تعرفين منزلتك عندي، إنك أختي وصديقتي ومرشدتي، كم استشرتك وكم عولت على رأيك! والآن وقد دنت الساعة وشعرت باقتراب الأجل والذهاب إلى حيث ألقى وجه ربي، قد أحببت أن أستوثق من حالك وحال أبنائي بعدي.» وتوقف عن الكلام ريثما يستريح والجميع مطرقون ثم قال : «وقد علمت بالاختبار أن ليس فيمن حولي من رجالي أو أهلي من أثق فيه وأعول عليه في شأنكم، وأنت تعلمين ما كان في خاطري على السلطان يوسف صلاح الدين (وأشار بيده نحوه)، وقد طالما شكوت لك من معاملته، أعترف لك وأنا في آخر ساعة من ساعات الدنيا وأول ساعة من ساعات الآخرة، أعترف أني شكوت من معاملته، لكنني لا أجد الآن من أثق فيه بقوله وأتحقق أنه فاعل ما يقوله سواه؛ لأني محاط بأقوام قوالين غير فعالين، يتنافسون في تملقي ويتسابقون إلى ابتزاز أموالي ونيل المراتب بالحيل والدسائس. فبعثت إلى السلطان وكلفته مشقة الحضور لأوصيه بكم خيرا.» وأشار بأنامله أن يمهلوه ريثما يستريح وسكت وهو يلهث.
فأطرقوا وهم يمسكون أنفاسهم ويكتمون ما يتردد في آماقهم من الدمع لا يلتفت أحدهم إلى الآخر تهيبا من منظر الخليفة وتطلعا لما سيقول. ثم عاد العاضد إلى الكلام ووجه خطابه إلى صلاح الدين قائلا: «هذه يا صديقي أختي سيدة الملك التي بعثت تخطبها. وهؤلاء أبنائي وكبيرهم داود هذا. إني تارك أمرهم إليك خوفا من أن يصيبهم مكروه بعدي، وأشهد عليك الله أن تأخذ بناصرهم ... فهل تعدني أنك فاعل ما أقول؟»
فلما سمعت سيدة الملك ذكر الخطبة في أثناء كلام أخيها اختلج قلبها خوفا ويأسا لئلا تكون إذا مات أخوها رهينة أمر صلاح الدين ولا سيما بعد هذه الوصية. ثم سمعت صلاح الدين يجيب أخاها قائلا: «أنت يا أمير المؤمنين في خير وعافية بإذن الله، ولا بأس عليك يدعو إلى الاهتمام بالتوصية، فإنك مبل من هذا المرض قريبا إن شاء الله، أما وقد ذكرت أمر الوصاية فاعلم يا سيدي أن الخادم (يعني نفسه) قائم بما أوصيت به، وليكن المولى - أعزه الله - على ثقة من هذا الوعد أن أهلك هؤلاء لا يصيبهم سوء ما دمت في قيد الحياة، ولك علي عهد الله بذلك.»
فلم تجد سيدة الملك ذكرا لها في هذا الجواب فأيقنت أنها واقعة فيما تتخوفه فعظم عليها الأمر فضلا عما هي فيه من القلق على حياة أخيها فأخذت بالبكاء رغم إرادتها. وأرادت الخروج تخفيفا عن أخيها، فمد يده وقبض على يدها ليجلسها فأحست بارتعاش يده، فاقشعر بدنها وقعدت وهي تنظر إليه، فرأته ينظر إلى صلاح الدين وعيناه تلمعان والدمع يغشاهما. وكأنه أراد الكلام فامتنع عليه، فأشار بإصبعه إلى أخته. ففهم صلاح الدين أنه يوصيه بها فأجابه قائلا: «كن مطمئنا على سيدة الملك، إنها أختك ونعم الأخت هي، لكنها أيضا أختي بعهد الله وكفى.»
فلما سمعت تصريحه بأنها أخته سري عنها، ورغم ما هي فيه من اليأس والحزن أوشكت أن تبتسم لاعتقادها أن صلاح الدين لم يدعها أخته إلا وقد عدل عن التزوج بها، وهو غاية ما تريده. ولا سيما وقد ضمن حمايتها فأصبحت في مأمن من تعدي أبي الحسن أو غيره. ولم يكد يطمئن خاطرها من هذا الوجه وقد شغلت عن الخطر الملم بأخيها حتى أخذ يسعل وينتفض في فراشه من شدة الرعشة. وهي نوبة عصبية توالت عليه في ذينك اليومين. فنهض الجليس وأسرع يدعو الطبيب الشيخ السديد من غرفة أخرى. فدخل الطبيب وأشار إلى الحضور أن ينصرفوا من المكان ليعالج المريض بما يراه فنهضوا جميعا. ومشى أولا صلاح الدين مشية الأسد وسيدة الملك تراقبه وأحست من تلك الساعة أنها تحبه حب الإعجاب، وهي من طبعها تعجب برجال المروءة والنجدة، وهو ما بعثها على حب عماد الدين كما علمت. فأحست بارتياح لصلاح الدين واطمأنت إلى رؤيته. ثم أومأ إلى الجليس أن تنصرف إلى قصرها وكذلك سائر الحضور من أهلها.
فانصرفوا وتزودت سيدة الملك بنظرة من أخيها وخرجت وقلبها مطمئن وقد نسيت حزنها على حاله أو شغلت عنه. وكانت حاضنتها تنتظرها في الممر وتتوقع أن تراها باكية خصوصا لما علمته بوجود صلاح الدين هناك، فأخذت تتأهب للتخفيف عنها. فإذا هي مشرقة الوجه رغم ما يجول في عينيها من الدمع ورغم ما ظهر في أجفانها من الذبول، فقبضت على يدها ومشت معها فعلمت من خطواتها وحركاتها أنها فرحة. وما حققت أنها وصلت إلى قصرها ودخلت غرفتها حتى ابتدرتها قائلة: «كيف سيدي أمير المؤمنين؟ أرجو أن يكون في صحة.»
فقالت وهي تنزع الخمار عن رأسها: «إنه في غاية الضعف وقد داهمته الآن نوبة شديدة أوجبت أمر الطبيب بإخراجنا من عنده ليعالجه، وكان قبلها ضعيفا يقطع الكلام تقطيعا.»
فقالت: «شفاه الله، من كان عنده وأنت هناك؟» قالت ذلك وهي تراقب ما يظهر منها.
قالت: «كان هناك السلطان صلاح الدين الشهم.» وسكتت. فقالت ياقوتة: «لماذا سكت وكيف عرفت أنه شهم؟ يظهر أنك رفضته قبلا لأنك لم تكوني تعرفينه جيدا، أما الآن عند المشاهدة فقد تبين لك أنه يستحق حبك.» وأظهرت المداعبة ثم قالت: «لكنني لم أعلم سبب حضوره عند أمير المؤمنين في هذا اليوم لعله جاء لإتمام طلبه وعقد الخطبة؟»
قالت ذلك وهي تساعدها في نزع المطرف عن كتفيها.
قالت سيدة الملك وهي تنظر في المرآة لتتحقق حال وجهها: «إن أخي بعث إليه.»
قالت: «أمير المؤمنين بعث إليه؟ ولماذا؟»
فتذكرت الخطر على حياة أخيها فانقبضت نفسها وقالت: «بعث إليه ليوصيه بنا خيرا.»
فبغتت ياقوتة من هذه المفاجأة وقالت: «يوصيه بكم خيرا؟! من تعنين؟»
قالت: «أعني أنا وأبناء أخي وأخوتي؛ لأن أخي - شفاه الله - أيقن أنه لا ينقه من هذا المرض، واعترف بأنه لا يجد من رجاله من يثق به ليوصيه بنا غير صلاح الدين، فبعث إليه وإلينا وأوصاه بنا.»
فعادت ياقوتة إلى المداعبة لتشغل سيدتها عن الحزن وقالت: «طبعا إن صلاح الدين وافق أمير المؤمنين على طلبه؛ لأنه مطالب بهذه الخدمة بواجب المصاهرة.» وابتسمت وعيناها تراعيان عيني سيدة الملك لترى ما تدلان عليه.
فابتسمت سيدة الملك والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «بل هو قال إنه يفعل ذلك بحكم الأخوة وليس المصاهرة.»
فاستغربت هذا التعبير وقالت: «بحكم الأخوة؟ وأي أخوة يا سيدتي؟»
قالت: «لما أوصاه أخي بي فلكي يؤكد له العمل بوصيته قال له: «كن مطمئنا على سيدة الملك، إنها أختك وهي أيضا أختي بعهد الله وكفى».»
فلم تتمالك ياقوتة عند ذلك من ضم سيدة الملك إلى صدرها وأخذت تقبلها وتقول: «إن مصيبتنا بمرض سيدي أمير المؤمنين كبيرة ، وإذا أصابه سوء - لا سمح الله - فإن المصيبة تكون أعظم كثيرا. ولكن في ظلمات هذه المصائب المدلهمة نورا قد أنار قلبي وأخرجني من ديجور اليأس؛ لأن أكبر هم لي كان من جهتك إنما كان هو طلب صلاح الدين خطبتك وأنت لا تريدينه؛ لأنك عالقة القلب بعماد الدين. وأنا أعلم سلطة صلاح الدين وأنه إذا أراد أمرا لا يقدر أحد على رده، وقد قلت الآن إنه تخلى عن الخطبة وتعهد بحمايتك كأنك أخته. فاطمئني يا سيدتي ولا يهمك سعي الساعين أو وشاية الواشين.»
فعلمت سيدة الملك أنها تعني أبا الحسن، فأجابتها بعينيها وكل جوارحها موافقة على قولها، لكنها انتبهت فجأة إلى حال أخيها فعادت إلى الانقباض ودقت كفيها وقالت: «ويلاه! إن أخي في حال اليأس من الحياة. ماذا أعمل؟ كيف يصير أمرنا إذا مات؟» وغصت بريقها وعادت إلى البكاء وأخذت ياقوتة تخفف عنها.
قضت معظم ذلك الليل في قلق، ولم تفق إلا صباحا على أصوات النعاة. ولم يقع خبر موت أخيها وقعا غريبا عندها لكن وقعه كان شديدا. ولم يمض إلا يسير حتى تعالى الصياح في القصور واجتمع الوزراء ورجال الدولة والكتاب وغيرهم، وغص قصر الذهب وسائر القصور بالناس. وأراد أهل الخليفة إقامة مأتم يليق بالخلفاء، وهم رجال الدولة أن يبايعوا لداود ولي العهد، وإذا بالقصور قد أحاط بها رجال صلاح الدين. ثم جاء بهاء الدين قراقوش إلى الجليس الشريف وقال له: «إن السلطان يتقدم إليكم أن تجعلوا المأتم مختصرا خوفا من وقوع القلاقل، ومن مات فقد مات ولا يجدي الصياح والعويل نفعا.»
فلم يسع القوم إلا الإصغاء والطاعة خصوصا بعد ما شاهدوا من استقدام الخليفة لصلاح الدين بالأمس وإن لم يعلموا تفصيل ما دار بينهما، وإنما دلهم استقدامه على رفيع منزلته عنده، ومهما يكن من الأمر فالقوة غالبة وجند صلاح الدين قابض على المدينة بيد من حديد. فأذعن إلى أمره.
الفصل السابع
آخرة الفاطميين
أما سيدة الملك فبلغها العزم على منع أهل ذلك القصر من الخروج، ورأت الجند محدقا به من كل ناحية فاكتفت بالبكاء وهي في غرفتها، فندبت أخاها وبكته والحاضنة بين يديها تبكي معها.
وإنهما لفي ذلك إذ سمعتا دبدبة عند باب القصر، فخافت سيدة الملك ونهضت ياقوتة وهي تقول: «لا تخافي يا سيدتي بعد أن سماك صلاح الدين أخته.» ولم تصل إلى باب الغرفة حتى سمعت قارعا يقرعه بلطف فسري عنها، وفتحته فرأت قراقوش واقفا باحترام وهو يقول: «هل مولاتنا سيدة الملك هنا؟»
قالت: «نعم، ماذا تريد منها؟ إنها في أشد حالات الحزن.»
قال: «أريد أن أعزيها وأطمئنها وأطلب إليها بألا تهتم بما تراه من دخول بعض الناس إلى هذا القصر أو خروجهم منه، وأحب أن أسألها في شيء.»
فصاحت سيدة الملك من الداخل: «تفضل يا أستاذ، ماذا تريد؟»
فدخل قراقوش وهو ينظر إليها نظرة الاستعطاف، فالتفتت إليه وقالت: «ما وراءك الآن؟ ماذا تريد؟ ها إن أمير المؤمنين قد مات، فليسكن روعك وروع أصحابك.» وغصت بريقها.
فجثا قراقوش بين يديها قائلا: «إن موت أمير المؤمنين قد ساءني يا سيدتي، لكنه جرى بقضاء الله ولا مرد لقضائه. وإنما جئت الآن لأخبرك أن مولاي السلطان أمرني أن أقبض على ما في هذه القصور من الأموال وعلى من في هذا القصر من النساء، وهن كثيرات كما تعلمين. وإنما أستثني منهن سيدتي أخت أمير المؤمنين ومن شاءت أن يصحبها من أهل هذا القصر من غير أهلها و...»
فقطعت كلامه قائلة: «وماذا صنعتم بأهلي، وأين هم؟»
قال: «لا بأس عليهم؛ لأن المولى الراحل - رحمه الله - قد أوصى السلطان بهم خيرا، وهو عازم على نقلهم من هذا القصر إلى قصر آخر يكونون فيه تحت رعايته، لا بأس عليهم خصوصا مولاتي سيدة الملك، فمن تريدين أن يخرج معك من الأتباع، وماذا تريدين من الأثاث والآنية أو غير ذلك؟»
فأطرقت وقد كبر عليها الخروج من ذلك القصر. ومع اطمئنانها بما ستناله من الرعاية عند صلاح الدين لم تتمالك عن النفور من هذا الأمر وقالت: «تخرجوننا من قصورنا ؟! وماذا تفعلون بمن فيها من النساء والرجال والأطفال فإنهم يعدون بالآلاف.»
قال: «يا سيدتي، إن مولاي صلاح الدين سيعمل بما لا يمس كرامة أحد. فمن كانت من الجواري ذات بعل أطلقها مع بعلها، ومن كانت حرة ولا بعل لها أطلق سراحها. وأما الجواري غير الحرائر فيهبهن لبعض رجاله. أما أهل الخليفة فإنهم سيقيمون نساء ورجالا في غاية الإكرام والحفاوة تحت عنايته، ويفرق فيهم الأعطية والألبسة والأقوات بحيث لا ينقصهم شيء كأنهم في قصورهم في حياة الخليفة - رحمه الله - ولا سيما سيدتي، فإنها ستنال كل رعاية هي ومن معها.»
فقطعت كلامه قائلة: «وماذا تفعلون بولي العهد داوود؟ ألم يبايعوه؟»
فبلع ريقه وقال: «لا أظنهم يبايعون أحدا، فإن السلطان نور الدين مولانا الأكبر قد أمر أن نبايع للمستضيء بالله العباسي، حتى لا يكون على الأرض خليفتان. على أني لا أرى الخلافة إلا تعبا لصاحبها وخطرا عليه ولا فائدة منها ... أستميح سيدتي عذرا في اختصار الحديث؛ لأني مضطر للاشتغال بتنفيذ أوامر مولاي السلطان بالاستيلاء على ما في هذه القصور كما قلت لك. فأخبريني ما الذي تريدين أن أحتفظ به.» قال ذلك ونهض وأظهر أنه يريد الخروج فقالت: «أريد أن تصحبك هذه الحاضنة وهي تخبرك بما أريد أن آخذه من الأثاث والثياب.» وحولت وجهها عنه.
فأتمت ياقوتة كلامها قائلة: «دعوا هذه الغرفة والتي إلى جانبها لا يمسهما أحد، وأنا أهيئ فيهما ما يجب نقله ... بارك الله فيك يا أستاذ.»
فتحول قراقوش وخرج، فلما خلت ياقوتة بسيدة الملك قالت لها: «الحمد لله أن صلاح الدين قائم بوعده. رأيتك تدققين في السؤال وتستغربين عدم المبايعة لسيدي داود ... احمدي الله أنهم لم يستخدموا السيف في فناء من بقي من أهل الخلافة كما فعل غيرهم في مثل هذه الحال. ألم يأمر أبو العباس السفاح بقتل كل من بقي من بني أمية حتى لا يبقى واحد منهم يطالب بالخلافة؟ فلو أمر صلاح الدين مثل هذا الأمر من يقدر على رده؟ أم تظنين المغرور أبا الحسن يرده، لعنة الله عليه .»
فلما سمعت ذكر أبي الحسن أحست براحة؛ لأنها نجت من حبائله في ظل صلاح الدين ونشطت للخروج فقالت: «أعدي ما نحتاج إليه من أثمن المتاع وأخفه.» قالت ذلك وتنهدت. فأخذت ياقوتة تهتم بذلك. وكان يومهم هذا من أعظم أيام الشدة؛ لأنهم في يوم الانتقال من دولة إلى دولة. •••
أما قراقوش فإنه قبض على من في تلك القصور من النساء وعرضهن على صلاح الدين، فوجد أكثرهن من الحرائر فأطلقهن. وجمع الباقيات فوهبهن الحرية وفرقهن في رجاله وأخلى تلك القصور من الناس. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه والخواص من مماليكه وأوليائه من الذخائر وغيرها. وأخذوا من الجواهر والمصوغات ما لا يحصره وصف. ونكتفي هنا بنقل عبارة مؤرخ الدولتين في كتاب الروضتين قال: «وأخلى دوره (دور العاضد) وأغلق قصوره، وسلط جنوده على الموجود، وأبطل الوزن والعد عن الموزون والمعدود. وأخذ كل ما صلح له ولأهله وأمرائه ولخواص مماليكه وأوليائه من أخائر الذخائر وزواهر الجواهر ونفائس الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدرة اليتيمة والياقوتة العالية الغالية القيمة، والمصوغات التبرية والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعقود والتمائم والنقود، والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت، والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير، والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش، وما لا يعد إحصاء ولا يحد استقصاء، فوقع فيها الفناء وكشف عنها الغطاء وأسرف فيها العطاء، وأطلق البيع بعد ذلك في كل حدث وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغال، وكل منقول ومحمول ومصوغ ومعمول، واستمر البيع فيها عشر سنين، وتنقلت في البلاد بأيدي المسافرين والواردين والصادرين.»
أما أهل الخليفة فنقلهم صلاح الدين إلى دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه. واختص سيدة الملك بالإكرام والحفاوة.
وكانت مصر إلى ذلك اليوم خلافة مستقلة يدعى على منابرها لخليفتها الشيعي العاضد لدين الله. فأمر صلاح الدين أن تتحول الخطبة للمستضيء بالله الخليفة العباسي كما كان نور الدين قد طلب منه على يد أبيه نجم الدين. وكان قد اعتذر له في التأجيل خوف الفتنة والواقع أنه أجلها ليستعين بذلك على نور الدين إذا أراد أن يأخذ مصر منه بالقوة. فيأخذ هو جانب لعاضد ويتقوى به وبالمصريين على دفع عسكر الشام. فلما تأكد ضعف العاضد وتحقق اشتغال نور الدين عن مناهضته عزم على إقامة الخطبة العباسية مظهرا بها الطاعة لنور الدين. فلم يجسر أحد من العلماء أن يبدأ بذلك إلا رجل أعجمي اسمه الأمير العالم تصدى للخطبة. فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر ودعا للمستضيء العباسي فوافقه الناس ولم يظهروا معارضة، فكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر. وكان هذا في أثناء اشتداد المرض على العاضد وتوفي ولم يعلم به. فأصبحت مصر بذلك تابعة لبغداد من حيث الخلافة من سنة 567ه، ومنعوا أبناء العاضد وسائر الرجال من أهله عن الزواج حتى لا يعقبوا نسلا يطالب بالخلافة.
أما سيدة الملك فلما رأت نفسها في قصرها الجديد في دار برجوان أكبرت ذلك الانتقال. ولما بلغها تحول الدعوة للعباسيين تحققت ذهاب دولة العلويين فشق ذلك عليها كثيرا، علاوة على وفاة أخيها. وقضت أياما وهي منزوية في غرفة من قصرها لا تكلم أحدا إلا ياقوتة تتردد إليها لتخفف عنها، ومهما يكن من مشاغلها المتقدم ذكرها فإن أمرها مع عماد الدين كان غالبا عليها. وقد فارقته في تلك الليلة المهولة وهي بين الشك واليقين من أمره. وكانت وهي في إبان أحزانها تود أن تفاتحها ياقوتة بحديثه لعلها تسمع ما يقوي أملها بلقائه، وياقوتة لا تفعل ليس عن تهيب ولكنها كانت ترى اشتغال سيدتها بحب ذلك الشاب من قبيل العبث وتود أن تنساه وتتحول عنه، فلا ترى من الحكمة أن تفاتحها بذكره أو أن تجعل ذكره من أسباب اطمئنانها وراحتها.
على أنها كانت قد استأذنت صلاح الدين في الخروج للتنزه في البساتين، ولم يكن يؤذن لسواها بذلك من أهل الخليفة، ولكن صلاح الدين كان كثير العناية بسيدة الملك والاحترام لإرادتها قياما بعهده لأخيها. وكان ذلك من أكبر أسباب تعزيتها على مصائبها. على أنه اشتغل عنها مدة بالحروب في الشام وتوفي في أثناء ذلك أبوه (سنة 568ه.) وحدثت أمور أخرى شغلته عنها، لكنه كان يوصي بهاء الدين قراقوش بها.
مضت مدة لم تسمع فيها شيئا عن عماد الدين، ولا هي تعرف مقره ولا مصيره. ولا ترى بابا للسؤال أو البحث، فضاق صدرها واستولى عليها القنوط وتغلبت عليها السويداء وأصبحت لا تفرح بنزهة ولا ترتاح إلى حديث. وقل طعامها وتكاثر أرقها، فأخذت في الهزال وياقوتة تبذل جهدها في تسليتها، وكلما رأت ضعفها وانقباضها تحيرت في أمرها. وكانت تظن طول غياب عماد الدين ينسيها إياه، ولما لم تعد تسمعها تذكره ظنتها نسيته، لكنها ما لبثت أن أدركت خطأها ذات ليلة وهي نائمة في غرفة مستطرقة إلى غرفتها؛ إذ أفاقت على صوت سيدة الملك وهي تناديها: «ياقوتة ياقوتة!»
فوثبت من فراشها إلى فراش سيدتها فرأتها قد قعدت على السرير وشعرها منفوش وتغيرت سحنتها فترامت عليها وصاحت: «مولاتي حبيبتي ماذا تريدين؟»
فقالت: «عماد الدين، عماد الدين! أين هو؟ سمعتهم ينادونه.»
فقالت: «أين هو يا سيدتي؟ إنه ليس هنا، إنك ترين حلما. ألا تعلمين أنه مسافر؟»
فأزاحت شعرها عن جبينها وتفرست فيما حولها وعيناها تدلان على اضطرابها وارتيابها وقالت: «إنه مسافر؟ آه ما أطول السفر! إني سمعت اسمه في الحلم، يا ليتني ظللت نائمة لعلي أسمع ذكره مرة ثانية أو ربما تراءى لي طيفه.» قالت ذلك وأغرقت في البكاء.
فأكبت ياقوتة عليها وأخذت تخفف عنها وتقول: «لماذا تفعلين ذلك يا سيدتي؟ ماذا أصابك؟ أين تعقلك وحكمتك؟»
فاجتذبت نفسها من بين ذراعيها وهي تقول: «لا تذكري التعقل والحكمة. لا محل لهما مع الحب يا ياقوتة ... يا لله ماذا جرى لي؟ ويلاه لم أعد أخشى التصريح بما في قلبي، لكنني حبسته زمانا حتى كاد يقتلني، تدبري الأمر وأسعفيني، آه يا عماد الدين.» وعادت إلى البكاء.
فجثت ياقوتة بين يديها وقالت: «هوني عليك يا مولاتي واتكلي علي. لماذا لم تفاتحيني بهذا الأمر من قبل؟»
قالت: «وما الفائدة من الكلام؟ ها إني قد كلمتك، أخبريني أين عماد الدين؟ ما العمل للوصول إليه؟ ألم تعلمي مقره؟ ألم تسألي أحدا عنه؟ قولي .»
قالت وهي تمسح دموع سيدتها بمنديلها: «نعم سألت عنه وقد علمت من الأستاذ بهاء الدين قراقوش أنه سار بمهمة سرية إذا نجح فيها صار رجلا عظيما يليق بسيدة الملك، وهذا أمر ذو بال يا سيدتي؛ لأن بنت الخليفة وأخت الخليفة لا يليق بها أن تتزوج بواحد من عامة الناس و... و...»
فقطعت كلامها قائلة: «لا تقولي خليفة ولا عامة، إنني أسيرة في هذا القصر وهو طليق، وقلبي أسير أيضا ولا أدري إذا كان قلبه كذلك.» وشرقت بدموعها.
فأخذت ياقوتة تضمها وتمسح دموعها وتقبلها وتقول: «خففي عنك يا سيدتي، وارجعي إلى رشدك. اصبري. لنرى ماذا نعمل.»
قالت: «ماذا نعمل قد طال غيابه، ولا أدري ما أصابه.»
قالت: «لم يصبه شيء، ولا بد من عودته ظافرا ويصير من كبار الرجال. وإذا علم صلاح الدين بميلك إليه زاده رفعة وتقدما، يظهر أنك نسيت هذه النعمة. نسيت التفات صلاح الدين إليك ومعاملته إياك معاملة الأخ لأخته.»
قالت: «كلا، لم أنس ذلك، ولولاه لقضيت حزنا وكآبة ... ولكن ما الذي أسمعني اسم عماد الدين في هذه الليلة؟»
قالت: «لعل ذلك فاتحة القرب، تمهلي إلى الغد لنرى ما يكون.»
وأشارت إليها أن تعود إلى الرقاد فأطاعتها ونامت وانصرفت ياقوتة إلى غرفتها وهي تفكر في سيدتها وقد ندمت لسكوتها عن ذكر عماد الدين كل هذه المدة، على أنها اعتقدت أن سيدتها لم تسمع اسم عماد الدين عبثا، وأنه لا بد من شيء يحدث بشأنه.
وقد تحقق ظنها في صباح اليوم التالي؛ إذ جاءها قراقوش يقول: «إن السلطان صلاح الدين قادم بعد قليل لمقابلة سيدة الملك.»
فبغتت لكنها توسمت في تلك المقابلة خيرا - وصاحب اليأس يتوسم في كل جديد فرجا - فقالت: «هل يطلب مولانا السلطان أن يقابل سيدتي ويخاطبها؟ إنه يفعل حسنا لأنها منقبضة النفس وهي تستأنس برؤيته، أنا ذاهبة لأخبرها بقدومه.» ومضت إليها. •••
وكانت سيدة الملك قد نهضت من الفراش وهمت أن تستدعي ياقوتة، فلما دخلت عليها قرأت البشر في محياها فخفق قلبها وقالت: «ما وراءك؟»
فقالت وهي تبتسم: «لعل الفرج قريب ... إن السلطان صلاح الدين آت لمشاهدتك.»
قالت: «هو طلب ذلك من تلقاء نفسه؟» وتوردت وجنتاها من البغتة.
قالت: «نعم يا سيدتي، فلعل عنده خبرا يسرك. قومي والبسي ثيابك.»
فنهضت وساعدتها ياقوتة في اللبس فارتدت ثوبا بسيطا وأصلحت شعرها وخمارها، وخرجت إلى قاعة الاستقبال وركبتاها ترتعشان من التأثر.
وبعد قليل سمعت وقع خطوات في الدار وإذا ببهاء الدين قراقوش قد دخل وهو يقول: «إن مولانا السلطان قادم.»
فتهيأت سيدة الملك لملاقاته. ثم دخل صلاح الدين وهو يتلطف في إلقاء التحية، فهمت بالنهوض له، فأشار إليها أن تقعد وهو يبتسم وقال: «اجلسي يا أختي، قد أبطأت في زيارتك هذه المرة لغيابي عن مصر، كيف أنت؟ أرجو أن تكوني في خير.»
فلما سمعته يناديها بالأخوة انبسطت نفسها وقالت: «طالما كنت مشمولة برضاء السلطان صلاح الدين فأنا في خير، والحمد لله.»
قعد صلاح الدين على وسادة بين يديها وهو يشير إلى قراقوش أن يقعد. وظلت ياقوتة واقفة. فقال صلاح الدين يخاطب سيدة الملك: «أرجو أن تكوني حائزة أسباب الراحة في هذا القصر.»
قالت: «نعم إني من نعم السلطان لا ينقصني شيء من أسباب الراحة؛ لأن الأستاذ بهاء الدين لا يدخر وسعا في هذا السبيل ... ويكفيني من أسباب السعادة أن يدعوني السلطان صلاح الدين أخته.»
قال: «فإذا كنت راضية عن هذه الأخوة لم يبق باعث لوضع هذا النقاب على محياك.» وضحك.
فأزاحت النقاب عن وجهها وقالت: «نعم صدقت.» وأطرق حياء.
فرأى صلاح الدين الضعف في وجهها فقال: «أراك منحرفة المزاج يا سيدة الملك، هل تشكين من شيء؟»
فسكتت وظلت مطرقة، فالتفت إلى ياقوتة، فعلمت أنه يستفهمها عن سبب ذلك النحول فقالت: «إنها لا تشكو ألما ولكنها منحرفة المزاج قليلا.»
قال: «لا بأس عليك يا أختي. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بهذه الزيارة ... وإنما حملني عليك حب مصلحتك. ولكي أسألك عن أمر لا أحب أن يطلع عليه سواك وأظنك أعلم الناس به.»
فتطلعت إلى معرفة ما يقوله وقالت: «إني رهينة ما تريد يا سيدي.» وشخصت في وجهه لترى ما يريده.
فالتفت يمينا وشمالا كأنه يتحقق خلو المكان من الغرباء وقال: «أنت تعلمين أن أخاك - رحمه الله - أوصاني بك وبسائر أهلك خيرا، وأظنني قمت بواجب الوصية.» فأشارت بعينيها ورأسها أن «نعم.» فقال: «وأظنني لم أقصر أيضا في توخي كل وسيلة لإسعاد حال هذه البلاد من كل وجه، فرفعت كثيرا من المظالم التي كانت في عهد الدولة الماضية، وقد أتاها الذين كانوا محيطين بالمرحوم أخيك. وكنت أظن هذا كافيا لإجماع أولئك القوم على الطاعة.» وسكت.
فقالت: «أظنهم مجمعين؛ لأن مولانا السلطان لم يدخر وسعا في تخفيف الضرائب وإجراء العدل.» قال: «وكان في إمكاني لما تحولت هذه الدولة إلى يدي أن أقتل كل من كان من الأمراء والوزراء على رأي الدولة الماضية لكنني لم أفعل ذلك رغبة في أن يعرفوا لنا هذا الفضل.»
فاستغربت قوله وتوسمت من ورائه شيئا جديدا، وأشارت بعينيها كأنها تستفهم عما حدث فقال: «ولكنني علمت أن هؤلاء الأمراء والأعيان يتآمرون علينا.» فرفعت بصرها وقالت: «يتآمرون على السلطان؟» قال: «نعم، ولو تآمروا فيما بينهم فقط لهان شرهم، لكنهم يستعينون علينا بالأعداء. إنهم يخابرون أعداءنا الإفرنج في ساحل الشام وصقلية، يحرضونهم على مناوأتنا ليتاح لهم القيام علينا أو تخرج هذه البلاد من أيدينا.» قال ذلك وقد بان الغضب في غنة صوته.
فأجفلت وقالت: «يتواطئون مع الإفرنج على سلطانهم؟ يا لها من خيانة!» وأطرقت لحظة ثم قالت: «هل وثق سيدي من هذا الخبر؟»
قال: «إني واثق تمام الثقة مما أقول؛ لأن خبرهم جاءني من رجل أثق به وثوقي بنفسي. قبحهم الله! إذا كانوا يعدون خروج الدولة من الخلافة العبيدية إلى العباسية شرا وكلتاهما إسلاميتان فكيف بانتقالها إلى الإفرنج وهم أعداؤنا الألداء مذهبا ووطنا؟ فبدلا من أن نتعاون على صيانة بلادنا منهم ندلهم على عوراتنا ونحرضهم على فتح بلادنا. هل رأيت أضعف رأيا من هؤلاء؟ ألا يحل قتل الساعين في ذلك؟» قال هذا وقد ارتفع صوته وأبرقت عيناه برغم ما حاوله من تلطيف غضبه بين يدي سيدة الملك وقد عبث بعثنونه وأخذ يحكه.
أما هي فإنها شاركته في الغضب وأحست بنوع من الخجل؛ لأن الذين قاموا بتلك المؤامرة من رجال أخيها فقالت: «نعم، إنها خيانة عظيمة، ولكنني أستغرب وقوع مثل هذا العمل من قوم عقلاء ... فربما كان الساعون فيه من بعض العامة الجهلاء.»
قال: «إنهم من أكبر الأمراء الأعيان، وفيهم رجل يزعم أنه من سلالة العبيد بين أقربائكم. ولم نوفق إلى القبض عليه مع من كان في القصر منكم، وحسبناه اكتفى بالنجاة من القتل واختفى، لكنه الآن من أكبر المحرضين على الخيانة، أظنك عرفته ... ولولا دخوله في هذا الأمر لم أتعبك في شرح هذه الواقعة. وإنما أردت الاستعانة بك في استطلاع حاله لعلك تعرفين عنه شيئا؛ لأنه أقرب المقربين لأخيك - رحمه الله - حتى إنه كان طامعا في ولاية العهد بعده، أظنك عرفته.»
فعلمت سيدة الملك أنه يعني أبا الحسن فامتقع لونها غضبا وقالت: «نعم عرفته، أظنك تعني ذلك الشريف الكاذب، إنه يدعي النسب فينا وليس هو منا، ألا تعني أبا الحسن؟»
قال: «إياه أعني، إنه من أكبر المنافقين الخائنين؛ لأنه جاءنا والمرحوم العاضد على فراش الموت وتوسل إلينا في نقل ولاية العهد إليه على أن يكون عونا لنا في كل شيء فلم نوافقه. فانقلب إلى دس الدسائس ونصب الحبائل، فأطاعه جماعة من المارقين، وسينال كل منهم جزاءه، وإنما ألتمس منك أن ترشدينا عما تعلميه من مكان أبي الحسن.» قال ذلك وهو يتلطف في السؤال بخفض صوته.
فظلت ساكتة وقد تمنت أن يكون ما يقوله صلاح الدين صحيحا ليقع أبو الحسن في شر أعماله وتتخلص منه، وأحبت أن تتحقق صحة تلك الدعوة فقالت: «نعم أعرف نقص هذا الرجل وسوء خلقه ومطامعه وسأبحث عن مكانه، ولكنني أرجو أن يكون سيدي على ثقة في الخبر، وإذا شاء أن يزيدني بيانا فإنه يعينني على البحث.»
قال: «إن هذا الخبر تلقيته من عدة مصادر، فشككت فيه حتى أتاني بشأنه كتاب من رجل لا أشك في صدقه، كتب الكتاب بخطه وقد وصل إلي في فجر أمس سرا مع وفد أرسله الإفرنج الموالون لأولئك الخائنين بحجة أنهم يحملون إلي هدية من بعض ملوكهم، وهم إنما يحتالون في مقابلة تلك العصابة ليتموا المكيدة، وهذا هو الكتاب إذا طالعته أغناني عن زيادة الإيضاح.» قال ذلك ومد يده إلى جيبه واستخرج لفافة دفعها إلى قراقوش ليقرأها.
ففتحها بهاء الدين وأخذ يقرأ:
أكتب هذا الكتاب إلى مولاي السلطان وأنا في أعماق السجن في بيت المقدس. ولا يسعني الوقت لتفصيل سبب سعيي؛ فإن الكلام فيه يطول وإنما أسرعت إلى كتابته لأنقل إلى مولاي خبرا مهما عرفته من ثقة، وأخاف إذا تأخر وصوله أن ينتهي بما أكره وقوعه، علمت بعد خروجي من مصر بموت العاضد وانتقال الدولة إلى مولاي السلطان، وسمعت وأنا في السجن أن بعض رجال تلك الدولة يجتمعون سرا في الفسطاط يتآمرون على إخراج هذا الأمر من حوزته. وقد خابروا الإفرنج في هذه الديار أن يهاجموا مصر بجند كثيف يجمعونه من هنا ومن صقلية، وأن أهل مصر يكونون معهم على جندكم. وأن أولئك المؤتمرين يرأسهم رجل من العلويين اسمه أبو الحسن، وهو الذي أغرى الناقمين على هذه الدولة فوافقوه واستنجدوا الإفرنج. وقد وافقهم الإفرنج وأخذوا يتأهبون لهذه الحملة، لكنهم هيئوا جماعة بصورة وفد يحمل هدية إلى السلطان صلاح الدين من ملك الإفرنج وهم في الحقيقة يريدون الاجتماع بتلك العصابة وإتمام المؤامرة. وقد وفقني الله بواسطة صديق لي هنا أن أطلع على ذلك، وأن أرسل هذه الرسالة مع حامل هذا الكتاب، وهو بحسب الظاهر من جملة خدم الوفد أو هو دليلهم في الطريق، فدفعت إليه هذا الكتاب، فإذا وصل إليكم فادفعوا إلى حامله مائة دينار وأكرموه. أما أنا فما زلت هنا وسأبقى حتى يتاح لي الخروج للقيام بالمهمة التي وقفت حياتي للقيام بها في خدمة مولاي السلطان، وأنا ظافر بها بإذن الله، فإما أن أعود إليكم فائزا منصورا أو أموت في هذا السبيل فداء لمولاي؛ لأن حياتي وحياة كل رجاله مبذولة في خدمته.
كانت سيدة الملك تسمع الكتاب ونفسها تحدثها في أثناء ذلك أن الكتاب يتعلق بعماد الدين. فلما سمعت قوله في الفقرة الأخيرة يذكر المهمة التي انتدب لها خفق قلبها وتبادر إلى ذهنها أن يكون هذا الكتاب من عماد الدين نفسه، خصوصا لأنه يقول إنه برح مصر قبل وفاة أخيها، فبدت البغتة في وجهها وتسارعت دقات قلبها ولم تتمالك عند الفراغ من تلاوة الكتاب أن قالت: «هل يأمر السلطان أن أعرف من هو صاحب هذا الكتاب؟»
قال: «ينبغي لنا حفظ اسمه، لكنني نظرا إلى ما بدا لي من غيرتك وصدق لهجتك لا أرى مانعا من ذكره، إنه شاب جمع بين المروءة والحماسة وصدق المودة، كنا أنفذناه لأمر هام لا يجسر عليه سواه، لا أظنك تعرفينه.» ووقع نظر صلاح الدين وهو يتكلم على نظر بهاء الدين قراقوش فقرأ في وجهه شيئا يستدعي التوقف عن التصريح، لكنه لم يدرك السبب ولا استطاع التوقف بعد أن وعد بالتصريح، ونظر إلى سيدة الملك فرآها متطاولة بعنقها وعيناها شاخصتان إلى شفتيه تكادان تحتلبان الكلام من فيه احتلابا فقال: «إن صاحب هذه الرسالة اسمه عماد الدين.»
لم يكد يلفظ باسمه حتى صاحت سيدة الملك: «عماد الدين؟» وأغمي عليها!
فدهش السلطان ونهض وأسرعت ياقوتة إلى الماء وأخذت ترش سيدتها به وتفرك يديها، واقترب بهاء الدين من صلاح الدين فأصغى إليه فقال له: «كنت أشرت إلى مولاي ألا يذكر هذا الاسم.»
فقال: «وما الذين يعنيها من أمره؟ هل تعرف شيئا عن ذلك؟»
فقال همسا في أذنه: «عرفت شيئا منه قبل سفره، لكن ضياء الدين الهكاري منعني من إبلاغه لمولاي مخافة أن يفسد سعيه يومئذ في خطبة هذه السيدة.» وضحك.
فقال صلاح الدين: «وما هي علاقتها به؟ يظهر أنها تحبه.»
فأومأ إليه أن يتبعه إلى غرفة أخرى ريثما تفرغ ياقوتة من معالجة سيدتها، فتبعه فلما خلا به قص عليه ما كان من أمر عماد الدين ليلة مجيئه إلى القصر في السرداب، وكيف وشى به أبو الحسن ولم يتمكنوا من القبض عليه إلى آخر الحديث .
فوقف صلاح الدين يفكر فيما اتفق وقوعه في تلك الجلسة، وقد سر لاطلاعه على ذلك السر؛ لأنه يحب عماد الدين ويريد إكرام سيدة الملك. وشكر الله لأنه لم يوفق إلى خطبتها، فقال لبهاء الدين: «لقد سرني اطلاعي على ذلك، فيجب علينا أن نسعى في جمع شمل هذين المحبين، والحمد لله أن سعي أبي الحسن لم يتكلل بالنجاح.»
فقال قراقوش: «ويمكننا أن نتخذ سعينا في مصلحتها وسيلة إلى سعيها في مساعدتنا على كشف تلك المؤامرة؛ لأنها من أقدر الناس على ذلك فإذا أخلصت الخدمة في هذا السبيل ساعدناها على مرامها.»
فضحك صلاح الدين وقال: «لله درك يا بهاء الدين! إنك لا تنظر في خير لأحد إن لم يعد جانب منه عليك، أحسنت.»
قال: «إنما يهمني القيام بخدمة مولاي، أعزه الله.»
ثم تحول صلاح الدين نحو باب القاعة وسأل عن سيدة الملك، فقيل له إنها أفاقت، فدخل فرآها جالسة على وسادة وقد أطرقت خجلا، وبان التعب في محياها وذبلت عيناها، فتقدم نحوها وقال: «قد علمت أمرك، وسرني ما علمته من علاقة حبيبنا عماد الدين بك، واعلمي أني باذل أقصى جهد في تقصير مدة غيابه، ولا يكون إلا ما تريدين، وقد أوصيت صديقي بهاء الدين أن ينظر فيما كنا فيه، أستودعك الله.»
فوقفت لوداعه والخجل غالب عليها ولم تجب بلسانها، لكن عينيها أدتا واجب الشكر، على أنها لم تستطع السكوت عما يخالج فؤادها من الخوف على عماد الدين فقالت وصوتها يرتجف: «ولكنه في أعماق السجن يا مولاي.»
قال: «إنه سيأتي بإذن الله، وإذا ظل في السجن فإننا نفتح بيت المقدس لنخرجه منه، وإن في فتحه تعزيزا لدولة الإسلام. لا تخافي.» وابتسم ومشى مشية الأسد وهي تشيعه ببصرها وتزداد إعجابا بعلو همته، وكبر نفسه، ورأت انتقال السيادة إليه وذهاب دولة أخيها أمرا طبيعيا لا بد من وقوعه لما كانت تعلمه من ضعف نفوس رجال أخيها وفساد آرائهم وتنازعهم على التافه من الأمور شأن الدولة في أواخر عمرها.
وبعد خروج صلاح الدين تقدم بهاء الدين إليها فقال: «سأعود إليك بعد قليل ريثما ترتاحين كوني مطمئنة.» وضحك. •••
لم يبق هناك إلا سيدة الملك وياقوتة. ووجهها مشرق: «الحمد لله صدق ظني ونلت ما كنت أريده.»
فتنهدت سيدة الملك وقالت: «ما الذي نلناه وقد تبين لي من نص ذلك الكتاب أن عماد الدين في أعماق السجن عند الإفرنج وأنه مصمم على مهمة يظهر أنها غاية في الخطر، وأنه إذا لم يفز بها ظل هناك أو ...» وغصت بريقها.
فقالت: «ألا يكفي يا مولاتي أننا علمنا بوجوده حيا؟ وأن صلاح الدين عون لك في الوصول إليه؟ وسيقتص من ذلك الخائن؟ هيا بنا إلى الطعام واتكلي على الله.»
فنهضت وقد سري عنها وتناولت طعامها وحديثهما في أثناء ذلك عن المؤامرة وأبي الحسن. وبعد الطعام أتى قراقوش - وهو يدخل المكان بلا استئذان - وقال: «يا سيدة الملك، أهنئك برضا السلطان صلاح الدين فإنه أوصاني بك خيرا ... إنما ينبغي لنا أن نكشف عن مكان المؤامرة، فهل تعرفين عنه شيئا؟»
فأطرقت تفكر ثم قالت: «أنى لي ذلك وأنا لا أعرف شارعا من شوارع هذا البلد؛ لأني قضيت عمري محبوسة في القصور.»
فتصدت ياقوتة للكلام وقالت: «إن كشف هذا المخبأ علي.»
فقال قراقوش: «أين هو؟»
قالت: «لا أعلم، ولكني أرجو البلوغ إلى خبره ... ألا تعرف الغلام جوهر؟»
قال: «أعرفه ... ألم يكن من غلمان القصر؟»
قال: «نعم. وهو جاسوس ذلك الخائن، كان يحمل إليه أخبارنا ويطلعه على أسرارنا.»
قال: «وما الفائدة من معرفته إذا كان هذا شأنه وهو خائن لنا؟»
قالت: «إن الخائن لا يثبت في الأمانة لأحد. كان في الأمس عينا لأبي الحسن علينا، وهو الآن سيكون عينا لنا عليه.»
قال: «أين هو؟» قالت: «هو في هذا القصر، وقد أخبرني بعض الغلمان أنه غاضب على أبي الحسن؛ لأنه أساء معاملته ولم يبق له فيه وطر بعد خروج مولاتي من ذلك القصر ودخولها في حياطة مولانا السلطان. فنفر منه وجاء يتزلف إلينا ... هل أستقدمه إليك الآن؟» قال : «افعلي.»
فأمرت أحد الغلمان أن يستقدمه، وعادت فرأت سيدتها قد أبرقت عيناها من السرور وقالت لها: «بورك فيك يا ياقوتة، إنك ساحرة.»
قالت: «لا بد أن يعود كيد الخائن إلى نحره.» ثم جاء جوهر وعيناه ترقصان في وجهه من الاضطراب. وكذلك بصر المنافق لا يستقر في مكانه.
فنظر إليه قراقوش نظر المتفرس وقال له: «يا جوهر، بلغنا أن أبا الحسن خدعك حينا حين أخرجك عن طاعة مولاتنا ... لكني سرني أنك رجعت إلى الصواب وعلمت أنك لا تنال خيرا إلا بصدق الخدمة في مصلحة مولاتنا سيدة الملك ومولانا السلطان ...»
فأكب جوهر على يد بهاء الدين يقبلها ويتظاهر بالندم والإخلاص وقال: «يعلم الله أني كنت مغشوشا، فإن ذلك الرجل خدعني وأوهمني أنه يد الإمام المرحوم ويفعل ما يشاء. ثم علمت أنه يريد به شرا وأنا قد ربيت في خدمة مولاي، فلا يليق بي أن أغدر به. فلما تحققت سوء قصد أبي الحسن تركته لأني أكره الخيانة. ولا سيما لمن أحسن إلي وأنا صنيعته وعبده.» فقال قراقوش وهو يظهر أنه صدقه: «بارك الله فيك ... واعلم أني حسن الظن بك وسأزيد في عطائك ولا أسألك عما مضى. وإنما أطلب إليك أمرا واحدا هو هين عليك وفيه انتقام لك من ذلك الخائن، فهل تطيعني؟» فلم يصدق جوهر أنه نال هذه الرعاية بعد خياناته الماضية فقال: «إني رهين الإشارة يا سيدي.» قال: «أطلب منك أن تخبرني عن المكان الذي يجتمع فيه أبو الحسن وأقرانه، هل تعرف أين هو؟»
قال: «ذلك هين يا سيدي ... نعم أعرفه وأعرف الذين يجتمعون معه - قبحهم الله - كنت عازما أن أطلعكم على ذلك، وإن لم تسألوني عنه فإنه فرض علينا، وكان يمنعني الخجل من خطئي الماضي.»
فربت على ظهره وضحك وقال: «عافاك الله، هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «هو في الفسطاط يا سيدي.»
قال: «الآن تحققت صدقك؛ لأني كنت عالما أنه هناك. فأنا واضع ثقتي فيك من هذه الساعة. وأنت تعلم أن ثقتي هي ثقة مولانا السلطان، ولا يخفى عليك ما يستفيده صاحب هذه الثقة. أصلح ما أفسدته يا جوهر، وقد أوصتني مولاتنا سيدة الملك خيرا بك وأخبرتني كم كنت مخلصا في خدمتها قبلا. ولكن ذلك الخائن أغراك بهذه الخيانة. مضى ما مضى تعال معي.» قال ذلك وتحول وتبعه جوهر. وقد بادر إلى العمل قبل أن يحدث ما يغير عزم ذلك الغلام المتقلب. وصمم ألا يفارقه قبل الوصول إلى المطلوب. على أنه تذكر أمرا أحب أن يقوله لسيدة الملك قبل الذهاب، فرجع إليها وقال: «ينبغي لك يا سيدتي أن تتكلي علي في كل ما يخطر لك، ولا بد أنك تذكرين اطلاعي على مجيء عماد الدين إلى قصرك، وأحمد الله على أنه نجا سالما.» فاغتنمت تقربه إليها وتلطفه في طمأنتها وقالت: «أما وأنت معي وقد رأيت السلطان راضيا عني فإني أتقدم إليك أن تزيدني بيانا عن حال عماد الدين.» قال: «لا أعرف عن حاله الآن غير ما في كتابه الذي تلوته عليك الساعة.» قالت: «أعني هل عليه خطر هناك؟ ومتى تظنه يعود؟»
قال: «لا أعلم متى يعود، أما الخطر فلا أخافه عليه لعلمي بشجاعته وتعقله، ولا بد من الاتكال على الله ... كوني مطمئنة في كل حال.» قال ذلك ومشى.
فهرع جوهر في أثره وقد سره ما يؤمله من الفوز بالمكافأة، لا يهمه ما يترتب على عمله من قتل النفوس وخراب البيوت. إن أمثال هذا الخائن ينقصهم الشعور الحي الذي يسمونه الضمير. فهم ينظرون في الأعمال من حيث ما يعود عليهم من النفع ولا يشعرون بغير ذلك. والدنيا عندهم لها وجهان: وجه منفعتهم، وهو ما ينبغي بقاؤه، وأما الوجه الآخر فهو كالعدة في نظرهم، فلا يبالون أن يمحى من الوجود أو يساق أصحابه إلى المجازر. وقد يسرهم ما يرونه في الآخرين من الأذى وإن لم ينالوا هم منه خيرا لأنفسهم. فكيف إذا كان لهم منه نفع. نعوذ بالله من هؤلاء. لكنهم بحمد الله قليلون ولو كانوا كثارا لخربت الدنيا من عهد بعيد. •••
مشى قراقوش وجوهر في خدمته، وكان جوهر مملوكا حبشيا وفيه ذكاء ، لكنه لم يكن له ضمير كما علمت، فالتفت قراقوش إليه في أثناء الطريق وقال: «يا جوهر ما العمل الآن؟» قال: «الأمر لمولاي.» قال: «أنا متكل عليك في الوصول إلى الغرض، أريد أن أطلع على مجتمع القوم وأسمع حديثهم، هل يتيسر ذلك الليلة؟»
قال: «نعم يا سيدي، نذهب بعد الغروب إذا شئت.» قال: «إلى أين؟» قال: «إلى الفسطاط؛ لأن القوم يجتمعون في بيت هناك أعرفه، ولا يمكن أن يهتدي إليه سواي، في دار خربة لا يتوصل إليها إلا من أزقة ضيقة مظلمة، ولا بد من التنكر.»
قال: «وماذا ترى أن نفعل؟» قال: «أرى أن يتنكر مولاي الأستاذ بلباس طبيب نصراني وأنا أكون في خدمته أحمل له جراب العقاقير وأقود بغلته.»
قال: «هذا هين.»
وصلا بعد هنيهة إلى منزل قراقوش فدخلا، وأمر قراقوش ألا يدخل البيت أحد من الناس ولو أنه السلطان صلاح الدين نفسه. وأمر جوهر أن يعد ما يلزم للتنكر وسأله عن محل الاجتماع أين موقعه في الفسطاط فقال: «قرب جامع عمرو.» وعين النقطة، فتركه يهيئ ما يلزم، وأخذ في إعداد فرقة من الجند تسبقه لتتربص في خان قرب ذلك المجتمع، ودبر وسيلة للإحاطة بالمنزل عند ابتداء الإشارة.
أعد كل شيء قبل الغروب، ولم تغب الشمس حتى كان قراقوش قد تزيى بزي أطباء النصارى، والزنار على وسطه والعمامة على رأسه وأعدت له البغلة. ومشى جوهر في ركابه، ولا يشك من يراهما أنهما الطبيب وغلامه.
برحا القاهرة عند الغروب وقطعا المسافة بينها وبين الفسطاط بسرعة، ثم أطل قراقوش على الفسطاط من مرتفع فرأى آثار الحريق ما زالت ظاهرة فيها، وقد خربت أكثر أبنيتها بأمر شاور منذ بضع سنين (سنة 564ه)؛ إذ خاف شاور الوزير من وصول الصليبيين إليها واستيلائهم عليها فأمر أهلها بالخروج منها إلى القاهرة، وألقى النار فيها وأمر بنهبها. فانتقلوا ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم. وظل الحريق عاملا فيها 54 يوما، فاختلطت الأزقة حتى اشتبهت على المارة. ولولا جوهر ومعرفته الشوارع جيدا لاستحال على قراقوش الوصول إلى المكان المطلوب . ولكن ذلك الحبشي كان يقود البغلة ويتخطى الخرائب كأنه ماش في داره. ودليله الأظهر مئذنة جامع عمرو، فإنها كانت بارزة في الفسطاط دون سواها.
لم يتجاوزا جامع عمرو حتى خيم الغسق وأظلمت الدنيا وقل الناس في الشوارع. والمتأمل في الفسطاط يجد فرقا كبيرا بينها وبين القاهرة؛ فإن هذه أكثر عمارة وسكانا وأضخم خانات وأعظم آثارا. سكن الأمراء فيها؛ لأنها خاصة برجال الدولة، وأما الفسطاط فإنها مقر الباعة والصناع ويكثر فيها السوقة والملاحون لقربها من النيل، وقد زادها الحريق حقارة.
ولما توسط قراقوش المدينة ورأى نفسه منفردا هناك مع جوهر خطر له أن ذلك الحبشي ربما ينوي الغدر به وهو خائن لا يركن إليه، فالتفت نحوه وقال: «أين نحن يا جوهر، يظهر أننا قد بعدنا عن المكان المطلوب الذي ذكرته وتجاوزنا جامع عمرو؟»
قال: «ثق يا مولاي أنني ذاهب بك إلى المكان المطلوب، وقد تجاوزناه الآن حقيقة كما قلت، ولكنني أريد أن تشرف عليه من منزل آخر بابه في شارع آخر. ألا تريد أن ترى القوم مجتمعين وتسمع ما يدور بينهم؟»
قال: «بلى، ولكن تمهل قليلا.» قال ذلك وتفرس فيما يجاوره فعلم أنه على مقربة من الخان الذي أوصى الجند أن يتربصوا فيه فقال: «أخبرني يا جوهر أين هو البيت الذي يجتمعون فيه؟ دلني عليه بإصبعك من هنا.» فأشار هذا بإصبعه قائلا: «ألا ترى هذا النور المعلق على تلك السارية.» قال: «رأيته.» قال: «أترى وراءه بيتا خربا؟ إنهم يجتمعون في داخله.»
فتحول قراقوش ببغلته إلى الخان فلقيه قائد الفرقة بالباب فأوصاه أن يفرق جنده حول ذلك البيت من كل ناحية بحيث لا يشعر به أحد، ولا يظهر أحد من رجاله في الطريق، ثم قال: «إذا رأيتم مصباحا يتحرك فوق أحد هذه الأسطح حركة رحوية فاهجموا على هذا البيت من كل ناحية واقبضوا على من فيه.» وعاد فأدار شكيمة بغلته وجوهر يقودها حتى دخل الزقاق المطلوب ووصل إلى باب فدقه وقراقوش لا يزال على البغلة، ففتحت خوخته وأطل رأس الشيخ قد تدلى سالفاه على خديه وقال: «من الطارق؟»
فتقدم جوهر وقال: «الطبيب سمعان ، افتح.»
قال: «وماذا يريد الطبيب منا؟ ليس عندنا أحد مريض.»
قال: «لم يأت للتطبيب لكنه يريد المبيت هنا، وهو من أهل القاهرة، وقد جاء للسفر في النيل فوجد السفينة التي يريد السفر عليها قد أقلعت، فأراد المبيت في الفسطاط إلى الصباح حتى يبكر إلى الشاطئ ويركب سواها. افتح يا عماه.»
قال: «لماذا لم يذهب إلى الخان، إنه قريب من هذا المكان.»
قال: «لا يريد المبيت في الخان، وهو لم يتعود ذلك، وأنا أتيت به إلى هنا خدمة لك.» وهمس في أذنه قائلا: «يظهر أنك لم تعرفني يا معلم حاييم.»
فتفرس فيه الشيخ وقال: «عرفتك يا جوهر، عفوا إذ لم أعرفك من قبل.»
قال: «لا بأس، وأنا جئت بهذا الطبيب ليبيت هنا، وهو كريم الخلق كثير المال لا يبالي كم تأخذون منه. الأحسن أن تخلو له البيت برمته واطلبوا عن كل حجرة منه دينارا، وإذا قال لكم إنه يحتاج إلى حجرة واحدة فقط، قل له إنك لا ترضى إلا بتأجير البيت برمته.» ففرح حاييم بهذا الرأي، ولم يكن في بيته كله ما يساوي إلا دينارين من الأثاث. فلما قال له جوهر ذلك رفع صوته وقال: «لا نقدر أن ندخل رجلا غريبا يبيت معنا، فإذا شاء الطبيب أن نؤجره البيت من بابه فعلنا.»
فقال جوهر: «أجرته؟» قال: «إن فيه خمس غرف، وأجرته خمسة دنانير.»
فتظاهر جوهر أنه يخادع قراقوش بالمساومة وقال: «إن خمسة دنانير كثيرة يا معلم حاييم. ألا تكفي أربعة؟» وضغط على إصبعه ألا يقبل.
فأجاب: «كلا، إذا لم يعجبكم فهذا الخان قريب من هنا.»
فأظهر أنه رضي وقال: «لا بأس، إن مولانا الطبيب كريم. وأنتم أين تنامون؟»
قال: «ليس عندي إلا امرأتي العجوز، فنبيت عند صهرنا وهو قريب من هنا.»
فتحول جوهر إلى قراقوش وقبض منه الدنانير ودفعها إلى الشيخ وهو يقول له همسا: «هذه هي الدنانير، لكن ينبغي أن تختصني منها بدينار تدفعه إلي غدا صباحا، فهمت؟»
قال : «حسنا.» وكان ينوي ألا يدفع إليه شيئا، بل اعتزم أن ينتحل حجة في الصباح يقبض بها دينارا سادسا فيدعي أنهم أضاعوا شيئا من الأثاث أو نحو ذلك.
ثم تحول الشيخ إلى الداخل وعاد بعد قليل والمصباح بيده ومعه امرأته وهي تقول: «يظهر أن هذا الضيف عزيز عليك حتى أخرجتني من البيت لأجله.»
فقال: «كيف لا؟» وأشار إلى بهاء الدين أن يتفضل. فتحول بهاء الدين عن بغلته فأدخلها جوهر تحت قنطرة بجوار المنزل شدها إلى حلقة دقت هناك لمثل هذه الغاية. ودخل ودفع حاييم المصباح إلى جوهر وانصرف وهو يوصيه بالبيت خيرا. •••
دخل قراقوش البيت مع جوهر غير مبال بما يتصاعد من ممراته من الروائح القذرة، ثم أقفلا الباب وأوصداه، ومشى جوهر بالمصباح بين يدي قراقوش وهما يسترقان الخطى لئلا يسمع لهما صوت. ولم يمشيا طويلا حتى سمعا ضوضاء عميقة فقال جوهر: «نحن بجانب مجلس القوم ليس بننا وبينهم إلا الحائط. اصبر قليلا.»
وكان قراقوش منذ خروجه من منزله يتحفز للدفاع عن نفسه ويده على خنجره ليغمده في صدر جوهر إذا آنس منه خيانة، فلم يلحظ منه شيئا، فلما استهله وقف وهو يحدق فيه فإذا هو يشير إليه أن يصعد على سلم ضيق يؤدي إلى سقيفة أعلى الغرفة. فصعد معه، ومن هناك اتصلا إلى السطح من باب ضيق. ورأيا السماء فوق رأسيهما ونظر بهاء الدين إلى ما يحيط بهما فإذا هما والأسطح حولهما. فقال جوهر بصوت ضعيف: «لنترك المصباح على السقيفة ونمشي في الظلام لئلا يفتضح أمرنا.»
فأطاعه ومشى والضوضاء تزداد وضوحا حتى انتهى به إلى حائط فقال: «هذا حائط آخر من حوائط قاعة الاجتماع.»
فرأى بهاء الدين في أعلى الحائط كوة قد انبثق النور منها، فتقدم نحوها فسبقه جوهر وقال: «انظر هنا.»
فنظر فرأى قاعة غاصة بالناس قعودا على وسائد مصفوفة في الغرفة فوق بساط. وقد علت الضوضاء ووقف بالباب رجل أسنده بظهره كأنه يمنع من شاء الدخول، فهمس في أذن بهاء الدين قائلا: «هل ترى جيدا؟» قال: «نعم، لكنني لم أعرف أحدا منهم غير أبي الحسن، من هذا الجالس إلى جانبه؟» قال: «إن الذي تراه إلى يمينه عمارة بن أبي الحسن الشاعر اليمني، وإلى يساره القاضي العويرس، وبعده داعي الدعاة، وإلى الجانب الآخر عبد الصمد الكاتب وآخرون. وكلهم من الشيعة كما تعلم. انظر في وسط الغرفة ماذا ترى؟»
قال: «أرى سيفا ومصحفا، أظنهم يحلفون عليهما.» قال: «نعم.»
وأخذ قراقوش يتفرس في الحضور ليعرفهم عند الحاجة. وإذا هو بأبي الحسن أشار بيده يطلب الإصغاء فأنصتوا فقال: «أبشركم أيها الأمراء أن أعمالنا تكللت بالنجاح، وجاء وفد الإفرنج في هذا الصباح يحمل الهدايا إلى ذلك الكردي، وقد فرح بالهدية وفاته ما وراءها، وجاءتنا كتب أصحابنا في ساحل الشام بأنهم على أهبة الرحيل عند أول إشارة، فأبشروا بنيل المراد.»
فتصدى عمارة اليمني وهو شاعر مشهور ووجه نظره إلى القاضي العويرس وداعي الدعاة وهما من أصحاب المناصب الرفيعة في الدولة وقال: «إن مولانا الشريف أبا الحسن أهل لما بايعناه من الخلافة لنسبه الشريف؛ ولأن مولانا الإمام المرحوم قد أوصى له بولاية العهد كما سمعتم ذلك من الجليس الشريف قبل الآن. فيجب أن نخلص له الطاعة لنعيد بناء هذه الدولة ورونقها، وكانت قد فسدت بمن دخل في أمورها من الأعاجم بسوء رأي المحيطين بالخليفة السابق، وهم الذين أشاروا عليه باستنجاد نور الدين صاحب الشام، فكان ذلك سببا في صيرورة الأمر إلى يوسف هذا (صلاح الدين)، ولكننا متى تم لنا ما دبرناه وقبضنا على أزمة الأمور صرنا نتجنب هذا الخطأ في المستقبل. ولا نولي المناصب إلا الذين نثق بإخلاصهم وتفانيهم في الدعوة العلوية من العرب، إننا عرب والقرآن عربي، فلا ينبغي أن نشرك في أمرنا غير العرب كما فعل غيرنا.»
فقال عبد الصمد الكاتب: «بارك الله فيك يا أخا اليمن، قد مضى زمن الضعف والحمد لله. إن خليفتنا هذا (وأشار إلى أبي الحسن) جمع بين الحزم والدهاء، ووزيرنا هذا (وأشار إلى العويرس) لا مثيل له في أصالة الرأي و...»
فقطع كلامه رجل كان جالسا منذ ساعة لا يتكلم كأنه يفكر في أمر مهم لا يلتفت إلى ما يدور بينهم، فلما سمع كلام عبد الصمد بشأن الوزارة رفع رأسه وقال: «إن الوزارة لم يتم الاتفاق عليها بعد. وأنا مع احترامي للقاضي الأجل لا أرى له حقا في الوزارة، وإنما هي لسلالة الوزراء آل رزيك، فإنهم تولوها في عهد الأئمة السالفين ولهم عليها فضل، فلا يليق نقلها إلى سواهم.»
فتصدى رجل آخر كان نهض في أثناء ذلك وأخذ يهمس في أذن أبي الحسن وأبو الحسن يهز رأسه له هزة الرضا والاستحسان، فقطع كلام الرجل قائلا: «مهلا لا تتنازعوا على منصب هو حق لنا وكان في قبضتنا بالأمس.»
فضحك صاحب وزارة بني رزيك وقال: «تريد أن ترجع الوزارة لبني شاور؟ ألم تكن هذه المصائب كلها من وزارته؟ ألم يكن هو الذي أحرق هذه المدينة بسوء تدبيره؟ إن الوزارة لا تكون لغير آل رزيك ونحن أصحابها الأولون.»
فتكلم أبو الحسن وهو يبش ويتلطف وقال: «خففوا من غضبكم وارجعوا إلى صوابكم، لسنا الآن في معرض التنازع على المناصب، إنما نحن في الاتحاد على إخراج هذا العدو من بلادنا، ومتى أخرجناه نعمل ما يتفق عليه الرأي.»
فقال صاحب وزارة آل رزيك: «طبعا إن أبا الحسن لا يهمه البحث في المناصب الآن؛ لأنه ضمن لنفسه الخلافة بسبب نسبه في العبيديين ... ولم ينازعه أحد في صحة نسبه لأن الجليس الشريف شده بصحته بناء على ما سمعه من الإمام المرحوم.» وضحك ضحكة استخفاف. •••
وكان قراقوش مصغيا لما دار وقد شاهد كل حركة، وجوهر واقف بين يديه يتطاول ليرى ما يراه، فاكتفى قراقوش بما سمعه وشاهده والتفت إلى جوهر وقال بالإشارة: «أين المصباح؟ إلي به.»
فنزل جوهر على السقيفة وأتى بالمصباح، فتناوله قراقوش وصعد إلى مرتفع وأداره بيده بحركة رحوية كما اتفق مع رجال الفرقة. ثم نزل وأخفى المصباح وعاد إلى الكوة والقوم يتحاجون ويناقشون. وإذا بالضوضاء قد تعاظمت ولم تمض دقائق قليلة حتى صار رجال قراقوش داخل القاعة وأخذوا في القبض على من فيها. وليس فيهم من يستطيع دفاعا؛ لأنهم لم يكونوا قد أعدوا من وسائل الدفاع غير ألسنتهم وأصواتهم.
ووجه قراقوش التفاتة خصوصا إلى أبي الحسن فلم يجده بين المقبوض عليهم، فظنهم أخرجوه إلى خارج القاعة. ولما أيقن بفوز رجاله بالقبض على المتآمرين أشار إلى جوهر بالنزول للرجوع إلى القاهرة. فنزل بين يديه بالمصباح وقراقوش يتبعه ولم تطأ رجله السقيفة حتى سمع وقع أقدام مسرعة في أرض البيت فأجفل، وتفرس قراقوش على النور الضعيف فرأى شبحا بالعمامة والجبة فلم يعرفه، فقال له جوهر همسا: «هذا أبو الحسن هلم إليه.» فبادر إلى إطفاء المصباح حتى لا يعرف مكانه وأسرع في النزول ليقبض على أبي الحسن وهو يحسبه دخل هذا المنزل بتواطؤ سابق مع صاحبه لمثل هذه الساعة على أن يبيت ليلته ثم يفر في الصباح.
نزلا إلى أرض البيت وجوهر يقود قراقوش؛ لأنه يعرف مداخل المكان وأصاخا فلم يسمعا خطوا ولا صوتا كأن ذلك الشبح كان ظلا وزال، فأراد قراقوش أن ينير المصباح، فأشار إلى جوهر أن يفعل واستل خنجره وتهيأ للهجوم على من يظهر أمامه. ولم يكد جوهر يبدأ بالإشعال حتى سمعا باب الدار فركضا إليه فوجدا الباب مفتوحا وليس هناك أحد، فأضاء المصباح وأخذا في البحث عن أبي الحسن في كل مكان فلم يجداه، فتأكدا أنه نجا، وقال قراقوش: «هل أنت متأكد يا جوهر أنه أبو الحسن؟» قال: «يغلب على ظني يا سيدي أنه هو، ومع ذلك فقد يكون سواه، هلم بنا للبحث عنه في الأماكن المجاورة، فإذا لم نجده فلعله في جملة المقبوض عليهم، وإلا فإنه قد نجا، قبحه الله.»
فخرجا وركب قراقوش بغلته وأخذا في البحث عنه في تلك الدار وما يجاورها فلم يقفا له على أثر، فذهبا إلى القاهرة وبهاء الدين يخاف أن يكون أبو الحسن قد نجا وكان خوفه في محله.
أما سائر المقبوض عليهم من المتآمرين فحكم عليهم بالصلب وفي مقدمتهم عمارة اليمني المتقدم ذكره، فصلبوه في 2 رمضان سنة 569ه، وارتاح بال صلاح الدين من هؤلاء، لكنه ما زال يفكر في أبي الحسن سبب تلك الدسائس.
أما سيدة الملك فإنها في اليوم التالي للقبض على المتآمرين كلفت ياقوتة بالبحث عما تم. فلما أنبأتها بالقبض عليهم فرحت، لكن ساءها فرار أبي الحسن وهو مصدر متاعبها. وتعلم أنه لا يبالي ماذا يفعل في سبيل غرضه، لا يرعى ذمة ولا يتجنب حراما، فنظرت إلى ياقوتة قائلة: «إن صلاح الدين قد فاز بما يريد.»
فقالت ياقوتة: «إن نجاة ذلك الخائن كدرتني كثيرا، ولكن ما العمل؟ لا بد أن يرجع كيده في نحره لأن الله غريمه، ولم يعد يهمنا أمره ونحن في حياطة صلاح الدين. والآن جئتك بشيء يعزيك على هذه المصيبة.»
فبغتت سيدة الملك وقد أصبحت تبغت كل جديد تتوقعه لفرط قلقها على عماد الدين فقالت: «ما وراءك؟» فضحكت وقالت: «إني عاتبة عليك بالنيابة عن عماد الدين، كيف تعلمين بمجيء رسول من عنده رآه قبل سفره وخاطبه وعلمنا من كتابه أنه سجين ولا تسألين عن ذلك الرسول لكي تستزيديه إيضاحا أو تحمليه رسالة؟» فتنهدت سيدة الملك وقالت: «آه يا ياقوتة، قد أقلقتك بكثرة الأسئلة، هل تتوهمين أني غفلت عن هذا الفكر؟ إن رسول عماد الدين يؤنسني إذا رأيته، وكنت عازمة على استدعائه أين هو؟» قالت: «أخبرني بهاء الدين الآن أن ذلك الرسول يطلب أن يراك وأن عماد الدين كلفه بذلك.»
فتوردت وجنتاها وقد أخذها الفرح ولم تتمالك أن صاحت: «عماد الدين كلفه أن يراني؟! الحمد لله إنه يفكر في، هو إذن يحبني!»
ثم تراجعت وقد ندمت على تلك اللهفة وخجلت وأدارت وجهها إلى حائط عليه ستارة موشاة بالألوان الجميلة تشاغلت بالنظر إليها.
فقالت ياقوتة بصوت ضعيف: «يا لله من الحب! كيف يجعل سيدة الملك سلالة الخلفاء ونزيلة السلاطين يستخفها الفرج إذا سأل عنها شاب من ...»
فقطعت سيدة الملك كلامها قائلة: «لا تقولي شيئا عن عماد الدين، إنه عندي فوق الخلفاء والسلاطين، صدقت إن الحب يفعل كثيرا ... والآن أين ذلك الرسول؟ دعيه يدخل.»
فخرجت ياقوتة وعادت بعد قليل ومعها شاب في زي أهل بيت المقدس الذي يلبسونه في الأسفار، حول رأسه الكوفية كالخمار وقد ارتدى السروال القصير وحول خصره منطقة عريضة من الجلد غرس في مقدمتها خنجرا صغيرا، ولف حول ساقيه لفافة من النسيج تسهل عليه المشي السريع.
فلما دخل وقف متهيبا متأدبا، فأرسلت سيدة الملك خمارها ورحبت به قائلة: «ما اسمك يا غلام؟» قال: «اسمي جرجس.» قالت: «أنت مسيحي إذن؟» قال: «نعم يا سيدتي.» قالت: «من أين أنت آت؟» قال: «جئت من بيت المقدس برسالة إلى السلطان صلاح الدين وقد أديتها بالأمس، ولكن صاحب تلك الرسالة أسر إلي أمرا خاصا كلفني به يتعلق بسيدة الملك.»
قالت: «وما هو ذلك الأمر؟ أنت بين يدي سيدة الملك الآن؟»
فأطرق احتراما وقال: «أيتكما هي؟»
فتقدمت ياقوتة وقالت وهي تشير إلى سيدتها: «هذه مولاتنا سيدة الملك، قل ما عندك. وأرجو أن تكون صادقا فيما تقول.»
قال: «وما الذي يحملني على الوقوف بين يديها إن لم أكن صادقا في مهمتي، خصوصا أن الأمر الذي جئت به سر لم يطلع عليه أحد سواي.»
قالت ياقوتة: «صدقت يا شاب، بارك الله فيك.» ورأت أن تتولى هي السؤال عن عماد الدين فقالت: «كيف فارقت عماد الدين؟» قال: «لم يبق اسمه عماد الدين يا سيدتي، بل هو يسمى عبد الجبار.» قالت: «ونعم الاسم. كيف عرفته؟ ومن عهد إليك في هذه المهمة؟»
قال: «عرفته في أحرج المواقف، وما لبثت أن تعشقت أخلاقه وصرت أفديه بروحي، إنه شاب نادر المثال بالمروءة والحمية.»
ولما سمعت سيدة الملك إطراءه أشرق وجهها وخفق قلبها وتطاولت لتسمع بقية الحديث. أما ياقوتة فأجابته وهي تظهر السذاجة قائلة: «أمر غريب يظهر أنك عاشق له، قل كيف وقع ذلك، وما هي المهمة التي جئت بها؟» فقال: «كان عماد الدين مارا ببيت المقدس في طريقه إلى نواحي حلب في أمر لا أعلمه، فقبض عليه الإفرنج خداعا وسجنوه. وكنت أنا مسجونا مثله فتعارفنا في السجن، فرأيت فيه أخلاق الملوك، وتجاذب قلبانا فأحببته وأخلص لي وتكاشفنا في أمور كثيرة، فلم يذكر لي شيئا يتعلق بسيدة الملك، ثم أتيح لي الخروج من السجن وتقربت من صاحب بيت المقدس الإفرنجي، وأصبح همي إنقاذ صديقي من السجن، فلم يسعدني الحظ بعد. لكنني كنت أتردد عليه دائما وأتفقده بما يخفف عنه. وسمعنا في أثناء ذلك بما حدث هنا من موت الإمام - رحمه الله - وتغيير الأحوال وإنزال أهل الخليفة في هذا القصر بالإكرام، وكنت أقص عليه كل ما أعلمه وفي جملة ذلك المؤامرة التي تعلمينها، وقد بعثني صاحب بيت المقدس دليلا للوفد الذي جاء لتقديم الهدايا، وجئت لوداع صديقي فكلفني بإيصال كتاب إلى السلطان صلاح الدين. ثم أسر إلي أن أبحث عن سيدة الملك وأطمئنه على حالها، وها إني بين يديها.»
فقالت ياقوتة: «وما الذي أطلعك عليه من علاقته بها؟»
قال: «لم يذكر لي تفصيلا كثيرا؛ لأن الوقت لم يأذن بالتطويل. ولكنني فهمت من غرض الحديث أنه يجل سيدة الملك كثيرا. وقد خطر له أنكم لا تصدقون قولي فدفع إلي هذه الجوهرة على سبيل الأمارة.»
ومد يده إلى جيب في منطقته واستخرج جوهرة دفعها إلى ياقوتة فتفرست فيها واقتربت من سيدة الملك، فحالما رأتها قالت همسا: «هي إحدى جواهر العقد الذي أعطيناه إياه تلك الليلة.» والتفتت إلى الشاب وقالت: «صدقت، قد تأكدنا الآن أنك رسول منه. كيف هو ومتى يخرج من السجن؟ وإذا خرج ألا يأتي إلى هنا؟» قال: «سيخرج قريبا إن شاء الله وهو في خير، وإذا خرج فلا أظنه يأتي توا إلى هنا؛ لأن لديه مهمة لا أعرفها. وقد كلفني أن أقول لك إنه سيعود إلى هنا متى فرغ منها.»
فانقبضت نفسها وأطرقت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «إذن هو في خير وهذا يكفي. وإذا دفعنا إليك أمانة هل توصلها إليه؟»
فوضع يده على رأسه وقال: «كيف لا يا سيدتي! إني أتمنى أي خدمة أؤديها له.»
فأشارت إلى ياقوتة فدنت منها فأمرتها أن تستخرج بعض الجواهر تبعث بها إليه، وأن تكتب إليه كتابا تؤكد له فيه بقاءها على حبه، وأنها تتوقع رجوعه بفارغ الصبر.
ففعلت ووضعت الجواهر والكتاب في كيس خاطته ودفعته إلى الرسول، ودفعت إليه صرة فيها خمسون دينارا وقالت: «هذه أجر الطريق»، فأخذها وشكر وانصرف، وظلت سيدة الملك برهة بعد ذهابه وهي تخاطب ياقوتة في شأن عماد الدين وياقوتة تصبرها.
الفصل الثامن
السلطان نور الدين
وكان أبو الحسن قد نجا تلك الليلة من القبض عليه؛ لأنه كان لفرط دهائه وحذره يحتاط لكل شيء. وكان قد أعد منفذا من قاعة الاجتماع إلى بيت ذلك اليهودي حتى إذا داهمهم مداهم فر من هناك لا يبالي بما يصيب رفاقه.
قضى بضعة أيام مختبئا في بعض المنازل حتى علم ما كان من عاقبة رفاقه المتآمرين وكيف قضي عليهم بالصلب، فيئس من مصر ورجالها. ولكن مطامعه ما زالت تريه المحال ممكنا - والمرء إذا رغب في شيء وإن كان بعيدا فإن رغبته فيه تريه إياه قريبا - فأعمل فكرته في سبيل آخر يسعى فيه للانتقام من سيدة الملك. وقد علم في أثناء تربصه أنها هي التي استعانت بخادمه جوهر على كشف أمرهم، فازداد حنقا عليها، وخطر له بعد التفكير أن يستعين بالسلطان نور الدين صاحب الشام. يحمل إليه أسرارا هو مطلع عليها تتعلق برغبة صلاح الدين في الاستقلال بمصر وما صرح به ضد نور الدين. فيشي به إلى نور الدين لكي يحمله على محاربته وإخراجه من مصر عنوة. وأن يشهد هو ذلك الفتح فيجعل غنيمته منه سيدة الملك، واستسهل كل صعب في هذا السبيل ورآه قريب المنال.
فلما اقتنع بصحة رأيه احتال في الفرار من مصر طالبا دمشق الشام، وواصل المسير وجد فيه، فوصل إلى دمشق متنكرا بثوب تاجر مصري، ونزل في أحد خاناتها على مقربة من القلعة وهي يومئذ مقر السلطان نور الدين. ودمشق زاهية بذلك السلطان العظيم وأهلها فرحون بما ناله من الانتصارات المتوالية على الإفرنج في مواضع مختلفة من بلاد الشام. لكنه لم يكد يستقر به الجلوس في الخان حتى سمع لغط القوم بانحراف صحة السلطان منذ أيام وقلق الناس على حياته؛ لأنه أصيب بالخوانيق. فأخذ أبو الحسن يفكر في وسيلة يتصل بها إلى مجالسته والمداولة معه في أمر مصر .
وسأل عن طبيبه الخاص فعلم أنه الرحبي وهو من حذاق الأطباء وكانت له به معرفة. فسار إليه فوجده في منزله فاستقبله الطبيب أحسن استقبال، وكان قد لقيه بمصر وعرف منزلته من الخليفة العاضد، فسأله أبو الحسن عن حال السلطان فقال: «إنه مصاب بالخوانيق، وقد اشتد عليه المرض لأنه أبى الفصد.» فأظهر أسفه وقال: «ألا يتيسر لي ملاقاته لعلي أقنعه بالفصد. ولي معه حديث إذا أطلعته عليه سري عنه.»
فرأى الطبيب أن يستعين به على ذلك، وهو مطلع على قلق السلطان نور الدين من جهة مصر، فظنه يرغب في استقبال أبي الحسن لعله يستطلع منه أمرا جديدا فيأذن في مقابلته ولو كان مريضا، فاستمهله الطبيب إلى صباح اليوم التالي.
وجاء الرحبي في الصباح فقال له: «إن مولانا السلطان أحسن حالا الآن وقد ذكرتك له فأحب أن يراك.»
ففرح أبو الحسن بذلك، وركب مع الطبيب إلى القلعة. وكان السلطان مقيما في غرفة من غرفها أصابه المرض وهو فيها فبقي هناك. فدخل الطبيب أولا واستأذن لأبي الحسن، فأذن له، ودخل وهو يتلطف في التحية والاحترام. وكان قد عرف السلطان من قبل واجتمع به غير مرة، وعهده به قوي البنية مشرق الوجه، فرآه قد تغيرت حاله. وكان السلطان نور الدين أسمر طويل القامة ليس له لحية إلا تحت فمه، وكان واسع الجبهة حسن الصورة حلو العينين، ولكن المرض ذهب بلمعانهما، وقد امتقع لونه، فلما رأى أبا الحسن داخلا ابتسم على عادته في المجاملة. فأكب أبو الحسن على يده كأنه يريد تقبيلها، فامتنع نور الدين عن ذلك وأشار إليه أن يقعد. ولم يكن في تلك الغرفة شيء من الرياش؛ لأنها ليست القاعة التي يقابل الناس فيها وإنما اتفق وجوده هناك عند الإصابة.
جلس أبو الحسن على وسادة وقال: «كيف مولانا اليوم؟ أرجو أن يكون في صحة لأن سلامته سلامة الدولة، وفي شفائه شفاء الإسلام. وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليه بقدومي.»
فقال نور الدين وصوته ضعيف من الخوانيق: «الحمد لله على كل حال، وأما قدومك فقد سرني لعلمي أنك قادم من مصر، وفيها حبيبنا ووزيرنا الملك الناصر كيف فارقته؟»
فلما سمعه يلقب صلاح الدين بالحبيب تشاءم، لكنه عزم على المراوغة فقال: «هو في خير بظل مولانا السلطان الملك العادل.»
قال: «كيف فارقت مصر؟» قال: «فارقتها وأهلها يتشوقون إلى طلعة مولانا السلطان - أعزه الله - ويتمنون أنه لو شرفهم بالزيارة ليرى مملكته الجديدة.»
فأشرق وجه نور الدين وسره أن يسمع ذلك من أمير مصري كان من المقربين للدولة الماضية، فقال: «ولكن بلغنا أن بعضهم تآمروا على خلع الطاعة، فهل ذلك صحيح؟»
فقال: «نعم يا سيدي، إنهم تآمروا ولكن ليس على خلع طاعة السلطان نور الدين.»
قال: «وكيف إذن؟» وبدت البغتة في عينيه ونسي مرضه وأخذ يعبث بجانب لحيته، وتفرس في عيني أبي الحسن ليرى ما يبدو منه.
فقال أبو الحسن: «إن أهل مصر من أقرب الناس إلى الطاعة ولكن.» وبلع ريقه وتنحنح وأظهر أنه يكتم أمرا لا يحب التصريح به.
فقال نور الدين: «ما بالك؟ ولكن ماذا؟»
قال: «لا أحب أن أزعج سيدي السلطان بأمور لا أظنها تسره.» فبدا الغضب في وجه نور الدين وقال: «قل. تآمروا على خلع من؟»
قال: «إنهم تآمروا على خلع السلطان صلاح الدين.»
قال: «أليست طاعته طاعتي؟»
قال: «بلى، هكذا يجب أن يكون، ولو طلب طاعتنا باسم السلطان نور الدين لما وجد مخالفا.»
قال: «وكيف طلبها إذن؟» قال: «يظهر أن أصحاب البريد يخفون الحقيقة عن مولانا السلطان فإذا أذن لي تكلمت.» قال: «قل. قد أذنت لك.»
فالتفت أبو الحسن إلى الطبيب كأنه يستشيره في هل يضر الغضب صحة السلطان. فتقدم الطبيب إلى السلطان وقال: «أرى مولانا السلطان قد بان الغضب في وجهه وهو مريض، ألا يؤجل هذا الحديث إلى وقت آخر؟» فقال: «كلا، إني في خير، فليقل ما يشاء.»
فاعتدل أبو الحسن في مجلسه وقال: «إن وزيرك صلاح الدين لم يطلب طاعة المصريين باسمك، ولكنه طلبها باسمه، وزعم أنه هو صاحب الأمر وليس للسلطان نور الدين شيء منه، وقد قاومناه وتآمرنا عليه ؛ لأننا لا نريد أن نعرف غير مولانا نور الدين سلطانا. وأنا أستغرب كيف لم يبلغ ذلك مولانا السلطان، وقد صرح به صلاح الدين في جلسة علنية، حتى إن أباه نجم الدين انتهره وأمره بالكتمان؟» قال ذلك وسكت.
وكان نور الدين حسن الفراسة فأطرق هنيهة يفكر فيما سمع وهو يعبث بلحيته، فلم تعجبه تلك الوشاية من عدو طبيعي لهما، ولا سيما بعد أن سمع اعترافه بأنه كان من المتآمرين على صلاح الدين، وأدرك أنه لو كان صادقا في طاعته لم يكن ليساعد على خلع الطاعة بتلك الصورة، بل كان عليه أن ينقل خبر صلاح الدين إليه. فترجح لديه كذبه فقال: «وماذا ترى الآن؟» قال: «أرى ألا يستخف مولانا السلطان العادل بمطامع وزيره، فإنه قد جاهر باستقلاله بمصر قبل موت الإمام العاضد فكيف به الآن؟ فما على السلطان إلا أن يخضعه وأنا في خدمته أفديه بدمي.»
فحملق السلطان فيه بعينيه السوداوين، وكاد الشرر يتطاير منهما لشدة الغضب وقال: «لو كنت صادقا في نصحك لحملت إلينا هذه الوشاية من قبل. فصبرك عليها حتى الآن حجة عليك وعلى أصحابك المتآمرين. إنما أنتم تآمرتم على خلع طاعة نور الدين، بل أردتم نقض بيعة الإمام العباسي لأنه سني، وطمعتم في استرجاع السيادة لأنفسكم!»
وكان يتكلم وهو مستلق، وأخذ يرتعد من الغضب فاعتدل يريد الجلوس فأعانه الطبيب على ذلك وندم على الإذن له في الكلام. فأخذ أبو الحسن يتنصل من تلك التهمة وقال: «لم أحسن التعبير عن مرادي يا سيدي. إني أصدقك الخبر. إن ما قلته هو الصحيح. نحن طائعون للسلطان نور الدين و...»
قال: «لو كنتم صادقين لأطعتم وزيري ونائبي صلاح الدين، لكنكم تعودتم التملق والتذبذب، ما الذي أساءكم به صلاح الدين؟ ألم ترسلوا إلينا شعور نسائكم تستغيثون بنا فأنفذنا إليكم عمه شيركويه وقد أنقذكم؟ وهذا صلاح الدين أخمد العصيان وأصلح البلاد وأبطل الضرائب. فكان ينبغي أن تعرفوا فضله. ولكن قوما يبلغ بهم الذل أن يستشفعوا بشعور نسائهم لا يرجى منهم وفاء. ما زلت أذكر سوء وقع ذلك في مجلسنا يوم أتتنا تلك الشعور في المناديل وقد عقد المجلس للنظر في طلب إمامكم، وكان بين الغلمان شاب صغير لم يملك حين رأى تلك الشعور أن تقدم إلي لكي أعطيه خصلة منها حمراء ذهبية، وكان مقربا من صلاح الدين فدفعتها إليه لأرى ما يبدو منه. فلما تفرس فيها قال: «إن صاحبة هذا الشعر الجميل لا تمتهن وهي إما بنت الخليفة أو أخته، فإني معيده إليها.» فأذنت له بالخصلة فأخذها في منديلها ولا أدري إذا كان قد وفق إلى ما أراد، فكيف ترجو أن أتوقع منكم وفاء وقد جئتني الآن تريد الإيقاع بيني وبين نائبي؟ هب أنه أراد الاستقلال بمصر فليأخذها هو، فإن البيعة واحدة ولا ترجع لكم.» ولما بلغ إلى هنا بان التعب عليه وحول وجهه عن أبي الحسن باحتقار، وأدار له ظهره وعاد إلى الرقاد وهو يلهث من التعب.
أما أبو الحسن فجمد الدم في عروقه من الفشل وأحس كأنما صب عليه ماء بارد. وأخذ يرتعد وقد وقع خبر خصلة الشعر عليه وقوع الصاعقة؛ لعلمه أنها من شعر سيدة الملك. فأشار إليه الطبيب أن يخرج حالا؛ لأن السلطان أصابته نكسة بسبب الغضب. فخاف أبو الحسن أن يأمر السلطان بالقبض عليه فخرج مسرعا واختفى في مكان لا يعرفه فيه أحد ريثما يرى ما يكون.
وفي الصباح التالي طاف المنادون في المدينة ينعون السلطان نور الدين (توفي في 11 شوال سنة 569). وتناقل الناس عن سبب وفاته بعد أن تحسنت صحته أنه غضب من بعض الناس فأصابته نوبة ذهبت بحياته. فأسقط في يد أبي الحسن وعمد إلى الفرار، وقد تولاه اليأس وأظلمت الدنيا في عينيه.
خرج من دمشق وهو يرغي ويزبد من شدة الغضب والخادم في ركابه لا يجسر على النظر إليه. حتى إذا مر بالغوطة وصل إلى عين ماء جارية يظللها ويحيط بها أشجار التفاح والسفرجل والمشمش وسائر أنواع الفاكهة، وقد دخل الربيع وتفتحت الأزهار وتغنت الأطيار . والطبيعة باسمة ضاحكة، ولكن أبا الحسن، لم يكن يرى شيئا غير الفشل نصب عينيه. وإنما نبهته البغلة إلى الوقوف هناك؛ لأنها رأت الماء جاريا فهاجها العطش فمالت إلى قناة الماء لتشرب. فانتبه أبو الحسن وقد صارت الشمس في الضحى وهو في الخلاء لا رقيب عليه. فلاح له أن ينزل هناك ليستريح فترجل وسلم البغلة إلى الخادم يهتم بأمرها. وتغلغل بين الأشجار على غفلة من خدم البستان لأنهم لا يتوقعون نزول الناس هناك في مثل تلك الساعة.
أما أبو الحسن فلما خلا بنفسه قعد إلى جذع شجرة مشمش تدلت أغصانها تحمل نوعا من المشمش يفاخر به أهل الشام سائر المشرق ويعرف الآن بالمشمش الحموي ينضج في إبان الربيع، والناس يقصدون الغوطة للتمتع بمنظره وطعمه.
على أنه لم يخطر ببال أبي الحسن شيء من ذلك، لكن إشراق الطبيعة أذكره ماضيه وأوضح له ما هو فيه فازداد انقباضا. ومكث برهة يفكر وهو في غلفة عن زقزقة العصافير وتطايرها ومداعباتها، وليس فيها من يخاف الفشل؛ لأنها لا تطلب من الطبيعة غير ضروريات البقاء وهي ميسورة. أما الإنسان فمن مطالبه ما لا ينال إلا بالجهد والعناء، وهو لا يبالي أن يرتكب في سبيل نيله أنواع المحرمات.
وبعد السكوت مدة نبهته حشرة انسابت بجانبه بين العشب فالتفت إلى ما يحدق به من جمال الطبيعة وبهائها فاتضحت له الظلمة التي هو غارق فيها. ومر تاريخ حياته في خاطره مرور السهم فلم يزدد إلا انقباضا، وتبين أن سبب هذا الشقاء إنما هو رفض سيدة الملك له فاشتدت نقمته عليها، واغتنم غياب خادمه وأخذ يحدث نفسه قائلا: «ويل لتلك اللعينة! تفضل ذلك الغلام علي؟ أما كان الأفضل لها أن يكون أبو الحسن زوجها ويبقى هذا الملك لنا. كنت قادرا أن أقتل صلاح الدين ولم أفعل؛ لأني أريد أن أستثمر تعبي لنفسي لا أن يستغله سواي. علمت أنها تشك في صحة نسبي ولا تعتقد أني من بني عبيد الله. نعم لست منهم، ولكن شرف النسب ليس سوى وهم. إنما الرجال بالأعمال، وقد انتحلت ذلك النسب لأن الناس يحترمونه. وظننته يكون وسيلة إليها وإلى الملك، فلما أوشكت أن أصل إلى الغرض عرقلت مساعي بغطرستها وتعلقها بذلك الخادم!»
ثم أجفل لسقوط مشمشة وقعت على الحشيش اليابس فأحدثت حفيفا فتحولت أفكاره إلى مجرى آخر فتذكر صباه فقال: «وأنت يا راشد الدين، قد آن الوقت لأستعين بك على هذه الفاجرة، لا لأتزوجها بل لأذيقها العذاب ثم أريها رأي العين سوء تصرفها فتندم حين لا ينفعها الندم.» وكأنه عزم على أمر توسم النجاح فيه فارتاح باله وانقشعت عنه السويداء، وقد أحس بالجوع فالتفت إلى ما حوله فلم يجد أحدا فصفق للخادم وناداه فأتى فأوعز إليه أن يأمر البستاني أن يهيئ له طعاما وفاكهة، وبعد أن أكلا عاد إلى تدبير ما عزم عليه. •••
علمت من سياق الحديث أن عماد الدين لاقى في سفره عذابا؛ إذ قبض عليه الإفرنج بقرب بيت المقدس لاعتقادهم أنه جاسوس وسجنوه مدة تعرف في أثنائها إلى جرجس كما تقدم. ولم يكن جرجس مسيحيا كما قال وإنما هو من كبار الفدائيين الإسماعيليين، واسمه الحقيقي عبد الرحيم بعثه راشد الدين لقتل أموري الإفرنجي صاحب بيت المقدس. فتنكر باسم جرجس واحتال حتى جعلهم يقبضون عليه ويسجنونه ليتمكن في أثناء سجنه من التعرف إلى صغار أهل البلاط ويطلع على خفايا القصر بحيث يسهل عليه الوصول إلى غرضه. وعدة أولئك الفدائيين في تنفيذ أمر مولاهم راشد الدين أن أحدهم إذا كلف بقتل أحد الملوك جعل نفسه من أصغر خدمه. والغالب أن يجعل نفسه سائسا لجواده ليتيسر له الاقتراب منه عند الركوب والنزول فيغتنم غفلة منه ويغرس في قلبه خنجره.
ففي أثناء إقامة عبد الرحيم (أو جرجس) هذا في السجن تعرف إلى عماد الدين وأحبه وتمكنت العلائق بينهما، فكاشفه عبد الرحيم بحقيقته، وكيف أنه مسلم وأنه احتال بالسجن ليتوصل إلى غرضه ويقتل صاحب بيت المقدس بإشارة مولاه راشد الدين، وأخذ يرغبه في هذه الطائفة وقبالة مقاصدها وشدة تأثيرها، فحمد عماد الدين السبب الذي جره إلى ذلك السجن؛ لأنه كان وسيلة إلى هذا التعرف وسهل عليه مهمته. فأظهر ارتياحه لذلك الرأي ووعده بأن ينتظم في سلك الإسماعيلية بعد خروجه من السجن، وهو يضمر أن يجعل ذلك الانتظام وسيلة لتنفيذ مهمته التي جاء من أجلها لقتل راشد الدين. وبذل جهده في اكتساب ثقة عبد الرحيم وأطاعه في تغيير اسمه فجعله عبد الجبار.
ولما كانت أيام السجن طويلة؛ لأنها خالية من العمل فيمل المسجونون الفراغ ويضطرون لقضاء الوقت بالأحاديث أو الألعاب، فقد أخذ عبد الرحيم يقضي معظم الوقت في التحدث عن راشد الدين وكراماته ومقدرته، وكيف أنه يعلم الغيب ويتنبأ عن المستقبل، ويحدث الأحجار ويأتي بالمعجزات. وأنه يفعل ذلك لا لطمع في الدنيا وإنما هو ينصر الإسلام. واستشهد على صحة قوله بالمهمة التي أتى فيها لقتل صاحب بيت المقدس. وكان كلما ذكر راشد الدين ثارت الحمية فيه وهاجت عواطفه وأصبح كله ألسنة تنطق بفضائله. فكان لأقواله مع التكرار تأثير في عماد الدين فأصبح يرى وجود راشد الدين قوة عظيمة يمكن الاستعانة بها على الإفرنج إذا تمكن من اكتساب صداقته. على أن ما سمعه من معجزات ذلك الرجل وكراماته وعن جنته وسمائه حبب إليه الاطلاع على حقيقة ذلك.
تمكنت هذه الصحبة بينهما، ثم انتهت أيام عبد الرحيم في السجن وخرج وأهل البلاط يحبونه ويرون في وجوده نفعا لهم؛ لأنه مسيحي يعرف لغة البلاد وعاداتها. فقربوه وهو يبذل جهده في مرضاتهم توصلا لغرضه، فلما دارت المخابرة بين الحزب العبيدي في القاهرة وبين الإفرنج وانتهت بإرسال الوفد اختاروه ليكون دليلا. فذهب لوداع عماد الدين، وعهد إليه هذا فيما تقدم ذكره، فبذل جهده في خدمة صديقه رغبة في إدخاله سلك الإسماعيلية؛ لأنه آنس فيه من الشجاعة والذكاء ما يندر مثاله وهم في حاجة إلى الشجعان.
فلما عاد من تلك المهمة توسط في إخراج عماد الدين من السجن، وأبلغه ثمرة كتابه إلى صلاح الدين، وكيف أنه قبض على المتآمرين وقتلهم صلبا إلا أبا الحسن فإنه نجا. ثم دفع إليه كتابا من صلاح الدين يثني فيه على حميته، وصدق مودته.
ثم أطلعه على ما عرفه عن سيدة الملك، ودفع إليه كتاب ياقوتة والجواهر، فتناولها وأعطى جانبا منها إلى صديقه عبد الرحيم فازداد تعلقا به - وليس من شيء كالسخاء يحبب صاحبه إلى الناس مهما يكن فيه من العيوب. حتى جرى على ألسنة العامة قولهم «ما من عيب إلا والكرم غطاه.» فكيف إذا كان الكريم قليل العيوب أو لا عيب فيه، ولو علم الأغنياء ما يغطيه الكرم من عيوبهم لكرهوا البخل وبعدوا عنه، وكما يذهب الكرم بعيوب الأغنياء فالبخل يلصق بهم عيوبا ليست فيهم.
وأسرع عماد الدين إلى كتاب ياقوتة فقرأ فيه قولها:
سلام عليك يا عماد الدين، جاءنا صديقك وسرنا أنك في عافية، ولكن ساءنا ما أصابك في السجن. على أن ما عرفناه من حب هذا الصديق لك وما يظهر فيه من المروءة والشهامة طمأننا عليك. إننا نقيم الآن في دار الأضياف في رعاية صلاح الدين. إنه شهم وقد أكرمنا غاية الإكرام. ويسرني أن أخبرك بأنه جعل مولاتي سيدة الملك أختا له وهو يعاملها معاملة الأخت من كل وجه. وجاء ذكرك مرة أمامه فأكثر من الثناء عليك وصرح بما يرجوه لك من المستقبل السعيد. إنما ساء سيدتي أنك في السجن، على أن صديقك جرجس بشرنا بقرب خروجك منه سالما معافى، ولكن عظم علينا أنك ستبطئ في المجيء إلينا. عجل ولا تقطع أخبارك وعليك السلام.
فلما قرأ الكتاب أحس بشيء جديد لم يشعر به من قبل. وقد كان إلى تلك الساعة مضطرب الأفكار من جهة سيدة الملك؛ لعلمه أن صلاح الدين خطبها لنفسه. ورأى من الجهة الثانية ما أظهرته من الميل إليه حتى أوشكت أن تقول له صريحا إنها عاشقة له تتفانى في حبه. فوقع في حيرة وإنما شغل عن ذلك بالأسفار وملاقاة الأخطار ليرى ما تأتي به الأقدار. فلما اطلع على كتاب ياقوتة وعلم أن صلاح الدين لا يريد الزواج بسيدة الملك ورأى عطفها عليه في ذلك الكتاب مع اختصاره، أحس أنها له وحده واضطرمت نيران الحب في قلبه مرة واحدة، كأن لواعج تلك المدة كلها اجتمعت في ذلك اليوم ، فأصبحت صورة سيدة الملك نصب عينيه أينما توجه، وتذكر منظرها في تلك الليلة وهي واقفة تودعه وتتعجل نزوله في السرداب. ولم يكن يومئذ يشعر بشيء من تلك العواطف. كما تذكر خصلة الشعر الحمراء وكيف تجاسر على طلبها من نور الدين، وكيف أذن له نور الدين في أن يأخذها. ثم كيف وفق للاجتماع بصاحبتها وهي في أشد الخطر فأنقذها ودفع إليها الخصلة. مر ذلك كله بذهنه في لحظة فتحقق أن المقادير أعدت له هذه النعمة، فإذا وفق إلى إتمام مهمته بلغ أوج السعادة. فبدأ يشعر بالسعادة من ذلك الحين!
لقد اختلف الناس في تعريف السعادة فجعلها بعضهم في المال، وآخرون في الشهرة، وآخرون في الصحة، وذهبوا فيها مذاهب شتى، لكن المحبين يعلمون أن السعادة في تبادل المحبة بين حبيبين يرجوان ويخافان، يلتقيان ويفترقان، وهما - في كل حال - في سعادة الاجتماع إما بالفعل وإما بالأمل. سواء أرافقهما الغنى أم الفقر، والشهرة أم الضعة. إنهما سعيدان في كل حال!
شعر عماد الدين بعد تلاوة الكتاب بما لم يشعر به قبل. وأصبح شديد الرغبة في سرعة الرجوع إلى القاهرة. وكان عبد الرحيم خلال ذلك واقفا يراقب حركات صديقه مخافة أن يكون في ذلك الكتاب ما يبعثه على تغيير خطته وهو يحب أن يدخله في طغمة الإسماعيلية. وانتبه عماد الدين لنفسه فرأى صديقه قاعدا بجانبه فقال له: «إني أشكرك أيها الصديق على هذه الخدمة الثمينة جزاءك الله خيرا.»
قال: «هذا واجب أديته لا فضل لي به، وهل إذا أتيح لك أن تخدمني مثل هذه الخدمة تتأخر؟»
فثارت النخوة في رأس عماد الدين وقال: «أفديك بروحي.» ولم يقل ذلك حتى أحس بشيء في داخله يعترض ذلك القول؛ لأنه شعر من تلك الساعة أن روحه ليست له، وأنه يود البقاء ليرجع إلى حبيبته ويتمتع باللقاء.
أما عبد الرحيم فأعجبه ذلك التعبير منه وقال: «سترى من هو أولى مني بالفداء. إن الشيخ راشد الدين إمامنا ومولانا نفديه كلنا بأرواحنا. وستذوق هذه اللذة متى صرت واحدا منا. هل أنت عازم على الدخول معنا في هذا الأمر؟ أم غيرك هذا الكتاب؟» وضحك.
قال: «لم يغيرني شيء، لكن ما هو السبيل إلى ذلك؟ كيف أذهب وإلى أين وما هي الطريقة؟ أرجو أن تساعدني وترشدني.»
فرح عبد الرحيم وقال: «إني طوع إرادتك. سأعطيك كتاب توصية إلى الشيخ دبوس نائب مولانا الشيخ الأكبر وهو يقيم معه في قلعة مصياف من جبل السماق من أعمال حلب ثم ألحق بك بنفسي. يمكنك السفر اليوم. هل تعرف الطريق؟»
قال: «أعرفها جيدا؛ لأني ربيت في هذه البلاد.»
فأخذ عبد الرحيم ورقا وكتب توصية إلى الشيخ دبوس نائب شيخ الجبل، فتناولها عماد الدين وودعه وركب جواده قاصدا جبل السماق. وهو جبل عظيم من أعمال حلب يشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع كلها للإسماعيلية، وفيه بساتين ومزارع، لكن المياه الجارية فيه قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع خاصة، ومع ذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم.
وقد اشتهر جبل السماق بالقلاع التي فيه لطائفة الإسماعيلية، وهي عديدة أشهرها مصياف وكهف والخوابي وعليقة ومرقب والرصافة وغيرها، ويهمنا هنا مصياف وفيها يقيم زعيم الإسماعيلية راشد الدين وهي على مسافة 12 ساعة غرب حماة. •••
وقد اشتهرت هذه القلعة في زمن الإسماعيلية بإقامة شيخ هذه الطائفة فيها وهي واقعة على جبل مصياف، وهو جبل شامخ يحيط به من الشرق والغرب مستنقعات واسعة، وينتهي من الشمال بقمة عالية فوقها قلعة منيعة هي مقر شيخ الإسماعيلية. ومن أسباب مناعتها أنها قائمة على صخر جوانبه عمودية يعسر تسلقها. وتشرف على ما يحيط بها من المستنقعات من كل ناحية، ومن جملة ذلك واد يقيم فيه بعض الفلاحين يزرعون الحنطة والشعير. وعلى مسافة من الجبل بلدة مصياف يسكنها طائفة من العامة.
أما القلعة فإنها محاطة بسور سميك ليس له إلا باب سقفه عقد متين، إذا دخل الرجل منه سار في ممر كله معقود يصل من الداخل إلى قمة القلعة وما وراءها وفوقها من الغرف، وكلها مبنية من الحجر الصلد. وعلى السور أبراج متلاصقة تقيم بها الحامية ترمي الهاجمين عليها بالسهام أو الحجارة قبل وصولهم إلى الباب بمسافة بعيدة بحيث يستحيل أخذها بالهجوم إلا بعد قتل المئات والألوف.
برح عماد الدين بيت المقدس على جواده، وكان يعرف عدة طرق إلى جبل السماق، لكنه أحب أن يمر بدمشق مرتع صباه، وقد اشتاقت نفسه إلى رؤيتها ومشاهدة بساتينها، فوصل إليها بعد بضعة أيام. وكان وصوله قبل وصول أبي الحسن بيومين، وظل متنكرا لم يطلع أحدا على حقيقة حاله. لكنه طاف المدينة وزار القلعة وشاهد كثيرين ممن يعرفهم. واتفق رجوع السلطان نور الدين من الميدان فرآه عائدا على جواده وحوله الأمراء والأعوان ففرح برؤيته، ولكنه بذل جهده في التنكر لئلا يشعر به أحد وهو يعلم ما بين نور الدين وصلاح الدين من الفتور ويود زواله، لكنه يميل أن يكون مولاه صلاح الدين هو الرابح.
قضى معظم النهار في دمشق، فأكل من طعامها وفاكهتها وتمتع بمناظرها، ومر عند خروجه بغوطتها، ولعله مر في نفس المكان الذي اجتازه أبو الحسن بعد يومين. وبات في تلك الليلة في قرية بضواحي دمشق. وقام في اليوم التالي قاصدا جبل السماق، وبات الليلة الثانية في بعض الخانات، وقضى معظم اليوم التالي في الطريق. وكان في إمكانه الوصول إلى مصياف في أصيل ذلك اليوم لكنه فضل الوصول إليها في الصباح التالي.
فبات في بعض القرى وركب في الصباح، وبعد ساعتين أطل على جبل مصياف وعلى قمته القلعة تناطح السحاب، فهاله ما رآه من مناعتها ورسخ في اعتقاده أنها أمنع من عقاب الجو. ترجل هناك فجاءه شيخ من الفلاحين يعرض عليه خدمة يؤديها، وقد ظنه من كبار الإسماعيلية وهم يعهدون فيهم الشدة والقسوة. وكثيرا ما شهدوا القتال بينهم وبين من جاء لمهاجمتهم من الجنود الشامية أو الجبلية أو المصرية، فضلا عما يتناقلونه من كرامات الشيخ راشد الدين وهم يلقبونه بشيخ الجبل أسوة بالحسن بن الصباح مؤسس هذه الطغمة. حتى أوشكوا لفرط ما استولى عليهم من الاعتقاد بكرامته ألا يحدث حادث غريب مخيف إلا نسبوه إليه ولو كان من العوارض الطبيعية كالمطر والرعد والبرق، وأصبح فزاعة لأعدائه وتعويذة لمريديه.
وكان هم عماد الدين عند وصوله أن يلقى الشيخ دبوس ويدفع إليه كتاب التوصية الذي يحمله من عبد الرحيم، فلما جاءه ذلك الفلاح الشيخ سأله عماد الدين عن راشد الدين أين هو.
فأجفل الرجل وتفرس في عماد الدين وقال: «يظهر أنك غريب عن هذه الديار يا سيدي؟» قال: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وماذا تريد من شيخ الجبل؟» قال: «إني أحمل كتابا إلى نائبه الشيخ دبوس.» قال: «دبوس؟! ظننتك تطلب الشيخ راشد الدين نفسه، فإنه لا يطمع أحد في رؤيته. حتى أصحابه وأعوانه إنهم لا يرونه إلا في بعض الأحوال الخاصة.»
فقال عماد الدين: «ومن أنت يا عماه؟ لعلك من رجاله؟»
فقطع الشيخ كلامه قائلا: «حبذا ذلك، إن مثلي لا يطمع في هذا المشرف، ويكفينا من جواره أن نقوم بخدمته بما نغرسه من الحنطة أو نرعاه من الماشية له ولرجاله في مقابل بقائنا في قيد الحياة.»
قال: «والآن أحب أن أقابل الشيخ دبوس، فهل ذلك ميسور؟»
قال: «لا أدري. أعطني الكتاب إذا شئت لأوصله إلى بعض رجاله فيوصله إليه، ثم آتيك بالجواب.»
فدفع إليه الكتاب فتناوله وركض نحو الجبل، ومكث عماد الدين في انتظار عودته وقد أمسك زمام فرسه بيده وأدار بصره فيما يحيط به من السهل الفسيح، وذلك الجبل الشامخ القائم في صدره وفوقه قلعة مصياف وقد أحدق بها السور والأبراج. ولم يقدر أن يتبين طريقا يصل بها إليه، كأن أهلها يصعدون إليها على أجنحة النسور أو في المناطيد. فهاله ذلك وتمثل له الخطر المحدق بمن ينوي براشد الدين شرا. لكنه ازداد رغبة في استطلاع أحوال ذلك الرجل، فإما أن يفتك به، وإما أن يقرب ما بينه وبين صلاح الدين. •••
قضى في ذلك ساعة ثم رأى الشيخ الفلاح راجعا ومعه شاب في لباس السعاة، حاسر الرأس حافي القدمين عاري الصدر كأنه من العفاريت. فلما وصل إلى عماد الدين حياه ثم سأله عن غرضه فقال: «أحب أن أقابل الشيخ دبوس.»
فمد يده وفيها كتاب التوصية وقال: «هذا هو كتابك، ما هو اسمك؟» قال: «عبد الجبار.» قال: «اتبعني.»
فتبعه ماشيا يقود فرسه والشاب يسير بين يديه وهو يتلفت إليه يجيل نظره فيه كالمتفرس. فاستغرب عماد الدين تلفته وتفرسه، ولو كان جبانا لوقع الرعب في قلبه، ولكنه كان شجاعا لا يعرف الخوف.
وبعد قليل وصلا إلى قاعدة الجبل فأشار إليه الشاب أن يترك الجواد هناك ويتبعه فتردد عماد الدين لحظة فقال له: «لا بد من ترك الجواد هنا وإلا فارجع من حيث أتيت.»
فأطاعه ومشى في أثره في طرق متعرجة بعضها منقور في الصخور وبعضها سلالم من الحجر يصعب تسلقها. والرجل يقفز بين يديه كالنمر لا يبالي بالتعب وعماد الدين يجاريه لئلا يظهر عليه الضعف وهو أبي النفس.
وبعد الصعود ساعة في تلك الطرق المتعرجة وصلا إلى باب القلعة وهو غليظ متين. فوقف الشاب وأشار إلى عماد الدين أن ينتظر، وتقدم هو إلى الباب ودقه دقات خاصة ففتح وكان لفتحه صرير شديد. فدخل وأغلق الباب وراءه، وظل عماد الدين واقفا ينظر إلى ذلك البناء المنيع وهو لا يرى منه غير السور الغليظ وعليه الأبراج. ولمح من شقوق الأبراج أو نوافذها الضيقة أناسا يذهبون ويجيئون كأنهم الحامية.
وبعد قليل عاد الرسول وقد لطف لهجته وأشار إلى عماد الدين أن يدخل، فدخل من ذلك الباب تحت العقد الغليظ ومشى في ممر طويل متعرج سقفه معقود وأرضه من الصخر الخشن. وقد وقف إلى جانبيه الحراس بالحراب والسيوف كأنهم أصنام لا يتحركون. فهاله ذلك المنظر لكنه تشدد وتجلد وصمم على الصبر إلى النهاية.
سار في ذلك الممر مسافة وانتهى منه إلى منفذ يستطرق إلى ساحة حولها أبواب مغلقة، فأشار إليه الرسول أن يتبعه ففعل حتى وصل إلى باب منها فطرقه. ولما فتح تقدم الرسول إلى عماد الدين ودفع إليه كتاب التوصية، وتراجع وأشار إليه أن يدخل. فتقدم فرأى نفسه في حجرة ببابها حراس أشاروا إليه برءوس حراب بأيديهم أن يدخل فدخل. ثم وقف وتلفت فإذا هي غرفة واسعة قد فرشت بالسجاد وغطيت جدرانها بأنواع الأسلحة. وفي جوانبها ضروب من آلات العذاب كالقيود والأغلال. وحول جدرانها مقاعد من الحجر المنحوت في ذلك الصخر فوقها غطاء من جلد الدب والأسد. ولم يكن في تلك الحجرة حينئذ أحد غير الشيخ دبوس جالسا في صدر الحجرة على جانب من ذلك المقعد وعليه جبة تكسوه كله، وعلى رأسه عمامة خضراء كبيرة، فحياه عماد الدين وقال: «لعلي في حضرة الشيخ دبوس؟»
فأشار الشيخ برأسه أن «نعم.» وأومأ إليه أن يتقدم ويعطيه الكتاب ففعل، فتناوله وفضه وقرأه. ولما فرغ من قراءته أومأ إلى عماد الدين أن يجلس وهو يقول: «إن ولدنا عبد الرحيم يوصينا بك خيرا، تفضل يا عبد الجبار اقعد.»
فقعد على طرف المقعد وهو ينتظر ما يكون، فقال له دبوس: «يقول لنا عبد الرحيم إنك تطلب نعمة القربى من شيخنا وإمامنا راشد الدين.»
قال: «نعم يا سيدي، فهل هذا ميسور لي؟»
فأطرق يفكر ثم قال: «إنه ميسور على شروط.» قال: «وما هي يا سيدي؟» قال: «اعلم يا عبد الجبار أنك قبل كل شيء ينبغي أن تنقي قلبك وتصفي نيتك وتستسلم إلى هذا الأمر. هل أنت فاعل؟» قال: «نعم.»
قال: «احذر أن تخدع نفسك فإني لا أقدر أن أعرف خفايا قلبك، ولكن المولى الشيخ الأكبر لا تخفى عليه خافية. إنه فاحص القلوب، إذا نظر في عينيك عرف مكنونات قلبك. فإذا كنت في شك من نيتك واستسلامك فارجع من هنا ولا تعرض نفسك للخطر. إني أنصح لك بناء على ما قرأته في كتاب التوصية من الثناء على شجاعتك وصداقتك. وأما إذا كنت قد أوتيت النعمة وألهمت الانتظام في هذا السلك والحصول على العهد فقد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة. وأنا تاركك يوما كاملا تفحص فيه ضميرك وتخبرني بما يستقر عليه رأيك.»
فوقع كلام الشيخ من نفسه وقعا شديدا وغلب عليه التردد، وقام في اعتقاده صدق ما سمعه عن شيخ الجبل من استطلاع خفايا القلوب. ولكنه تجلد وأظهر الثبات في عزمه وقال: «إني على عزمي، وسأصبر يوما آخر على حسب أمرك وأجيبك.»
فهز رأسه استحسانا وقال له: «اخلع ما عليك من السلاح، وهات ما عندك من الأدوات أو النقود أو غيرها، تلك عادتنا في مثل هذه الحال، ولا يخامرك شك فيما أفعل فإن هذه الأشياء تبقى عندي باسمك.»
فعظم هذا الطلب عليه وعنده الجواهر. وقد شق عليه أن يفارق خنجره ويبقى أعزل فتوقف حينا ولم يجب.
فقال له دبوس: «اعلم يا بني أن طالب الحصول على عهد مولانا الشيخ لا بد له من الاستسلام لكل ما يؤمر به بلا تردد. وقد خيرتك عملا بتوصية عبد الرحيم؛ لأنه ذو مقام عندنا. فإذا رأيت العدول عن عزمك رددنا أشياءك إليك.»
فلم ير بد من الطاعة؛ لأنه لم يوفق إلى دفاع، فمد يده واستخرج خنجره من منطقته ودفعه إليه. ثم استخرج ما كان عنده من الجواهر والنقود ودفع كل ذلك إلى دبوس وقد أحس بالخوف من الخديعة، لكنه اطمأن نوعا لما رأى الشيخ يبش له وقد وضع أشياءه كلها في منديل وأخفاه في حفرة بأسفل المقعد. وأومأ إليه أن يخرج إلى غرفة أخرى يستريح فيها. فخرج وقاده أحد الحراس إلى حجرة خلا فيها بنفسه وأخذ يفكر فيما سمعه، فتحقق الخطر الذي أوقع نفسه فيه وأصبح لا يعرف ماذا يعمل: أيعدل عن مهمته بعد أن وعد صلاح الدين بها أم يعرض نفسه للخطر بالدخول؟ وتذكر ما سمعه من صديقه عبد الرحيم عن كرامات راشد الدين وما هو شائع من هيبته واقتداره، فوقع في حيرة لأن رجوعه عنها يحط من قدره عند صلاح الدين وعند حبيبته. أو على الأقل ينحط قدره عند نفسه فإنها لا تطاوعه على الجبن. ودخوله يعرضه للقتل أو لخيانة صلاح الدين.
وكان يفكر في ذلك وهو يمشي في تلك الحجرة وليس فيها شيء من الأثاث سوى حصير وبساط قديم، فأطل من نافذة صغيرة فأشرف على ما يحيط بجبل مصياف من المستنقعات والسهول والروابي والأودية إلى مسافة بعيدة. واستغرق في أفكاره حتى نسي موقفه. ثم أجفل لأنه سمع وقع خطوات وراءه فالتفت فرأى رجلا كالخادم أتاه بالطعام ودعاه إلى الأكل وخرج. فأشار عماد الدين شاكرا وعاد إلى تفكيره ونفسه لا تطلب الطعام لفرط اهتمامه وقلقه. وحانت منه التفاتة وهو يجيل بصره في ذلك الفضاء إلى سور عال يحيط ببناء لا يظهر منه شيء، فظنه قلعة أو حصنا يلجأ إليه الإسماعيليون عند الاضطرار.
وعاد إلى هواجسه وهي تتعاظم وتتكاثف حتى ضاق صدره من كثرة التردد، وكان إلى تلك الساعة لم يذق طعاما، وأحس بالجوع فتحول نحو الطعام الذي أتوه به، وهو مؤلف من بعض الثمار وشيء من الخبز واللحم. فمد يده إلى الرغيف وكأن شيئا أرجعها عنه، وخطر له سوء الظن فقال في نفسه ... «قد يكون هذا الطعام مسموما.» ثم تذكر صديقه عبد الرحيم وتوصيته لدبوس، فغلب عليه حسن الظن وأكل ما يسد رمقه واقتصر على الثمار.
وفيما هو يأكل سمع ضوضاء في الساحة فنهض ونظر من الباب فرأى جماعة من أهل القلعة وفيهم الحراس والأجناد يتهامسون ويتضاحكون والبشر ظاهر في وجوههم. فخاف أن يكون لذلك علاقة بوجوده هناك أو ربما كان عليه خطر. فأصاخ بسمعه وإذا هم يتكلمون لغات مختلفة؛ لأن رجال الإسماعيلية أخلاط من أمم شتى، وفيهم العربي والتركي والفارسي والكردي والشركسي، يتكلمون كل هذه اللغات وإنما تغلب العربية على ألسنتهم.
وبعد الإنصات وإعمال الفكرة سمعهم يذكرون السلطان نور الدين وكأنهم يذكرون موته، فغالط سمعه ولم يعبأ به لأنه فارق السلطان منذ يومين في صحة تامة ورآه عائدا من الميدان على جواده كالأسد. واعتقد أنهم يشيعون ذلك رغبة في اجتماع كلمتهم. لكنه ما لبث أن جاءه رسول من الشيخ دبوس يدعوه إليه، فأسرع في أثره إلى مجلس دبوس فرآه قاعدا في صدر الغرفة وبين يديه جماعة من الأمراء بلباس متشابه وعلى رءوسهم العمائم تقرب من عمامة دبوس. فغلب على اعتقاده أنهم من رجاله.
فلما وقف عماد الدين أمامهم خاطبه دبوس قائلا: «أأنت قادم من بيت المقدس؟» قال: «نعم.»
قال: «ألم تجعل طريقك على دمشق؟» قال: «بلى.»
قال: «كيف كان سلطانها الأتابك نور الدين هل شاهدته؟»
قال: «نعم شاهدته على جواده عائدا من الميدان نحو الظهر.»
قال: «ومتى كان ذلك؟» فأطرق عماد الدين وهو يحسب الوقت ثم قال: «منذ يومين وبعض اليوم.»
قال: «لكنه مات في هذا الصباح، رحمه الله.» فأجفل وبانت البغتة في وجهه وقال: «مات؟ هل أنتم على ثقة من ذلك؟ لا أظن الخبر صادقا، ثم كيف يموت في هذا الصباح ويصل خبره إلى هنا الآن وبيننا وبين دمشق أكثر من يومين؟»
فضحك دبوس ضحكة استخفاف، وضحك الجلوس معه وهم يتلفتون بعضهم إلى بعض، ثم قال دبوس: «لا لوم عليك يا بني، وأنت لا تعرف مصدر هذا الخبر. إنه لم يأتنا بالبريد وإنما هو وحي هبط على مولانا الإمام الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركته وكراماته. كذلك فعل يوم مات الإمام العاضد بمصر، فقد جاءه علمه في يوم موته، ومصر أبعد من دمشق. وكذلك خبر المؤامرة التي قتل فيها عمارة وأصحابه.» ثم نظر إلى الجلوس كأنه يستشهدهم فبدت على وجوههم أمارات الإيمان بما قال.
فدهش عماد الدين ومع ذلك ما زال يظن أن في الأمر خداعا للإيهام وأن نور الدين لم يمت وقال في نفسه: «إذا ثبت موته بورود المرسوم من دمشق على العادة فإن لهذا الشيخ لشأنا عظيما.»
ولحظ الشيخ دبوس تردده ودهشته فقال: «لا تستغرب ما تسمعه يا بني، إنك إذ تمت النعمة عليك ووفقت إلى الدخول في طريقتنا رأيت أعجب من ذلك. إن مولانا الشيخ الأكبر يخاطب الحجارة فتجيبه حتى الميت إذا كلمه أجابه في الحال.» والتفت إلى القوم وقال: «وأزيدكم بيانا أن مولانا الشيخ - حرسه الله - أخبرني عن سبب موت هذا السلطان، قال إنه توفي بعلة الخوانيق.» ثم حول نظره إلى عماد الدين وقال: «وسترى في الغد ما يحقق ذلك حينما يأتي المرسوم.»
فوقع عماد الدين في حيرة عظيمة مما سمعه ورآه وأوشك أن يعتقد صحة كرامات راشد الدين. وقال له دبوس: «تفضل يا بني إلى غرفتك حتى يستقر رأيك، وإنما دعوتك لعلمي أنك قادم من دمشق لعلك علمت شيئا من مقدمات موت نور الدين. ولتعلم أيضا أن صديقك عبد الرحيم أخلص النصح لك. أتم الله نعمته عليك وعلي؛ لأنه هو أيضا مرشح للارتقاء في هذه النعمة؛ إذ ينال المجتهد فيها نصيبه. هذا كلام لا تفهمه الآن ولكن سوف تفهمه تفضل.» وأشار إليه أن ينصرف.
فعاد إلى غرفته وهو كالغائب عن الرشد لا يعرف كيف يعلل ما يشاهده من الغرائب المدهشة. وعزم في سره إذا صحت نبوءة الشيخ عن موت نور الدين أن يلتمس الدخول في تلك الطغمة بلا تردد. وود لو كان صديقه عبد الرحيم هناك ليوضح له بعض ما أشكل عليه ويزيده بيانا. •••
بات عماد الدين في تلك الليلة كالتائه في البحر، وتوالت عليه الأحلام وأفاق في الصباح على نقر باب حجرته. فذعر وجلس فإذا بصديقه عبد الرحيم واقف بين يديه فشعر عند رؤيته بارتياح عظيم وقد خف قلقه واطمأن باله كأنه لقي أباه أو أخاه واستأنس به كثيرا، فأكب عليه وعانقه وأوشك الدمع أن يتساقط من عينيه لشدة التأثر.
فعانقه عبد الرحيم وهو يبتسم وقال له: «يظهر من تلهفك لملاقاتي أنك كنت في ضيق.» قال: «لم أكن في ضيق، ولكنني متردد في أمور ولا أرى لي فرجا إلا على يدك. وأشعر أنك أخي أو أبي وألقي اتكالي عليك، وهناك أشياء أحب أن أستشيرك فيها.» فهش له عبد الرحيم مطمئنا، فأشار إليه عبد الجبار (عماد الدين) قائلا: «اقعد، من أين أنت آت؟»
فقعد وهو يقول: «إني آت من عند الشيخ دبوس، وقد قص علي ما أعجبه من ذكائك وشجاعتك. وأنه تلطف في معاملتك وأمهلك حتى تفكر في أمرك.»
قال: «نعم. وهذا ما أحب الاستفهام منك عنه، لقد أدهشني أمر لم أقدر على تفسيره.» قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني الشيخ دبوس ظهر أمس أن السلطان نور الدين صاحب دمشق مات في الصباح. وأنا رأيته بعيني قبل ذلك بيومين راكبا على جواده سليما معافى والصحة تتجلى في وجهه بعد أن قضى يومه مع سائر رجال دولته في السباق.»
فقال عبد الرحيم: «هذا كله صحيح، نعم إنه عاد من ذلك الميدان صحيحا معافى لكنه لم يصل إلى القلعة حتى أحس بألم في حلقه، ظهر بالفحص أنه الخوانيق.»
فأطرق عبد الجبار (عماد الدين) وقد بانت الدهشة في عينيه، وهان عليه أن يصاب نور الدين بالخوانيق على أثر رؤيته إياه على جواده فقال: «يظهر أن المرض جاءه شديدا فلم يمهله طويلا. لكن إذا فرضنا وقوع ذلك فعلا ومات نور الدين صباحا، فكيف وصل الخبر إلى هنا قبل الظهر؟»
فضحك عبد الرحيم وقال: «إن ذلك يا عبد الجبار من كرامات مولانا الشيخ الأكبر - نفعنا الله ببركته - ألم أقل لك شيئا من ذلك ونحن في بيت المقدس؟ إنه طالما أنبأنا بالأخبار حال وقوعها، ولو كان بيننا وبينها مسافة أيام، وليس هذا أعجب كراماته. وهل تظن سطوته وقوة نفوذه لا أساس لهما؟ كيف يخضع له الألوف من الناس وفيهم العقلاء والحكماء إن لم يروا فيه ما يستحق ذلك؟ أتعلم أن أتباعه اليوم يزيدون على ستين ألفا من نخبة الناس وفيهم الشجعان والأبطال والقواد، وكل منهم طوع إرادته يبذل نفسه في طاعته. أتظن ذلك يقع عفوا بلا استحقاق؟»
فقال عماد الدين: «أنت تشير علي إذن بأن أبقى على عزمي؟»
قال: «هذه نصيحتي لك.»
قال: «إنهم أخذوا مني نقودي وسلاحي.»
قال: «لا خوف عليها. فإذا رجعت عن هذا الأمر فأنا أضمن إرجاعها إليك. ولا أظنك راجعا عنه ولا سيما بعد أن ترى الشيخ الأكبر نفسه وتسمع أقواله وتختبر كراماته. إنها كثيرة إنما ...» وسكت كأنه أراد أن يقول شيئا وندم عليه.
فقال عماد الدين: «أراك تتردد في نصحي.»
قال: «معاذ الله يا أخي، أنت تعلم أننا تحاببنا وتصادقنا لغير غرض سوى تقارب القلوب. ولما كانت جماعتنا هذه تضم خيرة الشجعان وذوي البسالة فقد رأيتك أهلا للانتظام في سلكها. وسوف تحمد مغبة نصحي. لكنني أتردد في أمر أحببت أن أبوح به لك تخفيفا من قلقك. لكنه محظور علي. فسكت.»
قال: «إذا أطلعتني على شيء يخفف قلقي ضاعفت فضلك ولا يعلم به أحد، أعاهدك على ذلك.»
قال وهو يخفض صوته: «متى رضيت الدخول فإنهم يمتحنونك بأشياء لا يصبر عليها إلا الشجاع ثابت الجأش وأنت كذلك. لكنني أحببت أن أزيدك اطمئنانا، إن ما يظهر لك من تلك التجارب خطرا أو مستحيلا ليس هو في الحقيقة إلا ظاهرة لا طائل تحتها. وإنما يراد بها امتحان شجاعة الطالب. فمهما يطلب منك أن تعمله فاعمله ولا تخف. لا أقدر أن أفصح لك أكثر من ذلك.»
فقال عماد الدين: «يمتحنون شجاعتي؟ فليمتحنوا لأنني لا أبالي وأنت تعلم ذلك، ولكنني أحب أن أعرف شيئا آخر. هل تطلعني على حقيقته؟»
قال: «قل ما تريد لعلي أستطيع؟» قال: «كل ما أعرفه من أمر هذه الطائفة أن زعيمها راشد الدين رجل حكيم ذو كرامات، وأن أتباعه يطيعونه طاعة عمياء ويبذلون أنفسهم في طاعته. لكنني لا أعلم ما يناله أولئك الأتباع من المكافأة. وهل هم درجة واحدة أو درجات، فقد رأيت بعضهم كالخدم أو الجند وآخرين كالأمراء، وهذا دبوس كالملك، فما هو نظام هذه الطائفة أو الدولة؟ إنها غريبة في بابها!»
قال: «صدقت، إن نظامها غريب لم ينسج على منواله، ولا بأس من أن أقص عليك خبر هذا النظام باختصار. اعلم يا عبد الجبار أن جماعتنا هذه التي أرعبت العالم بتدبيرها وبسالة شبانها مؤلفة من طبقتين: الفدائيين، والمستنيرين. وفوقهما الزعماء وأصحاب الأسرار الحقيقية. وأول ما يدخل الإسماعيلي يكون فدائيا، فإذا استحق الرقي صار مستنيرا. أنا لا أزال إلى اليوم من الفدائيين (الفداوية).»
فقطع كلامه قائلا: «إذا دخلت أنا غدا، هل أكون مثلك؟»
قال: «نعم. لكنني الآن مرشح لنيل العهد فأصير مستنيرا عن قريب؛ لأن مهمتي التي ذهبت بها إلى بيت المقدس كانت آخر تجربة في سبيل الترقي، وقد جئت إلى هنا لكي أتلقى السر الجديد في طبقة المستنيرين.»
قال: «بماذا استحققت هذا الترقي؟»
قال: «استحققته بصدق الخدمة في مصلحة الجماعة وبذل النفس في سبيل الطاعة. ولا بد لكل فدائي أن يفعل ذلك قبل أن يصير مستنيرا. وأما أنت فأرجو أن يسرع ترقيك لأنك أهل لذلك بما فطرت عليه من المروءة وعلو الهمة. وليس في طلاب الانتظام كثيرون مثلك؛ ولذلك أرجو أن ترتقي على عجل.»
فأطرق عماد الدين (أو عبد الجبار) حينا يفكر في أمره وفي أصل مهمته وما خلفه وراءه في مصر من البواعث التي تقضي بسرعة عودته ولا سيما سيدة الملك. فإنها أصبحت منذ رجوع رسوله من عندها لا تبرح من باله. لكنه اطمأن عليها وهي في كنف صلاح الدين. ولحظ عبد الرحيم تفكيره فقال له: «لا حاجة إلى التردد، إن دخولك في هذا السلك أصبح أمرا مقضيا ولا بأس عليك منه. لكنني أحب أن تؤخره إلى مجيء المرسوم من دمشق بموت السلطان نور الدين وتتأكد كرامة إمامنا. وكن مطمئنا إلى أنك إذا عدلت عن الدخول فلن يصيبك أذى، ومولانا الشيخ الأكبر لا يقبل كل من يطلب الانضمام، وإذا شئت أن تتحقق قولي فتعال لأريك جماعة من أولئك الطلاب.» قال ذلك ونهض فتبعه عماد الدين وسارا إلى ساحة سمعا فيها عربدة وغوغاء بلغات مختلفة وغنات متفاوتة. ثم مشى به حتى أطل من وراء حائط على بقعة ازدحم فيها الرجال جماعات بين جلوس يتسامرون أو وقوف يتخاصمون. فقال عبد الرحيم: «انظر يا أخي. هؤلاء هم طلاب الدخول وأنت ترى الوحشية والعربدة وسفك الدماء في ملامحهم. وقد اشتهرت جماعتنا هذه بالفتك، فكل من يهون عليه قتل الأبرياء ويضيق به الرزق يأتي إلينا. ولكن غرضنا أسمى من ذلك وإن كنت إلى الساعة لم أطلع على سره الحقيقي. فهؤلاء يعدون بالعشرات كما ترى. وهم هنا منذ أيام لم يحفل الشيخ دبوس بهم.»
وفيما هما في ذلك رأيا رجلا كرديا من أولئك وقف وبيده جمجمة صب فيها خمرا وتمايل عجبا ثم شربها وهو يزدري رفاقه ويفاخرهم ببسالته وخشونته. فغضب واحد من رفاقه الأتراك فهزأ به ولطم تلك الجمجمة بقفا يديه فرماها وتناثر ما كان فيها من الخمر على الأرض، فضحك الرفاق وقهقهوا وقد أعجبهم عمل ذلك التركي، فلم يصبر الكردي على الإهانة واستل خنجره وطعن التركي طعنة قضت عليه. فهم الآخرون أن ينتقموا له فصاح بهم عبد الرحيم وأوقفهم وهددهم وأشار إلى بعض الحرس أن يقبض على القاتل.
ولم يزدد عماد الدين بذلك إلا دهشة مما رآه وسمعه. فرجع إلى حجرته وذهب عبد الرحيم لشأنه. وأتاه في اليوم التالي وقد جاء المرسوم من صلب الشام بوفاة نور الدين بالخانوق في الوقت الذي رواه شيخ الجبل. ولكنه صمم على الدخول في ذلك السلك؛ إذ لا بد له من ذلك للقيام بالمهمة التي جاء من أجلها، وقد تبرع بين يدي صلاح الدين بقتل راشد الدين، وربما علمت سيدة الملك بعزمه فكيف يعود بخفي حنين؟ على أن ما شاهده من مقام الرجل وكراماته جعل مهمته شاقة.
الفصل التاسع
عند زعيم الحشاشين
أصبح عماد الدين في اليوم التالي وهو على موعد للدخول على الشيخ الأكبر لينضم إلى جماعة الفدائيين. وكان كلما فكر في ذلك اختلج قلبه في صدره. وبعد قليل جاءه صديقه عبد الرحيم وهو يهش له تشجيعا وطمأنة، فقال عماد الدين: «هل أذهب الآن إلى الشيخ الأكبر أم إلى الشيخ دبوس؟»
قال: «لا بد من الذهاب إلى الشيخ الأكبر بواسطة الشيخ دبوس، فهل أنت متأهب لذلك؟»
قال: «نعم.» وأكبر أن يظهر الوجل. فقال عبد الرحيم: «هلم بنا إلى الشيخ دبوس.»
فمشيا حتى دخلا عليه وأطلعه عبد الرحيم على الغرض. فوجه كلامه إلى عماد الدين قائلا: «هل أنت مصمم يا عبد الجبار على الانضمام إلينا؟» قال: «نعم يا سيدي.»
فأمره أن ينزع ثيابه التي عليه ويرتدي ثوبا أبيض كالقميص الكبير دفعه إليه. فلبسه فجلله إلى عقبيه. ثم أمره فنزع عمامته وحل شعره وكان طويلا فأرسله على كتفيه. وأشار عبد الرحيم إليه أن يتقدم إلى الشيخ دبوس ويقبل يده ففعل. ثم أومأ إليه أن يتبعه فمشى في ممرات وطرقات والحرس وقوف في جوانبها بالحراب حتى أطل على رواق يؤدي إلى باب كبير عليه ستر وبجانبه حارسان عظيما الهامة كأنهما من الجان. فلما اقترب عبد الرحيم منهما أومأ إليهما بالإشارة (لأنهما أخرسان) أن يأذنا له في الدخول وهما يعرفانه فأذنا له، واستبقيا عبد الجبار خارجا. فوقف وهو مطرق يتردد بين الندم والعزيمة وإذا بصديقه قد عاد وقال له: «إن الشيخ مشتغل بمحاكمة الكردي القاتل لكنه أذن لنا في الدخول.»
ومشى فتبعه عماد الدين فدخلا قاعة مظلمة في صدرها كرسي كبير قد جلس عليه الشيخ الأكبر وإلى جانبيه رجال من خاصته وقد غطوا وجوههم ما عداه. ولم يستطع عماد الدين أن يتعرف الوجوه هناك إلا بعد قليل ريثما تعود النظر في الظلام فرأى ذلك الكردي واقفا وهو موثق اليدين. وفي وسط القاعة جثة القتيل ملطخة بالدماء. فأشار عبد الرحيم إلى عماد الدين أن يقف معه في ناحية ففعل، وأخذ يتفرس في راشد الدين فإذا هو يرتدي ثوبا أسود يغطيه كله إلا وجهه وقد بانت الشيخوخة في ذلك الوجه بتجعده وبياض لحيته، لكن عينيه تبرقان كالسراجين ويكاد الشرر يتطاير منهما. وما عتم راشد الدين أن صاح بذلك الكردي قائلا: «أتجسر يا هذا أن تقتل نفسا في جوارنا؟»
فصاح الرجل: «إني لم أقتله يا مولاي، وإنما هم يتهمونني زورا.»
قال: «وتكذب أيضا؟ أتحسب أن ذلك ينطلي علينا؟ ألا تعلم أننا نفحص القلوب ونعرف أسرارها؟»
فعاد الرجل إلى الإنكار وقال: «إنهم يتهمونني يا سيدي زورا، فإذا شئت فإني آتي بالشهود، أو أقسم لك ببراءتي.»
قال: «لا حاجة بنا إلى شهود أو قسم، أنا أسأل هذا القتيل وهو ينبئني بالحقيقة.»
فلما قال ذلك أجفل عماد الدين، ونظر فرأى راشد الدين قد وقف وانتصب كالصنم ثم خطا خطوة نحو القتيل وصاح به وهو يشير إليه بإصبعه كأنه يهدده: «ألم يقتلك هذا الكردي؟ قل!»
كان السكوت مستوليا على الحضور وقلوبهم تخفق تطلعا إلى ما يكون، فسمعوا القتيل يقول بصوت ضعيف: «بلى هو قتلني!»
فسأله ثانيا: «بماذا قتلك؟»
فأجاب: «بخنجره!»
فلما سمع عماد الدين ذلك اقشعر بدنه. كيف لا وقد سمع الميت يتكلم وهو على ثقة من تلك الحادثة لأنه رآها بنفسه؟! أما راشد الدين فرجع إلى مقعده وأشار إلى بعض الوقوف بين يديه من رجاله أن يذهبوا بالرجل إلى السجن وأن يدفنوا القتيل ففعلوا. وقد استولت الدهشة على الحضور ولا سيما عماد الدين.
وبعد قليل أشار راشد الدين إلى الوقفين في مجلسه بالانصراف ولم يبق غير بعض خاصته الملثمين، وأومأ إلى عبد الرحيم أن يقدم عبد الجبار فقاده بيده حتى أوقفه بين يديه، فوقف وركبتاه ترتعدان من التهيب وقد عظم أمر راشد الدين في خاطره.
فوجه هذا كلامه إلى عماد الدين قائلا: «وأنت يا عبد الجبار، أرجو أن تصدقنا ولا تفعل كما فعل ذلك الكردي، أنت كردي أيضا لكنني أقرأ في وجهك الصدق. أنت تطلب الانضمام إلى رجالنا؟» قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «وهل تعلم ما أنت مقدم عليه من الأمر العظيم؟» قال: «نعم.»
قال: «لا تخدع نفسك إذا كنت مترددا أو خائفا ارجع من حيث أتيت. ونحن إنما نطلب رجالا أهل بسالة وصدق. وهل تعرف الخطر الذي يحدق بك؟»
قال: «نعم.»
فتنحنح وقال: «وما الذي حملك على هذا الأمر؟» قال: «أن أتشرف بخدمة مولانا الشيخ الأعظم.»
قال: «من أين أتيت؟» قال: «من بيت المقدس.» وخاف أن يسأله عن حقيقة غرضه فيكشف أمره ويقع في خطر الموت. فارتعدت فرائصه لكنه تجلد وصبر.
فقال له راشد الدين: «أنا أعلم أنك قادم من بيت المقدس الآن، ولكنني أحب أن تخبرني عن المكان الذي جئت منه قبل بيت المقدس.»
فتحير في الجواب وسكت وهو يفكر في هل يصدقه أم لا. وخاف أن تكون كرامة راشد الدين دلته على حقيقة غرضه الذي جاء من أجله فتلعثم لسانه. فلم يصبر راشد الدين عليه فقال: «يظهر أنك خائف. لا تخف يا بني. إنك شاب شهم ولست من طبقة أولئك الزعانف الجهلاء. أنا لا أكلفك أن تقول شيئا، وإنما أستفهم شعرة من شعرك وهي تنبئني.» وأشار إلى عبد الرحيم أن يأتيه بشعرة من ذؤابة عماد الدين فجاءه بها فتناولها بين السبابة والإبهام وجعل يخاطب الشعرة قائلا: «يا شعرة عبد الجبار، قولي لي أين كان صاحبك قبل بيت المقدس؟»
فسمع عماد الدين الجواب آتيا من ناحية الشعرة ضعيفا كأنه صادر عن وتر رنان وهو: «من القاهرة!»
فقال: «قولي لي أين كان صاحبك هناك ومن هو؟»
فقالت: «كان عند يوسف صلاح الدين وهو من رجال خاصته.»
فلما سمع عماد الدين ذلك أوشك أن يسقط على الأرض من الارتعاد، وأطرق لا يحير جوابا. وخاف أن يواصل الأسئلة ويطلع على سر قدومه إلى هناك. مرت عليه دقيقتان هما أطول من سنة. ثم رأى راشد الدين تنهد عند سماع اسم صلاح الدين ورمى الشعرة من يده وقال: «صلاح الدين يوسف؟ أطال الله بقاءه.»
فاستغرب عماد الدين قوله وانتعشت آماله، لكنه ظل ساكتا. فقال راشد الدين: «كيف فارقت صلاح الدين، هل هو في صحة وسلامة؟» قال: «نعم يا سيدي.»
قال: «الحمد لله على ذلك.» ولحظ عماد الدين تغيرا في وجه راشد الدين لم يفهم سببه. لكنه ما زال خائفا من افتضاح أمره حتى سمع راشد الدين يخاطبه قائلا: «أحمد الله على سلامة صلاح الدين، والآن هل أنت مصمم على الانضمام إلى رجالنا؟» قال: «نعم يا مولاي.»
قال: «أتعلم ماذا يطلب منك؟» قال: «لا، لكني طوع أمر مولاي فيما يريد.»
فابتسم راشد الدين ابتسامة لم تغير شيئا من انقباض سحنته وقال: «أعجبني جوابك يا عبد الجبار. وأنت إذا أتيح لك أن تكون من رجالنا كسبت الدنيا والآخرة. لكن ذلك ليس بالأمر الهين.» قال ذلك ووقف وأشار إليه أن يتبعه، فتبعه وهو يسترق النظر إلى عبد الرحيم استئناسا برأيه ولو بالإشارة. فرآه يشجعه ويطمئنه. حتى وصل راشد الدين إلى جانب من جوانب تلك القاعة الواسعة المظلمة فوقف وقال لعماد الدين: «انظر هنا.» وأومأ بإصبعه إلى حفرة بين يديه.
فنظر فإذا هو على شفا هوة لا قرار لها. فقال له: «إذا كنت صادقا فيما تقوله فألق بنفسك في هذه الهوة!»
ونظر عماد الدين إلى الحفرة فلم يشك في أنه إذا أطاعه فسيقتل لا محالة. فالتفت إلى عبد الرحيم خلسة فإذا هو يشجعه ويشير إليه بعينيه أن يخطو. وهو واثق بصدق صديقه، لكنه خاف أن يكون في الأمر دسيسة وأن راشد الدين اطلع على حقيقة مهمته فأراد الانتقام منه على هذه الصورة. على أنه تذكر ما نبهه إليه عبد الرحيم من قبل وهو لم يتعود الخوف أو التردد فسبقت قدمه إلى الوثوب نحو فوهة تلك الهوة مدفوعا بوعده وشجاعته. فإذا هو قد تلقته عارضة برزت وغطت تلك الفوهة. وفتحت فوهة أخرى في المكان الذي كان واقفا عليه. فلم يصدق أنه لا يزال حيا.
أما راشد الدين فأمسكه بيده وهو يقول: «الآن تأكدت صدقك. ولو لم تصدقني لقتلت؛ لأن فوهة الهوة تحولت إلى موقفك الأول.» وأشار إليه أن يتحول نحو القاعة وهو يقول: «استحققت النعمة التي تطلبها. إنك منذ الآن من أبنائي الصالحين.»
وعاد راشد الدين إلى مجلسه وأشار إلى واحد من الخدم الوقوف بين يديه بالإشارة أن يتبعه بقدح فأتاه به، فتناوله وصب فيه سائلا من إناء بجانبه وقال: «هذا ماء الحياة وطريق النعيم إذا كنت صادقا، وهو سم قاتل إذا كنت كاذبا. فإذا كنت على وعدك بالطاعة وصدق النية فاشربه.»
فتناوله وتردد لحظة وهو ينظر إلى صديقه عبد الرحيم فرآه يشجعه فشرب ما في القدح وأومأ إليه الشيخ أن يقعد. فقعد وأحس بعد قليل بالخدر ثم غاب عن رشده. •••
ولا تسل عن دهشته لما أفاق من غيبوبته وفتح عينيه فرأى نفسه في حديقة كالجنة بما يصفونها به من جري الأنهار وتعانق الأشجار وتجاوب الأطيار من صادح وسابح. وأول ما نبهه من رقاده نسيم مر على وجهه ويد لمست جبينه. فإذا هي يد غادة أو حورية كأنها البدر عليها ثوب يجللها لكنه لا يكسوها لشفافته. وبيمناها مروحة من ريش النعام تروح له بها. وقد وضعت يسراها على جبينه كأنها تمسح عرقه فظن نفسه أول وهلة في حلم وخاف إذا نهض أن يفقد تلك المناظر البديعة فصبر قليلا، فإذا بتلك الحورية تخاطبه بصوت رخيم قائلة: «انهض يا حبيبي إلى متى الرقاد؟»
فنهض ونظر إلى نفسه فرأى عليه ثوبا يشبه أثواب الأمراء لم ير على السلطان صلاح الدين أحسن منه. وعلى رأسه عمامة من نسيج مزركش بالقصب. وقد جلس على بساط من أجمل أبسطة عصره عليه الصور المنسوجة بالذهب. وقضى برهة وقد أخذته الدهشة ينظر تارة إلى نفسه وطورا إلى تلك الحورية، وآونة لما بين يديه أو لما يقع عليه بصره من الأشجار والأزهار وما يسمعه من خرير الماء وتجاوب الأطيار، وما يفوح من الروائح العطرية مما لم ير مثله ولا خطر بباله.
وبينما هو يفكر في ذلك تقدمت إليه تلك الغانية وقد أزاحت نقابها عن رأسها وأرسلت شعرها الذهبي على كتفيها وهي تنظر إلى عماد الدين بعينين تكادان تنطقان بعبارات الحب وتشكيان لواعج الغرام. على أنه تجلد ونظر إليها وصبر لما يبدو منها فمدت يدها للمصافحة فناول يده وهو ما زال يحسب نفسه في رؤيا، فقبضت على أنامله وهي تقول: «ما بالك يا عبد الجبار ما زلت تحسب نفسك في منام؟ أنسيت أنك شربت ماء الحياة من يد مولانا الشيخ الأكبر؟ إنك في الجنة الآن التي لا يدخلها إلا المستحقون؟»
فتذكر القدح الذي شربه من يد راشد الدين فغلب على اعتقاده صدق دعوى ذلك الرجل وأنه في الواقع انتقل إلى الجنة بأنهارها وأشجارها وأطيارها، وأن هذه المرأة حورية من حورها. ثم تذكر سيدة الملك فأجفل وقال في نفسه: «ما لهذه المرأة تهم بقلبي لتختطفه وهو ليس لي؟» وتباعد عنها فتباعدت، وبان العتب في وجهها وتحولت عنه ثم غابت عن عينيه.
فتركها ومشى على أرض مكسوة بالعشب الأخضر اللون كالبساط المزركش وقد فاحت منه الروائح المنعشة، فوقع بصره عن بعد على قناة يجري فيها الماء لامعا كأنه الزلال، وعلى ضفتيها أشجار الفاكهة وقد وقعت أشعة الشمس من خلال الأغصان على ذلك الماء وهو يجري فتلون بألوان قوس قزح. فدنا من تلك القناة ووقف على ضفتها ينظر إلى الأشعة الواقعة على الحصى في قاعها كيف تتكسر وتتلون. وأنه لفي ذلك إذ رأى في الجانب الآخر حورية برزت من بين الأشجار ومشت نحوه وهي تبتسم له. فسره أن بينه وبينها قناة تحول دون وصولها إليه، وتوقع أن تقف على الضفة الأخرى وتخاطبه. فإذا هي تجاوزت الضفة ولم تزل ماشية إليه فوق سطح الماء ولم تبتل قدماها.
وتعاظمت دهشته لما رآها وصلت إليه وقدماها العاريتان تنتقلان فوق سطح الماء الجاري لا تقع فيه ولا تعكره أو تعيق سيره. فتحقق لديه أنه في مكان غير الأرض، وأن أولئك الحور من الملائكة. وصلت تلك الحورية إليه والهواء يعبث بشعرها ويلاعب أطراف ردائها. وبسطت يدها نحوه كأنها تستقبله وهو يحارب هواه ويتذكر سيدة الملك وحبها إياه ويهم بالابتعاد، فرأى وجه تلك الحورية شيئا يشبه ملامح حبيبته فذعر وتفرس فيها جيدا وحدثته نفسه أن تكون هي بعينها وأن مجيئها إلى تلك الجنة من جملة معجزات راشد الدين. فوقف ريثما وصلت الحورية إليه ومدت يدها نحوه، فمد يده وتصافحا وهو يتفرس في وجهها فكانت كلما دنت منه بعدت المشابهة بينها وبين سيدة الملك. لكنه استأنس بها وأحب أن يحادثها عما يراه. فلما دنت منه فاحت رائحة الطيب من ثوبها فوضعت يدها على كتفه فاقشعر بدنه فقال لها: «من أنت يا هذه وأين أنا؟»
قالت: «ألا تعرف أين أنت؟ إنك في جنة شيخ الجبل مولانا الإمام الأكبر.»
قال: «وهذا مقر أتباعه أجمعين؟»
قالت: «نعم. ولكن لا يمكث فيها إلا من أحسن البلاء في طاعته.»
وأمسكت بيده ومشت فمشى، وأومأت إليه أن يتبعها فوق تلك القناة فتردد هنيهة فجذبته بيده وهي تقول: «لا تخف امش.» فمشى فإذا هو يخطو على شيء صلب يفصل بين قدميه وبين الماء. فظن الماء جمد تحت قدميه. ووصل إلى الجانب الآخر وسار مع الفتاة وهو شديد الرغبة في معرفة حقيقة ما يراه، فلما سمع قولها قال: «هل أنا باق هنا؟»
قالت: «أنت حديث العهد، وإنما جئت لترى ما أعده المولى لأتباعه ومريديه إذا قاموا بأوامره. وعسى أن تكون من المستحقين.»
فعلم أنه هناك إلى أجل ولا يلبث أن يعود. فمشى لترويح النفس وعيناه تنتقلان بين الأشجار والرياحين ويرى الأطيار تتنافر بين أيدي تلك الحورية، وفيها الكراكي والطواويس بألوانها الجميلة. والبلابل والحساسين تتجاوب بالتغريد أو الزقزقة. والفتاة تناديها فتأتيها وتقع على كتفيها أو على يدها وتنتقل كما تأمرها كأنها تفهم لغتها.
ثم سمع عماد الدين زئيرا علم أنه زئير الأسد، وكان قد سمعه مرارا فأجفل وقال: «أليس هذا زئير الأسد؟»
قالت: «بلى، وهل خفته؟ إن الأسود لا تؤذي أهل هذه الدار.» ومشت حتى دنت من مربض لأسد تحت شجرة، فإذا هو مقع وعيناه تبرقان لكنه لم ينتقل من مكانه، فتقدمت الفتاة إليه ومدت يدها إلى رأسه وعبثت بشعره كما تعبث بشعر الهر فلم يتحرك، فاستغرب عماد الدين ذلك أيضا.
وجاء إلى السير فوقع نظره في بعض جوانب الحديقة على غرف مفردة تغطيها الأزهار والأغصان فسألها عنها فقالت: «هذه مساكن الذين استحقوا البقاء هنا يتمتعون بالملذات والنعيم، لا يعكر عليهم ذلك أحد.»
وبعد المسير برهة بين صعود وهبوط وقفت به الفتاة عند حائط وقالت له: «انظر إلى هنا.» فنظر من كوة في الحائط تشرف على واد أجرد لا شيء فيه من الماء ولا الخضرة. فأجفل لما رآه هناك من الثعابين والوحوش المفترسة تسرح بين جماجم البشر فقال لها: «أظن هذه هي الجحيم.»
قالت: «نعم هذه هي، فلو لم تطع الشيخ الإمام لكنت في عداد المغضوب عليهم هنا.»
لم يشأ أن يقف هناك طويلا. فتحول وعادت معه حوريته وهي تلاطفه وتقطف من الثمار وتعطيه وهو كالتائه في أفكاره لا يدري ماذا يرى. وإذا هو يسمع صوتا اهتزت له جوارحه وجمد الدم في عروقه؛ لأنه صوت سيدة الملك كأنها تستغيث به. فأخذ يتلفت يمينا وشمالا وهو يحسبها على مقربة منه والحورية تنظر إليه بذهول قائلة: «ما بالك؟ ما الذي أوقفك؟» قال: «ألا تسمعين شيئا؟» قالت: «كلا، ماذا تسمع؟»
فأطرق وهو يصيخ بسمعه فلم يعد يسمع شيئا. فرجح عنده أنه مخطئ وأنه سمع ما سمعه لفرط تفكيره في سيدة الملك، فأتت روحها لزيارته أو هو صوتها جاء للسلام. لكنه لم يطمئن إلى هذا الفكر والصوت الذي وصل إليه صوت استغاثة، وساءل نفسه أهي في شدة؟ وإذا كانت كذلك فما أجدره أن يسعى في إغاثتها.
وكان قد شعر بارتياح إلى تلك الحورية لحسن أدبها وكثرة ما بذلته في سبيل استرضائه واجتذاب قلبه، وهو شاب في مقتبل العمر، فغلب على اعتقاده أنه في جنة أو مكان يشبه الجنة جاءه بكرامة أو معجزة من معجزات راشد الدين، وأوشك أن يشتغل عن سيدة الملك. فلما سمع ذلك الصوت توهم أنه صوت ضميره يناديه بالثبات على حب حبيبته فلا يشتغل عنها بسواها، فأحس بانقباض، وود الخروج من ذلك النعيم.
وفيما هو يفكر في ذلك لا يلتفت يمينا ولا شمالا سمع وقع خطوات غير خطوات رفيقته فالتفت فرأى غلاما كالبدر طلعة وبهاء قد تمنطق بمنطقة من الخز أرسل جانبا منها إلى الأمام كالمئزر، وأرسل شعره ضفائر ذهبية وعليه ثوب سماوي اللون، فلما دنا من عماد الدين انحنى انحناء الاحترام وقال بصوت رخيم: «ألا يتفضل المولى لتناول الغداء؟»
فالتفت إلى رفيقته كأنه يستزيدها بيانا فابتسمت له قائلة: «تفضل يا مولاي إلى الطعام فقد آن وقت الغداء.»
وكان في شغل عن الطعام، فلما ذكر له أحس بالجوع. فمشى في طرقة مسواة كأنها فرشت بالزعفران يحف بها من الجانبين سياج من الأزهار الجميلة، ينتهي في آخره بباب كباب القصر الفخم. وقبل الوصول إلى الباب فاحت روائح الطعام الشهي مما لم يعرف مثله إلا في قصور الفاطميين في أثناء الأعياد. ولما اقتربوا من ذلك الباب فتح بنفسه، وتقدم غلامان آخران يرحبان بالقادم ومشيا بين يديه من باب إلى باب حتى وصل إلى غرفة المائدة وهو يلتفت إلى الجانبين، وقد أدهشه ما على جدران الممرات من الستائر المصورة تمثل البساتين والقصور ومواقف البذخ والرخاء، وتلفت النظر وتجتذب القلب. وأما غرفة المائدة فقد ذهبت برشده وأوقفته موقف الحيرة ونسي مكانه لأن جدرانها الأربعة مكسوة بالمرايا على طول الحائط. فيظهر الشخص الواحد عشرات من المرات من كل جانب.
فتقدمت الفتاة أولا وأشارت إلى عماد الدين أن يتفضل فجلس على مقعد مغشى بالديباج المزركش، وبين يديه مائدة مكسوة بملاءة من الحرير الوردي، ولم تمض دقائق قليلة حتى تواردت الأطباق وعليها الألوان من اللحوم والفاكهة. وجلست تلك الحورية بجانب عماد الدين وهي تلاطفه وتقدم له اللقمة بعد اللقمة وتبالغ في إكرامه، والغلمان وقوف بين أيديهما للقيام بالأوامر، فعاد عماد الدين إلى نسيان سيدة الملك وقد سحرته تلك الفتاة بجماله ولطفها. ولا سيما بعد أن دارت الأقداح وفيها الخمور اللذيذة، فأصبح لا يعرف غير تلك الساعة وقام في ذهنه أنه في النعيم الحقيقي.
ولما رأت الفتاة ميله ورضاه أخذت في الإعراض عنه وهو يزداد شغفا، وقد زادته الخمور اندفاعا حتى أصبح يتزلف إليها ويغازلها وهي تتمنع فلما تحققت افتتانه بها قالت: «لا تخرج عن حدك، فأنت إنما جئت إلى هنا على سبيل التجربة. وليس الوصول إلى ما تطمع فيه سهلا. إن من دونه بذل النفس في طاعة الإمام الأكبر.»
فشق عليه هذا الإعراض لكنه زاد افتتانا وقال: «قد كنت منذ هنيهة تتقربين وأنا أبعد فهل كنت تخادعينني؟»
قالت: «كلا، ولكن لا بد أن تأتي عملا يؤهلك إلى المقام في هذا النعيم دائما، وعند ذلك أكون طوع إرادتك، وإذا خاطبت الأطيار أجابتك، وتجد النعيم الحقيقي من كل شيء. وليس ما تراه إلا مثالا صغيرا من ذلك النعيم فعسى أن تعمل عملا يؤهلك لبلوغه. والحق يقال إني فتنت بجمالك وبسالتك، وشعرت نحوك بما لم أشعر به قبلا نحو أحد. ولكنني لا أقدر أن آتي أمرا يخالف رضا مولانا، ولا أقدر أن أخفي عليه شيئا؛ لأنه فاحص القلوب يطلع على خفايا السرائر، ولكنني تأكيدا لعلائق المودة بيننا أدهن شعرك بطيب خاص بي.» قالت ذلك واستخرجت علبة من بين أثوابها فتحتها ففاحت منها رائحة لم يشم مثلها في حياته. فأخذت بعض الطيب ودهنت به يديه وشعره. فلذ له ذلك وطابت نفسه. ثم قالت : «احفظ هذه الرائحة تذكارا بيننا حتى نلتقي اللقاء الدائم إن شاء الله.» وبان الإعجاب في عينيها فازداد هو تهيبا من ذلك الشيخ العجيب، فسكت.
وبعد الفراغ من الطعام والشراب أحس عماد الدين بميل إلى النعاس فتوسد فراشا من الحرير المحشو بريش النعام وتلك الحورية إلى جانبه تداعبه وتعرض عنه، ولم تمض دقائق قليلة حتى غلب عليه النوم واستغرق في رقاده.
وأفاق في اليوم التالي فإذا هو في قاعة راشد الدين كما كان من قبل وعليه الثوب الأبيض وشعره محلول. فجعل يتلفت يمينا وشمالا وينظر في ثوبه فتبادر إلى ذهنه أول وهلة أنه رأى حلما. ثم ما لبث أن شم رائحة الطيب في شعره ويديه فلم يبق عنده شك أنه رأى ما رآه حقيقة. وانتبه بعد قليل لنفسه فرأى راشد الدين جالسا كما تركه، ورأى صديقه عبد الرحيم بجانبه. فهش له وضمه إلى صدره، فقال له عبد الرحيم: «إن رائحة الجنة تنبعث من شعرك، هنيئا لك وعسى أن يتاح لك النعيم الدائم. قم واجث عند قدمي مولانا وقبل ركبته وادع بطول بقائه.»
فنهض وترامى على قدمي الشيخ عن اعتقاد صحيح بكرامته. وقبل ركبته فمنعه ودفع إليه يده فقبلها، ثم قال له الشيخ: «أنت الآن من أبنائنا الفدائيين، ويلوح لي أنك لا تلبث أن ترتقي إلى مصاف المستنيرين. قم إلى غرفتك وقد أوصيت الشيخ دبوس بك خيرا. ولكنني أحب قبل خروجك أن أزودك بعهد مني.» قال ذلك ونهض وأنهض عماد الدين معه وهو يحدق في عينيه وعماد الدين يشعر بقوة تنبعث من عيني ذلك الرجل وتوشك أن تغلبه على أمره. وقد قبض الشيخ على يدي عماد الدين بيديه قبضا شديدا.
ومكث كذلك عدة دقائق ثم صاح به: «افتح فمك.» ففتحه فتفل فيه وقال: «كن فدائيا مطيعا.» وتركه وأشار إلى عبد الرحيم أن يذهب به إلى غرفته.
فمشيا إلى غرفة الشيخ دبوس وهما صامتان، وقد استولت الدهشة على عماد الدين وأصبح كالمأخوذ أو من أصابه السحر. فلما وصلا إلى الشيخ دبوس بدل عماد الدين ثيابه وهنأه دبوس بما ناله من رضا الشيخ الأكبر، وأعاد إليه خنجره ونقوده وجواهره وأصبح واحدا منهم.
على أنه حالما عاد من دار النعيم التي كان فيها، عاد إلى ذكرى صلاح الدين وسيدة الملك، فأصبح همه أن يخلو بعبد الرحيم ليسأله سؤالا شغل خاطره بالأمس، وهو قول راشد الدين: «أطال الله بقاء صلاح الدين.» فإنه لم يقدر على تعليله وهو يعلم تعمده قتله مرارا.
أما عبد الرحيم فاستأذن صديقه عبد الجبار في الغياب تلك الليلة التي عينوها لترقيته إلى درجة المستنيرين. فبات عماد الدين على أحر من الجمر وقد تراكمت عليه الهواجس وأخذته الغرائب. وكلما تضوعت رائحة الطيب من شعره تذكر تلك الفتاة وما لقيه هناك من أسباب السعادة.
نام تلك الليلة نوما متقطعا، وما كاد يطلع النهار حتى جاء صديقه عبد الرحيم والبشر يتجلى في عينيه فنهض عماد الدين وقبله وقال: «قد أصبحت منذ الآن أرقى مني، ولا يحق لي أن أناديك أخي كما كنت أفعل.»
فضحك عبد الرحيم وقال: «إن صداقتنا أمتن من ذلك كثيرا، كنا غريبين وتحاببنا ونحن الآن أخوان على عهد واحد. ولا تلبث أنت أن ترتقي إلى مثل رتبتي. أتمنى ذلك لك قريبا، بل أنا أتوقعه عن ثقة.»
ولم يكن ذلك الشرف ليهمه، وإنما همه استطلاع رأي راشد الدين في صلاح الدين، فإذا علم أنه ما زال ينوي قتله عاد إلى مهمته الأولى. وأما إذا تحقق صدق دعائه له بطول العمر كان له رأي آخر فقال: «أما أنا فلا أتوقع قرب الترقي كما تظن. ويكفيني أن تكون لي صديقا. ولا أحب أن أحملك ثقل صداقتي لشيء أطمع فيه على يدك، وإنما أتقدم إليك أن تفسر لي كلاما قد سمعته من الشيخ الأكبر بالأمس فوقع عندي موقع الاستغراب ولم أصدقه وهو قوله «أطال الله بقاء صلاح الدين» مع أني أعلم أنه بعث أناسا لقتله غير مرة.»
فابتسم عبد الرحيم وهو ينظر إلى عماد الدين ويهم بالكلام ويمسك نفسه، فلما رآه عماد الدين يتردد قال له : «إذا كنت تعرف الحقيقة فأرجو أن تخبرني بها؛ لأن ذلك يهمني كما تعلم. ولعلك من أعلم الناس بأمري مع هذا السلطان.»
فاعتدل عبد الرحيم في مجلسه وأظهر الاهتمام وقال: «اعلم يا صديقي عماد الدين أن عبارة الشيخ الإمام التي ذكرتها كانت مغلقة علي إلى مساء الأمس، فلما صرت من المستنيرين دخلت في جملة ما عرفته. وليست هي سرا اؤتمنت عليه مثل سائر أسرار هذه العشيرة، لكنني اطلعت عليه عرضا، ولذلك لا يمنعني الواجب ولا الخوف من أن أجيبك عن سؤالك.»
فتطاول عماد الدين بعنقه وقال: «قل بالله. هل يريد الشيخ الأكبر حقيقة أن يطول بقاء مولاي صلاح الدين؟»
قال: «نعم، إنه يتمنى ذلك من كل قلبه، وهو يطلبه ليل نهار.»
قال: «يا للعجب! كيف يبعث من يقتله ثم هو يدعو بطول بقائه!»
قال: «لعلك تعني ما حدث لصلاح الدين قبيل خروجك من مصر؛ إذ نهض في الصباح فوجد الخنجر فوق رأسه ورسالة التهديد بجانبه.»
قال: «نعم، هذا ما أعنيه.»
قال: «هذا دليل على رغبة الشيخ الأكبر في طول بقاء صلاح الدين، ولولا ذلك لأمر الفدائي الذي تمكن من الدخول عليه حتى غرس الخنجر في وسادته عند رأسه بأن يغرسه في صدره ولم يكن ثمة ما يمنعه. ولكنه أمر أن يكتفي بالتهديد لرغبته في بقائه حيا.»
فاستغرب عماد الدين ذلك وقال: «لكنني لم أفهم الباعث على تلك الرغبة، وهذا شيخنا - حفظه الله - قد اشتهر فتكه بالملوك والسلاطين. ولم يبق فيهم من لا يخافه حتى صلاح الدين نفسه، فكيف هو يحب بقاءهم أحياء و...»
فقطع كلامه قائلا: «لا. لا. إنه لا يلتمس طول البقاء لأحد من هؤلاء غير صلاح الدين.»
فقال: «لماذا؟ أرجو أن تفصح لي.»
قال: «السبب يا أخي أن شيخنا - أيده الله - علم بالوحي أنه يموت في نفس السنة التي يموت فيها صلاح الدين، فمن مات منهما قبل صاحبه لا بد للثاني أن يتبعه في تلك السنة. فهو لذلك حريص على حياة صلاح الدين حرصه على حياة نفسه. وهل عندك شك في صدق هذا الشيخ العظيم. قد رأيت من معجزاته ما يكفي، وإن كان قليلا من كثير.»
فأطرق عماد الدين وأخذ يفكر فيما سمعه، وما لبث أن صدق ما قاله راشد الدين بعد ما شاهده بنفسه. فاعتقد موت الرجلين في سنة واحدة، ورأى أن من مصلحة صلاح الدين أن يطول عمر راشد الدين. فتحولت همته إلى المحافظة على حياة هذا الرجل لا قتله. وعد مهمته قد انقضت وأصبح يميل إلى الخروج من ذلك الحصن والإسراع إلى صلاح الدين لينقل إليه تلك البشرى ويرى حبيبته سيدة الملك. واعترضت أفكاره رائحة الطيب ومناظر تلك الجنة، لكن الحقيقة تغلبت على الوهم واشتد ميله إلى الخروج، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يرسله راشد الدين في مهمة لقتل أحد الملوك أو الأمراء، فالتفت إلى صديقه عبد الرحيم والامتنان باد في وجهه وقال: «لا أنسى صداقتك يا عبد الرحيم، إني أشعر بصدق مودتك شعورا يكاد يلمس باليد. ولذلك كانت ثقتي بك عظيمة، فلا ينبغي لي أن أخفي عليك شيئا، فهل تأذن لي في أن أستخدم تلك الثقة؟»
قال: «قل ما بدا لك، فأنت في موضع ثقتك.»
قال: «لا حاجة بي إلى بيان الأسباب التي تلجئني إلى سرعة الخروج من هذا الحصن، فأنت تعلم علاقتي بمصر، فأتقدم إليك أن تساعدني في ذلك.»
قال: «خروجك لا يتم إلا إذا دبروا لك مهمة تذهب في إنفاذها لقتل كبير من الكبراء.»
قال: «فليكن ذلك، وأنا فاعل ما يأمرون به.»
قال: «أمهلني يوما أو يومين لأغتنم فرصة تساعدني.»
قال: «إني في انتظار وعدك بارك الله فيك.»
قال: «واسمح لي بالذهاب الآن، فإن علي واجبات تتعلق برتبتي الجديدة لا بد من إنجازها وسأعود إليك بما أوفق إليه.»
قال: «أشكرك يا أخي.»
ونهض عبد الرحيم وانصرف. •••
لما خلا عماد الدين بنفسه بعد ما انتابه من الأهوال وما مر به من الغرائب، أخذ يفكر فيما رآه وسمعه فلم يزدد إلا استغرابا ، وراجع ما كان يسمعه عن تدجيل ذلك الزعيم فأخذ اعتقاده بكراماته يضعف ، ولكنه لم يستطع تعليل ما شاهده من المعجزات تعليلا معقولا. كيف يطلع على الوقائع قبل وصول أخبارها؟ وكيف يكلم الميت فيجيبه؟ والشعرة فتطلعه على السر؟ وهذه الجنة بما فيها من الطيبات والحور اللواتي يمشين على سطح الماء فلا يعكر ويخاطبن الأطيار فتطيعهن ويلاعبن الأسود فلا تؤذيهن؟! فإذا تمثلت له هذه الظواهر لم ير مندوحة عن الاعتقاد بكرامة الشيخ راشد الدين.
وتعب من التفكير فخطر له أن يتمشى في ذلك الحصن، ولم يبق ثمة ما يمنعه؛ لأنه أصبح من أهله. فنهض ومشى فرأى أرض الحصن وما يحيط به خلوا من النبات إلا ما وراء ذلك الجبل من السهول البعيدة فتذكر ما شاهده بالأمس من أمثال النعيم من الأشجار والأنهار، فمال إلى استطلاع خبره وأين يمكن أن يكون. فصعد إلى بعض المرتفعات لعله يشرف منها على تلك الحديقة فلم يوفق إلى شيء من ذلك لكنه وقع نظره وهو يجيل بصره في السهل الذي نزل فيه يوم وصوله إلى هناك على ركب لم يستطع أن يتبين وجوههم لبعد المسافة. ولما اقتربوا وجدهم ملثمين وهم بضعة فرسان في ركابهم جماعة من المشاة كالخدم. فلم يهمه أمرهم وعاد إلى التفكير فيما هو فيه من الهواجس التماسا لسرعة الخروج من هناك.
وحدثته نفسه أن يفر فوجد ذلك مستحيلا عليه إلا بالتعرض للخطر الشديد وهو في غنى عن ذلك إذا استعان بصديقه عبد الرحيم، ولا شك عنده أنه لا يدخر وسعا في سبيل إنقاذه.
وأعاد نظره إلى ذلك الركب فرآهم دنوا من الجبل حتى حجبهم سفحه عن عينيه. فترجح لديه أنهم من ذلك الجبل أو النازلين في جواره. وأحس بالجوع فتحول إلى مجتمع الفدائيين فتناول الطعام معهم ولم يجد فيهم من يبلغ مبلغه من علو النفس ورقة الإحساس. فازداد رغبة في الخروج من هناك ولبث ينتظر عودة عبد الرحيم وهو على مثل الجمر.
قضى ذلك اليوم واليوم التالي ولم ير عبد الرحيم، فاشتغل خاطره ولم يعرف سبب تخلفه. وزاد بلباله لما شاهد غياب الشيخ دبوس أيضا عن غرفته في أثناء ذينك اليومين. وبلغه أنه في شغل شاغل مع الشيخ الأكبر للمباحثة في أمور مهمة حدثت بعد مجيء أناس وصلوا بالأمس. فتذكر الركب الذين رآهم قادمين أول البارحة، فمال إلى استطلاع حقيقتهم فلم ينبئه منبئ؛ لأن هذه الأخبار لا يتناولها إلا الخاصة من المستنيرين. فصبر نفسه حتى يأتي صديقه عبد الرحيم، فلما استبطأه استفهم بعض الرفاق عنه فقيل له إنه مع نخبة المستنيرين في شاغل عند الشيخ الأكبر.
فازداد شوقا إلى الاستطلاع لكنه لم ير بدا من الانتظار، ومضى نصف اليوم الرابع ولم يره، فضاق ذرعا وأخذ الملل منه مأخذا عظيما وهم بالبحث عنه فإذا هو قادم نحوه، فاستقبله استقبال الظمآن للماء، فأكب عليه عبد الرحيم وقبله وأخذ يعتذر عن تأخره قائلا: «اعذرني يا أخي، كنت في شاغل لم يكن في الحسبان، وكلما عزمت على المجيء إليك يحدث شاغل جديد.»
قال: «نسيت قلقي واضطرابي حال رؤيتك، وأشعر أني أسبب لك تعبا، ولكن يمكنك أن تتخلص من هذا التعب بتدبير مهمة أخرج بها من هذا الحصن. هل وفقت إلى شيء من ذلك؟»
قال وهو يضحك للمداعبة: «وفقت إلى نصف الطلب فقط.»
قال: «كيف ذلك؟»
قال: «أنت تطلب أمرا بالخروج من هذا الحصن لقتل أحد الأمراء، وقد استصدرت لك أمرا بقتل أحد الأمراء، ولكن بلا خروج من هذا الحصن.»
فاستغرب عماد الدين قوله وحمله على المزاح فقال: «بالله قل لي الصحيح، ألم توفق إلى شيء بعد؟»
قال: «أقول لك الصحيح تماما، قد صدر أمر الشيخ الأكبر لك أن تفتك بأمير هو مقيم في هذا الحصن.»
ورأى الجد في عيني عبد الرحيم فانقبضت نفسه؛ لأن رغبته إنما هي في الخروج فقط وليس في الفتك والقتل فقال: «أفصح يا أخي، فإنك أزعجتني بهذه البشارة. وأنت تعلم أني أطلب الخروج قبل القتل.»
قال: «أعلم ذلك، ولكن ما الحيلة وقد صدر أمر الشيخ؟ وهي ثقة كبرى فيك لأن المهمة التي سيعهد فيها إليك شاقة. وهي ستكون السبب في تعجيل ارتقائك، وقد رأيت مولانا الشيخ كثير الرغبة في ذلك.»
فأطرق عماد الدين وأعمل فكرته فيما سمعه، ولم يجد فيه حيلة فقال: «هل أعد كلامك هذا بلاغا لي؟»
قال: «كلا. سوف يستقدمك الشيخ الإمام نفسه ويبث فيك روح العزيمة والثبات ويأمرك بما يريد. أما أنا فأخاطبك مخاطبة الصديق سرا لعلمي أنك في قلق.»
فقطع عماد الدين كلامه وقال: «اسمح لي يا أخي أن أقول لك إنك زدتني بهذا الخبر قلقا.»
قال: «ستحمد عاقبة هذا القلق يا عبد الجبار.» وابتسم كأنه يكتم سرا لا يريد أن يبوح به.
فقال: «لم أفهم مرادك، بالله ألا خففت بعض ما بي ولو بالتلميح، أنا أعلم فضيلة المحافظة على السر. ولا أطلب منك أن تبوح بسر مقدس اؤتمنت عليه، لكنني أرجو تخفيف قلقي بعض الشيء. قل لي من هو الأمير أو الكبير الذي سيعهد إلي في قتله وهو مقيم هنا؟ إني لا أعرف كبراء هذا الحصن.»
قال: «هو ليس من كبرائنا، وإنما هو طارق جاءنا منذ يومين.»
فتذكر عماد الدين الركب الذين رآهم قادمين في ذلك السهل فقال: «رأيت ركبا قادما إلى هذا الجبل منذ بضعة أيام لعله كان فيه؟»
قال: «نعم هو جاء في ركب. أعلم أني أسر إليك أمرا خطيرا.»
وخفض صوته، فقال عماد الدين: «علمت ذلك، ولكنني أستغرب قدوم هذا العدو ليلقي حياته بين يدي عدوه.»
قال: «ليس هو عدوا للشيخ، بل هو من أصدقائه وأخص أخصائه. تفارقا وهما صغيران قبل أن تصير المشيخة إلى مولانا راشد الدين. ولعلك تعلم أن مولانا هذا قبل أن صارت إليه الإمامة كان يقيم في مكان اسمه «عقر السدن» وخدم شيخ الإسماعيلية في «ألاموت» بالديلم، وتفقه على يده في العلم والدين، ثم انتقل إلى سوريا ونزل في حلب وأخذ يعظ ويعلم واشتهر بالتقوى، فتقاطر إليه الناس أفواجا. وكان يجلس على صخر ويعظهم وهو جامد كالصخر. وإنما سحر الناس ببيانه فكثر أصحابه ومريدوه. وكان شيخ الإسماعيلية يومئذ رجلا اسمه أبو محمد فخافه على منصبه وبعث إليه من يقتله فاختفى في كهف قرب حلب وما زال مختفيا حتى ضعف أمر أبي محمد فخلفه وانتقل إلى هذا المكان. هذه خلاصة سيرة مولانا. فضيف اليوم من أعز أصدقائه الذين جاهدوا في نصرته ورافقه إلى الكهف ثم شغل عنه بالأسفار. وعاد الآن في مهمة لا أعلم ما هي، فلاقاه مولانا أحسن ملاقاة واختلى به غير مرة لا أدري ما دار بينهما خلالها، لكن الشائع بين رجالنا أن مولانا فرح به كثيرا وأنه من أعز أصدقائه. ومع ذلك فإنه بعث إلي بالأمس سرا وأخبرني عن تقديره بسالتك حق قدرها، وسألني إذا كنت تليق بمهمة خطيرة، فأكدت له اقتدارك على ذلك وأنك راغب في مهمة يعهد فيها إليك. ولم أكن أحسب أنها داخل هذا الحصن. فرأيته أبدى اهتماما كثيرا ووضع في ثقة كبرى وأسر إلي بأنه يحب أن يتخلص من هذا الصديق القديم على يدك.»
وكان عماد الدين في أثناء حديث عبد الرحيم مصغيا يفكر في دهاء هذا الطاغية وكيف أنه عمد إلى الفتك بصديق قديم له؛ لأنه رأى بقاءه حجر عثرة في طريقه. فضعف اعتقاده بكرامته لأنه لا يعرف ولاية أو كرامة تأمر بخيانة الأصدقاء. وأخذ ظنه يتغير فيه. وأصبح يخافه على نفسه، ولكنه لم يجسر على التصريح به فقال: «الحقيقة أنها ثقة عظيمة في كلينا، ولكن هل أنت واثق أن الرجل المشار إليه كان من أصدقاء مولانا الشيخ؟»
قال: «إني على ثقة تامة. وقد يخطر لك أن تنتقد عمل الشيخ؛ لأنه عمد إلى قتل صديقه ولكنك ستحمد عمله بعد حين. فالآن.»
فقطع كلامه قائلا: «ربما كان مصيبا بعمله من حيث دفاعه عن سلطته فأعذره عليه. لكنني أصبحت منذ الآن أخاف على حياتي وحياتك.» قال ذلك بلحن التصريح عما في الضمير ولو تحت الخطر.
ووافق ذلك التصريح هوى في نفس عبد الرحيم، فابتسم ابتسامة المصادقة وقال: «لا ألومك على هذا الشك؛ لأنه خطر لي أيضا. وهناك أمور ظهرت لي بعد انتظامي في سلك المستنيرين، ربما سنحت الفرصة لبيانها. وأما الآن فالمطلوب أن تعلم المهمة التي سيعقد فيها إليك ، فلا تتردد في قبولها، وسترى أني ناصح لك.»
الفصل العاشر
مقتل أبي الحسن
مكث عماد الدين على مثل الجمر وهو يردد ما سمعه عن راشد الدين، وتغلبت عليه الشكوك في كراماته. لكنه ما زال مكبرا اقتداره. وبينما هو في ذلك إذ جاءه خادم للشيخ أصم أبكم مثل سائر خدمه. وإنما يقتني الصم والبكم للخدمة لئلا يفهموا شيئا مما يدور بينه وبين رجاله. فهم يحملون الأوامر بالإشارة. فلما جاء ذلك الأبكم يطلبه مشى في أثره حتى دخل به على راشد الدين وهو في غرفة صغيرة ليس فيها سواه. وقد تخفف بعمامة صغيرة وجعل يتمشى ذهابا وإيابا ويداه وراء ظهره وفيه عرج قليل.
فلما رآه عماد الدين، سيطرت عليه الرهبة ووقف وقفة الاحترام. فأشار راشد الدين إلى الحارس أن ينصرف. وأقفل الباب وراءه ولم يبق عنده إلا عماد الدين. فدعاه إلى أن يقترب منه. وابتسم وقال له: «انظر في عيني.»
فنظر فإذا هما تلمعان ويكاد الشرر يتطاير منهما.
فقال راشد الدين: «ماذا ترى فيهما؟»
فاستغرب سؤاله وقال: «لا أرى فيهما شيئا يا مولاي غير النور والذكاء.»
قال: «أما أنا فأرى في عينيك أشياء كثيرة، إني أقرأ فيهما ما يكنه ضميرك.»
فخاف عماد الدين أن يطلع راشد على ما خامره من الشكوك فيه فقال: «لا غرابة في ذلك، فقد تحققناه من قبل.»
قال: «ويسرني أني تحققت صدق طاعتك وإخلاصك، ولذلك رأيت أن أسرع في مكافأتك، وهذا لا يكون إلا بمهمة تقضيها. ورغبة في التعجيل جعلت ذلك قريبا في هذا الحصن. فهمت؟»
قال: «إني طوع أمرك يا مولاي.»
قال: «إن في هذا البيت المنفرد داخل سور هذا الحصن أميرا كبيرا ينبغي أن يذهب من هذا العالم بلا ضوضاء ولا شكوى، وأن يكون ذلك على يدك. فما رأيك؟»
فانحنى انحناء الطاعة وقال: «وهل للعبد رأي بين يدي مولاه؟ إنما يأمره فيفعل.»
فقبض على أنامل عماد الدين بكفيه وأمره أن ينظر في عينيه ثم قال له: «أريد يا عبد الجبار أن تقتل الشيخ سليمان اللعين. تقتله وتخمد أنفاسه هكذا أريد.»
فأحس عماد الدين عند سماع ذلك الصوت على هذا الشكل بقشعريرة جرت في عروقه، وكأن شرارة كهربائية تطايرت أمام بصره. فأغمض جفنيه رغم إرادته. فقال راشد الدين: «قد أحسنت يا عبد الجبار (عماد الدين) إنك فاعل ما أريد، وسوف تنال جزاء أمانتك. واعلم أنك منذ الآن خادم لسليمان أو الشيخ سليمان كما يسمونه. فالبس لباس الخدم وغير قيافتك وابذل جهدك في إرضائه حتى تغتنم منه غرة تقتله فيها ولا يشعر أحد بك. وأحب أن يكون ذلك خارج القلعة. وأنت عند ذلك من طبقة المستنيرين.» ثم أدنى شفتيه من أذنه وقال له: «ومع الرجل امرأة بارعة في الجمال ستكون غنيمة لك مع سائر ما يمتلكه من أثاث وغيره. ويمكنك التعويل على صديقك ولدنا عبد الرحيم في بعض التفصيل. وهذا يكفي، امض الآن إلى نائبنا الشيخ دبوس وهو يتم تجهيزك بما يلزم.» قال ذلك وترك أنامله، فودعه وخرج وهو يرتجف من عظم التأثر وأخذ يفكر فيمن عساه أن يكون سليمان هذا. ولم يهمه أن تكون امرأته جميلة وهو لا يرضى من سيدة الملك بديلا.
سار توا إلى الشيخ دبوس ولم يحتج في تفهيمه إلى كلام؛ لأن هذا كان على بينة مما يطلب منه فحال دخوله عليه قال له: «ادخل يا عبد الجبار واقفل الباب.»
فدخل ونهض الشيخ دبوس بنفسه فأعطاه لباس الخدم وأصلح شعره وقيافته بحيث تغير شكله كثيرا ودفع إليه كتابا وقال له: «تأخذ هذا الكتاب إلى ذلك المنزل وتكون خادما لصاحبه كما أمرك مولانا الشيخ الأكبر، أفهمت؟»
فأشار مطيعا وخرج وهو كالخادم تماما. وقبل خروجه نظر إلى وجهه في المرآة فأنكر نفسه. ونظر في بطاقة الشيخ دبوس إلى سليمان وهو يتردد في ذهابه ويقول في نفسه: «كيف أقتل هذا الرجل ولا ثأر بيني وبينه؟» ثم خطر له قول عبد الرحيم إنه سيجد في قتله راحة فوقع في حيرة.
وما عتم أن وصل إلى المنزل الذي ذكروه له فوجد الباب مقفلا فأخذ في البحث عن الشيخ سليمان في ذلك الجوار فلم يقف له على خبر، فقعد على صخر في ظل البيت ينتظر قدومه لعله ذهب في حاجة لا يلبث أن يعود منها. واستغرق في هواجسه وتفقد الخنجر الذي خبأه في ثوبه لاستعماله عند سنوح الفرصة. لكنه ما زال يتردد في أمر القتل.
وفيما هو في ذلك إذ رأى رجلا قادما عن بعد وعلى رأسه عمامة خضراء اللون كبيرة الحجم وقد أرسل شعره تحتها حول رأسه إلى كتفيه، وتزمل بجبة طويلة وعلق في صدره سبحة طويلة وحمل سبحة أخرى بيده يعدد حباتها ويتمتم كأنه يصلي أو يدعو كما يفعل المنقطعون عن العالم إلى الصلوات والدعوات، فتحقق أنه الشيخ سليمان لا محالة، فجعل يراقب حركاته وهو قادم حتى دنا منه فتقدم إليه وهم بتقبيل يديه ودفع إليه بطاقة الشيخ دبوس فتناولها وفضها وقرأها وهو لم ينظر إلى عماد الدين بعد. فلما أتم قراءتها رفع بصره إليه وقال: «يقول أخونا الشيخ دبوس إن مولانا الشيخ الأكبر بعثك لخدمتنا.»
قال: «نعم يا سيدي، وهل يتم لي هذا الحظ؟»
قال: «إنني في غنى عن الخدم؛ لأني أحب الخلوة بنفسي للصلاة والدعاء وطعامنا يأتينا من مطبخ الجماعة. فما هي الحاجة إلى الخدم؟»
وكان عماد الدين يسمع قوله وهو يتفرس في سحنته كأنه رأى ذلك الوجه وسمع ذلك الصوت من قبل. فلما فرغ الشيخ سليمان من قوله أجابه عماد الدين: «قد أمرني الأستاذ الأكبر أن أقف بباب مولاي أخدمه بما يحتاج إليه، فإن كان في شاغل بالصلاة أو غيرها فلا شأن لي به، وإنما ألبي أمره إذا أمرني فأجلب له الطعام أو ما يحتاج إليه من الأمور.»
قال: «حسنا. ما اسمك؟» قال: «عبد الجبار.»
قال: «اقعد هنا، وإني شاكر لأخينا الشيخ فضله. وعلى كل حال لا حاجة لي بك في الليل فإذا غابت الشمس انصرف إلى مكانك.»
ومشى نحو الباب وتناول المفتاح ليفتحه وعماد الدين يراقب حركاته ويبحث في ذاكرته عما يعرفه عن ذلك الرجل وأين رآه في دمشق أو القدس أو مصر فلم يخطر له شخص يعرفه بهذا الاسم.
دخل الشيخ سليمان المنزل وظل عماد الدين جالسا على حجر وقد شغل خاطره بأمر هذا الرجل. ولم يتذكر أين رآه فظن نفسه واهما في تصوره، فصرف فكره عنه وعاد إلى التفكير في صلاح الدين والخروج من ذلك الحصن ليخبره بما عمله؛ وليرى سيدة الملك على فراغ واطمئنان.
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب فذهب ليأتيه بالعشاء وكانوا قد أعدوه له في أطباق، فحملها فوق رأسه حتى أتى الباب وقرعه وطال انتظاره قبل أن يفتحه له. ولما فتحه تناول الطعام منه وأدخله بيده ودفع إليه دينارا وقال له: «قد جاء الغروب فانصرف إلى شأنك يا عبد الجبار.»
فتناول الدينار وأظهر الامتنان وانصرف وهو يفكر في أمر هذا الرجل وحرصه الشديد على منزله حتى لا يأذن لخادمه بالدخول إليه. وفيما هو في الطريق لقيه عبد الرحيم فسلم عليه وسأله عما جرى فأخبره بما شاهده وما استغربه من حال الشيخ سليمان، فضحك عبد الرحيم وقال: «لم يسمح لك بالدخول، لا بأس؟ ألم تتذكر أنك تعرفه من قبل؟»
قال: «تصورت أول وهلة أني رأيت ذلك الوجه أو على الأقل سمعت ذلك الصوت. لكنني غيرت فكري لأني وجدت نفسي واهما.»
فقال وهو يحك عثنونه ويخفي ضحكة: «قد تكون واهما وستبدو لك الحقيقة بعد قليل. لكن كيف أشار بانصرافك الآن وهو قد يحتاج إليك في الليل؟»
قال: «لا أدري، ويظهر لي أنه يكتم أشياء لا يحب أن أطلع عليها. أظنك عرفت عنه شيئا لم تقصه علي.»
قال عبد الرحيم: «عرفت عنه أشياء كثيرة لا أقدر أن أبوح بها كما تعلم، لكنني أقدر أن أقول لك بأنه من أصحاب المطامع السياسية وهي التي ستجر إليه حتفه، ويظهر لي أنه أراد أن يشارك شيخنا سلطانه، أو أنه طلب منه أمورا لا يوافقه عليها. وهو يعرفه صغيرا فخاف إذا أغضبه أن يشيع عنه أمورا تقلل من هيبته فأحب التخلص منه. هذا هو الذي لحظته إلى الآن وسترى الحقيقة وأنت أولى مني بكشفها.»
فقال : «هذا أول يوم رأيته فيه، وقد صرفني ساعة الغروب وسأعود إليه في صباح الغد.»
قال: «هب أنه صرفك فيمكنك أن تبقى قريبا من منزله لعله يحتاج إليك أو لعلك ترى فرصة مناسبة للقيام بمهمتك.»
وكانا ماشيين وقد أخذت الظلال تتكاثف وأوشك الظلام أن يسدل نقابه. فقال عماد الدين: «إلى أين نحن ذاهبان الآن؟» قال: «إلى حيث تشاء.»
قال: «أحب أن أحادثك في بعض الأمور.» قال: «تعال إلى غرفتي، إنها على مقربة من هذا المكان.» ومشى حتى دخل الغرفة وفيها مصباح ضعيف أضاءه له بعض الخدم. فقال عماد الدين: «أحب أن نكون في خلوة.»
فأومأ عبد الرحيم إلى خادمه بالانصراف وقعد. وأشار إلى صديقه أن يقعد فقعد وهو يتنهد. فقال له عبد الرحيم: «ما لك يا صاحبي لماذا تتنهد؟»
قال: «أتنهد يا أخي لأني أشعر كأني في قفص لا أرى لي منه مخرجا، وقد أطعتك في كل شيء كما رأيت، ولا يمكنني أن أنكر صدق نصيحتك لي كل مرة. ولكنك تعلم أيضا أني لا أقدر على البقاء هنا طويلا، ولي في مصر أناس ينتظرون رجوعي و...» وسكت.
فأدرك عبد الرحيم ما يعنيه فقال: «أتريد أن تخرج من هذا الحصن؟»
قال: «نعم أريد ذلك. أرجو أن تساعدني عليه.»
قال: «وعدتك أني فاعل ما تريد ولكل أجل كتاب. إني مدبر طريقة لخروجنا كلينا.»
ففرح عماد الدين بهذه البشرى وقال: «وأنت أيضا عازم على الخروج؟» قال: «نعم، وربما اتفق خروجنا معا.»
قال: «هذا هو الأفضل. وقد اطمأن بالي الآن. وإن كنت لا أعرف سبب رغبتك في الخروج بعد أن صرت من خاصة الإسماعيلية واطلعت على أسرارها.»
فأشار إليه بسبابته على فمه أن يسكت وقال: «سوف نتكلم عن ذلك في فرصة أخرى. أما من حيث رغبتك في الخروج فتدبيره علي حالما تفرغ من مهمتك. تعال إلي فتجدني هنا في أكثر الأوقات، وإنما يطلب منك أن تسهر على مهمتك المعلومة.»
قال: «حسنا، إني ذاهب كما قلت.» وأشار إلى خصره وقال: «وهذا هو الخنجر الذي سأغمده في صدر الشيخ لغير ذنب له عندي.» ثم استأنف الكلام قائلا: «ولكن الشيخ راشد قال لي إن للرجل زوجة ستكون غنيمة لي، فهل هي معه في هذا المنزل؟ وقد أوعز إلى الشيخ أن أعول عليك في بعض التفاصيل فما هو رأيك؟»
قال: «رأيي أن تفتك بهذا الشيخ في أول فرصة. أما امرأته التي أشار إليها شيخنا فليست هنا. وإنما هي في منزل خارج الحصن بجوار القرية القريبة منه مع سائر أهله وخدمه.»
قال: «وسمعت من شيخنا أنه يفضل أن أقتله خارج الحصن. فهل هو يذهب إلى هناك؟»
قال: «قد أذن له في الذهاب متى شاء، وهو يذهب كل ليلة تقريبا. فالأفضل أن تغتنم وجوده خارجا وتقضي عليه ومتى قتلته أصبحت امرأته وسائر ما يملكه حلالا لك.»
فقال عماد الدين: «اسمح لي أن أستشيرك في أمر آخر. ما قولك إذا قضيت مهمتي وأنا خارج هذا الحصن في أن أبقى خارجا وأنصرف.»
قال: «نعم الرأي هو. وأنا أتبعك على عجل.»
فقال: «وكيف تعلم أني فرغت من مهمتي؟» قال: «متى صرت في آخر هذا السهل أوقد مشعلا مزدوجا، وحالما أرى المشعل من هنا أخرج إليك ونذهب معا.»
فانبسطت نفس عماد الدين لهذا الرأي وهم بالانصراف، فأمسكه عبد الرحيم وجذبه إليه وقال: «احذر أن تحدثك نفسك وأنت خارج الحصن أن تفر من غير أن تقتل الشيخ سليمان. بل يجب أن تقتله ولو لم تستطع الفرار. اسمع نصحي هذه المرة أيضا.»
قال: «حسنا سأفعل ما تقول، ولكن هل أقدر على الخروج من باب الحصن بلا إذن؟»
قال: «إذا داهمك الوقت قبل أن أستأذن لك يكفي أن تقول للبواب كلمة الخروج فيفتح لك الباب.»
قال: «وما هي هذه الكلمة؟» قال: «قل له: «حسن بن الصباح في الأموات» فيطلق سراحك.»
قال: «بارك الله فيك، قد انشرح صدري الآن، وسأذكر لك هذا الفضل في جملة أفضالك.» قال ذلك ومشى نحو منزل الشيخ سليمان وقد اشتد الظلام. فلما دنا من المنزل رأى ذلك الشيخ خارجا منه وبيده مصباح.
فتقدم كأنه رآه مصادفة وحياه وأكب على يده يقبلها وقال: «كيف تحمل المصباح بيدك وأنا خادمك قد أمرني مولانا الشيخ بخدمتك؟» قال ذلك وتناول المصباح منه ومشى بين يديه حتى دنا من الباب ففتحوه له. فأحب الشيخ أن يسترجع المصباح منه فأبى أن يعطيه إياه تخفيفا للثقلة عنه وقال: «إذا علم مولانا الشيخ الأكبر أني لم أقم بحق خدمتك غضب علي وعنفني.»
فأطاعه ومشى ولم يعترضه أحد لأنه ذكر كلمة الخروج للبواب. ومشى بين يدي الشيخ والطريق أكثره منحدر حتى إذا فرغ من الانحدار وقف الشيخ وقال: «بارك الله فيك هات المصباح. إنني على مقربة من منزلي.»
قال: «إني أسير بين يديك إلى باب المنزل.»
قال: «لا حاجة إلى تعبك. هذا هو المنزل.» وأشار بإصبعه إلى نور ضعيف لا يظهر سواه في ذلك السهل.
فقال: «بل أسير معك حسب أمر مولاي.»
فوقف الشيخ ومد يده ليتناول المصباح منه فامتنع عماد الدين عن أن يناوله إياه، فغضب الشيخ وقال بانتهار: «هات المصباح يا غلام وانصرف لسبيلك.»
فقال عماد الدين: «أهذا جزاء من يريد القيام بخدمتك؟» قال ذلك واستل خنجره وأغمده في قلبه. فوضع الشيخ كفه على موضع الضربة وصاح: «آه. قتلتني يا لعين. ويلاه آه. ماذا فعلت معك؟»
فهم عماد الدين أن يثني الضربة فأمسكه بيده الأخرى وهي ترتعد وقال: «هذه الطعنة تكفي لقتلي، فأغمد الثانية في صدر تلك الخائنة. انظر. إني مسامحك على قتلي؛ لأني أستحق القتل، ولكن هناك امرأة، هناك في هذا المنزل حيث ترى النور امرأة أحق بالقتل مني! بالله ألا ذهبت إليها وقتلتها، وخذ ما في جيبي من النقود والجواهر مكافأة لك.» قال ذلك وسقط وعماد الدين يستغرب قوله، فأكب عليه وفتش جيبه فوجد فيه أوراقا ونقودا وجواهر استخرجها وتركه يتخبط في دمه. •••
مشى وهو يفكر في هل يذهب إلى ذلك المنزل أم يسير توا إلى مصر ومعه النقود. فترجح لديه الذهاب إلى مصر مخافة أن يكون في ذهابه إلى المنزل ما يعيقه عن المسير أو ربما بعث راشد الدين في استقدامه ليعود إلى الحصن. وقد كان في عزمه أن يفر قبل قتل الرجل لو لم يلح عليه عبد الرحيم بقتله فأطاعه وهو لا يعلم السبب، لكنه استخلصه ورأى في طاعته خيرا.
فلما رجح الفرار وقف يفكر في الطريق المؤدي إلى مصر وقد اشتد الظلام وهو لا يميز الطرق ولا يعرف الجهات. وتذكر وصية القتيل وغرابتها واستنتج منها أنه ناقم على امرأة يريد قتلها. فرأى أن يذهب إلى المنزل ويستدل من هناك على الطريق. فمسح خنجره وأغمده وأصلح من شأنه وأطفأ المصباح حتى لا يراه أحد ومشى نحو النور. ولما اقترب من المنزل جعل خطاه خفيفة كأنه يتلمس الطريق. وأصغى بسمعه وتطاول بعنقه. وخطا خطوات قليلة حتى أوشك أن يدق الباب. فسمع رجلا يخاطب رفيقا له في ذلك البيت قائلا: «ألم تر مصباح الشيخ؟»
فأجابه الآخر: «رأيت مصباحا منذ هنيهة على بعد يشبه مصباحه.»
قال: «بل هو بعينه ثم انطفأ. ماذا جرى له يا ترى؟»
قال: «لا تخف عليه. إنه طويل العمر.»
قال: «أراك تحسده على حياته وهو من أشقى خلق الله.»
قال: «صدقت لم أر أشقى حياة منه.»
فقطع الآخر كلامه قائلا: «بل أشقى منه هذه المسكينة التي لا يبرح يعذبها ويضربها و...»
فقال: «صدقت، مسكينة! إن قلبي يتقطع عليها أحيانا. وكم حدثتني نفسي أن أنتصر لها ...»
فقال ذاك: «ما لنا ولها؟ إنما نحن نلتفت إلى مصلحتنا، فإذا وفي لنا بما وعدنا به حصلنا على السعادة الحقيقية. إذ نصير من كبار الأمراء! أليس كذلك؟»
فقال الآخر: «هل تعتقد كل ما يقوله الشيخ صحيحا؟»
فقال: «إذا لم يصح إلا بعضه فإننا نكون سعداء! يظهر أنك لم تفهم حقيقة مهمته عند شيخ الإسماعيلية.»
قال: «فهمتها، كيف لا أفهمها؟»
قال: «لا. لم تفهمها كما هي. اعلم أن مولانا الشيخ هذا كان صديقا للشيخ راشد الدين سنان رئيس الإسماعيلية الآن قبل أن صار رئيسا، وقد أعانه وارتكب معه أمورا كثيرة حتى تمكن راشد الدين من هذه الرياسة. فحسده صاحبنا، فأراد أن يعمل عملا يفوق به على صاحبه فذهب إلى مصر وطمع في الخلافة!»
فضحك الآخر وقال: «الخلافة؟»
قال: «نعم، طمع أن يكون خليفة وسمى نفسه أبا الحسن، وادعى النسب الفاطمي وصدقه الناس. ولما مات خليفة مصر العاضد بايعه جماعة من المصريين. ثم انكشف أمره لصلاح الدين وقبض على رفاقه ونجا هو بنفسه وجاء الشام. وأنت تعلم ما جرى بعد ذلك، وكيف كلف بعض الفدائيين الذين يقتلون القتيل بدرهمين فاختطفوا له هذه المرأة من بيتها، وهي تكرهه ولا تطيق أن تراه.»
فقطع الآخر كلامه وقال همسا: «احذر أن تذكر الفدائيين بسوء. فإننا في دارهم. وأما هذه المرأة فأنت لا تعرف من هي: مسكينة كم قاست منه! قبحه الله! لا أظن لها نجاة إلا بموته.»
فضحك ذاك وقال: «إنه طويل الحياة، لا خوف عليه ولا سيما إذا نجح في مهمته عند راشد الدين، والحق يقال إنه يحب هذه المرأة ويعدها بكل خير إذا أحبته. لكنها لا تحبه، ولذلك يعذبها.»
ففهم عماد من هذا الحديث أنه قتل أبا الحسن، لكنه لم يكن يعرف علاقته بسيدة الملك، وإنما يعرف أنه من الخارجين على صلاح الدين وأنه نجا من القتل. فرقص قلبه فرحا لأنه سيذهب إلى صلاح الدين بخبرين مهمين: الأول ذهاب الخطر على حياته من راشد الدين والثاني أنه نجا من أبي الحسن. لكنه سمع في أثناء الحديث أنه يعذب امرأته حتى أشفق عليها الخدم. وتذكر أن أبا الحسن أمره بقتلها وأجازه على ذلك. وكان عماد الدين قد أصبح بعد تعلقه بسيدة الملك يشفق على كل أنثى لأجلها. فأحس بميل إلى إنقاذ هذه المسكينة. فتقدم إلى الباب وطرقه فأجفل الرجلان وصاح أحدهما: «من الطارق؟» وقال لرفيقه: «لعله مولانا الشيخ سليمان، ألم أقل لك إني رأيت مصباحه؟»
فقال عماد الدين: «إني رسول من الشيخ سليمان.»
ففتح أحدهما الباب ودخل الآخر فأتى بالنور وأدناه من وجه عماد الدين، فرأياه ورآهما فلم يذكر أنه يعرف أحدهما، لكنه عرف من زيهما أنهما من أهل دمشق، وكان قد لحظ ذلك من لهجتهما. وكلاهما في حدود الكهولة، فتقدم أحدهما وقال لعماد الدين: «ماذا تريد؟»
قال: «بعثني الشيخ سليمان في مهمة ومعي هذا المصباح علامة لصدق الرسالة فانطفأ في أثناء الطريق.»
قال: «صدقت، وما الذي تريده؟»
قال: «أمرني أن آتيه بامرأته على بغلتها وهو في انتظارها بباب الحصن.»
فالتفت الرجلان أحدهما إلى الآخر لفتة الاستغراب ولسان حالهما يقول: «كيف يبعث الشيخ يطلب امرأته على بغلتها إلى الحصن؟ وما الذي يريده منها هناك؟» فقال أحدهما: «وهل يطلب امرأته وحدها؟»
قال: «يطلبها مع ما تريد حمله من متاعها وثيابها.»
قال: «علينا أن نبلغها الرسالة.» ودخل الرجل والنور بيده وظل عماد الدين واقفا وقد أصاخ سمعه. وأول شيء سمعه قبل وصول الرسول أنين وتأوه وصوت ضعيف يقول: «ويلك من الله يا خائن ... ألا تخاف العقاب يوم الدين؟ أين يا موت. متى تأتي ساعتي وأتخلص من هذه الحياة ... آه ... ما بالهم يتآمرون علي؟»
ولما سمع عماد الدين ذلك الصوت اقشعر بدنه لأنه كثير الشبه بصوت سيدة الملك. وحدثته نفسه أن يتقدم ليراها ولكنه صبر ليسمع ما يدور بينها وبين الخادم. فإذا هو يقول لها: «إن سيدي الشيخ بعث يطلب مولاتي إليه في هذا الحصن.»
فصاحت فيه: «إلى أين؟ من هو سيدك هذا؟ ما بالكم تزعجونني بالأسئلة؟ دعوني أنم لحظة لكي أنسى فيها مصائبي.»
قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن مولاي بعث رسولا خاصا من خدمة الشيخ راشد الدين لكي يحملك إليه بما تريدين حمله من متاعك وثيابك و...»
فقالت: «لا. لا أذهب إلا محمولة على خشبة. دعوني منه. لعنة الله عليه. ويا ويله من الله ومن يوم الدين. آه. آه. حملني إلى بلاد ليس فيها من يعرفني ولم يشفق على قلبي ... آه ... كل بلائي من هذا القلب!»
وأصبح عماد الدين يرتعد من عظم التأثر؛ لأن الصوت صوت سيدة الملك. ولو كان عالما بما بينها وبين أبي الحسن لما شك في أنها هي، لكنه استبعد وصولها إلى هناك وهي في ظل صلاح الدين. وإنما ارتعد انتصارا لامرأة مظلومة إكراما لحبيبته لأنها من جنسها. وزادت نقمته لأن صوتها يشبه صوتها. ثم سمع الرجل يخاطبها قائلا: «والآن يا سيدتي ماذا تريدين أن نفعل؟ لا بد لنا من أخذك إليه حسب أمره، وهذا رسوله واقف بالباب وليس في الإمكان رد طلبه، فالأوفق أن تنهضي راضية.»
فلما سمعت تهديده صاحت صيحة وقف لها شعر عماد الدين قائلة: «أتهددونني بالأخذ قهرا؟ أريد هذا الشقي أن يحملني على أيدي اللصوص كما خطفني من مصر بأيدي أتباعه قبل الآن؟» ثم خفضت صوتها وغصت بدموعها وقالت: «ولكن الله بعث إلي في تلك المرة ملاكا شجاعا أنقذني من مخالب الموت وأنقذ شرفي وحياتي.» ثم تنهدت وقالت: «آه. أين أنت يا عماد الدين؟»
فلما سمع عماد الدين نداءها لم يتمالك عن الوثوب كالأسد الكاسر وقد تحقق أن تلك المظلومة حبيبته سيدة الملك وأجابها: «لبيك. لبيك. يا سيدتي.»
وما لبثت بعد أن سمعت صوته حتى رأته أمامها وقد أزاح الخادم بيده وتقدم نحوها وهو يقول: «مولاتي سيدة الملك أنت هنا في هذا العذاب؟»
فشخصت إليه شخوص الأبله كأنها أصيبت بجنة، وقد جمدت عيناها وعقد لسانها ولم تعد تستطيع النطق، لكنها تماسكت وتوهمت نفسها في حلم، فقالت وصوتها يتقطع وهو مختنق: «عماد الدين؟ عماد ... الدين؟! آه ... يا ليت ذلك كان في اليقظة!»
وغطت وجهها بكفيها وأخذت في البكاء، فتقدم عماد الدين نحوها وقد تقطع قلبه لرؤيتها وهي في شدة الضعف، ولو أنه شاهدها بدون أن تناديه لما عرفها. فأمسك بيدها وقال: «أنت في يقظة يا سيدتي. أنا عماد الدين. أنت في يقظة وروحي فداك فلا تخافي.»
فلما سمعت صوته فتحت عينيها والدمع يغشاهما ونظرت إليه وهو في زي غير زيه. لكنها عرفت صوته وتفرست في وجهه وهي لا ترى شيئا من الدمع، فمسحت عينيها بكمها فعرفت عينيه فصاحت: «عماد الدين! أنت عماد الدين؟ من أرسلك إلي؟ لا. لا. لست عماد الدين. أنت خادم ذلك الخائن جئت لتأخذني إليه . بالله قل لي، هل أنت عماد الدين؟» وضحكت كالأبله المعتوه وقالت: «أنت عماد الدين؟ إن المعجزات لا تتكرر. نعم أتى عماد الدين لإنقاذي في مثل هذا الضيق فيا ليته يأتي الآن.» ثم سكتت كأنها استرجعت رشدها ومسحت عينيها ثانية ونظرت إلى عماد الدين نظر متفرس، وهو جاث بين يديها وعيناه شاخصتان في عينيها وقلبه يتفطر. فما لبثت أن تحققت أنها ترى عماد الدين فصاحت ملء فيها: «عماد الدين! عماد الدين!» وترامت عليه وقد أغمي عليها. فأنهضها، وتراكض الخدم بالماء فرشها به وأخذ يمسح وجهها وعينيها بمنديله، وسقاها جرعة من الماء فانتعشت وأعادت النظر إلى عماد الدين وهي تضحك ضحك طفل استرجع شيئا كان يبكي لفراقه.
لكن تلك الضحكة أبكت عماد الدين وقد شق عليه أن يرى تلك الملكة أخت الخليفة قد ذهب ملكها وصارت أسيرة في حيازة صلاح الدين، ثم سيقت كرها مع ذلك الشيخ اللعين، لكنه حالما تذكر أنه قتله سري عنه وعاد إلى تطمين سيدة الملك وقال: «صدقت، إني يا سيدتي عبدك عماد الدين.»
فصاحت: «ألا تزال تقول إنك عبدي، أنت سيدي وتاج رأسي. أنت منقذي من الموت والعار مرتين. أنت روحي. أنت حياتي. أنت ... آه ... دعني لقد خلعت العذار.» وغطت عينيها خجلا.
فانتبه عماد الدين لوجود ذينك الخادمين وكان قد عرف كرههما لأبي الحسن وشفقتهما على سيدة الملك فقال لكبيرهما: «ربما استغربتما ما رأيتماه في هذه الليلة، وقد علمت أنكما ناقمان على ذلك الشرير، وأن قلبيكما مع هذه، أليس كذلك؟» قال ذلك ومد يده إلى جيبه وفيه نقود أبي الحسن وأعطاهما بلا حساب.
فأعجبهما كرمه وأريحيته وأجابه أحدهما: «صدقت، ويظهر أنك لست خادما كما ادعيت، بل أنت أمير أرسلك الله لإنقاذ هذه السيدة، إنها قطعت قلبينا وأوشكنا أن نأخذ بيدها ونخلصها من ذلك الظالم.»
فقال: «إذن أنتما مسروران بنجاتها.»
قال: «ونحن رهينا الإشارة في أي خدمة تريدها منا ولو كانت قتل ذلك اللعين.»
قال: «لا حاجة إلى قتله، فقد كفانا الله شره في هذه الليلة. وهذه النقود التي كانت معه أعطيتكم بعضها وهذا البعض الآخر.» ودفع إليهما دفعة أخرى .
فزادهما دهشة فقال أحدهما: «قتلته؟ لا رحمه الله.»
وكانت سيدة الملك تنظر إلى عماد الدين وهو يخاطب الرجلين نظر الإعجاب والحب وعيناها غائرتان من الضعف والهزال وقد امتقع لونها. فلما سمعت التحدث بقتل أبي الحسن قبضت على عماد الدين واجتذبته نحوها وهي تقول: «قتلته؟»
قال: «نعم. وكنت أود أني عرفته قبل قتله لأشبعه قتلا وأخبره وهو في حشرجة الموت أني قتلته في سبيل طاعتك انتقاما لفظاعته.»
وقص عليها عماد الدين مهمته لمصلحة صلاح الدين وما قاساه من العناء وكيف انتهت بالفوز وأصبح صلاح الدين في مأمن من الفدائيين، فلما سمعت اسم صلاح الدين أشرق وجهها وقالت: «بارك الله في صلاح الدين، إنه نادر المثال.» فضحك وقال: «ألم أقل ذلك في آخر ليلة رأيتك فيها وأنت ناقمة عليه؟»
قالت: «لم أكن أعرفه. وفي كل حال فإني أمتدح مروءته وعلو همته. وأما أنت فكنت تمتدحه في معرض آخر ... فهو في ذلك المعرض ما زال حكمي عليه كما كان، ولا سيما إذا قابلته بعماد الدين.»
وضحكت وكانت تتكلم وعيناها شاخصتان فيه تكاد تتلقفه بهما.
ثم جاء الخادمان وقد أعدا الركائب وشدا الأحمال، فركبوا جميعا وقد توسط الليل وأطل القمر من وراء جبل السماق. فتذكر عماد الدين صديقه عبد الرحيم وما أوصاه به، فلما أمعن في السهل أمر الرجلين أن يوقدا مشعالا مزدوجا ففعلا.
الفصل الحادي عشر
هناء الحبيبين
وسار الركب وبغلة سيدة الملك بجانب فرس عماد الدين وهما يقصان ما جرى لهما في تلك المدة الطويلة، والمحب إذا غاب عن حبيبه ساعة عاد ومعه عدة حكايات يرويها. وهو يرى في ذلك لذة خاصة لا يشعر بها غير المحبين. والغريب أن المحب لا يصبر على كتمان شيء عن حبيبه كأنه يرى في كتمانه خيانة، أو كأن قلبيهما يطلبان المكاشفة في كل شيء. فكما يتشاكيان ويتعاتبان. فهما أيضا يلذ لهما نقل ما في قلب الواحد إلى قلب الآخر من حب أو فكر أو حكاية أو حديث.
وفيما هم في ذلك وقد بعدوا عن جبل السماق سمعوا وقع حوافر جواد وراءهم وكان عماد الدين لا يفتر يترقب سماع ذلك التماسا لمجيء صديقه عبد الرحيم، وقد أصبح في شوق لرؤيته ليستطلع منه ما لمح إليه به وهما في الحصن.
فلما سمع وقع حوافر الفرس تباطأ في المسير ووقفت معه سيدة الملك. فأشار إليها أن تبقى سائرة والخادمان يتبعانها فمشت وتأخر هو لحظة فوجد صديقه عبد الرحيم يسوق فرسه كأن وراءه أناسا يطاردونه فناداه: «عبد الرحيم.» فأجابه: «عماد الدين؟» قال: «ما وراءك؟ أراك مسرعا هل عليك بأس؟»
قال: «كلا. لكنني خفت عليكم.»
قال: «وما الذي أخافك علينا؟ إننا في أمان.»
قال: «كنت في أثرك ساعة طعنت ذلك اللعين الطعنة القاضية، وتربصت بعد ذلك وأنا أراقب حركاتك حتى علمت أنك دخلت منزله ثم طال انتظاري ولم أشاهد مشعالك، فخفت أن تكون قد أصبت بسوء، فركبت نحو المنزل من طريق آخر فلم أجد هناك أحدا ثم رأيت المشعال فهرعت إليك هل عليكم بأس؟»
قال: «لا بأس علينا والحمد لله، بل نحن في خير وبركة.»
قال: «هلا علمت من هو الشيخ سليمان الذي قتلته؟»
قال: «نعم علمت، إنه أبو الحسن صاحب ثورة القاهرة التي ذهبت بسببها إلى مصر بتلك الرسالة المباركة وجئتني بذلك الجواب الثمين، وقد ظهر لي من إلحاحك علي في قتله أن في الأمر سرا، وقد ظهر الآن أنك أعنتني على التخلص من هذا الشرير، وهذه بشرى سنزفها إلى مولاي صلاح الدين ولك الفضل فيها.»
قال: «وسنزف إليه بشرى أخرى بأن حياته في مأمن من غائلة الإسماعيليين.» قال: «طبعا. وسأزف إليه وإليك بشرى هي في نظري أهم مما تقدم.» فقال: «وما هي؟»
قال: «لم تسألني عن هؤلاء الرفاق من هم؟»
قال: «كنت عازما على سؤالك، لكنني تنبأت بأنهم زوجة ذلك الشرير وخادماها وهي الآن زوجتك طبعا.»
قال: «لا. لا. لم تكن له زوجة قط.» قال: «من هي إذن؟»
قال: «أتذكر الرسالة التي جئتني بها من القاهرة والسيدة التي خاطبتك وذكرت لي إعجابك بلطفها وكمالها؟»
قال بدهشة: «سيدة الملك، أخت الخليفة؟»
قال: «نعم، سيدة الملك. اختطفها هذا الخائن على يد بعض الفدائيين أصحابنا، وجاء بها إلى هنا تحت العذاب الشديد، وقدر لي أن أنقذها.» فقال: «هذه الراكبة على البغلة سيدة الملك؟»
قال: «نعم، هل تريد أن تراها؟»
قال: «كيف لا ... ولكن تمهل قليلا ريثما نصل إلى مكان ننزل فيه عند الفجر. إذ لا بد من الراحة.»
قال: «هل أنت ذاهب معنا إلى مصر؟»
قال: «إذا كنتم تقبلونني.»
فأسرع في الجواب بلهفة قائلا: «إن ذلك يكون من حسن طالعي. كم أحب أن تكون معي فنعيش معا لعلي أقدر على مكافأتك، وسأخبر السلطان صلاح الدين بما كان من فضلك في إتمام هذه المهمة، وهي بشرى رابعة أزفها إليه. ولكن كيف تركت طائفة الإسماعيلية بعد أن صرت من كبار رجالها وصارت لك هذه الدالة على رئيسها العجيب الغريب. إني لا أنسى ما شاهدته من المدهشات في هذين اليومين.» فتنهد وقال: «لو لم أرتق إلى درجة المستنيرين لم يخطر ببالي أن أعتزل هذه الطائفة. ألم تنتبه إلى تغيري بعد هذا الارتقاء، لو بقيت فدائيا لظللت مشتاقا إلى الارتقاء والاطلاع على الأسرار. فلما اطلعت عليها رأيتني كنت مغشوشا وندمت على دخولي.»
فقال: «يا للعجب! لماذا لم يفعل ذلك الذين ترقوا إلى مثل هذه الدرجة قبلك؟»
قال: «لأنهم يرون في بقائهم ما يسد مطامعهم من الملذات وأسباب السعادة البدنية. لا يهمهم أن يتم لهم ذلك بتضحية الشبان الشجعان والفدائيين أمثالك. أما أنا فلا أحب هذه العيشة بما فيها من الغدر.»
فأطرق عماد الدين وتشاغل بتمشيط عرف فرسه بأنامله. ثم قال: «ألا تزال تعتقد كرامة الشيخ راشد الدين ومعجزاته؟»
قال: «كنت أعتقدها حتى ارتقيت وعرفت سرها فأنكرتها، وفي الدنيا كثير من الظواهر المدهشة إذا عرفت سرها احتقرتها.»
قال: «إني شديد الرغبة في معرفة سر ما شاهدت من معجزات الرجل.»
قال: «إني أعذرك، وقد كنت أود أن أكاشفك بسرها لولا أني أقسمت الأيمان المغلظة على الاحتفاظ بها، وأنت لا ترضى لي الحنث باليمين؛ لأني وإن تركت الجمعية وتخليت عنها فلم أتخل عن شرفي وضميري. لكن هذه المعجزات ليس فيها شيء من الخوارق التي لا يقدر عليها الناس، وليست من قبيل الوحي الإلهي أو المقدرة الخاصة كما كنا نظن. والآن قد دنونا من محطة فيها ماء وخان أعرف صاحبه، فأرى أن ننزل هنا ريثما نستريح ثم نستأنف المسير.»
فأسرع عماد الدين إلى سيدة الملك وأخبرها برأي رفيقه عبد الرحيم فوافقت عليه، وكان الفجر قد لاح فنزلوا. وتقدم عماد الدين ومعه عبد الرحيم إلى سيدة الملك فقدمه لها وأخبرها عن فضله في نجاح مهمته فأثنت عليه كثيرا.
فلنتركهم جميعا يستريحون ولنعد إلى القاهرة، فقد طال سكوتنا عن أهلها. تركناهم بعد صلب عمارة وأصحابه المتآمرين وخروج رسول عماد الدين (عبد الرحيم) بالكتاب والجواهر إلى بيت المقدس. وقد اطمأن بال سيدة الملك وسرها أنها خطرت ببال حبيبها. وقد ذكرنا ما كان من نقمة أبي الحسن بعد فشله في دمشق. وأنه أصبح همه الانتقام من سيدة الملك بأي وجه كان فأغرى بعض الأشقياء من الفدائيين على الاحتيال لاختطافها وذهب هو إلى مصر. فاغتنموا خروجها مع حاضنتها إلى البساتين على مقربة من قصر صلاح الدين واختطفوها كما تقدم، وسقطت ياقوتة وقد أغمي عليها ولم تفق إلا بعد ساعات. وكان اللصوص قد نجوا بغنيمتهم، فأخبرت قراقوش بذلك فأطلع صلاح الدين عليه فغضب وأمر بالتفتيش عن سيدة الملك وبث الجواسيس في الأطراف فلم يقفوا لها على خبر. فشق ذلك عليه كثيرا، وزاد غضبه لانقطاع أخبار عماد الدين وندم على الإذن له في الذهاب؛ لأنه أحس بحقيقة منزلته بعد ما رآه من ثبات عزمه على خدمته. وكان يود ليزوجه بسيدة الملك ويفرح به فكان غيابهما سببا لتنغيص عيشه، وكان يشغل خاطره عن حروبه مع الصليبيين وهي على أشدها في ذلك العهد، وقد أخذ يتهيأ لفتح بيت المقدس. وفيما هو في ذلك جاءه قراقوش يقول: «إن رسول عماد الدين الذي جاءنا في المرة الماضية أتى ومعه بشرى مهمة.» فأمر بإدخاله ورحب به فوقف متأدبا فقال له: «ما وراءك ، إنك لا تأتينا إلا بالبشائر الحسنة.»
قال: «إن ذلك بتوفيق الله وبركة مولانا السلطان. أخبر مولاي أن عبده عماد الدين عاد من مهمته سالما ظافرا، وكان يود أن يحمل هذه البشرى بنفسه لكنه شغل بسيدة الملك فاستأذنته أن أحمل هذه البشرى إليكم قبل وصوله.»
فصاح صلاح الدين قائلا: «وسيدة الملك معه؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فالتفت إلى بهاء الدين يلتمس مشاركته في الاستغراب، فقال بهاء الدين: «إن ذلك غريب! إنه في هذه المرة أيضا أنقذها من الخطر. أليس ذلك دليلا على أنهما خلقا ليقترنا؟»
قال: «لا شك في ذلك، وهذا غاية ما أتمناه فابعث من يستقبلهما في موكب يليق بمقامهما.»
فأعد قراقوش موكبا حافلا استقبل القادمين في الخانقاه بجوار القاهرة ومعه هودج لسيدة الملك. ولما دنا الموكب من قصر صلاح الدين حولوا الهودج إلى قصر سيدة الملك، وكانت ياقوتة قد علمت بقدومها فاستقبلتها وترامت على يديها تقبلهما، وشكرت الله على هذه النعمة. ورأت الضعف ما زال ظاهرا في وجهها، فأخذت تداعبها بذكر عماد الدين وأنه لا يلبث أن يصير زوجها فقالت لها: «هل رأيت يا ياقوتة أن هذا الشاب يستحق قلبي؟ إنه أنقذني من الموت والعار مرة أخرى.» وقصت عليها خبرها باختصار.
أما عماد الدين فترجل قبل الوصول إلى قصر السلطان ومشى حتى دخل عليه وأكب على ركبته يقبلها ويقول: «أشكر الله؛ لأنه أراني وجه مولاي السلطان في خير.» وتقدم إليه الوزراء والقواد وسلموا عليه وهم لا يعرفون الغرض من مهمته ولكنهم جاروا السلطان بإكرامه.
ثم خلا صلاح الدين بعماد الدين، وبهاء الدين، وسأل الأول عن نتيجة مهمته فقص عليه ما جرى من أوله إلى آخره، فأعجب بهمته وما أظهره من الصبر وما لاقاه من المصاعب والمشاكل وتغلبه عليها جميعا. وكان أغرب ما سمعه قتله أبا الحسن وإنقاذه سيدة الملك. فلما وصل إلى هنا ابتسم السلطان وقال: «بارك الله فيك. هذه همة عالية. رحم الله والدي، إنه كان صادق النظر في الرجال، توسم فيك مناقب كبار القواد، وقد صدق توسمه لأنك أتيت ما لم يستطعه سواك من رجالنا. فأنت الآن من كبار قوادنا ورجال خاصتنا.»
والتفت إلى بهاء الدين وقال: «يا بهاء الدين، هذا هو الشاب الذي فر من بين يديك من قصر النساء. ألا تراه يستحق أن يكون زوجا لسيدة الملك وقد أنقذها من أبي الحسن؟» قال: «إنه أهل لكل التفات، ويكفي أن يكون مولانا نجم الدين قد توسم فيه ذلك.»
قال: «قد آن له الآن أن يستريح من وعثاء السفر، وأحب أن تحتفلوا بزواجه احتفالا يليق بالملوك وكبار القواد.»
فأكب عماد الدين على يدي صلاح الدين يقبلهما فقبل صلاح الدين رأسه ثم قال عماد الدين: «أستأذن مولاي في كلمة عن صديقي عبد الرحيم، فقد سمعت بلاءه في خدمتنا وسيكون عونا لنا في حروب الإفرنج؛ لأنه يعرف بيت المقدس بيتا بيتا و...»
فلم يصبر صلاح الدين حتى يتم حديثه فقال: «إنه أهل ليكون من خاصتنا، وهذا بهاء الدين يعرف له قدره وينزله منزلته. وأحب الآن أن أرى سيدة الملك وأهنئها بالسلامة.»
فهرع بهاء الدين إلى قصر النساء يبشر سيدة الملك بزيارة السلطان، فاستعدت لاستقباله، فلما أقبل عليها حياها وقال: «قد أصبت لأنك فضلت عماد الدين علي فإنه أنقذك من الموت مرتين وخلصنا من شر الأعداء. فهو جدير بك ونعقد له عليك بما يقتضيه مقامك.»
فخجلت سيدة الملك خجلا يمازجه الفرح والإعجاب وأطرقت حياء، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لم أفضل عماد الدين إلا لمناقب تعجب السلطان صلاح الدين وقد رفعه بسببها من عامة الناس إلى خاصتهم وجعله جليسه. على أني إذا فضلته من بعض الوجوه فإنني أنا وهو لا نفضل أحدا على صلاح الدين، ونحن في رعايته وتحت ظله.»
فأعجبه جوابها فقال لها: «لست في رعايتي، ولكنك الآن في رعاية البطل عماد الدين، ويحق لك أن تفخري به كما يحق له الافتخار بك فاهنآ.» قال ذلك وخرج وغادر سيدة الملك وقلبها يرقص فرحا وقد نسيت كل مصائبها الماضية.
واحتفلت مصر بزفافها إلى عماد الدين احتفالها بزواج الملوك.
अज्ञात पृष्ठ