وكان صلاح الدين يتكلم والحضور سكوت كأن على رءوسهم الطير، ولعلك لو استطلعت خفايا سرائرهم لرأيت كلا منهم ينتظر ما يقوله الآخرون ولا يريد أن يكون هو البادئ في الرأي. وعيونهم متجهة بالأكثر إلى الأمير نجم الدين والد صلاح الدين لما يعلمونه من حزمه وعلو همته ودهائه. ولكنه لم يقل شيئا. وظل مطرقا يفكر وقد قعد على وسادة عالية وفي يده هناة كالقلم يداعبها بين أصابعه ولا يخفى اضطرابه على المتفرس فيه.
وكان الهكاري جالسا بجانب قراقوش، وحدثته نفسه أن يتكلم ويقوي عزم صلاح الدين على مقاومة نور الدين، فالتفت إلى قراقوش كأنه يستشيره في الأمر، وهم قراقوش بأن يوافقه على ذلك، فإذا بتقي الدين ابن أخي صلاح الدين قد غلبت عليه حمية الشباب فوقف وقال: «إذا كان عمي السلطان قد جمعنا ليشاورنا في أمر نور الدين، فهو يعلم أننا نتفانى في نصرته. فإذا جاء نور الدين إلى مصر منعناه بحد السيف.»
فبان البشر في وجه صلاح الدين استحسانا لتلك الجرأة وابتسم، فكان لابتسامه تأثير شديد في ضمائر الحضور فجعلوا يتسابقون إلى الموافقة على رأي ذلك الشاب بمثل قوله. وعلا الضجيج ونجم الدين ما زال مطرقا والعيون محدقة به لترى ما يبدو منه، وإذا به أشار بالقلم الذي في يده إشارة استمهال فأصغى الكل وعيونهم إلى شفتيه. فنظر إلى تقي الدين نظرة زجر وتوبيخ ، وأمره أن يقعد، وانتهر من وافقه من الحضور . ثم التفت إلى صلاح الدين وقال: «يا يوسف، أراك تبغي أمرا عظيما أنت أقصر باعا من أن تناله. أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع من ترى. والله لو أنني وخالك هذا وقع نظرنا على السلطان نور الدين لم نلبث إلا أن نقتل بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا. فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟ إن كل من تراهم عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه فيها. فإن أمر سمعنا وأطعنا. والرأي أن تكتب كتابا مع نجاب تقول فيه: «بلغني أنك تريد الحركة إلى هذه البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك وما هنا من يمتنع.» هذا هو الرأي يا بني ...»
فلما قال نجم الدين ذلك أطرق الحضور وندموا على ما كان منهم. وأما هو فحالما فرغ من كلامه نهض وخرج فنهض الأمراء جميعا وتفرقوا. وفي جملتهم عيسى الهكاري. فإنه قبض على يد قراقوش وخرج به إلى خلوة فقال قراقوش: «ما هذا؟ لا أعهد نجم الدين جبانا ضعيف العزم إلى هذا الحد. والله أوشكت أن أقف لمعارضته.»
فضحك الهكاري وقال: «لقد أخطأت يا أستاذ. ليس بين هؤلاء من هو أقوى قلبا وأجرأ على الأمور منه. ولكنه داهية حكيم، والله إني كنت أقرأ فكره وهو مطرق يسترق النظر إلى الحضور وهم يتكلمون. وقد تبين ما في كلامهم من الحدة فخاف أن يجاريهم بالكلام فيفسد التدبير. وإذا شئت أن تتحقق ذلك فاتبعني فإني أراه داخلا إلى غرفة صلاح الدين وحده.»
فمشى قراقوش في أثره حتى اقتربا من الغرفة فلمحهما نجم الدين فأشار إليهما أن يدخلا فدخلا وأغلقا الباب وراءهما وصلاح الدين يهم أن يعاتب أباه على ما سمعه منه. فالتفت نجم الدين إلى الهكاري وقال: «أنت حكيم وصاحب تدبير. وقد أخبرني يوسف بما كان من تدبيرك مع الأستاذ قراقوش في سبيل مصلحته. لذلك فإني لا أخشى أن أقول رأيي أمامكما.» والتفت إلى صلاح الدين وقال: «بأي عقل فعلت هذا يا يوسف؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا في مقدمة أعدائه، وحينئذ لا تقوى عليه. وأما إذا بلغه قولي وأننا في طاعته تركنا واشتغل بغيرنا ريثما تعمل الأقدار عملها.» ثم وجه كلامه إلى الهكاري وقراقوش وقال: «والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر بمصر لقاتلته عليها حتى أمنعه أو أقتل.» قال ذلك وعيناه تتلألآن.
فهم صلاح الدين بتقبيل يد أبيه وقال: «صدقت يا أبي. قد نطقت بالصواب، وأنا فاعل ذلك بإذن الله. ما أحوجني إلى رأيك وتدبيرك.»
والتفت الهكاري إلى قراقوش ولسان حاله يقول: «ألم أقل لك هذا؟»
فأكب قراقوش على يد نجم الدين فقبلها وقال: «لا حرمنا الله من رأيك يا سيدي.» وقبل أن يفترقوا سمعوا الأذان فذهبوا للصلاة ثم إلى الغداء. •••
أما أبو الحسن فلما عاد بصفقة المغبون ولم يظفر بعماد الدين ولا استطاع إغاظة سيدة الملك، رأى أن يبلغ ذلك إلى الخليفة بأسلوب يمكنه من مرامه. فصبر حتى طلع النهار وهو صباح الاثنين وكان أحد اليومين اللذين يجلس الخليفة فيهما للناس من كل أسبوع، أما اليوم الآخر فكان يوم الخميس. وأجل مقابلة الخليفة إلى اليوم التالي. وقضى ذلك اليوم وهو يدبر الحبائل وينصب المكايد، ثم بكر في الصباح التالي إلى بيت الجليس الشريف وسأله عن الخليفة فقال: «إنه مريض وقد اشتد المرض عليه أمس حتى شغل بالنا.» فابتدره أبو الحسن قائلا: «يظهر أنه انتكس لما بلغه خبر قصر النساء.»
अज्ञात पृष्ठ