وكان صلاح الدين في أثناء هذا الجدال غارقا في التفكير في سبب وقوع هذا الأمر في هذه الليلة، فلما سمع اسمه انتبه لما يقوله عماد الدين فأجابه قائلا: «إن هذه المهمة خطرة جدا ونحن في حاجة إليك هنا.» قال: «أقسمت برأسك أن أذهب فأذن لي.» فالتفت صلاح الدين إلى أبيه كأنه يستشيره، فقال نجم الدين: «أطعني ودع عنك هذا الخطر.» قال: «إني عبد مطيع ولكني أقسمت برأس مولاي أني ذاهب في صباح الغد، وأحب أن يكون ذهابي سرا عن كل إنسان لا يعلم به سواكما؛ لأننا أصبحنا لا نعرف صديقنا من عدونا، فلا ينبغي أن يعلم أحد بسبب ذهابي.»
فقال صلاح الدين: «إذا لم يكن بد من ذلك فامض، وفقك الله لما تريده، ولكنني كنت وأنتما تتباحثان أفكر في السبب الذي أوجب وقوع هذا الأمر الليلة فلم أهتد. ولكنني ...» وتذكر خطبة سيدة الملك على يد الهكاري فترجح له أن هذا الأمر هو الذي بعث على تحمس أحد الإسماعيلية المستترين. ولكنه لم يجد هذا التعليل معقولا فسكت.
فلحظ أبوه تردده فقال له: «ما بالك يا يوسف؟ قل ما يخطر لك لعلك تتقي التصريح أمام عماد الدين الذي يفديك بروحه.» فقال: «كلا يا أبت، ولكنني فكرت في سبب ما حصل الليلة فلم يستقم حكمي ففضلت السكوت.» قال: «قل ما خطر لك .» قال: «أعترف لك يا أبي بأني ارتكبت خطأ في صباح أمس ساقني إليه تسرعي بإغراء صديق لي حميم. وذلك أني أمضيت أمرا كان ينبغي قبل إمضائه أن أستشيرك فيه، وها إني الآن ألاقي عاقبة تسرعي.»
قال: «ما ذلك؟» قال: «أتاني صديقنا عيسى الهكاري - وأنت تعلم صدق مودته لي ونصحه إياي - فاقترح علي اقتراحا يرى فيه خيرا كبيرا لي فأطعته، ولكنني لم أكتب فيه كتابة، بل تركت الأمر مبهما ريثما أستشيرك.»
فلم يعد نجم الدين يستطيع صبرا على فهم مراده فقال: «وما هو هذا الاقتراح؟» قال: «عرض علي أن يخاطب الخليفة العاضد في أمر أخته سيدة الملك أن تكون زوجة لي.» فبانت البغتة في وجه نجم الدين وصاح فيه: «وهل وافقته على ذلك؟» قال: «ترددت كثيرا، وأخيرا رضيت أن يكتفي بالسؤال من عند نفسه.» قال: «ما زلت تقدم على أمور لا تليق بالسلاطين! ما لنا ولهذا الرجل ولأهل بيته؟ لماذا نعرض نفسنا للفشل؟ هل تعرف الفتاة؟»
قال: «قيل لي إنها بارعة في الجمال جدا.»
وكان عماد الدين يسمع الحديث ساكتا، فعلم أنهم يتكلمان عن سيدة الملك وكان قد رآها يوم واقعة العبيد وأرجع إليها خصلة الشعر كما تقدم، وقد استلطفها لكنه لم يحلم بالحصول عليها؛ ولذلك شعر من طلب مولاه لها بلذة ممزوجة بالغيرة لذ له أن تكون تلك الفتاة الجميلة لسيده أفضل من أن تكون لسواه، لكنه لما تصور ذلك أحس بالغيرة منه. ولحظ نجم الدين في وجهه فكرا في الموضوع فقال له: «هل تعرف الفتاة يا عماد الدين؟»
قال: «أتيحت لي فرصة رأيتها وهي في أشد الاضطراب، أعني يوم واقعة العبيد، حين أمر مولاي النفاطين برمي النفط على القصر، ثم أمرهم أن يكفوا عن رميه، وكنت في جملة من دخل القصر فرأيت الفتاة في ضيق أنقذتها منه وما زلت أذكر وجهها الجميل وشعرها الذهبي. إنها تليق بسيدي صلاح الدين. وهل هي تتوقع من هو خير منه؟»
فقال نجم الدين وهو يظهر أنه واثق مما يقول: «ما لنا ولها؟ أشك في أن يوسف لم يطع الهكاري إلا حياء.» ووجه كلامه إلى صلاح الدين قائلا: «هل أتاك الهكاري بجواب من الخليفة؟»
قال: «ذكر أنه خاطب الخليفة فاستمهله في الجواب ولا ندري ما يكون.»
अज्ञात पृष्ठ