فنهضت وقعدت وقد انحل شعرها حتى غطى كتفيها وخديها ونظرت إلى ياقوتة نظر العتاب وقالت: «إن المعز - رحمه الله - لم يبلغ إلى هذا السؤدد ولا توارث أبناؤه هذا الملك الواسع إلا بمناقبه وعلو همته وكرم أخلاقه. ومناقب عماد الدين لا تقل عنها شيئا. إنك تعلمين ما أتاه هذا الشاب من المروءة يوم واقعة العبيد، وكيف تفانى في سبيل نجاتي وحمل إلي خصلة الشعر ولا يعرفني. إن كنت فد نسيت ذلك فإني لا أنساه. لا أنسى يوم أتاني ذانك الشقيان وأرادا حملي من الدار فأنقذني هذا الغريب منهما بغير ثواب يرجوه ولا عقاب يخافه، وإنما فعل ذلك مندفعا بأخلاقه السامية! فأنا من أجل هذه الأخلاق أحببته ولم أنظر إلى أصله وفصله.» وتوقفت لحظة وهي ترفع شعرها عن عينيها ثم قالت: «أتذكرين ذينك الرجلين اللذين هما بي في ذلك اليوم؟ إذا علمت الآن أنهما من أبناء الملوك أو الخلفاء وطلبني أحدهما هل ترضين أن أكون زوجة له؟»
قالت: «معاذ الله! إنهما ساقطا الهمة.» قالت: «اعلمي أن أحدهما يغلب على ظني أنه أبو الحسن الشريف الذي ترغبونني فيه، والآخر خادم له استعان به لاختطافي في وسط الغوغاء بعد أن علم أني لا أريده.» قالت ذلك وكأنها ندمت على ما فرط منها فسكتت وأطرقت.
فقالت ياقوتة وقد تولتها الدهشة: «هل أنت على يقين مما تقولين يا سيدتي؟»
قالت: «لا أقول إني على يقين، ولكنني أرجح هذا الظن كثيرا. ومع ذلك فأنا لا أقول هذا ولا ذاك، وإنما أقول إني منذ رأيت عماد الدين وما أتاه من المروءة شعرت بشيء اجتذب قلبي نحوه، وكنت أتوقع أن أراه مرة أخرى يأتي فيها إلى أخي يطلب مكافأة على صنيعه. فلما لم يأت ازددت إعجابا به وارتفعت منزلته في قلبي وتحول الإعجاب إلى حب شديد.» ثم تنهدت وقالت: «ويلاه! هل هو يشعر مثل شعوري؟» قالت ذلك وخنقتها العبرات ولم تعد تتمالك عن البكاء، والحاضنة تستغرب هذا التعلق بنظرة واحدة فأخذت تخفف عنها وتقبلها وتقول لها «خففي عنك يا سيدتي ... ارجعي إلى رشدك، إن مثلك لا يسترسل في عواطفه إلى هذا الحد مع شخص لم يره إلا بضع مرات ولا يعرف شعوره من جهته، تجلدي وفكري في الأمر. لو فرضنا أنك وأنت في هذا الهيام علمت أن عماد الدين يحب سواك كيف تكون حالك؟ تبصري قليلا.»
فاستجمعت سيدة الملك قواها واسترجعت رشدها وأطرقت وهي تتأمل في عبارة حاضنتها فرأت الحق معها. ولكن الحب سلطان مستبد لا يذعن للحق ولا يعرف الصواب. وإنما يلذ له الاستبداد بلا سبب والفتك بلا حساب. ولا يحلو الحب إلا أن يكون مستبدا؛ لأنه ومتى أذعن للأحكام العقلية والأقيسة المنطقية أو الاعتبارات الاقتصادية صار معلما أو تاجرا أو فقيها. وإنما هو سلطان مطلق لا يقيده دستور ولا يردعه خوف من عقاب. فهو لا يسأل عما يفعل ورعيته راضية باستبداده تعد ظلمه عدلا وتحسب عسفه رفقا.
ذلك كان شعور سيدة الملك في تلك اللحظة كان عقلها يدلها على مكان الخطأ وهي لا تريد أن تراه. فاسترسلت في عواطفها ونظرت إلى ياقوتة والاعتراف على شفتيها والإنكار في عينيها وقالت: «صدقت يا خالة. ولكني لا أظنه يفعل ذلك ... لا. لا. ولن مهما يكن فإني لا أرى سبيلا إلى غير ما ذكرت فدبريني برأيك.»
فتحيرت ياقوتة في الجواب ورأت الحديث قد طال وتوالت الغرائب التي كشفت لها في تلك الليلة، فعزمت على استخدام الوقت للتفكير على انفراد لعلها تهتدي إلى حل يرضي سيدتها ويوافق ضميرها. فترامت على يدي سيدتها تقبلهما وهي تقول: «خففي عنك يا مولاتي. إني أمتك أفديك بروحي. كوني مطمئنة وقد تعبت اليوم من هذا الحديث، وآن الرقاد فتوسدي فراشك. وأمهليني لأنظر في الأمر ولا بأس عليك في كل حال. فإن أخاك - حفظه الله - لا يجبرك على من لا تحبينه. وأنا أعلم منزلتك عنده لكن لا بد من تدبير طريقة لمشاهدة عماد الدين. توسدي فراشك وها إني ذاهبة. وسأفكر فيك كثيرا الليلة وأما أنت فلا أظنك تفكرين في.» وضحكت مداعبة ثم قالت: «فكري فيمن تحبين.» فاستلطفت سيدة الملك تعبيرها؛ لأنه كان من أقصى أمانيها أن توافقها ياقوتة على اعتقادها وتشعر معها بما في قلبها فيهون عليها كل شيء. فسري عنها وأطاعت حاضنتها فرقدت وذهبت ياقوتة أيضا إلى فراشها. •••
قضت سيدة الملك بقية الليل بين اليقظة والمنام لفرط قلقها وأفاقت في الصباح التالي على صوت المؤذن لصلاة الصبح، ولم يكن يطلب منها القيام حينذاك لكنها لم تعد تستطيع رقادا. فجعلت تتقلب على الفراش وأفكارها تائهة. وتذكرت أخاها وأحبت أن تعلم حاله بعد ذهابه من عندها هل شفي مما كان فيه. فنهضت من الفراش والتفت بمطرف من الخز التماسا للدفء وخرجت من غرفتها إلى ممر يؤدي إلى شرفة تطل على مصلى الخليفة، فرأت أخاها قد خرج للصلاة فاطمأن بالها عليه. ولما عادت إلى فراشها استقبلتها الحاضنة وسألتها عن حالها وأخذت تحادثها وتؤانسها ومشت معها إلى غرفتها وأعانتها في لبس ثيابها وأمرت بإعداد المائدة وجلست إليها وهي تقول: «أطمئنك عن صحة سيدي أمير المؤمنين فإنه في خير.»
قالت: «عرفت ذلك من خروجه للصلاة، وأحمد الله على ذلك. ولكني أحب أن أراه.»
قالت: «سترينه الليلة بعد رجوعه من قصر الذهب والفراغ من مهام الدولة. هيا بنا إلى الطعام الآن.»
अज्ञात पृष्ठ