ثم مشى إلى غرفة داخلية أقفل بابها وراءه وقال وهو يشير بيده إشارة التهديد: «أما تلك الخائنة فسأذيقها مر العذاب. سأجعلها تندم ولات ساعة مندم.»
ثم اشتغل بتبديل ثيابه وهو يعمل فكرته في تدبير الحيلة لإغاظة سيدة الملك قبل كل شيء. فلما فرغ من اللبس أمر بالبغلة فأتته وركب إلى حيث يقيم صلاح الدين ووالده ورجال حاشيته. وفي جملتهم رجل يقال له ضياء الدين عيسى الهكاري من الأمراء الصلاحية كبير القدر كان صلاح الدين يعول عليه في الآراء والمشورات. وكان في مبدأ أمره يشتغل بالفقه بمدينة حلب فاتصل بالأمير أسد الدين عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به. فلما توجه أسد الدين إلى مصر مع بهاء الدين قراقوش صحبهما عيسى هذا وكان مخلصا لصلاح الدين. فلما توفي أسد الدين اتحد عيسى وقراقوش على تنصيب صلاح الدين موضعه في الوزارة، ودققا الحيلة حتى بلغا المقصود. فلذلك كان لعيسى دالة على صلاح الدين يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره، وكان من الجهة الأخرى علوي النسب فكان له مع أبي الحسن صداقة. وكان عيسى يحاسن أبا الحسن وفي نيته انه سيحتاج إلى استخدامه في مصلحة صلاح الدين، فكان يكرمه ويرحب به وصلاح الدين لا يعلم؛ لأن أبا الحسن كان يجتنب الاجتماع بصلاح الدين. وكان عيسى الهكاري في ذلك الحين في منظرة اللؤلؤة يجالس صلاح الدين ويباحثه، ويرشد أباه نجم الدين إلى ما يسهل عليه المهمة التي جاء من أجلها إلى مصر.
ركب أبو الحسن إلى منظرة اللؤلؤة لا يريد دخولها، ولكنه كان يعلم أن ضياء الدين الهكاري يختلف إلى هناك في تلك الأيام، فتوقع أن يراه في الطريق فيظهر أنه التقى به مصادفة؛ ليهون جره في الحديث عفوا إلى الغرض المطلوب. وكان يعلم أيضا أنه يتردد إلى دار العلم بجوار القصر الصغير. ودار العلم هذه أنشأها الحاكم بأمر الله وجمع فيها الكتب وجعلها مباءة لطلاب العلم للمطالعة أو النسخ. وفيها الأقلام والمحابر. ووقف على ذلك أماكن ينفق على دار العلم من ريعها. وكان يجتمع فيها العلماء للمناظرة والمجادلة فأصبحت في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش مجتمعا للمجادلة الدينية الخطرة، فأمر الأفضل بمنع الجمهور من دخولها. لكنها ظلت تحتوي على كثير من كتب الفقه والتاريخ فمن أحب من الخاصة أن يطالع شيئا منها أذن له، فكان الهكاري من جملة المترددين إلى هناك.
فلما دنا أبو الحسن من منظرة اللؤلؤة سأل بعض الخدم عن الهكاري فقيل له إنه ذهب إلى دار العلم. فحول شكيمة البغلة إلى هناك وأظهر أنه ذاهب لغرض آخر غير ملاقاته. فلما وصل الباب منعه البواب من الدخول لأنه لا يعرفه، فلم يعرفه بنفسه بل قال: «أحب الاطلاع على بعض الكتب وأعود.» فقال: «ذلك لا يجوز يا سيدي.» فقال: «كيف لا يجوز وقد علمت أن رجلا دخل هذه الدار منذ هنيهة؟» فقال: «هو الفقيه ضياء الدين.» فأظهر أبو الحسن الاستغراب لوقوع هذه المصادفة وقال: «الفقيه ضياء الدين هنا؟ إنه صديقي ... استأذنه في الدخول إليه.» قال: «من أقول له؟» قال: «قل له أبو الحسن يطلب الدخول.»
فذهب البواب ثم عاد ومعه ضياء الدين. فلما وقع نظره على أبو الحسن أسرع إليه ورحب به فتحول أبو الحسن عن البغلة ودخل مع الهكاري وهو يتظاهر أنه فرح بهذه المصادفة. وكان ضياء الدين يلبس زي الأجناد ويعتم بعمائم الفقهاء فجمع بين اللباسين، فلما التقيا قال أبو الحسن مداعبا: «إنك قد جمعت بين زي الجند وزي الفقهاء، فهل أنت فقيه الآن أو جندي؟»
قال: «إني فقيه في بحثي الآن.»
قال: «أما أنا فقد طلقت الفقه، وإنما جئت للمطالعة في بعض الكتب لغرض علمي.» قال ذلك ومشى، فدخل ضياء الدين معه وهو يقول: «تفضل ادخل، لعلك تبحث في مسألة لغوية؟» قال: «كلا، إني لا أرى ذلك نافعا الآن، ولكنني أطلب مسألة تاريخية، أحب الاطلاع على تاريخ السلاجقة فإن هؤلاء القوم أشداء ولهم تاريخ مجيد.»
فالتفت ضياء الدين إليه وقال: «أظنك تحب البحث عن سبب مقتل نظام الملك. مسكين!» قال: «لا. فإن قاتله من الإسماعيلية أصحاب شيخ الجبل ... أليس كذلك؟ ليس لهذا جئت. ولكنني أريد الاطلاع على أصل هذه الدولة.»
قال: «اتبعني إلى خزانة كتب التاريخ.» •••
مشى أبو الحسن في أثره حتى أدخله غرفة فيها رفوف عديدة رتبت فيها الكتب حسب منوعات العصور. وساعده ضياء الدين حتى جمع له بضعة كتب تبحث في الدولة السلجوقية ومبدأ أمرها. فتناولها أبو الحسن وأخذ يقلب فيها وهو يقول: «فتش معي عن كتاب فيه ترجمة طغرل بك مؤسس هذه الدولة إنه كان رجلا شديدا.»
अज्ञात पृष्ठ