فقطع الشيخ كلامه قائلا: «حبذا ذلك، إن مثلي لا يطمع في هذا المشرف، ويكفينا من جواره أن نقوم بخدمته بما نغرسه من الحنطة أو نرعاه من الماشية له ولرجاله في مقابل بقائنا في قيد الحياة.»
قال: «والآن أحب أن أقابل الشيخ دبوس، فهل ذلك ميسور؟»
قال: «لا أدري. أعطني الكتاب إذا شئت لأوصله إلى بعض رجاله فيوصله إليه، ثم آتيك بالجواب.»
فدفع إليه الكتاب فتناوله وركض نحو الجبل، ومكث عماد الدين في انتظار عودته وقد أمسك زمام فرسه بيده وأدار بصره فيما يحيط به من السهل الفسيح، وذلك الجبل الشامخ القائم في صدره وفوقه قلعة مصياف وقد أحدق بها السور والأبراج. ولم يقدر أن يتبين طريقا يصل بها إليه، كأن أهلها يصعدون إليها على أجنحة النسور أو في المناطيد. فهاله ذلك وتمثل له الخطر المحدق بمن ينوي براشد الدين شرا. لكنه ازداد رغبة في استطلاع أحوال ذلك الرجل، فإما أن يفتك به، وإما أن يقرب ما بينه وبين صلاح الدين. •••
قضى في ذلك ساعة ثم رأى الشيخ الفلاح راجعا ومعه شاب في لباس السعاة، حاسر الرأس حافي القدمين عاري الصدر كأنه من العفاريت. فلما وصل إلى عماد الدين حياه ثم سأله عن غرضه فقال: «أحب أن أقابل الشيخ دبوس.»
فمد يده وفيها كتاب التوصية وقال: «هذا هو كتابك، ما هو اسمك؟» قال: «عبد الجبار.» قال: «اتبعني.»
فتبعه ماشيا يقود فرسه والشاب يسير بين يديه وهو يتلفت إليه يجيل نظره فيه كالمتفرس. فاستغرب عماد الدين تلفته وتفرسه، ولو كان جبانا لوقع الرعب في قلبه، ولكنه كان شجاعا لا يعرف الخوف.
وبعد قليل وصلا إلى قاعدة الجبل فأشار إليه الشاب أن يترك الجواد هناك ويتبعه فتردد عماد الدين لحظة فقال له: «لا بد من ترك الجواد هنا وإلا فارجع من حيث أتيت.»
فأطاعه ومشى في أثره في طرق متعرجة بعضها منقور في الصخور وبعضها سلالم من الحجر يصعب تسلقها. والرجل يقفز بين يديه كالنمر لا يبالي بالتعب وعماد الدين يجاريه لئلا يظهر عليه الضعف وهو أبي النفس.
وبعد الصعود ساعة في تلك الطرق المتعرجة وصلا إلى باب القلعة وهو غليظ متين. فوقف الشاب وأشار إلى عماد الدين أن ينتظر، وتقدم هو إلى الباب ودقه دقات خاصة ففتح وكان لفتحه صرير شديد. فدخل وأغلق الباب وراءه، وظل عماد الدين واقفا ينظر إلى ذلك البناء المنيع وهو لا يرى منه غير السور الغليظ وعليه الأبراج. ولمح من شقوق الأبراج أو نوافذها الضيقة أناسا يذهبون ويجيئون كأنهم الحامية.
अज्ञात पृष्ठ