ومن جملة عدله أنه مدة حكومته في بغداد لم يسفك دما بغير وجه شرعي , ولم يأخذ من أحد درهما واحدا إلا قرضا , وعاشت في أيامه أناس كثيرة على أنعامه وإكرامه , وعمرت بيوت غزيرة , على عطاياه حيث كانت كثيرة , ولم يبق في بغداد صوفي أو طالب علم إلا وفد شمله ألطافه , وعمه إسعافه , وكان -رحمه الله - مع ما له من الهيبة والجلالة , صغير النفس جدا ,كثير التواضع , وكانت له عبادات حسنة لا يشك احد في أنها مقبولة , وكانت له مع نفسه محاسبات ومعاتبات , وكان يتألم إذا سمع بأحد من أهل البيوت في فاقة , حتى يعطيه ما يدفع فاقته , ولم يزل هذا دأبه - رحمه الله - حتى اشتاق جوار ربه , فمضى وطعم الموت في فيه أحلى من الشهد , حيث أنفق عمره في طاعة إنفاقا , وطنبت النحوسة على بغداد [30و] وكثر بعده الجور. والفساد , وانقلب فرحها حزنا عميما , وصار عيشها هشيما , ومصابها عظيما , وخطبها جسيما , وفي ذلك يقول بعض شعراءه الأماجد (1) يرثيه من قصيدة طويلة: [من المتقارب]
إلى الله أشكو من مصاب الورى ... فزند الزمان فيهم وري
وقد حل خطب جسيم عظيم ... يزعزع رضوى (2) ويوهي حرا (3)
فيا دهر قد نلت ما ترتجي ... ظفرت لعمري بكنز الورى
وفيها يقول:
فهلا سواه فداء أخذت ... من الصيد ألفا ولن تعجزا
فمن للأرامل من بعده ... ومن للضيوف , ومن للقرا
ومن للوفود , ومن للنقود ... ومن للغني إذا أعسرا
ومن للسيوف ورغم الأنوف ... ومن يورد الأمر أن أصدرا
ومن لصروف تحل العنا ... ومن لمخوف يحل العرى
ومن لانتظام أمور العراق ... ورفع الشقاق ونفع الورى
ومن ذا يقيم لسد الثغور ... وحفظ البلاد وحصن القرى
ومن يبسط العدل بين الأنام ... ومن يقبض الجور والمنكرا
فهيهات أن يحتذى حذوه ... وقد فاق هارون بل قيصرا
وفيها يقول: [30ظ]
عليه تشحب وجه العلى ... وعين المراتب لن تصبرا
فحق علينا نشق القلوب ... مكان الجيوب وان تضجرا
فقد قبح الصبر والاتسا ... ومن ذا يطيق لأن يصبرا
ويا مهجة القلب ذوبي أسا ويا قلب آن أن تفطرا
ويا ظلمة الليل لا تبرحي ... فقد غيب الفجر تحت الثرى
पृष्ठ 147