وينتهي بهما الحديث تلك الليلة من ليالي أول رمضان، ولو أننا عدنا إليهما بعد عدة ليال بعد منتصف الليل لوجدنا سيد قد تمدد على الفراش دون أن يخلع حذاءه هذه المرة، لقد بلغ به التعب مداه، ولقد راع سنية ما يلقاه من ضنى، وما يكلف نفسه من جهد، فهي تقول له: وماذا تنفعنا أو تنفع العيال الثياب الجديدة؟ وبأي شهية سيأكلون الكعك إذا سقطت أنت مريضا على العيد؟ هل هناك إنسان يحتمل العمل من مشرق الشمس حتى منتصف الليل مثلك؟
ويجيبها سيد، وهو يتكلف الرضاء: لا عليك، ولا على الأولاد ... إن العمل لا يمرض يا سنية، وإنما البطالة ... لست وحدي الذي أعمل، إن هناك غيري عشرات، سوف ننسى هذا التعب حينما نقضم الكعك، ونرى فاطمة وحسن يزهوان بالثياب الجديدة ...
ويصمت لحظة ليعود: هل تحبين الكعك يا سنية؟ إني لا أذكر أنك طلبت مني الكعك مرة واحدة منذ تزوجنا، حتى قبل أن يأتي الأولاد، كنت أنا دئما الذي أذكر أن العيد قد قرب فأشتري لك الدقيق والسمن لتصنعيه.
وتطويهما الذكريات تلك الليلة ... ثم يغالب النعاس سنية، وتنتاب سيد موجة من الأرق تحمل معها عشرات الذكريات.
ذكريات كلها تتصل بسنية، يذكر سيد أن سنية زفت إليه منذ عشر سنوات ... وذكر أنها ما طلبت منه خلال الأعوام العشرة شيئا لنفسها في سنوات الحرب، السنوات الخضر، كان هو الذي يذكر دائما ما تحتاج إليه فيشتريه، كانت الدنيا إذ ذاك دنيا، كان يعمل بالجيش، وكان يعول أمه وأخته عدا سنية، ومع ذلك فقد كان لا يعاني ما يعانيه الآن.
ما تغيرت موارده، ولكن الدنيا هي التي تغيرت ... إنه ليتحسر الآن على أيام الحرب ... ثم يعود إلى سنية ... لماذا لا تطلب شيئا لنفسها أبدا؟ أهي لا تحتاج حقا إلى ثياب؟ أم هي تشفق به؟ لو أنه طاوعها فصنعت من ثوبها الأزرق ثوبا لفاطمة فبماذا تخرج إلى السوق، وتزور أهلها؟ هل عندها عدا هذا الثوب الأزرق غير ثوب واحد آخر؟
وتثور نفسه على نفسه، وتمضي موجة الإعجاب بسنية إلى منتهاها، فيهم بخياله خاطر: «لا بد أن أشتري ثوبا لسنية، إنها تستحق ثوبا جديدا» ويرتطم خاطره الجديد بحقيقة تهبط على خياله كما يهبط الطير الجارح ... وتموت خواطره جميعا ، ويستسلم للنعاس ... ما من شك أنه لن يستطيع أن يشتري ثوبا لسنية.
إن قصارى ما يكسبه بعمله في الليل من نقود لا يكاد يكفي إلا ثياب طفليه، وبضع أقات من الكعك ... ولن ترضى سنية ألا يكتسي العيال، أو يحرموا من الكعك لتخطر هي في ثوب جديد.
وها هو ذا سيد حيث تركناه أول القصة يترجم ما أنتجت يداه من أحذية جديدة إلى أمتار في ثياب العيال، وأقراص من الكعك.
ولقد انتصف الليل، ونهض سيد فجمع ما أنتجت يداه، ونحاه جانبا، ورأى لأول مرة منذ بضع ساعات من حوله من زملاء ... ودبت في الحجرة الحياة، وغادر سيد وزملاؤه المصنع، وطواه الظلام في طريقه إلى المنزل، ونام الليل نوما هادئا لم تزعجه الخواطر ولا الأحلام، وصحا في الصباح نشيطا كأنه قضى ليلة كاملة في فراش وثير.
अज्ञात पृष्ठ