किताबों के बीच घंटे
ساعات بين الكتب
शैलियों
والعلم بأن الموسيقى تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنها تطرب بالشعور الذي توحيه، والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان، يفسح للنفس دائرة الطرب ويقيم لها هذا الكون كله وكأنه فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها، وهي ناطقة وصامتة وتدأب على الإيقاع وهي معبرة وغير محتاجة إلى التعبير، وليس في هذه الدنيا أسعد ممن تسري أنغامها في نفسه على إيقاع يوافق أنغامها في كل شيء، ويناسق معانيها في كل حركة، ولا أطرب في هذه الحياة ممن ينصت في ضميره إلى لحن يجري مع لحن الحياة في غير ما تباين ولا نشوز، فمن لم يسعده القدر هذه السعادة ولم يطربه ذلك الطرب فله معين في الفن يصلح بينه وبين الطبيعة التي غضبت عليه، أو غضب هو عليها ولو بعض الإصلاح.
وإذا علمنا أن الموسيقى تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء طربنا لأصوات ليس يطرب لها أكثر الناس، وهششنا لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح المهابة والإعراض، ولست أريد أن أقف لديك موقف الاعتراف إذ أقول لك أيها القارئ، إنني أطرب لنقيق الضفادع على حوافي الجداول حين يبهجها نسيم الليل، ولمعة القمر، طربا قل أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير، فقد يكون فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرمة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها، ولكن الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل، أو غاشية الظلام، لن تكون إلا شعورا صادقا تمت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه، فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه الساذج من السعادة والرضوان.
يقول صاحب كتاب «الموسيقى الآبدة» وقد أغضبه هجاء لبعض الشعراء وصف فيه البوم أسوأ صفة، وقال فيه: إنه بليد بغيض حقير: «أتحسب أن البوم يبدو لقرينه بليدا بغيضا حقيرا، لا يصلح لغير مصاحبة الخلائق النكدة، ومزاملة الأمساخ والغيلان؟ إنك لو رأيته مرة يحنو عليه، ويمسح رأسه برأسه ، ويتخلل ريشه بمنقاره، ويناجيه نجاء الحب والولاء، لغيرت فيه رأيك على الأثر إن كان ذلك ما كنت تراه.» وصاحب هذا الكتاب يلقب البوم بأستاذ فرقة الظلام، ويعذر فرائسه إذا أبغضت نداءه، ولكنه لا يعذر الإنسان الذي يتطير من ذلك النداء، ويجفل من مسمع ذلك الطائر الوديع، والحق أن المسكين لا يصنع في وحدته المرهوبة إلا أن يغني لها وأن يأنس بها وأن يقول لمن يسمعه: إنه مسرور وإنه يناجي أليفه نجاء الحب والنعيم، فإن كان بغيضا إلى الناس أن ينعم خلق من خلائق الله في تلك العزلة الداجية، فما ذنب الطائر المظلوم في هذا الجفاء الأثيم؟ الذنب للخرفة وللشقاء الذي قرن مرآه في أخلاد الناس بمرأى الخراب والوحشة والظلام، والذنب للشعر والخيال، وليس البوم بالأول ولا الأخير في عالم الشعر والخيال!
فمن شاء أن يستمع فليصغ إلى هذه الموسيقى التي يؤديها الصوت والسكون، والتي سلمت من النبوة قصفها الصادع، وهمسها الضعيف، والتي تطرب البومة المشنوءة فيها كما يطرب البلبل المأنوس، وليعلم أنما يستمع إلى صوت الله، وأن فن العازفين إن هو إلا خلاصة مقربة من ذلك الوحي الفياض.
أزياء القدر1
ما أشد سخرية «القدر» بالناس! إن من سخريته بهم أن يضربهم بأيديهم، وأن يجعلهم سخرية لأنفسهم، فلا يخرج الحي من الحياة حتى يكون قد سخر بأعز ما كان يعز فيها، وأجمل ما كان يستجمل منها، وحتى يكون أضحوكة لنفسه، يضحك منها مرحلة بعد مرحلة وهو كاره لهذا الضحك الأليم.
يسخر الفتى الناشئ من جهالته وهو طفل صغير، ويسخر الكهل الناضج من لهفته وهو ناشئ في جن الشباب، ويسخر الشيخ الحكيم من كبريائه وهو كهل مصر على الأطماع والأضغان، ويسخر الهم المضعضع من الشيخوخة والكهولة والشباب والطفولة فإذا هو يتمنى ما كان يضحك منه ويضحك مما كان يتمناه، وإذا الحياة كلها «باطل الأباطيل» لا يدري ما يراد بها ولا ما يريد، وكأن ذلك «القدر» لا يكفيه وهو يسخر منا ويستخف بأفراحنا وآلامنا أن نذعن لقضائه ونصبر على بلائه، فلا يزال بنا يشهدنا بطلان ما نحن فيه صفحة بعد صفحة وخطوة بعد خطوة، قبل أن يطوي الكتاب ويبلغ بالرحلة إلى القرار، ولا يزال يستنكر منا الضحك بأنفسنا ويؤكلنا من لحمنا ودمنا حتى يميتنا ذلك الضحك الذي لا يسر الضاحكين.
وللقدر تقول أزياء!؟ ماذا عنيت؟ أهي بعض النقمة من ذلك القدر الساخر أن نتخيله في جلاله ورهبته جلس أندية وقعيدة محافل يخلع فيها زيا بعد زي، ويتأنق في لباس بعد لباس؟ أهي بعض سخريته بنا نردها إليه ونقتص بها منه، إن كان ذلك فأهون بها من نقمة وأهزل به من قصاص، وأحر بهذا الانتقام من القدر الجائر أن يكون بعض جوره وإحدى رزاياه!
ولكن القدر مع هذا يتغير في أزيائه، ويتبدل في ثيابه. نقولها نحن ونستعرض أطواره من يوم أن تربع على عروش الأوليمب في سماء اليونان إلى هذا اليوم الذي يلبس فيه ألوانا من أزياء الوجود، وأشكالا من ثياب العدم، فما أعظم التغير بين الطيلسان القديم والطيلسان الحديث ! وما أكبر الفارق بين ذلك السمت الغابر وهذا السمت المقيم! كان القدر يومذاك في زي الإنسان يضرب صرعاه فلا يخطئ الصريع أن يلمح على وجهه ابتسامة الظفر، أو نظرة الازدراء، وكانت للذي يناضله نخوة المقاتل الجسور وبطولة المغلوب المعذور، ثم كان القدر بعد ذلك في زي الذي يأمر وينهى ويأخذ الناس بالجزاء والعقاب غير مسئول ولا ملوم، ثم كان في زي من قصاصات الأزياء البالية وطراز ملفق من القديم والجديد، كان أبا وحاكما وإنسانا ينتقم ويراجع نفسه في الانتقام، ويضرب ضربته ويريد الخير بالمضروب، ويرمي باليأس ويفتح باب الأمل على مصراع واحد أو على مصراعين أو على عدة مصاريع! وإذا ضاق بالنقمة ذرع المبتلى بها ففي التجديف سلوى ولو قليلة وجزاء ولو يسير. أقل ما في الأمر أنه يسب أذنا تسمع ويخرج على سلطان يناله الشكران والكفران. ثم كان للقدر زيه الأخير وما يدريك ما زيه الأخير؟ آلة تدار بالبخار أو بالكهرباء لا ترضى ولا تغضب، ولا تستمع إلى أحد ولا تند عن سبيلها إذا استمعت إليه. آلة على قواعد العلم الحديث، قد دارت دواليبها على مواعيد وأقدار لن تختل قيد شعرة، ولن تصغي إلى صلاة ولا تجديف. •••
ذكرني بهذا الزي الجديد من أزياء القدر مجموعة وصلت إلي حديثا من شعر «توماس هاردي» ونثره، قرأتها فجعلت أسأل نفسي: لماذا كتب الأديب الكبير هذه الكتابة، ونظم هذا القصيد؟ أليقول لنا ألا فائدة من الكتابة ولا فائدة في أن نقول لا فائدة! إن كان ذاك فتلك حكاية صادقة للحياة كلها في رأي توماس هاردي! وذلك وصف محكم للكون في نفس هذا السائم الذي يبسط السآمة على كل شيء. أولا يسأل الشجر في شعر هاردي سؤال الطفل المكتوف: لماذا نحن في هذا الوجود، فإذا جاز أن تخلق الحياة التي لا نهاية لها لكي تعلم الخلائق «ألا فائدة»، فأقرب من ذلك إلى القصد وأبعد عن الإسراف أن ننظم قصيدة أو قصائد لتنتهي بنا إلى هذه النتيجة، وماذا يصنع العالم الصغير إلا أن يعيد رواية العالم الكبير، وكيف يراد الإنسان إلا أن يكون نسخة موجزة من ذلك الإسهاب والإطناب؟
अज्ञात पृष्ठ