الجزء الأول
العنوان1
إعجاز القرآن1
كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1
حب المرأة1
الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1
الغيرة
الصبر على الحياة1
كتاب مصري بالإنجليزية1
التجميل في الأسلوب والمعاني1
النقد1
صورة1
ليسستراتا1
ثاميرس أو مستقبل الشعر1
في الماضي1
الصحيح والزائف من الشعر1
بيتهوفن1
الموسيقى1
أزياء القدر1
حرية الفكر1
الفصيحة والعامية1
التاريخ1
الشعر في مصر (1)1
الشعر في مصر (2)1
الشعر في مصر (3)1
الشعر في مصر (4)1
الشعر في مصر (5)1
الشعر في مصر (6)1
الشعر في مصر (7)1
الشعر في مصر1
روبنس المصور السياسي1
النكتة1
فلسفة الملابس (1)1
ماكيافيلي1
فلسفة الملابس (2)1
أبيات من الشعر1
السيدة الإلهية1
جورج رومني1
ساعات بين الصور1
آراء لسعد في الأدب1
النثر والشعر1
كلمة عن الأستاذ الزهاوي1
البطولة1
الوطنية (1)1
الوطنية (2)1
العادة1
العقل والعاطفة1
شكسبير (1)1
شكسبير (2)1
شكسبير وهاملت (3)1
قصة العقل والعاطفة1
أرباب مهجورة1
الكمال (1)1
الكمال (2)1
توماس هاردي (1)1
توماس هاردي (2)1
توماس هاردي (3)1
الجزء الثاني
إبلاسكو أبانيز1
الشعر والنثر1
فن التصوير بين القديم والحديث1
الحب والغزل1
الإحساسية في التصوير1
الربيع1
عقول الأزهار1
هنريك إبسن1
الحقائق الشعرية1
الإيمان العلمي1
الجمال والشر في الفنون1
قضية المرأة1
هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1
عود إلى الشر والجمال1
تمثال النهضة1
الفنان أو معاني الكلمات1
الشعر العربي والشعر الإنجليزي1
نقد غريب1
مثال من النقد1
روسو1
فولتير الساخر1
سير العظماء1
تاريخ المسيح لإميل لدفج1
رديارد كبلنج1
لسنغ1
اللاوكون
في الأدب العربي
صور وأخلاق1
قراءة القواميس1
شيء عن أخلاق ابن الرومي1
أريحية الأمم1
الغرور1
الأساطير1
لو1
تعارف الشعوب1
الترجمة وتعارف الشعوب (1)1
الترجمة وتعارف الشعوب (2)
بين العقاد وطه حسين: مناقشة1
انظر إلى من قال لا إلى ما قيل
ربة الجمال بلا يدين!
بلاد الحياة والموت والأديان
مع بافلوفا حول الدنيا
فورد الفيلسوف
المطبعة والثقافة الشعبية
الثقافة في العصور الحديثة
في الثقافة الإسلامية
معرض
على هامش السيرة
مع المتنبي
كناشة الأسبوع
مصطفى كمال
عهد الشيطان
رجعة أبي العلاء
الجزء الأول
العنوان1
إعجاز القرآن1
كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1
حب المرأة1
الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1
الغيرة
الصبر على الحياة1
كتاب مصري بالإنجليزية1
التجميل في الأسلوب والمعاني1
النقد1
صورة1
ليسستراتا1
ثاميرس أو مستقبل الشعر1
في الماضي1
الصحيح والزائف من الشعر1
بيتهوفن1
الموسيقى1
أزياء القدر1
حرية الفكر1
الفصيحة والعامية1
التاريخ1
الشعر في مصر (1)1
الشعر في مصر (2)1
الشعر في مصر (3)1
الشعر في مصر (4)1
الشعر في مصر (5)1
الشعر في مصر (6)1
الشعر في مصر (7)1
الشعر في مصر1
روبنس المصور السياسي1
النكتة1
فلسفة الملابس (1)1
ماكيافيلي1
فلسفة الملابس (2)1
أبيات من الشعر1
السيدة الإلهية1
جورج رومني1
ساعات بين الصور1
آراء لسعد في الأدب1
النثر والشعر1
كلمة عن الأستاذ الزهاوي1
البطولة1
الوطنية (1)1
الوطنية (2)1
العادة1
العقل والعاطفة1
شكسبير (1)1
شكسبير (2)1
شكسبير وهاملت (3)1
قصة العقل والعاطفة1
أرباب مهجورة1
الكمال (1)1
الكمال (2)1
توماس هاردي (1)1
توماس هاردي (2)1
توماس هاردي (3)1
الجزء الثاني
إبلاسكو أبانيز1
الشعر والنثر1
فن التصوير بين القديم والحديث1
الحب والغزل1
الإحساسية في التصوير1
الربيع1
عقول الأزهار1
هنريك إبسن1
الحقائق الشعرية1
الإيمان العلمي1
الجمال والشر في الفنون1
قضية المرأة1
هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1
عود إلى الشر والجمال1
تمثال النهضة1
الفنان أو معاني الكلمات1
الشعر العربي والشعر الإنجليزي1
نقد غريب1
مثال من النقد1
روسو1
فولتير الساخر1
سير العظماء1
تاريخ المسيح لإميل لدفج1
رديارد كبلنج1
لسنغ1
اللاوكون
في الأدب العربي
صور وأخلاق1
قراءة القواميس1
شيء عن أخلاق ابن الرومي1
أريحية الأمم1
الغرور1
الأساطير1
لو1
تعارف الشعوب1
الترجمة وتعارف الشعوب (1)1
الترجمة وتعارف الشعوب (2)
بين العقاد وطه حسين: مناقشة1
انظر إلى من قال لا إلى ما قيل
ربة الجمال بلا يدين!
بلاد الحياة والموت والأديان
مع بافلوفا حول الدنيا
فورد الفيلسوف
المطبعة والثقافة الشعبية
الثقافة في العصور الحديثة
في الثقافة الإسلامية
معرض
على هامش السيرة
مع المتنبي
كناشة الأسبوع
مصطفى كمال
عهد الشيطان
رجعة أبي العلاء
ساعات بين الكتب
ساعات بين الكتب
تأليف
عباس محمود العقاد
الجزء الأول
العنوان1
عنواني هذا ليس بالجديد؛ لأنني كتبت به منذ اثنتي عشرة سنة سلسلة فصول، وأدرتها على موضوع الكتب والقراءة، وما كان يطرق ذهني ويختلج في نفسي من الخواطر والآراء وأنا بين صفحات الكتب ومذاهب التفكير، وكنت يومئذ في أسوان والحرب العظمى في بداءتها، وجو السياسة في القاهرة مضطرب أشد الاضطراب، وجو الأدب ليس بأصلح منه حالا ولا بأهدى للسالكين فيه، فأويت إلى أسوان أقرأ وأرتاض وأثبت في الورق ما تبعثه في قراءة الورق والرياضة بين المشاهد والآثار، واجتمع من تلك الفصول كتاب مسهب مختلف بين كلام في الشعر، وكلام في التاريخ، وكلام في الدين، والاجتماع، والأخلاق، وما إلى ذلك من المباحث المتواشجة والمسائل المتجاذبة، ثم قضي على ذلك الكتاب أن يطوى «طي السجل للكتب» وأن يذهب بعضه في المطبعة، وبعضه في النار، نعم! فقد ضاعت مسودات فصوله الأولى في مطبعة كنت اتفقت معها على إتمام طبعه ونشره، فما برحت القاهرة وقفلت إلى أسوان حتى كانت قد أصدرت منه كراساته الخمس التي كنت طبعتها أنا على حسابي، وتركتها في ذمة الطابع ليكملها، ويضم إليها بقية الرسائل والفصول، وأحرقت أنا بقية تلك المسودات في ساعة غضب ليس هنا مقام تفصيل أسبابه، أضاعت ثمرة كل هاتيك الساعات الطوال .
فلما صحت النية على إنشاء البلاغ الأسبوعي، واتسع فيه المجال للكتابة الأدبية والموضوعات التي ليست من قبيل ما ينشر في الصحف اليومية، أحببت أن أختار للكتابة فيه بابا من أبواب الأدب الكثيرة أعادوه مرة في كل أسبوع، وترددت في اختيار ذلك الباب أيكون مبحثا واحدا متسلسل الأجزاء متعاقب الحلقات أم يكون رسائل متفرقة من حيثما وردت على القلم، لا وحدة بينها ولا محور لها غير وحدة الأدب ومحور التفكير والتخييل، أو يكون قصصا أو ذكريات أو تحليلا «للأشخاص» أو وصفا للحوادث والأطوار، أو ماذا يكون من تلك المناحي التي تتكاثر على الذهن ساعة الاختيار، والابتداء بين مذاهب شتى لا وجه للتفضيل بينها والتمييز، ثم كان يوم وصلت فيه ثلاثة كتب قيمة من مؤلفيها ومترجميها يسألونني النظر فيها والكتابة عنها، فذكرني ذلك ما تلقاه الكتب في أدراج الصحف من الإهمال، أو الإعلان المقتضب في شيء من المجاملة المبهمة والصيغ المحكية المتكررة، فقلت في نفسي ومتى سأقرأ هذه الكتب وما تقدمها وما يأتي بعدها؟ ثم متى أكتب في نقدها بما تستحقه، أم ترى أسكت عنها وأنفض عن كتفي هذا الواجب الذي عرضني له أصحابها على غير مشاورة، وعلى غير تقدير - فيما أظن - للفوارق الكثيرة بين الصحف الأوربية والصحف العربية التي لم تبلغ بعد من التخصص في الموضوعات والأقلام ما بلغته صحافة الغرب في الزمن الأخير؟ وهنا لاح لي خاطر واستقر رأيي عليه في الموضوع الذي أختاره للصحيفة الأسبوعية، ثم لاح لي ذلك العنوان القديم فألفيته أليق عنوان به وأدله على غرضي منه: هذه كتب كثيرة ترسلها المطابع في كل يوم بعضها مما يستحق التنويه، وبعضها مما يستحق الإغفال، وكلها مما يجول فيه الفكر ساعة ثم تعرض له في تلك الساعة أفكار وملحوظات تستحق أن تدون على الهوامش أو في المتون، فلنقض إذن بين تلك الكتب الكثيرة ساعات للتصفح أو الدرس والتأمل، ثم نقول لمؤلفيها ولقرائنا ما تمليه علينا تلك الساعات من تقدير محمود أو مذموم، وليكن عنواننا في الصحيفة الأسبوعية هو ذلك العنوان القديم، راجين أن يكون له في عهده هذا حظ أجمل من حظه في عهده المدثور. •••
ولكن ما هذه الساعات بين الكتب، وماذا عسى أن يكون محصولها الذي نخرج به منها على الإجمال؟ أهي ساعات منقطعة للطروس والمحابر، ننقلب فيها من الدنيا الحية النابضة إلى دنيا أخرى من الحروف والأوراق؟ أهي ساعات بين الكتب؛ لأنها ليست ساعات بين الأحياء كما قد يتوهم الذين يقسمون الزمن إلى قسمين: ساعة للقلب وساعة للرب وبينهما برزخ لا تختلط عليه البروج، ولا يعبره هؤلاء إلى هؤلاء؟ أود أن أقول في إيجاز وتوكيد: كلا! ليس للأوراق في «علم صناعتي» مادة غير مادة اللحم والدم، وليست المكتبة عندي - أيا كانت ودائعها - بمعزل عن هذه الحياة التي يشهدها عابر الطريق، ويحسها كل من يحس في نفسه بخالجة تضرب وقلب يجيش وذاكرة ترن فيها أصداء الوجود، وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته، وأتم صوره، وأجمل أساليبه، وهو الحياة منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها، وتظللها بظلالها، وتبدو لك جميلة أو شائهة، عظيمة أو ضئيلة، محبوبة أو مكروهة، فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة، وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد. ذلك هو الكتاب كما أستحبه وأطلبه، وعلى هذا لا تكون ساعاتنا مع القارئ بين الكتب إلا ساعات نقضيها في غمار هذه الدنيا بين الأحياء العائشين، أو بين الأموات الذين هم أحيا من الأحياء.
ولست أدري كيف نشأ في أوهام الناس أن دنيا الكتب غير دنيا الحياة، وأن العالم أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون من عالمهم بنصيب كثير أو قليل، ولكني أحسبها بقية من بقايا الامتزاج بين الدين والعلم أيام كان رجال الأديان هم رجال العلوم، وكان سمت الدين هو سمت الزهد والتبتل والعكوف على الصوامع والمحاريب، فكان العالم المتفقه عندهم لا يفتح عليه بالعلم، ولا يمد له من أسبابه إلا بمقدار إعراضه عن العيش المباح منه والحرام، واعتزاله الناس الأخيار منهم والأشرار، وكانت عندهم علوم للشيطان كما كانت عندهم علوم لله، فمن طلب هذه أو تلك فعليه بالتجرد عن الدنيا ورياضة النفس على الشظف والحرمان إلى أن يرزق نعمة الوصول، ويحظى بالاجتباء من إله النور أو من إله الظلام، فقد كان العلم يومئذ إما نسكا أو سحرا، ولا ينسك الناسك ويسحر الساحر وهو يروح ويغدو بين هذه الأحياء، ويشتغل من شئونهم بما هم به مشغلون وإلا فما أغرب ناسكا يحدثك بجمال هذه الدنيا التي يزهد فيها أو يحس معك بمثل ما تحسه من مسراتها وآلامها! وما أعجب ساحرا يتغلب على الطبيعة وهو مسخر للطبيعة تدعوه فيجيب وتستهويه فيلبي بواعث الأهواء! إن هذا لا يكون ولا يدخل في حيز المعقول، فإذا سمعت بكاتب في غير عالم الموميات المتحركة، أو بمكتبة في غير الطريق بين الصومعة والمقبرة فقل ذلك بهتان لا يجوز، ومحال في القياس لا يسلم به العارفون!
كذلك كانوا يفهمون العلم والدين والقدرة على النفس والطبيعة، فهم على حق إذا فهموا أن الساعات التي تقضى بين الكتب إن هي إلا ساعات مقطوعة من الحياة معزولة عن الإحساس، وهم على صواب إذا اعتقدوا أن الورق مادة تصنع من حيث يصنعونه لا من دماء الرءوس والقلوب! لقد كان للعلم في زمانهم مورد واحد في عالم الغيب، أو عالم الموت يستوحونه منه ويثوبون به إليه، فلا يعلم العالم ولا يهبط الوحي على طالبه إلا بثمن من الحياة يؤديه للموت، وقسط من الدنيا ينقله إلى الضريح، ونحن اليوم لا نوحد بين رجال الدين ورجال العلم، ولا نرى إلا أن حياتنا الخالدة هي كل شيء وهي مصدر كل معرفة ومهبط كل وحي وإلهام، وهي المرجع الذي يؤدي له العالم ثمن علمه، والكاتب ثمن وحيه، فلا يعطى من العلم والوحي إلا بمقدار ما يعطي هو للحياة، غير أن العقيدة القديمة ما تزال لها بقية عالقة بالأوهام، والرأي في الكتب والأوراق ما يزال على نمط من ذلك الرأي المتهافت المهجور، فليس بالفضول إذن أن نعرض هنا لذلك الوهم لنقول: إن ساعاتنا بين الكتب على خلاف ذلك؛ هي ساعات بين كل شيء، وإنها قد تجمع في نسقها كل ما ترددنا في اختياره من الموضوعات، فتكون في آن واحد هي الرسائل المتفرقة وهي القصص، وهي الذكريات، وهي كذلك التحليل للأشخاص والوصف للحوادث والأطوار.
ولا يسألني القارئ أي كتب؛ فإنني لا أقصر الكلام على الكتب النابهة، ولا أحجم عن تناول الكتب الكاسدة، سواء في سوق الأدب أو في سوق البيع والشراء، فإنما حد الكتاب الذي يتناول بالنقد في هذه الصفحة هو الورق يقضى في تصفحه ساعة، ويقال فيه شيء بعد ذلك للشرح والثناء، أو للرد والانتقاد، أو لغير هذين الغرضين من أغراض القول والتفكير، وكأني بالقارئ يحسبني ناهجا في هذه الصفحة منهج الطائفة الإحساسية
Impressionist
التي ترسم لك ما تسميه أثر الكتاب في نفسها، ووقعه في ذوقها، ثم لا تبالي مع هذا بمقياس معلوم يمكن القياس عليه، والاحتكام في المسائل المتشابهة إليه.
فإن كان هذا ما سبق إلى روع القارئ من طريقتي التي ألممت بها، فإني أبادر إلى تصحيح هذا الظن وأقول: إن النقد الذي لا مقياس له غير ذوق صاحبه، ولا غاية له إلا أن يخرج بك من الكتاب بأثر يدعيه ولا يقبل المحاسبة فيه، إنما هو ثرثرة لا خير فيها، وهذا لا يساوي الإصغاء إليه؛ لأن الإفضاء به والسكوت عنه سواء. وكثيرا ما ذكرتني طريقة هذه الطائفة الناقدة بحكاية «جحا» المشهورة حين قيل له: كم عدد نجوم السماء؟ فقال لهم: عدد شعر رأسي، فقالوا له: هذا غير صحيح وعليك بالبرهان، قال: لا، بل صحيح وعليكم أنتم بالبرهان، عدوا النجوم وعدوا شعر رأسي وبينوا لي الفرق بين العددين إن كنتم صادقين، فأنا لا أريد أن يكون «شعر رأس الناقد» هو القياس الذي يعجز به السائلين والمستفهمين، فإما أن يصدقوا ما يدعيه من آثار الكتاب في ذوقه، وإما أن يأتوه بالبرهان على نقيض ما يدعيه! كلا. لن يكون عدد نجوم السماء في حسابي إلا - كذا - بالأرقام والأصفار التي تنتظم في كل حساب، أما الإحالة إلى «شعر رأس الناقد» فلا تسفر عن بيان صحيح في النظر إلا حين يكون الرأس أصلع لا شعر فيه وتكون السماء محجوبة ليس بها نجوم! ولكنها فيما عدا ذلك أحجية لا تبين لك عن عدد ما في الرأس ولا عن عدد ما في السماء.
إعجاز القرآن1
كلمة في المعجزة - وكلمة أخرى في الكتاب
ما هي المعجزة؟ هي حادث خارق لنواميس الكون التي يعرفها الإنسان مقصود به إقناع المنكرين بأن صاحبها مرسل من قبل الله، إذ كان يأتي للناس بعمل لا يقدر عليه غير الله، وإنما الأساس فيها والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة، وتشذ عن السنن المطردة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيرا يطابق المعهود من السنن الطبيعية؛ لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها، ويلحقها بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها، ويخطئ المنكر الذي يفهم المعجزة على غير هذا الوجه، ثم ينكر إمكان وقوعها؛ لأنها إذا دخلت في نظام النواميس المعهودة لم يجز له إنكارها، ولم تخرج عن كونها شيئا من هذه الأشياء التي يتوالى ورودها على الحس في أوقاتها.
والمعجزة في لفظها العربي قوامها الإعجاز، أي الإقناع بأن فاعلها هو الله لا سواه؛ ومن ثم يكون الرجل الذي ساقها مساق الدليل رسولا من عند الله، وقوامها في اللفظ الإفرنجي الإعجاب والإدهاش، ولكنه معنى ناقص؛ لأن الشيء قد يكون معجبا مدهشا ثم يكون من عمل الناس كأكثر هذه المخترعات الحديثة قبل شيوعها، وكجميع أعمال الشعوذة وما يسمى بالسحر والكهانة، فإن هذه جميعها عجائب تخالف المألوف وتبده الناظرين إليها بما يجهلون من أسبابها، فالكلمة العربية إذن - المعجزة - أدل على معناها المقصود بها من أختها الإفرنجية، وأقرب إلى غرض أصحاب المعجزات حين يسوقها للإفحام والإقناع.
ولدافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزي رأي في المعجزات ينكرها أولا، ثم يذهب إلى أنها على فرض ثبوتها لا تصلح للدلالة على مقاصد أصحابها، ولا تلزمك الحجة بصدق ما يعرضون لك من الدعاوى والأنباء، فهب أن رجلا جاءك وقال لك: إن واحدا وواحدا يساويان ثلاثة أو يساويان واحدا ونصفا، فأنت تنكر عليه هذه الدعوى وتناقشه فيها بالأدلة الحسابية، فإذا قال لك بعد ذلك: إنني أستطيع أن أريك الشمس طالعة من المغرب إلى المشرق، أو النجم يجري في السماء لغير مستقره. ثم استطاع ذلك فعلا فأنت تكبر الأمر وتستهوله وتحاول تعليله، ولكنك لا ترى كيف يقنعك هذا بأن واحدا وواحدا يساويان ثلاثة، ولا يساويان اثنين كما علمت بالحساب والبرهان، وإذا زعم زاعم لك أن حادثا من حوادث التاريخ المحققة لم يقع قط في الدنيا، أو وقع على خلاف الوصف الذي أجمع عليه الرواة فأنت قد تعجب لذلك، وتطلب الدليل على كذب الرواة وخطأ التواريخ، فإذا جاءك المدعي بدليل يثبت به قدرته على رفع الأشياء بغير روافعها المألوفة، وإظهار الأشياء في غير مواعيدها الموقوتة، أو ما شابه ذلك من شواهد القدرة ودلائل الإعجاز، فالمسألة تظل في نظرك كما كانت في مبدأ الأمر قائمة بغير دليل مقنع من جنس القياس المنطقي الذي تجوز به المناقشة، فالبرهان العلمي أو البرهان المنطقي هو عند دافيد هيوم البرهان لا سواه، الصالح وحده للإثبات والنفي والتصديق والتكذيب.
وكلام الفيلسوف فيه شيء من الوجاهة، ولكن فيه كذلك شيء من المغالطة. إذ ما هي دعوى النبي الذي يطالبك بالإيمان وتطالبه أنت عليه بالبرهان؟ دعواه أنه مرسل من عند الله برسالة قد تفوق مدى العقل والإدراك ولا بد فيها من التسليم فالنجاة، أو الإنكار فالهلاك، وكل ما يطلب من النبي إذا هو ادعى هذه الدعوى أن يأتي بعمل لا تشك أنت في أنه عمل إلهي يعجز عنه البشر أجمعون، فإذا قدر على ذلك الفعل فقد ألزمك الحجة، وقام لك بما هو حسبه من دليل قاطع مانع للشك والجدال، ووجب عليك أن تصدق رسالته وتؤمن بالقدرة التي يدعوك إلى الإيمان بها ولو كنت لا تراها ولا تنفذ إلى مقام الحديث معها. كل ما عليه كما قلنا أن «يثبت» لك أن المعجزة التي جاءك بها لا تأتي لإنسان، ولا تصدر من غير إله، فإنه إن أثبت لك ذلك فقد أثبت لك كل شيء، وأدى إليك أمانتك أصدق أداء.
تلك هي المعجزة التي يحتاج إليها العقل الإنساني ليؤمن بما فوق إدراكه، ومتناول نقده وتعليله، فينبغي للمعجزة أولا أن تخرق النظام الذي يعهده الناس، وينبغي لها ثانيا أن تمنع كل ريب في حدوث ذلك الخرق بقدرة غير قدرة الله، ولا يكفي الإعجاز وحده دليلا على الرسالة الإلهية؛ لأن الإعجاز قد يكون لغير براعة في الفعل المعجز، وقد يكون لعمل من أعمال البشر التي لا بد فيها من رجحان واحد على الآخرين.
مثال ذلك: جاء إليك صبي يتهجى وكتب لك سطرا من خطه، ثم طلب إليك أن تكتبه أنت بيدك كما كتبه هو غير مستعين برسم ولا تصوير، فأنت لا محالة عاجز عن محاكاة ذلك الخط أتم محاكاة وغيرك أيضا عاجزون عن إجابة ذلك التحدي الساذج الصغير ، فماذا ترى في دعوى الصبي إذا هو ادعى النبوة، أو ما شاء له عقله الصبياني المخدوع؟ هذه محاكاة يعجز عنها أقدر القادرين في كتابة الخطوط لا لحسن رائع في الخط المحكي، ولا لزيادة في جهد الصنعة وطاقة التجويد، ولكن لأن يد الصبي غير سائر الأيدي، ومعرفته بالخط غير سائر المعارف فهو يكتب خطا لا يحكيه أحد، ويفعل فعلا يعجز عنه الآخرون، فهل ترى هذا الإعجاز مما تنهض به الحجة وتغدو له العقول؟ أو هل ترى أن مجرد العجز هنا دليل على انتصار الصبي القادر وخذلان المقلدين العاجزين؟
على أن العجز عن المحاكاة قد يكون لحسن رائع في الشيء المحكي، ولزيادة واضحة في جهد الصنعة وطاقة التجويد؛ قد يكون آية النبوغ ومعجزة العبقرية الراجحة بمزاياها وملكاتها على جميع العبقريات، ثم لا يلزم منه أن يتخذ دليلا على النبوة والرسالة الإلهية، أو أن يثبت لصاحب الآية كل دعوى يدعيها وكل حجة يحتج بها على من لا يساويه في الإتقان والبراعة، فالشعر مثلا سليقة يتشابه فيها الشعراء، ولكنهم لا يبلغون ذروتها العالية جميعا، ولا يرتفع إلى تلك الذروة إلا واحد فرد تنقطع دونه المنافسة، ويحجم عنه الادعاء، وهذا الفرد في رأي الإنجليز والأوربيين عامة هو ويليام شكسبير، سيد الناظمين في وصف حالات النفوس، وتحليل طبائع الرجال والنساء والملوك والصعاليك والعقلاء والمجانين. آية لم يؤتها شاعر غيره ولم ينكرها عليه مدعي عظمة، أو طامع في شهرة، أو مكابر في فضيلة، فهم ها هنا متفقون لا يشذ عنهم في الرأي إلا أمثال الذين يشذون على الأنبياء والمرسلين، ويلجون في المكابرة بدليل أو بغير دليل، ومع هذا نحن لا نسلم لشكسبير النبوة إذا ادعاها وتحدى الشعراء أن ينظموا مثل نظمه ويصفوا مثل وصفه فعجزوا عن الإجابة، وأقروا بالعجز صاغرين، ونحن لا نقبل أن تكون معجزته إلهية خارقة للنواميس؛ لأن الناس «عاجزون» عن مجاراته فيها، ولأنه هو الفرد الذي اتفق له الرجحان على الشعراء كافة في المشرق والمغرب، إذ لو لم يتفق له هو ذلك الرجحان لاتفق لسواه، ثم لا يكون ذلك السوي إلا آدميا من الآدميين، وإنسانا فانيا لا يسمو إلى مكان الآلهة والأرباب، وإنما مثله في هذا الرجحان مثل الحجر الذي يوضع في أعلى البناء ويزدان بالحلية وإبداع اللون والتركيب، فهو يعد حجرا كسائر الحجارة وإن ميزه موضعه بالعلو والجمال، وهو لا يحق له أن يتخذ من تفرده معجزة يتسامى بها على طبيعة الحجر وقوانين البناء.
وقصارى القول: إن المعجزة النبوية يجب أن يثبت لها أمران؛ أنها معجزة من حسن ورجحان، وأنها معجزة من قدرة الله وحده لا من قدرة أحد سواه، وعلى الذين يتكلمون في إعجاز القرآن أن يبسطوا القول في هذا، وأن يقصروا الحجة عليه؛ لأن كل حجة غيرها تحتاج إلى تتمة تبلغ بها إلى هذه النهاية - وسبيل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب كتاب «إعجاز القرآن» الذي بين أيدينا الآن - أن ينحو هذا النحو، ويزيد فيه على من تقدمه إذا هو أراد أن يجعل كتابه إذن نموذجا في البلاغة البدوية، أو تسبيحا بالآيات القرآنية، أو تحية يقرؤها المسلم فيرتاح إليها، ويقرؤها غير مسلم فلا تزيده بالقرآن علما، ولا تطرق من قلبه أو عقله مكان الإيمان والتسليم، ولكن لا يقل عنه إنه كتاب في إعجاز القرآن، وليس فيه شاهد واحد على معجزات الكلام، ولا هو نهج فيه ذلك المنهج الذي أحسن فيه الجرجاني أيما إحسان، وأفاد به الآداب العربية أيما إفادة، فإنما الثناء على القرآن في كتاب تناهز صفحاته الأربعمائة حسنة طيبة يكتب للرافعي أجرها وثوابها عند الله، ولكنها لا تكتب له في سجل المباحث والعلوم، ولا تعد من حسنات التفكير والاستقراء.
أويعجب الأستاذ الرافعي مما نقول؟ إذن ليرجع إلى كتابه، وليذكر أنه عبر أكثر من مائتي صفحة لا يكاد يلم بشاهد واحد من آية قرآنية، أو أصل واحد مقرر من أصول البلاغة، وأنه لما بدأ بالاستشهاد في فصل «الكلمات وحروفها» جاء يحدثنا عن نبرات الحروف، ونغماتها الموسيقية، وموقع كل حرف بجانب ما تقدمه وما يليه، كأن بلاغة القرآن معلقة على هذا المعنى تثبت بثبوته وتدحض بإدحاضه، وإليك بعض ما ذكر في هذا الفصل بنصه: «ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعض ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف من دقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة وربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحروف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت الأحرف والحركات التي قبلها قد امتدت لها طريقا في اللسان أو اكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة. كلفظة «النذر» جمع نذير فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاءت فاصلة للكلام فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكن جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى:
ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر . فتأمل هذا التركيب وأنعم ثم أنعم على تأمله وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد» وفي الطاء من «بطشتنا» وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تماروا» مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذ هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من «تماروا» فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء النذر حتى إذا انتهى إليها اللسان انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون وأنذرهم وميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في النذر وما من حرف أو حركة إلا وأنت مصيب في كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به.»
هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه، نرى أنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء هيهات أن يكون مقصودا أو ساريا في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود:
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم .
فإن كانت بلاغة الكتاب الكريم مرتهنة بذلك النسق الذي تصوره الأديب، فهل يناقض البلاغة في رأيه توالي الميمات الكثيرة والنون والتنوين في هذه الكلمات المتعاقبة، أو يظن الرافعي هذه الآية بدعا بين آيات الكتاب؟ وإن بحثا يوضع في تقرير بلاغة القرآن والرد على منكري إعجازه لأولى للباحث أن يتصدى له عالم قوي العارضة حاضر البرهان خبير بأساليب القياس، ولكن الرافعي يتصدى لهذا البحث وهو من أضعف الناس منطقا، وأفشلهم قياسا، وأعجزهم عن تأييد الدعوى بالحجة، وتفنيد القول بمثله، فهو يمضي مؤيدا مفندا ثم لا يطالب نفسه بدليل غير السخط إذا خالف، والتكرار والتأمين إذا وافق، وعلى الله بعد ذلك الإقناع ببركة الإلهام والإيمان، لا ببركة البيان والبرهان، خذ مثلا رده على أبي الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي حيث يقول في كتابه الفريد: «إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته فيقال لهم: أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت»، وكلام ابن الراوندي هذا ظاهر المغالطة؛ لأن إقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع كتابا آخر، أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز هنا يشمله كما يشمل الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلا له غير فضل الاهتداء والإشارة إلى الحقائق الموجودة قبله، والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى من معاني الإيجاد، ولكن الرافعي يغضب على ابن الراوندي فينحى عليه بالثلب والتبكيت ويقول فيه: «لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلا من الحجة وبابا من البرهان، لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط، وإلا فأين كتاب من كتاب، وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولاطرد ذلك القياس كله على وصفه، كما يطرد القياس عينه في قولنا كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟»
ذلك هو رد الرافعي على ابن الراوندي، وليس فيه كما رأيت تفنيد لحجة الرجل، ولا إقناع لمن يقف موقف الحيدة بين الطرفين، ولكن هو هذا أسلوب الرافعي في تأييد ما يؤيد، وتفنيد ما يفند، وهو هذا سلاحه الذي خيل إليه أنه جاهد به في سبيل الدين، ورد به الكفرة والملحدين! •••
لقد قرأت «إعجاز القرآن» وخرجت منه على رأي واحد: على أن الكتاب معرض يعرض به الرافعي مبلغ اجتهاده في ثقيل عبارات البدو، وتأثر أساليب السلف؛ ولهذا يحسن أن يقرأ ويقتنى، أما إنه مبحث في بيان إعجاز القرآن، ولا سيما إذا كان القارئ من غير المسلمين، فتلك نية للرافعي يثاب عليها كما يثاب الإنسان بالنيات!
كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1
سادهانا أو «تحقيق كنه الحياة» هو اسم اختاره الحكيم الهندي تاجور لمحاضراته التي ألقاها بالبنغالية على تلاميذه في مدرسة «بولير» من بلاد البنغال، وترجمها مع بعض أصحابه إلى اللغة الإنجليزية، ثم ألقى موجزا منها في جامعة هارفارد الأمريكية، وبعض المجامع الأوربية، وهذه المحاضرات على إيجازها هي خلاصة حكمة الهند، كما أدركها النساك الأقدمون، وشرحها قلم الشاعر الصوفي بأسلوبه الرائق، وخياله الورع المتخشع، وقريحته الصادقة المطمئنة، وهو يتكلم فيها عن إيمان موروث، ونظرة عصرية إلى شئون الحياة لا تتفق لنساك الهند العاكفين على العبادة، المنقطعين عن الحياة الدنيا، فهي خير ما يقرؤه المتشوف إلى فهم روح الديانة الهندية في غير تلك الأسفار المثقلة بالرموز المغلقة، والمعاني الغامضة، والأمثلة الفائرة من بقايا حكمة يوشك أن ينضب معينها، وتنزل الأوضاع والمراسم منها منزلة الحقيقة والابتكار.
قرأت هذا الكتاب أول مرة منذ خمس سنوات عند هياكل الأقصر، وأطلال معابدها الدارسة، فجمعت فيه بين حكمة البراهمة وحكمة الكهنة على بعد ما بينهما من المسافة في الباطن والتمثيل الظاهر، فتلك حكمة تقوم حقيقتها على إنكار المادة، وتجاوز الأجساد إلى ما وراءها من البواطن الروحية، والصلة الجامعة بمصدر الحياة، وهذه حكمة تقدس المادة في مظاهرها المتعددة من جماد ونبات وحيوان، وتلبس كل لمحة روحية ثوبا من الجثمان البارز الكثيف، تلك حكمة تحسب الحياة الدنيا عبثا عارضا، وسبيلا إلى حياة خالدة لا طعام فيها ولا متاع ولا رجاء غير الاتصال بأصل الوجود وسر الأسرار، وهذه حكمة تحسب الموت نفسه مجازا إلى حياة أخرى ينعم فيها المرء بطعامه ومتاعه، ويرجو فيها من متعة العيش ما كان يرجوه عالم الأجساد، ولعل هذه المسافة بين الحكمتين هي التي مثلت لي كل حكمة منهما في غايتها القصوى، وطرفها البعيد عن نقيضه المقابل له، فأظهرت لي ما فيهما معا، وخلصت بي من كليهما إلى العنصر واللباب.
ولقد سمعنا بعدها فلسفة الهند أو فلسفة تاجور من فمه، ولا تزال في الآذان نغمة من ذلك الصوت المشجي العذب، وجرس من ذلك اللفظ الواضح الرخيم، فسمعنا خلاصة ال «سادهانا» ينطق بها صاحبها بصوت كأنما هو صوت الأرواح تتكلم، أو نجى الوحي الهندي تتلقاه الأسماع من وراء المحاريب، ورجعت إلى ال «سادهانا» فقرأتها في هذه المرة كأنما أسمعها نشيدا أو أحس صداها يتجاوب بين عمدان الفراعنة وحجرات الكهان، ورأيت من ذلك كله صورة قدسية يظللها القدم وتحفها مصر والهند بخير ما فيهما من ودائع الدهور وذخائر العقول، فقضيت عندها ساعة خشوع وسلام وددت أن أشرك فيها قراء هذه الساعات.
لست أريد أن ألخص «السادهانا»؛ لأن الكتاب صلاة والصلوات لا يجوز فيها التلخيص والاقتضاب، ولست أريد أن أنقد آراءها؛ لأن هذه الآراء إن هي إلا زهرة روحية، والزهرات لا تطيب على النقد والتحليل: ولكني أدير سمع القارئ إلى نغمات من تلك الصلاة، وألقي ببصره على منظر من تلك الزهرات، وأومئ له إلى مدخل المحراب، أو ناحية الروضة وهو بعد ذلك وما يشاء من اكتفاء بما رأى أو اتجاه إلى طلب المزيد. •••
يفرق تاجور بين المدينتين اليونانية والهندية، أو بين الفلسفتين الغربية والبرهمية، بأن الأولى فلسفة نشأت وراء الجدران، والثانية فلسفة نشأت في الغابات والآجام، فلهذا قامت الحواجز بين الإنسان والطبيعة في عقيدة الغربيين، واتصلت الحدود بين الفرد والحياة الكونية الشاملة في عقيدة الهنود، ويقول تاجور: إنك تستطيع أن تنظر إلى الطريق نظرتين مختلفتين، فأما النظرة الأولى فتريك الطريق كأنها فاصل بينك وبين المقصد فأنت تحسب كل خطوة فيه ظفرا بلغته منها عنوة في وجه المقاومة والعداء، وأما النظرة الثانية فتريك الطريق كأنها وسيلتك إلى غايتك فأنت تحسبها بهذا الاعتبار جزءا من تلك الغاية ، ومبدأ لتلك النهاية، وهذه هي نظرة الهند إلى الكون والطبيعة، وتلك هي نظرة الغرب إلى كل ما وراء الأنانية المحدودة.
فالعلم الغربي غايته أن يملك كل ما يمتد إليه، والعلم الهندي غايته أن يتصل بكل شيء، العلم الغربي مطلبه القوة والعلم الهندي مطلبه الفرح، وكما أن الطفل لا يفرح بحفظ حروف الأبجدية ولا يجد نشوة المعرفة إلا حين تتقارب تلك الحروف وتتصل فيها الجمل والمعاني، كذلك الإنسان لا يغتبط بتفريق صور الحياة والفصل بين كل جزء منها وسائر الأجزاء، وإنما هو يغتبط حين تتلاقى أمام عينيه أجزاء الحياة، وتتناهى من كل جانب إلى الوحدة والشمول. على أن العلم الغربي - مع ما فيه من ظواهر المادية والأثرة - ليس في أساسه إلا بابا من أبواب الاتصال بحقيقة الكون وباطن الحياة، إذ ما يبتغي العلم حين يأخذ في تعديد الوقائع والمشاهدات؟ إنك قد تذهب تقول: إن التفاحة تسقط من الشجرة، وإن المطر يهبط إلى الأرض، وإن وإن وإن من أمثال هذه المشاهدات التي لا نهاية لها ولا فائدة من تعديدها، حتى إذا انتهيت منها إلى قانون «الجاذبية» انتهيت إلى وحدة تجمع تلك الوقائع، وتؤلف هذه الأشتات، وانتهيت بعد ذلك إلى قانون يجمع القوانين هنا وهناك، ثم لا تفتأ تترقى في التأليف والتوحيد حتى تنفذ إلى الوحدة الكاملة إن استطعت النفاذ إليها، فكأن العلم هو تقريب ما بين الظواهر، وتأليف ما بين البواطن، ومحو الفوارق وجمع الأواصر بينك وبين جوانب الحياة.
ولو فهم الغربيون علمهم هذا الفهم لعلموا أنهم أقرب إلى الفلسفة الهندية مما يظنون، وأن الفرح بالوجود هو غاية كل علم بأسرار هذا الوجود، ثم هل يحسب الإنسان نفسه مالكا لشيء يحتجنه إليه إن كان هذا الشيء عبئا على كاهله لا يسره ولا يغنيه؟ كلا! إنما هذا فقر وقيد وليس هو بالغنى ولا الحرية، وإنما يحسب من ملك الإنسان ما هو له سبب سرور ومادة غبطة ورضوان، فإذا ملك الإنسان بالعلم كل ما في الأرض ولم يغتبط بما يملك، ولم يشعر بقلبه فرحان جذلا ينبض على نبض ذلك القلب الأعظم الذي يبث الحياة في كل شيء فهو إذن فقير مستعبد بين هذه الأعلاق الغربية عنه، وهذا الغنى الكاذب الموهوم، وهو لا يملك إلا ليفرح، ولا يفرح إلا إذا كان ما يملكه سببا لحريته وانطلاقه من قيود الأنانية الضيقة والمنافع المحصورة، «وليست سعادة النفس العظمى في أخذ شيء من الأشياء، بل هي السعادة لها كل السعادة أن تهب نفسها لشيء أكبر منها، ومطالب أوسع من مطالبها، كمطلب الوطن، أو مطلب الإنسانية، أو مطلب الله»، «والطير حين يحلق في السماء يحس كلما خفق جناحاه سعة السماء التي لا نهاية لها، وأن جناحيه لن يحملاه أبدا إلى ما وراءها، وهذا هو فرح التحليق عنده، أما في القفص فالسماء محدودة، وقد تكون على ذلك كافية كل الكفاية لما يحتاج إليه الطير من معيشته لولا ذلك العيب الذي فيها، وهو أنها ليست أكبر من الحاجة أو أكبر من الضرورة، ولن يسر وهو محبوس في حدود الضرورة؛ لأنه لا يستغني عن الإحساس بأن ما عنده أعظم مما عساه أن يحتاج إليه، بل أعظم مما عساه أن يدركه ويحيط به، وبهذا وليس بغير هذا يداخل نفسه الفرح والرضوان.»
قد يفهم مما تقدم أن تاجور يدعو إلى محو الأنانية والفناء في وحدة الوجود، كما يفعل بعض المتصوفة الذاهلون في سكرة الإنكار، ولكن تاجور لا يدعو إلى ذلك، ولا يفهم معنى للحب بغير «الذاتية» ولا معنى للذاتية بغير الحب، فمن قوله في محاضرته عن الشر: قص على بعض تلامذتي يوما قصة جرت له مع عاصفة، وشكا لي أنه كان يحس طوال الوقت أن هذه الحركة العظيمة في قلب الطبيعة، ما كانت تحسب له حسابا أكبر مما قد تحسبه لقبضة من التراب، وإن كونه نفسا مستقلة بمشيئتها لم يظهر له من أثر قط فيما كان يحدث حوله، فقلت له: لو أن اعتبارنا لذاتنا المنفصلة قادر على أن يحيد بالطبيعة عن مجراها لكانت تلك الذات هي أشد الخاسرين بذلك الاقتدار.
فلاح عليه الإصرار على الشك وقال لي: إن الحقيقة التي لا ريب فيها هي ذلك الشعور ب «أنا» وإن «أنا» هذه تطلب لها علاقة خاصة بها.
فقلت له إن هذه العلاقة الخاصة ب «أنا» لا يمكن أن توجد إلا مع شيء ليس ب «أنا»؛ ومن ثم وجب أن يكون هناك وسط مشاع بيننا، وأن يكون هذا الوسط على السواء للا «أنا» ولغير ال «أنا»، وأني أكرر هذا القول في هذا الموضع، وأزيد عليه أن الفردية بطبيعتها مدفوعة إلى البحث عن العمومية، فإن جسدنا يموت إذا شاء أن يأكل من مادته وحدها، وأن عيننا تفقد معنى وظيفتها إن كانت «لا ترى إلا نفسها». فليست الأنانية التي ينكرها تاجور إلا تلك الأنانية التي تعزل صاحبها عن الدنيا، وتوصد عليه مسالك الاتصال بالحياة الكبرى والخير الذي يغمره من جميع الجهات. •••
وقد يفهم كذلك أن تاجور ممن يزدرون الدنيا، ويحرمون العمل، ويزهدون في الحياة. ولكن تاجور لا يزدري الدنيا، بل يراها كلها جمالا في جمال، ولا يحرم العمل، بل يرى أنه هو الوسيلة الأولى لرياضة النفس على طلب الكمال، ولا يزهد في الحياة، بل هو يحبها قاطبة، ولا يغمض فيها عن جليل ولا ضئيل، وهو يقول: إن الدنيا كلها خير، وإنما الشر عارض فيها أو جزء مبتور من الخير، فمن حكم على الدنيا بالشر كان كمن يحكم بانتحار رجل هو ماثل بين يديه في قيد الحياة، ويقول: إنك حين تنسق الحديقة التي تعجبك بشاشتها إنما تلمح جمال نفسك قبل أن تلمح جمال تلك الحديقة. فمن أراد أن يكشف عما في نفسه من الجمال، فليعلم أن العمل وسيلة الرفعة والكمال، ويقول: إن الزهد في عوارض الحياة قد يحرم الإنسان حقيقة الحياة؛ لأن الضرورة هي سبيل الحرية، فمن أراد أن يلعب الشطرنج بغير قيد، ومضى ينقل حجارته بغير مانع فقد اللعب، وحرم نفسه لذة الاضطرار.
وقد يسأل سائل وما هي الغاية من كل هذا؟ والجواب أن الغاية ملحوظة من البداية، الغاية أن تعمل في هذه الدنيا لا لكي تحتجن إليك الأشياء، بل لكي تحبها وتفهمها وتتصل بها، وأن تنظر إلى الإنسان لا كأنه آلة تسخرها في لباناتك الصغيرة، بل كأنه جزء متمم لك تعطف عليه ويعطف عليك، وأن تقدر جمال ما تراه لا لتنزعه إليك من الكون، بل لتدخل أنت وهو في رحاب الكون فتعظم أنت وما تراه على السواء، قال: «بين آكلي البشر ينظر الإنسان للإنسان كأنه طعام يشبع به جوعته، فلن تحيا الحضارة في قوم كهؤلاء؛ لأن المرء بينهم يفقد قيمته العالية، ويصبح متاعا لمن يشاؤه، ولكن في الدنيا أنواعا شتى من افتراس الإنسان للإنسان ليست بهذه الغلاظة، ولكنها لا تقل عنها في القبح والشناعة، ولا تحتاج إلى الرحلة البعيدة للوقوع، ففي أقوام أرفع من أولئك الأقوام ترى الإنسان منظورا إليه أحيانا كأنه جسد يباع ويشترى بثمن لحمه أو بما يستخرج من منفعته، كالآلة التي يسخرها صاحب المال لتجلب له الزيادة من المال، وكذلك ينزل الترف بنا والطمع وحب الراحة، إلى هذا الوكس الذي لا وكس بعده لقيمة الإنسان.»
فالوجهة التي تيممها الحكمة الهندية هي أن تهب نفسك للكون؛ لأنك جزء منه وليس في طاقتك أن تأخذ السكون كله إليك، وأن تدع الوسائل إلى الحقائق، ولا تخلط بين العوارض والجواهر، أما الوسائل والعوارض فهي كل ما طلبته لمنفعة فيه قريبة، وليس لذاته المنزهة وحقيقته الخالدة، وأما الحقائق والجواهر فهي الحياة للحياة. حياتك أنت الصغيرة، ثم حياة الكون تكبر فيها، ثم تكبر إلى غير نهاية تعرفها أنت أو يعرفها سواك.
حب المرأة1
هو موسم تاجور في القراءة على ما أرى، فاليد تنقاد وحدها إلى كتبه، والمطلعون على شعره ونثره يتوافقون على ذكره، والبحث في شخصه وتأليفه، وقد قضينا ليلة من هذا الأسبوع نتذاكر حديثه مع صديق أديب زارني في المكتبة، فسبقت يده إلى مجموعة «جنتجالي وقطف الثمار» من مجموعات أشعاره وأناشيده، وأخذ يقلب صفحاتها فاستوقفته هذه القصيدة:
كانت حياتي في صباي كالزهرة ترسل من أوراقها الكثيرة ورقة أو اثنتين، ثم لا تحس لها فقدا حين يطرق نسيم الربيع بابها، يسألها ويبتغي عطرها، فاليوم والشباب في إدباره، أرى حياتي كالثمرة التي ليس عندها ما ترسله، ولكنها تترقب مع هذا أن تهب نفسها كلها، وهي حافلة بذخر حلاوتها.
قلت: يشبه أن يكون هذا الكلام موضوعا على لسان امرأة فهو بحب النساء أشبه منه بحب الرجال. قال: غير بعيد! فقد مرت بي هنا قطع كثيرة ينشدها الشاعر بلسان المرأة، ويكثر فيها ضمير المؤنث، فلعل هذه إحداها، وإن لم يرد فيها ذلك الضمير.
قلت: على أنني ألمس في نفس تاجور شيئا كثيرا من طبيعة الأنوثة، فحب الأطفال في شعره ورواياته أقرب إلى حب الأمومة منه إلى حب الأبوة، وتصوفه يبدو في صورة من يهب نفسه ويسلم قياده، ويغتبط بأن يكون هو المحبوب من الله أشد من اغتباطه بأن يحب هو الله، فهو صاحب نفس عندها الإعطاء ألذ من الاستيلاء، والتسليم أطيب من الاغتنام، وأكبر رضاها أن تنال الرضا وتشعر بيد المحب تسري على جبينها، فإذا كان في التصوف ذكورة وأنوثة، فهذا التصوف أنثوي أصيل، وما الشوق فيه إلى الله إلا الشوق إلى السيد المالك، وما الرغبة في السلام إلا الرغبة في الطمأنينة إلى المحب المحبوب، والسكينة إلى القوة الرفيقة والسلطان الرحيم.
ولا بدع أن يكون الأمر كذلك، وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة، فإن فاصل «الجنس» ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس، وليس كل رجل رجلا بحتا، ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات، وتتفق المزايا، ويكون في الرجل بعض الأنوثة، كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان، ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان، وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء، فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب، فقضى ليلة يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخمورا دهشا، فألفى عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه، ولا حيلة في تأجيله. فأقبل على الجوارح والعواطف يقذف ما اتفق له منها في الإهاب الذي يعرض له ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل وهكذا حتى أتم عمله، فإذا رجال أشبه بالنساء ونساء أشبه بالرجال، وخلائق شتى على أنماط يختلف فيها العنوان عن الحقيقة، والصفات عن الأسماء، فقل أن ترى رجلا لا تندس فيه شية من شيات الأنوثة، وقل أن ترى امرأة لا يداخلها أثر من آثار الرجولة، وقد يتحاب الرجل والمرأة فتكون المرأة هي السيد، ويكون الرجل هو المسود؛ لأن لعنة السكرة القديمة أصابتهما معا فخرجت بكل منهما عن سوائه ومالت به إلى غير شكله.
وكأن «أوتو فيننجر» يقول ما تقوله هذه الخرافة، حين شرح مذهبه في الحب وقرر في كتابه «الجنس والأخلاق» ألا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتآلف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، فإذا فرضنا مثلا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو ذلك الرجل الذي تتم به المائة جميعها بلا زيادة ولا نقصان، وتتآلف ذرات تكوينه واحدة واحدة بلا نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرقة بحيث لا تتخلف صفة، ولا تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها، جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا اتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو أي كائن سواه في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة، كما تدخل فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها، وليس في الدنيا امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع أخلاقه وأطواره، كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد منها لتكون كل قطرة، فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحصر ولا يحده التقدير.
ويقول «أوتو فيننجر»: إن الرجل يحب المرأة، أو المرأة تحب الرجل على حسب ما بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات، فالرجل الذي فيه ثمانون في المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ليس لها من جنسها إلا ظواهره فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من الرجولة، وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه! ومن هنا تنشأ الميول الشاذة في الجنسين، وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين. وخليق بالقارئ أن يذكر أن التعبير بالأرقام في هذه المسألة لا يقصد بحرفه، ولكنه تعبير لجأ إليه «أوتو فيننجر» لتقريب الفهم والتمثيل.
هذا رأي تبدو عليه الغرابة، وتلك خرافة تلوح عليها طلاوة الشعر والفكاهة، ولكن الرأي الغريب والخرافة الطلية لا يكذبان مع هذا ولا يخالفان الشاهد المألوف؛ لأنهما إنما يقرران في النهاية حقيقة لا غرابة بها ولا غشاوة عليها ، وهي أن بعض الرجال يشبهون النساء وبعض النساء يشبهن الرجال، وأن هذا الشبه قد يظهر في الصفات الجثمانية، كما يظهر في الصفات الروحية، ولا يبعد أن يظهر فيهما معا في كثيرين وكثيرات.
وعلى هذا لا موضع للعجب أن نرى رجلا يحب كما تحب المرأة، وامرأة تحب كما يحب الرجل، ولا إغراق في التأويل حين نقول: إن حنان تاجور ورقته التي اشتهر بها للأطفال وشوقه إلى تسليم روحه، والسكون بها في ظل روح الله، أو روح الوجود، إنما هو أقدس ما تسمو إليه الطبيعة الأنثوية التي قوامها الحنو والتسليم والشوق إلى قوة تغمرها، وتغمض عينيها بالثقة والنشوة والإذعان، وإنما سما تاجور بهذه الطبيعة إلى أعلى سماواتها؛ لأنه أخرجها من الجنسية إلى الصوفية، ومن عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، ومن قيود المطالب المحسوسة إلى باحات علوية تفيض بالنور والجمال.
ولسنا نظلم المرأة ولا نحن نقصد إلى القدح في طبيعتها حين نقول: إنها تحب لتهب وتستسلم وتغمض عينيها في نشوة الثقة والاعتماد الطيع الأمين، فليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيع، وتلقي بنفسها بكل ما فيها من «ذخر حلاوتها» بين يديه، وليقس عليها الرجل أو يرحمها، ويعذبها أو ينعم بالها، فإنها لسعيدة بالطاعة إذا وجدت من يطاع ويقبل عذابها وراحتها، ويتلقى عزتها وذلها على السواء، وتلك هي الحقيقة التي لا ينبغي أن ننخدع عنها بما نسمع في هذا العصر من جلبة الحرية ولغط «الحركة النسائية» وصريخ المطالبة بالمساواة، وحقوق الانتخاب، فإنما الذي يفقده هؤلاء النسوة في جميع أنحاء العالم هو الطاعة لا الحرية، وهو الرجل السيد لا الرجل الند المساوي لهن في كل شيء، ولو وجد هذا «الرجل السيد» لما كان للحركة النسائية أثر، ولا سمع للنساء صوت غير صوت الغبطة والقناعة والحبور، ولو شاء الرجال كلهم - اليوم - ألا يسمع في العالم صدى للمطالبة بتلك «الحقوق» لأصبحنا غدا ولا صوت لها ولا صدى ولا سامع ولا مجيب، فإنما الرجل هو الذي خلق هذه الحقوق، والرجل هو الذي ينزعها لو يشاء ومتى شاء.
نعم هذه هي الحقيقة التي أومن بها، ولا يغرني فيها أن المرأة اليوم أوفر علما، وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة تعبث بالحياء، وتحطم قيود العرف والدين والأخلاق لما وجدت أنثى تجسر على النداء بالحرية ويطيب لها هذا النداء، ولو كان الرجال كلهم أزواجا يعنيهم من المرأة ما يعني الصاحب من صاحبته، وكان النساء كلهن زوجات يحببن ويلدن ويتذوقن لذة الطاعة والإعطاء، لكانت المساواة التي يهتف بها بعضهن حلما كريها يقض المضاجع، ويزعج هناءة النوم الجميل.
خلقت المرأة لتعطي، وخلق الرجل ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة، خلقت المرأة للأمان، وخلق الرجل للجهاد، خلقت المرأة لتحب الرجل، وخلق الرجل ليحب نفسه في حبه إياها، هذه هي حقيقة الحقائق قد أسرف الشرق في الإيمان بها، وأسرف الغرب في إنكارها، وبين هذين النقيضين وسط هو خط السلامة وباب النجاة.
وقد تكابر المرأة نفسها، أو تكابر الرجل حبا للعنت الذي جبلت عليه، ولكنها إذا رجعت إلى طبعها شعرت بهذه الحقيقة راضية أو كارهة، وعز عليها إنكارها، أو كان لجاجها في الإنكار دليلا على شدة الشعور بها، وصعوبة الخلاص منها، ولذة العنت التي قلنا: إنها مجبولة عليها كما جبل عليها سائر الضعفاء، ويتساوى في هذا الشعور ذكيات النساء وغبياتهن، والعالمات منهن والجاهلات، والقديمات في عصور التاريخ والحديثات في هذا العصر الذي خيل إليه أنه يقلب الطبائع، وينقل الفطر عما أشرجت عليه.
وهذه ماري كورلي الكاتبة الإنجليزية المعروفة، إلى جانبي اعترافاتها التي دونت فيها قصة غرامها، وأوصت بنشرها بعد موتها تقول فيها وهي تزري بالطالبات الداعيات: «أية امرأة تذكر الحرية وعلى شفتيها قبلة حبيبها!» وإلى جانبي كذلك ترجمة راحيل فارنهاجن، والكاتبة السويدية الكبيرة «ألن كي»، وكلتاهما من أذكى النساء وأعلمهن وأعطفهن تقول الأولى عن حبيبها: «لقد كنت أراني كأنني حيوان مملوك لذلك الرجل، وكان في قدرته أن يلتهمني لو يشاء» وتقول الثانية: «إن المرأة لا مقام لها ولا سعادة إلا أن تحب، وأنها تحب الحب وتحب الرجل، وتحب حب الرجل، في حين أن الرجال لا يحبون إلا أنفسهم، وقليل منهم من يحب المرأة لشخصها، ثم هي تتمنى أن يحب الرجل المرأة، كما تحب المرأة المهذبة الرجل، أي أنها فيما تراه «ألن كي» تحب الرجل حبا يشمل شخصيته كلها، ويتناول فيها جانب الرجل وجانب الإنسان.»
غير أن المجاز في كلام ألن كي يغطي على بعض الحقيقة، ويند بها قليلا عن محجة الصدق والبيان الصريح، فإن الرجل ليحب «ذات» المرأة حين يحب نفسه، وليشعر بسروره الحق حين يشعر لتلك المرأة بشخصية حرة في الاختيار والاستسلام، وليس في جوهر هذا الشعور اختلاف بين الرجال والنساء، ولا الرجال بغافلين عن الفضائل الإنسانية التي يحسونها في المرأة مع الفضائل الأنثوية، ولكن الاختلاف يأتي حين تزن كل من الشخصيتين نفسها بجانب الشخصية الأخرى، فتعلم الضعيفة بغيتها عند القوية، وتعلم القوية حقها على الضعيفة، وتمتزج الاثنتان ذلك الامتزاج الذي تظفر منه إحداهما بسعادة الملك، والأخرى بسعادة التسليم، ولن تكون السعادتان أبدا من نوع واحد كما تريد «ألن كي»؛ لأن اللذين يحسانها لم يكونا من نوع واحد في مزايا الجنس، ولا في مزايا الإنسان.
وبعد، فأين «صوفية» تاجور وطبيعة الأنوثة في الحب؟! بعيد في ظاهر الأمر من بعيد، ولكنك إذا جاوزت عتبة النفس الإنسانية إلى داخلها فلا نهاية ثمة للالتقاء والافتراق بين هاتيك المنافذ والسراديب.
الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1
للدكتور جوستاف لوبون توفيق في اللغة العربية لم ينله كاتب من كتاب الغرب الاجتماعيين في أيامنا، فقد ترجمت له كتب عدة، أذكر منها الآن روح الاجتماع، وسر تطور الأمم، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والآراء والمعتقدات، وهو الذي بين أيدينا الآن، ولا شك في أن هذه الكتب كلها لها قيمتها التي تستحق من أجلها النقل إلى لغتنا وإلى اللغات الأخرى، ولكننا لا نظن قيمتها هذه هي سر ذيوعها بيننا، وإقبال أدباء العربية على ترجمتها، فإن للكتب أسبابا تمهد لها الرواج والنجاح في كل موطن غير ما تحويه من الموضوعات وتحمله من الفوائد، وهذه ملاحظة لا يفوتنا أن ننبه إليها في صدد الكلام على هذا الكتاب؛ لأن مصنفات جوستاف لوبون مثل ظاهر للمصنفات القيمة في بابها التي استمدت معظم رواجها عندنا من أسباب أخرى طارئة غير أسبابها العالقة بها على اختلاف المواطن والبيئات.
ولعل أدعى هذه الأسباب إلى الرواج أن الكتاب الأول لجوستاف لوبون ظهر في اللغة العربية بقلم عالم قانوني له مكانة موقرة بين الفضلاء والأدباء ورجال الصحف والمجلات هو المرحوم «أحمد فتحي زغلول»، ثم نذكر من هذه الأسباب أن آراء المؤلف فاجأت الناس بخلاف ما اتفقوا عليه وأخذوه مأخذ الحقائق المقررة المفروغ من بحثها والإيمان بها، فلا هي تعرض بعد ذاك على النقد، ولا هي تقبل الجدال، فقد خلفت لنا الثورة الفرنسية مبادئ عن المساواة والحرية وعصمة الإجماع، وقداسة آراء الشعوب نجم أكثرها من وحي الخيال والعاطفة، وقبلها الناس قبول التسليم الأعمى؛ لأنهم حسبوا أن المبادئ التي قتل في سبيلها من قتل واشترتها الأمم بما اشترتها به من الشدائد والمحن والأهوال يستحيل أن يطرقها الزيف أو تعتريها عوارض الضعف كما تعتري المبادئ التي لم تسفك في سبيلها قطرة غير قطرات المداد، ولم يبذل الناس في شرائها أكثر من ورقة تكتب عليها وقلم يجري بتسطيرها، فلما فوجئ قراء العربية بآراء الدكتور الغريبة، وشهدوا أول مرة طريقة في التدليل تخالف طريقة الجمع والاستشهاد، والذهاب مع الظواهر السطحية وقواعد العرف المصطلح عليها فتنوا بهذا النمط الحديث، واشتاقوا إلى التوسع فيه، واتفق ذلك في أوائل العهد الذي كثر فيه تجاذب الكلام على الحرية والديمقراطية وحقوق الشعوب وما إلى ذلك، فكان هذا باعثا جديدا على الالتفات إلى كتب لوبون وآرائه والعناية بقراءتها ومناقشتها، والعجيب أن هذه الكتب لا تشجع الديمقراطية وهي مع هذا ظهرت في إبان حركتها عندنا فلم تثبطها، ولم يكن اعتلاج البحث في نظرياتها إلا كاعتلاج كل عاطفة جامحة يخالطها الرأي الزاجر من قبل العقل فيزيدها مضاء واحتداما، ويكون الزجر الذي يصدها عن طريقها كأنه حافز يقذف بها في ذلك الطريق ويعصف بالموانع والعراقيل، فهل يعد هذا مصداقا غير مقصود لتلك النظريات التي بشر بها لوبون ولا يزال يبشر بها في كل كتاب!
والواقع أن لوبون مبشر علمي ينحو في تقرير آرائه منحى الواعظ ورجال الدعايات، وأن كتبه هي نظريات وتطبيق لتلك النظريات في وقت واحد، فهي تقرر أن العقائد تثبت بالتوكيد والتكرير، وهي في الوقت نفسه تؤكد وتكرر فكرة واحدة لا يفتأ الرجل يدور عليها ويبديها ويعيدها؛ ليجعلها في حكم العقائد الثابتة والبدائه اليقينية، ولقد أفلح في شطر من دعايته ولكنه لم يفلح في الشطر الآخر. أفلح في تبيينه أن البرهان لا ينقض العقائد التي توارثتها الشعوب وأشربتها أرواح الجماعات، ولم يفلح في إنشاء عقيدة واحدة بذلك التوكيد الذي يتكلفه، وذلك التكرير الذي لا يمله. بيد أننا نظلمه إذا أخذناه بهذه الخيبة؛ لأنه يشترط للنجاح والتوكيد شروطا لم يحاول استيفاءها، ولا هو يستوفيها إذا أقدم على هذه المحاولة! •••
وكتاب الآراء والمعتقدات الذي ترجمه الأديب الفلسطيني محمد عادل زعيتر، وطبعته المطبعة العصرية بمصر هو تبشير جديد بدين الدكتور لوبون العقلي، ودعايته المنطقية، وهو توكيد جديد للأصول التي تقوم عليها عقائد الجماعات، وتبني عليها أطوارها وتقلباتها، وهو تفصيل بعضه مسبوق وبعضه غير مسبوق لآرائه التي أجملها في مصنفاته الأخرى، وتكملة يحتاج إليها كل من يحب استقصاء آراء الدكتور، والتزود من شروحه وبيناته.
ولسنا نريد أن نطيل في سرد النظريات القديمة أو الطريفة التي أودعها المؤلف كتابه هذا، فإن قواعد هذه النظريات غنية عن الإجمال، وإنما نريد هنا أن نعرض لمسألتين اثنتين إحداهما تتعلق بأساس الموضوع الذي سمي الكتاب باسمه، والثانية تتعلق بشعور اللذة والألم الذي جعله المؤلف مصدر الحركة وقال: «إن اللذة والألم هما لسان الحياة المادية والمعنوية وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ترغم الطبيعة الحيوان على الإتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها.»
فأما المسألة الأولى فهي التفريق بين الآراء والمعتقدات، أو هو موضوع الكتاب نفسه وعنوان مباحثه، فالعقيدة والرأي معدنان مختلفان في نظر المؤلف من المبدأ إلى النهاية والعوامل التي تنشئ أحدهما غير العوامل التي تنشئ الآخر، كما هي الحقيقة من أكثر الوجوه، ولكن المؤلف يغلو في التفريق إلى حد بعيد، ويريد أن يفهمنا أن الاعتقاد ملكة في النفس غير ملكة الارتياء في الأساس، فهل هو على صواب؟ وهل الاعتقاد والارتياء جوهران متناقضان أو مختلفان!
الذي نقرره أن الرأي والعقيدة في أساسهما يرجعان إلى معدن واحد؛ لأن رأيك في شيء واعتقادك إياه كلاهما هو أثر ذلك الشيء الذي يلقيه في روعك من طريق واحدة بوسيلة واحدة هي وسيلة المعرفة الفذة المتاحة للإنسان، وإنما يبدأ الفرق بين الرأي والعقيدة عند «التمحيص والامتحان» إذ تكون وسائل «التمحيص والامتحان» ميسورة في الآراء فتتوقف عليها وغير ميسورة في العقائد فتقوى على مكافحة النقد وتستعصي على التجربة والبرهان. مثال ذلك أن ملاحظة الأشياء قد هدت بعض الناس إلى أن النار تنطفئ في الماء، وهدت الآخرين إلى أن الحياة الدنيا تتبعها حياة أخرى فيها الثواب للمؤمنين والعقاب للمنكرين، فما الفرق بين ما اهتدى إليه هؤلاء وما اهتدى إليه هؤلاء؟ الفرق بينهما أن وسائل التمحيص والامتحان في الدعوى الأولى محصورة يمكن التيقن منها بالحس والمشاهدة، وأن الدعوى الثانية وسائل تمحيصها وامتحانها غير محصورة ولا هي مما يخضع لحكم الحس واليقين، فإذا قيل: إن موضوع العقيدة يتصل بالشعور والرغبة، وأن موضوع الرأي يتصل بالحس والتجربة قلنا: إن كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يكون موضوع رأي وموضوع عقيدة في وقت واحد؛ فهذه التميمة التي يلبسها المؤمن بالتمائم هي موضوع يصلح للتجربة ويصلح للإيمان معا، وينظر إليها رجل فيخرج منها برأي وينظر إليها غيره فيخرج منها بعقيدة، ولا فرق في الحالتين غير الفرق في وسائل التمحيص والامتحان عند هذا وذاك، وليس منا إلا من كان يؤمن بشيء ثم عدل عنه إلى رأي يقبل النقد والمناقشة، وما تحول الشيء ولا تحولت ملكات المؤمن به، ولكنها هي وسائل النقد تيسره له بعد أن كانت متعذرة عليه، فعلى هذا يصح أن يقال: إن العقيدة أثر نفسي أو مجموعة آثار يصعب على صاحبها حصر المواد اللازمة لتحليل جميع عناصرها وحد جميع جوانبها، وأن الرأي عقيدة محدودة العناصر والجوانب يرجع فيها إلى مقياس مطرد متواضع عليه، ولزيادة التوضيح نسأل: هل يمكنك الإيمان بالشيء الذي ثبت بطلانه من طريق الرأي كل البطلان؟ نعم إن العقائد لا تثبت بالبرهان، ولكن هل هي تقوم على الشيء الذي أثبت البرهان بطلانه؟! لا ولا ريب، فهي إذن معدن لا ينفصل عن معدن المعرفة كل الانفصال، وكونها لا تقوم على البرهان لا يدل إلا على أمر واحد، وهو أن البرهان ليس بعنصرها الوحيد.
وقد يقال: إن العقائد ترمز وتورى وإن الآراء تتناول الأشياء مباشرة بغير رمز ولا تورية، وهذا إنما يكون صحيحا لو كنا نعرف شيئا واحدا في هذا الكون معرفة مباشرة بغير رموز ولا توريات، ولكن الحقيقة أن المعرفة المباشرة مستحيلة، وأن كل منظر نراه، أو نغمة نسمعها، أو خاطر نحس به إن هو إلا رمز ظاهر لحالة باطنة لا يستطاع استكناهها والنفاذ إلى حقيقتها، فما اللون وما الصوت وما الفكر بل ما المادة نفسها التي نعيش فيها ومنها وبها إلا رموز لحركات يخفى علينا كنهها، ويستحيل علينا كل الاستحالة أن نباشرها في ذواتها، ولك أن تقول: إن النظر إلى اللون الأحمر مثلا هو نوع من الإيمان الرمزي يريك الصورة ولا يريك الحقيقة، وأن العقيدة في آلهة الماء والبراكين عند قدماء الأمم هي نظر رمزي كذلك كان يعوزه سداد التحقيق، ودقة الرمز والتعبير. •••
أما المسألة الأخرى وهي مسألة اللذة والألم، فقد أصاب الدكتور لوبون حين سماها عنوانين للكدر والصفاء دليلين على معنوية باطنية؛ أي معلومات لعلل كما أن الأعراض نتيجة لمرض، إلا أنه هدم كل ما أراد أن يبنيه عليهما بهذا التعريف الذي جعل اللذة والألم نتيجة لحالة سابقة في الجسم قبل الشعور بهما، وقبل أن ينطبعا في صفحة الإحساس على صورة محبوبة أو مكروهة، فإننا متى علمنا أن اللذة والألم محكومان بعوامل أخرى نجهلها ولا نحس بها فالخطب إذن هو خطب تلك العوامل، والمهم لدينا أن نعرف ما تريده تلك العوامل وما تأباه وما تدفع الإنسان إليه، فيكون لذيذا لديه أو تدفعه إليه أيضا فيكون مؤلما في حسه، فالإنسان مدفوع على الحالتين قبل أن يذوق اللذة، أو يذوق الألم، واللذة والألم هما كما قال الدكتور عنوانان أو عرضان لتلك الحركات الخفية التي تختلج في الجسم ولا سلطان عليها للإرادة ولا للإحساس، وماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن الإنسان يعمل ما يلذه، ويجتنب ما يؤلمه، إذا كان من الثابت المحقق أن الإنسان مكره على اللذة التي يطلبها كما هو مكره على الألم الذي يجتنبه! ثم ماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن اللذة والألم هما أكبر عوامل الحركة، وها نحن أولاء نرى إنسانا يكرم؛ لأن الكرم لذيذ عنده ونرى إنسانا غيره يبخل؛ لأن الكرم يؤلمه ويكدره. فلا توضيح هنا ولا تفسير، بل هو تحصيل حاصل وحكم ظاهر من قبيل الحكم على تركيب الساعة بأرقامها وإشاراتها، ثم صرف النظر عن عددها، ولوالبها، وعن اليد التي تحرك تلك العدد واللوالب، والفكر الذي يحرك اليد، والعوامل التي تحرك الفكر، والقوانين التي تحرك الجميع.
ولسنا ننكر أن الإنسان يحب ما يلذه ويكره ما يؤلمه، وأنه يود ألا يفعل فعلا إلا أصابته منه لذة ولم يصبه ألم. إلا أن الإنسان يألم مع هذا ولا يجد اللذة حيث يطلبها، ولا يفلت من الألم حيث يهرب منه، فهو يعمل العمل قبل أن يتذوق لذته وألمه، ثم تأتي بعد ذلك كيفية شعوره بذلك العمل، وهو ابن طبيعة الحياة، لا لأنها لذيذة أو مؤلمة، بل لأنها هي طبيعة الحياة التي لا يد له في خلقها ولا في خلق ظرف واحد من ظروفها، وإلا فلماذا تختلف الطبائع حتى يلذ هذا الإنسان ما يؤلم سواه ويؤلمه ما يلذه! ولماذا تكون اللذة في هذا الجسد عنوانا لحالة، وتكون في جسد غيره عنوانا لحالة تختلف عنها أو تناقضها! إنما ينبغي أن نبحث هنا عن الإرادة الخفية التي تهيمن على عوامل الجسد، وتكيف الحس نفسه حتى يعود قابلا للشعور باللذائذ والآلام، أما الوقوف عند العناوين فقد يرضينا بالأسماء والأصداء، ولكنه لا يرضينا بحقائق الأشياء. •••
وصفوة القول: إن الرأي والعقيدة لا يختلفان في الأساس، وإنما يظهر اختلافهما عند العرض على وسائل التمحيص والامتحان، وأن الحياة لا تبحث عن اللذة أكثر مما تبحث عن الألم، وإنما تفعل فعلها ثم يجيء كل من اللذة والألم غير مطلوب ولا مدفوع، وعبرة هذا الرأي أن للإنسان غاية في الحياة فوق لذاته وآلامه، وأنه ربما كان طالبو اللذة القانعون بها هم أقل الناس نصيبا من دوافع الحياة.
الغيرة
عطيل والزنبقة الحمراء! ما أعجب المصادفة التي جمعت بين هذين الأخوين المتباعدين في رف واحد! وما أجدرنا أن نؤمن بأرواح الكتب لحظة لنصدق أن هذين الكتابين إنما تصافيا وتوافيا لاتفاق بينهما في الروح، وتشابه في الهوى والمزاج، ومحنة واحدة ألفت بين عطيل المغربي وجاك الفرنسي ، وبين شكسبير في الأقدمين وأناتول فرانس في المحدثين، فسعى كلا الكتابين إلى الآخر بين الرفوف، وغنما ثمة هنيهة يتناجيان فيها على غرة من الكتب المتطلعة وغفلة من اللجاجة والفضول!
ولكن حسب الدنيا ما فيها من المراء والنزاع على أرواح الناس فلا نزيد عليها أرواح الكتب، ولا تدخل الخصومة والصداقة بين الرفوف والأدراج فيعز عليها القرار ويعود حفظ الكتاب عملا أشق على أصحابه من عمل المروض الذي انقطعت عنده السلاسل وتكسرت القضبان! فلا مصافاة هناك ولا موافاة بين عطيل والزنبقة الحمراء، ولا بين روح شكسبير وروح أناتول، وإنما هي كتب ضاق بها المكان على الرفوف المرتبة فلقيت مكانها على الرف المعزول في انتظار الترتيب والتجليد، وهذا هو السر كله في تلك الصداقة التي جمعت عطيلا الأسود والزنبقة الحمراء، وألقت بهما معا في ذلك الجوار السعيد! ولعله ليس أضعف من السر الذي يؤلف جميع الصداقات بين الناس ويلقي بهم في كل جوار.
فيم يشترك هذان الكتابان على ما بينهما من البعد في الجنس واللغة العبقرية والزمان! يشتركان في حكاية الغيرة العمياء التي تقوم على أوهن الأسباب، وأسخف القرائن، فتودي بحياة طيبة أو تقضي على سعادة راضية. يشتركان في هذا السم الذي تكفي قطرة منه لتكدير «أوقيانوس» من الهناءة والثقة والراحة والصفاء، يشتركان في تمثيل ضعف هذا الإنسان الذي تعصف بسعادته في الحياة همسة شاردة، أو شية باطلة، والذي ترتبط سعادته كلها بسبب ما أهونه! وما أقرب امتحانه بالنكث والانحلال!
عطيل قتل صاحبته ولم يرحم شبابها وجمالها، ولا أصغى إلى ضراعتها وابتهالها، لم؟ أكان يبغضها؟ أكان في نفسه شبع من متعتها ونعيمها وبرد ظلالها وطراوة عطفها؟ كلا! بل لقد كان يهم بقتلها وإنه لأشغف ما يكون بها، وأشوق ما يكون إلى قربها، وكان يصر على إهلاكها وإن رحمته بها لتأبى عليه أن يرسل نفسها إلى السماء خاطئة، أو يصعدها إلى ربها منقوصة الغفران، فيقف عندها في صلابة الصخر، ورقة الماء يقول لها: هل صليت الليلة يا ديدمونة؟
فتقول: نعم يا سيدي.
فيقول: إذا كنت تتذكرين لك ذنبا يبقي بينك وبين رحمة الله فرجة فاستغفري حالا.
ثم يظهر لها نية القتل فتسأله في لهفة. أتذكر القتل؟ فيجيب: إياه أذكر، فتهتف خائفة؟ إذن لترحمني السماء! فيقول وقلبه يقطر دما: آمين، بكل جوارحي.
ثم يعلنها بالشبهة ويدور بينهما هذا الحوار.
عطيل :
احذري يا حبيبتي! احذري من الحنث وأنت على سرير الموت.
ديدمونة :
نعم ولكن لا. لا أموت الآن.
عطيل :
بل الآن، وأن تعترفي خير لك لأنك لو أنكرت كل جزء من أجزاء ذنبك، وشفعت كل إنكار بقسم لما بددت قوة العقيدة التي أتألم منها، ستموتين.
ديدمونة :
إذن ليرحمني الله.
عطيل :
آمين.
وهكذا يقتلها وهو يرحمها، ويقصيها عن الدنيا وهو يتمنى اقترابها، ويريد هلاكها لا لأنه يكرهها، ولكن لأنه كان في نوبة من القلق اللاذع يريد معها هلاك نفسه.
وجاك - في رواية الزنبقة الحمراء - يعرض عن حبيبته، ويصم أذنيه عن ندائها وإلحافها، ويعمي عن البينة الناطقة ليستسلم للوهم الخادع، ويعصي كل دعوة تهيب به إلى المودة والاتصال ليطيع كل نبأة تميل به إلى الهجر والقطيعة، لم؟ ألعداوة ونفور؟ ألزهد في ذلك النعيم الذي راح يحتويه، وذلك الحب الذي يشيح عنه؟ كلا! بل لفرط رغبة وشدة غرام، ولو أنه كان أقل رغبة وأضعف غراما لما أمعن في طلب الهجر ذلك الإمعان، ولا حنقت نفسه على صاحبته ذلك الحنق، وإنما هو يدفعها عنه؛ لأنه يريد أن يضمها إليه فلا يستطيع، ويأبى أن يراها لأنه يحب أن يراها لنفسه فلا يطيق.
يقول سليمان الحكيم: «إن الغيرة قاسية كالقبر.» وهي مقالة رجل ملك مئات النساء، وحق له أن يكون أزهد الناس في العشيقات، وأقلهم غيرة على الجواري والزوجات. ولكن الغيرة لا تعنيها الكثرة والقلة ولا تعرف الزهد والقناعة، وقد يغار صاحب الألف على واحدة توشك أن تفلت منه، كما يغار صاحب الواحدة التي لم يكن له سواها من قبل ولن يتعلق له رجاء بسواها بقية حياته، فحيثما تتحرك الأثرة فهناك تتحرك الغيرة، وقد تكون الأثرة مع الغنى كما تكون مع الفقر ، بل لعلها في نفس الغني المجدود أقوى منها في نفس الفقير المحروم.
والمنافسة أقوى بواعث الأثرة، فحيثما تشتد المنافسة ويكثر الزحام تظهر الأثرة وتظهر معها الغيرة وإن لم يكن في الأمر حب ولا وفاء، ولهذا تكثر الغيرة حول النسوة اللواتي يبرزن للجماهير؛ لأنهن معروضات للمنافسة والسباق بين الطلاب، فيكون لهن شأن أكبر من شأنهن في الجمال أو الرشاقة أو الذكاء، ويبدون من هذه الوجهة كأنهن القصبة التي يتهافت عليها المتسابقون ولا قيمة لها في نفسها، وإنما القيمة للسبق لا للغاية، واللذة للظفر لا للشيء المظفور به، ولو كانت الخيبة في رهان الخيل مثلا أو في أي رهان من قبيله تمس عطف الإنسان وغروره كما تمسهما الخيبة في طلب المرأة، لرأيت في ميدان السباق من التنافر والبغضاء مثلما تراه في ميدان الغرام.
يقول روشفكول وهو حكيم خبير بهذه الشئون: «تولد الغيرة مع الحب، ولكنهما لا يموتان معا في كل حين»، وكان الأصدق أن يقول: إن الغيرة تولد مع الاهتمام أيا كان سببه وكيفهما كان الباعث إليه؛ فقد لا يكون الاهتمام عن حب الإنسان الذي أنت مهتم به، ولكنما هو اهتمام للمنافسة في ذاتها كما تقدم، أو للشخص المنافس أو لإرضاء شعور في النفس لا علاقة له بهذا ولا بذاك. إلا أن أقتل الغيرة وأمضها وأقساها، ما كان عن حب صحيح، وثقة مكينة، ورجاء غير مشكوك فيه. فإذا أحب العاشق واطمأن إلى حبه، وبسط الرجاء في مستقبله لا يرى له نهاية ولا يقف فيه عند أمد، ثم أفاق فجأة على شبهة تنغص حبه وتزلزل مكان الثقة من عطفه، وتقتضب عليه أحلامه وآماله وتحد من سعة ذلك الرجاء الذي كان يبسطه على الحياة وما فيها بغير حد ولا نهاية، فذلك هو الجحيم الموبوء الذي لا فرار فيه ولا ملاذ منه، وذلك هو العذاب الذي لا طاقة للجسم والدم بمثله، ولا تمنى الطبائع الآدمية بما هو أنكأ منه وأمر مذاقا؛ فإن كانت الغيرة من شك، فهناك الحيرة الكاظمة، والقلق الملح المسموم، وأي عذاب أقسى من قلق يثير الوساوس ثم يطلق زمامها، فلا هو يردها بعد ذلك؛ ولا هو قادر على أن يميل بوسواس واحد منها إلى الراحة؟! وإن كانت الغيرة عن يقين فهناك الصدمة القاتلة كأنما هي صدمة المقبل بكل قوته إلى حيث يهدأ ويستريح، فإذا هو يستقبل الضربة المصمية في المقتل الأمين، ولقد قيل: إن الحب بغير عيون؛ لأنه ينخدع عن الحقيقة الواضحة، ويماري في الواقع المحسوس، فإن كان لذلك سبب فليس هو الغفلة كما قد يظن لأول وهلة، ولكنه هو هول العذاب الذي يخافه المحب ويتهيبه فيسهل عليه في سبيل الهرب منه أن ينكر الشمس ويصدق المستحيل.
ولكن إذا صح أن الحب بغير عيون فالغيرة لها عيون مفتوحة لا تحصى، وإن كانت لتضل عمدا عن الرؤية في معظم الأحايين! وبين عمى الحب ويقظة الغيرة ألم جهنمي كألم الجسم المشدود بين قوتين تعدو كل منها في طريق!
الغيرة جنون يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والرجال، والنساء، وربما تواتر بين الناس أن المرأة أشد غيرة من الرجل؛ لأنها تستغرق شعورها في الحب ، ولا تستبقي لنفسها بقية تعوذ بها عند الخيبة فيه، وأنها تفتأ حياتها بين غيرة تضاعفها الشبيبة والسذاجة، وبين غيرة تضاعفها الكهولة والعلم بطبائع الرجال، فهي إذا كانت فتية جاهلة بالحياة كان ألم الغيرة عندها شديدا قاسيا على قدر الفتوة العارمة والثقة المخدوعة، وهي إذا كانت كهلة محنكة السن أشفقت من إدبار العمر؛ واشتدت غيرتها على قدر اشتداد الشك والحذر من تقلب الرجال، وهي في الشباب والكهولة أميل إلى الاستسلام وأسرع إلى الإدبار والهرب، فهي لهذا أغير من الرجل وأعنف في هذه الخالجة العتية الهوجاء. بيد أن صاحبنا أناتول فرانس - مؤلف الزنبقة الحمراء - يزعم غير ما يقول الأكثرون ويبني روايته هذه على ذلك الاعتقاد المخالف لآراء الكثيرين، فهو يقول: «إن الرجل الغيور يغار حقا، ويتهم المرأة لكونها تحيا وتتنفس؛ وهو يخشى خطرات السريرة، ونزعات الجسد، والفكر التي تجعل من المرأة مخلوقا آخر منفصلا عنه مستقلا بنفسه مدفوعا بغريزته، متناقضا في طبيعته، ممتنعا على الفهم والإدراك في بعض الأحيان، وهو يتعذب؛ لأنه يراها تتفتح عن طبيعته الحلوة كما تتفتح الزهرة، ثم لا يأمل أن يحتجن الحب - بالغة ما بلغت قوة أسره وصلابة قيده - كل ما يتضوع من شذاها في تلك الآونة المهتاجة التي تسمى الشباب والحياة، والسيئة الفذة التي يحاسبها عليها في أعماق قلبه هي «أنها هي» أي أنها كائنة، وأنها جميلة وأنها تحلم الأحلام! وكم ذا من قلق المعنت في هذه الفكرة؟!»
ثم يقول: «أما المرأة فلا تحس في نفسها شيئا من هذه الخواطر الجامحة، وأكثر ما تظنه غيرة منها إن هو إلا شعور المزاحمة.
فأما هذا العذاب الواصب في كل جارحة وهذه الوساوس الشيطانية التي تتحكم في الخيال، وهذه اللواعج الطاغية المحزنة، وهذا الهياج الجسدي الثائر فلا شيء من ذلك عندها، أو أن ما عندها يقرب من لا شيء.
فشعورها في الغيرة يخالف شعورنا في وضوحه واستقامته وطبيعتها يعوزها ضرب واحد من الخيال، لا ينمو فيها على أتمه حتى في شئون الحب والحواس، ونعني به الخيال التصويري المحسوس، والقدرة على استكناه الرسوم المحدودة، وإنما يشتمل على جميع شواعرها غموض شامل وتتحفز قواها كلها للصراع في لحظة واحدة، فإذا سارت غيرتها مرة وثبت للكفاح في عناد جامح بين العنف والحيلة لا طاقة به للرجل، وشحذ عزيمتها للكفاح نفس ذلك المهماز الذي يمزق أوصالنا ويضعضع قلوبنا، فإذا هوت من عرشها فالهزيمة تزيدها مضاء وتهالكا على الغلبة والسيادة، والخيبة توليها ثقة جريئة مكابرة ترجح على ما يصيبها من خذلان الأسف والكآبة.»
قال: «وانظر إلى هرميون في رواية راسين، فإن غيرتها لا تستنفد نفسها بخارا أسود يتصاعد من سورة عاجزة، وهي لا تبدي لك إلا قليلا من الخيال، ولا تنسج من آلامها مأساة من الهواجس المبرحة القاتمة، أو تنفق الوقت في الوجوم والندم، وما الغيرة بغير الوجوم والندم؟ ما الغيرة بغير الوسواس الشيطاني والهوس الملازم؟ إن هرميون ليست بغيرى. إنما هي قد عقدت نيتها على اعتياق زواج تأباه، وصممت على أن تمنعه بكل وسيلة لتسترد إليها العاشق المغصوب، وهذا كل ما في الأمر.»
ولما أن قتل «نيوبتلمس» لأجلها وفي جرائر تدبيرها فزعت وارتاعت. هذا صحيح! ولكن الشعور الغالب عليها كان شعور الأسف والخيبة؛ لأن «مشروع زواجها قد أخفق، ولو أن رجلا كان في موضعها لقال: حسن! ذلك خير. إن المرأة التي أحببتها لن تزف إلى غيري الآن.»
فأناتول فرنس يجعل الغيرة من خصائص الرجل، ولا يرى أن يسمي هذا الشعور الذي وضعه في المرأة باسم الغيرة كما يسميه جميع الناس، ولسنا نعرف الحكمة في إنكار هذه التسمية، ولكننا نعتقد أن المرأة أشقى بغيرتها؛ لأنها أحوج إلى الحب، وأعظم استغراقا فيه وأخوف من الفقد والهجران، ويجوز أن تختلف التصورات التي تلهب هواجس الغيرة بين الجنسين، ولكن أليس للرجل منادح من العزاء عن خيبة الحب لا تجدها المرأة؟ أليس يخزيه في نظره ونظر إخوانه أن يفني صوابه في الهوى، وينسى المجد والصراع والمعارف والأمثلة العليا ليشغل قلبه وعقله بامرأة خائنة أو توشك أن تخونه؟ ففي ذلك ولا ريب حافز لهمته وموقظ لنخوته لا تتعزى المرأة بمثله ؛ لأنها لا تخجل من الاستغراق في الحب، ولا تحس في طبيعتها ما ينبو بها عن هذا النصيب.
إن الغيرة ثمرة الحب والأثرة والخوف، وهذه العناصر الثلاثة تثمر في طبائع النساء ما ليست تثمره في طبائع الرجال، فهؤلاء وهؤلاء يغارون، ولكن أحرى الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق، وأخسر صفقة في الضياع.
الصبر على الحياة1
لفت نظري من أخبار الصحف كثرة حوادث الانتحار التي تقع في هذه السنوات، وتفاهة الأسباب التي تبنى عليها بالقياس إلى ما يعده الناس سببا كافيا لنبذ الحياة ومفارقة الدنيا، والمفارق لها باختياره على ثقة من العدم بعدها إن كان من منكري الديانات، كما يظن بالمنتحرين، أو على ثقة من العذاب إن كان مؤمنا بالله واليوم الآخر، ومصدقا بتحريم قتل النفس ولو كان القاتل صاحبها وأحق الناس بصيانتها أو التفريط فيها.
ففي مصر وفي أوربا نسمع أنباء عجيبة من أنباء الانتحار ألفها الناس فكانت إلفتهم لها عجبا آخر من عجائبها الكثيرة ، فهذا يقتل نفسه سآمة ومللا ولديه المال والصحة والوجاهة، وهذه تقتل نفسها حزنا على فنان كانت تحب رواياته أو تأنق بشخصه، وغيرهما يقتل نفسه لغير سبب ظاهر، أو مع ما يبدو للناس من وفرة دواعي الحياة عنده، وكثرة وسائل المتعة لديه، وتنتقل من هذه الفئة التي لا يكاد يكون انتحارها تبرعا لغير سبب إلى فئة أخرى تعرف أسباب سخطها على الحياة، ولكنك لا ترى فيها وجها لطلب الموت والإقدام على أيأس اليأس الذي يقدم عليه إنسان، وقد يسهل علينا تعليل ذلك كله باضطراب الأعصاب، واختبال الحواس، ولكنها مسألة يبقى فيها وراء هذا التعليل مجال للنظر، وموضع للاعتبار.
إن الانتحار داء قديم عرفته الأمم الغابرة، فأحله أناس وحرمه آخرون، وكانوا في تحريمهم إياه على رأي يقرب من آراء المعاصرين في هذا الموضوع، ولكننا لا نخال النظرة التي كان ينظر بها الأقدمون إلى «الموت المختار» تشبه نظرتنا نحن إليه، ولا نحسبهم كانوا يفكرون في دنياهم كما نفكر نحن في دنيانا الآن.
فكان فيثاغوراس ينكر الانتحار كما ينكره رجال الدين من المسلمين والمسيحيين؛ أي أنه كان يعتبره عصيانا لله وتمردا على إرادته، وينهى الناس أن يبرحوا موقفهم في الحياة بغير إذن القائد الذي وقفهم فيه وهو الله، وكان بيوليوس شارح فلسفة أفلاطون يقول: إن الرجل العاقل لا يطرح بدنه أبدا إلا بمشيئة الله، وحرم أفلاطون الانتحار لأسباب كأسباب فيثاغورس، ولكنه أباحه عندما تقضي به الشريعة، أو يهبط الإنسان إلى الدرك الأسفل من الفاقة.
أما أرسطو وهو رجل الدولة بين الفلاسفة فقد حرمه؛ لأنه عدوان على حقوق الدولة المفروضة على الأفراد، وهو سبب كما ترى يقارب السبب الذي بني عليه تحريمه في القوانين الحديثة، واستحقاق صاحبه العقوبة والملام.
وقد وجد من المفكرين الأقدمين من أباح الانتحار كما أباحه دافيد هيوم الإنجليزي، وشوبنهور الألماني، في هذه العصور، وكان طليعة أولئك المفكرين «سنيكا» الذي كان هو أحد عظماء المنتحرين المشهورين في تاريخ الرومان، ولكن سنيكا تجاوز كل حد وصل إليه فلاسفة الزمن الأخير في هذا المعنى إلى تحبيذ الانتحار، والإطناب في مدحه، ووصف ترفيهه عن المتعبين والمعذبين.
يقول «ليكي» مؤرخ الأخلاق الأوربية من أوغسطس إلى شارلمان - وهو الذي نعتمد عليه في رواية هذه الآراء - إنه «لا محل للشك في أن حكم الأقدمين على الانتحار يختلف اختلافا بعيدا من حكمنا نحن عليه، فقد تعاقبت المدارس الفلسفية باستحسانه، ولم يبلغ قط في رأي منكريه مبلغ هذه الشناعة التي نسمه بها في الوقت الحاضر، ويرجع ذلك من الوجه الأول إلى رأي الأقدمين في الموت، ثم إلى اعتبار آخر علينا أن نذكره، وهو أن المجتمع متى تعود مرة أن يقبل الانتحار فقد تزول وصمة الإجرام عن الفعلة، بعد أن تزول عنها صبغة العار والمسبة؛ لأن الذين يعتقدون أن الخجل والألم اللذين يجنيهما المنتحر على أسرته ليسا هما كل جريمة الفعلة يسلمون أنها من دواعي الغلو في الحكم عليها، فهذا الغلو إذن لم تكن له من داعية في تفكير القدماء. بل لقد كان أبيقور ينصح الناس بأن يزنوا ويدققوا الوزن ليعلموا هل هم يؤثرون أن يأتي الموت إليهم أو أن يذهبوا باختيارهم إلى الموت، وقد أمات الشاعر لوكريتس أحد تلاميذه بيده كما فعل كسيوس، وأتيكوس صديق شيشرون، وبترونيوس الشهوان، وديودروس الفيلسوف، وكان بليني يقول: إن حظ الإنسان أرجح من حظ الآلهة في شيء واحد على الأقل، وهو أنه قادر على الفرار بنفسه إلى القبر! وكان يقول: إن من دلائل كرم العناية أنها ملأت الأرض عقاقير شتى يجد فيها المتعبون طريقهم إلى الموت بغير عناء ولا إبطاء، ومن الذكريات التي تخطرها على بالنا الإشارة إلى شيشرون ذكرى هجسياس الذي كان الأقدمون يلقبونه بخطيب الموت، وكان معلما نابغا من معلمي المدرسة القيروانية يرى أن الموت هو الغاية التي لا غاية بعدها للكائن العاقل، وأنه لما كانت الحياة موقرة بالهموم وكانت مسراتها زائفة سريعة الزوال كان الموت هو أسعد نصيب يتوق إليه الإنسان، ولقد بلغ من فصاحة لسانه ومن فتنة السحر الذي أحاط به القبر أن كان تلامذته يقبلون فرحين على تحقيق وصاته، وأن كثيرين منهم أراحوا أنفسهم بالانتحار من مضانك الحياة، وقد اشتدت عدواه حتى قيل: إن بطليموس اضطر آخر الأمر إلى نفيه من الإسكندرية.»
ولكنه في روما بين الرواقيين الرومانيين كان للانتحار شأنه العظيم وفلسفته المتقنة، فقد كان قتل النفس منذ عهد عهيد كما روي في حادثتي كرتيوس ودشيوس شعيرة من شعائر الدين كأنها كانت بقية لشعيرة التضحية الآدمية، ثم جاءت في أواخر الأيام الوثنية حوادث عدة جنحت بالآراء إلى هذه الوجهة، منها أمثولة «كاتو» الذي أصبح قدوة الرواقيين، وأصبح انتحاره المسرحي عندهم سياقا للبلاغة والبيان، ومنها قلة المبالاة بالموت التي بثتها في النفوس مناظر المصارعة والجلاد، وحوادث المئات من الأسرى الذي كانوا يأبون أن ينحروا أبناء وطنهم أو يسخروا لتلهية آسريهم فيدورون نصالهم إلى أعناقهم، أو يلتمسوا لهم مهربا إلى الحرية أبشع من هذا وأنكى، ومنها سنتهم التي استنوها بإلزام المسجونين السياسيين أن يقضوا على أنفسهم بأيديهم، وأعظم من هذا كله كان طغيان القياصرة الذي ارتفع بالانتحار إلى أجل مقام، فقل أن نسمع بشيء أبلغ في النفس أثرا من ذلك الفرح الذي استقبله به «سنيكا» في عهد نيرون واجدا فيه الملجأ الوحيد للمظلوم، والمعقل الأخير للعقل المنهوك، فهو يقول: «إنما بفضل الموت لا تكون الحياة عقوبة، وبفضل الموت أستطيع أن أقف رافع الرأس بين يدي الجد العابس، فأحتفظ بعقلي سليما وجأشي رابطا. إن لي مرجعا أعتصم به وأحتكم إليه. أرى أمامي الصلبان على أشكالها، وآلات العذاب والسياط بأنواعها لكل عضو من أعضاء الجسد، وكل عصب في البدن، ولكني كذلك أرى الموت! أراه وراء ما يسمو إليه أعدائي الهمج الضراة، وأبناء وطني المتغطرسين، وأن الاستعباد لتذهب عنه مضاضته حين أعلم أنها خطوة واحدة أخطوها فتخرجني من الأسر إلى الحرية.» •••
وقد أخذ الكاتب بسرد الأمثلة العديدة من التاريخ الروماني عن العظماء المنتحرين، وأقوال الفلاسفة في الانتحار بما لا يختلف عما سبق، وفي ذلك إجمال للنظرة التي كان ينظر بها الأقدمون إلى قتل النفس نعرضه فنعلم أنها غير نظرتنا نحن إلى هذه الفعلة من جانبي الفكر والأخلاق، فإن الأديان قد علمتنا أن الحياة نعمة الله على الأحياء، فمن رفضها وأبق منا فإنما يكفر بنعمته ويهرب من قضائه، ثم جاءت المذاهب الحديثة فعلمتنا أن الحياة واجب وتبعة فمن نقضها عنه، فإنما ينكص ويعجز فيعاب عليه ضعف الإقدام ونقص الاقتدار، وكذلك تجرد الانتحار من حلية الفخر والشجاعة التي كان يزان بها في أيام الوثنية، ولا سيما على عهد الدولة الرومانية، وظهر لنا في هيئة أشرف ما تناله منا العذر والرثاء، وأغلب ما تقابل به بين الناس التأفف والازدراء، ولكنه بعد هذا لا يزال باقيا كما كان بين جميع الطبقات، ولا يزال اللاجئون إليه على مثل نسبتهم في الأزمنة الغابرة إن لم تقل إنهم يزيدون، فكيف نفسر هذا؟ وكيف لم تنقص هذه الآفة مع اختلاف النظر إليها؟ أترى أن الحياة أهون علينا وأصغر في أعيننا مما كانت في أعين القدماء؟ أترى أن أولئك القدماء كانوا يجدون فيها سعة وجمالا لا نجدهما، ويصيبون بين أحضانها متعة وراحة فوق ما نصيب! لا نظن! وإنما المسألة هنا مسألة صبر لا مسألة رغبة، ومسألة ضعف عن احتمال الآلام لا مسألة زهد في جمال الحياة.
فما نرجحه ونكاد نؤكده أننا الآن أهيب للآلام الجسدية والنفسية، وأضعف منه على الأذى من أجدادنا الأولين، وقد يظهر لهذا الخلق فينا جانبه الحسن كما يظهر لنا جانبه القبيح، فنحن لا نطيق اليوم أن نرى مسجونا يجلد أو أسيرا يلقى بين براثن السباع، ونحن لا نستحسن تلك المشاهد الدموية التي كان يستحسنها الأقدمون، لو أنها عرضت علينا كما كانت تعرض عليهم. هذا جانب حسن في ذلك الخلق الذي أومأنا إليه، فأما الجانب السيئ، فهو أننا لا نطيق الصبر على مكاره الحياة، ولا نحجم عن نبذها على وتيرة أبناء العصور الماضية، مع أنهم كانوا ينبذونها مبجلين غير ملومين، ونحن لا ننبذها إلا مهانين أو معذورين. •••
وقد لاحظ المطران الفيلسوف «آنج» ذلك الخلق في فصل عقده على الدين بين القدماء والمعاصرين فعجب لغفلة أولئك - واليونان منهم على الخصوص - عن دمامة المناظر القاسية التي كانوا يتلهون بها، ويخفون إليها على ما في فطرتهم من حسن الذوق وحب الجمال، وحسبنا أننا قد ترقينا عليهم في ذوق الجمال الأدبي، وإن كنا لا نبذهم في أذواق الجمال الحسية، وما تتراءى فيه من مبدعات الفنون، وقال: «من المحقق أن مقتنا لهذه المناظر يصدر عن أسباب ذوقية أكثر من صدوره عن الأسباب الخلقية، وأذكر أنني ذهبت قبل سنوات عدة إلى رواية حمقاء موضوعها روما القديمة، عرضت في ليلتها الأولى فجيء فيها بمسيحي من صدر المسيحية ليعذب على المسرح عذابا هينا، فما هو إلا أن سقطت عليه ضربة السوط الأولى حتى وثب جيراني صارخين: يا للعار! يا للفضيحة! دعونا من هذا! فاضطرت الفرقة إلى إلغاء المنظر في الليالي التالية، وحدث أن العمال في بعض المصانع عطلوا المصنع كله ساعة؛ لأنهم سمعوا بين العدد هرة تموت فلما أنقذوها بشق النفس خنقوها! وإنني أترك تفسير هذا الإحساس المفرط لجماعة النفسيين، ولكنني على يقين أننا هنا حيال تطور في إحساس الجمال.»
إن هذا الذي يحسبه المطران «آنج» تطورا في إحساس الجمال، لا نحسبه نحن إلا مظهرا لضعف الاحتمال الذي فشا في العصر الحديث بين سكان الحواضر وبيئات الصناعة والضوضاء، والمطران الحكيم يلاحظ العلاقة بين فرط الإحساس وانتشار الصناعة، ولكنه لا يريد أن يجعل لهذه أثرا في إضعاف الاحتمال ونهك الأعصاب، فنحن لا نظلمها إذا ردننا إليها بعض الأثر، وضفنا إليها أثرا آخر من شيوع المخدرات وكثرة تكاليف الحياة، وسرعة أعمالها واشتداد زحامها، ولا نخالنا أرفع من اليونان ذوقا في الجمال الأدبي؛ لأنهم يجلدون الجواري الضعيفات ونحن نشفق من جلد الحيوان الأعجم! فإنما سبب ذلك فيما نعتقد أن الألم البدني لم يكن له رهبة على نفوس اليونان كرهبته علينا نحن في هذا الزمان، فلقد كانوا يزاولون الصراع، ويجرحون ويجرحون في الميدان، ويرون الصبر على الألم بعض مستلزمات البطولة وجمال الجسد وصحة الأعضاء، أما اليوم فقد أصبحت البطولة عندنا بطولة رصاصة تطلق من بعيد ولا تريك من شناعة قتيلها بعض ما تراه في ميدان الحرب بالسيوف والرماح، وما أخلق الرجل الذي تعود أن يغمد سيفه في لحم رجل مثله، وأن يفخر بهذه الشجاعة وهذه المهارة في تقليب السلاح، ألا يحس من هيبة الألم الجسدي ما يحسه مطلق الرصاصة وراء الخنادق والأسوار!
فداؤنا الحديث - داء الانتحار وداء كل عجز ونكوص - هو أننا نهاب ألم الجسد، ولا نصبر على عنت البلوى وتبريح العذاب. هذا هو الداء فما هو الدواء؟ الدواء كما يقول الأطباء من جرثومة الداء: رياضة على المشقة واليأس، وصراع بالأيدي وجلاد بالسيوف، ثم تخفيف لوطأة الزحام تشترك فيه حكمة الحكماء وسلطان المشترعين.
كتاب مصري بالإنجليزية1
للشرقيين ملكة في تعلم اللغات لا يضارعهم فيها الغربيون، وحسبك أن تصغي إلى فرنسي يتكلم الإنجليزية، أو إنجليزي يتكلم الفرنسية، أو ألماني يتكلم هذه أو تلك، لتعلم أن القوم لا يعرف أحدهم من لغة غيره إلا هيكلها العظمي، وتعريفاتها النحوية والصرفية وألفاظها كما ينطقها هو بلسانه لا كما ينطقها أبناء اللغة التي يتكلمها، ثم إنك لتصغي إلى شرقي ينطق بإحدى هذه اللغات فيلتبس عليك الأمر، ويخيل إليك أن تصغي إلى واحد من أبناء تلك اللغة في نبرة الصوت، ولهجة الأداء، وأسلوب الحديث، إلا شيئا من الفوارق الطبيعية تلحظه في بعض الأحيان ولا حيلة فيه للتعليم والتلقين.
وقد يخطئ الشرقي الجاهل إتقان اللغة نحوا وصرفا وأسلوبا، كما يتقنها الشرقي المتعلم، ولكنه يحفظ من كلماتها وتعبيراتها ما يلتقطه لأول سماع فيفهم ويفهم بعدة لغات لم يذهب إلى بلادها، ولم تتعد ممارسته لها أن يستمع إلى السائحين الذين يحضرون في بعض فصول السنة إلى هذه البلاد. وبين تراجمة الأهرام، والأقصر، وأسوان، من تعلم على هذه الطريقة ثلاث لغات أو أربعا بغير مشقة وفي زمن وجيز فحذقها كأحسن ما يمكن أن تحذق اللغات على هذا الأسلوب، وربما كان من أسباب هذه البراعة اللغوية عند الشرقيين أنهم قديمو العهد بالعلاقات الأجنبية منذ ألوف السنين في إبان صولتهم الغابرة ومجدهم التليد، فقد كان في هذا الشرق القريب أمم شتى يرحل بعضهم إلى ديار بعض، ويرحلون جميعا إلى ديار الغرب يوم كان الغربيون في عزلة الجهل والبداوة، يكاد أحدهم لا يتخطى أرض وطنه أو يخاطب غير أهله، وكانت علاقات السياحة والتجارة والاستعمار أقدم في الأمم الشرقية وأطول أمدا من علاقات الغربيين في الزمن الأخير، وبين الأسباب التي تعلل بها ملكة اللغات عند الشرقيين أنهم أسرع عطفا، وأقرب مودة وامتزاجا، في عهديهم القديم والحديث، ولا يخفى أن التفاهم إنما يسري في النفي مع سريان العطف والمودة، وأن الطفل الصغير إنما يتعلم محصوله في اللغة ممن يأنس بهم ويحب الاستماع إليهم، وكلما عظم الأنس وارتفعت الوحشة، كان حظه من التعلم أوفى ورغبته فيه أصح وأكمل، ولولا ذلك لحال النفور بينه وبين الإتقان وسهولة الفهم والإفهام.
على أننا نلاحظ غير هذا وذاك أن للألفاظ عند الشرقيين شيئا أكبر من شأنها عند الغربيين، وأن حروفنا أكثر من حروفهم، وألسنتنا أقدر على النطق بمخارج الحروف الصعبة من ألسنتهم، فالحاء والخاء والضاد والعين والغين والقاف من أصعب الحروف على الغربيين، ولكنها حروف دارجة في لغات الشرق القريب يلفظها الطفل الذي اكتملت أداة نطقه بغير عناء، ولا يفلح الغربي في النطق بها إلا بعد العناء الطويل، ولسنا نقول: إن الفرق هنا بيننا وبين الغربيين تفاوت في الطبيعة واستعداد الفطرة، ولكنه على الأقل فرق قديم في العادة والمرانة يقرب من التفاوت المطبوع. •••
نكتب هذا وبين أيدينا كتاب حديث ألفه مصري باللغة الإنجليزية، فأجاد فيه العبارة وأوفى على غاية من الحذق في اللغة قل أن يتجاوزها جمهرة الأدباء الإنجليز في هذا الزمان، فأما الكتاب فعنوانه: «سرنديب أرض السحر الخالد»، وأما المؤلف فهو الأستاذ علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية بالقصر الملكي، ولم نقرأ هذا الكتاب كله، ولعلنا لا نأتي عليه يوما، ولكننا نقول: إن الشذرات التي ألممنا بها هنا وهناك، ألمستنا مكان السحر في نفس المؤلف واقتربت بنا من السحر في أرض سرنديب، ودلتنا على نصيب صاحبنا من اللغة التي اختارها لتأليف كتابه.
يقولون: إن الوطن أرض وسماء وهواء، ويقول آخرون إن الوطن تراث قديم ووشائج روحية تنغرس في الطباع، ويتوارثها الأبناء عن الآباء، وقد حل لنا الأستاذ طلبة عقدة هذا الخلاف بحبه لمصر وحبه لسرنديب، ورأيه في موطن البلاد وموطن الأواصر الروحية والتراث القديم، فما جزيرة سرنديب وما سحرها الخالد أو الزائل في رأي الألوف والملايين الذين يعيشون على أرجاء الأرض تحت هذه السماء! أقول لك الحق: إن الكثيرين ليستكثرون على الجزيرة كتابا كبيرا كالكتاب الذي أفرغه المؤلف لها ولنوادره في بلادها، وإنهم قلما يفقدونها على «الخريطة» إذا هي زالت من مكانها عليها! ولكن سل المؤلف ما هي سرنديب وما سحر سرنديب؟! تسمع منه ما يوحي إليك أن سرنديب هذه بقعة مقصودة بتدبير وعناية في رسم بناء الكون لا تتم الكرة الأرضية بغيرها، ولا تنوب عنها بقعة بين الأرض والسماء إذا هي احتجبت من مكانها، ولم ذاك؟! لأنه ولد فيها فكان لها ذلك السحر وتلك القداسة، ورجحت على سائر بلدان العالمين، وهكذا تنشأ قداسات الأوطان، والأديان، والمبادئ، والعواطف، في طبائعنا نحن الذين نحسب هذه الطبائع أصدق حكم على هذا الوجود. •••
ولسنا نوغل بك أيها القارئ في أنحاء الجزيرة، ولا في مناظر فتنتها التي وصفها المؤلف وأضفى عليها من إعجابه وافتتانه ما استطاع، فتلك المناظر كثيرة يحسن بالقارئ أن يرجع إليها في مواضعها، وأن يعتمد فيها على المؤلف الذي وصفها وصفا دقيقا يعوض عليك ما ينقصها من سليقة الشعر وبهجة الخيال، ولكنني أحببت أن أقف عند حكاية كانت بين أول ما قرأت في الكتاب ولفتتني إليها أنها قد تروى عن بعض بلاد الشرق الأخرى، كما تروى عن جزيرة سرنديب. قال المؤلف: «أوصيت بصنع عصوين من الأبنوس الجميل عليهما مقبض من العاج في شكل رأس فيل، وفي صباح اليوم الذي تسلمتهما فيه فحصتهما فحصا جيدا؛ لأن المثل يقول: «من لدغ مرة خاف مرتين»، وقد زادتني قصة الحرير الصيني حذرا، فما كان دهشتي وغضبي حين وجدت في كلتا العصوين خدوشا تخفى في إحداهما ولا تظهر، إلا بعد إنعام النظر، وقيل لي: إنها مما لا بد منه في الأبنوس كله، أما الأخرى، فقد كان عيبها ظاهرا مكشوفا بحيث لا تصلح للإهداء، فذهبت مع صديق لي إلى الدكان لننظر في أمر العصوين، وأفاض القوم هناك في إبداء الأسف والاعتذار، وقبلوا عن طيب خاطر أن يبدلونا بالعصا المعيبة عصا سليمة، ثم لم ألبث أن بلغ مني الاشمئزاز والسخط حينما أخبرني صديقي أنه ذهب بعد ذلك إلى الدكان ليستعجلهم لقرب سفري - وكنت يومئذ في كاندي - فسمع أحد الدكانية يخبر صاحبه أنه لا يظن إبدال العصا في الإمكان، وإنما يمكن أن تملأ الخدوش منها بالعجين وتداوى بحيث تبدو كأنها عصا جديدة. ونبهني صديقي إلى ذلك لأكون على حذر حين تسلمها، فصح ما أنذرني به واجترأ القوم فعلا على إرسال العصا الأولى بعينها مطلية بطلاء يخفى على غير الحريص. ولكن «محمدا» الذي كنت أخبرته بالقصة كشف الحيلة وأراها للرجل الذي جاء بالعصا قبل تسليمها إلي.»
هذه قصة لا أظن سائحا في بلد شرقي إلا وقد حدث له من أمثالها ما يدعوه إلى الأسف والاحتراس، ولست أقول : إن السائحين في الغرب لا يصادفون مثل هذه الخدع الوضيعة والصغائر المضجرة، ولكنني أردت أن أقول: إن الخداع في الغرب إنما يكون من شأن المحتالين الذين تجردوا للاحتيال، وليس من شأن أصحاب المتاجر المؤسسة والأعمال الدائمة، كما يحدث عندنا في بعض البلاد الشرقية، وقد وقعت لي قصة في بيروت كهذه في دكان مشهور يبيع المنسوجات الوطنية، وسمعت قصصا شتى يرويها السائحون من هذا القبيل، ولو شاء ذو غرض لعد ذلك الاحتيال عيبا أصيلا في أخلاق الشرقيين تنزهت عنه الأخلاق الغربية أو اقتصر بين الغربيين على فريق قليل دون الفريق الأغلب المشهور، والحقيقة أن العيب هو قصر نظر في العقول يزول بزوال أسبابه، وليس بعيب في الطبائع والأخلاق يمتنع على العلاج والإصلاح، ومنشؤه فيما أرى أن الغربيين قد تعودوا أعمال «التعاون» قبلنا فتعودوا الثقة التي لن يتم التعاون بغيرها، وأن سهولة العيش في الشرق قد أقنعتنا بالجهود الفردية فرضينا بالفرص الطارئة والمكاسب الموقوتة، ولم ننظر إلى الدوام والاستمرار، ولو كان العيش في الغرب سهلا يقوم به كل إنسان على حدة كما هي حالة الشرق منذ آلاف السنين لما اضطر الغربيون إلى الاشتراك في العمل ولا دفعوا إلى آدابه وسياسات نجاحه، وفي مقدمتها سياسة الصدق والأمانة، فإذا أحسنا التعاون غدا كما يحسنه الغربيون، فذلك صلاح في عالم الأخلاق يضاف إلى ما فيه من صلاح في عالم الاقتصاد. •••
وبعد فهل أصاب المؤلف في إظهار كتابه باللغة الإنجليزية، أو كان الأجدر به أن يبدأ بإظهاره في اللغة العربية! إن بعض الكاتبين في الصحف الإنجليزية التي نوهت بالكتاب يعطينا ما يشبه الجواب عن هذا السؤال فيقول: «يرى المؤلف المصري أن وضع الكتب باللغة العربية عمل غير مجد من وجهة المال؛ لأن الجمهور الذي يشتري كتب الأدب القيمة في مصر محدود، وأصدقاء المؤلف ينتظرون منه الهدايا فلا أمل له في الفائدة، وكثيرا ما يصاب بالخسارة، فلا بدع إذن أن نرى بعض أصحاب الهمة العملية يؤثرون الكتابة بلغة أجنبية، وأن شاعرين مصريين أحدهما أمير، والآخر ابن وزير سابق، قد نشرا في اللغة الفرنسية كتبا أطنب النقاد الفرنسيون في الثناء عليها، وقد طبع حسنين بك الرحالة المصري كتابه الممتع عن الواحة المفقودة باللغة الإنجليزية الجيدة، ونشرته مكتبة بترورث قبل أن تنشر طبعته العربية، وظهر في هذا الأسبوع على يد مكتبة هتشنسون كتاب عنوانه «سرنديب أرض السحر الخالد» لمؤلفه علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية في القصر الملكي الذي ولد في سرنديب، وتعلم في مدرسة كنجزود بمدينة كاندي، وكان والده أحد المنفيين إليها بعد الثورة العرابية.»
وكل ما ذكرته الصحيفة الإنجليزية حق لا ريب فيه، فإن الكتاب الذي يروج في لغة أوربية يجدي على صاحبه ما ليست تجديه حياة طويلة تنقضي بيننا في التأليف والترجمة، وقد ينقل إلى لغات غيرها فيكبر حظه من الربح والسمعة، ويغريه الإقبال بالمثابرة والمزيد، وشيء آخر يحبب إلى المؤلف الكتابة في اللغات الأوربية غير ما تقدم، وهو حركة العطف وتبادل الفكر والإحساس التي يشعر بها من يلقي في عالم الأدب هناك بكتاب يودعه ما يودع من ذات نفسه وفكره، فليس سرور التأليف والإفضاء بما في القلب والعقل إلا هذا السرور الذي يوسع نطاق الحياة ويطرد عنها وخامة الركود الآسن والسكون الوبيء، ولا يلزم أن يكون العطف الذي يثيره الكتاب حبا وتمجيدا، بل يكفي أن يكون حركة واهتماما وتجاوبا في الإحساس والنظر ولو على المتناقضة والعداء، وهذا هو الأثر الذي لم يكتب لشرقي في أرضنا، ولا يطمع فيه شرقي في هذه الأيام، فمن تحدث بيننا بلسان الطباعة فليكن كذلك الذي يطلق لسانه ثم يغمض عينيه ويوصد أذنيه؛ لكيلا يعلم أن القوم حوله يعرضون عنه أو يصغون إليه، ويصمتون ليستمعوه أو يتشاغلون عنه باللغط والهراء! وليصبر على هذا الحديث صبر المجانين المبتلين بداء التحدث والهذيان.
لماذا يكتب المؤلف ويطبع ما يكتب؟ للإفضاء بما في نفسه أو للكسب أو للشهرة؟ فإذا علمنا بعد هذا أن الذي يفضي بذات نفسه يفضي بها إلى من لا يجاوبه ولا يردد صداه، وأن الرغبة في المطالعة بيننا لم تبلغ إلى الآن أن تكفي كاتبا واحدا مؤنة الرزق، أو تغنيه عن مزاولة عمل يكفل له مطالب الحياة، وأن شهرة الكاتب الشرقي لا تتعدى عشرة آلاف قارئ على أكبر تقدير يقابلهم ألوف الألوف من قراء الكتاب الغربيين، إذا علمنا هذا فقد علمنا أنه ما من شيء يحبب إلى المؤلف أن يكتب في اللغة العربية، إذا ضمن الرواج في غيرها إلا غيرة الوطن، وغرام التضحية، وأمل في المستقبل يطول عليه الزمان، وتمطله الحوادث والصروف.
هذه حقيقة قد تتعزى عنها بحقيقة أخرى نذكرها عن عالم التأليف بين أصحابنا الغربيين، وتلك هي أن المؤلف هناك لا يضمن الرواج حتى يقبل عليه الناشرون، ولا يقبل عليه الناشرون حتى يكتب في الأغراض التي يهواها سواد القراء، ولا يهوى سواد القراء إلا ما سخف أو امتزج بالسخافة من نفايات اللهو، ومزجيات البطالة والفراغ، فإذا اعتمد المؤلف على نفسه في النشر ولم يلجأ إلى البيوت المشهورة بطبع الكتب الرائجة، فذلك أسوأ إعلان يتشفع به إلى القراء! لأنهم يقولون حينئذ لمن يعرض عليهم كتابه إن وصل إلى أيدي العارضين: لو كان الكتاب جديرا بالقراءة لوجد من ينشره ويتصدى لبيعه، أما وهو كما نرى باد عليه دلائل الرفض والإعراض، فهو غير حقيق منا بالقبول!
حقيقة بحقيقة! فأيهما أسوغ في النفس وأطيب في المذاق.
شتان هذه وتلك على كل حال: فإحداهما حركة خاطئة، والأخرى ركود عقيم، وشتان ركود الجماد وحركة الحياة.
التجميل في الأسلوب والمعاني1
يقول أمييل في جريدته راويا عن أديب لم يسمعه: «إن هذا الأديب يبدي ملاحظة جد صادقة عن أسلوب رينان، وهو يلفت النظر فيه إلى التناقض بين ذوق الفنان الأدبي ذلك الذوق الدقيق المبتكر الصادق، وبين آراء الناقد تلك الآراء المستعارة القديمة المضطربة، وإنما الاضطراب هنا اضطراب المتردد بين الجميل والصادق، أو بين الشعر والنثر، أو بين الفن والبحث، وهو أمر بين في رينان، فإنه لشديد الشغف بالعلم، ولكن شغفه بالكتابة الحسنة أشد، وقد يدعوه ذلك عند الضرورة إلى التضحية بالعبارة المحكمة في سبيل العبارة الجميلة، فالعلم مادة له وليس بغاية ولكنما الغاية هي الأسلوب، ولكلمة واحدة أنيقة أغلى في عينيه عشرا من العثور على حقيقة ثابتة أو تاريخ صحيح، وإني لأراه على صواب في هذا فإن الكتابة الجميلة إنما تكون كذلك بنوع من الصدق هو أصدق من سرد الوقائع المجردة، وكذلك كان رأي روسو.»
والذي يقال هنا عن رينان قد قيل كثيرا عن غيره من الكتاب والأدباء، فليس بالقليل بين الشعراء ورجال الفنون من وصفوا بهذه الصفة، وقيل في نقدهم إنهم يؤثرون الجمال على الحقيقة. هذه كلمة شائعة خرج بها بعضهم عن معناها، وأعجبتهم رنتها فوضعوها في غير موضعها.
لقد خيل إلى بعض القراء أن الجمال شيء يناقض الحق ويضحي به أحيانا في سبيل ظهوره، وهذا من تحريف الكلم الذي نود أن نوضح مكان الزيغ منه، ونحرر نصيب الصدق فيه.
إننا نشك كل الشك في وجود ذوق فني مطبوع على حب الجمال الصحيح يضحي بالحق في سبيل الجمال، فإن تعمد التضحية بالحق غش أثيم تنبو عنه طبيعة الذوق السليم، والرجل الذي يعلم أنه عثر على المعنى الصحيح، ثم ينبذه مختارا ليخلفه بعبارة تبرق في النظر، أو تظن في السمع يزيف على نفسه تزييفا لا ترضاه السليقة الجميلة، ولا الذوق المستقيم، فالقول بأن كاتبا يضحي بالعبارة المحكمة عند الضرورة؛ من أجل العبارة الجميلة - وهو عالم بذلك - فيه تجوز يدل على سوء فهم للحق أو سوء فهم للجمال، وفيه مبالغة كمبالغة الصور الهزلية التي قد تغتفر أحيانا للدلالة على نظرة خاصة يقصدها المصور، لا للدلالة على الصدق والإحكام.
قد يضحي الكاتب بالحق في سبيل البهرج الكاذب؛ لأنه لا يتذوق جمال الحق، ولا بساطة الجمال، أما التضحية العامدة بالحق في سبيل الجمال فأمر لا يتفق، ولا ندري كيف يسيغه طبع قويم.
والبهرج كما لا يخفى غير الجمال وإن ظن أنه منه، أو خيل أن البهرج هو إفراط في الجمال وتزيد منه إلى فوق المحمود. بل نحن نقول: إن البهرج يناقض الجمال، وإن الإعجاب به دليل على ضلال مشوه عن الذوق الجميل ، فهو شيء سطحي إذا لفتك فقد بلغ الغاية، وأعطاك كل ما عنده ولم يبق لديه من سر غير ذلك السر الذي يقف عنده الحس، ويجمد عنده الخيال، وهو صورة تلقي بكل ذخيرتها لأول نظرة تجتذبها من عين الناظر، أو أول لفتة تسترعيها من أذن السامع، فهو عقبة تستوقف الناظرين والسامعين، وقيد يغل الحس والتفكير، أما الجمال فنقيض ذلك؛ لأن ما يبدو منه لأول وهلة هو أقل ما فيه، أو هو رائده الذي يسعى أمامه ليدل على وصوله، وهو لا يستوقف الحس ولا يعطل التفكير والخيال، ولكنه يطلق النفس في هوادة ورفق، ويسلس في الطبع شعور السماحة والاسترسال.
وإذا أردت أن تعرف منتهى ما يبلغ إليه البهرج، فلك أن تقول: إنه هو وهج في النظر، وقرقعة في الأذن، ولذع في الحس، وتهييج في الشعور، ومتى انتهى إلى ذلك فقد افتضحت طبيعته المادية، ووصل إلى حد المضايقة والإرهاق، أما الجمال فلا يزيد في «المادية» كلما زاد في الحسن والظهور، ولا يتمادى إلى إعنات الحواس بالغا ما بلغ في السمو والكمال، ولكنه يتجه إلى النشوة الروحية، والنعيم الذي لا يشوبه حس منزعج، ولا جسد منهوك، فأنت تقول هذا بهرج ويثقل على النظر إذا زاد على حده، ولا تقول هذا جمال يثقل على حاسة من الحواس إذا أعجبك سموه وكماله؛ لأن الجمال لا يعلو في الدرجة كلما ضعفت أعصاب الوظائف الحسية عن احتماله، وإنما تقاس درجاته بما يوليه النفس من نشوة وطلاقة وارتياح.
فمعقول أن يترك الكاتب الحق ليلهي قارئه بالبهرج الزائف؛ لأن الحق لا يثير الحس بطبيعته فهو لا يغني عند القارئ الساذج غناء البهرج الذي يسترعيه من هذه الناحية، ويلذه كما يلذ الطفل البريق والطنين، ولكن غير معقول أن يترك الكاتب الحق ليلهيك بالجمال؛ لأن استمتاعك بالحق لا ينفي استمتاعك بالجمال، وكلاهما يسعيان في طريق واحدة ويلطفان النفس بلذة متشابهة، فإذا بلغ الجمال أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الحق، وإذا بلغ الحق أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الجمال ، ولا موجب لترك أحدهما من أجل صاحبه، أو للتفريق بينهما في ذوق الفنان القدير والقارئ الخبير.
ولزيادة الإيضاح نسأل من يزعمون هذا الزعم: لماذا يترك الكاتب المعنى الصادق إيثارا لجمال الأسلوب؟
إن ذلك لا يعدو أن يرجع إلى سبب من سببين: فإما أن يكون التعبير عن ذلك المعنى الصادق بأسلوب جميل مستحيلا كل الاستحالة؛ أي أن يكون ذلك المعنى الصادق مقضيا عليه ألا يبرز أبدا إلا في قالب دميم من اللغة والأسلوب، وهذا ما لا يقوله أحد ولا يستطيع أن يفرضه عاقل، إذ لكل معنى حظه من الصياغة الجميلة يلهمه في الكتابة من هو قادر عليه، ولم يوجد بعد ذلك المعنى الذي تضيق به الأساليب، إلا ما كان معيبا مشروطا فيه النقص والتشويه.
وإما أن يكون السبب الذي يحمل الكاتب على ترك معناه الصادق إيثارا للأسلوب الجميل هو إحساسه بالعجز عن إفراغ ذلك المعنى في قالب البلاغة والجمال، فليس يصح إذن أن نقول: إنه قد ترك الحق لأجل الجمال إذ كان الجمال ها هنا ميسورا لو استطاعه، ولم يكن ثمة تناقض بينه وبين الحق على وجه من الوجوه، ولكنما نقول: إنه ترك معنى صادقا إلى معنى آخر له نصيبه عنده من الجمال والصدق، أو البهرج والبهتان.
فلا يغترن أحد بتمويه أولئك الذين يعتذرون من الكذب بالجمال، فإنما الكاذب عاجز عن الصدق وعن الجمال في وقت واحد، ولا يتوهمن أحد أن الحق يناقض الجميل، وأن كاتبا مطبوعا على الصدق يطيق أن يزوره مرضاة لما يسمى بالذوق السليم، فإنما يصنع ذلك أصحاب البهرج والتزييف، وليسوا هم من سلامة الذوق على شيء كبير ولا صغير، والفرق بعيد كما رأينا بين البهرج والجمال؛ لأنه فرق بين العقبة والطلاقة، وبين ما يخاطب الوظائف الحسية وما يخاطب الملكات الروحية، وبين ما يفرط فيمل الخاطر ويثلم الحس، وما يفرط فيزيدك نشاطا إلى نشاط، ومرحا إلى مراح.
كنا نتذاكر هذا المعنى منذ أيام مع إخوان من الأدباء، فاقترحنا أن نتطارح أبياتا يتفق لها جمال الأسلوب وجمال المعنى، وذكر بعضهم هذا البيت:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وذكر آخر بيتين يناسبانه:
كأن فجاج الأرض وهي فسيحة
على الهارب المطلوب كفة حابل
يؤتى إليه أن كل ثنية
تيممها ترمي إليه بقاتل
وذكر آخر بيتين آخرين:
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين! والغايات بعد المذاهب
وقابلنا بين هذه الأبيات السائغة، وخلوصها بالذهن إلى المعنى في ثوب من اللفظ شفاف لا تستوقف منه لفظة مزوقة، ولا تعطلك لديه نكتة فارغة، وبين أقوال البديعيين في مثل البيت المشهور:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
أو مثل هذا البيت:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
أو مثل:
إذا ملك لم يكن ذا هبة
فدعه فدولته ذاهبة
فتساءلنا: أي فرق بين الأبيات السابقة والأبيات اللاحقة هو أظهر من سائر الفروق، وأدل على البعد بين طبيعة الصدق وطبيعة التمويه؟ فلم نجد بينهما فرقا أجمع لذاك من أن الأسلوب في الأولى يجوز بك إلى معناه بغير ما توقف ولا انتباه، وأن الأسلوب في الثانية يقف بك عند اللفظ المقصود، فلا تجوزه إلى المعنى إلا إذا أردت ذلك وتعمدته، فالألفاظ في الأولى تخدم المعنى وتريك إياه ولا تريك نفسها، من أجل هذا كانت جميلة وكان قائلها بليغا، والألفاظ في الثانية تستوقفك لديها وتحجب عنك المعنى، ومن أجل هذا كانت مزورة، وكان قائلها مبهرجا لا حظ له من البلاغة والجمال.
ولسنا نرد بما تقدم على ملاحظة «أمييل»؛ لأننا نراه يوافقنا في مدلول نظره ويقول: «إن الكتابة الجميلة إنما تكون كذلك بنوع من الصدق، هو أصدق من سرد الوقائع المجردة» ولكننا نرد على الذين يلغطون بيننا بمثل تلك الملاحظة، ويعتذرون من تحريف المعاني بجمال الأساليب ولا يفهمون أن الصدق هو جوهر الجمال، وأس البلاغة، وقوام الذوق السليم، وقد أصاب «أمييل» حيث فرق بين الصدق في الكتابة، ومطابقة الواقع في التواريخ، فإن الصدق في الكتابة هو النفاذ إلى روح الموضوع، والإحاطة بأصوله ومقوماته، وأما مطابقة الواقع في التواريخ فهي جمع معلومات خارجية حول الموضوع لا تمس روحه، ولا تدخل منه في المقومات، فأنا مثلا أعرف صديقي وأحبه وأعطف عليه، وأستمتع بعطفه وأفهم ما يرضيه وما يغضبه، وما قد عمله وما هو خليق بطبعه أن يعمله، وأستشف بواطن سريرته وأطواء نيته، كما لا يستشفها الذي لا يعرفه ولا يصادقه، ولكني قد أسأل عن تاريخ ميلاده أو البلد الذي ولد فيه أو عن أخبار أهله وأسرته أو موقع سكنه وألوان ملابسه ومطاعمه، فلا أعرف من ذلك ما يعرفه خادمه ووكيله، فإذا كتبت عنه فقد أعطيه عمرا فوق عمره، وأنسبه إلى بلد غير بلده، وأخلط بين أخبار أهله وأخبار أناس غير أهله، وإذا كتب عنه خادمه أو وكيله فقد يصيب حيث أخطأت، ويضبط الوقائع حيث غيرت وبدلت، ولكني مع هذا أظل أصدق منه في الكتابة، ويظل هو أبعد من ذلك الصديق، وأكذب في الإبانة عنه والدلالة عليه، فللصدق في رواية من الروايات جوانب شتى لا تنحصر في الأرقام والوقائع، ولا تحد بالمشاهدة والسماع، وللفن صدق واحد يعنيه، وهو صدق اللباب والجوهر، الذي يقدم ويؤخر في التفريق بين إنسان وإنسان، وموضوع وموضوع.
لهذا نرى «أمييل» أقرب إلى الصواب من «تين» حين لاحظ هذا ما لاحظ على أسلوب رينان في رواية التاريخ، فقد وصف تين في مذكراته مجلسا له مع رينان وبرتلو، فأجاد وصف الرجل في أشياء كثيرة ثم قال: «وقرأ لنا فصلا طويلا من حياة المسيح، فإذا هو يرق في الكتابة ولكن يتحكم! وإذا بأسانيده كثيرة الضعف وليس فيها الكفاية من الدقة، وقد حاولت أنا وبرتلو عبثا أن نقعنه بأنه في كتابه هذا يضع قصة روائية في موضع أسطورة! وأنه يفسد الجانب الصحيح في تاريخه بمزيج من الفروض والتقديرات، وأن رجال الكنيسة سينتصرون عليه ويطعنونه في مواقع ضعفه إلى أشباه ذلك، ولكنه أبى أن يستمع أو يبصر شيئا غير الفكرة التي قامت برأسه، وقال لنا: إنكم لستم «بفنيين» وإن مقالا تجتزئ فيه بالتقريرات والمؤكدات لن تكون له حياة، فقد عاش المسيح فلا بد أن نراه في سيرته يعيش.»
كذلك قال رينان وكذلك كان هو أدنى إلى الحق من أصحاب الوقائع والأسانيد، بل هو كان أدنى إلى روح المسيحية من دعاة المراسم والحروف؛ فما المسيحية السمحة في روحها الحي الصميم؟ هي التقريب بين الله والإنسان، والتوفيق بين ما في الإنسان من روح الله وما في الله من أمل الإنسان، وهذا الذي اهتدى إليه رينان حين مثل لنا في تاريخ المسيح إنسانا إلهيا يمشي معنا على الأرض ويعالج الأشواق والآلام. حتى لقد هم أن يجعل من أحزانه ليلية التسليم أنه كان يلمح وجوه الصبايا التي سيودعها في هذه الحياة.
ولقد كان رينان مجملا مزخرفا في «حياة المسيح» ولكنه كان يتحرى ذلك الجمال الذي يطابق الحق في الفن والمثل الأعلى، وإن خالف الحق المحدود في الحروف والأرقام.
النقد1
في إنجلترا مجلة أدبية.
ولا يعجب القارئ هنا من صيغة هذا الخبر، فإن بقاء مجلة أدبية في هذه الأيام في أي مكان خبر يذاع كما تذاع غرائب الأخبار! فقد أصبحت قراءة الأدب البحت أندر القراءات، وأصبح قيام مجلة مقصورة على قراءة الأدب في إحدى اللغات أعجوبة يشار إليها بين الأعاجيب! نعم حتى ولو كانت هذه اللغة أسير اللغات وأكثرها قراء وكتابا كاللغة الإنجليزية التي يتكلمها ويعرفها أكثر من مائة وخمسين مليونا في العالم الأرضي، والتي يصح أن يقال إن أمتها هي أرقى الأمم قاطبة في هذا الزمان، فليست المسألة هنا مسألة ارتقاء أو هبوط، ولا مسألة قوة أو ضعف، ولا مسألة سيادة أو استعباد، ولكنها هي داء فشا في هذا الزمان لا يوائم الآداب الرفيعة ولا الآداب الرفيعة توائمه، وهو فيما أحسب من أدواء الشعبية والحرية في دورهما هذا العارض بين النشوء القريب، والنضج السوي المنظور.
فالذين يشكون ركود الآداب في أمم الشرق يخطئون إذا حسبوا هذا الركود من الأدواء الموضعية، أو من عوارض الضعف والجهالة، ويطمئنون - إن كان في ذلك داعية اطمئنان - حين يعلمون أن أقوى الأمم وأعلمها في أيامنا هذه تضعف عن احتمال مجلة واحدة تجد في الكتابة ولا تهزل، وتعنى بالتثقيف ولا تعنى بالتسلية، ولست أعلم علم اليقين والتفصيل ما الحال في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ولكنني أعلم عن إنجلترا ما فيه الكفاية وأعرف أن مجلات كثيرة اعتمدت هناك على الآداب الرفيعة فبقيت حينا تغالب الكساد والخسارة، ثم احتجبت أو امتزجت إحداهن بأخرى ليتآزرا على الظهور ويتعاونا على النفقة، ولم يبق من المجلات على رواج يكفل النفقة والربح الجزيل إلا مجلات اللغو والثرثرة وصحف الفضول والمجانة، فهذه - مع الآداب التمثيلية التي تلهو بها الجماهير - هي آداب الجيل الحاضر التي صرفت الناس عن آداب الجد والرصانة، وحظيت عندهم بالإقبال الذي ليس بعده إقبال.
ما سر هذا الإدبار الغريب بعد تلك النهضة العالية التي بدأت فيما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبشرت يومئذ بمستقبل زاهر سعيد؟ السر كما قلت آنفا هو الشعبية والحرية في دورهما الحاضر بين النشوة والاستواء، فإن الشعبية قد جعلت الحكم في القراءة لكثرة الجماهير، وهي في جهلها المشهور وسقم ذوقها المأثور لا تفقه من الآداب إلا اللغو والمجانة، ولا تخال أنها مطالبة بالإصغاء إلى المرشدين والمهذبين، أما الحرية فمعناها الساذج المفهوم اليوم هو أن يكون الإنسان وحده قائمة بذاتها منقطعة بدخائلها لها حقوقها وعليها واجباتها، ولا شأن لها بأحد ولا شأن لأحد بها، ومعناها الساذج كذلك أن تكون أنت مستقلا من الناس بهمومك وأشجانك وغير متصل بهم، إلا فيما يتعلق بمنافعك وأعمالك فليس ما ينوبك أو ينوبهم إلا سرا مقفلا تطويه الصدور، وليس ينبغي أن يكون الحديث بينك وبينهم إلا لغطا تنقضي به الساعات وتوصل به فترات اللعب والسرور، وما تسمعه في الأندية والمجالس في هذا المنوال تقرؤه في الكتب والصحف ثم تعود إلى التحدث به في الأندية والمجالس دواليك بغير اختلاف! ومتى سكت صوت العطف وبطلت شجون النفس فلعمري ماذا بقي للآداب والأدباء؟ إنما قوام الآداب منذ خلقها الله العطف وأحاديث النفوس، وما صنع الشعراء العظام منذ ظهروا في هذه الدنيا إلا أنهم يبثوننا موجدة نفس آدمية، ويجتذبون أسماعنا إلى نجي لا يروق اليوم في الأندية والمجالس ولا على المسارح وصفحات الأوراق، وزد على ذلك أن الحرية هي في عرف الكثرة الغالبة أن يصنع الإنسان ما يشاء ولو جاوز حدود العفة والحياء، ومتى ارتفع حجاب الحياء فأي حديث شريف يسمع في ضوضاء الفتنة ولجب البهيمية والهراء؟ لا حديث إلا ما يشغل الإنسان بأوضع ما فيه عن أرفع ما فيه، ويجعل الجد النبيل في حكم الرزانة المكروهة بين السكارى المعربدين والبغاة القاصفين.
تلك آفة الجيل الحاضر ستجري مجراها إلى حين، ونعود إلى خبرنا الغريب الذي لا يزال في انتظار الإتمام!
في إنجلترا مجلة أدبية تسمى «الكتي» تصدر كل شهر مرة، وتسكتب مشاهير الأدباء في طرف وأفانين يحمدها القارئ العجلان، ولا ينكرها القارئ الحصيف. سألت هذه المجلة بعض النقاد والقصاص والموسيقيين والمصورين رأيهم في النقد، وأثره في الابتكار والتشجيع وهل هو من عوامل الحث والنشاط أو من عوامل التثبيط والركود، فكانت الأجوبة من أولئك الذي خبروا النقد وذاقوا حلوه ومره دليلا على شيء، إن لم يكن هو الحق في هذا الباب فهو على الأقل موضع للتأمل والاعتبار.
قال ستيفن لكرك: «لا أحسب أن للنقد أقل قيمة! وكل ما يحتاج إليه الكاتب في المثابرة هو المداد والبخور، ومع هذا قد لا تكون لعمله قيمة؛ لأنه ربما كان لا يحسن الكتابة، ففي هذه الحالة لن يستطيع كل نقاد الدنيا أن يجدوا عليه المثابرة ولا الثناء.»
ولكن خير مشجع لما في نفوسنا من الملكة الفنية هو الثناء. إذ حياة الفن إعجاب وتقدير، فلا أخال روبنسون كروزو قد كتب حرفا وهو في عزلته بتلك الجزيرة!
أما أنا فالذي أحتاج إليه حين أنوي الكتابة الفكهة أن أجد إلى جانبي إنسانا يقول: «يا لله! هذا ظريف!» فإن لم أكن كتبت شيئا ظريفا إلى تلك اللحظة فإني كاتبه بعد ذاك!
وقال ملن بعد أن ذكر أن أكثر النقاد إنما يلومون زيدا؛ لأنه لا يكتب مثل عمرو، ويلومون عمرا لأنه لم يكتب مثل زيد: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك، ولكن هذا النمط من النقد نادر، وهو مع ندرته لا يسهل على المؤلف أن يستفيد منه، إذا كانت كبرى حاجته هي الثناء.»
وقال جون هاسال المصور: إنه لم ينتفع قط بالنقد؛ لأن طريقة التصوير الحديثة بالألوان المائية ليس لها مراجع يعتمد عليها النقاد في البلاد الإنجليزية.
وقال جيرالد جولد الناقد: إنه يتكلم باعتباره كاتبا ناقدا فيقول: إن للنقد الإنجليزي اليوم منزلة عالية، وإن الغبن الذي يلقاه بعض المؤلفين عن حقد أو حماقة لا يذكر إلى جانب ما قد يحف بهم من الفهم والسخاء.
وقال نورمان أونيل الموسيقي: «كان أقوم الانتقادات التي تلقيتها على أعمالي ما جاءني من قبل إخواني الموسيقيين، ولكنني أقول إن التقدير هو الماء والغذاء لمعظم الفنانين.»
وقالت السيدة أ. دوجلاس: إنها لولا مقال تقريظ قوبلت به أولى رواياتها لكان أكبر ظنها أنها ما كانت لتثابر على الكتابة.
وقال سسل روبرتس الناقد: «أجترئ على أن أقول بلا تلعثم أن ليس للنقد أية قيمة ما لم يكن مشفوعا بثناء، وأنني قد جربت في النقد على أن أدع الكتاب وشأنه، إن لم يكن في طاقتي أن أقول فيه كلمة طيبة بين ثنايا المراجعة.»
هذه آراء طائفة من أشهر الفنانين في البلاد الإنجليزية يجنح أكثرها إلى جانب الثناء، ويستصغر أثر النقد في الابتكار والتشجيع، وأصوبها على ما أعتقد هو رأي ملن الذي قال: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة، هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك.»
فليس المؤلف المطبوع بحاجة إلى الثناء ولا إلى النقد، ولكنه بحاجة إلى الألفة والفهم أو هو على الأصح بحاجة إلى المجاوبة والمجاذبة من النفوس التي تفهم طبيعته فهم وفاق أو فهم خلاف، فقد تكون أنت على خلاف طبيعته في أكثر الأشياء، ولكنك إذا فهمته وجاذبته الرأي أيقظت قواه، وأحييت ملكاته وأعنته على عرفان نفسه والإخلاص لسريرته، وربما كان هذا الخلاف أذكى وأجدى عليه وأظهر أثرا في التسجيع والتوليد من محض الثناء والإعجاب، فإنما حاجة الفنان أن يحس الحياة بكل جوانبها، وهو لن يحسها حق الإحساس ما بقيت نفسه مغلقة في غلافها لا تتصل بغيرها على وفاق أو خلاف، ولا يرى أثرها في النفوس على إعجاب وإنكار ولا تزال كلما أرسلت إلى الملأ برسول ذهب إلى حيث لا يرجع، أو رجع إليها مثقلا بالخيبة والكنود، فأما إذا هو اتصل بمن يوافقه فعرف نفسه مكررة في غيره أو اتصل بمن يخالفه فسبر قوته وراض دخيلة طبعه، فتلك هي المرانة التي تحييه وتستجيشه وتنقذه من شلل البطالة والجمود الذي يصيب القرائح والعقول، كما يصيب الأجسام والأعضاء.
فالنقد الصحيح هو الذي يفطن إلى شخصية المنقود، ويألف عيوبها كما يألف حسناتها ويطالبها بالأمانة لتلك العيوب، كما يطالبها بالأمانة لتلك الحسنات؛ وأجمل الإنصاف أن تصاحب المؤلفين الذين تتخيرهم على هذه الشريطة فترضى بخيرهم وشرهم، وتترقب آياتهم وزلاتهم وتماشيهم على خبرة بما يسرون به وما يسوءون، فإن أحسنوا فنعم ما فعلوا وإن أخطئوا خطأهم المألوف فقد تبتسم لهم كما يبتسم الصديق لصديق يثوب حينا بعد حين إلى لازمة فيه مضحكة أو شنشنة تعرفها من أخزم! وفي هذه الحالة قد تلذنا العيوب كما تلذنا الحسنات، بل قد نبحث عن تلك العيوب ونتحراها كما نستثير أحيانا لوازم أصدقائنا لنعبث بها في براءة وإشفاق.
لهذا يعيش بعض الشعراء مذكورا مألوفا بمائة بيت تروى له وتدل عليه، ولا يعيش غيره بعشرة دواوين تحفظها المكاتب والقراطيس؛ لأن الأول قد استطاع ان يدل على شخصه بأبياته المائة، فاقترب إلى النفوس وأصبح مفهوما عندها على الصداقة والإلفة التي تغفر الزلة وترضي كل خلة، ولم يستطع الآخر أن يكون صديقا مألوفا لقرائه، بل ظل صاحب أشعار وقصائد ليس إلا فخفي شأنه، وعاش أو مات بمعزل عن أولئك القراء.
ولكن كيف ترانا نهتدي إلى الفنان الذي يستحق منا الصداقة واغتفار العيوب؟ أترانا نصادق كل مؤلف، ونغفر كل عيب لأنه عيب! أم أن هناك غرضا نتوخاه قبل سواه من النقد والاطلاع؟ وماذا يكون ذلك الغرض الذي يحسن بنا أن نتوخاه؟
الجواب بديهي لا يطول بنا التنقيب عنه: إن النقد هو التمييز والتمييز لا يكون إلا بمزية، والطبيعة نفسها تعلمنا سننها في النقد والانتقاء حين تغضي عن كل ما تشابه، وتشرع إلى تخليد كل مزية تنجم في نوع من الأنواع، فسواء أنظرنا إلى الغرائز التي ركبتها في مزاج الأنثى أم إلى الغرائز التي ركبتها في مزاج الفنان - وهما المزاجان الموكلان بالإنتاج والتخليد في عالمي الأجسام والمعاني - فإننا نجد الوجهة في هذا وفي ذاك واحدة، والغرض من التخليد هنا وهناك على اتفاق، أما هذه الوجهة فهي الالتفات إلى المزية البارزة التي تظهر على غمار المتشابهات والمنكرات، وأما هذا الغرض فليس هو إلا حفظ المزايا وتخليد النماذج وتنويع الصفات، فالنقد الخالق هو النقد الذي يجري على سنة الطبيعة، أو هو النقد الذي يعنى بحفظ النماذج وتخليدها، ويعرض لنا «الشخصيات» التي تبرز في الحياة بعنوان جديد، وقد تكون مزية هذه الشخصيات أنها تريك الأشياء الدارجة كما هي بلا زيادة ولا تجميل، فلا تعجب لذاك ولا تحسبه تناقضا في مقاصد الطبيعة، فإن رؤية الأشياء الدارجة كما هي ليست من الدارج المألوف بين أصحاب الشخصيات والملكات.
جد الشخصية أولا وكن أنت جديرا بإيجادها، ثم كن على ثقة أنك واجد لا محالة ذلك المنقود الجدير بأن تحصي له الحسنات والعيوب، وهنا قد يكون المنقود شاعرا، وقد تقرأ شعره بيتا بيتا فلا تقع فيه على بيت رائع أو معنى خالب أو أسلوب رشيق، ولكنك إذا جمعته كله وقعت منه على شخصية برزت فيها الحياة بنموذج معزول ذي عنوان ظريف، فهذا الشعر هو الذي يحفظ ويخلد؛ لأنه نموذج حي لو ظهر في عالم الأجساد لبادرت الطبيعة إلى الإغراء بالنظر إليه والإغرام بحفظ نوعه والتنويع في صفاته، أما في جماعة اللفظيين والحرفيين الذين ينقلون النقد من الشاعر إلى شعره، فهؤلاء يدعون الشيء ليلهوا بظله، وينتقلون من الحياة إلى ما ليس له في ذاته حياة.
وكأنا قد انتهينا إلى أن النقد الخالق هو ذلك النقد الذي يهتدي إلى «النماذج» في عالم الآداب والفنون، وأن وظيفته هي إحياء كل نموذج يهتدي إليه بمجاوبته وإذكاء فضائله وشحذ ملكاته، ولن يكون الناقد على هذه الصفة إلا إذا كان هو نموذجا من الطراز الممتاز لا من الطراز الدارج المألوف.
صورة1
هذه الصورة أيها القارئ لا تدلك على الأصل إلا كما يدل الرسم على المرسوم والظل على ملقيه، فإذا حسبت فرق الحجم حيث تدق الملامح في الصورة الصغيرة، وتبرز للنظر على جلاء وتفصيل في الصورة الكبيرة.
وإذا حسبت الفرق بين النقل الشمسي والتصوير اليدوي في حسن الأداء ودلائل الحياة، وتفاوت ما بين الحكاية الآلية والحكاية التي تستمد من الشعور والذكاء والتخيل والإيحاء، وإذا حسبت الاختلاف بين التلوين البارع والتظليل المحكم، وبين السدف الشائع الذي لا تختلف فيه مسحة عن مسحة، ولا لون عن لون، إذا حسبت هذه الفروق بين الصورة التي تراها هنا، والصورة التي نقلت عنها، فأنت قادر على تمثل الصورة المحكية في بعض جمالها وإتقانها، وبعض ما فيها من قدرة الفن والتعبير.
على أنني بعد لا أعلم ماذا ترى أنت أيها القارئ في الصورة المحكية لو نظرت إليها كما أنظر، وسرحت فيها بصرك وخيالك، كما وقفت أنا منها بين تسريح البصر والخيال، فإنني أؤمن بالأطوار النفسية وما إليها من الأثر في إعجابنا بمنشآت الفنون والآداب، واعلم أنك تنظر إلى الصورة، وفي ضميرك خاطر يمت إليها بنسب من الإحساس والتفكير فتثير أشجانك وتستفتح مواطن التفاتك وإعجابك، وينظر إليها غيرك وليس في ضميره ذلك الخاطر فيعدوه جمالها، أو يأخذ من نظره وخياله طرف اللمحة العابرة والخيال المشغول، وقد ينظر المرء في وقتين مختلفين إلى الصورة الواحدة، فإذا هي اليوم غير ما كانت بالأمس، وإذا بها كأنها عملان اثنان عملتهما قدرتان وتمثلت فيهما نفسان وقريحتان، فإذا نظرت أنت أيها القارئ إلى الصورة المحكية فلست أعلم ما شأنها عندك وأثرها في شعورك وتفكيرك، فإنما المعول في هذا أكثر الأحيان على أطوار النفوس، وبدوات الأذواق، وسوانح الفكر، وإنما يعجبنا الفن بشيء من أنفسنا كما يعجبنا بشيء من نفسه، ويندر أن يلتقي الشيئان معا في جميع الأحيان.
غير أني لا أرى في احتياج الآثار الفنية إلى الأطوار النفسية التي تلائمها حري أن يقدح في جمال تلك الآثار، أو يبخس قدرة الصانع الفنان، بل أقول: إن التقدير الصحيح لا يتهيأ لنا إلا مع المشابهة في النظرة والمقاربة في الإحساس، فلا نقول ثمة إن الإعجاب متهم الاستحسان ممزوج بالغرض والمحاباة بل نقول: إننا كنا أقرب إلى الفهم الصادق والتقدير الصحيح، فرأينا من الأثر الفني ما لسنا نراه في غير هذه الحال، وأدركنا من مزاج الفنان ما لسنا ندركه بغير هذا الاقتراب ، وإذا ابتعدت خواطرنا من خواطر المصور، وتباين الجو الذي صنع فيه صورته والجو الذي ننظر إليها فيه، فليس هذا بحجة على أننا أصلح - من أجل هذا - للحكم عليها وأجدر بالإنصاف في عرفان مزاياها، بل هو أولى أن يكون حجة على خطأ الحكم وصعوبة الإدراك، وإننا كنا محرومين من ذلك «التهيؤ» الذي لا غنى عنه في كل تقدير يتصل بالخيال والشعور.
وكأن للنفس أبوابا شتى تطرقها من لدنها صنوف الإحساس وفصائل الخواطر، فما يرد عليها من هذا الباب لا يرد عليها من سواء، وما يخطر لها وهي مشرفة على جانب السماحة والرضا غير ما يخطر لها وهي مشرفة على جانب التبرم والأسى، وما هو إلا أن يفتح الباب من أبواب النفس حتى يستثني كل طارق عليه إلا ذلك الطارق الذي يليق به التقدم إلى ذلك الباب، فهناك على الطريق مرحب موكل باللقاء والتمييز يأذن للخواطر المدعوة، ويصدف عن خواطر التطفل والفضول، وإنها لفاتحة تبتدئ ثم تطرق اللواحق على وتيرتها، ثم ما هو إلا أن تجوز الطارقة الأولى وتأخذ مكانها حتى تفرغ النفس لضيوفها التي تفد عليها رتلا بعد رتل من حيث فتحت لهم هي باب القبول.
وهذه الصورة أيها القارئ هي صورة فتاة حزينة على قبر صديق فقيد. كيف أعجبتني حين نظرتها أول مرة ومن أي باب وردت على نفسي في تلك اللحظة، فخلت فيها محلها من الأنس والكرامة؟ لست أدري! ولكن لا عليك أيها القارئ أن تقول كما أقول أنا ساخر الشفتين يوم تلح بي هذه الخواطر: هي النفس مفتوحة اليوم على حي المقابر من هذه الحياة الحافلة بالأشباح والقبور، الزاخرة بالعظام والأشلاء!
كان يوم ضقت فيه بالمدينة ومن فيها، ونزعت إلى رحب الفضاء وفسحة الطلاقة والذكرى، وفي المطرية حيث تتلاقى رحاب الفضاء ساكنة خاوية، ورحاب التاريخ صامتة فانية مجال للعبرة من طريقين، ومتسع للصدر من جانبي المكان والزمان، فذهبنا مع بعض الصحاب إلى المطرية، وقصدنا إلى متحف المصور الفاضل «شعبان زكي»، فرأينا هناك هذه الصورة بين ودائع كثيرة لصاحبها الأستاذ محمد حسن الذي يتم دراسة التصوير الآن في المعاهد الإيطالية، وإنها لنظرة واحدة وقفت عليها، ثم ثبت النظر عندها لا يرام عنها، واجتمعت هواجس النفس ومطارح الفكر حولها، فرأينا ثم آية من آيات التصوير تقل مثيلاتها بين آيات الأساتذة المبرزين في ذلك الفن الجليل، وشعرنا كأن للصور هواتف وأرواحا تجتذب إليها العاطفين والمعجبين على نأي المسافة وتفرق الهموم، وكأن هذه الصورة هي التي استدعتنا حيث كنا لنؤم مكانها ونشهد قصتها ونقضي لها حقوق تحيتها، وكأنها هي التي ألقت علينا من ظلها فشملتنا في ذلك الجو الخاشع الذي ساقنا إليها كما تتعطش الأرواح المنسية إلى نفوس أحبابها، فهي تومئ لها في رواية الأقدمين بوحي الذكرى، ودعوة الحنين إلى ارتياد مزارها وتجديد الأسف عليها.
أيها القارئ، إننا نظلم الصورة إذا حسبنا عليها فضلا نمن به عليها من مشابهة الخواطر وتهييء الشعور، فالحق أنها هي في ذاتها وافية المعاني غنية بفضل إتقانها عن فضل تلك الصبغة التي يصبغها بها من ينظر إليها، وهي واحدة من الصور القلائل التي تجيء بها القريحة الملهمة على أتم مثال يبلغ إليه متأمل أو يطرأ على الخيال، فإن شئت دليلا على ذك فانظر كيف كان يمكن أن يصور هذا الموقف على وجوه كثيرة يتخيلها المتخيل قبل الشروع فيها، ثم انظر كيف اهتدى مصورها البارع إلى الوجه الوحيد الذي هو أجمع لمعانيها، وأليق بموضوعها، وأشبه بحظها من الوقار والجمال.
فقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يبدي لنا الفتاة الحزينة في صورة التفجع والقنوط، ويكون ذلك في بادئ الرأي أقرب إلى المقصود، وأقمن أن يلعج الحزن ويستدر الدموع، فلو أنه فعل ذلك لأبلغ في رأي السذاجة والذوق الغرير، ولكنه يضل محجة الإلهام، ويذهب بهيبة المقام، ويحد الخيال عن الاسترسال فيما وراء ذلك المنظر الذي تناهى به الحس إلى نهايته، وانصرف فيه إلى غاية منصرفة! وكان يحرمنا جلال هذا الصبر الذي كأنما يعتب على المقدار ولا يثور عليه، وكأنما يحلم بالحزن في غفوة التسليم، ولا يعالج كربته في عالم المنظور والمسموع، وكأنما يشفق أن يتوله بالألم في حضرة ذلك المزور الذي يأبى أن يظهره على غير التجمل والسكون، فكان جهد ما يرتقي إليه المصور أن ننظر إلى الفتاة فنقول: مسكينة هذه الفتاة الجزوع! وأين هذا من نظرة نرفعها إليها الساعة فنطامن الأنظار، ونحني الرءوس، وتتراجع لديها بين يدي حرم مهيب من الصيانة والوقار.
وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يجعل الفتاة على الضريح، أو مستندة إليه، أو جالسة إلى جواره، فلو أنه فعل ذلك لما تعدى حدود الواقع الذي نشهده في بعض هذه المواقف، ولكنه كان يقضي على الخوف الذي نراه ها هنا يحف بمدخل الفتاة إلى ضريح العزيز الفقيد، وكان يمحو عن الموقف هيبة تلك الحركة تقترب بها في حذار وشجو إلى قبلة خطواتها المثقلة ومطمح طرفها الكليل، والتي هي بحركات النفوس المعنوية أشبه منها بحركات الأقدام والأجسام، وعلى البعد السحيق الميئوس منه أدل منها على القرب الماثل الميسور، بل هو كان يطمس معالم تلك الخطوة المتروكة التي هي على قربها تمثل لك بعد الهاوية المستحيلة بين الحياة والموت وبين الحزين القائم على الثرى والفقيد المغيب تحت التراب.
وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يضع المنديل على عيني الفتاة فذلك هو موضع المنديل في حيث يكون البكاء، ولو أنه فعل ذلك لما لامه أحد من الذين يطالبونه بحرف التصوير ولفظه، ويغفلون عن غرضه ومعناه، ولكنه كان يحجب عنا وجها حزينا ليرينا قطعة من القماش المبلول، وكان يرينا البكاء عملا ماديا قوامه الجفون والأهداب وقطرات الدموع، ولا يرينا إياه حالة في النفس يستحضرها الخيال بما يقارنها من الأشجان والحسرات والإجهاش والانتظار، أي حالة لا يكون المنديل والدموع معها إلا علامة تشير إليها كعلامات النقوش الفرعونية تلوح أو لا تلوح على حد سواء، وفي مثل هذا البكاء يقول أبو الطيب:
ورب كئيب ليس تندى جفونه
ورب ندي الجفن غير كئيب
وللواجد المكروب من زفراته
سكون عزاء أو سكون لغوب
هذا هو البكاء الذي رسمه لنا صاحب الصورة بغير دموع ولا زفرات، وهذا هو السكون الذي تراه على تلك الطلعة الباكية فلا تدري أسكون عزاء هو أم سكون لغوب.
بل لقد كان يسع المصور أن يبدي لنا الفتاة في شارة غير هذه الشارة، وإطراقة غير هذه الإطراقة، ونظرة غير هذه النظرة، ووقفة غير هذه الوقفة، فلا يطالب بنقص ولا يحتج عليه بخلاف، ولكنه اختار في كل شيء فأحسن الاختيار، وقاس المناظر والضمائر فاهتدى إلى أتم قياس، ومثل لنا الشخوص البادية، ومثل لنا ما وراء الشخوص من قصة محجوبة، وتاريخ مجهول، فأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علما لا شك فيه أن الفتاة لم تقف على ذلك القبر موقف البنت على قبر الوالد، أو الأخت على قبر الشقيق، وإنما هي وقفة حليلة على قبر حليل تذكر له عشرة الروح، ومودة القلب، وتفي له وفاء من فقد الأليف والزميل، وأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علما لا شك فيه أن الحزن فيها حزن قديم، والرقدة في ذلك القبر المستور رقدة من مضت عليه أيام وأيام وشهور وشهور، وأن حنينا يدوم بعد فقيده هذا الدوام لهو الحنين الشريف الذي لا تعفي عليه دواعي الحس ولا تنسيه غواية الأجساد، ولا تمليه إلا ذكرى تعلق بالقلب الكسير والروح المشطور، وماذا نريد من مصور يعرض لك صورة فتاة حيال ضريح فإذا أنت أمام قصة وأمام تاريخ، وأمام وصف لا يعرفه العارفون إلا بالخبرة والسؤال؟ بل ماذا نريد من مصور يعرض لك رقعة صامتة، فإذا هو يقول لك فيها كل ما يمكن أن يقال في موضوعها بالريشة والألوان، وإذا هو يعرض لك في مساحة تلك الرقعة أقوى جبارين يجدون ويلعبون في رقعة الحياة، وأقدر ممثلين يتناوبون بيننا مصارع الغابرين والحاضرين، يعرض لك الجمال والشباب، والحزن والموت، يحدثك كل منها حديثه، ويفضي إليك كل منها بنجواه، ويقف من الرقعة موقفه الذي لا عي فيه ولا إسراف، تلك هي الغاية من التصوير، بل هي الغاية من كل فن جميل، وتلك هي الغاية التي اهتدى إليها مصورنا الألمعي القدير.
ولقد أطلنا النظرة في الصورة، وأطلنا الحديث فيها، ونسينا يومها الفضاء وما جاء بنا إلى الفضاء، واستعرتها من صديقنا الأديب فأقمتها على مكتبي بحيث ألقاها في الصباح والمساء وأستقبلها كلما أخذت في القراءة والتفكير، ولو تألف الأشباح عينا تدمن النظر إليها قد بات يألفني هذا الشبح الشاخص عند ذلك الراحل الدفين، ولقد بات يصغي إلى مناجاة تهم بها شفتاي وفيها كل إعجاب، وليس فيها أثر مما يلوح عليها من ملام، وكأنه يسمعني في تلك المناجاة أسائله مساءلة المشفقين: أيتها الفتاة إلى أين! إلى القبر في هذه المسوح وفي هذه الكآبة وفي هذا المحيا الوضيء؟ عليك يا بنية سمة الملاحة وفيك مرتغب يا بنية للراغبين، ووراءك الدنيا يا بنية تفيض بالأفراح والأطماع، ويتسابق فيها المتسابقون على إرضاء الجميل، وتضحك لها الرياض عن نضرة الريحان، وتطلع عليها الكواكب باللمح والابتسام، وتنشدها الصوادح أناشيد الحب والرجاء، وأنت زينة من زينتها تهجرينها كلها، وتدبرين عنها كلها، وتقبلين على هذه الحجارة المركومة فوق ذلك الجسد المحطوم؟
نعم لو تصغي الأشباح إلى الناظرين، لقد كان يسبق إلى ذلك الشبح أنني أعجب له هذا العجب، وأناجيه هذه المناجاة، ولقد كان لعله يقول وهو يجيب جواب الأشباح:
إن من يذكر لينسى، وأي ذاكر لم ينس الدنيا وما فيها حين يقبل على الذكرى؟ وأي ذاكر لا ينسى الدنيا حين يرجع عما حوله إلى غابر كان حوله يوما، ثم طواه الزمان طي الفناء. ألا إنها هي الذكرى، ألا وإنها هي أعلى من الدنيا، وهي أعلى من الرياض والكواكب والأناشيد، وهي أعلى من الإنسان! بل هي أعلى من صاحب الذكرى، لو عاد من غابره المطوي إلى جوار الحياة!
ليسستراتا1
ليسستراتا هو اسم امرأة أثينية أثارت بنات جنسها على الرجال، فأقسمن ألا يقاربنهم أو يعقدوا الصلح الذي يردنه، ولكنهم لم يلبثن أن تركنها وارتمين في أحضان الرجال!
وليسستراتا هو اسم رسالة تبحث في موضوع المرأة الناقمة في هذا العصر وفي المستقبل، وهي إحدى رسائل تبلغ الخمسين يصدرها في إنجلترا بعنوان «اليوم وغدا» رهط من رجال الفكر والأدب والفن، يختارون لكل رسالة نبوءة عن المستقبل في بعض الشئون، ويتخذون لها اسما قديما من أسماء أبطال التواريخ والأساطير، فهي من الأمس في التسمية، ومن اليوم في التأليف، ومن الغد في موضوع النبوءة الذي تدور عليه.
صاحب هذه الرسالة التي نحن بصددها هو «ليودفتشي» أحد الحواريين النيتشيين الذين يدعون إلى مذهب المفكر الألماني في بلاد الإنجليز، وهو من المغربيين في النزعة وأسلوب التفكير، ولا غرابة في ذلك فهذا أوان الإغراب وعصر الإعلان الذي يكثر فيه إلحاح المؤثرات على حواس الناس، فلا يظفر منها بالالتفات إلا من بذ غيره في التنبيه والإزعاج، فإن شئت أن تسمي مدرسة العصر الحديث في العالم كله باسم يدل عليها، وعلى مكان الحقيقة من فلسفتها فسمها «مدرسة الإعلان» وانتظر عندها من البريق والزعيق ما تنتظره عند فن الإعلانات الأمريكية والحروف النارية التي يتلألأ بها الفضاء ثم يواريها الظلام بعد عمر طويل أو قصير، وكن سعيدا راضيا بالغنيمة إذا ظفرت تحت ذلك الإعلان «بمحل تجارة» تباع فيه بضاعة نافعة وصنف جديد.
من بريق هذه الرسالة وزعيقها نظرتها إلى المستقبل على ضوء الإعلانات الأمريكية والحروف النارية، فماذا يكون مستقبل المرأة الناقمة، وماذا يكون مستقبل الرجل المنقوم عليه؟ سترى عما قريب!
مستقبل المرأة الناقمة إذا صارت الأمور إلى أقصاها، أن تستغني عن الرجل وتستضعفه وتقضي بالموت على كل ذكر ينتج نسلا بغير الطريقة العلمية التي يستخدمها بعض العلماء في إلقاح الإناث بمادة الذكور. ذلك أن الآداب الفاشية بين الناس في هذا الزمان آداب تنكر الجسد وتزري بمطالبه ونزعاته، وتغلب ما تسميه بالأشواق الروحية على ما تسميه بالميول الحيوانية، فلهذا فترت رغبة المرأة في الحياة، وتمردت على الرجل، وأشاع الناقمات من النساء أن العلاقة بين الجنسين علاقة دنس وهوان خير منها التبتل والانفراد، وأصبحت المرأة الآن تؤثر الشهرة والخطر على العاطفة والخالجة النفسية، فهي سائرة إلى التألب والتآزر والمطالبة بالحقوق السياسية، والمزاحمة على أعمال الرجال في المصانع والأسواق، وسيعكف الرجال على الرياض العسكرية والمهارة في الألعاب، فينشأ منهم جيل سهل المقادة للنساء مذ كان هذا الطراز - طراز العسكريين واللاعبين - هم أطوع الرجال للمرأة، كما قال أرسطو في الزمن القديم، وستكون قوة التمرد ومرارة السخط ونخوة الحنق الأدبي أبدا في جانب المرأة، فهي بهذه القوة تقهر الرجال وتزحزح الجنس الغالب رويدا رويدا من مكان السيد إلى مكان الماهن الأجير، وسوف تزداد الأبدان ضعفا وتزداد الأمومة مشقة، وتزداد المسرات الجسدية نكرا وقبحا فيزداد التبتل شيوعا، ويجيء اليوم الذي يصبح فيه الرجل ولا شأن له في الحياة إلا الجندية وإنتاج البنين، فتأنف المرأة أن تعاشره لغير غرض إلا أن تلد له وتربي أولاده، وتتولى المعامل إلقاح النساء بالوسائل الصناعية، كما تتولى الآن إلقاح الأطفال بأمصال الجدري والحميات، ويأتي يوم يرتفع فيه سن الرضا في المرأة إلى الثلاثين أو الخامسة والثلاثين، أو ما فوق ذلك، فيقضى بقتل الرجل الذي يغري المرأة دون تلك السن أو بخصيه! وينظر إلى النساء الباقيات على سنة الطبيعة في الحمل والمعاشرة نظرة ازدراء واستهزاء ، وما هي إلا فترة ثم يستغنى عن الرجل الجندي، ويكمل إتقان الصناعات الآلية؛ لتصبح إدارتها في سهولة الترقيم على الآلة الكاتبة، أو غلي الشاي، فتحل البنات محل الشبان في الجيوش والمعامل، وينتهي الأمر بأن يحور الرجل، وقد فقد رجحان الروح والجسد، وفقد رجحان الزوجية والحب، وفقد رجحان المهارة الآلية والشجاعة الجندية، فيستكثر عدد الرجال ويستحيي منهم بالقدر اللازم لحفظ اللقاح الصناعي، وينحى على البقية قتلا كما تنحى إناث النحل على ذكوره، بحيث تقتصر النسبة بين الجنسين على خمسة من الرجال لكل ألف من النساء، وربما أغنى عن هذه المذبحة علم ما في الأرحام فتحفظ ذرية الإناث، ويكتفى بتربية نصف في المائة من ذرية الذكور في كل عام، وهكذا إلى خاتمة هذه الرؤيا السوداء التي تضل بها البصيرة في ظلام فوق ظلام! •••
هذه هي العاقبة إذا صارت الأمور إلى غايتها: ويقول المؤلف إنها رؤيا قد تظهر عليها مسحة الغرابة ولكنه يستحمق الإعراض عنها والاستخفاف بها لهذا السبب، ويحسب أنه يجد ولا يهزل، ويتأمل ولا يتخيل، حين جمح بالوهم إلى تلك العاقبة التي لم يحلم بمثلها حالم من أصحاب النبوءات الخارقة عن إرهاصات القيامة وعجائب آخر الزمان!
إن صاحبنا «ليودفتشي» لم يخلص التلمذة لنيتشه في هذه النبؤة الجامحة، ولو أنه كان لأستاذه الكبير ذلك التلميذ النجيب الذي يريد أن يكونه، لعلم أن شطط الرؤيا إلى تلك النهاية مستحيل في الحقيقة وغير مقبول في الخيال، وأن المرأة قد تعرف قوة السخط الأدبي وقد تغلب بها أحيانا، ولكنها لا تنشئها ولا تثابر عليها جيلا بعد جيل بمعزل عن إيحاء الرجل وإمداده القريب، فالمرأة ما خلقت فيما مضى ولن تخلق بعد اليوم «قانونا خلقيا» أو نخوة أدبية تدين بها وتصبر عليها غير ذلك القانون الذي تتلقاه من الرجل، وتلك النخوة التي تسري إليها من عقيدته؟ ولو ظهرت في الأرض نبية بمعزل عن دعوة الرجال لما آمنت بها امرأة واحدة، ولا وجدت لها في طبيعة الأنثى صدى يلبيها إذا دعت إلى التصديق والإيمان، وإنما المرأة تؤمن بالرجل حين تؤمن بالنبي وبالإله، وتسخط سخط الرجل حين يسخط عن تدين واعتقاد، وليس بالمستحيل أن يتمرد النساء على الرجال، ويعلن النقمة والعصيان، ويطلبن الحقوق وشريعة المساواة، ولكن سخط العقيدة الذي يزعمه ليودفتشي ناصرا للمرأة على الرجل جيلا بعد جيل وطبقة بعد طبقة مستحيل لا يتخيله من عرف تاريخ المرأة فيما مضى، وعرف طبيعتها في كل زمان، وربما قيل: إن المرأة حين تسخط ذلك السخط إنما تسخط بقوة اهتمامها بالرجل وقوة حقدها عليه، فهي على كل حال تستوحي منه العقيدة، وهو على كل حال موضوع هذا الاعتقاد. قد يقال هذا وقد نستجيزه في بعض الأحوال الفردية التي تكون فيها الثورة على رجل، أو على رجال، وليست على «الرجل»، أو على «الرجال»: ولكنا لا نستجيزه في ثورة طويلة كالتي يتخيلها ليودفتشي تثابر عليها المرأة مئات السنين إلى ذلك الأمد البعيد. •••
ولكن لماذا لا نحسب تلك النبوءة على جانب الإعلان الذي قلنا إنه عنوان الفلسفة في هذا الزمان؟ احسبها أيها القارئ على جانب الإعلان، وانظر إلى البضاعة لعل فيها ما يستحق مؤنة البحث والاقتناء.
أما البضاعة في لبابها فهي أن غلو الآداب والأديان في احتقار الجسد قد عودنا أن نغتفر العيوب الجسدية، ونبيح الزواج بين الضعاف الذين لا يتذوقون فرح الحياة ومتعة الأشواق والأهواء، وأن هذه العادة قد أثارت طبيعة المرأة على الحياة، ورفعت هيبة الرجال من نفوس النساء فتطلعن إلى المساواة والاستقلال، وأضعن ميل الغريزة ورضا الأنثى بحظها في الحياة وجاءت أزمات المعيشة الحديثة فألجأت ألوف النساء إلى العزلة، وطلب القوت فشاع بينهن الغضب على الدنيا، وأشربت نفوسهن روح الثورة والانتقاض، فللمرأة في هذا العصر ثورة خلاصتها أنها ثورة أجساد مغبونة، ومعدات جائعة، وحب معكوس يتزيا بمظهر الحقد والبغضاء.
هذه هي خلاصة الحركة النسائية في مذهب ليودفتشي، وهي على ما نظن خلاصة معقولة تصلح للانتقاد.
إلا أننا نسأل: هل الآداب هي التي خلقت احتقار الجسد، وما زالت بنا حتى اغتفرنا عيوبا في الأبدان والأعضاء لم يكن يغتفرها الأولون؟ أو أن احتقار الجسد وسآمة اللذات، وأسبابا أخرى غير هذه الأسباب هي التي خلقت الآداب وأنشأت لنا معايير للتقويم والتقدير هي معايير الأبدان والأعضاء؟ والذي نرجحه نحن أن احتقار الجسد قد نشأ بعد أن أصبح الجسد حقيرا حقا عن ضعف أو عن ابتذال في عرف الكثير من الضعفاء والأقوياء، وأن العصر الحديث لا يدين لسلطان الأديان وآداب الوراثة والتقليد في كل ما يشعر به من آداب احتقار الحياة وسآمة الأفراح، وإنما هو ينطوي على عوامل كثيرة قادرة على أن تعيد هذه الآداب سيرتها الأولى لو بطلت اليوم كل الآداب الموروثة عن الأقدمين، فالعقائد لا تتهم بإضعاف الأبدان واحتقار الحياة، ولكنه هو ضعف الأبدان، وهي حقارة الحياة هما البادئان بإنشاء العقائد التي يحاسبها ليودفتشي على عيوب هذا العصر الحديث، وهيهات أن تكون لذات الجسد حقيرة في عقيدة مقبولة تسيغها الطباع لو لم تكن لذات الجسد حقيرة في الواقع المحسوس قبل أن تخطر تلك العقيدة على بال إنسان، ونظن أن ترف المدينة وإهمال الفاقة هما سر العقيدة التي نشأت في القدم، وتنشأ اليوم وبعد اليوم مبغضة في الحياة مزرية باللذات مغرية بالتشاؤم والأنفة من رق التكاليف. بل نظن هذه العقيدة بركة في بعض نواحيها وذخيرة أعدتها الطبيعة لمكافحة الابتذال، والتهالك على صغائر الحياة كلما أفرط الناس في الشهوات، وأمعنوا في ابتغاء اللذات، فهي علاج يناسب الداء وليست بداء يحتاج إلى علاج، وهي أصلح من الإيمان بالجسد وحده لإبقاء العصور التي تشكو الضعف، وتتبرم بحقارة الحياة؛ لأن الإيمان بالجسد وحده يزيد الضعيف غيا، ويدفع بالجوى إلى طريق الضعف والغواية أما إنكار الجسد - وهو تلك العقيدة التي تدخرها الطبيعة لمثل هذه العصور - فهو علاج عاصم يعين على ضبط النفس وكبح النزوات، وهما ملاك قوة القوي، وأحوج ما يحتاج إليه الضعيف. •••
وثم سؤال آخر وهو: هل يستطاع في حالة الحضارة أن نجعل المعايير الجسدية هي الحكم الفصل في قيم الرجال والنساء؟ ونقول نحن: لا، إن الحضارة أعرف بالقصد من الهمجية، وأدرى بوسائل الادخار والاستنباط، فالهمجية تستفيد بصفة واحدة في الإنسان، أما الحضارة فتستفيد بكل ما في الناس من الصفات والملكات، فمطالبها موزعة وصفات أبنائها موزعة كذلك على حسب تلك المطالب، وهي في حاجة إلى القوة والحيلة والذكاء والذوق والابتكار والجمال والأناقة والدمامة والخشونة، وكل ما تقوم به العلاقات المتشعبة بين الناس، وهي لا تقوم على عنصر واحد ولا يتاح أن يجتمع عناصرها كلها في فرد واحد، فمن هنا تختلف المقاييس ويتفاضل الناس بصفات كثيرة غير صفات الأبدان والأعضاء، فيرجح الذكي على من هو أقوى منه إذا كان هذا محروما من الذكاء، ويفلح الكبير النفس حيث يفشل من هو أصح في الجسم وأجمل في ظاهر الرواء، وتحفظ هذه الصفات الكثيرة بهذا التفريق في الميول وهذا التباين في الاختيار.
فالإيمان بالصفات الحيوانية وحدها ليس بالميسور في الحضارة ولا هو بالمشكور، والاختلاف في الملكات لا يكون إلا بتضحية محتومة يزيد فيها نصيب وينقص نصيب، وجهد ما نستطيعه في هذا الأمر أن نمنع المرض، ونحظر التناسل بين من لا يرجعون للأبوة والأمومة، أما اختلاف المقاييس فقضاء مبرم على الحضارة لا محيص عنه ولا داعية لاجتنابه.
لهذا نعتقد أن شكوى المرأة في الحضارة قديمة، وليست بالطارئ الجديد الذي أحدثته عقائد الأديان أو احتقار الأجساد، وإن أسباب الحركة النسائية عريقة في التاريخ، وجدت على درجات متفاوتة في الشدة والرفق، أو في الظهور والضمور، فإذا تغير منها المظهر والصيغة في عصرنا هذا فذلك مرجعه إلى سببين مقصورين على هذا العصر الحديث: أولهما أنه عنصر «الاجتماعات»؛ لأنه عصر المدن والصناعات، وثانيهما أنه عصر ديمقراطية تبث عقيدة المساواة بين جميع الأفراد، وتتلو عصر الفروسية التي ارتفع بالمرأة في أوربا إلى ذروة القداسة والتبجيل، فحركة النساء اليوم تبدو في هذا المظهر الجديد بما تأخذه من حقوق الديمقراطية وتراث الفروسية ودعاوى المساواة، وآلات التعاون والتنظيم، وطموحها إلى المساواة في الحقوق والواجبات لغط لا يدوم إلا ريث أن تسفر التجربة عن غايته المصطنعة، وغوره القريب.
ثاميرس أو مستقبل الشعر1
في بعض الأساطير القديمة عن التيوتون
2
أن الملك روفائيل يهبط في يوم الأرواح من كل عام إلى حارس الجحيم التي تحبس فيها آلهة الوثنية المخلوعة فيأمره بإطلاق عرائس الشعر التسع ليصدحن بالقصيد على مسمع من «يهواه»،
3
ورفيق السماء الأعلى، فيتقدم السيدات المسكينات إلى تلك الحضرة المرهوبة الجافية، ويأخذن في إصلاح أعوادهن كارهات متكلفات، ويبدأن بنشيد إغريقي قديم لعله كان بعض أناشيدهن في مهرجان الأوليمب،
4
أو لعله كان بعض أناشيدهن في يوم زفاف قدموس
5
على هارمون، فيلوح على أنغامهن في بادئ الأمر شيء من النشوز تنكره الآذان السماوية الشريفة التي لم تألف في مقرها العلوي غير أصوات التسبيح والعبادة، ولكن ما هي إلا هنيهة حتى يشعر الملائكة على غير علم منهم أنهم أطربوا للنغم، واهتزوا لتلك الألحان التي تبعث الشجن وتحرك رواقد النفوس، وتنوء بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء، ولا يزلن في حنين وأنين حتى تتهاوى الدموع على تلك الوجوه النورانية ويعلو النشيج في باحات السماء.
ففي يوم ليس بالبعيد من هذه الأيام السنوية رغب بعض أدباء الملائكة إلى العرائس المباركات - بعد أن فرغن من أداء البرنامج - أن ينشدنهم طرفا من الشعر الذي ظهر بعد العهد اليوناني وهن لا يعرفنه أو لا يعرفن إلا اليسير منه! فلما بدا العجز على العرائس ولم يقدرن على شفاء ذلك الشوق في نفوس الملائكة الأدباء تقدم الشيطان - وكان في زيارة من زياراته التي رأينا في كتاب أيوب أنه يتسلل فيها حينا بعد حين إلى بلاط يهواه - فألهاهم بضع ساعات بأناشيد شتى مما التقطه هنا وهناك في رحلاته التي لا تنقضي على جوانب الأرض، فطرب سامعوه لأول أصواته واستطابوا روايته وأنشدوه؛ إذ كان الخبيث ماهر الأذن والذاكرة، وكان يعي أحسن الوعي أناشيد الشعراء الذين كانوا يرتلون القصيد على مسامع الأمراء، أو بين سواد الدهماء في العصور الوسطى، ولكنها فترة عارضة ثم يسري إلى غنائه شيء من الاختلاف ويجم القديسون والملائكة ويدب إليهم الضجر والملالة ويحسون أن عنصر التلحين - بل عنصر الترتيل بعد التلحين - يخفى رويدا رويدا حتى يجدوا آخر الأمر أنهم يصغون إلى كلام يقال كما يقال كل كلام عار عن اللحن والتوقيع، وأي كلام؟ لقد كان القديسون والملائكة يألفون السجع في صلواتهم ويحبون سماعه. ولكنهم ما لبثوا أن فقدوا حتى السجع في الشعر الذي كان يلقيه الشيطان عليهم، ثم فقدوا الوزن، ثم فقدوا كل معالم ذلك الكلام المقفى الموزون، وما هو إلا أن ألقى الشيطان عليهم درته الأخيرة من درر الشعر الأمريكي المرسل حتى حيوه كما حيي قبل دهور ودهور في جهنم بصفير مطبق من السخرية والاستهجان! وفر العرائس لائذات بأبواب الجحيم، وابتسم الشيطان، وانحنى ثم تراجع منصرفا؛ لأنه تعود طول عمره أن يجفل من علامات الاستهجان والنفور.
ونقر جبرائيل رئيس العازفين نقرة بعصاه على المنضدة، فإذا الرفيق الأعلى يطهر آذانه المخدوشة بعد فترة قليلة بنشيد غريغوري جليل.
6
بهذه الأسطورة التي بعضها قديم وبعضها حديث، استهل تريفلان رسالته «ثاميرس» عن مستقبل الشعر في عالم الآداب، وتريفلان شاعر من شعراء العصر في بلاد الإنجليز، وثاميرس شاعر قديم في بلاد اليونان قيل إنه تسامى إلى تعجيز عرائس الشعر فضربنه بالعمى حسدا وانتقاما، وتركنه يبكي مصابه بقصيد يفوق كل قصيد، والرسالة إحدى رسائل «اليوم وغدا» التي أشرنا إليها في مقالنا السابق.
ولو شاء تريفلان لأتم الأسطورة على صورة غير هذه الصورة، فكان لا يعود الصواب ولا يظلم الخيال، ولو شاء لدعى بالعرائس إلى حضرة «ديموس»
7
الإله الجديد، ولم يدعها إلى حضرة يهواه الإله العتيق: ولأرانا كليو «ربة» التاريخ تقبل بقلمها وقرطاسها وإكليل الغار في يدها لتسمعنا سير الأبطال مرتلة في نوابغ الأقوال، وأحاسن الأمثال، ويوتيرب ربة اللحن تقبل بنايها الجميل، وزهرها البليل؛ لتشدو لنا بغرر الأوزان موقعة في بدائع الألحان، وثاليا ربة شعر الرعاة تقبل بالعصا المعقوفة، والنقاب المسدول، والزهرات الآبدات؛ لتهتف لنا بذلك النغم الساذج الشجي الذي تسلي به رعاتها في ليالي القمر ومروج الخلاء، وملبومين ربة المأساة تقبل بتاجها المذهب، وخنجرها المشهور، وصولجانها المرفوع؛ لتقص علينا فواجع الأسى ومشاهد المحنة والجوى، وتلقي علينا عبر الأيام وصروف الغير وأحكام القضاء، وتريبسكو ربة الرقص تقبل بتلك القدم الرشيقة الطائرة؛ لتخف بنفوسنا إلى سماء المرح، وأجواء الطلاقة، وأريحية الخيلاء الموزونة، والطرب المنظوم، وأرانو ربة الغزل تقبل بقيثارها الحزين؛ لتعيد على القلوب بكاء العاشقين، وأنين المهجورين، وحسرات الوله، وصرخات الحيرة والقنوط، وبولهمينا ربة البيان تقبل بصولجانها الحاكم على كل صولجان لترسل في أسماعنا سحرا من البلاغة، ونشوة من الحمية، ووحيا من الإيمان، وكاليوب ربة الحماسة تقبل بإكليلها المجيد لتنهض فينا عزيمة البطولة، وتقحمنا مخاطر الموت، وتفتح لنا مآزق الفداء وساحات الخلود، وأورانيا ربة الفلك تقبل بمراصدها لتكشف لنا وجه السماء، وتناجينا بسرار الكواكب في رحيب الفضاء، نعم لو شاء الشاعر لعرض علينا هؤلاء العرائس الفاتنات في تلك الزينة الخالدة، وذلك السمت الإلهي ليسمعنا - ماذا أقول؟ أستغفر الإله ديموس - بل ليسمعن «ديموس» صفوة ما نظمن، وخلاصة ما أوحين وغنين، ويرفعن إلى عرشه تلك الأصداء التي تنوء بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء! ثم لو شاء الشاعر لقال لنا ماذا يكون نصيب الأخوات الإلهيات من هذا الإله المحدث الجالس فوق عرشه الترابي، وفي إحدى يديه قدح من الخمر الرديئة وفي الأخرى قبضة من «البنكنوت»، لقد أشفق الشاعر أن يسوق المسكينات من قرارة الجحيم إلى هذا البلاط اللئيم، ولكنه لو فعل لما سمع من الإله ديموس إلا صيحة واحدة في لكنة السكر وعجرفة النعمة الحديثة: «أيتها الشقيات؛ أتبكينني وتغرينني بالموت وأنا أنعم عليكن بالفلوس؟ ما لكن ولهذا العواء؟ ألا تعرفن الطقاطيق؟ ألا ترقصن البلاك بتوم والشارلستون؟!» •••
ذلك أو ما يشبهه يكون لا محالة جزاء عرائس الأمس لو ظهرن اليوم للإنشاد في حضرة ديموس الكبير؛ وصاحب الرسالة يعلم ما نعلم، ويقوله بلغة الكلام، وإن لم يقله بلغة الأساطير، ويرى أن الشعر مدبر في هذا العصر، وقد يظل مدبرا في العصور المقبلة لسببين: أحدهما أن الشعر كان يغني في الزمن القديم، ثم بطل الغناء فرتلوه أو ترنموا به، ثم بطل الترتيل والترنيم فألقوه، ثم بطل الإلقاء فقرءوه في المحافل أو الكتب، وذهبت عنه طلاوة الموسيقى وفقد سحره القديم في الأسماع والقلوب، وانتهى بأن صار كلاما يعبر بالنظر وقل أن يطرق الأسماع، والسبب الآخر أن الطبائع في العصور الحديثة تنكر الحماسة الشعرية، وتسخر منها لاستغراقها في الواقع «الريالزم» وثورتها القريبة على أخيلة القدم وعقائد الأولين، وهو لم يذكر سبب هذا «الريالزم»، ولكن استغراق الناس في الواقع هذه الأيام حق لا شبهة فيه، وقد لا يدوم على ما نعهد إلا كما تدوم القهقهة بعد مشهد يسبل عليه الستار.
ولقد أصاب صاحب الرسالة في السببين، وأتى فيهما على مقطع الصدق في هذا الباب، ولسنا نحن أعظم منه تفاؤلا، ولا أقرب إلى الرجاء في مستقبل الشعر، فرأينا يقرب من رأيه ونظرتنا إلى المستقبل تشبه نظرته، ولكننا نود أن نعرف هل الناس في هذا الزمان أنبى عن الشعر طباعا، وأزهد فيه نفوسا مما كانوا في الزمان القديم؟ فأما أن زماننا هذا لم ينجب من كبار الشعراء العبقريين من يقاسون إلى شعراء العصور الغابرة فذلك واضح، لا تعوزنا معرفته ولا هو يحتاج إلى سؤال وتحقيق ، فليس هذا الذي نسأل عنه ونلتمس الوصول إلى حقيقته، ولكننا إنما نسأل عن طبائع الناس جملة هل تغيرت بواعثها التي تحركها إلى الإعجاب بالشعر ودواعي التخيل والإحساس، أو لا تزال تلك الطبائع كما كانت في كل زمان نعرفه ونعلم اليقين عن أنباء أهله وحظوظ شعرائه وأدبائه؟ وهنا يبدو لنا وجه الغلو في قول القائلين أن الشعر يبطل اليوم وبعد اليوم لبطلان بواعثه ودواعيه، إذ كيف يسعنا أن نقول جادين في القول إن الناس لا يحسون اليوم كما كانوا يحسون بالأمس، ولا يحبون ويبغضون، ولا يرجون وييأسون، ولا يرضون وينقمون ما كان ذلك دأبهم في كل حين وبين كل قبيل؟ ليس هذا مما يمكن أن يقال في جد وروية وإدراك لحقائق الأشياء، فالإحساس لا ينقطع، والنفوس الإنسانية بجملتها لا تختلف، والهموم التي أنشد فيها الشعراء القدم ذلك القصيد الخالد هي هموم هذه الساعة يحسها ألوف الألوف في كل زاوية من زوايا الأرض، وفي كل لحظة من لحظات الحياة، فهل لنا أن نعرف إذن ما الذي تغير في العصور الحديثة، فتغير نصيب الشعر وفترت من ناحيته قرائح القائلين وسلائق السامعين؟
يخيل إلي أن بواعث الإحساس التي كانت مصروفة إلى الشعر فيما مضى قد صرفت في هذا الزمان إلى شيء آخر يشبهه، ويغني غناءه لأول نظرة في تزويد الخواطر، واستجاشة الإحساس، وإرضاء الأشواق والأفراح والأحزان التي يبلوها الناس في غمار الحياة، وأن هذا الشيء الذي انصرفت إليه بواعث الشعر في زماننا قريب لا يطول بنا أمد النظر إليه، فإنما هو بالإيجاز مناظر الصور المتحركة، والتمثيل الماجن، وأخبار الروايات، وقصص الجناية والغرام التي تبسطها الصحف لقرائها كل صباح ومساء، فهذا الذي أغنى غناء الشعر بيننا، وسيغني غناءه غدا، وكان يغني غناءه في عصور هومر وشكسبير وملتون وهيني ودانتي والمتنبي وابن الرومي وأمثالهم في الأمم كافة، لو منيت تلك العصور بمهازل الصور المتحركة وآفات التمثيل والصحافة، وسنعرف من هذا أن الطبائع لم تتغير وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، وأن أناسي عصرنا قابلون للطرب الشعري كأجدادهم الأولين قبل ألوف السنين، ولكنها معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا من اليأس حتى نجد من يقول لنا عن علم وثيق: متى تنجلي هذه الغاشية يا ترى؟ ومن لنا بأن يثوب الناس يوما إلى عهدهم الدابر، وأن يفيق «ديموس» من سكرته ليجد نفسه في عالم الفنون وراء الصفوف يسمع ما يملى عليه، ولا يملي هو على أحد ما ينبغي أن يقول!
ويجوز أن نزعم فوق ما زعمنا إننا مبالغون على ما يظهر في تصور العناية التي كانت تحيط بشعراء القدم، والحظوة التي كانت لهم بين سامعيهم والمنعمين عليهم. وأحسب أن عدد الذين يعنون بالمتنبي اليوم في العالم العربي أكبر من عدد الذين كانوا يعنون به في حياته، وأن المال الذي يدره ديوانه اليوم على طابعيه وبائعيه أكثر من المال الذي كان يدره على صاحبه وذويه، وأحسب أن قراء ملتون اليوم بين الإنجليز أعظم وأعرف بالأدب من قرائه على عهده، وأن قدره في أعينهم أرفع وأنبل من قدره بين من كان يسمعهم بلسانه نغمات فردوسه وصرخات فؤاده، وسنعرف من هذا مرة أخرى أن الطبائع لم تتغير، وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، ولكنها كذلك معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا عن اليأس؛ لأن الميدان اليوم متسع فياض يغرق فيه ويذوب في أعماقه أضعاف تلك العناية التي كانت حسب المتنبي في عصر بني حمدان، وحسب ملتون في عصر البيوريتان.
وصفوة القول: إن الطبائع باقية، وإن اليوم كالأمس، والغد كاليوم في التخيل والإحساس، ولكن ما مستقبل الشعر بعد كل هذا؟!
مستقبله كما قلنا في ذمة التمثيل، والصحافة، والمطابع، والروايات، وما مستقبل هذه التي يدخل في ذمتها مستقبل الشعر والشعراء!
قل علمه عند ربي.
في الماضي1
إلى الأمس في هذا الأسبوع! فقد مضى لنا أسبوعان في مجاهل الغد بين مستقبل المرأة ومستقبل الشعر، وما أظننا اقتربنا خطوة إلى ذلك الغد، ولا أظن أحدا ممن يشدون الرحال إليه يقترب من حدوده أو يبرح مكانه!
ومن البداهة أنني لم أذهب إلى الماضي على طريقة أينشتين وأتباعه، فأركب مطية الفرض إلى كوكب من هاتيك الكواكب التي تبعد عن الأرض بملايين الدهور والأحقاب، وأظل هناك في انتظار الأشعة القديمة التي خرجت من الأرض تحمل مناظر رمسيس وما قبل رمسيس، ولا تزال سابحة بها في الفضاء إلى ذلك الكوكب المجهول ليراها بعد حين من ينتظرها هنالك من ركاب مطايا الفرض، وأصحاب ذلك البراق الذي يذهب إلى كل مكان ولا يذهب إلى مكان. كلا لم أذهب إلى الماضي على هذه الطريقة، فإن ركوب الفرض مزلة، والمرانة على هذه الفروسية رياضة لا تخف إليها النفوس في كثير من الأحوال، وإنما ركبت إلى الماضي طريقة السكة الحديدية، وذهبت بها إلى حيث يذهب أناس كل يوم ويعودون.
ذهبت بها إلى أسوان لأدرك بقية الشتاء، وآخذ لي من هوائه بنصيب، ولو شئت لقلت لأتفرج على الشتاء في أسوان، فإن جوه فيها ليجمل ويشف ويظرف حتى لتخاله طرفة فنية خلقت في نطاق من الهضاب والجبال للفرجة واللهو لا للانتفاع و«الاستعمال»، أو تخاله جوا صنعته الطبيعة أول مرة، ثم جرى المقلدون لها في صناعة الأجواء على سنة المبتدئين في التفاوت والاجتهاد، فمن لم ير السماء في أسوان لم يعرف ماذا تعني كلمة «الأزرق» في معجمات اللغة، ومن لم ير الشمس في أسوان لم يعرف كيف يجري الضياء دما في العروق، وكيف تسري الحرارة نشوة في الأرواح، ومن لم ير النيل في أسوان لم يعرف ماذا به من سر الآلهة، وماذا كان الأقدمون يعبدون فيه ويخافون منه، ومن لم ير العزلة في أسوان لم يعرف كيف تكون عزلة الخالدين في أمان واكتفاء وترفع عن صغائر العيش وأباطيل النفوس.
ذهبت إلى أسوان أو ذهبت إلى الأمس، سيان عندي في القول، وسيان في التصور والخيال، ذهبت إليها فإذا أنا فيها كمن جنحت به سفينة عند بادية، أو حمله الرخ إلى جزيرة مسحورة بينها وبين موطنه في الحياة مسير الشهور والأعوام، وإذا أنا أنظر حولي فلا أرى إلا ماضيا أثر ماض تنقطع فيه الصلة بيني وبين حاضري في المعيشة والشعور، ولست أدري كيف رحلت أنا إلى تلك الشقة البعيدة، أو كيف رحلت تلك الشقة البعيدة إلي؟ أفكان ذلك لأنني نقلت نفسي فجأة من حيث يشغلني حاضر الحياة بهمومه وأشجانه ومناظره وألوانه، إلى حيث كانت مآلف طفولة وأحلام غرارة بعد بها العهد، وضربت بيننا وبينها عوالم أفراح وأتراح، وآفاق آمال وأعمال، وآماد إذا كر فيها الفكر راجعا خيل إليه أنه يتعثر منها في الآباد بعد الآباد ويخطو بها على الأكوان فوق الأكوان؟ أم لأنني نزلت في مكان يعمره القدم الماثل للعيان، وتسكنه أطياف الغابرين هائمة حول آثارها وبقاياها كما تحوم الأرواح حول الأبدان؟ أم لأنني شهدت لديه المناظر التي شهدها قبلنا السابقون، وسيشهدها بعدنا اللاحقون، وسيكون من شأنه بعد الدهور المغيبة في ضمير الزمن ما كان من شأنها قبل دهور ودهور؟ كل أولئك قد يكون له أثره في خلق ذلك الأمس الذي ألفيتني منه في جزيرة مسحورة يعبرها الرخ في لمحة عين ولا يعبرها الإنسان - إن عبرها - إلا في مئات السنين! فأنا ثمة أنظر إلى نفسي، وأنظر إلى الآثار حولي، وأنظر إلى الأرض والسماء، فإذا الماضي العريق يحيط بي من حيثما نظرت ويفصل بيني وبين اليوم أينما أقبلت وأدبرت، وإذا بهذه النفس التي أحتويها أو تحتويني قد لبست لها شبحا من الأشباح الغابرة، إن يعجب لشيء في هذه الدنيا فهو عاجب أن يكون خلقا لا يزال بقيد الحياة. •••
إن الزمن هو التغير، وما الإحساس بالزمان إذا لم يكن إحساس بالتغير من حال إلى حال؟ فأنت إذا وقفت على مشهد لا ينال منه التبديل بين حين وحين، ولا يبرح يوم تراه كما كانت تراه القرون الأولى، ولا يذهب بك الخيال إلى صورة له تتمثلها غير هذه الصورة التي تقع عليها عيناك سكن الزمن عندك، وبطلت دورة الأيام في روعك، ووقف دولاب الحوادث وقفة المنزه عن طوارئ الغير وعوارض الزوال، فأنت قائم من ذلك المشهد حيث تركه الزمان منذ أحقاب وأحقاب، وأنت مستقر لديه في أعماق الماضي الذي لا مستقبل بعده ولا صفة له غير صفة العصمة والدوام، وهذه هي صورة ذلك المشهد الصامد الذي يقابلك إذا أويت من أسوان إلى جبال فيها، وأودية تحف بها وصحاري تدور عليها، وشارة تختم على ذلك كله بخاتم أقدم من القدم، وأعرق من مجاهل التاريخ، وفي ضمان هذا الدوام الشاخص في ذلك الجثمان العزوف العابس، أودع الأقدمون هياكلهم وبنوا على الخلود آمالهم، واطمأنوا إلى سكون حزين وقرار أمين. فليست الآثار هي التي تخلع على أسوان ثوب الأمس، وتسبل عليها ستار الماضي وعنوان البقاء، ولكنما الآثار وديعة هناك في أحضان ذلك الدوام الذي لا يقاس إليه دوام الإنسان ولا ما يصنع الإنسان، وهي هناك كالطفل المهجور في كفالة الشيخ الوقور: تراها بين الصخور النابية التي تشرف عليها، وهي تتداعى تارة وتتماسك تارة أخرى، فترثي لتلك الشيخوخة الباكرة في جانب ذلك الهرم الذي لا تغض منه السنون، وترغمها مدبرة قبل الأوان هاوية إلى الموت في إبان الشبيبة والعنفوان، وتستصغر الألف والألفين والألوف من السنين وما هي بالشيء الصغير في حساب الإنسان.
كذلك رأيت أنس الوجود حين رأيته للمرة الأخيرة منذ أيام: شيخا يهبط إلى قرارة الماء يثقله اليأس، ويمسكه الصبر، وتعزيه حكمة الدهور، شيخا كسقراط في مجلس الموت يلقي بالعبرة ويشرب الكأس الوبيلة، ولا يجزع من المصير، فقلت في نفسي: ماذا يبقى من هذه الأعظم النخرات بعد ألف عام بل بعد مائة عام؟ لعله لا يبقى بعد ذلك شيء ولعل هذه المشاهد الأبدية التي تشرف على القصر خاسرة يومئذ حين تفقده مقياسا فاخرا يذكر الناظرين بدوامها القانع القرير وعكوفها الشامس الوحيد. •••
كذلك رأيت القصر في احتضاره المحتوم، ولكم رأيته قبل ذلك في صور شتى تختلف الصورة منها بعد الصورة، كأنما هو عدة قصور تبنى وتهدم في زاوية الحدس والتخييل، فلهذه البقايا الماضوية ماضها بل مواضها في ذاكرة كل طفل درج بأسوان، ونشأ بين آثارها يسأل عنها فيجاب حينا بالأساطير وحينا بالحقائق والأسانيد، وهذا القصر الذي يودع اليوم بقاءه الطويل كم كان له من نبأ بيننا نصغي إليه حول النار في ليالي الشتاء، وليس في قلوبنا الصغيرة إلا آذان مفغورة تلتهم الحديث التهام الجائع المنهوم، فيوما كان هذا القصر بيتا للأصنام يؤمه الكفرة المشركون يعبدون فيه الشياطين، ويعصون الله ورسوله عامدين مستهزئين، ويوما كان القصر خزانة للذهب تقوم على حراستها المردة، ويحتال عليها السارقون بالطلاسم والتعاويذ، ويهلك منهم في طلابها من سبق عليه قضاء الموت، ويظفر بالقليل أو بالكثير من كتبت له النجاة! ويوما كان القصر سجن غرام ومنفى شقية برح بها الحب وأتلفها السقام، نعم كان هذا القصر في بعض أيامه عندنا سجنا بناه الوزير إبراهيم لابنته الورد في الأكمام، وكانت الفتاة تحب الفتى «أنس الوجود» وتبثه الوجد بالشعر المنظوم، والزفير المكتوم، وكان أبوها يخشى فضيحة هذا الهوى الحرام فيضرب كفا بكف، وينحى على أمها باللوم، أو ينحى على الزمان الخئون إذا أعياه من يلوم، ثم بدا له فبنى لها قصرا لا يصل إليه الطيف، ولا يعرف طريقه الجان، ثم حملها إليه خفية وأغلق عليها أبوابه، وتركها بين الماء والسماء لا تزار فيه إلا عاما بعد عام، حين يؤتى إليها بالمئونة والطعام، لكن ما يهابها الطيف ويجهله الجن يعرفه الحب ويجسر عليه المحبون! فخرج أنس الوجود يجوب القفار، ويتلمس الآثار، وتلتهب حوله الجبال، وتصطلح عليه الأهوال، ويشتد به الغليل، وتشتبه عليه السبيل! ويلقى في بعض طريقه أسدا في خيسه فيناديه بمثل هذا التسجيع: «يا أبا الفتيان، ويا سلطان الآجام والغيران: إنني عاشق مشتاق أتلفني العشق والفراق، فارقت الأحباب، وغبت عن الصواب، فاسمع لكلامي وارحم لوعتي وغرامي» فيقبل عليه الأسد كئيب المحيا، مغرورق العينين، ويمشي بين يديه ويومئ إليه، فيسير به ساعة من الزمان يصعد إلى جبل ويهبط من جبل، حتى يقف به على آثار قوم يعلم أنها آثار الركب الذين تحملوا بالورد في الأكمام، ثم يرجع الأسد ولا طاقة له بالمزيد على ما فعل، بعد أن أقام الفتى على نهجه، ولبث وراءه ينظر إليه وهو يتبع الأثر ويستسلم للقدر، ثم يغشى على أنس الوجود في تلك القفار، ثم يأخذ في البكاء وينشد الأشعار، ثم يستمع له عابد في الغار، فيبكي لبكائه، ويعجز عن دوائه، ويدله السبيل ويزوده بالدعاء والتقبيل، وكنا نسمع هذه القصة التي تبكي الأسود والعباد، فنعجب لبكاء العابد ودعائه للعاشق أشد من عجبنا لبكاء الأسد الذي ما يزال على جهالة الوثنية وضلالة الحيوانية! ونحسن الظن بهذه العجماوات التي ترق للشعر السري، وتشفق على العاشق الشجي، ونؤمن بالقصيدة ونمني النفس بالعدد العديد من قراء في المدن الواسعة، وقراء في الفقر المديد.
كذلك كان القصر في يوم من أيامه الغابرات، ثم كان ما هو كائن اليوم وما سيكون إلى أن لا يكون: دارا لإيزيس وأوزيريس، ومصلى لربة الحب والوفاء، ورب الأقمار والشموس، ثم ها هو اليوم غريق في لجة ماء، وضحية يفتدى بها بعد أن كانت تتلقى الفداء، وبقية من تلك الأجيال تغوص في خضم هذه الماضوية التي ترفعها حوله الصخور والجبال، وتعززها ذواهب الأعمار والآجال، والتي يتلبس بها مكان لو فارقه العبوس لحظة لضحك من الإنسان، ومما يصنع الإنسان، وعجب لهذه الحشرة ما لها وللخلود، وما حق لها تدعيه على المكان والزمان! •••
على ساحل ذلك الخضم كنت أقف بأمسي ويومي منذ أمد وجيز، وعلى ساحله ذاك وقفت طفلا مبهم الآمال والأشواق، أرقب على كثب مني أحدث ما تحدث أوربا، وآخر ما أنجبت ظواهر الحضارة وبدائع القرائح والأفكار، ومنه نظرت إلى المدينة الأوربية تلوذ به وتحج إليه في آثار أرباب لها هجروا عروشهم في الشمال كما زعم الأقدمون، وصمدوا يستطلعون طلع الجنوب، ولشد ما توزعني تلك الرحلة الشاسعة بين أقدم قديم وأحدث حديث، وأشد ما أشعر الساعة بالبعد السحيق يفصل ماضي الذي كنت فيه، وبين حاضر لي وددت لو أنني تركته غريقا هناك في عدوة الخضم العميق.
الصحيح والزائف من الشعر1
كيف نعرف الشعر الزائف من الشعر الصحيح؟ سؤال جوابه عندي كجواب من يسأل: كيف نميز بين ضروب الإحساس؟ فالإحساس القويم الصالح موجود ينعم به أو يشقى به أناس كثيرون، والشعر الجيد الصحيح موجود كذلك يقوله الشعراء ويقرؤه القارئون، ولكن التمييز بين إحساسين كالتمييز بين شعرين أمر يرجع إلى شخص المميز وملكاته وأطواره ومطالعاته، وليس إلى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لا تختلف بين عارف وعارف، وللتعليم في هذا الأمر حظه الذي لا ينكر، وأثره الذي لا يذهب سدى، فأنت تستطيع أن تضرب الأمثال وتبين للمتعلم المثل الجيد والمثل الرديء فيفهم عنك ما يفهم، ويستعين بالأمثال على القياس والمقابلة، ولكنك لا بد منته معه إلى حد يختلف فيه نظره ونظرك، ويتباعد فيه حكمه وحكمك، ولن تستطيع أن تعطيه كل وسائل نقدك للشعر إلا إذا استطعت أن تعطيه كل وسائل إحساسك بالحياة. فإن هذا يحتاج إلى خلق جديد، وذاك كهذا يحتاج أيضا إلى خلق جديد.
أسمعنا بعض المتعلمين قصيدة يصف فيها الحرب ويستهلها بالغزل، وأظنه استطرد من الغزل إلى وصف الحرب بجامعة المشابهة بين الدماء التي سفكتها الحسناء، والدماء التي تسيل في ميادين القتال ! وكان بعض السامعين يعجب ويستحسن، ويشتد إعجابه ويعظم استحسانه لهذه المشابهة الظريفة وهذا الانتقال البارع! وكل أولئك السامعين ممن يقرءون الشعر ويتصفحون كتب الأدب ويعرفون أن هناك شعر صناعة، وشعر سليقة، وإن من الكلام ما يتكلف، ومنه ما يرسل عن وحي البديهة الصادقة والذوق السليم! فعجبت لإعجابهم، ودهشت لاستحسانهم، ورأيت أن المسافة بينهم وبيني في النظر إلى ذلك الشعر كالمسافة بين من يقبل على المائدة متشهيا ملتذا وبين من تغثى نفسه من الخلط والغثاثة. نعم! فإن للنفس لغثيانا كغثيان المعدات، وإن للمعاني لخلطا كخلط الطعام، وإن رجلا لا ترفض نفسه إحساس الغزل ممزوجا بإحساس النكبات والكوارث لأعجب عندي من رجل لا ترفض معدته العسل ممزوجا بالخل والتوابل، وذوب السكر ممزوجا بذوب الملح وما إليه!
وكنا منذ أيام نتطارح قصيدة ابن الرومي في رثاء ولده «محمد» وهي القصيدة التي يقول فيها:
طواه الردى عني فأضحى مزاره
بعيدا على قرب، قريبا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها
وأخلفت الآمال ما كان من وعد
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
إلى أن يقول:
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله
مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه
أو السمع بعد العين يهدي كما تهدي
لعمري لقد حالت بي الحال بعده
فياليت شعري كيف حالت به بعدي
ثكلت سروري كله إذ ثكلته
وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد
إلى أن يقول:
محمد! ما شيء توهم سلوة
لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما
يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد. إلا رجلا لا بأس باطلاعه كان يقول : ولكن أحسن من هذا قول ابن نباتة في رثاء ابنه:
قولوا فلان قد جفت أفكاره
نظم القريض فما يكاد يجيبه
هيهات نظم الشعر منه بعدما
سكن التراب «وليده وحبيبه»
2
وقوله فيه:
يا راحلا من بعد ما أقبلت
مخايل للخير مرجوة
لم تكتمل حولا وأورثتني
ضعفا، فلا حول ولا قوة
وجعل يعجب من «وليده وحبيبه» التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف قوله: «فلا حول ولا قوة» ويقول إن في هذا لمعنى، وإن فيه لحسنا، فسألته مستغربا: أوتمزح؟ فكان استغرابه لسؤالي أشد من استغرابي لإعجابه وتفضيله. وسألني وهو لا يشك في صدق رأيه: وما الذي تنكره من هذه الأبيات؟ قلت: أنكر منها ما أنكره من شراب كريه يمزج بين ألم الثكل وعبث التورية والتنميق، وأنكر منها ما أنكره من رجل أذهب إليه لأعزيه في ولده فألفيه يستقبل المعزين بأكل النار واللعب بالبيض والحجر وغير ذلك من ألاعيب الحواة! وأنكر منها ما أكره من رجل يزوق رسائل النعي أو يكتبها على دعوات الأفراح، ويخيل إلى أن ابن نباتة هذا كان يتربص بابنه الموت ليلعب في مأتمه هذا اللعب الصبياني العقيم، أما ابن الرومي فلا يلعب ولا يهزل ولا هو ينظم الشعر إلا لتفريج كربه والتنفيس عن صدره، وهو بعد والد مقروح نشعر معه بألمه المضيض كلما رأى ولديه يلعبان لاهيين عنه ولم ير بينهما أخاهما المفقود، ثم هو لا يحس إلا ما أحسه كل والد فقد ولده وأصيب بمثل مصابه، وشهد بعينيه صغيره المريض يذوي على الأيدي، ويموت نفسا بعد نفس، وهو لا يدفع عنه أجلا ولا حيلة له فيه، ولكنه يقول ما ليس يقوله كل والد إذا نظم في رثاء ولده؛ لأنه يضع الإحساس البسيط في اللفظ البسيط، وليس هذا الذي يفعله كل ناظم يحاول أن يحصر إحساسه، ويعرف منه مكمن الداء ومبعث الألم والشكاة. •••
ومن التزييف في الشعر ما هو أخفى من هذا على النقد، وما يكاد يشتبه على البصير في بعض الأغراض. مثال ذلك في هذه الأبيات:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
وأشربنا على ظمأ زلالا
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
فهذه أبيات من الشعر الرائق البليغ يتسق لها حسن الصياغة وجودة الوصف و«بساطة» الأداء. إلا بيتا واحدا منها يتطرق إليه اللعب العابث والتزييف المكشوف، فسل أي الأبيات الخمسة هذا البيت المعيب لا نجد إلا القليل يوافقونك على أنه هو البيت الأخير، بل سل من شئت أي الأبيات الخمسة هو أبلغها في الوصف والأداء لا تجد إلا القليل يذكرون لك منه بيتا غير البيت الأخير، فهو بيت القصيد وواسطة العقد كما يقولون! ولم ذاك؟ لأن القارئ تبادره منه صورة العذراء الحالية، وهي في جمال الذعر والدلال فيسري إلى نفسه سرور هذا المنظر الجميل، ويخلط بين هذا السرور وبين سرور الوصف والمعنى الأصيل، وإنما مثله في هذه الخديعة مثل من يشتري الجوهر المزيف بثمن الجوهر الصحيح ؛ لأنه ينظر على العلبة صورة عذراء فاتنة! فجمال العذراء الذي تعرضه عليه العلبة شيء حسن، ولكنه إذا حمله على أن يقبل الجوهر المزيف بثمن أعلى من ثمنه المعروف فهو مخدوع فيه ومأخوذ بحيلة لا يؤخذ بها لو أنه فرق بين اللباب والغشاء، والشاعر هنا يحتال مثل هذه الحيلة في تزييف معناه ويشغلنا بصورة العذراء الحالية عن حقيقة الوصف الذي يراد في هذا المقام، فهو يصف واديا رويا يقي من الرمضاء بنسيمه البليل، ومائه العذب، ودوحه الظليل، فلا يكفيه هذا الوصف الذي هو حسب كل محب للطبيعة مشغوف بجمالها الساذج الغني عن التزويق والتزوير حتى يجعل حصباء الوادي كاللؤلؤ والمرجان ساقطا من عقد منظم، ولا يكفيه هذا حتى يكون العقد في جيد حسناء وتكون هذه الحسناء عذراء، ولا يكفيه هذا حتى يلعب أمامنا لعبته التي تعوزها الأناقة والكياسة، ويغشنا بها غشا محروما من لباقة الحركة وخفة المداراة، فنحن أولا لا نعجب بالحصى في الوادي الظليل لأنه كاللؤلؤ أو كالمعادن النفيسة، ولكننا نعجب به إذا استحق الإعجاب لأنه «الحصى» الذي يحسن في موضعه، ولو كان أبعد الأشياء عن مشاكلة اللآلئ والمعدن النفيس، ومع هذا لا نرى ضيرا في تشبيه الحصى بالدر المنثور، ولا نريد أن نقول إن الشاعر إنما التفت إلى الحصى هنا ليذكر الدر والعقود، لا لأنه أعجب به وتنبه لحسنه ورآه وسما متمما لمياسم ذلك الوادي الذي وصف أدواحه، وظلاله، ونعم بمائه وهوائه، ولا نريد أن نقول: إن بعض الشعراء قد جروا على أن يكون كل منظر من المناظر التي يصفونها مشاكلا لشيء من النفائس القيمة والأعلاق الغالية، فالأرض مسك وعنبر، والحصباء در وجوهر، والشجر زبرجد، والماء بلور، إلى آخر هذه الأوصاف المحفوظة والأمثال السائرة، لا نريد أن نقول هذا ولا نأبى أن يكون الشاعر صادقا في التفاته إلى الحصى مريدا لذكره متعمدا لوصفه، ولكننا إذا لم نقل هذا فأي ذوق سليم تغيب عنه الشعوذة في حكاية العذارى يمثلهن لنا الشاعر مروعات؛ لأنهن ينظرن إلى الأرض فيسرعن إلى لمس جوانب العقود مخافة أن تكون الحصباء من سمطها المبدد وجوهرها المنثور؟ وأي شعوذة لأننا أغمضنا أعيننا وأوصدنا آذاننا وأنكرنا الحس والعقل، لا لأنه بهر الأعين وضلل الآذان، وخلب الحواس والعقول؟ فالصورة التي عرضها علينا الشاعر غريبة عن أصل المعنى كاذبة كل الكذب، ولا فضل للبراعة والطلاوة، وقبولها على أنها معنى صحيح كقبول الجوهر الكاذب إكراما لصور العذارى الحاليات على العلبة المزخرفة! أما الحقيقة فهي أن أولئك العذارى الحاليات، وتلك العقود النظيمة إن هي إلا تحلية بضاعة كتحلية القصب الذي يبيعونه باسم «خد البنت» لا دخل لها في تركيب السكر، ولا قيمة لها في المعصرة، ودفاتر البائعين والشراة!
ولنذكر هنا أبيات المتنبي في وصف وادي بوان، فإنها بسبيل من هذا الغرض، وإن كانت تختلف عن البيت الذي تكلمنا عنه بالصدق والتحلية التي لا تكلف فيها. يقول في وصف ذلك الوادي:
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت - وإن كرمن - من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الحر عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أوان
وأمواه يصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
إلى أن يقول:
يقول بشعب بوان حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان!
فصليل الحلي في أيدي الغواني هنا تحلية صحيحة تضاف إلى قيمة المعنى ولا توضع على غلافه؛ لأنها تشبيه صادق ليس فيه عبث مزيف ولا شعوذة محتال، والدنانير التي ألقاها الشرق في ثياب المتنبي دنانير يقبلها صارف الشعر، وإن كانت لتفر من بنان صيارف المال! والخاطر الذي أورد على قريحة المتنبي أن يضع على لسان حصانه ذلك التهكم الحيواني خاطر قد يلوح لأول نظره كأنه اللعب والمجانة، ولكنه في هذا الموقع أصدق خاطر يرد على خيال شاعر، وأخلق تعبير أن يبين لنا الفارق بين هموم الحيوان في الحياة وهموم الإنسان. إذ من الذي يعير ابن آدم بسابقة أبيه في مفارقة الجنان غير الحيوان البعيد عن هذه القرابة؟ ومن الذي يؤثر وداعة الطبيعة وراحة الجسم على دواعي المجد ومغريات الكفاح غير الحيوان الآكل العشب، العائش على الفطرة الخلي من هذه الدواعي والمغريات؟ ومن الذي يعلم كراهة الحيوان للنقلة من مثل ذلك الوادي الرغيد فلا يرى أنه قائل بلسان حاله ما ترجمه المتنبي في ذينك البيتين اللذين جمعا الصدق إلى الفكاهة، والشعر إلى الفلسفة، والوصف إلى حسن الأداء؟ ضع هذا المعنى على لسان خادم المتنبي مثلا، أو على لسان فارس من فرسانه، وأنت تزداد علما بمكان الصدق في هذا الخاطر البعيد الذي قربه المتنبي إلينا أجل تقريب. •••
هذه أمثلة من الفروق بين الصحيح والزيف في الشعر والبلاغة، أمثلة نعود إليها كرة بعد أخرى؛ لتوضيح مذهبنا في النقد، ونظرتنا إلى المعاني، وتقديرنا للشعراء، وقد تغنينا الأمثلة كما قلنا في فاتحة هذا المقال عن تقرير القواعد وشرح المقاييس.
بيتهوفن1
تحتفل الدنيا اليوم بمائة عام خلت من اليوم الذي مات فيه هذا البائس العظيم، ولو أنه عاد إلى قيد الحياة لشارك الدنيا احتفاءها بتلك الذكرى الخالدة؛ لأنه يعلم أن يوم مماته هو أسعد ذكريات حياته، وإن الحياة مهزلة مملولة تشيع بالتصفيق والابتسام!
كان بيتهوفن فنانا عظيما ونفسا عظيمة، فأما الفنان فجملة ما يقال فيه إنه شكسبير الموسيقى كما قال فاجنر يوم ذكرى مولده، وليس من شأننا أن نخوض في الكلام عليه من هذه الناحية؛ لأنها الناحية التي نجهل دقائقها وأوجه الحكم فيها، وإنما نتكلم عليه من ناحية نفسه التي علم الناس عنها بعد موته، وكتبوا في أطوارها وبداوتها فوق ما علموا وكتبوا عن جميع عظماء عصره، فكان خلاصة ما قيل في هذه النفس الطيبة الشقية إنها نفس بائس عظيم.
يرى القراء اليوم صورا كثيرة لبيتهوفن يعجبون بسمتها وطلعتها، ويستملحون قسامتها وجمالها. هذه صور عمل فيها الصقل والإعجاب فوق عمل الطبيعة والمحاكاة، أما صورة بيتهوفن كما كان يراها أبناء عصره فهي صورة رجل نافر النفس، نافذ النظرة، متهجم الجبين ، نضح على وجهه الألم والنقمة، وطبعه الإهمال وازدراء العرف بطابع يهاب ولا يستملح، ويروع الناظر ولا يعطفه عليه، وكان منظره أشبه شيء بمنظر أنبياء بني إسرائيل الذين يرسلون على الدنيا بريق السخط والزراية من أعينهم، ونذير الموت والعذاب من أفواههم، ويخيل إلى من يراهم أنهم خلقوا وحدهم في مفازة مجهولة، لا سبيل بينها وبين الحياة، أو بينها وبين الحياة سبيل تحف به المخاوف والعراقيل.
وكان الرجل عامر البنية عريض الألواح، يبلغ في الطول خمسة أمتار وخمسة قراريط وتبدو عليه سيماء أهل الصراع والجلاد، ولكن كان قليل العناية بطعامه مشغولا بفنه، وكانت تمضي عليه الأيام لا يتبلغ إلا بما يقيم أوده على عجل وقلة صبر، وربما دخل المطعم ليأكل فينسى نفسه وينهض للحساب وما أكل شيئا! فأورثه هذا التهاون بضرورات الجسد داء في الأحشاء كان أقوى الأدواء التي عملت بالخراب السريع في تلك البنية العامرة، وذلك الجسد المتين، وزادت عليه عادة تعودها في استنزال وحيه واستجاشة نفسه تدل على طبيعة الرجل وغرابة منهجه في فنه، فقد كان بعض الموسيقيين يستوحون الأنغام بالخمر، وبعضهم يستوحونها بالرياضة واللعب، وآخرون يستحثون قرائحهم بمنادمة النساء أو بالحركة في الخلاء، أو بالجلوس في الرياض، أما بيتهوفن فقد كانت أحفل أوقاته بالإجادة والارتفاع والتحليق هي تلك التي يبرز فيها للعاصفة تضرب رأسه المكشوف، وللرعد يدوي على سمعه، والبرق يخطف بصره بوميضه، فإذا أعوزته هذه الغضبة التي لا تغضبها الطبيعة كل يوم خرج إلى الغابات والجبال يطوي فيها الساعات هائما صاعدا منقطعا عن الناس، كأنه عابد في محراب ليس له من الحياة إلا أذن تنصت، وقريحة تتوخى مهابط الإلهام، فأصابه طول التعرض لهذه العوارض في بنيته وكان له أثر على ما نظن في الصمم الذي ابتلي به، فنغص عليه عيشه وحجبه عن عالم النغام الذي خلق له، ولا حياة له في غيره، وما ظنك برجل تلقي عليه ألحانه فلا يسمعها! وما ظنك بنفس حية يقضى عليها بالعزلة عن كل مناجاة رقيقة وكل مجلس أنيس! وما ظنك بإنسان منفرد أحوج ما يكون إلى العطف والسلوى، ينقطع بينه وبين الدنيا وينزوي في ذلك المنفى البعيد القريب لا يخرج منه إلا إلى مرقده الأخير، لقد وقعت الضربة من الرجل في مقتله فملأت نفسه النقمة وضاق صدره بما كان يسع من أقدار الفاقة والمنافسة، وهم أن يقتل نفسه مرات لولا قوة إيمانه بفنه وصدق اعتماده على الله، ولقد كان كلما أطبق عليه الصمت المخيف وأحس بالثقل يتغلغل في تلك الحاسة اللطيفة التي ما خلق الله أدق منها ولا أكمل ولا أقدر على تمييز الهمسات والأصداء جن جنونه، وأنحى على معازفه يجمع قواه عسى أن يصل إليه ضجيجها، وينفذ إليه بلاغ من أصواتها. فيضيق به سكان الدار ذرعا ويودون المهرب منه إذ كان لا يعنيهم الشأن الذي يعنيه، ولا يبالون شيئا بعذره وصممه وموسيقاه! فقصاراهم إذا عظم عليهم الخطب أن يذهبوا إلى المالك يقولون له: إما نحن وإما «المجنون» في الدار.
وكان بيتهوفن مطبوعا على التهكم والمداعبة يرمي بهما عفو البديهة بلا حفيظة ولا قصد مساءة، فلما نكب في سمعه شيبت هذه السخرية فيه بمرارة النقمة، ونزلت على المرائين حوله سياطا لاذعات لا يطيقونها، ولا يغتفرون ذنب صاحبها، فظنوا به الحقد والضغينة ورموه بالمقت وسوء الطوية، وبيتهوفن أبعد الناس عند حقد حاقد، وأبرأهم من نية سيئة، بل ربما كان الأحجى أن يقال: إن خلق الطيبة فيه قد كان إحدى مصائبه في الحياة، وكان علة شقاء كبير له بين الناس، ولعل القصة التالية تدل بعض الدلالة على طيبة الرجل، وطفولة تلك النفس النابية الطهور: كان «لدفج لوفي» الممثل يلقى بيتهوفن في مطعم «النجمة الزرقاء» في بلدة توبلتز. وكان «لوف» يغازل بنت صاحب المطعم، ويغتنم الفرصة للقائها على انفراد، فقالت له يوما: تعال بعد انصراف القوم إذ لا يكون في المطعم إلا بيتهوفن وهو لا يسمع حديثنا فلا ضير علينا منه، وجرت الأمور بينهما على هذا المنوال فترة حتى تنبه أبو الفتاة وأمها لهذه العلاقة، فطردا الممثل وأنذراه ألا يعود. قال «لوفي»: فبرح بنا اليأس ورغبنا في المراسلة، ولكن من يا ترى ينقل الرسائل بيننا؟ أيرضى أن ينقلها ذلك الرجل النافر العصي الذي يجلس على تلك المائدة، إن ظاهره لعسير ولكني لا أحسبه غير صديق، ولقد أذكر إني لمحت نظرات العطف والمودة على ذلك الطرف الأشوس العبوس، فلنجرب، وقد كان! جرب «لوفي» تجربته ولقي بيتهوفن حيث كان يراه أحيانا في حدائق البلدة، فعرفه الموسيقي العظيم وسأله:
ما بالك لا تتغذى الآن في النجمة الزرقاء؟ فقص عليه «لوفي» قصته ثم قال له في وجل وتردد: هل لك يا مولاي أن تتولى تسليم رسالة للفتاة؟ فأجابه الرجل المخيف: ولم لا؟ إنك لا تعني إلا خيرا، وتناول منه الرسالة فوضعها في جيبه وهم أن يمضي في سبيله فاجترأ «لوفي» واستوقفه قائلا: ولكن عفوا يا مولاي! ليس هذا كل ما في الأمر. فالتفت بيتهوفن يسأله! أكذلك؟ قال «لوفي» نعم! عليك أن تحضر الجواب، وما حان الموعد في اليوم التالي حتى كان بيتهوفن ينتظره بالجواب المأمول، وظل ينقل الرسائل منه وإليه خمسة أو ستة أسابيع أي طوال الوقت الذي قضاه في البلدة.
وقد يخطر لمن يقرأ هذه القصة أن بيتهوفن كان من المتسامحين في الأخلاق الذين يهزءون بالتنطس ويستبيحون غوايات الغرام، لا! لم يكن بيتهوفن ذلك الرجل، بل كان على نقيض ذلك رجلا يؤمن بالمثل الأعلى في عفاف النساء وأمانة الرجال، وكان يأبى أن يلحن الروايات التي تعرض عليه كراهة لما فيها من مواقف الرذيلة والمجون، وكان يتقي أن تكون له صلة أقرب من الصداقة مع ذات حليل، وكانت صلاته التي يصلي بها إلى الله كلما ظمئت نفسه إلى العشير الودود «رب هبني تلك المرأة التي خلقتها من نصيبي، والتي تشد من عزمي وتعزز فضيلة نفسي» وكانت فضيلته هذه سخرية «فينا» وفكاهة النبلاء والنبيلات في زمانه، وما يدريك ما فينا في القرن التاسع عشر؟ هي مدينة الإباحة و«كرسي» الخطيئة، ومرتع اللهو الذي لا يعرف الدين ولا الحياء.
وأعجب بيتهوفن بنابليون الأول إعجاب غيره من النابغين والأدباء، ووضع في تمجيده لحن «البطل» من ألحانه التسعة الخالدات، وبدأ اللحن في السنة الثانية لمطلع القرن الثامن عشر، ثم ما زال ينقحه ويهذبه حتى أتمه بعد سنتين، ولعله كان مصيبا به خيرا كثيرا من نابليون لو تقدم به إليه، ولكن نابليون قبل تاج الإمبراطورية في هذه الأثناء! وجاء النبأ الخطير إلى بيتهوفن بلسان تلميذه «ريس» فاحتدم صاحبنا غيظا، وصاح في غضب «إذن ما كان هذا الرجل إلا واحدا كغيره من أبناء الفناء، وليدوسن هذا الرجل بقدميه على حقوق بني الإنسان»، وتناول صفحة العنوان في الكراسة فمزقها، وعدل عن إهداء اللحن إلى البطل الذي أوحاه إليه.
تلك نوبة أخرى من نوبات المثل الأعلى في قلب هذا العظيم المسكين، بل لقد كان إيمانه بالمثل الأعلى يرتفع بالعبقرية إلى مقام دنيوي فوق مقام الملوك والأمراء، وكان يأنف أن ينازل هؤلاء منزلة دون منزلة المثيل مع المثيل، فإذا دعي إلى وليمة ففهم أنهم يدعونه إليها للتلحين لا للمؤانسة والاجتماع ثارت ثائرته، واستكبر ألا يكون له شأن مع هؤلاء غير شأن الأعجوبة التي يتفرج بها المتفرجون، وإذا قضى العرف في إمارات ألمانيا المستبدة أن تطأطئ الرءوس لأصحاب التيجان ضرب هو بالعرف جانبا، وحياهم تحية الصديق للصديق، ومن نوادره في ذلك أنه كان يمشي مع جيتي الشاعر الألماني الكبير في بعض منازه توبلتز فبصرا بالأسرة المالكة قادمة في الطريق، فانحرف جيتي ناحية ولبث يتهيأ للتحية في مكانه، وألح عليه بيتهوفن أن يتقدم فما أصغى إليه، فتقدم هو في طريقه إلى الرهط الملكي غير منحرف عن سوائه، فلما بصر به الأمراء تنحوا له ورفع الأرشيدوق قبعته، وبدأته الإمبراطورة بالتحية، وانتظر هو بعد ذلك جيتي ليسخر منه ويداعبه، ثم كتب إلى «بتينا» صديقته وصديقة جيتي يقول في كلام يروي به القصة: «إن الملوك والأمراء يستطيعون أن يخلقوا الأساتذة والوزراء وأن يمنحوا الرتب والألقاب، ولكنهم لا يخلقون العظماء ولا العقول التي تعلو على السواد، فإذا التقى رجل مثلي ورجل مثل جيتي فخليق بالمالكين وذوي السلطان أن يعرفوا موضع العظمة هناك.» •••
بهذه العقيدة في الحياة ما كان يرجى لرجل سعادة، وبتلك الطيبة الساذجة ما كان يرجى لأحد فلاح، وما كان أحوج بيتهوفن مع هذا الخلق إلى بيت يسكن إليه، ويسعد فيه بعطف الزوجة الصالحة، وقلب المرأة الشفيق، ولو وجد هذا البيت وأتيحت لمثله سعادة الأزواج والآباء لطابت نفسه، وخف عليه وقر أحزانه، وعذاب حرمانه، وسطوة العرف والعادات عليه، ولكنه فقد هذا مع ما فقد من حظوظ الحياة، وتعوض منه بيتا يركن فيه الخدم إلى الكسل والتبطل؛ لأنهم لا يجدون من يلاحقهم ويراقبهم و«المجنون الأصم» مشغول بكتبه وألحانه! وكانوا يأخذون الأوراق التي يدون فيها النوتة حيثما وجدوها ليمسحوا بها الآنية والأحذية، ويزيلوا بها وضر الدهن والتراب، وفي بعض مذكراته تقرأ عن هؤلاء الخدم: «نانسي أجهل من أن تصلح لتدبير منزل. إنها بهيمة!» ... «خدمي الموقرون جادون من الساعة السابعة إلى العاشرة في إشعال النار» ... «خرجت الطباخة! لقد رميتها بنصف دستة من كتب» ... «لا حساء اليوم ولا لحم ولا بيض. تبلغت أخيرا بلقمة من الخان» وهكذا وهكذا مما يصور لك الجحيم الذي كان يعده طريد الناس والقدر ساحته ومأواه!
إن بيتهوفن ولا شك قد ورث صعوبة الخلق عن أبيه، الذي أتلفته الفاقة والسكر، ووباء في طفولة قاسية شحيحة لا تنبض بفرح ولا رجاء، وربما كان جده على شيء من تلك الصعوبة إذا صح ما روته الأحاديث من أنه غاضب أهله وهجر «أنتويرب» حيث كانوا يعيشون ليقيم في «بون»، ولكنها بعد صعوبة خير من النذالة التي يغتفرها المجتمع، ويرضاها الأصحاب والعشراء، ولو كان الناس يقبلون النية الحسنة يغشاها الظاهر العسير، كما يقبلون الظاهر الأملس يغشى نية الكيد والجفاء، أو لو كانوا يغلون الذهب عليه الغبار كما يغلون القشرة المذهبة في باطنها التراب وما هو أقذر من التراب، لوجد بينهم بيتهوفن غير ما كان يجد وعرفوا منه غير ما كانوا يعرفون، ولكن الناس يشترون الرجال بسعر السوق الجارية، ولا يحسبون في الميزان حسابا للعبقرية منذ كانوا يأخذونها بغير ثمن فتسقط في الحساب! ولو أن النابغين استطاعوا أن يحسبوا على أبناء عصرهم، وعلى من يخلفهم ويتلو خلفاءهم إلى آخر الزمان ثمنا لعبقريتهم يتقاضونه من عواطفهم وعقولهم وما ملكت أيديهم، لضمن أجفاهم وأعنفهم سعادة لسعادة العمر آلافا مؤلفة، ولما مات بيتهوفن في سبع وخمسين وهو يرى كما يرى عارفوه أنه أشقى خلائق الله.
الموسيقى1
ما الموسيقى؟ هذا سؤال نود أن نسمع له جوابا بعدما قرأناه عن ذلك الموسيقي العظيم الذي تجاوب العالم بذكره في خلال هذين الأسبوعين، وقبل أن نجيب عنه نحصر ما نعنيه فنقول: إننا لا نقصد في المقال فن الموسيقى ولا ملكة الموسيقى، فإن الموسيقى قد وجدت قبل فنها وقد توجد مع غيره، وليست الملكة إلا وسيلة لتجويد الأداء تزيد وتنقص في بعض الناس، ولا تخلق هي ذلك الشيء الذي يحتاج إلى الملكة في إبرازه، فلا الموسيقى إذن من الوجهة الفنية ولا الموسيقى من حيث هي ملكة في بعض الطباع غرضنا من هذا المقال، وإنما نسأل عن الموسيقى من حيث هي باعث في النفوس تحرك بها إلى استنباط الفن وأدواته، وتجردت له الملكات التي تعينه على الظهور والإتقان، فما الموسيقى التي هذه صفتها أو ما هذا الشيء الذي قل أن يخلو منه فرد أو قبيل؟
يقولون: إن الموسيقى هي اللغة العامة: وهذا قول حق ولكنه أجدر أن يكون وصفا لخاصة من خواص الموسيقى هي تلك الخاصة التي جعلتها لغة الناس أجمعين، يفهمونها على اختلاف اللغات بسليقة فيهم ليست بالقومية ولا بالإقليمية ولكنها سليقة «الإنسان» في كل موطن وزمان، وأحق من هذا أن نقول: إن الموسيقى «تعبير» يترجم عن حالات نفسية لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة، ولكنها هي لغة عامة بغير قصد من الهاتفين بها والسامعين، ومن رأي هربرت سبنسر أن الموسيقى هي الموازنة بين حركات الرقص والأصوات التي تشفع تلك الحركات، وأن الإنسان إذا ثارت بنفسه خالجة قوية دفعته إلى الحركة والصياح فيجيء الصياح موازنا للحركة، وتصبح كل صيحة مقرونة بحركتها، فيهتز الجسم لوقع الصيحة إذا وردت على السمع فإذا هو يتحرك حركتها الملازمة لها من حيث لا يشعر، أو يطرب الإنسان وينشط فتتحرك أعضاؤه فإذا هو يهتف بتلك الصيحة التي توازنها! وغير عجيب أن يكون هذا رأي سبنسر أو أي عالم غيره من علماء النشوئيين؛ لأنهم ألفوا في تعريف الأشياء أن يرجعوا بها إلى عهود الهمجيات الأولى وأن يردوها إلى بساطتها المجردة؛ لتكون أقرب إلى الفهم وأبعد من التراكب والتعقيد، فإذا بحثوا عن معنى الموسيقى رجعوا إلى أصلها بين قبائل الهمج ونظروا إلى صورتها التي ظهرت بها في أقدم العصور، فخلطوا بين الشيء في صورته الأولى وبين الشيء في جوره ولبابه، فإذا كان الهمج يرقصون ويصيحون ويضربون بأرجلهم ضربا يوازن الرقص والصياح، فالموسيقى إذن هي ضربة الرجل على الأرض، ثم هي دقات الطبل التي تحاكي ضربات الأقدام، ثم هي نفخ المزمار ودق الأوتار على مثل الإيقاع!
وهكذا تسألهم عن الموسيقى فيجيبونك عن درجاتها التي ترقت عليها، أو عن الآلات التي تعين على تمثيلها، وينسون أن كل مركب قد كان بسيطا في يوم من الأيام، وأن العلم بهذا وإيراد الأمثلة التي تؤيده واستعراض المراحل التي درجت عليها البساطة إلى التركيب لا يحل الإشكال، ولا يخرج بنا عن تحصيل الحاصل وعن توسيع الحقيقة المجملة التي تقول: إن المركب يرجع إلى البسيط؛ فهب أن الهمج لم يضربوا بأقدامهم على الأرض حين كانوا يرقصون ويهزجون أيكون هذا إذن قضاء على الموسيقى كالقضاء على الجنين الذي لم يدفعه الرحم إلى وجود؟ أنسكت الطير عن الإنشاد وتبطل دلالة الأصداء في النفوس؟ أنستغنى نحن عن التعبير الموسيقى؛ لأن آباءنا استغنوا عن الضربة بالأقدام والصيحة بالأفواه؟ ولعمري إن الاندفاع إلى الرقص نفسه لهو اندفاع موسيقي يحرك الفكر والجسم واللسان في آن، ويسبق الهيئة التي يظهر بها طرب الأعضاء وصياح الألسن والتصفيق بالأيدي والضرب على الأقدام، فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص، وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات، والرغبة في «الموازنة» هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية، وهي التي جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان، وإنما الأصل في كل ذلك أن تقوم بالنفس فتعبر عنها كل جارحة بما تستطيع من الموسيقية التي تتوازن في الجميع، ولو لم يكن الإنسان موسيقيا لما نقصت الموسيقية التي في هذه الدنيا، ولا بطل ما فيها من التوافق والانسجام، فما الموسيقية في الإنسان إلا صدى ذلك التوافق والانسجام الذي في الوجود، وإلا دليلا على أنها بعض مظاهرهما وليست كل المظاهر في جميع الحالات، ولقد غنى الإنسان؛ لأنه يريد أن يغني لا لأنه يريد أن يرقص، فقد يوجد الغناء في الحيوان غير مقرون بالرقص، وقد يوجد الرقص في الحيوان غير مقرون بالغناء، فلو لم يكن الرقص لكانت الموسيقى في نشأة غير تلك النشأة وأسلوب غير ذلك الأسلوب، ولو لم تكن الآلات مبدوءة بتصفيق الأكف ودقة الأقدام، لبدأت الموسيقى بآلات أخرى، وظهرت في هيئة غير تلك الهيئة؛ لأنها موجودة بغير وجود تلك الهيئات والآلات.
والسمع ولا ريب هو سبيل الألحان إلى النفس، وعدة الموسيقى في الشعور بالأصوات؛ ولكنه - ولا ريب كذلك - ليس بالسبيل الفذ الذي تنقطع الموسيقى عن النفس إذا انقطعت موارده، ويمتنع الطرب إذا امتنعت رسائله، فللعالم أصداء كثيرة في النفس الإنسانية، ليس السمع برسولها الفرد ولا هو خير الرسل التي تحملها إلى السريرة؛ وفي عبقرية بيتهوفن شاهد بهذا يدل على مبلغ الحاجة إلى السمع في توليد الألحان. فهي حاجة ماسة ولا بد منها في بعض أدوار الدراسة، ولكن الصمم مع هذا لم يمنع بيتهوفن أن يخرج خير ألحانه وأكمل أدواره وهو محجوب الأذن منقطع عن عالم الأصوات، ويلوح لنا أن الإحساس الموسيقي ليس بالإحساس الذي تزوده الموارد الخارجية بالشيء الكثير، ولا هو بالمتوقف على الخبرة والمراس، كما هو شأن الإحساس في نفس الشاعر والفيلسوف والحكيم، فهو كالحقائق الرياضية التي تدركها البداهة ويضؤل فيها أثر الخبرة والمشاهدة، ولهذا ينبغ الموسيقيون كما ينبغ الرياضيون في سن الشباب بل في سن الطفولة، ونسمع عن الأطفال الذي يحلون المسائل والأقيسة، وعن الأطفال الذين يحكمون الإيقاع على الآلات في العاشرة أو ما دون العاشرة، ولا نسمع عن هذه الأعاجيب في غير الموسيقى والرياضة من الفنون والعلوم، ولهذا يتشابه الموسيقيون والرياضيون في الملامح والصفات، ويكثر الملحنون بين علماء الفلك والرياضة كما لاحظنا ذلك في مقال لنا عن الخيام.
فالتعبير الموسيقي يصدر عن النفس بمعونة قليلة من الخبرة الدنيوية والمعارف العقلية، وهو فيها صدى التوافق الذي يشمل قوانين الوجود، ويضبط نسبته الملحنون والرياضيون، ولسنا نعجب أن يتصدى الموسيقيون للتعبير الفلسفي، والإفصاح عن المعاني البديهية بأداتهم من الألحان والآلات، فإن هذه الأداة لقادرة على أن تلهمنا «الإدراك اللدني» الذي يعيا الفيلسوف بالتعبير عنه وإفراغه في قالب الألفاظ والأفكار، وليس الجانب الذي تحده الألفاظ حدا يتساوى فيه جميع الفاهمين إلا جانبا قريب الغور في نفس الإنسان، أما ما وراء ذلك من الضمائر المغلقة والمعاني الرفيعة والبدائه الملهمة فليست حصة الموسيقي فيها بأقل من حصة الفيلسوف ولا نصيب اللفظ منها بأجزل من نصيب الأصوات. بل لعل الموسيقي أقدر على إلهامك بعض معانيه من الفيلسوف على نقل إلهامه إليك بالكلام الواضح والتعبير الفصيح.
غير أن الذي نعجب له وننكره على الموسيقيين أن يدعوا ترجمة الكلام بالألحان أو ترجمة الألحان بالكلام، وأن يزعم أحدهم أن يسمعك القصة منغومة كما يسمعها إياك منظومة أو منثورة، بتفصيل كتفصيل الصور والكلمات، فهذه الدعوى تنزل بالموسيقى ولا ترفعها وتعلقها بالتعبير الكلامي، ولا تجعلها مستقلة بتعبيرها الذي فيه الكفاية والغنى عن غيره من أساليب التعبير، وحسب الموسيقي أنه صاحب رسالة يبلغها بوسيلته، وصاحب ملكة لا تفتقر إلى ملكات غيره.
إن المعنى الواحد ليكتبه العربي ويكتبه الفرنسي فيبلغان ما يرومان من الإفصاح والإقناع، ولكن إذا ادعى الفرنسي أنه يكتب الفرنسية بأسلوب يردها مفهومة بالعربية، أو ادعى العربي أنه يكتب العربية بأسلوب يردها مفهومة بالفرنسية، فهذا هو الغلو الذي تتنزه عنه البلاغة القويمة والرأي السديد، وكذلك المعنى النفسي قد يعبر عنه الفيلسوف، ويعبر عنه الموسيقي فينقله كلاهما إلى النفس، ويودعها مقصده من الفكر والشعور، ولكن إذا ادعى الفيلسوف أنه يكتب قولا يفهمه القارئ ألحانا، أو ادعى الموسيقي أنه ينظم صوتا يفهمه السامع كلاما، فذلك هو الشطط الذي لا يزيد الموسيقى فضلا، ولا يدل على اعتزاز صحيح بمزايا ذلك الفن الجليل. •••
والعلم بأن الموسيقى تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنها تطرب بالشعور الذي توحيه، والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان، يفسح للنفس دائرة الطرب ويقيم لها هذا الكون كله وكأنه فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها، وهي ناطقة وصامتة وتدأب على الإيقاع وهي معبرة وغير محتاجة إلى التعبير، وليس في هذه الدنيا أسعد ممن تسري أنغامها في نفسه على إيقاع يوافق أنغامها في كل شيء، ويناسق معانيها في كل حركة، ولا أطرب في هذه الحياة ممن ينصت في ضميره إلى لحن يجري مع لحن الحياة في غير ما تباين ولا نشوز، فمن لم يسعده القدر هذه السعادة ولم يطربه ذلك الطرب فله معين في الفن يصلح بينه وبين الطبيعة التي غضبت عليه، أو غضب هو عليها ولو بعض الإصلاح.
وإذا علمنا أن الموسيقى تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء طربنا لأصوات ليس يطرب لها أكثر الناس، وهششنا لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح المهابة والإعراض، ولست أريد أن أقف لديك موقف الاعتراف إذ أقول لك أيها القارئ، إنني أطرب لنقيق الضفادع على حوافي الجداول حين يبهجها نسيم الليل، ولمعة القمر، طربا قل أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير، فقد يكون فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرمة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها، ولكن الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل، أو غاشية الظلام، لن تكون إلا شعورا صادقا تمت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه، فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه الساذج من السعادة والرضوان.
يقول صاحب كتاب «الموسيقى الآبدة» وقد أغضبه هجاء لبعض الشعراء وصف فيه البوم أسوأ صفة، وقال فيه: إنه بليد بغيض حقير: «أتحسب أن البوم يبدو لقرينه بليدا بغيضا حقيرا، لا يصلح لغير مصاحبة الخلائق النكدة، ومزاملة الأمساخ والغيلان؟ إنك لو رأيته مرة يحنو عليه، ويمسح رأسه برأسه ، ويتخلل ريشه بمنقاره، ويناجيه نجاء الحب والولاء، لغيرت فيه رأيك على الأثر إن كان ذلك ما كنت تراه.» وصاحب هذا الكتاب يلقب البوم بأستاذ فرقة الظلام، ويعذر فرائسه إذا أبغضت نداءه، ولكنه لا يعذر الإنسان الذي يتطير من ذلك النداء، ويجفل من مسمع ذلك الطائر الوديع، والحق أن المسكين لا يصنع في وحدته المرهوبة إلا أن يغني لها وأن يأنس بها وأن يقول لمن يسمعه: إنه مسرور وإنه يناجي أليفه نجاء الحب والنعيم، فإن كان بغيضا إلى الناس أن ينعم خلق من خلائق الله في تلك العزلة الداجية، فما ذنب الطائر المظلوم في هذا الجفاء الأثيم؟ الذنب للخرفة وللشقاء الذي قرن مرآه في أخلاد الناس بمرأى الخراب والوحشة والظلام، والذنب للشعر والخيال، وليس البوم بالأول ولا الأخير في عالم الشعر والخيال!
فمن شاء أن يستمع فليصغ إلى هذه الموسيقى التي يؤديها الصوت والسكون، والتي سلمت من النبوة قصفها الصادع، وهمسها الضعيف، والتي تطرب البومة المشنوءة فيها كما يطرب البلبل المأنوس، وليعلم أنما يستمع إلى صوت الله، وأن فن العازفين إن هو إلا خلاصة مقربة من ذلك الوحي الفياض.
أزياء القدر1
ما أشد سخرية «القدر» بالناس! إن من سخريته بهم أن يضربهم بأيديهم، وأن يجعلهم سخرية لأنفسهم، فلا يخرج الحي من الحياة حتى يكون قد سخر بأعز ما كان يعز فيها، وأجمل ما كان يستجمل منها، وحتى يكون أضحوكة لنفسه، يضحك منها مرحلة بعد مرحلة وهو كاره لهذا الضحك الأليم.
يسخر الفتى الناشئ من جهالته وهو طفل صغير، ويسخر الكهل الناضج من لهفته وهو ناشئ في جن الشباب، ويسخر الشيخ الحكيم من كبريائه وهو كهل مصر على الأطماع والأضغان، ويسخر الهم المضعضع من الشيخوخة والكهولة والشباب والطفولة فإذا هو يتمنى ما كان يضحك منه ويضحك مما كان يتمناه، وإذا الحياة كلها «باطل الأباطيل» لا يدري ما يراد بها ولا ما يريد، وكأن ذلك «القدر» لا يكفيه وهو يسخر منا ويستخف بأفراحنا وآلامنا أن نذعن لقضائه ونصبر على بلائه، فلا يزال بنا يشهدنا بطلان ما نحن فيه صفحة بعد صفحة وخطوة بعد خطوة، قبل أن يطوي الكتاب ويبلغ بالرحلة إلى القرار، ولا يزال يستنكر منا الضحك بأنفسنا ويؤكلنا من لحمنا ودمنا حتى يميتنا ذلك الضحك الذي لا يسر الضاحكين.
وللقدر تقول أزياء!؟ ماذا عنيت؟ أهي بعض النقمة من ذلك القدر الساخر أن نتخيله في جلاله ورهبته جلس أندية وقعيدة محافل يخلع فيها زيا بعد زي، ويتأنق في لباس بعد لباس؟ أهي بعض سخريته بنا نردها إليه ونقتص بها منه، إن كان ذلك فأهون بها من نقمة وأهزل به من قصاص، وأحر بهذا الانتقام من القدر الجائر أن يكون بعض جوره وإحدى رزاياه!
ولكن القدر مع هذا يتغير في أزيائه، ويتبدل في ثيابه. نقولها نحن ونستعرض أطواره من يوم أن تربع على عروش الأوليمب في سماء اليونان إلى هذا اليوم الذي يلبس فيه ألوانا من أزياء الوجود، وأشكالا من ثياب العدم، فما أعظم التغير بين الطيلسان القديم والطيلسان الحديث ! وما أكبر الفارق بين ذلك السمت الغابر وهذا السمت المقيم! كان القدر يومذاك في زي الإنسان يضرب صرعاه فلا يخطئ الصريع أن يلمح على وجهه ابتسامة الظفر، أو نظرة الازدراء، وكانت للذي يناضله نخوة المقاتل الجسور وبطولة المغلوب المعذور، ثم كان القدر بعد ذلك في زي الذي يأمر وينهى ويأخذ الناس بالجزاء والعقاب غير مسئول ولا ملوم، ثم كان في زي من قصاصات الأزياء البالية وطراز ملفق من القديم والجديد، كان أبا وحاكما وإنسانا ينتقم ويراجع نفسه في الانتقام، ويضرب ضربته ويريد الخير بالمضروب، ويرمي باليأس ويفتح باب الأمل على مصراع واحد أو على مصراعين أو على عدة مصاريع! وإذا ضاق بالنقمة ذرع المبتلى بها ففي التجديف سلوى ولو قليلة وجزاء ولو يسير. أقل ما في الأمر أنه يسب أذنا تسمع ويخرج على سلطان يناله الشكران والكفران. ثم كان للقدر زيه الأخير وما يدريك ما زيه الأخير؟ آلة تدار بالبخار أو بالكهرباء لا ترضى ولا تغضب، ولا تستمع إلى أحد ولا تند عن سبيلها إذا استمعت إليه. آلة على قواعد العلم الحديث، قد دارت دواليبها على مواعيد وأقدار لن تختل قيد شعرة، ولن تصغي إلى صلاة ولا تجديف. •••
ذكرني بهذا الزي الجديد من أزياء القدر مجموعة وصلت إلي حديثا من شعر «توماس هاردي» ونثره، قرأتها فجعلت أسأل نفسي: لماذا كتب الأديب الكبير هذه الكتابة، ونظم هذا القصيد؟ أليقول لنا ألا فائدة من الكتابة ولا فائدة في أن نقول لا فائدة! إن كان ذاك فتلك حكاية صادقة للحياة كلها في رأي توماس هاردي! وذلك وصف محكم للكون في نفس هذا السائم الذي يبسط السآمة على كل شيء. أولا يسأل الشجر في شعر هاردي سؤال الطفل المكتوف: لماذا نحن في هذا الوجود، فإذا جاز أن تخلق الحياة التي لا نهاية لها لكي تعلم الخلائق «ألا فائدة»، فأقرب من ذلك إلى القصد وأبعد عن الإسراف أن ننظم قصيدة أو قصائد لتنتهي بنا إلى هذه النتيجة، وماذا يصنع العالم الصغير إلا أن يعيد رواية العالم الكبير، وكيف يراد الإنسان إلا أن يكون نسخة موجزة من ذلك الإسهاب والإطناب؟
تبتدئ هذه المجموعة بقصيدة عنوانها «سؤال الطبيعة» وفيها يقول الشاعر:
إذا طلع الفجر ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولا وحقلا وقطيعا وشجرا موحشا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه فبردت حرارته، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعا ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبا! عجبا لا انقضاء له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا المكان، أتراها حماقة جليلة - قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة على القصد والترسم - خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافا لما تجري به الصروف، أم تراها بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر والضمير، أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول نحن فيه فرقة الفداء والغلبة المقدورة للخير على الشر هي مقصدها الأخير، كذلك يسألني ما حولي وما أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة.
هذه فاتحة المجموعة! وقد أحسن صاحبها في الاختيار والابتداء، فالفاتحة هي الألف والياء في فلسفة هاردي وفي كل ما نظم وصنف من قصيدة ورواية، والحق أن سآمة الرجل في هذه الأبيات قد نفذت إلى لب الحياة، وجلت لنا روح السآمة أكأب جلاء، فقد كنا نحسب السآمة فترى في النفس المتعبة فترة فإذا شجر هاردي يسأم ويتبرم ويسأل: ما بالنا نحن مقيمين حيث نقوم في هذا المكان، وإذا به يسأم في طلعة الصبح حين ينشط الفاتر، ويتبدد النعاس، ويستأنف الفرح بالوجود.
وفي المجموعة قصيدة أخرى إلى القمر، على صيغة السؤال والجواب بين الشاعر وجوالة السماء يقول في تلك القصيدة:
ماذا رأيت أيها القمر في زمانك، وقد عدوت الآن طور الشباب.
آه. لقد رأيت ويا طالما رأيت، رأيت المليح والجليل، ورأيت الحزين والأليم، ورأيت الليل والنهار، فيما غبر بي من الزمان ، وماذا سلاك في زمانك أيها القمر، وأنت في عزلتك تلك وفي ذلك البعد السحيق.
آه، لقد تسليت، ويا طالما تسليت! تسليت بالنماء والذبول. بالأمم تحيا وتموت وتجن ويعروها الدوار. تسليت بكل ذاك فيما غبر بي من زمان.
وهل عجبت أيها القمر لشيء في ذلك التجوال حيث أنت في نجوة من الأرض ومما تصل إليه؟
أي، لقد عجبت ويا طالما عجبت، عجبت لتك الأصداء تتوارد إلي من جانب الناس في ذلك التجوال.
وماذا ترى أيها القمر في الطريق. أشيء هذه الحياة يذكر أم ليست هي بذاك.
آه لقد أرى ويا طالما أرى، أرى أنها معرض كان أولى به أن يقفل أسرع ما يكون أما قصص هاردي، فالمأساة فيها مأساة الصراع بين الناس وبين قدر - كما علمت من هذا الشعر - لا يقسو ولا يستخف ولا يأمرك ولا ينهاك، ليس بالقاسي؛ لأن القسوة أن تعلم بشكوى المصاب، وتزيده مما يشكيه، وليس بالآمر والناهي؛ لأنه يدعك في حيرتك لا تدري ما يغضبه وما يرضيه، وما يقبح عنده وما يحسن لديه، ولو كان قاسيا لأثارك، فأنت تشعر بقوتك وعزمك، ولو كان آمرا ناهيا لأطعته فأيقنت سلامة العقبى أو عصيته وتحديته، فقد يريحك أن تغضبه كما يغضبك، وتعرض عنه كما يعرض عنك، ولكنه لا يباليك ماذا أنت ولا أين أنت، وهذا شر من القسوة والاعتساف، فاشكر أو فاصبر، واكفر أو أسلم، وتمرد أو تقبل، وتفهم أو تعجب، فسواء كل ذلك لديه، وجهد أمرك أن تسأم ثم أن تسأم السآمة فتعمل، ثم أن تعود إلى السآمة من جديد!
وهذا هو القدر في زيه الأخير.
ألا إن الحياة لتثور على السآمة كيفما كانت العاقبة، وكيفما كان القضاء، وإن لها لحكمها الذي يخيل إليك أنه يعلو على الغير، ويعبث بالفناء، وماذا تبالي الحياة حين يستفزها الطرب أكانت تباليها المقادير، أم لا تباليها شروى نقير؛ إنها لتطرب طربها وتختال خيلاءها، وإنها لن تعدم يومئذ تحية يحييها بها «هاردي» الأسيف القابع في غيابة السآمة والقنوط، ولقد سمعت شجرة اليائس فاسمع منه صلاة التمجيد والتبريك تحت قدمي عصفور يغني غناء المرح والرجاء، وهو سليب النظر مطرود من عالم الضياء:
أيها العصفور! أبهذه النشوة تغني وهذا سخط الله عليك برضى من الله؟ لقد ذهبت بعينيك الإبرة الحمراء قبل أن يخفق لك جناح، فواعجبا لك تغني وتهتف بهذه النشوة أيها العصفور!
نسيت بلاءك ولم تنقم على تلك النقمة أيها العصفور. نصيبك ظلام الأبد وحياتك تتلمس السبيل في جنح الليل البهيم، وأنت في سجنك الذي لا يرحم، وبعد طعنتك الكاوية لا تنقم على تلك النقمة أيها العصفور؟
من لديه الخير؟ هذا العصفور.
من ذا يلازمه البلاء الواصب وهو كريم البلاء؟ ومن ذا تطيب نفسه ويهنأ عيشه وإن أحاقت به ظلمة العماء؟ ومن ذا يمتد به الرجاء ويصبر على كل شقاء؟ ومن ومن ذا يتنزه عن الظن السيئ ولا يلقى الشقاء بغير الغناء؟ من ذا الإلهي المقدس المبرور؟
هذا العصفور.
تلك تحية من السآمة إلى فرح الحياة، وتحية أخرى من «فكرة الفيلسوف» يتوجه بها هاردي إلى ذلك الفرح الإلهي الذي لا يفارق الحي قبل فراق الحياة: «ألا فلنتمل هذه الأرض فلا يقدح في نصيب السرور بها أن خلقتها القدرة العظيمة لحكمة غير ما أصيبه أنا من سرور، ألا ولندع هذه النفس تسعد بمرأى ذلك الجميل يعبر بها غير نابس لها بحرف ولا مشير بإيماء، ولأثن على تلك الشفة لغير شفتي تتهيأ للتقبيل، ولأنشد أناشيد غيري كأنها غناء قلبي، ولأهتف بألحان توحيها وجوه لم تدر بخلدي، ولأتوجه إلى الفردوس الموعود حين يصدق حلمه، ويجيء يومه فأرفع إليه نظرة الرضا والشكران وليس لي في رحابه مكان!»
ذلك خير ما يستقبل به الإنسان قضاء القدر في «زيه الأخير».
حرية الفكر1
مصر بلد المحافظة والتخليد. كل ما فيها باق على وتيرته، متصل بين ماضيه وحاضره، وكأنما كانت آلهتها في رأي أهل الأقدمين تأبى التجديد، أو تعجز عنه، فهي لهذا توصي القوم أن يحفظوا أجسادهم ألوف السنين؛ لتعود إليها الحياة بعد حين بلا تجديد ولا تبديل! فروح الحياة فيها لا تعرف إلا جسدا واحدا تلبسه وتستبقيه إلى يوم الرجعة إليه، ولا يخطر للقوم أنها قادرة على إنشاء جسد سواه، وابتداع لباس غيره! وهذا مثال المحافظة في تصور الحياة وتقييد القوة المنشئة في الوجود «بشكل» لا تتعداه، وما الآطام المخلدة، ولا القبور المصونة، ولا الوراثة المفروضة في العادات والأعمال والعبادات، إلا أمثلة أخرى لطبيعة المحافظة التي غبرت عليها بلاد النيل الذي يعود كما بدأ في كل عام، والرمال التي تحتفظ بكل وديعة تلقى إليها، والسماء التي تحول الأزمنة والفصول، وهي على عهدها لا تتبدل ولا تتحول.
بهذا الخلق في المصريين دامت المسيحية ودام الإسلام، فلولا صلابة في العقيدة، وصبر على العذاب، لعفى الرومان على المسيحية في مصر ثم في البلدان كافة، ولولا وقفة مصر في وجه الصليبيين لذهب الإسلام أو لانزوى بأهله في ركن من الأركان الآسيوية التي يجهلها العمران، بل لولا مصر في القدم لما كانت الموسوية - ولا كانت المسيحية والمحمدية بعد ذلك - ما هي اليوم وما شهدها عليه آباؤنا الأولون. فلمصر أثر خالد في كل دين خالد، وحصة باقية في كل ما تخيل الناس به معنى البقاء.
وأنت تذهب الآن إلى قرى الصعيد الأعلى، فإذا أنت في مصر الآثار والموميات التي غبرت عليها أدهار وأدهار، وإذا عادات القوم في الأفراح والجنازات وفي الزراعة والري والإنارة هي عادات مصر الفراعنة بلا اختلاف قط أو باختلاف جد يسير، وإذا المصريون اليوم يتوسلون بما كان يتوسل به أجدادهم الأسبقون في استعطاف الآلهة، واستجلاب الخير والنسل واستدفاع القحط والبلاء، وإذا اختلاف اللغة، والعقيدة، والحضارة، واختلاف في الطلاء لا ينفذ إلى ما وراء القشور، ولا يحجب ما وراءه من ذلك المعدن القديم.
مصر الخلود هذه ما أحوجها إلى شيء من روح التجديد، وما أفقرها إلى عقيدة الخلق والاقتحام! فإن من الحسن المرغوب فيه أن يكون المرء ذا عقيدة يسكن إليها ويغار عليها، ولكن ليس من الحسن أن تكون العقيدة غلا في عنق «القوة الخالقة» تصورها لنا عاجزة عن إنشاء جسد جديد، أو يعز عليها أن تتصور الحياة بغير هذا الجسد المحسوس! إن أظهر مظاهر الخلق هو الإنشاء والتجديد وليس هو المحافظة والجمود، وما الحياة نفسها إلا ثورة على «المحافظة والجمود» ونصر للحرية على التقييد.
فليس أصلح للعقل المصري في هذه اليقظة التي يتيقظها الآن من الجرأة على التفكير الحر، والقدرة على انتزاع المنازع المستقلة في الرأي والإحساس، وليس أحق بالترحيب من الكتب التي تفك العقول من أسر قديم لا فضل له غير القدم، أو نخرج بها عن سنة موروث لا تحفظه إلا سهولة العادة، وصعوبة الحرية والابتداع.
من هذه الكتب التي أرحب بها كتاب «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» الذي أصدرته مجلة الهلال للأديب سلامة موسى، فقد جمع فيه المؤلف أشتاتا متفرقة من تراجم أبطال الحرية، وحوادث الصراع بين الجمود والاستقلال، فقرب هذه التراجم والحوادث إلى الذين لا يعثرون بها في المطولات، وأكثر القراء الآن لا يرجعون إلى المطولات، ولا يألفون من الكتب المقروءة إلا ما يحمل في اليد أو يوضع في الجيب.
وجاءت هذه المجموعة الوجيزة في أوانها؛ لأننا نطلب اليوم الحرية، ونحب أن نكون «أحرارا» في طلبها والشغف بها، ولا نكون كأولئك الذين يطلبونها تقليدا لمن سبقوا بالطلب، فلا يحيدون عن سنتهم، ولا يعد غرامهم الذي يغرمونه بالحرية إلا نوعا رفيعا من الذل والعبودية، فكل نزعة إلى التحرير لا تأتي من داخل النفس ولا يشارك فيها الفكر والإحساس والجسد، إن هي إلا فورة تغلو ثم تهبط ولون من ألوان السكون، يبدو في زي الحركة ولا بركة فيه. •••
وليس كل استشهاد في سبيل رأي دليلا على طلب الحرية والتطور، ولا كل مجاملة دليلا على الحجر والتقية، فقد يكون المستشهد في سبيل رأيه أكثر مبالاة بالجماهير من المجامل الذي لا يرى في مطاوعة الجماهير، أو معاندتها ما يستحق التعرض للمشقة والمجازفة بالحياة، فالمعول في الاستشهاد أو المجاملة إنما يكون على طبيعة الفكرة لا على المسلك الذي يسلكه صاحبها في مناقشته المنكرين والمنافسين، ولهذا نخالف المؤلف فيما كتب في «شهوة التطور» إذ يقول: «لم نسمع قط أن إنسانا تقدم للقتل راضيا أوكد نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها أو عقار يقتنيه، وإنما سمعنا أن أناسا عديدين تقدموا للقتل؛ من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضا بأناس ضحوا بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع، فما معنى ذلك؟ معناه أن شهوة التطور في نفوسنا أقوى جدا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها وأننا لا نقوى على إنكارها وضبطها.»
فصحيح أن «الفكرة» أقوى من المال والحطام، بل صحيح أننا نطلب الفكرة حتى حين نطلب المال؛ لأننا نتوهم السعادة في اقتنائه، ثم يأتي المال ولا نزال نطلب ما وراءه ولا نكتفي بتحصيله، ولكن ليس بصحيح أن التضحية بالنفس في سبيل الفكرة، وعدم التضحية بها في سبيل الثروة والطعام دليل على شهوة التطور، وتغليب الإبداع على الجمود؛ لأن الشهداء من المحافظين على القديم أكثر عددا وأعظم بطولة في بعض الأحوال من شهداء التطور والتجديد، ولأن المرء يستشهد لأسباب كثيرة غير حب الحرية لنفسه أو للآخرين، ولا شك في أن «التضحية» بطولة تكبرها النفس أيا كان الدافع إليها والقصد منها، ولكننا نرى أن الحرية شيء والبطولة شيء آخر، وأن الشهيد قد يكون مستعبدا في بطولته والمجامل المتسامح قد يكون حرا مترفعا في مجاملته، بل ربما كان جاليل أعظم نفسا وأقل مبالاة من برونو الذي يضرب به المثل للجرأة وقلة المبالاة، فقد تقدم برونو إلى النار عنادا للجماهير، ولم ير جاليل للجماهير هذا الخطر الذي تستحق به كل هذا العناد: فكأنه يقول: من هؤلاء الذين أجبن عن مسالمتهم وأستقبل النار مخافة رأي من آرائهم؟ ليكن لهم ما يريدون، ولتظهرن الحقيقة التي أطيعهم اليوم في مداراتها، وهم صاغرون.
وقد يظن أن القوانين والعقوبات هي التي تحجر على الفكر، وتجبر المفكرين على السكوت. كلا! فلا يحجر على الفكر غير الفكر، ولا قوة تصد العقيدة غير العقيدة. ففي الزمن الذي كان البابوات فيه والملوك يحرقون من يقول بدوران الأرض، من ذا الذي كان يساعدهم على ذلك الطغيان ويمد لهم في تلك الجهالة؟ ليست هي الجيوش ولا السجون؛ لأن الجيوش اليوم والسجون أكبر وأضخم مما كانت في كل زمان، ولكنها عقيدة الناس أن القول بدوران الأرض بلاء يجر عليهم غضب الله، ويحرمهم رحمة السماء، فهذه العقيدة هي التي حجرت على العقائد التي كانت تخالفها وتشذ عنها، فلما بطلت لم يقدر كل بابوات الأرض وملوكها على أن يهدروا في سبيلها شعرة واحدة من تلك الرءوس التي كانت تطيح في كل مكان بغير حساب، وليس في قوانين العالم اليوم نص يلزمك أن تلف رقبتك برباط لا فائدة له، وليس هو بأجمل ما تزان به الرقاب؛ ولكن هب رجلا عزم على أن يخلعه ولا يعود إليه، فماذا تظن هذا الرجل ملاقيا من الناس؟ الفاقة والازدراء، فهو لا يقبل في الوظائف، ولا ينال رتب الدولة، ولا يدعى إلى البيوت، ولا يقابله الناس مقابلة الجد والاعتناء، وإذا لج في أمره نسبوه إلى الجنون، وعاملوه معاملة المخلوعين المهدرين ، وقد يكون به شيء من الجنون أو لوثة من الشذوذ، ولكن ليس لأنه خلع رباط الرقبة الذي يفيده، ولا يجمل في عينه، بل لأنه استهدف لتلك المحنة، وصبر عليها من أجل شيء لا يضير.
قلنا إننا نريد أن نكون أحرارا في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون فمن تلك الحرية التي نريدها، أن نعرف حدود «حرية الفكر» نفسها، وأن نفهم أنها ضرورة عجز لا تستحب لو كان الناس قادرين على الإنصاف في منع الأفكار السخيفة الشائهة، وإطلاق الأفكار الصائبة الجميلة، فليست إباحة الحرية الفكرية لكل إنسان إلا ضرورة ألجأنا إليها علمنا بعجزنا عن التمييز، وقلة إنصافنا للمعارضين، وإلا فلو فرضنا أن اختراعا ظهر اليوم فعرفنا به كل فكرة تستحق أن تذاع، وكل فكرة تستحق أن تمنع لا خوف من الغلو والتفريط، أو من الإجحاف والمحاباة؛ فمن ذا الذي يدعو إلى إطلاق الحرية الفكرية لكل من أرادها، إلا أن يكون متهوسا أو جاهلا بمعنى ما يقول؟ فنحن حين نأذن لكل فكرة بالظهور كمن يقبل جبلا من التراب لئلا يخسر جوهرا قد يكون مخبوءا فيه، أو كمن يغربل آكاما من الهشيم؛ طمعا في كيلة من الحبوب، وفي ذلك إسراف لا يسوغه إلا العلم بأن الحجر المطلق على الأفكار إسراف شر منه وأقرب إلى المجازفة والفقدان.
ومن الناس من ينصرون كل حديث على كل قديم؛ مخافة الاتهام بالرجعة والجمود، ومن تسألهم ما رأيكم في الديمقراطية، أو في محاكاة الأوربيين، أو في المساواة بين الرجال والنساء في جميع الحقوق، أو في وصف الصحراء والإبل في الشعر الحديث، أو في غير ذلك من الأمور التي يكثر فيها الجدل بين الجامدين والمجددين، فتلفيهم من أنصار كل جديد وأعداء كل قديم، وما كان عن علم ذلك الانتصار أو ذلك العداء، ولكنه عن مجاراة كمجاراة الجامدين لحكم العادة وآراء الشواذ، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود، ولا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين، ولسنا أحرارا حين ندور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج، وكل خاطرة تعن في الأذهان، فلنكن جريئين على الجديد جرأتنا على القديم، ولنتعود أن تنقد الحضارة الأوربية كما ننقد ما سلف من حضارات طويت الآن بالحسن فيها والقبيح، والمرضي فيها والمغضوب عليه، ونرجو أن تكون رسالة الأديب سلامة موسى خطوة من خطوات هذه الحرية التي لا تتقيد بقديم أو حديث، ثم نلاحظ عليه أنه يفرط أحيانا في مطالبة الحرية بما لا طاقة لها به، وذلك حيث يقول:
إن العلوم والفنون التي تملصت من قيود الحرية - كذا - تقدمت وأثمرت كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة إنما يعزى إلى تقدم هذه العلوم، كما أن رقي الحضارة نفسها يرجع إليها، وقد يكون هناك مجال للشكوى من سرعة تقدم هذه لا من تأخرها، ولكن العلوم العمرانية والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ليسوا أحرارا في الكلام عنها ومناقشتها، فنحن إذا قابلنا علم الكيمياء اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم لوجدنا فرقا هائلا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف مهندس يدير قاطرة، ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية لا يزال صغيرا جدا، وقد لا يكون هناك فرق أصلا.
فسلامة أفندي يطلب هنا من الحرية الفكرية ما لا طاقة لها به، ولو أنه قال: إن الطب لم يتقدم قط عما كان عليه قبل عشرة آلاف عام؛ لأن أجسامنا لا تزال تشبه أجسام الأقدمين لما كان قوله هنا أغرب من القول بأن طبائعنا وأخلاقنا باقية على ما كانت عليه في عهد سليمان الحكيم؛ لأننا لا نتكلم في الطبائع والأخلاق بحرية العالم في الكلام عن العلم، والصانع في الكلام عن الصناعة! أفكان سلامة أفندي يرجو أن تكون النسبة بين نفوسنا ونفوس آبائنا كالنسبة بين الطيارة المحلقة والمركبة التي تجرها الخيول؟ أم كان يرجو أن ترتقي الأخلاق كما ارتقت الكتابة من النسخ إلى الطباعة؟ إن حرية الفكر لن تصنع هذه المعجزات ، وإنما نحن نحكي الذين عاصروا سليمان في الآداب والأخلاق؛ لأن طبائع النفوس لا تتحول في أيدي الزمن كما تتحول الآلات في أيدي الصناع والمخترعين، ولو انطلقنا في الكلام على العقائد إلى النهاية من الطلاقة لماء جاء اليوم الذي يتحول فيه الأدب النفسي كما تتحول المخترعات التي يخلقها الإنسان.
الفصيحة والعامية1
ترى هل يأتي يوم تصبح فيه لكل أمة لهجة واحدة من لغتها، يتكلم بها عليتها أو سوادها ويكتب بها أدباؤها ويتحدث سوقتها؟ نحن نقول: لا نظن، ويقول أناس: بل هذا الذي يحدث يوما بعد يوم حتى تزول اللهجات الفصحى، ويقل التفاوت بين ما يتكلم به الأثرياء في مجالسهم ومؤلفاتهم، وما يتكلم به الغوغاء في السوق وفي الطريق، ويستدلون بهذا التحريف الذي لا يزال يدخل في كل لغة فصيحة فينزل بها إلى اللهجة الدارجة، أو يرتفع باللهجة الدارجة إليها، ثم يقولون: وما عسى أن يكون مصير ذلك إلا أن تنعدم الفوارق، وتتوحد الأساليب ويتساوى العلية والسوقة في الكتابة وفي الكلام؟
هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟ أو لعلك تذكرهم خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟ أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم تزول؟ أو أنها نجمت مصادفة واتفاقا بغير أسباب داعية إلى ظهورها، وتثبيتها وتأصيل قواعدها، وإذا كانت السنة الغالبة في كل شيء هي أن تنتقل الأشياء من التوحد إلى التعدد، ومن التماثل إلى التنوع، فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ متوحدة ثم تتفرق، ثم تعود إلى توحدها القديم، فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة والاستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن جميعا بأسلوب واحد ولهجة واحدة، وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا مناص من الاختلاف في التعبير إذا اختلف الناس في الفكر والإحساس، بل لا مناص من اختلاف الرجل الواحد في النطق بالعبارة الواحدة إذا اختلف موقعها من فكره وإحساسه بين ساعة وساعة، وبين موضوع وموضوع، وليس هذا شأن التعبير دون غيره، فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب، وسائر ما يشتركون فيه من مرافق الحياة، فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى فيه جميع الأحياء، ولا ترى أنهم يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة والمقام؟ فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم تركتها لأناس يرتضونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس، لما مضى على ذلك حين حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة، وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي والسياق الشعري، وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات، ولن يتكلم الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورا على معاني السوق والطريق، فكيف وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به رحاب العلوم والفنون، وتتمثل أغراضه في معارض شتى من الفلسفة، والدين، والأدب، والسياسة، والصناعة، وسائر المعارف والأغراض.
ويقول أصحاب هذا الرأي: ما لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات. فما كان البيت بيتا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر، ما ليس يجوز في الديوان والدكان، فضلا عن المدرسة والنادي، ومحافل البحث والظهور، وما كانت النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة، وهي في حالة التبذل والراحة، أو حالة الاضطرار ومعالجة مطالب الأجسام. •••
وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية، ويحب أن تكتب بها روايات المسارح، وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في التمثيل، ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضاته، فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر «الزينة» في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق، وصبغ جفونه بالكحل، ولا يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله، وكما نراهما في القهوة وغرف الاستقبال!
فالحق أن «التهيؤ» ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا بد لإلقاء الأثر البليغ في نفس المشاهد من «تهيئة» خاصة تنسيه الحياة الدارجة، وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»، وتحضير الذهن لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك في ذلك التهيؤ، الذي لا غنى عنه وأن تشعر المشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية، ويحرم فيه الابتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين، أو يرى الأمير الحاكم في غير سمته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها «تهيؤ » اللغة التي يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب إلى مكان غير البيت وغير الطريق، وليس من حسن التخريج أن تظهر اللغة على المسرح بغير طلائها الذي يناسب ذلك المقام.
ثم أين هي محاكاة الطبيعة «الحرفية» في روايات الغناء، ومفاجآت الضحك والفكاهة؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في رجل فرنسي تنطقه على مسارح القاهرة بالعربية البلدية؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في إخلاء المسرح من لوازم الأحاديث والمعيشة، من سعال وتثاؤب ونوم وخلع ولبس وما إلى ذلك مما نراه في الحياة ولا نراه في الروايات؟ كل أولئك نتسامح فيه مرضاة لدواعي «التهيؤ» التي يتم بها جمال الحقيقة، وتشرف بها أغراض الفنون فإذا نحن تسامحنا في الحكاية اللغوية بعض هذا التسامح، فقد يكون ذلك أبر بالأدب الذي ينتمي إليه التمثيل، وأبر بالحقيقة وأبر بالفنون.
إنما يعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل الألفاظ وحكاية النبرات، وليس من المعقول أن تنشأ في نفس السوقي المصري حالة معنوية لم تنشأ قبل اليوم مرات في نفس رجل متكلم باللغة العربية، فالقول بان أطوار بعض الناس لا يعبر عنها بلغة فصيحة أو قريبة من الفصيحة قول ينم على جهل وعجز ورغبة في الشعوذة باسم المحاكاة الصادقة والتمثيل المطبوع، ونحن مع هذا لا نمنع اللغة العامية على المسرح بتاتا؛ لأنها قد ترد مورد المجانة فتملح في الذوق وتظرف في مواضعها من بعض الروايات، ولكنا نقول إن إنطاق العامي بالفصحى البليغة خير من إنطاق جميع الناس بلغة العامة، وعبارات المواقف التي لا سمو فيها ولا صيانة. •••
أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية، ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة، ويتكلمون من غير تجربة ولا روية، فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء، ولسنا نشترط أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو الفن، فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان. ولكنا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة، وسياسة الجماهير وأشباه هذه المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة العامة على لغة الخاصة إنسان له معرفة بالاثنتين.
أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى الصعيد، وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك تكتب العامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات الأفكار، فلا تؤدي مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل.
إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق، فلن يأتي اليوم الذي يكتب فيه فردوس ملتون بلغة العامل الإنجليزي، وفلسفة كانت بلغة الزارع الألماني، ولن يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين، ويختلج في ضمائر النفوس، ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات!
التاريخ1
إدوارد جيبون مؤرخ كبير، صائب الحكم، جميل النسق، واضح الأسلوب، ألف تاريخه المشهور في تداعي الدولة الرومانية وسقوطها، فكان أثرا لتلك الدولة باقيا ما بقي لها ذكر على لسان، وآية في عالم الأدب من أمتع ما كتب كاتب في تاريخ أو رواية، وسجلا للحوادث يتجلى فيه صدق الرجل وصبره، وطول أناته وحسن تخريجه وتعديله.
وكنت أقرأ هذا الكتاب فألمس فيه جلال القياصرة، وجلال العظماء، وأجمع فيه بين لذة القصص، وعبرة التاريخ، ثم قرأت عن مؤلفه قصة مضحكة فما زلت بعدها أتصفحه فيحضرني الابتسام، ويبدر إلي العبث بذلك المؤلف العظيم، ودولته البائدة ووقاره المهيب؛ وذلك أن مؤلفنا هذا كان مفرط السمنة ثقيل الجسم، ولكنه كان لا ينكر على نفسه حظها من الحب والغزل، فاتفق له مرة أن جلس إلى مليحة يكاشفها الحب، ويشكو إليها الوله والصبابة، ثم تمادى فخطر له أن يصنع كما يصنع العشاق من ذوي الكيس والرشاقة فركع بين يديها وأفاض في التذلل لها والتهافت عليها، ثم فرغ من شكايته، وحاول أن ينهض فأعياه النهوض ورزح بذلك الحمل الثقيل الذي ألقاه هو والدولة الرومانية معا تحت قدمي تلك المليحة اللعوب، فاستلقت ضحكا ولم تشفق على رصانة التاريخ ورصانة الحكمة أن تغرقهما في السخر والدعابة وتردهما بالخجل والخيبة، وكتب هربرت سبنسر مقالة عن «الضحك» فلم يجد هذا العالم الرزين مثلا يضربه للمفاجأة المضحكة غير هذا التناقض بين السمنة التي يحملها الأستاذ جيبون، والخفة التي يدعيها، والمجانة التي يتورط فيها، فكان ضحك العالم الحكيم بتلك العثرة الغرامية التاريخية مضاعفا لما فيها من الدعابة والهزل البريء.
تناولت جزءا من تاريخ الدولة الرومانية وفي ذهني هذه القصة، وعلى شفتي ذلك الابتسام، فجعلت أقرأ فيه فصلا بعد فصل، وحكما بعد حكم، وأتمثل جيبون بين أطلال الرومان يستملي العبر، ويستجلي الحقيقة، ثم أتمثله بين يدي تلك المليحة يتلقى الضحك، ويبوء بالخيبة فيخطر لي بين حين وآخر أن أداعبه وأداعب تاريخه الطويل، ودولته العريضة وأسأله: وما يدرينا يا مولانا جيبون أن الحقيقة كما وصفت والأمر كما يدعون؟
يخطر لي هذا الخاطر ثم أعود إلى نفسي فأقول: وهل الدعابة وحدها هي التي توحي إلى الذهن هذا السؤال عند قراءة التاريخ؟ وهل لا يحق لنا أن نلقي السؤال بعينه على كل مؤرخ يجد في سرد الوقائع استنباط الأحكام، ويلبس وجه القاضي الوقور، وهو يوزع الخطأ والصواب والتبرئة والاتهام بين عباد الله الذين لا يملكون له تكذيبا ولا تصويبا، ولا يقدرون بين يديه على دفاع ولا تفسير؟ وهل لا يجوز لنا أن نجرب كل مؤرخ في تدوين واقعة مما نراه ونسمعه ونعاشر جناته وشهوده، ثم نرى كيف تتناقض فيها الآراء وتصطدم الظنون، وتغيب الحقيقة وراء الأغراض والشهوات والأوهام؟ فالتاريخ إشاعات كما يقول كارليل، أو هو أساطير مصدقة كما يقول فولتير، أو هو رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء والأعلام من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة كان ذلك أدعى إلى الشك فيها والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة، والترجيح والتضعيف، فأنت إذن حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من الحقائق والشكوك.
والمؤرخ يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات، والأسانيد، والبينات، وقد يعوزه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة تاريخية قوامها الأشخاص، والأخبار، والمصالح، والآراء، ولكل عنصر من هذه العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب الحكم على النيات الحفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن خلده، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل، وهل يأمن الزيغ في الفهم، والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر وللناس بها اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء.
ومما لا ريب فيه أنك إذا فهمت حوادث الحاضر فهما جيدا، أغناك ذاك عن فهم حوادث الماضي، أو أعانك على إدراك دخائلها إن كان لا بد لك من الإحاطة بها والنفاذ إليها، ولكنك إذا فهمت حوادث الماضي حق الفهم - وليس ذلك بالميسور - لم يكد يغنيك هذا عن تدبر كل حادثة تمر بك في الحياة واستخلاص عبرتها، واستطلاع أسبابها ونتائجها، فأنت لا يعنيك من حوادث الماضي حقيقة الحادثة لذاتها، وإنما يعنيك تطبيق تلك الحقيقة على حياتك، وهنا يقف التاريخ ويقف المؤرخون وتبدأ الفطانة الصحيحة، والبديهة الثاقبة، والمزايا الشخصية التي يضيف إليها العلم بالتاريخ بعض الإضافة، ولكنه لا يسد مسدها ولا ينوب عنها، وهب أن رجلا درس التواريخ جميعا، واطلع على أخبار الأمم والعظماء جميعا، وخرج منها كلها بنتيجة وجيزة هي أن الناس عباد المنافع، ولكنهم يعملون لغير منفعة معروفة في بعض الأحيان، فماذا ينفع العلم بهذه الحقيقة من يمارس الدنيا، ويحتاج إلى المعرفة بخلائق الذين يعاملونه ويعاملهم في الحياة؟ هل يبني معاملته للناس على أنهم طلاب منافع في كل سعي وكل غاية؟ إذن يخسر كثيرا من المنافع التي قد تأتي إليه من حيث لا يبغي أصحابها نفعا ظاهرا ولا فائدة قريبة، ويخسر راحة العطف التي يشعر بها من يأنس إلى الناس ويأنسون إليه في غير مطمع معيب، ولا لبانة متهمة. أم يبني معاملته لهم على أنهم زاهدون في المنافع مبرءون من العلل والمطامع؟ إذن يتخطفه الطامعون، ويعبث بحسن ظنه العابثون، ويصدمه الواقع في كل خطوة، وتفجعه الخبرة في كل صديق. أم يبني معاملته لهم على أنهم يطلبون المنفعة حينا، ويطلبون العطف حينا، وقد يطلبونهما معا في أكثر الأحيان؟ ذلك هو الحكمة والصواب، ولكنه الصواب الذي ليس يفيده فيه التاريخ شيئا، إذ كان هذا التاريخ لا يقف إلى جانبه ليريه في كل لحظة من لحظات حياته أين تكون المنفعة، وأين يكون العطف، وأين يلتقيان، وأين يفترقان؟ وليس في وسع هذا التاريخ أن يلهمه إذا هو عرف موقع المنفعة وموقع العطف كيف يكون مسلكه من طلاب المنافع وطلاب العواطف، ولا كيف تتغير معاملته لفرد فرد منهم على حسب التغير في المنفعة التي ينشدها والعاطفة التي ينقاد إليها، والعجيب أن الناس في هذا الأمر بين اثنين ليس لأحدهما حظ يذكر في غبر التواريخ، فالنظريون قلما تفيدهم الحقائق المدرسية؛ لأن آفتهم إنما تكون من التطبيق لا من الإدراك، ومزاجهم يوقعهم في الخطأ الدائم، والتردد الذي لا يسعف صاحبه في المآزق على حد قول أبي العلاء:
وأعجب مني كيف أخطئ دائما
على أنني من أعرف الناس بالناس
والعمليون ينساقون بالفطرة إلى العمل الذي يلائم كل حالة، ويتمشى مع كل بيئة، فلا حاجة بهم إلى البحث والتأمل، ولا فائدة للحوادث الماضية عندهم، إلا كفائدة الحوادث التي يعالجونها ولا يتعمقون في درسها والتعقيب عليها، وهؤلاء ساسة الأمم المفلحون لن تجد في كل عشرة منهم سائسا واحدا يطيل الدرس، ويستقصي الأسباب والنتائج، أو يستشير في المشاكل والأزمات نصيحا غير عفو الساعة ووحي الغريزة، ثم لا تراه أكثر خطأ في تصريف مشاكله وأزماته من أصحاب النظريات الذين يقيسون الحاضر على الماضي، وينعمون النظر إلى المستقبل ويجعلون لكل حادث شبيها غابرا قل أن يشبهه في جميع نواحيه؛ بل ربما رأيت أصحاب هذه النظريات وقد خلعوا عنهم ربقتها، وصمدوا على رءوسهم لا يحجمون ولا يتلعثمون كأنهم يخشون فتنة البحث فيوصدون آذانهم عن دعائه المقنع، ودعائه المريب، ومن هؤلاء «بلفور» وهو أكبر الشكوكيين في الفلسفة، وأكبر الجازمين في السياسة؛ لأنه يخاف على سياسته من «النظريات» فينفضها عنه نفضا، فإذا هو في نظرياته التي يختارها عملي أشد من العمليين في التشبث بما يبرمون. •••
ولقد كان للتواريخ الماضية فائدتها الكبرى، يوم كان الحاضر محصورا في أضيق الحدود، وكانت كل أمة مقصورة على نفسها وعلى جيرانها، تجهل الأمم البعيدة عنها، وتحسب الماضي أقرب إليها من الحاضر الذي يعيش معها في زمان واحد، أما اليوم والحاضر يتسع أمامنا إلى أوسع مداه والشعوب تحيط بنا من كل طراز قديم أو حديث، فأي خبر من أخبار الغابر البعيد لا نجد له نظيرا في أخبار الحاضر المشهود؟ وأية عبرة من الأيام الأولى لا تتوارد علينا مثيلاتها بعد ساعات من وقوعها في أقصى الشرق والغرب وأبعد الشمال والجنوب؟ فالرجوع إلى أعرق عصور الهمجية لا يجشمنا رحلة آلاف السنين في القماطر والأوراق، ولا يفصلنا عنه فاصل من زمان؛ لأنه يعيش عنا ويتصل بنا وتأتينا أنباؤه ولا تمتنع عليه أنباؤنا، ولدينا الآن معارض من الحكومات والشعوب والحضارات تضيق ببعضها رحاب التاريخ المعلوم والمجهول، وأمامنا الآن صنوف من الأنباء والخطوب، يستغرق بعضها عشرة آلاف سنة من سنوات المنقبين والمؤرخين، وفي أسماعنا الآن ثورات كالثورة الفرنسية، وغارات كالغارة التترية، ومجالس كمجالس الدولة الرومانية، ونهضات كنهضة القرون الوسطى، ووثبات كوثبة العباسيين أو كوثبة الأيوبيين، ودعوات كدعوة العقائد والأديان ، ودسائس وحروب وزعماء وطبقات، ككل ما سبق من أمثالها في كل عصر قديم وزيادة عليها من بواكير هذا العصر الحديث، فافهم البلشفية في روسيا، والزعامة في إيطاليا أو في إسبانيا أو في تركيا أو في بولونيا أو في إيران، ومطالب العمال في الدنيا بأسرها والنهضة في الصين، وحرب الاستعمار في مصر ومراكش وسورية والأفغان، وتألب القبائل بوادي الأعراب وأساليب السياسة والمال والعلم والأدب والفن في فتح الفتوح وتحويل الأحوال، واستحضر ما عبر بك من بداءة القرن العشرين إلى هذه الساعة من حوادث الأمم والأفراد، تكن على أيقن اليقين أنك لن تحتاج بعد ذلك من التاريخ إلى الشيء الكثير، وأنك إذا فاتك علم الحقيقة في هذه الأنباء التي تسمعها وتبصرها وتعيش بين أصحابها ومؤرخيها، فلأن يفوتك علم ما سلفت به الدهور أولى وأقرب إلى العقول، ذلك هو التاريخ في حقائقه وأباطيله وفائدته ولغوه، فما أسهل ما يدان هذا الذي يدين كل الناس وما أيسر ما يقضي على هذا الذي يقضي في كل مجال؟ فهل نطوي صحيفته؟ هل نقذف به في النار؟ هل نجمل تاريخه كما أجمل هو تاريخ الإنسان، فنقول إنه ولد فمات فلم ينفع أحدا بين المولد والممات!
لا! بعض الرحمة، فقد يكفي أن يظل بيننا شاهدا للاستئناس به، كما يقولون في لغة المحاكم، ثم لا نترقى به بعد إلى منزلة الجزم والإبرام.
الشعر في مصر (1)1
في الأمم الشاعرة وغير الشاعرة، والمطبوعة على الفن والآخذة فيه بضروب المحاكاة والتقليد، ولبعض الأمم عبقريات تظهر في شتى من الفنون كالموسيقى أو كالتصوير أو كالغناء وما يلحق بها من وسائل الإعراب عن النفس، وتمثيل الجمال التي لا تحصرها الفنون، وهكذا تنوعت عبقريات العرب والإنجليز والألمان والبولونيين، وأمم أخرى في الشرق والغرب وفي القديم والحديث، فما شأن مصر يا ترى بين هذه العبقريات، وما نصيبها من الشعر خاصة ومن وسائل الإعراب الأخرى عن ذوات النفوس؟ أهي شاعرة بالفطرة أم شاعرة بالمحاكاة؟ وهل شعرها من شعر العبقرية والطبع العميق، أم هو شعر الحس والألفاظ والأصداء ؟
خطر لي هذا السؤال مرات. خطر لي حين وقفنا بين القديم والجديد في الأدب، وعلمت أن إصلاح أدب أمة هو إصلاح لحياتها ومعيشتها، وأن تغيير مقاييسها الفنية هو تغيير لكل ما فيها من مقاييس الفطرة والإدراك والشعور، فكنت أحب أن أعرف المدى الذي يستطيعه الأديب إذا هو حاول في مصر إصلاحا للأدب عامة أو لفن من فنونه: أهو محاول خلق أمة فتلك محاولة فاشلة ومطلب لا يطاق؟ أم هو محاول شيئا لا يحتاج إلى أكثر من التذكير والتنبيه وضرب الأمثلة وبيان الفوارق بين الجميل وما ليس بالجميل؟
ورجعت إلى مصر القديمة لأعرف جوابها على هذا السؤال، فإذا آلاف السنين مضت فلم تنجب شاعرا واحدا عظيما، ولم تخلف لنا أثرا من الشعر كتلك الآثار التي رويناها عن أمم العهد القديم، وقلبت كلام «بنتاؤر» شاعر مصر القديمة فلم أجد فيه شعرا ولا شبيها بشعر، ولم أتسمع له نبضا ولا خفق حياة، وكل ما بقي له مما يسمى بالقصائد والأناشيد شبيه بتدوين المحاضر الرسمية التي يعوزها التفصيل والتحقيق، فلا هي بالعلم ولا بالفن، ولا هي بالحماسة ولا بالتاريخ، فقلت وأنا أميل إلى التردد: لو أننا حكمنا بهذا على عبقرية مصر الشعرية لكان الحكم إلى التجريد والإنكار لا إلى الثقة والرجاء، بل وجب أن نقول في صراحة وجزم أن ليس في مصر من الشعر شيء.
ونظرت إلى العصور الحديثة بعد الإسلام، فلم أعثر بشاعر واحد أنبتته مصر يذكر بين أعاظم الشعراء وتسمع له رسالة من رسالات الحياة، فكل شعرائها عرب أو مقلدون للعرب وكل هؤلاء وهؤلاء عالة على الأدب، ونفاية ضئيلة أولى بها أن تنبذ وتهمل.
ونظرت إلى العصور القريبة فأحصيت من نظم شعرا في مصر من خمسين سنة فإذا هم كلهم - إلا قليلا - يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ويحسبون من المصريين وليس منهم في غير النشأة والإقامة؛ وأغرب من هذا أنك لا تجد في هؤلاء واحدا يثابر على النظم بعد الثلاثين أو الأربعين، كأنما هي شاعرية الشباب التي تخف بهم إلى النظم والغناء في إبانها، وليست هي بشاعرية البيئة وسليقة القومية التي تفتأ فتية في الإنسان طول الحياة، وهم بعد لا يقولون في شبابهم شيئا يفخر به الشباب، ويحدثك عن حياة زاخرة بالشعور والتفكير مفعمة بالمطامح والأشواق، فكل شعرهم نغمة مرتلة على وتر واحد من طنبورة هزيلة في جانب المعازف العالمية التي تضج بالأصوات والأصداء، وتهبط في الهمس إلى قراره وتعز في هتفاتها إلى أعلى مقام.
وأدهشني فوق كل هذا أنك تلقى بعض شباب المصريين الذين درسوا في معاهد الغرب، واطلعوا على طرف من آدابه فتلفيهم على جهل بالأدب ومقاييسه الصحيحة يحيرك ويخلف رجاءك، وتسمعهم يستحسنون كلاما لا يختلف في لبابه عن ذلك الكلام الذي كان مناط الإعجاب والاستحسان في رأي الهاذرين بالصناعة والمحسنات المولعين بالشعوذة اللفظية و«الحقائق الببغاوية» والمعاني التي تحبس الحياة في أضيق الآماد، وأوضع الآفاق، فتهم بأن تقول: هو الذنب إذن على الطبيعة والفطرة لا على الجهل وقلة الاطلاع، وهل هي إذن عاهة لا حيلة فيها لطبيب ولا مطمع فيها لعلاج.
كل أولئك كان خليقا أن يفضي بي إلى اتهام السليقة المصرية، والجزم في إقفارها من روح الفن والشاعرية، ولو أنني جزمت بذلك لقد كان لي في هذه الدلائل الظاهرة مقنع وعذر بليغ، ولكني مع هذا لم أجزم برأي، ولم أبرح أحس في نفسي الشك فيه، والميل إلى إنكاره، واحتجت إلى تعليل تلك الدلائل تعليلا يفضي بي إلى غير تلك النتيجة، أو يحدو بي إلى التأني الشديد والتمهل الكثير في الإفضاء إليها، وما أحوجني إلى ذلك التأني ولا عدل بي عن ذلك الحكم الجازم إلا منظر واحد يراه في مصر كل من عرف الصعيد، وعاش في بقايا مصر القديمة بين إقليمي أسيوط وأسوان. وذلك المنظر هو حلقات الإنشاد في الليالي القمراء بين ظلال النخيل.
من شهد تلك الحلقات، ومن سمع ذلك الغناء، ومن لمس ذلك الجذل المحزون في قلوب أبناء تلك الأقاليم، ومن سمع الأرغول يحن حنينه ويعول إعواله، ويستخف في رزانة، ويرزن في خفة وسهولة، ومن أحيا ليلة من ليالي الصيف القمراء بين تلك الظلال على تلك الرمال صعب عليه أن يستمال إلى الدلائل التي تنكر الشاعرية على سليقة المصريين، بل من رأى فلاح الصعيد يسرع إلى تسجيل كل حادث في حياة القرية بالنظم والنشيد، فإذا هو الشاعر وإذا هو الملحن وإذا هو المغني المنشد، عز عليه أن يصدق التواريخ والأسانيد إذا هي قالت له يوما إن هذه النفوس خلو من ملكة الفن، محجوبة عن وحي القصيد، ولقد تروعك بين تلك الأغاني الساذجة لمعات كخطف البرق من متعة الحياة، وسكر الطبيعة وحنين المجهول يرتفع إلى ذروة الشعر، وتومض بين أسمى الجواهر التي تجلوها قرائح العبقرية والإلهام، فتؤمن أن المنجم غني والمعدن نفيس، وأن شعرا هنا مخبوءا يستحق أن يكشف عنه ويستمع إليه.
وتسمع هذه الأغاني ثم تقرأ الأغاني الشعبية التي حفظتها الآثار عن أيام الفراعنة فتستغرب المشابهة بينها في المحور والموضوع والمذهب، وترى هذه المشابهة تشتد أحيانا حتى يخيل إليك أن الحديث ترجمة للقديم، أو أنه تتمة له مكتوبة في لغة جديدة، وأحسب أن لو بقيت لنا النغمات كما بقيت الكلمات لوجدنا مشابهة في الألحان أتم من المشابهة في المعاني، وعرفنا في النغمات القديمة خصائص النغمات الشعبية الحديثة، أو هي على ما نظنها خصائص الروح المصرية في الصميم؛ لأنها تتراوح بين طرفي المزاج المصري من الكآبة الساهية والمرح الراقص؛ فأنت تبطئ في إنشادها فتغلبك الكآبة، وتسرع في الإنشاد فيغلبك المرح، وأنت في حالتي الإبطاء والإسراع مستسلم للنسيان، راغب عن ملابسة الواقع المملول.
هذه الأغاني هي التي أحوجتني إلى تأويل ما رأيت من دلائل الفاقة في السليقة المصرية، فلم أجد التأويل بعيدا، ولا المخرج صعبا من هذا التناقض بين الظواهر والبواطن، إذ يلوح لي أن العزلة بين الشعب والحكومة، والفوارق الدائمة بين الحياة القومية والحياة الرسمية، هي علة الجدب الغريب الذي يلاحظ على آداب مصر «الرسمية»؛ أي الآداب التي تجري على تقاليد الحاكمين والسروات في العصرين القديم والحديث.
فبنتاؤر لم يكن شاعر الشعب ولا لسان الحياة المصرية، ولكنه كان شاعر فرعون؛ أي شاعر الكهان والمراسيم والصمت الديني والهيبة الملكية، ولا أمل للحياة ولا لدوافعها وألاعيبها في الطلاقة والظهور بين هذه القيود والغشايات، ثم دالت دولة الفراعنة، وجاءت دولة العرب فكان المثل الأعلى في الشعر عربيا أجنبيا، وكان الشاعر المصري المتكلم بالعربية مقلدا بالضرورة محصورا في طائفة الموظفين وأشباه الموظفين وأذناب الحكام، وليسوا هم خير عنوان للأمة وملكاتها ومواهب الفنون فيها، ثم جاءت دولة الترك والمماليك ودخلت مصر العلوم الحديثة في الجيل الأخير، فكان التعليم فيه موقوفا على أبناء السروات والحاكمين وأتباعهم، وأكثرهم يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ولا يعرفون الأدب إلا تقليدا للعرب أو للناطقين بالعربية، فلم يتفق لمصر عصر نطقت فيه روحها الشعبية، فظهرت في عالم الفنون المهذبة وقالب القصائد المنتخبة، ولم يزل لنا أدبان ناقصان أدب مطبوع
2
غير مصقول، وأدب مصقول غير مطبوع، وهذه هي آفة الشعر المطبقة في هذه الديار، فلا هو شعر مصري ولا هو شعر أجنبي، وليس هو على كل حال بالمقياس الصحيح الذي تقاس به شاعرية الأمة، وتوقانها إلى الفنون وضروب التعبير.
أما الجهل الذي يعاب على بعض المتعلمين عندنا، حين ينقدون الشعر ويخطئون في الاختيار ويضلون عن أحسن المحاسن وأقبح العيوب، فسببه فيما أرى أننا تعلمنا الفرنسية وقرأنا آدابها قبل أن نتعلم الإنجليزية واللغات الأخرى، فشاعت بيننا مقاييس الأدب الفرنسي الدارجة وهي الطلاوة السطحية واللباقة العابثة، ومشينا معه في عيوبه ومحاسنه وهي شبيهة بعيوبنا ومحاسننا، فلم نفطن إلى فارق بين الصحيح والزيف، وبين الصدق والتمويه، ولم نخرج مما نحن فيه إلى مذهب غيره، وخفيت علينا مقاييس الجد والاستقامة و«البساطة»، التي امتاز بها الشعر الإنجليزي والشعر الألماني، فما برحنا أطفالا لاعبين في آدابنا، وما فهمنا من الشعر إلا أنه أناقة كلامية، وفقاقيع خيالية، وتزجية فراغ، يخالطها بعض الشعور الذي لا فرق فيه بين كاذب وصحيح، وأنت لو نقبت في دواوين شعراء الإنجليز قاطبة عن تزويق كتزويق فيكتور هوجو، وجلجلة كتلك الجلجلة التي اشتهر بها هذا الإمام الفرنسي العظيم، لما وجدت شيئا من ذلك في أواسط شعراء القوم فضلا عن أفذاذهم المبرزين، فلن يعظم شاعر في أدب الإنجليز بمثل تلك الخلابة التي عظم بها هوجو في أدب الفرنسيين، ولن ينفعنا الأدب الذي تتمثل أعظم عيوبه وأعظم محاسنه في هذا المثل الأعلى المضلل الخداع، وأي مثل؟ هو المثل الذي لا يختلف عن صغار شعرائنا في المعدن والقيمة، وإنما ينحصر اختلافه عنهم في الجرم والمساحة!
أما انصراف شعرائنا عن الشعر بعد الثلاثين والأربعين، فربما كانت علته تكاليف البيت والمعاش، وخلو الشباب من هذه التكاليف، وقصور المكاسب الأدبية عن تزويد الشاعر بما يكفيه طلب الرزق وتدبير أمر المعاش، والذين استراحوا بيننا من هذا العبء لم ينصرفوا عن النظم ولم ينقطعوا عن الأدب الذي استطاعوه، ويغلب عندي أن يكون للجو أثر في هذه الملالة ولاحتجاب المرأة أثر مثله، وللعزلة بين الجماهير والشعب المهذب أثر آخر غير قليل.
فالدلائل التي مرت بك في صدر هذا المقال لا تقضي على الشاعرية المصرية، ما دامت في ريف مصر تلك السليقة التي تترنم بتلك الأغاني الشعبية. غير أننا لا ننسى أن الشاعرية الحسية شيء والشاعرية النفسية شيء سواه، وأن أغاني الشعب عندنا دليل على شاعرية الحس يعوزه دليل كبير على شاعرية النفس والروح، فهل يتم هذا النقص بتمام التعليم والتوافق بين الآداب الشعبية وآداب الدارسين والعارفين!
ربما، وسنعود إلى تفصيل ذلك فيما يلي من المقالات.
الشعر في مصر (2)1
أشرنا في المقال السابق إلى الفرق بين شعر الحس وشعر الروح، وقلنا: إن الأغاني الشعبية عندنا يعظم نصيبها من المعاني الحسية، ويقل نصيبها جدا من المعاني الروحية، وتساءلنا: هل نسمع من العبقرية المصرية نغمة جديدة في الشعر إذا اتصلت حياة الشعب بالحياة المهذبة، واتسع الأفق أمام هذه العبقرية فلم يبق محبوسا في مجال تلك الخواطر التي تطرق نفوس العامة وتردد في الأسواق! ولم نقطع برأي في الجواب؛ لأن الماضي لا يخبرنا في هذا النحو بخبر اليقين، والحاضر رهين بما بعده، وهو لما يزل مجهول المصير.
والواقع أن الشعوب كلها حسية في أغانيها على درجات تتقارب جد التقارب بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، والشعوب الجاهلة والشعوب التي انتشر فيها التعليم، فكلها تنظم أغانيها في المعاني التي يلم بها الحس القريب من غزل أو منادمة، أو فخر أو صفة للأزهار والبساتين، ويندر في أغاني شعب أن نجد تلك السبحات العالية، والمعاني الرفيعة، التي تسمو إليها عبقريات الملهمين من كبار الشعراء. غير أننا قد نرى شعوبا تصف المرأة في غزلها جسدا يوزن ويقاس، وشعوبا أخرى تصفها جمالا جسديا تحن إليه النفس ويلطف فيه الحنين؛ فليست كل الشعوب تعنى في الأغاني بتفصيل محاسن الأعضاء من الفرع إلى القدم، ومن العيون إلى الآناف إلى الأفواه إلى الأجياد إلى الصدور إلى البطون إلى الأرداف إلى السيقان، وليست كل الشعوب تصف كل عضو من هذه الأعضاء وصفا يكاد يكون مقررا على لسان كل ناظم وفي خاطر كل مشتاق، وليست كل الشعوب تلتفت إلى هذه الصفات وتشدو بها في الغناء، وإن كانت قد تحبها في المرأة، ويعجب بها «الفرد على انفراد».
لأن أشياء كثيرة تخطر في نفس الفرد ولا يتغنى بها، ولا يهتف بها في الملأ، فإذا بلغ الخاطر إلى حد الغناء، فتلك إذن روح الشعب التي تتكلم وتتغنى، وليست بأهواء كل «فرد على انفراد»، ما من رجل إلا ينظر في بعض نظراته بعين الحيوان أو بعين الغريزة الحيوانية، ولكنه إذا تغنى فهناك نفس غير نفس الحيوان تتكلم، وتبوح وهي نفس الإنسان في بيئة لها ما لها من الأوضاع والمشارب والعادات والآداب، ومن هنا يأتي الخلاف بين المعاني الحسية في أغاني الشعوب. «فالحسية» التي تلاحظ على الأغاني الشعبية بمصر، ليست في جملتها وقفا عليها، ولا هي ببدع في الشعوب كافة، والغلو في وصف الأعضاء لم يكن دأب المصريين القدماء، وليس هو بالملحوظ في الأغاني الحديقة على كثرة، كالتي عرفناها في بقايا الأجيال الأخيرة، وتلك علامة حسنة تدل على أن الروح المصري الأصيل بريء من إغراق الحيوانية، قابل للتهذيب والتثقيف في هذه الأهواء، وهذا باب أمل لمن يرجون شعرا مصريا تغلب فيه نزعات الروح على نزعات الحس المحدود.
ولا ننس هنا أن الطبيعة المصرية تحب الحياة الحسية، وتنقلها إلى ما وراء القبر وتحمل معها الزاد والشهوات إلى العالم الأخير، ولا ننس أن «هوميروس» مثلا كان «شعبيا» من دهماء الشعب، فارتقى إلى ذلك الأوج السامق من الشاعرية التي تتناول شتى أهواء الحياة، ولا ننس أن اليونان جميعا كانوا «حسيين» ولكنهم مع هذا طلقاء الذوق، محبون للجمال المهذب في الطبيعة والإنسان، وإذا نحن ذكرنا هذا ولم ننسه فكيف نبرئ الطبيعة المصرية من وسم الحس الضيق، ونعلو بها على أثر الجسد المحدود؟ وكيف نعلل انقضاء التاريخ القديم بغير هوميروس مصري يظهر في طبقة الشعب، كما ظهر هوميروس الشعبي المسترفد في بلاد الإغريق؟ وكيف نعذر السواد «الفرعوني» إذا قابلنا بينهم وبين السواد اليوناني في تلك «الحسية» التي أنتجت لهم تماثيلهم ورواياتهم، وأبرزت لهم الطبيعة في شفوف الجمال والحرية والبهجة والإيناس؟
ربما كان لذلك علة واحدة هي فخر مصر، وهي مرجع اللوم في هذا الموضوع، وتلك العلة هي «الدولة المصرية» وهي أعرف دولة باذخة في الشرق والغرب عرفها التاريخ.
فإن ثبوت الدولة المصرية من أقدم القدم المذكور قد ثبت معها دولة الكهانة، وجبروت القداسة، فانبسط سلطانها الموروث على عالم الدين، وعالم المعرفة، وعالم الفن، وعالم السياسة، وأصبح الكلام في الآلهة والملوك والتواريخ حقا موقوفا على الكهان و«العلماء الرسميين» فلا يتسرب شيء من هذه القصص إلى السواد، ولا يجرؤ شاعر على المساس بتلك الأحاجي والأسرار، وحيل بين القالة «الشعبيين» وهذا المجال الذي تسبح فيه قرائح العبقريين، ويرتفع فيه القول إلى أفق لا تطرقه أغاني الأسواق، ومطالب العيش وهواجس الدهماء، وما إلياذة هوميروس بغير الآلهة والأبطال والتراث التاريخي المفرغ في قالب الأساطير؟ وما الفن اليوناني في رواياته أو في تماثيله بغير الدين والوحي والتاريخ؟ لقد كان لليونان كهانة، ولكنها لم تكن «دولة» عريقة الجذور، ممدودة الفروع، موروثة الرهبة، مدسوسة في كل مسلك من مسالك الحياة، وكانت لهم «معابد» ولكنها معابد «استشارية» لا جبروت لها، ولا ملك ولا صولجان ، ولا سبيل كان لها إلى السلطان في بلاد لم يكن للحكومة فيها ذلك العرش الموطد الركين، ولو كانت اليونان أمة كبيرة في أرض كبيرة يقوم فيها ملك واحد موروث العظمة، وتثبت إلى جانبه كهانة واحدة موروثة القداسة، لكان شأنها في الفن غير شأنها الذي علمناه، ولضربت عليها الرهبة حجابها فلم يخفق فيها الشعر حر الجناح حر الأجواء.
وكأن هذا الجمود دأب كل كهانة قوية، فلا حياة للفنون الحرة والشعر الطليق في ظل الكهانات الباذخات؛ فالبابوية خزنت الفنون واعتقلتها عندها حتى أطلقتها النهضة فيما أطلقت من كل شيء، فما ظهر الشعر الحر حين ظهر إلا متمردا عليها معزولا عنها، آخذا في الطريق المحرم أو المكروه في عرف الأتقياء والمحافظين، وما كان للشعر في مستهل القرون الحديثة سبحات أوسع من سبحاته في بلاد الإنجليز، أبعد البلاد عن نفوذ البابوية، وأقلها خنوعا ل «دولة الدين».
فالدولة المصرية عذر صالح لسليقة المصريين عند من يصمونها بضيق الإحساس، وضعف العبقرية، ولسنا نقول: إنها تثبت لهم تلك العبقرية، وتسلكهم في عداد الأمم «الشاعرة» التي دلت على عبقريتها بمن نبغ فيها من أعاظم الشعراء والمنشدين، ولكنا نقول: إنها تقلل الغرابة عند من يستغرب خلو التاريخ المصري القديم من شاعر شعبي كهوميروس، ومن إليه من قالة اليونان، ثم نحن ننتظر الشواهد ونعلم أن النهضة الحديثة واضعة سليقة المصريين موضع الاختبار العسير، فإما أن نجيء بشاهد جديد، وأما أن ننقض ذلك العذر القديم.
لهذا نحب أن نرى للعبقرية المصرية دليلا غير هذه الأدلة التي تتردد على أقوال أناس ينسبون إلى الشعر في هذه الديار، ولهذا نكره أن تكون تلك الأقوال عنوانا دائما لحظ هذه الأمة من الحياة والإحساس؛ لأن أصحابها لا يحسون، ونحن نريد للأمة المصرية أن تحس، ولأن أصحابها لا يعيشون ونحن نريد للأمة المصرية أن تعيش في هذا «الكون الإنساني» لا في كون سردابي حدوده تضيق بالحيوان المقيد إذا طال حبله بعض الطول!
لينظر القارئ هل في الدنيا ما هو أبعث للشاعرية، وأذكى للشعور، وأطلق للقرائح، وأشجى للنفوس من منظر الربيع؟ وهل في الدنيا شيء يحس به الشاعر، ويغني له إذا هو لم يحس بالربيع حق الإحساس، ولم يغن له أطرب الغناء؟ فإذا علم القارئ أن ليس في الدنيا شيء أبعث للشاعرية من بهجة الربيع، وأن ليس فيها شيء أجود الغناء للشاعر من وحي الربيع فليقرأ - بعد - هذه الأبيات في وصف الربيع:
مرحبا بالربيع في ريعانه
وبأنواره وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب آذا
ر وشب الزمان في مهرجانه
نزل السهل ضاحك البشر يمشي
فيه مشي الأمير في بستانه
عاد حليا براحتيه ووشيا
طول أنهاره وعرض جنانه
لف في طيلسانه طرز الأر
ض فطاب الأديم من طيلسانه
ساحر فتنة العيون مبين
فصل الماء في الربى بجمانه
عبقري الخيال زاد على الطي
ف وأربى عليه في ألوانه
صبغة الله أين منها رفائي
ل ومنقاشه وسحر بنانه
هذه أبيات نظمها شوقي لاستقبال المحتفلين به، فهي حمادى ما احتفى به من شعره وتأنق فيه من معجزاته، وهي عصاه التي يرسلها على السحرة المنكرين والكفرة الجاحدين! وهي آيته في الربيع ومثاله الذي يسوقه للناس ليقول لهم إنه يحسن الوصف، ولا يقصر وحيه على المديح والتقليد! فإن لم يكن شك في هذا فلندع من الأبيات ما يرادف نداء الباعة في الأسواق «بالورد الجميل، والفل العجب، والتمر حنا، روائح الجنة» ولننظر ما بقي فيها من دلائل الإحساس بالربيع، والامتزاج بالطبيعة، والشغف بالجمال والحياة في موسم الجمال والحياة!
كل ما يبقى بعد ذلك أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، وأن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل!
فأما أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، فيصح أن تكون كلمة موظف في شارة الوظيفة لا كلمة «إنسان» في نشوة السرور بجمال الحياة، وسكرة الفرح بالأشواق والآمال والذكريات والأشجان، وهي لا شيء من حقيقة ولا من تمويه، ولا شيء من زينة صحيحة ولا من زينة مزيفة، ولا شيء من عيان بالنظر أو تصور بالخيال، فمشية الأمير في بستانه كمشية كل إنسان في كل بستان، والأمير لا يكون على أجمل حالاته هناك؛ لأنه قد يمشي في مباذله التي لا تميزه عن سائر الناس، ولو شبه شوقي الأمير بالربيع في مواكبه لقلنا روح عامية لا تمثل الروح الإنسانية، ولكن لعله أراد الحلل وألوانها، والمواكب وروعتها، والمزامير وألحانها، ففي هذه وتلك موضع للتشبيه ومساغ لذكر الإمارة! إلا أن شوقيا لم يقل هذا، وإنما قال لنا: إن الربيع في السهل كالأمير في البستان، والربيع بعد هو البستان، فهلا قال شوقي: إن الربيع يمشي في الربيع مشية الأمير في الأمير؟ والأمير أيضا قد يكون شيخا فانيا لا حسن فيه ولا عاطفة، وقد يكون فتى دميما لا بهجة له ولا وسامة، وقد يكون أميرا كأمير الشعراء لا حس فيه ولا عبقرية، ولا أشعار له ولا ألحان، فماذا من إحساس الإنسان - فضلا عن الإنسان الشاعر - في ذلك التشبيه الذي جعل لنا «الربيع» ملحقا بالميزانية والتشريفات والدواوين؟!
وأما أن صبغة الله خير من صبغة رفائيل فكلمة لا دليل فيها على إحساس بالطبيعة، ولا إحساس بالفنون، كلمة فيها من الغباء ما يكشف عن عامية مطبقة، وجهل بعيد القرار، فالعامة المسفون هم الذين يفهمون أن طلاوات الصور أجمل من صبغة الطبيعة، ويحتاجون إلى من يقول لهم: إن تلوين الله أجمل من تلوين رفائيل. أما النفس التي تذوق جمال الطبيعة وتذوق جمال الفن، فليست تحتاج إلى من يقول لها كيف أن الأصباغ في الرياض أجمل من الأصباغ في الطروس، وليست تفهم أن الفن بهرجة ألوان تغالب ألوان الأزهار والأنوار، وإنما نفهم أنه محاكاة مقصودة لتلك الألوان تعترف بالتقصير، وتستغني عن التعجيز، وما معنى أن يريك المصور صورة إنسان فتقول له متعالما متباصرا: «ولكن أين الصورة من الإنسان!» ثم أي معنى عميق أو قريب لأن نقول للناس: إن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل، إلا أن تكون ممن يفهمون فهم العامة للطبيعة والفنون؟ ثم هل كان رفائيل - بعد كل هذا - مصورا مفتنا في تصوير الرياض والأزهار؟ لا. بل كان الرجل مصور وجوه وشخوص مقدسة ، برع فيها براعته ولم يضرب به المثل قط في تصوير الرياض والأزهار، فلا حس هنا بالطبيعة، ولا ذوق للفن، ولا علم بالتاريخ! فإن كانت ثمة «أمارة كذابة» في الدنيا فهي إمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعرا حتى يعد أمير شعراء، وحتى يقال: إنه عنوان لأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة.
ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الأبيات، فيكون له بها بعض الغنى عن شاعرية النفس والروح! ولكنه هو وأمثاله كالعامة في الإسفاف عن مقام تلك الشاعرية الكريمة، وشر من العامة في الزغل الكاذب الذي يدخلونه على الشعور الجسدي والحس القريب.
الشعر في مصر (3)1
لم لا نرى بين الشعراء المصريين تلك النظرة الواسعة إلى الكون، وذلك الإحساس الشامل بما فيه من مظاهر الجمال وأسرار الحياة؟ ولم لا نرى بينهم تلك النماذج الحية من صور الشعور والتفكير ووسائل التمثيل والتعبير التي نراها في آداب الأمم الشاعرة من الغربيين! لم لا نرى فيهم أمثال وردزورث الزاهد المتقشف المغرم بالطبيعة، وكولردج الصوفي المتفلسف الصبور، وبيرون الساخط الشهوان، وشلي المغرد الطموح، وهيني الساخر الصارم والحزين الضاحك، وشلر المتنطس العزوف، وجيتي الرصين المترفع، ودانتي الجاحم المتفزز، وليوباردي الوادع المهموم! ولم لا نرى فيهم هذا المفتون بالبحر، وذلك الموكل بمنطق الطير، وذلك المشعول بالسماء، وأولئك الذين يجيدون وصف السرائر، أو يجيدون وصف المناظر الإنسانية، أو المناظر الطبيعية، أو مشاهد القرون الوسطى، أو الذين لكل منهم علامة وعنوان ولكل منهم شاعرية مميزة تعرفها، وتعرف سواها فتعجب لسعة الحياة وارتفاع آفاقها، وعمق أغوارها وتعجب لما في «النفس» من شعب لا نهاية لها، وغرائب لا يحدها الوصف ولا يعتريها النقاد؟
ولم هذا التشابه المسئوم بين الشعراء المصريين الذين يخيل إليك أنهم كلهم خلقة واحدة صبت في قوالب يميزها الطول والعرض، ولا يميزها عرض من أعراض النفوس أو سر من أسرار الحياة؟ ولم هذا الضيق الذي يجمعهم كلهم في حظيرة واحدة تحويها النفس العامية بحذافيرها، وتفتأ زمانها على سمة لا يعتريها اختلاف التكوين، ولا تمايز الأوضاع والأشكال؟ يصفون الربيع جميعا فلا هذا مميز بإدراك الظلال والألوان، ولا ذاك مميز بطرب الألحان والأصداء، ولا غير هذا وذاك مميز باستكناه الخفايا واصطياد الأطياف والأرواح، ولا غير هؤلاء مميز بأشواق الهوى، ونزعات الشعور، وخفقات الإحساس، وأشباه هذه المزايا التي يشملها الربيع، ويعطي كل شاعر منها بمقدار، وإنما هم جميعا سواسية في تشبيه الورود بالخدود، والبلابل بالقيان، والأزهار بالأعطار، وما إلى ذلك من الصيغ المحفوظة، والصفات المعهودة، والربيعيات التي لا لون فيها ولا صدى ولا حس ولا، ربيع! فلو كان في عالم السرائر مشبهون يتعقبون الشعراء سماتهم النفسية كهؤلاء المشبهين الذين يتعقبون الجناة بسمات الوجوه والأجسام لحار والله المساكين في كتابة التشبيه، وتقدير الأوصاف، وتحرير المزايا بين أولئك الشعراء، فكل شعرائنا طويل قصير، بدين هزيل، أبيض أسود، أحول أعمش! وكلهم توائم يعرفون بالملابس والأسماء، ولا يعرفون بالأوصاف والسمات، وكل ما يشهدونه من روعة الحياة لا يتعدى ذلك الذي يشهده كل ذي عينين حيوانيتين، كلبيتين أو بقريتين أو فيليتين إلى آخر ما في الحديقة من ذوات العينين! فلو نظمت الكلاب والقطط يوما باللغة العربية لعلمت منها أنها هي أيضا تفهم كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر، وأن الياسمين أبيض، وأن الزرع أخضر، وأن في الدنيا أشياء أخرى حمراء وبيضاء وخضراء تشبه هذه الأشياء، وربما زادت على شعرائنا بفهم لا يفهمونه وهو تحية الحب التي يحيا بها كل ذي إحساس مقدم الربيع حاشا شعراءنا النابغين.
لم هذا؟ لم لا يكون التمايز بين شعرائنا كما يكون بين شعراء الأمم الشاعرة! لم لا نرى في كلامهم سعة للكون ولا عمقا للحياة؟ لم هذا الضيق الحيواني الذي يزري بشرف الإنسانية وينزل بمقام الإحساس والإدراك؟ العلة دائما في السليقة المصرية لا مطمع في شفائها أبد الزمان! ذلك رأي قد يسهل على بعض الناس أن يسرعوا إلى اعتقاده، ولكنا نحن لا نحب أن نراه ولنا مندوحة عنه، ويزيدنا ترددا فيه أننا لم نجد في مجمل التاريخ المصري الذي استعرضناه قبل دليلا قاطعا عليه ، فما من قصور شعري بدأ في ناحية من نواحي ذلك التاريخ إلا كانت له علة قريبة إلى الصديق يأخذ بها من يحرص على التبرئة، ويأبى التعجل بالتهمة، وليس ما يمنعنا الآن أن نرجو «شعرا مصريا» ذائعا بين قراء الشعر تتجلى فيه سعة الكون وأسرار الحياة وألوان المواهب والملكات، وأن نرد الجهل بالشعر إلى أسباب كثيرة عارضة يرجع بعضها إلى مقاييس القدم التي كانت تجعل البداوة الجاهلية مثلا لكل كلام بليغ وكل شعر مأثور، ويرجع بعضها إلى الدراسة الفرنسية التي أولعت بالزخارف والطلاوات والكياسة المتظرفة والمعاني المصطنعة، ويرجع شيء منها إلى سوء فهم لطبيعة الشعر يقصره على الصغائر، ويكتفى منه بالظواهر ولا يراه أهلا للنظرة العالية التي ننظر بها إليه، ويرجع الشيء الكثير منها إلى عزلة الجماهير واحتجاب المرأة، وعصور الظلم والجهالة التي ثقلت وطأتها على هذه البلاد.
بيد أننا نحب أن نصحح هنا زعما قد يزعمه بعض الذين يقرءوننا ولا يعقلون ما نريد، فنحن لا ننقد شعراء الجيل الماضي؛ لأنهم قدماء أو يشبهون القدماء وإلا كان أولى بنقدنا المتنبي وابن الرومي وبيرون وشكسبير، ولسنا نحسب الذين يعجبون بشوقي - إمام شعراء جيله - معجبين به لأنهم يفهمون الشعراء السابقين، ولا يفهمون الشعراء المحدثين، إذ لو كانوا هم كذلك لكان لديهم «استعداد» لفهم الشعر يعين على مناقشتهم والاتصال بهم على ملتقى قريب، ولكن الذي ننكره في جماعة «الشوقيين» ومن نحا نحوهم أنهم على ضلال بين عن فهم القديم والحديث والفطنة إلى الشعر الشريف في أي عصر وأية لغة، فهم لا يعجبون بشوقي لأنهم يعجبون بالمتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي نواس، ولكن لأنهم لا يعرفون ما هو كنه الشعر الذي يستحق الإعجاب، ولا يستقيمون في الفهم والإحساس، وما نظن أحدا عرف الناس بفضل المتنبي، وابن الرومي وغيرهما كما عرفهم أنصار الحديث بذلك الفضل المجهول فلو كان «الشوقيون» يفهمون تلك المحاسن، ويستقيمون في نقد الأقدمين لما كانوا شوقيين ولا انحسر بين أنصار الجديد وبينهم صلة التعارف والإقناع، ولكنهم يقرءون شعراء الجيل الماضي كما يقرءون شعراء العصور الجاهلية والأموية والعباسية، بغير بصيرة ولا استقامة في الإعجاب أو في الإنكار.
إليك مثلا قول بعض الذين أغرقوا في مدح شوقي، وقابلوا بين قصيدته السينية في الأندلس وسينية البحتري في إيوان كسرى، ففضلوا الأولى على الثانية، ورجحوا شوقيا على البحتري بهذه الآية، وذكروا ذلك فيما ذكروه من إطراء صاحبهم لمناسبة الاحتفال بتكريمه. ترى لو كان هؤلاء الشوقيون يعجبون بالبحتري إعجاب صدق وعلم أكانوا يقولون ذلك القول أو يغمطون حقه ويجهلون مزيته ذلك الجهل الذميم! فالبحتري واصف القصور والعمائر لا آية له في الشعر إن لم تكن له الآية الناطقة في هذه الصفات، ولا يحق لأحد أن يدعي عرفانه إذا هو لم يعرفه في هذا المجال الذي قل أن يلحقه فيه سواه، ودع عنك ذاك وانظر إلى الموقف الذي أنطق البحتري بقصيدته النادرة في وصف إيوان كسرى، تعرف نصيبه من الشاعرية ونصيب شوقي بالقياس إليه في هذا المضمار، فما الذي حدا بالبحتري إلى نظم القصيدة؟ أهي عصبية الدين؛ لا! فإن الإيوان من صنع المجوس، والبحتري مسلم ينكر المجوسية ، ولا يحن إلى عهد لها قديم أو جديد، أهي إذن عصبية الجنس؛ لا! فإن البحتري عربي والإيوان من صنع الفرس، والمنافسة بين الأمتين أقدم من الدول العربية والإسلام، والبحتري يذكر ذلك حين يقول:
حلل لم تكن لأطلال سعدى
في قفار من البسابس ملس
ومساع لولا المحاباة مني
لم تطفها مسعاة عنس وعبس
وحيث يقول:
ذاك مني وليست الدار داري
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
ويجب ألا ننسى هنا أن العناية بالآثار، وذكريات التاريخ، لم تكن شائعة في عصر البحتري شيوعها في عصرنا هذا، بعد أن ظهرت الآثار القديمة، واشتغل المنقبون عنها في كل مظنة، فليس البحتري هنا مأخوذا بزي العصر وأحاديث الأوان، كما يغلب على الذين يتشاغلون بالآثار في هذا الزمان، ولكنه مبتكر ينشئ زيا جديدا لم يسبقه في معناه سابقوه، وليس تمليق الأمراء من الفرس هو حافزه إلى النظم، فإن الأسى في القصيدة أظهر من أن يعزى إلى التصنع والرياء، والتمليق بالمدح في زمانه أجدى من التمليق بوصف الآثار واستشهاد التاريخ، وهو لم يستطرد إلى مدح مطول، ولم يتجاوز التلميح في الإشارة إلى أولئك الأمراء، فلا شيء إلا «الإحساس الفني» حدا بالشاعر إلى نظم قصيدته والإطالة فيها، ولا وحي إلا وحي الشاعرية في صميمها أنطق العربي المسلم بالعبرة على أطلال الفرس المجوس، وهذا هو «الموقف» الذي ينساه الناقدون المقلدون، كلما نقدوا الشعر وتذوقوا الكلام؛ لأنهم لا يذوقون حديث نفس يعينهم أن يعرفوا منها في أي المواقف كانت وفي أي البواعث جاشت بالشعور، وإنما يتلقفون ألفاظا لا صلة بينها وبين الضمائر، ولا ميزان لها غير النحو والصرف والبديع والبيان، مع أن «الموقف» في القصيدة هو باعثها الأول وغايتها الأخيرة، ولا نجاح للشاعر إذا هو لم ينجح في نقلنا معه إلى ذلك الموقف الذي كان فيه، وإشراكنا في نظرته التي نظر بها حين توفر للإبانة والإنشاد. إذا علمت هذا فقابل بين شاعرية البحتري في موقفه على الإيوان، وشاعرية التقليد في موقف شوقي على آثار الأندلس أو آثار مصر، وقابل بين أسى البحتري في قوله:
حلم مطبق على الشك عيني
أم أمان غيرن ظني وحدسي
وكأن الإيوان من عجب الصن
عة جوب في جنب أرعن جلس
يتظنى من الكآبة إذ يب
دو لعيني مصبح أو ممسي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف
عز أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظه الليالي وبات المش
تري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدا وعليه
كلكل من كلاكل الدهر مرسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عمرت للسرور دهرا فصارت
للتعزي رباعهم والتأسي
فلها أن أعيبها بدموع
موقفات على الصبابة حبس
قابل بين هذا الأسى الصادق وبين «شعوذة» شوقي في أساه، حين يقول للسفينة القادمة إلى مصر:
نفسي مرجل وقلبي شراع
بهما في الدموع سيري وأرسي
أو حين يقول في وصف الجزيرة:
لبست بالأصيل حلة وشي
بين صنعاء في الثياب وقس
قدها النيل فاستحت فتوارت
منه بالجسر بين عري ولبس
أي إن الحلة التي لبستها الجزيرة في الأصيل، قد شقها النيل فهربت الجزيرة تتوارى بالجسر عن العيون، ولسنا ندري هل يخيط النيل في الصباح ما يمزق من أثواب الأصيل، أو هو ما يزال يمزق كل ثوب وما تزال الجزيرة أبدا في ذلك الهرب والترقيع؟
أو حيث يقول: إن سواقي الجيزة إنما تضج اليوم؛ لأنها تبكي على رمسيس! فهي:
أكثرت ضجة السواقي عليه
وسؤال اليراع عنه بهمس
أو حين يقول في وصف الأهرام، وأبي الهول:
وكأن الأهرام ميزان فرعو
ن بيوم على الجبابر نحس
أو قناطيره تأنق فيها
ألف جاب وألف صاحب مكس
روعة في الضحى ملاعب جن
حين يغشى الدجى حماها ويغسي
ورهين الرمال أفطس إلا
أنه صنع جنة غير فطس
فكل هذه شعوذة ليس فيها من صدق الإحساس ظاهر ولا باطن، ولا كثير ولا قليل، وماذا في قوله: إن الذين بنوا أبا الهول لم يكونوا فطسا؟! بلى أين كان الفطس من أبي الهول حين بناه أولئك الجنة الذين برأهم شوقي من داء الفطس أصلح الله أنفه؟ وأين الموازين والقناطير من عبرة الأهرام وجلالة التاريخ! ولماذا تكون القناطير روعة في الضحى، وملاعب جنة في الظلام! لقد ظن صاحبنا أنه يجاري البحتري بذكر الجنة حين قال هذا في وصف الإيوان:
ليس يدري أصنع إنس لجن
سكنوه أم صنع جن لإنس
فكبا في مكانه، وما درى أن قول البحتري هذا لا يجاريه مجار في صفة الآثار والإيجاز المعجز القهار، فهو آية الصدق وآية البراعة في آن، وهو يقول لنا في بيت واحد: إن الإيوان كان معجزا في الصنعة حتى يخال من صنع الجن للإنس لضعف هؤلاء عن تشييد ذلك الصرح المريد، وأنه كان مهجورا مخيفا حتى يخال من صنع الإنس للجن لما يحيط به من الوحشة ويبدو عليه من الكآبة والرهبة، ولن يقال في وصف الإيوان الباذخ المهجور أوجز ولا أبلغ ولا أبرع من هذا المقال.
ولو شئنا لأطلنا المقابلة بين هاتين القصيدتين، فإن ذلك أحرى أن يقنع من لم يقتنع بمكان الشاعرين من الشاعرية، وأن الذين يعجبون بمثل شوقي لا يصدقون الإعجاب للأقدمين، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون، ويخلطون بين المواقف والمعاني والأغراض، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، ولكننا غير حريصين على إقناع من ليس يقنعه هذا البيان الوجيز.
الشعر في مصر (4)1
كنا منذ بضع عشرة سنة في مجلس ينشد فيه شعر لبعض الشعراء المعاصرين في وصف حسان أوربيات، وكان في ذلك الوصف إعجاب بشعرهن الأصفر، وعيونهن الزرقاوات، فقال بعض الحاضرين - وكان عالما أزهريا شابا - ولكن العرب كانت تعجب بالشعر الفاحم والأعين الكحلاء، ولا تمدح غير ذلك من ألوان الغدائر والعيون. قلنا ولكن الشاعر يصف حسانا أوربيات وهن على هذه الصفة فكيف كنت تريده أن يقول! قال إذن لا يكون الشعر عربيا! ونحن عرب ننظم بلغة العرب، ونحيي آداب العرب ولا شأن لنا بالفرنجة، وما يستحبون من الجمال ويصفون من ألوان الوجوه وشمائل الحسان.
ذلك كان قبل بضع عشرة سنة ليس إلا! وكان في ذلك الوقت وما قبله بقليل أساتذة يدرسون الآداب - ويقال عنهم إنهم حجة في نقد الشعر وفهم البلاغة - يقصرون إعجابهم على الشعر الجاهلي، ولا يرون ما جاء بعده شعرا يحفظ أو يعلمه المعلمون، فإذا مدوا بساط العفو والمسامحة قليلا فإلى صدر من الإسلام يشبه الجاهلية، ثم لا عفو بعد ذلك ولا سماح ولا مفر من النار لديوان من الدواوين التي ظهرت في عهد الإسلام! ومنطق هؤلاء «الأدباء» معقول من حيث ينظرون إلى الشعر خاصة وإلى الآداب عامة، فالشعر عندهم هو «مادة لغوية» والآداب عندهم هي ما تحفظه من الكلام المنظور والمنثور لتقويم اللسان وتصحيح العبارة، فلا جرم يكون الجاهليون أشعر الشعراء، وأبلغ البلغاء؛ لأن العربية في زمانهم أعرب واللغة على أيامهم أصح وأسلم في رأي هؤلاء الناقدين، ولقد كان الذين ينقلون علومهم في الأدب عن هذه الزمرة يسمعون بدهشة الطفل الغرير كل ما يقال عن شعر الفرنجة وبلاغة الناطقين بغير الضاد: ألغير العرب شعر؟! يا عجبا، وكيف يكون هذا الشعر الغريب وعلى أي وزن يوزن وبأي أسلوب يصاغ؟! كنا نتحادث في ذلك قبل سنين، ومعنا شيخ ينظم ويقرأ كتب الأدب فسألنا: أترون شيئا من شعر الفرنجة.
قلنا: نعم.
قال: فأسمعوني إن شئتم أبياتا مما ينظمون.
قلت: سأسمعك من خير ما ينظمون، وترجمت له قطعة للشاعر الإنجليزي شلي في «القنبرة» وأنا ألمح الاستهزاء في نظرات عينيه وابتسامة شفتيه، وجهدت أن يكون المعنى كأقرب ما يكون في الأصل مقرونا بالتفسير والتوضيح لألفته إلى ما في الكلام من روح البلاغة وصدق التعبير، فما أمهلني أن أكمل القصيدة وصاح بنا. أهذا الذي تسمونه شعرا؟ فظننت لأول وهلة أنه يقصد المعاني والتشبيهات التي لا عهد بها لقراء العربية، وليس في ذلك غرابة ولا إغراق في الجهالة، إذ كان فهم الجديد صعبا على كل من يعالجه من قراء العربية وغير العربية، ولكن ما كان أشد دهشتنا حين علمنا أنه ينكر وصف ذلك الكلام بالشعر؛ لأنه لم يخرج موزونا في الترجمة على أوزان البحور العربية، ولأنه يحسب أن الشعر إذا وجد عند الإفرنج فإنما يوجد على وزن من هذه الأوزان، وإذا ترجم فإنما يرد إلى الأوزان العربية بلا كلفة من المترجم ولا عناية، فأما ونحن نترجمه كلاما منثورا كسائر الكلام فقد وضح الأمر، وبان جهل الإفرنج بأوزان الخليل بن أحمد، وكذبت الدعوى التي يدعيها لهم شيعتهم المتفرنجون.
وليس جميع الدارسين من تلك الزمرة على وتيرة صاحبنا هذا في السخف والعماية، فقد يفهمون أن الشعر لا يترجم شعرا بهذه السهولة البديهية، وأن الموزون في نظم لغة لا يخرج موزونا في نظم لغة أخرى بغير كلفة من الناقل، ولا رياضة للكلام، ولكنهم كلهم يفهمون أن الشاعرية خاصة عربية وأن الشعر مادة لغوية. بل كلهم يفهمون أن نطق العربي بلغة أمه وأبيه معجزة لا يضارعه فيها أبناء الأمهات والآباء، وأذكر من هذا أنني حضرت مناقشة قريبة بين سيدة فاضلة وعالم أزهري يسمع اسمه في كل حركة أزهرية، وكان مدار المناقشة الحجاب والسفور، والسيدة على رأي السفور والأستاذ بطبيعة الحال على رأي الحجاب، فاستشهد الأستاذ على غواية السفور بكلام لإمام عربي معروف، وأبت السيدة أن تسلم رأيه؛ لأنه رأي إنسان كسائر الناس يقبل النقد والقدح، كما يقبل الموافقة والاستحسان، فاستشاط صاحبنا غضبا وقال محتدا: سبحان الله يا سيدتي! إن أحدنا ليبلي العمر الطويل يتعلم اللغة، ثم لا ينطقها كما ينطقها الطفل العربي بلا تعليم ولا مشقة، فكيف بمقام ذلك الإمام الذي تدين له الأئمة؟
فتقديم الشعر العربي لأنه «عربي» عقيدة ما كان للشك إليها من سبيل، وتقديم الشعر الجاهلي على كل شعر؛ لأنه أمعن في العربية وأعرق في القدم - وهو كبرى فضائل القبائل البدوية التي تؤمن بالنسب والوراثة إيمانها بالأصنام والأوثان - هو لازمة تلك العقيدة ونتيجتها المنطقية في أذهان طلاب الأدب القديم، ولكننا نحن اليوم بعيدون عن هذا المذهب لا نشعر له بقوة ولا نتوجس منه شرا، ولسنا نحس من فلوله المشتتة ببقية تخاف لها كرة وتخشى لها عزيمة، فليس الشعر اليوم خاصة عربية، ولكنه خاصة إنسانية، وليست البلاغة اليوم مزية لغوية، ولكنها مزية نفسية، وهذه عقيدة مفروغ منها قل أن يماري فيها من يحسب له رأي ويسمع عنه كلام، فإذا أردنا أن نقيس خطواتنا على ما مضى وما نحن فيه ، فالتقدم ظاهر والرحلة ليست بالهينة ولا بالقصيرة، ولكن هل تقاس الرحلات بالمبدأ أو بالغاية، وبما مضى أو بما سيأتي مما لا بد من عبوره والوصول إليه؟ إنما تقاس الرحلات بالنهاية وبالبقية الآتية، ولا تزال الغاية بعيدة والبقية الآتية كثيرة على الجهد الذي نراه. إنما ننظر حين نسير إلى أمامنا ولا نستكثر ما وراءنا إلا لنستقل ما بقي بيننا وبين الوجهة الميممة، وقد تحولنا عن فهم للشعر عتيق مأفون إلا أننا لم نبلغ بعد فهما للشعر يستقيم بنا على الجادة، ويسدد خطانا على معالم الوصول فما يبرح أناس يتعجبون كلما قيل لهم ليس هذا الشعر؟ أو ما هو الشعر الحديث الذي يرضيكم إذا قلناه، وما نخالكم إلا تجشموننا المحال وتطلبون منا ما لا يكون؟
قد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو وصف المخترعات الحديثة من بخار وكهرباء وطيارات، وأمثال ذلك من آلات ناطقة وصور متحركة ومعجزات لهذا العصر الحديث لم يتقدم بوصفها المتقدمون، فقلنا لهم: لا! لو كان هذا هو الشعر لكان واصف الزهرة والكوكب في السماء أقدم الشعراء مذهبا، وأبعدهم عن العصرية والحداثة معنى؛ لأن الزهرة في الأرض والكوكب في السماء أقدم ما وقعت عليه نظرة إنسان منذ كان الناس بين الأرض والسماء، ولو كان هذا هو الشعر لوجب على كل شاعر أن يظل على اتصال بالمصانع تنفحه «بالكتالوجات» أولا فأول ليسابق سواه في العصرية، ويكون في شعره على «آخر ساعة» كما يقولون في لغة التجارة والصناعة، وبعد فهؤلاء شعراء أوربا وأمريكا لم يجتمع مما نظموه في وصف «المخترعات» ما يملأ كراسة صغيرة، وفيهم الشعراء جد الشعراء في الوصف خاصة وفي سائر فنون القصيد، فهل يزري بهم ذلك أو يدخلهم في عداد الأقدمين والمقلدين؟ كلا! وإنما أنتم تولعون بالطيارات وما أشبهها؛ لأنكم تقيسون الشعر بمقياسه القديم، وتتأثرون بالجاهليين وأنتم تزعمون أنكم تأخذون بالحديث، فقد وصف الجاهليون الناقة فوجب أن تصفوا أنتم الطيارة؛ لأن الأقدمين كانوا يركبون النوق والعصريين يركبون الطيارات، فكأن الشاعر لم يخلق في الدنيا إلا لينظم في «وسائل المواصلات» كيفما تبدلت بها الغير، وتقلبت بها الأحوال، وكأن الناقة شيء لا وجود له في الدنيا إلا لأنه في القرون الأولى يقابل الطيارة في القرن العشرين! وليس هذا بصحيح، فالناقة موجودة اليوم كما كانت موجودة قبل التاريخ، وعصرية في هذا الزمان كما كانت عصرية في زمان امرئ القيس، ولو وصفتموها أنتم لمعنى من المعاني تحسونه فيها لكنتم عصريين أكثر من «عصريتكم» حين تصفون الطيارة لمجاراة الأقدمين في وصف النوق والأظعان!
ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو اجتناب المبالغة، وأن اجتناب المبالغة هو التزام الصحة العلمية، والنظم في العلم والتحقيق لا في «الخيال والأوهام»؟ فقلنا لهم لا. ليس هذا بالشعر المقصود، ولو كانه لكانت ألفية ابن مالك أبلغ الشعر القديم والحديث وقدوة الصادقين في النظم والبيان؛ لأنها منظومة في «علم النحو» والعلوم كلها سواء في الصدق والتحقيق، وليس من ينظم في حقائق علم الكهرباء بأصدق ممن ينظم في حقائق الإعراب وقواعد الأسماء والأفعال والحروف، ولقد يكون الشاعر مبالغا مخالفا لظاهر العلم، وإنه مع هذا صادق في المبالغة قدير في الوصف والإبانة، فالذي يقول لحبيبه إنه أبهى من الشمس صادق في قوله؛ لأن الشمس لا تسره كما يسره حبيبه، ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها طلعة ذلك الحبيب، وللحقائق الفنية مسبارها الذي يفرق بينها كما للعلوم مسابيرها التي تكشف الباطل منها والصحيح، فبالغوا والتزموا الحقيقة الفنية تكونوا عصريين كأحدث العصريين وكأقدمهم في الزمن السالف على حد سواء، ولكنكم تبالغون وتفهمون أن فضيلة المبالغة هي الكذب لا التجلية والتقرير والتبيين. فإذا قال شاعر إن فلانا أكبر من البحر، وأعجب الناس قوله ظننتم أنه قد أعجبهم؛ لأنه بالغ وكذب ولم تظنوا أنه أعجبهم لما في البحر من معنى السعة والغنى والبأس والمهابة، وما في هذه المعاني من الشبه الصادق المحقق بأخلاق العظماء والكرماء فتلتمسون التفوق عليه بالإرباء في الكذب والغلو في الإغراق، ويجيء منكم من يقول: إن بنانا واحدا من بنانه العشر تغرق البحار وتطغى على الأرضين والجبال! وهكذا تزيدون وتزيدون وأنتم تحسبون أن الزيادة هنا زيادة في البلاغة والشاعرية والإعجاب، فتخطئون سر المبالغة وترون أنها هي الكذب، وهي حين تمثل الحقيقة الفنية بريئة من الكذب براءة الأرقام والبديهيات.
ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «الحديث» هو القصص؛ لأنهم سمعوا أن العصرية هي «الأوربية» وأن الأوربيين نظموا في القصص المسهبة، ولم ينظم فيها العرب فخيل إليهم أن القصص إذن هي بيت القصيد، ومزية كل شاعر مجيد على كل شاعر غير مجيد، فما أصابوا الظن في هذه ولا عرفوا الوجه فيما يقال لهم عن العصرية والعصريين، فكأي من شاعر عظيم لا قصة له ولا شبه قصة، وكأي من صاحب قصص مسهبات لا يعد بين الشعراء، وإنما القصة باب من الشعر يميزها الناقدون على غيرها من الأبواب، بإفساح المجال فيها لوصف الأطوار، وتمثيل المواقف، وتصوير الإحساسات والعوارض، التي تنتاب الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعظماء والوضعاء، فهي مظهر حسن لقوة الشاعرية وليست هي قوة الشاعرية التي يبحث القوم عنها ولا يوفقون.
وظنوا وظن معهم بعض المطلعين على طرف من العلوم الحديثة أن الشاعر شاعر الأخلاق والاجتماعيات لا يكون ابن عصره إلا حين تقرأ في ديوانه قصيدة لكل حادثة من حوادث السياسة والاجتماع في أيامه! ولو أن هؤلاء راجعوا ديوان «جيتي» مثلا لما عثروا فيه على بيت في وصف الزلازل السياسية التي أحاقت بألمانيا في حياته، وهو بإجماع النقاد شاعر وطنه العظيم والرجل الذي كان له أثر في يقظة ألمانيا الأدبية يعد في طليعة الآثار، فللشعر في إيقاظ الأمم طريق غير طريق الساسة ودعاة الاجتماع، ولليقظات النفسية مسالك ومسارب لا تستدل عليها بعناوين الحوادث السياسية، والدعوات الاجتماعية التي تكتب فيها الصحافة، ويتحدث بها اللاغطون بالموضوعات اليومية، فقد يعلمنا الشاعر حب الجمال فيعلمنا الثورة على الظلم والطغيان؛ لأن النفس التي تفقه جمال الحياة تضيق بها معيشة الأسر والمذلة، فتقتحم العوائق والسدود، وتنشد السعة والارتفاع، فالذين يبحثون عن نصيب الشعر في حركة أمة ناهضة فينظرون إلى عناوين الحوادث وأسماء الوقائع يجهلون الشعر، ويجهلون النهضات ويجهلون النفوس، ويجهلون فوق كل هذا أنهم جاهلون. •••
تلك ظنونهم في الشعر الذي نريده ألممنا بها عن عرض، وأشرنا إلى مكان الصواب منها ومنفذ الشبهة إليها، وإن حيرتهم هذه في تعرف الشعر الصحيح لأحق بالحيرة والاستغراب مما يخبطون فيه من هاتيك الظنون، فالحلال بين والحرام بين، والشعر الصحيح في أوجز تعريف هو ما يقوله الشاعر، والشاعر في أوجز تعريف هو الإنسان الممتاز بالعاطفة، والنظرة إلى الحياة، وهو القادر على الصياغة الجميلة في إعرابه عن العواطف والنظرات، وإن لهذا الإيجاز لشرحا نعود إليه.
الشعر في مصر (5)1
نريد أن نعرض هنا لفكرتين يتردد الكلام فيهما حول الشعر والشعراء، ويأتي الخطأ من قبلهما في فهم وظيفة الشاعر وتقدير الأشعار، ونعني بهما فكرة «الفائدة» التي ترجوها الأمم من الشعر في حياتها الفردية والاجتماعية، وفكرة القائلين بتمثيل الشاعر للأمة أو للبيئة التي يعيش فيها، فإن هاتين الفكرتين تجنيان كثيرا من الخطأ على الشعراء والقراء، وتلبسان الحقيقة على الجامدين وغير الجامدين في وضع المقياس الذي يقيسون به محاسن الشعر ومعانيه، ورسم الأغراض التي يطلبها الشعراء أو تطلبها الأمم من الشعراء.
متى يكون الشعر مفيدا ومتى يكون غير مفيد؟ وما هي الفائدة التي يجوز أن نطلبها من الشعر أو من الفن الجميل على التعميم؟ إذا عرفنا هذا عرفنا مقياسا للجودة والرداءة يعصمنا من الزلل في الحكم، ويجنبنا ذلك الخلط الذي يخلطه الكثيرون عند التفريق بين المعنى الحسن أو المعنى «المفسد» كما يقولون وغير المفيد.
سمعنا في إبان النهضة الوطنية أناسا يسألون: أين شعراؤنا في هذه النهضة؟ وأين أثر الشعر المصري في إيقاظ الهمم وإذكاء الشعور؟ ولما أن بحثوا دواوين الشعراء فلم يعثروا فيها على نشيد وطني ولا على قصيدة حماسية تثير النخوة، وتحث على المطالبة بحقوق الأمة، ولا على خطبة سياسية منظومة في أخبار الحوادث اليومية، أو في دروس الوطنية والاجتماع عادوا ينكرون فائدة الشعر، أو يظنون شعراءنا بدعا بين شعراء الأمم الذين نفعوا أوطانهم وخدموا نهضاتهم وكان لهم أثر محمود في حوادث عصرهم، ويسألون: إذن ما فائدة الشعر للأمم إن لم يفدها في هذه المواقف، ولم ينفخ لها صور الحياة في الشدائد والنهضات؟
ونريد قبل كل شيء أن ننبه إلى الضرر الذي يصيب العلوم والفنون من اشتراط الفائدة القريبة في كل مبحث وكل تفكير، فهذا الشرط وخيم العاقبة مضيع للجهود العلمية والأدبية؛ لأن الفائدة «أولا» شيء لا يسهل الاتفاق عليه، والتفاهم على تقديره قبل حصوله، فهي عند أناس الخبز والماء، وعند الآخرين المال والثراء، وعند غيرهم الجاه والقوة، وعند غيرهم السرور واللذة، وهكذا إلى غير نهاية من التفاوت بين الأفراد وبين الفرد الواحد في مختلف الأحوال، وهبنا اتفقنا على الفائدة، وحصرناها ومنعنا الاختلاف فيها فنحن لا نعرف كيف تأتي ولا من أين تنجم بين المباحث المتعددة والجهود المتعاقبة، فالملاحظات العلمية كلها على حدتها لا تفيد في المعيشة، ولكنك إذا جمعت هذه الملاحظة إلى تلك، وانتقلت من الجمع إلى العمل، جاءت الفائدة عفوا في أغلب الأوقات وتساندت العلوم كلها على النفع والإنتاج ، فإذا اشترطنا في كل ملاحظة علمية أن تكون مفيدة ليومها ومكانها، ذهب العلم كله وبطلت مباحث العلماء، وركد التفكير والاختراع، وإذا حكمنا الفائدة في الترحيب بالأفكار والآراء، خشينا أن نتجهم لكل فكر وكل رأي وأن نخسر الفوائد المقصودة، والفوائد التي تجيء عن مصادفة واتفاق، وتاريخ العلوم حافل بالفوائد التي أريدت ولم تجئ، ثم جاءت في سبيلها فوائد كانت لا تراد ولا تقع في الحساب، فمن أين تولدت الكهرباء والبخار والصناعات التي نشأت من الكهرباء والبخار؟ لم يقل أحد إنني أريد أن أخلق صناعة كهربائية، فخلقها وعرف قوانين الكهرباء من أجلها، ولم يقصد أحد أن ينشئ كل ما نشأ في الدنيا من «البخاريات» التي شملت اليوم مرافق الحياة، وإنما انتهت كلها إلى هذه النهاية من بدايات متفرقة لا خطر لها في ظاهر الأمر، ولا يرجى لها نفع في رأي الأكثرين.
هذا شأن العلم ومساسه بالصناعة والمعيشة معروف محسوس، فما ظنك بالشعر وهو خطرات ضمائر، وخوالج شعور وشجون، ترجع إلى الإحساس المحض، أو إلى الكلام والأنغام؟ كيف تضبط فوائده وقتا لوقت، وساعة بعد ساعة، وكيف تقيسه بمقياس المعيشة أو بمقياس السياسة والاقتصاد؟ فقد يكون الشعر مفيدا جد الإفادة، ولكنه لا يفيد بما يقول على الألسنة بل بما يسري في النفوس، وما يحرك من بواعث الشعور، وقد يكون خلوا من أسماء النهضة وحوادثها، ولكنه هو عامل من عوامل النهضة، وسبب من أسباب الحوادث، ولسنا نعني بهذا الكلام أن الشعراء المصريين كان لهم - أو لم يكن لهم - أثر في النهضة المصرية، وأن نوع الشعر الذي ينظمونه يفيد أو لا يفيد في إيقاظ الهمم، وإذكاء الشعور، ولكننا إنما نريد أن نبين خطأ الناقدين الذين ينكرون أثر الشعر في نهضة من النهضات؛ لأنه لم يكن يحض الناس على المكارم الخلقية والفرائض الوطنية باللفظ الظاهر، والدعاء الصريح، وأن نقول لهؤلاء الناقدين: إن الشعر الصحيح هو عنوان النفوس الصحيحة، ونحن لا نطلب الصحة في النفس، ولا الصحة في الجسم، لما تحدثانه من الأثر في النهضات الوطنية أو الإنسانية ، بل نطلبها؛ لأنها قوام الحياة وملاك الفطرة التي فطرنا عليها في جميع الأوطان والعصبيات، فإذا صحت النفس وصح الجسم كانت النهضة وحصل الارتقاء، ولم يقل أحد حينئذ إن الصحة في النفس والجسم مفيدة؛ لأنها توجد النهضات وتدعو إلى الارتقاء! ومن قال ذلك كان كمن يقول: إن العافية مفيدة لأنها تساعد على هضم الطعام وتنقية الدم، والانتفاع بالأعضاء مع أن هذه الخلال كلها تبع للعافية، وأثر من آثارها، وليست هي فائدتها والغرض الذي نريدها لأجله، فاطلب من الشعر أن يكون عنوانا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه ولا منفعته ولو تتهمه بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات والحوادث التي تلهج بها الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير.
وهات لنا الشاعر الذي ينظم قصيدة واحدة يحبب بها الزهرة إلى المصريين، وأنا الزعيم لك بأكبر المنافع الوطنية، وأصدق النهضات، وأهنأ مسرات المعيشة ومباهج الحياة، فإن أمة تحب الزهرة تحب الحدائق، وتحب التنظيم والتنسيق، وتحب النظافة والجمال، وتحب العمارة والإصلاح، ولا تطيق أن تعيش في الفاقة والجهل والصغار، وهات لنا الشاعر الذي يعلمنا الغزل الجميل، وأنا الزعيم لك بأمة من الرجال الكرماء والنساء الكرائم، والأبناء النجباء يدرجون في حجر العطف والذوق والصحة؛ لأن الشاعر الذي يعرف كيف ينظم الغزل يعرف كيف يقوم المرأة بقيمتها في الأمة، وكيف يهذب البيوت ويشترع القوانين والدساتير. بل هات لنا الشاعر الذي يعلمنا اللهو والطرب، وأنا الزعيم لك بأمة تعيش عيش الآدميين، ولا تسخر تسخير الأنعام، وتعمل ليلها نهارها للقوت الحيواني وضرورة الأجسام، فالشعر شيء يتصل بالإنسان من حيث هو كائن حي، لا من حيث هو ابن وطن أو ابن جامعة أخرى من لغة أو عقيدة، فإذا كان الإنسان إنسانا ومصريا أو عربيا ومسلما أو نصرانيا فتلك إضافة تتقلب بها الطوارئ، وليست هي الأصل ولا هي المقصد المنشود، ومن ثم يكون الشعر شعرا لا غبار عليه وهو خلو من الأسماء والألفاظ التي تلاك في نهضات الأديان والأوطان، ويكون الشعر مجاريا للنهضات أو سابقا لها، وليس فيه تلك الأناشيد ولا تلك «الحماسيات» التي يعنيها من ذكرنا من الناقدين، وحسن ولا ريب أن ينظم الشاعر في «الوطنيات» والاجتماعيات، وأن يحض على الحمية والمروءة ومكارم الخصال، ولكنه إذا لم ينظم في هذه الأغراض فليس ذلك بالدليل على خلو النهضة من آثاره، أو على أنه عالة على الوطن وأصحاب الدعوات. •••
ذلك رأي مجمل عما يقال في فائدة الشعر، ننتقل منه إلى رأي مجمل عما يقال في الشعر وضرورة تمثيله للأمة والبيئة، فيلوح على الذين يشترطون في الشاعر تمثيل بيئته ولا يشترطون في شعره الفائدة القريبة أنهم أدنى إلى فهم وظيفة الشاعر وروح الشعر من أصحاب «الفائدة» الأولين، وهم كذلك في الحقيقة، بيد أن الرأي الذي يرتئونه مضلل في النقد كتضليل ذلك الرأي، وخليق أن يحملهم على مطالبة الشاعر بما ليس مطلوبا منه، وأن يقيسوا شعره بما ليس يصح أن يقاس به، فأما إن كان غرضهم من تمثيل البيئة أن الشاعر يولد في زمن لا يستطيع أن يتعداه فذلك تحصيل حاصل، لا معنى لاشتراطه؛ لأنه موجود محقق بالفعل لا سبيل للإفلات من حكمه، ولو حاول الشعراء أن يفلتوا منه، فلا وجه للتمييز بين شاعر وشاعر؛ لأن الجميع في هذا الحكم سواء من أحسن منهم كمن أساء، ومن أبدع منهم كمن قلد سواه. وهل كان شعراء القرن العاشر وما بعده إلا أبناء بيئاتهم يقولون ما يقال في تلك المواطن وتلك العهود؟ وهل كانوا يقلدون ويولعون باللفظ الفارغ والمحسنات الجوفاء، إلا لأنهم نشئوا في زمان التقليد والخواء؟ فهل بلغوا المثل الأعلى، وأتوا بالنموذج المحمود؛ لأنهم سيئون جامدون يعبرون عن بيئة مثلهم في السوء والجمود؟ ما نحسب أحدا يريد أن يقول هذا، وإن كان تمثيل البيئة الذي يشترطونه ينتهي بأصحابه إلى هذا المقال.
وأما إن كانوا يقصدون بتمثيل البيئة ألا يقلد الشاعر من تقدموه، فهذا إنكار للتقليد لا للخروج عن البيئة؛ لأن الشاعر لا يعاب عليه أن يسبق عصره، وأن يحس بما لا يحس به أبناء جيله، وهذا يحدث كثيرا بلا مراء ويحسب من مفاخر بعض الشعراء المبرزين، الذين يعلون على معاصريهم في الإدراك والشعور، ولا ننس أن الشاعر الذي يمثل جيله أحسن تمثيل قد يدل على صدق في الملكة، وأمانة في التعبير، وبلاغة في الأداء، ولكنه قد لا يدل على تفوق في الشاعرية، ولا تكون له الحجة على زميله، الذي يعبر عن أمور يجهلها معاصروه، ثم يعرفها له الناس بعد زمانه، وليس من الضروري للشاعر المجيد أن يفيد المؤرخ في استقصاء أحوال العصور، واستخراج الوقائع والأسانيد، إذ ربما أجاد الشعراء في عصر واحد، وهم مختلفون في الإجادة، واختلافهم في الملكة والمذهب والمزاج، فتمثيل البيئة ليس من شرائط الشاعرية؛ لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا يشبهها، إلا في معارض لا يصح بها الاستدلال، وقد يوجد من الشعراء من يشبه تلك البيئة في هذه المعارض وبينها وبينه مئات الفراسخ ومئات السنين، بل قد يكون هذا الشاعر أشبه بها من ذلك الشاعر المتفوق الذي يعيش فيها، وينقطع ما بينه وبينها ، وهل يستحيل علينا أن نجد في المتنبي مثلا شواهد يمكن أن نعده بها من شعراء هذا الزمان؟ وهل يستحيل علينا أن نجمع بين أبي العتاهية والشريف الرضي والأعشى وابن حمديس بشبه واضح أو خفي، كالشبه الذي يلاحظ بين أبناء البلد الواحد والفترة الواحدة، فهذه المشابهات عرضية في الدلالة على الشاعرية، وعلو الملكة، وصدق التعبير، وقد ننكر «الفائدة» على الشاعر، وننكر عليه مطابقته الزمان الذي يعيش فيه، ولا نستطيع بعد كل هذا أن ننكر عليه الشاعرية الراجحة، ونجهل مكانه بين مفاخر الأوطان.
الشعر في مصر (6)1
من المفهوم المقرر عند جميع الناس أن الشعر شيء غير النثر. هذه مسألة مفروغ منها، ولكنك إذا أقبلت تعرف موضع هذه الغيرية بينهما، وأين يكون الفارق الذي يجعل الكلام نثرا لا شعر فيه أو شعرا لا نثر فيه، فهناك الاختلاط والفكاهة المضحكة والتعريفات التي لا تفرغ منها أبدا، ولا نخرج منها بطائل، فلو أنك سألت رهطا من الناس عندنا: ما الذي تنتظرون أن تجدوه في الكلام الذي يسمى شعرا؟ لسمعت فنونا من الأجوبة، أو لعزك أن تسمع جوابا، ولكنك تعلم بالاختبار أن لكل منهم شرطا محسوسا أو غير محسوس، يلتمسه في النظم الموزون ليؤمن أنه يقرأ شعرا، ويصغي إلى كلام غير كلام الناثرين.
فمنهم من ينتظر «الخيال» من الشعر، ويفهم من الخيال أنه القول المفروض في قائله أنه لا يصدق ولا يجد ولا يناقش في صحة شيء مما يزعم، فإذا أسلف الإنسان بين يديك أنه سيتكلم «خيالا» فتلك هي الرخصة التي تعفيه من مؤنة العقل والواقع، وتبيح له مناقضة العلم والصواب، وما سؤالك رجلا في مستشفى المجاذيب عن صحة ما يقول؟ ألست تعلم أنه في مستشفى المجاذيب؟ كذلك إذا قال الرجل: إنه ينظم شعرا فقد أعفى نفسه من التحقيق، ولاذ بحرم الإباحة الذي يسمح له بكل قول، ولا يأذن لأحد بحسابه على مقال.
ومنهم من ينتظر «العواطف» من الشعر، ويفهم من العواطف أنها الرقة في الشكوى والأنوثة في الحنان، ودموع كثيرة وآهات أكثر، وسقم وحزن وبث وشقاء، فإذا صادفه كل ذلك في القصيد فذاك هو الشعر وتلك هي «العواطف»، وإذا نقص البكاء في القصيد فإنما تنقص فيه الشاعرية بمقدار ما تنقص الدموع، فالقصيدة التي فيها عشرون دمعة أشعر من القصيدة التي فيها عشر أو خمس، أو القصيدة التي تقتصر على التأوه أقل في البلاغة الشعرية من القصيدة التي تسمو إلى درجة البكاء، والرجل الذي يبالغ في التذلل، ويفرط في الاستعطاف هو الشاعر المطبوع والقائل البليغ، فمن جعل نفسه عبدا لحبيبه أبلغ ممن جعل نفسه أسيرا يفك إساره! ومن تطلع إلى تقبيل القدم أشعر ممن طمع في تقبيل البنان! ومن صبر عاما أظرف ممن صبر أحد عشر شهرا! ومن نذر حياته كلها لعبادة حبيبه أصدق في «العاطفة» والشاعرية ممن جعل «للوقفية» حدا تنتهي إليه! أما من غضب مرة فقسا على الحبيب بكلمة، أو أنحى عليه بمثلبة فقد برئ من الشعر، وبرئ الشعر منه، وخلا من «العواطف» خلو الصخرة من الماء، واستحق النفي السرمدي عن حظيرة القصيد!
ومنهم من ينتظر من الشعر ألفاظا بعينها يقرؤها فيطمئن على الكلام، ويوقن أنه غير مخدوع في صحة الصنف المعروض عليه، فالكلام الذي فيه الأزهار والبلابل والكواكب والغدران، وفيه مع هذا عيون وثغور وقبلات وخدود وكئوس وأشواق، يستحيل ألا يكون شعرا أو يكون فيه موضع لانتقاد، ولو أنك أردت بأي كلام أن يكون أجمل الشعر وأظرفه وأحلاه، لما كان عليك أكثر من أن تكتب أمامك هذه الكلمات على مسافات متقاربة، وتملأ ما بينها من الفراغ كما يصنعون في ألغاز الكلمات المجهولة، فإذا شعر لديك كأحسن ما يقول القائلون! وأمتع ما توحي العرائس أو الشياطين! ومن أكبر الطمع أن يعرض عليك بيت في بلبل وزهرة، ثم تساوم فيه بعد هذا ولا تعطي فيه ثمن الشعر الصحيح غير منقوص ولا مبخوس، فإذا كان فيه، فضلا عن هذا، عشرة بلابل وخميلة أزهار، فلا والله ما لك عليه من سبيل، وما أنت فيه بمغبون إذا أعطيته من نفسك كل حق الشعر والشعراء!
ومنهم من ينتظر من الشعر لفا في التعبير، يبعده عن استقامة الكلام المعهود، ويحوج القارئ إلى التفطن والجهد في استخراج معناه، والبحث عن مرماه البعيد، فليس بشعر ما يسمى الظهر ظهرا والليل ليلا، ويذكر كل شيء باسمه المتداول المعروف، وأقرب منه إلى الشعر ما يسمى الظهر الأوان الذي بين الضحى والأصيل، ويسمى الليل الأوان الذي لا شمس فيه، أو الذي يشرق فيه القمر وتومض النجوم. ويتم الشعر عند هؤلاء بتمام غرابته في لفظه ومعناه، وبعده عن المألوف في الأثر والإحساس، إن كان لا بد فيه من إحساس، وهو أمر لا يحفل به ولا يلتفت إليه.
ومنهم من ينتظر من الشعر «المعاني»، ويفهم من المعاني اعتساف التشبيهات والخواطر، واختلاق الأفكار والتصورات، فإذا سمع صرخة ألم في قصيدة غير مشفوعة «بمعنى» معتسف أو ابتكار ملفق، نظر إليك نظرة من يصغي إلى قصة تمت، ولم يتم مغزاها في نظره، وعجب لماذا ينظم الشاعر هذا الكلام إذا كان جهد ما يبلغ إليه أن يمثل لك حالة ألم، يشعر بها جميع الناس! او يكفي أن يشعرنا الشاعر ألمه دون أن يقرن ذلك بتشبيه براق، أو كناية بعيدة، أو أسطورة منمقة، أو خاطرة منتزعة من أبعد المناسبات وأغرب التمحلات؟ كلا ذلك لا يكفي في عرف هؤلاء القراء، ولا يزال الشاعر عندهم مطالبا «بالمعنى» الذي لا محل له حتى بعد أن يشعرك ما في قلبه ويجلو لك الحالة النفسية التي حركته إلى النظم والغناء! والقارئ من هؤلاء لو سمع الرعد يدوي، ورأى البرق يلمع، وشهد السماء في جلالها، والبحر في اتساعه لم يكرثه أن يعرف هل هذا رائع أو غير رائع، وهل له صدى في النفس أو ليس له من أصداء، وإنما يكرثه أن يسأل: وأي معنى لهذا؟ وأي معنى لهذا؟ وماذا قال لنا الرعد أو البرق أو السماء أو البحر مما لم يقله قبل الآن؟ وكأنه يعجب: هل وظيفة الرعد أن يكون رعدا، وأن يكون له أثر الرعد في النفس أو وظيفته أن يطرقنا كل يوم بنغمة جديدة و«معنى » طريف؟ وكذلك هو يعجب: هل وظيفة الشاعر أن يكون صاحب صور نفسية ينقلها إلى نفوس الناس، أو وظيفته أن يلفق لهم تشكيلات المعنى كما تلفق تشكيلات الصور المبعثرة يلهو الأطفال بضم أجزائها وتغيير أشكالها، والإتيان بها على أوضاع لا نهاية لها، ولو لم يكن من وراء ذلك فن ولا تصوير؟
فمن المفاجأة ولا ريب لجميع هؤلاء أن يقال لهم: إن الكلام قد يكون في الذروة العليا من البلاغة الشعرية، وليس فيه خيال شارد، ولا دمعة، ولا آهة، ولا كلمة ملفوفة، ولا معنى مستكره. بل هو يكون أبلغ في الشاعرية كلما خلا من هذا التصنع، واستوى على طريقه الواضح القويم، ونضرب لهم مثلا بقطعة واحدة سبق لنا أن ترجمناها فسألنا السائلون: وما معنى هذا؟ كدأبهم كلما سمعوا كلاما يعوزهم أن يستحضروا إحساسه، وينظروا إليه من وجهته! أما القطعة فهي القصيدة الآتية من شعر توماس هاردي، الذي كتبنا عنه مقال «أزياء القدر» في بعض هذه المقالات:
إذا طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولا وحقلا، وقطيعا وشجرا موحشا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعا، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبا! عجبا لا انقضاء له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم، خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافا لما تجرى به الصرف؟ أما تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور، أم ترانا بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها «فرقة الفداء» والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟ كذلك يسألني ما حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام، كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة.
هذه هي القطع، ولقارئ من أولئك القراء أن يسأل ألف مرة: ما معنى هذا؟ ما معنى هذا؟ فلا يظفر بجواب يقنعه، ولا يرجع بغير الخيبة، وماذا عسانا نقول له إذا سألنا: هل في هذه القطعة جناس؟ هل فيها «عواطف»؟ هل فيها «معنى» غريب؟ هل فيها ألفاظ وأساليب؟ ماذا عسانا أن نقول له غير «لا» في جواب كل سؤال، وأن نسبقه بها إلى جواب كل ما يسأل عنه أمثاله، وكل ما يطلبونه في الشعر وفي كل كلام. غير أننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له هزيلة ضامرة لا تساوي بيتا من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها «حالة نفسية» تحيك بنفسه، فمثلها لنا أحسن تمثيل، أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطئها الجاهل، فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف، وعبث الحوادث، وعبث النواميس، فتولاه الضجر، ونفرت نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم، فيم يحزن الحزين، وفيم يفرح الفرحان، وفيم ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة ثم لا يزالون ينخدعون بها وهم يعلمون أنهم مخدوعون! في لا شيء، وهذه هي الحالة النفسية التي يجب أن نستحضرها ونعالج بواعثها لكي نضع هذه القطعة في مكانها من الذروة العالية التي هي فيها، فإذا استحضرتها علمت أن ليس في وسع شاعر أن يصف تلك «الحالة النفسية» أصدق ولا أبسط ولا أسهل ولا أعمق من ذلك الوصف العبقري القدير، وكيف يسع الإنسان أن يصور «الفطرة» التي في الشجر وفي الطبيعة عامة، بأقرب من صورة الطفولة المكبوحة؟ وكيف يسعه أن يصور ثقلة النواميس التي قيدتها ذلك التقييد بأقرب من ثقلة الدرس الممل، والتكليف العنيف الجاثم على طبيعة الطفولة المحفوزة إلى اللعب والمراح؟ وكيف يسعه أن يعطي السآمة صورة أوفى من صورة الشجرة خاصة وهي تتثاءب في جمودها الدائم وتسألك: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ أو ليس هذا بالسؤال المنتظر المعقول! أو ليس يخيل إليك الآن أنك تسمعه من كل شجرة، وتعرف لها الحق في أن تلقي بهذا السؤال إليك؟ فإذا كان الإنسان الذي يروح ويغدو ويطير في الجو، ويغوص في الماء، ويفرح ويألم ويفلح ويفشل ويقول ويعمل، يعود إلى ضميره كرات متواليات ويسأله: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ فما أولى الشجرة التي تقضي حياتها في مكان واحد لا تتزحزح عنه حتى تموت، أن تعجب ذلك العجب وتسأل ذلك السؤال؟ ثم هل من سبيل إلى فرض واحد يضاف إلى تلك الفروض الشعرية التي ختم بها الشاعر قطعته، وأجمل بها كل ما يحير في نفس المتأمل من الظنون، كلا! لا مزيد عليها، فهي في إجمالها دليل على نفاذ الشاعر إلى كل مذهب يهيم فيه الفكر، وشعوره بكل إحساس يعتري النفس، وإلمامه بكل دقيقة وجليلة يلم بها من خبر هذه الدروب ونظر في هذه الأمور.
ذلك مثل واحد من شعر كثير ينقل ولا يقابل من عامة القراء بغير ذلك السؤال الذي تعودوه كلما سمعوا شعرا من هذا الطراز: ما معنى هذا وما معنى هذه؟ وإن معناه لواضح بسيط لو يحسونه ويستعدون له، وما هو بالبسيط لأنه «غير عميق»؛ ولكنه هو البسيط الذاهب في العمق إلى قرار ليس بعده قرار.
الشعر في مصر (7)1
أما وقد بدأنا بسوق الأمثلة من الشعر الذي يروع باطنه، ولا يعجب الأكثرين من قرائنا ظاهره، فلنمض في التمثيل خطوة أخرى ليكون مثلنا الجديد من شعر توماس هاردي الذي استشهدنا به في القطعة الأولى؛ لأنه أولا: من المعاصرين الأحياء والوهم الغالب على الناس في أوربا وفي مصر أن العصر الحاضر ليس بالعصر الذي ينجب الشعراء ويحيي العبقرية الشعرية فلا لوم على المقصرين، وإنما اللوم كله على البيئة والجدود!
ولأنه ثانيا: شاعر «الحالات النفسية» وهذه الحالات هي التي نقصت في شعرنا القديم والحديث؛ لأننا نفهم شعر الأسلوب، وشعر المعاني الذهنية، وشعر الألاعيب اللفظية والمعنوية، ولكننا لا نفهم الشعر الذي يترجم لقارئه عن حالات النفس بغير ما حفاوة مقصودة بذلك الذي يسمونه المعاني، ويفهمون منه أن يكون الشاعر مختلقا للخواطر، مكثرا من المبتكرات المعتسفة، مولعا بالاستعارات والمواقف التي لا موقع لها في القصيدة، فنحن لفقرنا في الإحساس المنوع الغزير، أو لتفريقنا بين الشعر والإحساس.
نقرأ القصيدة التي تشرح لنا الحالة أو الحالات الكثيرة من عوارض النفس البشرية، ثم لا نزال نترقب من الشاعر مغزاه ونتوهم النقص في غرضه، أو نحن نقرأ القصيدة التي تومض لنا بالصور الخيالية، والمواقف الدقيقة ونعدوها كأننا لم نجد عندها مستوقفا ولم نظفر بخبر، وتوماس هاردي غني بشعر الحالات النفسية، وإن لم يكن غنيا مثل هذا الغنى بشعر الصور الخيالية، فالتمثيل ببعض كلامه الذي يقل فيه ما يسمونه «بالمعاني» يعين على تقرير هذا الغرض الذي أردناه، ويرينا كيف يكون الكلام في الطبقة الأولى من الشعر بعد تجريده من زينة الصياغة الموسيقية، وخلوه من تلك «المعاني» التي يولع بها عندنا أناس يحسبون أنفسهم خيرا من طلاب الألفاظ والأساليب، وهم مثلهم في الضلال عن روح الشعر ورسالة الشعراء.
هذا سببان لاختيارنا التمثيل من شعر توماس هاردي، وثمة سبب ثالث فيه بعض الغرابة ولكنه وجيه في رأينا كل الوجاهة، وذلك أننا نعد توماس هاردي من شعراء الطبقة الثانية ولا نعلو به إلى المقام الأول بين رهط الشعراء الكفاة الذين جمعوا خصال الشعر من موسيقية وإلهام وبداهة عالية ونفاذ وشيك، فليس في التمثيل به تكليف بشطط، ولا غلو في التحدي، ولا مهرب للذين يعتذرون عن شأو الكمال إلا أن يقنعوا بما دون ذلك من منازل الشعراء، ولو مثلنا لهم بالآخرين الذين تفردوا في عصورهم وأقوامهم عن النظراء لما كان عليهم ضير أن يخلدوا إلى العجز ويلقوا يد التسليم.
ونحن بعد، كثيرو التقليب هذه الأيام في شعر توماس هاردي؛ لأنه شاعر الساعة أو صاحب النوبة كما نسمي الشعراء الذين نرجع إليهم حينا بعد حين، وكان بودنا أن نمثل بقصيدة من مطولاته، لولا رغبتنا في حصر وجهتنا واجتناب التشعب والشتات، فنكتفي بقطع صغيرة له تفي بالغرض في هذا المقام، وهذه واحدة منها بعنوان «قلت للحب»:
قلت للحب: ليست الدنيا الآن كما عهدتها في سالف الأيام. أيام كان الناس يعبدونك ويعبدون أساليبك وبدواتك، ويرفعون لك عرشا لا تعلو عليه العروش. أيام كانوا يسمونك الصبي، والجميل، والوحيد، ويزعمونك باسطا لهم تحت الشمس سماء النعيم. قلت للحب.
قلت له: إننا لنعلم اليوم ما لم يكونوا يعلمون، وإننا لضعاف رأي يوم أن كنا نفتح لك قلوبنا المفعمة، ونضج إليك عسى أن تلقي فيها بلواعجك وآلامك. قلت للحب.
وقلت له: ما أنت بالفتى ولا أنت بالجميل، وما أنت بالجني الصغير يلعب بسهامه، ولا الملك الطهور يتخايل في وسامة، وما كان سيما الإوزة الناعمة، ولا الحمامة الوادعة، وإنما هي ملامح القسوة المتجهمة ملامحك، وخناجر الحديد الطاعنة سهامك، وسلاح الفتك والغيلة سلاحك. قلت للحب.
قلت له: سحقا لك يا حب إذن، وفراقا عنا إلى حيث لا معاد! أو يفنى الإنسان تقول؟ ويجهل الجيل غدا ما يكون وما يحول؟ لقد شاخت نفوسنا يا حب في هذا الزمان، فما نبالي منك ذاك الوعيد، وسيفنى الإنسان! نعم ليذهب إلى حيث شاء! قلت للحب.
هذه إحدى النماذج التي نمثل بها لشعر الحالات النفسية، فتخيل أيها القارئ مجمعا من ظرفاء الأدب عندنا يتناولونها بالنقد والتقدير، وقل لي كيف يحكمون على هذا الشعر وأي الحسنات يرونها فيه وأيها تنقصه وكن على يقين أن مصير القطعة عندهم «سلة المهملات» أو أي مصير يشبهها غير مأثورات عقولهم التي هي أشبه شيء بسلة المهملات! فلا «معنى» هنا ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا مراعاة نظير! ودع عنك اللطافة التي يتأفف صاحبها اللبق الرشيق من شاعر يصف ملامح الحب بالجهامة، وسهامه بالخناجر، وسيماه بسيما الغائلة وقطاع الطريق! ودع عنك الأناقة التي يتسخط صاحبها على شاعر يطرد الحب ويجازف بفناء الإنسان! فهذا بعض نصيب هاردي من ظرفاء الأدب عندنا، وهذا هو الحكم الرءوف الذي نتلقاه من منصة ذلك القضاء، ولكنك إذا ضربت صفحا عن هؤلاء الأمساخ الهازلين ونظرت إلى القطعة من حيث هي ترجمان صادق لحالة تعتري النفوس الشاعرة، فهناك تعلم كم من الحياة يحتاج إليه الإنسان ليقول مثل هذا المقال، وتفهم كيف أن ناظم هذه القطعة لم تفته صورة من صور الحب في أجيال الخليقة من إنسان وحيوان، فما قالها إلا بعد أن أحس شبع الإحساس بضراوة الحب المفترس يمعن في عالم الحيوان قتلا لا رحمة فيه ولا إمهال، وطغيان الحب الخالب يستغوي أبناء الفناء برونق الفتنة، وهو موت أصم أعمى لا يصغي ولا يحيد ولا يحفل ما سعادة النفوس وما هناءة البيوت وما شقاء الآباء والأبناء والأمهات وما سموم الغيرة ومرارة اليأس الخفي، وحسرات الفؤاد الكظيم، وما هان على الشاعر أن يذهب نوع الإنسان إلى حيث يشاء، إلا بعد أن بلا من الحب ما هو أشد من الفناء، وإلا بعد صرعات لا منفذ فيها للرجاء، ولا موضع فيها للعزاء، فإلى جانب هذا الفتور الشاحب الذي يسميه فتور الشيخوخة جحيم عذاب لا فتور فيه ولا سكون، ووراء هذه الملالة الهاجعة هاوية زافرة لا تبرد ولا تنام. •••
وقطعة أخرى على هذا النمط عنوانها «في خسوف القمر» يقول:
ظلك أيتها الأرض - من القطب إلى المحيط - يدب الآن على شعاع القمر الضئيل في سواد لا شية فيه، وسكينة لا يخالجها اضطراب، وإني لأنظر إليه فأعجب كيف يستوي هذا الظل المنسوق، وذلك الجرم الذي أعرفه لك موارا بالقلق والحيرة، وكيف تتفق هذه الصفحة الراضية كأنها الطلعة الإلهية، وأقطار عليك أيتها الأرض تموج الساعة بالأحزان والكروب!
واسأل: أهذا الشبح الصغير كل ما يطرحه الفناء الزاخر من الظلال على ساحة الفضاء! أحكمة الله التي أراد بها عالم الإنسان متجمعة كلها في حيز هذا القوس المرسوم! أكذلك يكون مقياس الكواكب لما تبديه الأرض ويكشفه عليها الزمان: من أمة تنحر أمة، ورءوس تغلي بالهواجس، وأبطال غالبين ونساء أجمل من طلعة السماء؟!
وهذه قطعة أخرى لا «معنى» فيها ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا مراعاة نظير ولا خاتمة تنبه الأسماع إلى النهاية بالأجراس والطبول، ولكن من الهزل والظلم أن يفرض لهذا السفساف وجود إلى جانب ذلك الكون المرهوب الذي يفتحه لنا هاردي في لحظة الخسوف: شاعر يقف بين الأرض وظلها ينظر إلى هذا تارة، وينظر إلى تلك تارة أخرى ويستعرض في لمحة الطرف كل ما يجمله الظل الممدود من معارض، وتواريخ، وأقدار، وخطوب، ثم يحاول أن يرى في الظل مثالا من صاحبته، فإذا هو لا يرى إلا قليلا زهيدا ولا يملك إلا أن يسأل في امتعاض وخيبة: أهذا هو كل ما ترسمه الدنيا من الظل على ساحة الفضاء.
هذا حرم سماوي لا لغو فيه ولا صغار، فمن الظلم جد الظلم أن نقف عند بابه وفي نفوسنا ذكر لذلك السفساف الذي يهذي به أدباؤنا الفارغون، ويحكون به الشعر حكاية القردة للآدميين. •••
وقطعة أخرى على هذا النمط أيضا تصف لنا عبث العزاء الذي يتلمسه المفقودون في وفاء القرابة والأصدقاء، وهذه ترجمتها:
آه! إخالك تحفر عند قبري يا حبيبي لتغرس على حوافيه أشجار الشذاب؟
كلا! حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء، وهو يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض عهدي لها في الحياة.
إذن من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر؟ أقاربي الأعزاء؟
لا يا بنية! إنهم يجلسون هناك ويقولون ماذا يجدي؟ أي نفع لهذه الأشجار والأزهار؟ إن روحها لن يفلت من براثن القضاء، خلال ذلك التراب المركوم.
ولكني أسمع حافرا يحرف هناك، فمن ذا عسى أن يكون؟ أهو عدوتي اللئيمة الرعناء؟
لا! إنها حين علمت أنك عبرت الباب الذي لا مفر منه، ضنت عليك بالعداوة، ولم تجدك أهلا للكره والبغضاء، فما تبالي اليوم في أي مرقد ترقدين.
إذن من يكون ذلك الحافر على قبري؟! فقد أعياني الظن وأقررت بالإعياء!
أوه! إنه أنا يا سيدتي الودود! أنا كلبك الصغير أعيش بقربك، وأرجو ألا يزعجك ذهابي، ومآبي في هذا الجوار.
آه نعم! أنت الذي تحفر على قبري. عجبا! كيف غفلت عنك، ونسيت أن قلبا واحدا وافيا قد تركته بين تلك القلوب الخواء؟ وأي عاطفة لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب الأمين؟!
سيدتي، إنني أحفر عند قبرك لأدفن فيه عظمة أعود إليها ساعة الجوع في هذه الطريق، فلا تعتبي علي إزعاجك! فقد نسيت أنك في هذا المكان تنامين نومك الأخير.
تلك حالة أخرى من حالات النفس السائمة، قد بطلت خدعتها في عواطف المودة والولاء وعلمت عجز طبيعة الإنسان والحيوان عما نكلفها من وفاء نتعزى به في محنة العزلة والقنوط، فالميت في قبره لا يساوي أكثر من عظمة في قلوب الكلاب، ولا أكثر في القلوب الأخرى التي لا تبحث عن العظام في جوار القبور!
ولعلنا بعد هذه الأمثلة القليلة قد أفلحنا في غرض ليس بالطامع ولا بالبعيد. لعلنا قد أقنعنا بعض المخلصين في حيرتهم بأننا لا نتحكم ولا نعتمد التعجيز حين ننكر شعرا يروقهم فيه ما يسمونه المعنى والأسلوب، ونعجب بشعر بسيط لا «معنى» له غير ما يجلوه من حالات النفوس أو صور الخيال.
الشعر في مصر1
خلاصة
في هذا المقال الذي نختم به مقالات «الشعر في مصر» نعود إلى ما قدمناه فنجمله بعض الإجمال، ونود أن نقول كلمة عن مقاصدنا من كتابة هذه المقالات، وعن القراء الذين عنيناهم بكتابتها، والنتيجة التي نريد أن نصل بهم إليها.
ونبدأ بهذا الغرض الأخير فنقول: إن هناك فريقا من القراء لا نعنيهم ولا نرجو خيرا من اطلاعهم على كتابتنا، أو على كتابة غيرنا في النقد والأدب. أولئك هم زمرة «الشخصيين» الذين يظهرون الإعجاب بشعر شوقي مثلا؛ لأنهم يشبهونه في بعض الخلال والعادات ويشعرون براحة خفية لاشتهار واحد من أمثالهم وأشباههم بهبة ترخص الوصمة وتستر المسبة، وهؤلاء ليسوا بالقليلين بين من يتظاهرون بمخالفة آراء المجددين، أو يصفون شوقي وأضرابه بالتجديد وهم لا يبالون قديما ولا جديدا، ولا يعالجون الشعر معالجة فقه ودراية، وليس من شأننا أن نذكرهم أو ندل عليهم، ولكننا نشير إلى هذه الحقيقة من باب التمثيل لظاهرة غريبة بين ظواهر التشيع الأدبي التي تخفى أسبابها وتمزج الأدب بغير الأدب، وتجعل من بعض العيوب عصبية كعصبية القرابة والرصافة، وكثيرا ما يرى القراء أحدا يغضب من نقد شوقي وينضح عنه وعن شعره فيعجبون لهذا، ويزيد عجبهم أن ذلك «الأحد» ليس من قراء الشعر ولا المعنيين بشأنه في اللغة العربية ولا في لغة غيرها، وأن شوقيا ليس من أصحاب النفوس التي تستثير نخوة الغيرة وشماس العصبية! فسر هذا الغضب شخصي ليس بالأدبي ولا بالفكري، والباعث إليه طلب العزاء والمداراة لا البر بشوقي والعطف عليه، كأن إكبار الناس لإنسان يشبهه يتضمن الغفران لما ينكره من خلال نفسه، ويرفع عنه ذلة الضعف والمهانة.
وتلحق بهذا الفريق من الشخصيين فئة لها أسلوب غريب في التشيع، أو أسلوب غريب في النقمة نسميه بالأسلوب المعكوس؛ لأنه يدعوهم إلى إظهار الإعجاب بأناس كراهة لأناس آخرين ويجعل مدحهم لإنسان نوعا من القدح المقلوب لإنسان آخر لعلهم لا يجرءون على مسه ولا يعرفون كيف يتسللون إلى إيذائه، وإن النفس لتشمئز من حقد هؤلاء الذين يحبون لأنهم يكرهون، ويتشيعون لأنهم يحسدون، ويتوارون بالتعريض لأنهم لا يجرءون على الظهور بالنكاية، وليس للإعجاب في نفوسهم قيمة تصان ولكن القيمة الأولى للبغضاء والكراهية، ثم يأتي الإعجاب تبعا لها أو ظلا مشوها لتمثالها. لقيني أحد هؤلاء في يوم الاحتفال بشوقي فقال لي: بلغني أنك سئلت عن رأيك في شعر شوقي فكتبت عنه كتابة سيئة، قلت: لا. أنا لا أكتب عن شوقي ولا غيره كتابة سيئة! قال: ليس هذا الذي أعني، ولوددت لو أني سئلت عن رأيي فأكتب في هذا الرجل أسوأ كتابة؟ وما هي إلا أيام حتى لفتني بعضهم إلى تعريض جبان يعرض فيه صاحبنا هذا بموقفي في احتفال التكريم، ويهذي بحكاية يحفظها عن برنارد شو تدل على أنه لا يفقه ما يقول، ثم ذهب في موضع آخر يثني على شوقي ويصفه «بصلابة الخلق!» فنم على نفسه بهذا الوصف الغريب ودل على ذلك الضعف الذي جعله يتعزى بأن يكون مثل شوقي ممن يوصفون بالصلابة وينعتون بنعوت القوة! وشئنا هنا أن نذكر هذا المثل لنسوق للقراء أعجوبة من أعاجيب الدواعي النفسية والنوازع الممسوخة التي تنزع بعض الناس إلى التشيع والثناء، ومن واجبنا أن نشير إلى هذه الفئة وإلى الفئة التي تقدمها لنصحح خطأ قد يقع فيه مؤرخ الآداب في العصور الآتية وله العذر إذا وقع فيه، فليس كل إعجاب بشعر شوقي إعجابا أدبيا يصح أن يتخذ دليلا على الحالة الفكرية والأذواق الشعرية في زماننا، ولا بد من ملاحظة الأسباب الشخصية المتسترة التي تعود على الرجل بشيء من الإعجاب المصطنع والثناء المعكوس، ولو جربنا على عادة السكوت عن الأسباب المشار إليها لأخطأ الذين يجهلون الأمر الآن أو غدا فعدوا ذلك الإعجاب رأيا في الأدب، وما هو برأي فيه ولكنه ستار عيوب أو سلاح مقلوب، ولا وجه للسكوت عن هذا الأمر وفيه ما فيه من تقرير الحقيقة ومن الظواهر النفسية التي تفيد ملاحظتها من يعنون ببواعث النفوس وظواهر الأخلاق.
ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إننا لم نعن بالكتابة في هذا الموضوع من يؤجرون على آرائهم أو من تحملهم عصبية الجيل والسن على كراهة كل جديد، أو من يملؤهم الغرور الجاهل حتى ليخفى عليهم أنهم مغرورون، ولا يخطر لهم أن امرأ يجوز له أن يرى رأيا لا يسيغونه، أو يذهب في الأدب مذهبا لم يسمعوا به، فهؤلاء جميعا ممن لا غناء فيهم للشعر ولا وجه لمخاطبتهم بحجة مقنعة وبيان منزه، وإنما ندعهم وشأنهم ونمضي في طريق يعلمون هم قبل سواهم أنهم أصغر من أن يعترضوا له سدا أو يقفوا فيه عقبة، ونتوجه بكلامنا إلى نفوس لا يحول بيننا وبينها حائل، ولا يمنعها الغرض أن تقرأ قراءة المخلص لنفسه، والمستفيد من مطالعاته، وليسوا والحمد لله بقليلين. •••
إن هذه الآراء التي نقررها في الشعر وفي النقد تسري سريانها، وتسلك سبيلها في توجيه الأفكار الظاهرة والمستترة، فلا تعوقها المكابرة، ولا يجدي في مكافحتها تألب المتألبين على إنكارها، فمنذ بضع سنوات نشرنا كتاب الديوان فذاع ذيوعا لم يسبق له مثيل في مصر، ونفدت طبعة الجزء الأول منه في أقل من أسبوعين، وثارت حوله ثورة الناقمين المدسوسين عليه، والذين يغنيهم وغر نفوسهم عن الإيعاز والإغراء، فخيل إليهم أنهم طامسو أثره، ومخفتو صوته، وعادلون بالقراء عن الإصغاء إليه والاقتناع بحقه، وبقينا نحن نلمس آثاره في أقوال المتحدثين، ومقالات الكاتبين، وتعليق المعقبين على ما ينشر من الشعر، ويروى من الأدب القديم والحديث. إلى أن جاء يوم الاحتفال الذي دبره شوقي لتكريمه وسئل الأدباء رأيهم في شعره فكان فريق الناقدين أرجح من فريق المقرظين، وكانت منزلتهم أكرم، وسمعتهم أسلم ومنهجهم في الإبانة عن آرائهم أدنى إلى الفهم والإصابة، فعرفنا الآراء التي بسطناها في كتاب الديوان، وهي تتخلل مقالاتهم وملاحظاتهم، وعلمنا أين تنتهي الضجة الخاوية وأين تقف الحيلة الكاذبة، وكان أناس يوافقوننا في مجمل الرأي ويطلبون إلينا أن نتخذ للنقد لهجة غير التي اتخذناها لندفع مظنة التحامل على شوقي والنظر إلى شخصه، فكنا نقول لهم: إن مثل شوقي في أحابيله التي ينصبها لترويج أمره والكيد لغيره، لا يستحق منا غير تلك اللهجة التي قسناها عليه قياسا يلائمه كل الملاءمة، ويطابقه أعدل المطابقة، وإننا نعرف كيف نختار طريقتنا للنقد ونضع أقوالنا موضعها من الكلام، فظهر لنا الآن أن قراءنا لا يخلون من فئة قيمة تعرف ذلك أيضا وتعرف الفرق بين لهجة التحامل ولهجة التأديب، وأننا كنا على صواب حين أبينا أن نفسر خطتنا في النقد أنفة أن يعد ذلك استجداء لاقتناع المتثاقلين باقتناعهم أو تلمسا لرضا الذين لا يرضيهم إنحاؤنا على من هو به حقيق، فلما كان الاحتفال بالعيد الخمسيني لمجلة المقتطف وعلم من علم أن شوقيا أبى أن ينشد شعره في احتفال يقف فيه شاعران آخران، وأظهرت لهم هذه الخليقة المحسوسة طبيعة الرجل في مناوأة الزملاء والضغينة عليهم، آمنوا أن الناقد قد يجوز له من الصرامة أحيانا ما يجوز للقاضي، وأن الحق يحق له أن يخشن في موضع الخشونة ويلين في موضع اللين، وأن إحساس العدل هو الذي سوغ لنا أن نقرر الحقائق، ونبسط الآراء بلهجة توائم الرجل الذي قيضته المناسبة لتقرير تلك الحقائق وبسط تلك الآراء.
وهذه المقالات بعنوان «الشعر في مصر» قد لقيت من موافقة القراء ما كنا نقدره ووجدت أنصارا لها، حيث كنا نظن الأنصار قليلين أو معدومين، فقد كان يبدو لنا أن آراء تحوم حول الآداب الغربية ولا تتقيد بالموروثات العربية هي أخلق أن تجد أنصارها بين قراء اللغات الأجنبية أو من ينشئون على التربية التي نسميها بالعصرية، وهي أحجى أن تجد المقاومة ممن لا يقرءون تلك اللغات، ولا ينشئون تلك النشأة، فأخطأ حسباننا في هذا وسمعنا من شبان الأزهر ودار العلوم عددا ليس باليسير يفهمها فهما يسرنا ويرضينا، ويستزيدنا من شرح الآراء وسرد الأمثلة، وكان عدد هؤلاء المغتبطين بالاطلاع على مقالات «الشعر في مصر» من طلاب الأزهر ودار العلوم أكبر عددا من إخوانهم في المدارس الأخرى، وأكثر رغبة فيها وحرصا على استفسار ما غمض عليهم منها. نعم إنهم لا يتابعون مقدماتها إلى نتائجها، ولا يتأدون منها إلى الغاية التي قصدناها، ولكننا لا نأسف لهذا كثيرا؛ لأننا لم نكن ننتظر أن تتفق الوجهات في فهم الشعر وهي لم تتفق في تقدير ملابس الأجسام! فما أحرى العقول التي تختلف في الأزياء المشاهدة أن تختلف في أزياء النفوس وأنماط الشعور! ولعلها تكون على وفاق في الفهم، ولكنها حين تعمد إلى الإفصاح عما في أخلادها تتشعب في التعبير، وتتباعد في صياغة الأفكار. •••
نختم هذه المقالات وبحسبنا منها أن تنفي بعض الظنون فيما نعنيه بالشعر العصري، أو بالمذهب الجديد، فليس التجديد هو إنكار فضل العرب، أو تعمد الخروج على الأساليب العربية، ولكنه هو إنكار أوهام الذين يحصرون الفضل كله في العرب، دون أمم المشرق والمغرب من سابقين ولاحقين، أو الذين يختمون على الأساليب بعد القرن الرابع للهجرة، فلا يجيزون لأحد أن يكتب بغير أقلام الأدباء الذين عاشوا إلى ذلك الزمان، ولا يفهمون أن الأسلوب صورة لنفس صاحبه، وأن الله لم يخلق الطبائع كلها على صورة واحدة، فيكون لها أسلوب واحد في المنظوم أو المنثور، وليس التجديد أن نصف المخترعات العصرية؛ لأن أحدا من العقلاء لا يطالبنا بأن نثبت وجودنا في هذا العصر بهذه الأمارة ، ثم لأن العبرة بأسلوب الوصف لا بالوصف في ذاته، وبروح الشاعر لا بموضع القصيدة.
وليس التجديد أن تقفو أثر الصحف بالنظم في الحوادث السياسية والعظات الاجتماعية؛ لأن الشاعر قد يحس ما حوله ولكنه يبرز إحساسه في قالب رواية خرافية، لا علاقة بينها وبين حوادث اليوم في الظاهر، ولا شأن لها بمشاكل السياسة والاجتماع، وقد يستحيل الغضب السياسي في طبعه إلى صرخة نفسية تفعل فعلها في حث العزائم، ولا تتسمى بالأسماء التي يعرفها الصحفيون والسواس، وليس التجديد أن نضرب عن تقليد العرب لنقلد الإفرنج، وننظم كما ينظمون وننقد كما ينقدون؛ لأن الإفرنج يخطئون في فهم الأدب كما يخطئ الشرقيون ويأبون على طائفة منهم أن تقلد الآخرين، وليس التجديد أن نقتحم المعاني ونعتسف الخواطر؛ لأن المعاني والخواطر أدوات الشاعر ووسائله، وليست بغاياته وقصارى مقاصده، فإذا مثل ما في نفسه بغير التجاء إلى ذلك الذي يسمونه المعنى أو الخاطر فهو الشاعر القدير والوصاف المبين ، وإذا أكثر من المعاني والخواطر؛ لأنه يريد أن يكثر منها لا لأنه يريد أن يمثل بها حالة نفسه وحقيقة حسه، فليس هو بالشاعر ولو أبدع في هذا غاية الإبداع، واخترع من التوليد «والتجديد» ما لم يأت بمثله المتقدمون والمتأخرون، وإنما التجديد أن يقول الإنسان؛ لأنه يجد في نفسه ما يحسه ويقوله وما يجدر به أن يحس ويقال: فالتجديد على هذا شيء غير الذي فهمه أنصار القديم، وهو كما قلنا في كلمة كتبناها لمجلة الحديث شيء غير كتابة الجديد. «فليس من الضروري أن تكون كتابة الكاتب كلها جديدة غير مسبوقة ليكون من المجددين، ويخرج من زمرة المقلدين، وليس هو مستطيعا ذلك لو حاوله ومضى عليه، ولو أنه استطاعه لوقع في التعسف واضطر إلى مخالفة الحقيقة، وتجنب البساطة وتزييف الآراء بغير طائل، فليس التجديد أن يكون الكاتب جديدا أبدا في كل ما يكتب، وإنما هو أن يكتب ما في نفسه ولا يكون قديما متأثرا للأقدمين يحذو حذوهم، وينظر إلى ما حوله بالعين التي كانوا بها ينظرون؛ فمن المجددين على هذا الاعتبار أبو نواس؛ لأنه ابن عصره، وليس من المجددين شعراء في هذا الزمان ينظمون في وصف الطيارة؛ لأن الأقدمين نظموا في وصف البعير! ومن المجددين شاعر يمدح من يستحق المديح من الأحياء والأموات، ويشرح فضائلهم، ويجلو لنا نفوسهم، وليس من المجددين شاعر يتحاشى كل مديح لكيلا يتهم بالتقليد! ومن المجددين شاعر يصف الإبل والصحراء في هذا العصر؛ لأنه رآهما ووقع في نفسه من رؤيتهما ما يستجيش القريحة إلى الإنشاد، ولكن ليس من المجددين من يصف المعارض الصناعية؛ لأنها من مستحدثات هذا الزمان، وهو يظن الحداثة أن يصف كل حديث فحسب إلى آخر ساعة، لا أن يصف ما في نفسه من قديم وحديث، وإننا حين ندعو إلى الجديد لا ندعو إلى هدم شيء قائم الأساس؛ لأننا نعلم أن كل شاعر صالح لزمانه، فذاك هو الشاعر الصالح لكل زمان، وليست العواطف الإنسانية زيا يبلى ويخلع ويتغير كلما تغيرت أرقام السنين. كلا، فإن العواطف الإنسانية تنزيل خالد لا تبديل لكلماته، وإنما يقع التبديل منه الزوائد الظاهرة والعرض اليسير، ولن يصدق شاعر في وصف النفس الإنسانية في زمن ما، ثم يصبح صدقه هذا كذبا في زمن غيره. ... يقولون ليس في الشعر قديم وجديد، وهذا حسن من الوجه الذي بيناه، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن الشعر فيه الجيد والرديء إن لم يكن فيه القديم والجديد. فالجيد هو ما عبرت به فأحسنت التعبير عن نفس مهملة، وشعور حي، وذوق قويم، والرديء هو ما أخطأ فيه التعبير، أو ما عبرت فيه عن معنى لا تحسه، أو تحسه ولا يساوي عناء التعبير عنه» هذه خلاصة موجزة لما تقدم من المقالات، فإن كنا قد أوضحنا ما نريد فذلك حسبنا منها وحسب القراء المخلصين.
روبنس المصور السياسي1
منذ ثلاثة أشهر احتفل العالم الفني بذكرى وفاة بيتهوفن، ذلك الجبار الشقي الذي كان موته أسعد ذكريات حياته، واليوم - في التاسع والعشرين من شهر يونيو - يحتفل العالم الفني بمضي ثلاثمائة سنة وخمسين على مولد المصور المجدود «بيتربول روبنس» الذي عاش حياته كلها في دعة قلما تتاح لعظماء الفنانين، وكانت ولادته من البداية إلى النهاية فلتة من الحظ السعيد، فقد كان وشيكا أن يقضي على أبيه بالموت حول السنة السبعين من القرن السادس عشر لشبهة غرامية بينه وبين زوجة وليم الصامت، فلولا الحرص على كرامة البيت المالك لمات الرجل في تلك السنة، ولم يظهر لابنه العظيم اسم في هذه الدنيا، إذ كان الحادث قبل مولده بسبع سنوات.
ولد بيتر في سنة 1577 بمدينة سيجن الألمانية، فما مضى على مولده عام حتى سمح لأبيه بالعود إلى كولون، ومكث فيها إلى أن بلغ التاسعة أو العاشرة، وتوفي أبوه فانتقلت به أمه إلى «أنتورب» حيث كان زوجها في مبدأ الأمر يمارس المحاماة، ويكسب بها الشهرة والجاه والثراء، أدخل هناك في إحدى المدارس المشهورة، وظهرت فيها فطنته وسرعة فهمه فأصبح محبوبا مدللا بين الأساتذة والتلاميذ لذكائه وجماله ودماثة طبعه، وفي الثالثة عشرة من عمره دخل في خدمة النبيلة «لالينج » أرملة الحاكم وصيفا من نخبة وصفائها، فأجدت عليه هذه الخدمة أحسن الجدوى، ومهدت له سبيل الزلفى إلى الملوك والأمراء، بما تعلمه في ذلك البيت من أصول اللباقة البلاطية، وفنون الكياسة والدهاء، ولكنه ما لبث أن سئم هذه المعيشة ونازعته طبيعته إلى التصوير، فكاشف أمه بهذه الرغبة، وألح عليها حتى قبلت رجاءه وألحقته بأستاذ مغمور لم يبق له الآن ذكر يعرف، ثم تركه ليلحق بالأستاذ آدم فان نورث، ثم ترك هذا بعد أربع سنوات ليلحق بمصنع الأستاذ أوتو فان فين، الذي بلغ في عصره مكانة تؤثر في العلم والكياسة والتصوير، فاستفاد كثيرا من التلمذة عليه في فنه ولباقته واتصاله بذوي الخطر والمعرفة، وما شارف العشرين حتى انتخب عضوا في جماعة القديس لوقا، ولم تمض عليه سنة بعد ذلك حتى انتدب ليساعد أستاذه في تزيين بعض الأماكن الرسمية، ثم خطر له وهو في الثالثة والعشرين أن يحج إلى إيطاليا قبلة الفن ومرجع المصورين من الأمم كافة في ذلك الزمان، فقصد إلى البندقية واطلع هناك على تحف الأساتذة المتقدمين، واقتبس منها خبرة بالتلوين تفرد بها بعد برهة بين جميع المصورين.
وصادفه الحظ السعيد في البندقية، كما صادفه في كل مكان، فوصلت بعض صوره إلى أمير مانتوا وحظيت عنده، فاستدعاه إلى حاشيته واستصحبه في سياحته إلى مانتوا وفلورنسية وجنوا حيث رأى صفوة ما فيهن من الذخائر الفنية النادرة والتراث النفيس، وبعد بضعة أشهر استقر الأمير في عاصمته، وفتح خزائنه الفنية لروبنس يستعرضها ويدرسها كما يشاء، فنعم المصور بهذه الفرصة، وقضى أوقاته بين التحف المذخورة التي غالى بها حكام المدينة أميرا بعد أمير، ثم برح مانتوا في السنة الثانية إلى روما لاستتمام الدرس والفرجة، فقوبل فيها بالحفاوة، ورحب به إخوان التصوير وعهد إليه ولاة الأمر بنقش المحراب في كنيسة «صليب أورشليم». ثم قفل إلى مانتوا فألفى الأمير في محنة سياسية تدعوه إلى مفاوضة ملك إسبانيا في بعض الشئون، فلم ير لقضاء هذه المهمة خيرا من صاحبه المصور الذي أعجبته منه رصانته، وسمته، وحسن تصرفه، وآنس منه قدرة في السياسة لا تقل عن قدرته في الفنون، وقد حقق روبنس هذا الظن، فأجزل الأمير مكافأته وأجرى عليه رزقا يرضيه، وأذن له مرة أخرى في زيارة روما فقضى فترة وبرحها إلى جنوة تلبية لدعوته فمكث فيها قليلا، وعاد منها إلى مقامه المحبوب في المدينة الخالدة، وفي سنة 1608 غادرها إلى أنتورب ليدرك أمه في النزع الأخير فلم يدركها قبل الوفاة، وحزن عليها حزنا شديدا تستحقه منه لا كما تستحق جميع الأمهات حزن الأبناء، فقد كانت مثلا في قوة الخلق، ونبل النفس، وصفاء الذهن، والحنو على البنين، وكان يحبها ويذكر لها فضلها في تربيته وتخريجه وأصالة رأيها في إجابة رجائه وإطاعة هواه، وكأن موتها حرك من نفسه العطف على ذكراها - ولا سيما بعد أن استوفى حظه من إيطاليا، وعرف في نفسه القدرة على الاستقلال بعمله - فأرسل إلى صاحبه الأمير يشكره ويستعفيه، وعول على الإقامة بأنتورب، وبدأ ثمة الدور الثاني من حياته بعد انتهاء دور التحضير والتعليم.
وكانت شهرته قد سبقته إليها فتوافد عليه طلاب الصور والتزين، وتهافت عليه المتعلمون بالعشرات ومنهم فانديك العظيم، وسندرس مصور الحيوانات المعروف، وأرسلت إليه الملكة ماريا دي مديشي في طلب نقوش تقترحها عليه لتزين قصرها في باريس، وكأنما عرضته علاقاته بالملوك والأمراء لشواغل السياسة، فسافر إلى إسبانيا في مهمة خطيرة ولقي فيها «فيلازكيه» المصور الكبير، وقد سر منه ملك إسبانيا وارتاح إليه فأنفذه في مهمة إلى باريس ولندن، فحظي في هذه المدينة برعاية شارل الأول ونال منه رتبة الفروسية وتكليفا سنيا بنقش غرفة المائدة في «الهويتال»، ولما قدم الأرشيدوق فردناند الحاكم الإسباني إلى «أنتورب» كان روبنس هو المتولي تهيئة المدينة لاستقباله فزاره الأرشيدوق شاكرا في بيته حين علم أن النقرس يقعده عن مبارحة فراشه، ومضت سنتان عليه وهو بين الصحة والمرض فآثر العزلة، واشترى قصرا جميلا لا تزال صورته التي رسمها المصور محفوظة في المتحف الإنجليزي. إلا أن السياسة والفن أبتا عليه الهدوء في هذه العزلة، فكانت تقطعها عليه السياسة تارة والفن تارة أخرى حتى أحس باقتراب الأجل في سنة 1639، فكتب وصيته واستعد للخاتمة التي لا مفر منها لشقي أو سعيد، ثم وافته تلك الخاتمة المنظورة بعد سنة واحدة وهو في الرابعة والستين من حياة هنيئة لم تنغصها الهموم، ولم تزعجها القلاقل، إلا ما لا بد منه لأبناء الفناء.
توفي عن زوجته الثانية الحسناء «هيلنا فورمنت» التي اقترن بها وهي في السادسة عشرة وهو في الرابعة والخمسين، بعد موت زوجته الأولى بأربع سنوات، أما هذه الزوجة الأولى فاسمها «إيزبيل براند» بنى بها بعد عودته من إيطاليا، ورزق منها ولديه اللذين حفظ رسمهما في صورة بديعة من أحسن صوره وأكملها مودعة في متحف فينا إلى اليوم. •••
تلك قصة وجيزة للحياة التي حييها روبنس المصور السياسي الموفق في التصوير والسياسة، وقد نسيت توفيقاته السياسية وسها عنها التاريخ، ومحاها الذي محا أرزاقه منها ومن سخروا له تلك الأرزاق وكافأوه على خدمته بالأموال والألقاب، ولكن صوره وزخارفه ما تزال باقية تتوارثها الأمم، وتتنافس فيها العواصم، ولقد يعجب أناس من هذه الملكة التي تنجح في السياسة نجحاها في التصوير، وتبرع في تسوية المعضلات والتوفيق بين المطالب براعتها في مزج الألوان والتأليف بين الأصباغ، والحق أنها ملكة عجيبة فيما عهدناه من ملكات النابغين، ولكننا لا نخالها من العجب بالموقع الذي يراه كثير من الناس، فإنك لا تخطئ أن تلمح السياسي الحصيف في رسوم المصور وخصائصه التي عرف بها فنه الجميل، فإن مزاياه في هذا الفن هي مزايا السياسي المحنك، والمواهب التي حرمها على اللوحة هي المواهب التي يحرمها السياسيون، فهو أريب سريع التوسم والفراسة، بارع التناول مغرق في العمليات التي لا تخالطها النظريات والفروض، وهو خلو من الخيال والعطف والمطامح التي تستهوي رجال الفنون، وحبه للضخامة والأبهة أرجح من حبه للأناقة والجمال، ومهما تر له من صورة مقتبسة من مأثورات المسيحية أو أساطير الأقدمين، ومنقولة من التواريخ أو حوادث أيامه وآخذة من الطبيعة أو وجوه الآدميين، فإنك لا تجد في مئات الصور التي تنسب إليه أثرا بارزا للخيال الرفيع، أو للعطف السري، أو للذوق اللطيف، وإنما يستوحي الرجل رأسه لا قلبه وحقائق العيان لا نوازع الخيال. ولا يستثني من هذه الخلة إلا قليل من الصور التي رسمها لبنيه أو لزوجته أو لأقربائه، فإنك واجد في هذه عطفا حيا لا تجده في غيره، وإحساسا رقيقا لا يطالعك في رسومه الكبيرة أو الصغيرة من وجوه الناس ولا من محاسن الطبيعة، ونساؤه كلهن نساء بيوت من اللحم الخالص، والدم الصرف، غير ممزوجات بفتنة الأمل، ومسرة الحب، ونزاهة الخيال البعيد، فالمرأة عنده امرأة ولادة ومتعة، والنظرة التي ينظر بها إليها نظرة شهوانية، ولكنها بريئة من المرض والحس المخبول، وحياته كلها حياة عمل وحصافة، سواء أكان عمله هذا في معارض السياسة، أم على لوحة التصوير.
بين يدي الساعة نسخ من صوره الكثيرة أظرفها «حكم باريس» التي استمد موضوعها من أساطير اليونان؛ خلاصة هذه الأسطورة أن ملك تساليا تزوج من «ثيتيس» إحدى بنات البحار فأقام عرسا فاخرا، دعا إليه الأرباب والربات جميعا إلا «أريس» ربة الفوضى، فإنه تعمد نسيانها مخافة أن تفسد عليهم نظام الزفاف، ولكن أريس حنقت عليه فجاءته غير مدعوة على حين غرة، وألقت في الجمع تفاحة ذهبية مسطورا عليها «هدية للجميلة بين الجميلات» فتنازع التفاحة أجمل الإلهات في الوليمة: هيرا ربة الأعراس وزوجة الإله الكبير، وأتينا ملكة الهواء وسيدة الأبطال، وفينوس إلهة الجمال وساحرة الغرام، واشتد التلاحي بينهن وأبين أن يسلمنها لواحدة منهن، فلما اشتد الخصام بين الثلاث قضى «زيوس» رب الأرباب أن يحتكمن إلى غلام راع ليقضي بينهن أيهن أجمل جمالا وأحق بتفاحة أريس، وكان ذلك الغلام هو باريس ابن ملك طروادة متنكرا في زي الرعاة، فرضي الربات الثلاث هذا الأمر، ولكنهن خشين الحكم الذي يحكم به ذلك الغلام الساذج مع ثقة كل منهن برجحانها في شمائل الحسن، واستحقاقها لجمال أريس، فدست كل منهن إليه من يرشوه ويستميله إليها، ووعدته هيرا السلطان، وأتينا النصر في الحروب، وفينوس أجمل من في الأرض من النساء. فقضى الغلام لفينوس، وأخذ المرأة التي اختارتها له - وهي هيلين ملكة إسبرطة - إلى طروادة فكانت تلك فاتحة الحروب المنسوبة إلى هذه المدينة في أساطير اليونان.
هذه قصة تفسح منادح الخيال، وتبعث دواعي العطف، وتشتمل على معان شتى من الأريحية والجمال، والموقف الذي اتخذه روبنس لصورته هو موقف الربات الثلاث يعرضن جمالهن على الغلام ويستغوينه بالتثني والإيماء للقضاء لهن بالجائزة المشتهاة، وهو موقف شائق يفيض بشاعرية التصوير وخفة الحركة، فكان عسيا أن يظهر فيه بعض الخيال، وبعض العاطفة، وبعض نفحات الآلهة العلويات! ولكن روبنس لم يظهر لنا شيئا من ذلك ولم يعرض لنا في هذا الموقف الشعري إلا نساء متشابهات في السمنة والقصر وتقارب الأعضاء، نساء بيوت شباعى من الغذاء لا هندام لأجسامهن ولا رشاقة! ولولا صحة الفطرة التي أسبغها عليهن المصور لحسبت بهن مسا من الورم! على أن من آيات ذلك الرجل القدير أنه استطاع أن يخلو هذا الخلو المعيب من الشاعرية، وأن يجيء مع هذا بصور قوية تبدهك بشعور الثقة، وتمكن الأستاذية، وقلة التردد، ويغطي ما فيها من الصدق والإحكام على ما فيها من الغلظة، وعيوب الشكل الدميم.
ولم يكن روبنس على ذوق حسن في اختيار الأساطير لصوره، بل كان كثيرا ما يختار لها موضوعات تنضج بالهمجية، والغلظة والحيوانية السمكية، حتى بلغ من ظهور هذا العيب في آثاره أن سلمه المعجبون به، وزعموا أنه كان يتعمده تبغيضا لتلك السمات المعيبة! وهو عذر بين التمحل لا يستر الحقيقة ولا يمنع تلك الحقيقة أن تدلي إلينا بعبرتها المعلومة: وهي أن ذوق الجمال شيء وذوق المجالس واللباقات السياسية شيء سواه، وقل أن يتشابها، بل قد ينزل أحدهما من الآخر منزل النقيض من النقيض.
أما صور روبنس الدينية، ففيها تنوع الملامح، وإتقان التلوين، وتمكن الأستاذية، ولكنها مقفرة أو تكاد تقفر من القداسة الخاشعة والإيمان الوطيد، ولعله كان يؤثر الأساطير اليونانية على الأقاصيص الدينية، وهو لا يؤمن بهذه ولا بتلك! ولكن من العذر له ومن اللوم عليه في آن واحد أن نتنبه إلى أمر في حياة هذا المصور القدير جدير بالانتباه حين نأخذ من تصفح الصور المنسوبة إليه، فقد كان لكثرة الإقبال عليه وضيق وقته، يقبل أن يضع توقيعه على صور كثيرة ليس له فيها غير الرسم والتخطيط، والبقية كلها من عمل تلامذته ومريديه، وكان طلاب تلك الصور يقنعون باسم روبنس، ولا يسوءهم أن يحطوا من الثمن الباهظ معظمه أو كثيرا منه بذلك الاقتصاد الغريب.
النكتة1
على ذكر كتاب «في المرآة»
كان التصوير الهزلي معروفا عند الأقدمين، ولكنه لم ينتشر ولم يتأصل، ولم يستكمل حظه من الجودة والألفة إلا في القرنين الأخيرين، وقد يعزى انتشاره إلى أسباب كثيرة أهمها الطباعة والصحافة والنظم الدستورية، بما تستتبعه من الحملة على الخصوم والرغبة في تعريضهم للبغض تارة وللسخرية تارة أخرى، وإلى معرفة بالنفس الإنسانية لم تكن مأنوسة في الأمم القديمة، فأصبح من السهل السائغ على الإنسان أن يرى في الملأ مضحكا، أو أن تبدو جوانب النقص فيه للخاصة والكافة؛ لأننا نعلم الآن أن الكمال في الصفات غرض لا تتعلق به المطامع وأنه ما من أحد إلا وفيه جانبه المضحك وجانبه الضعيف، فلا ضير علينا أن تظهر هذه الجوانب للناس، وأن يتندر بها من يعرفنا ومن لا يعرفنا، ومعظم الفضل في هذا - إن حسبت هذا فضلا - للسياسة ونظام الشعبية الحديث، فقد قيل قديما: «من ألف فقد استهدف.» ولكننا أحرى أن نقول في هذا العصر: «من خاض غمار السياسة فقد استهدف.» فما في هذا الغمار رحمة ولا هوادة، ومن وطن نفسه على النزول فيه فلا يستغرب أن يكون غرضا للمطاعن تارة وعرضة للسخرية تارة أخرى، ولا يصدقن أنه ناج من التشهير والتقول، أو أن خصلة من خصال نفسه تبقى مجهولة مصونة غير مبالغ فيها قدحا ومدحا وتعظيما وتهجينا، ما دام له خصوم وأنصار، وما دام التحزب هو صناعة الحكم في هذا النظام الشعبي الحديث، ويعزى انتشار الرسوم الهزلية والرضا بها إلى سبب آخر لعله أقوى من هذا السبب وأدعى إلى شيوعها وقبولها، وهو تحول العقائد القديمة وزوال المثل العليا، ورجوع الأمر إلى التجربة والمشاهدة بعد أن كان مرجعه للخيال والتصديق بالمغيبات، فالضعف الإنساني اليوم حقيقة مقررة أو هو حقيقة محبوبة في بعض الأحيان، والتطلع إلى منزلة الكمال الذي لا تشوبه شائبة فكاهة يضحك منها الجاهل والعالم، وينكرها الأريب والغرير؛ لأنه ما من أحد إلا يرى بين عينيه مصارع العقول ومهاوي الشهوات ويسمع عيوب العظماء ورياء المتزمتين والزهاد، ويختبر صنوفا من الأنفس البشرية في حالتي العلو والإسفاف وخلتي الوقار والترسل، فلا فائدة من ادعاء الكمال؛ لأنه تصديقه اليوم أبعد المحال. ولا ضرر من كشف النفس عن خبيئة مضحكة أو نقيصة شائعة فهذا قضاء الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، وتلك سنة الحياة في هذه الدنيا الجديدة التي أبت أن تعرف القداسة في واقع أو في خيال.
وكان الأقدمون ولا ريب يعرفون هذا الضرب من قلة المبالاة ويسمونه الكلبية
Cynicism
ويطلقونه على من يحتقرون المظاهر والدعاوى و«ينهشون وينبحون» أصحابها بالقول البذيء والسخر المضطغن. ولكن التسمية نفسها تدل على الإنكار وضيق الأمد، ولا تشبه أن تكون قد ظهرت بين أناس يماثلون أبناء العصور المتأخرة في فلسفة الترخص وعادة التحلل المطبوع من قيود العقائد وفرائض الأديان، فإن بلغ الأقدمون إلى ذلك الحد فيغلب أن يكون ذلك في فترات متقطعة وأدوار غير مستفيضة، أو أن يكون بين خاصة الأصدقاء حيث لا كلفة ولا احتجاز من إرسال النفس على السجية، والاطلاع على دخائل الأسرار وغرائب العادات.
ولهذا الخلق الحديث خيره وشره، وذكاؤه وغباؤه، فمعرفة النفس الإنسانية حسنة، ولكن استحسان الضعف والقناعة به والتمادي فيه سمت غير جميل، وفضيحة الفضيلة المدعاة خير، ولكن عبادة الرذيلة شر لا نزاع فيه، وقبول السخرية سماحة، ولكن الإعجاب بما يوجب السخرية عجز وإسفاف.
وإن أجمل ما نحن كاسبوه من تسليط الضحك على الطبائع هو أن تنبهها إلى مواضع النقص تنبيه عطف ودعاية، وأن ننتظر منها الجهد في معالجتها بما يقع في الطاقة، ويرجى منه التحسن في ناحية أخرى من النفس، إن لم يكن ذلك ميسورا في الناحية المضحوك منها، فقلما طلب الكمال إنسان ورجع منه بغير نتيجة مرضية في الباب الذي طلبه أو في باب سواه. •••
ظهر التصوير الهزلي في مصر بالكلام قبل ظهوره فيها بالرسوم والخطوط، وساعدته النظم الشعبية الحديثة، كما ساعدته تجارب الحياة وسماحة الآراء، وكنا نعرف «القفش» قبل أن عرفنا «الكاريكاتور» ولا نزال نعتمد عليه في الصور التي نرسمها للأنصار والخصوم، فإنما هي صور مدارها على النكتة السانحة والنظرة العاجلة، وقل أن تدور على الدرس والمقابلة والنظرة المدمنة والعطف العميق.
ومن الصور الهزلية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة كتاب «في المرآة» لمحرر هذا الباب في زميلتنا السياسة الأسبوعية، وهو أديب فاضل يجيد «القفش» وينظر إلى النفوس على طريقته التي عرف بها نظرة دراسة يطيلها حينا ويقصرها حينا، فيتناول منها نقائضها البارزة ويزيدها بروزا بما يضيف إليها من المبالغة والتهويل، ويدخله عليها من التحريف والتبديل؟
ويرى أديب المرآة في «النكتة» أن مردها كما قال في مقدمة الكتاب «إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس، وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.»
ورأي الأديب صواب في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه: إن الخلل في القياس المنطقي مضحك، وإن التلفيق والتزييف داعية من دواعي السخرية. أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله: إن النكتة هي التي تشتمل على الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها، ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا؛ لأنها تفضح الخلل وتهتك الدعوى الملفقة، وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها، ولا تطرد حجتها؛ ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة ، وهي البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدل.
مثال ذلك: جاء جماعة من الأزهريين إلى عظيم معروف بالنكتة اللاذعة والحجة الصادعة، فطلبوا إليه أن يتوسط في إرسال بعثة منهم إلى أوربا أسوة بطلاب المدارس العليا، فضحك العظيم وأجابهم مداعبا: وإلى أين نرسلكم؟ إلى الفاتيكان؟
هذه نكتة من خيرة النكات المسكتة، وهي تضحكنا ولكن لا لأنها خلل في القياس المنطقي، بل لأنها تقيم الحجة على خلل ذلك القياس، وكأن ذلك العظيم يقول في سلسلة من القضايا المنطقية المسلمة:
إن طلاب البعثات يرسلون إلى أوربا لإتمام الدراسة في معاهدها.
وأنتم طلاب علوم دينية.
فأنتم تريدون إتمام دروسكم العالية في معاهد أوربا.
وليس في أوربا من معهد للعلوم الدينية غير الفاتيكان أو ما يشبه الفاتيكان.
فأنتم إذن تطلبون الذهاب إلى الفاتيكان للتخصص في علوم الإسلام.
وهذه هي النتيجة التي تطرد مع تلك المقدمات، وهي نتيجة عجيبة، ولكن العجب في تفكير من يطلبونها لا في النكتة التي أظهرتنا عليها.
ومثال آخر: دخل أبو العيناء على المهدي ينشده شعرا، وكان في المجلس خال المهدي - وفيه غفلة - فسأل أبا العيناء: ما صناعتك يا رجل؟ قال: أثقب اللؤلؤ!
هذه نكتة أخرى من طراز ما تقدمها، وهي أيضا حجة قائمة على الخطأ في القياس والغفلة في التفكير، فكأن أبا العيناء يقول:
أنا رجل أنشد شعرا في مدح الخليفة.
فأنا أترجى منه الجائزة التي يأخذها الشعراء.
والذين يكسبون المال بالشعر لا يعملون عملا، ولا يحترفون صناعة غير هذه الصناعة.
وأنا فضلا عن هذا ضرير.
فأنا أولى ألا تكون لي صناعة.
فإذا طالبتني بصناعة أو صدقت أنني صاحب صناعة، فلماذا لا تصدق على هذا القياس أنني أثقب اللؤلؤ؟
فأنت إذن في غفلة مضحكة، أو أنت إذن في حاجة إلى التقريع.
هذا هو شرح تلك الحجة الموجزة الوحية، وقد تدخل النكات المبالغة للتوضيح والتكبير، فالمبالغة هنا هي بمثابة المضاعفة في الرسم؛ ليراه من لا يقنع بالرسم الصغير، ومن ثم كانت كلمة «الكاريكاتور» في اللغات الأوربية مشتقة من الإطباق والتحميل، كأن المصور الهزلي لا يزال يضيف على الصفة التي يرسمها حتى يثقلها بالإضافة والزيادة، فالكلمة في ذاتها تصويرية؛ لأنها تصور لنا رجلا مكابرا بالقوة لا يزال يلقى عليه حمل بعد حمل، وتطبق عليه علاوة بعد علاوة حتى يرزح بما عليه ويقر بما لا مناص منه.
وقد يسأل سائل: ولماذا إذن تضحكنا النكتة السريعة، ولا يضحكنا القياس المفصل والقضية المبسوطة؟ فجواب هذا قد يوجد في تعليل «هربرت سبنسر» للضحك وهو خير تعليل وقفنا عليه في كتابات المعاصرين، ولا نقصد هنا إلا تعليل حركة الضحك الجسدية، لا تعليل أسباب الضحك، فإن السبب الذي يذكره برجسون مثلا رجيح صالح لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعني رأيه الذي يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل تصرف في الإنسان يشبه التصرف الآلي الخالي من التفكير، ونحن مع هذا نقول: إن التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدي إلى راتب صائب؛ لأن الضحك وإن كان اسمه واحدا، إلا أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد.
ونعود إلى رأي سبنسر بعد هذا الاستطراد فنقول: إن الضحك عنده ينشأ من تحول الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في «النفسيات» أن الإحساس إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات، فظهر عليها في حركة عنيفة أو رفيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرا وهي عضلات الوجه والشفتين، ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله، والدليل على ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيا كان الموحي به والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التي يفرج بها المكروب عن أعصابه المكظومة، كأنما يخفف عنها بنقل شيء من ضغط الإحساس عليها إلى العضلات؛ فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة السريعة تضحكنا؛ لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير مرتقبة، وتعجله عن انتظار النتيجة في طريقها الممهد المألوف.
ومن الأمثلة التي أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدي يظهر على المسرح فجأة بين حبيبين يتناجيان، فإحساس النظارة هنا يمشي في طريق الغزل، وينتظر أن يمشي فيه إلى نهايته المناسبة له، ويوجه الذهن إلى هذه الناحية، ولكنه لا يلبث أن يلمح الجدي على المسرح حتى يحتبس في موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى. فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث الحركة التي نسميها الضحك حين يختلج بها الفم والرئتان، وفي كل «نكتة» شيء من هذا التحول الذي مثل له سبنسر ينجم عن المفاجأة بما ليس في الحسبان، ويتلخص في إظهار نتيجة غير النتيجة التي تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشيء المضحوك منه.
فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلة، واضطراب النتيجة التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس؛ لأنها تروح عنها وتفيد الذهن؛ لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع، وشحذ الفهم، وتقويم له على المنطق السديد، ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه الدليل.
وكتاب الأوصاف المضحكة يعتمدون في نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها بعضا، وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر، وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة، مرجعه في الغالب إلى المزاج لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير عظائم الأشياء وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو يرضي الإنسان عن نقائص الناس، ويضحكه كما يرضي الوالد الشفيق عن جهل وليده الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهي عبقرية لا تقل في اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة وعبقرية الشعر والتلحين.
فلسفة الملابس (1)1
مزيج من الفلسفة والشعر والعلم والدين والكفر والسخافة والضجيج والسخرية والجد ومن كل شيء ومن لا شيء، هذا هو أصدق وصف موجز لكتاب كارليل الذي أسماه «سارتور رزارتوس» أو الخائط يرفو أو فلسفة الملابس، وهو الاسم الذي اختاره له في العربية مترجمه الأديب الفاضل طه السباعي.
والذين يعرفون كارليل وأسلوبه في الكتابة يعرفون أنه الكاتب الذي لا يحاسب بعنوانه، ولا يحصر في موضوعه، فكل باب من أبواب الكلام في النفس الإنسانية هو موضوع كارليل، وكل كلمة صالحة لأن تكون عنوانا لهذا الكتاب أو لذلك بغير عناء كبير في الاختيار أو التقسيم، وكتاب فلسفة الملابس هو المثل الأعلى - أو إن شئت فقل هو المثل الأدنى - لأسلوب كارليل وطريقته في التأليف والتصنيف، أو في التفريق والتمزيق، فأنت مستطيع أن تسميه فلسفة المباني، أو فلسفة المطاعم، أو فلسفة الحياة، أو فلسفة الموت، فلا يكون عنوانك أبعد من العنوان الذي اختاره المؤلف وترجمه الأديب المترجم، وهكذا تقول في كل كتاب لهذا المفكر العظيم من تفاوت في قوة المزج، ومقادير الممزوجات، فكأن كل مجموعة من مجموعاته بوتقة ينصهر فيه الذهب إلى جانب الحديد، إلى جانب القصدير، إلى جانب الخشب، والحصى والجواهر النفيسة والخسيسة، وكل مادة في التراب والماء والهواء، وإنما هي النار التي يرسلها ذلك الذهن العجيب على تلك الأوشاب والأخلاط، هي التي تريك عناصرها كلها جرما واحدا من اللهب والدخان، يخيل إليك أنه متألف العناصر متماسك الأجزاء، وما هو إلا أن تفتر النار قليلا - في الكاتب أو القارئ - حتى يعود كل مزيج إلى معدنه وشكله تعلوه سفعة، وترهقه قترة، وهذه هي الصياغة التي عرف بها ذلك الرجل الذي يحيرك في وصفه كما يحيرك في موضوعاته؛ فلك أن تقول فيه: إنه شاعر أو إنه كاهن، أو إنه ناقد، أو إنه فيلسوف، ولكنك لا تستقر له على صفة حتى تراه على غيرها قبل أن تختم الفصل، أو تقلب الصفحة، فهو لجنة من أصحاب الفكر والأدب في زي رجل واحد، وهو نسيج وحده في التفكير يؤخذ كما هو ولا يعنيك إلى أي طائفة من الطوائف تنميه.
ولا يخفى على كارليل شأنه في التوسع والاستطراد، والغموض أحيانا، والتعقيد أحيانا أخرى، فهو يصف هذا الكتاب الذي يزعم أنه عثر عليه في الألمانية فيقول:
طالعت الكتاب المرة بعد المرة فشرعت معانيه الغامضة تتوضح وتنبلج في غير موضع، وجعلت شخصية المؤلف تزداد في نظري غرابة وشذوذا والتباسا وتعقيدا، حتى إذا كاد القلق الذي يخامرني يستحيل سخطا مستقرا ويأسا مستمرا لم يرعني إلا ورود خطاب من الهر هفرات هشرك أعز أصدقاء الأستاذ أفاض فيه عما أحدثته فلسفة الملابس من الضجة في عالم الأدب الألماني، إلخ إلخ.
وليس هناك أديب ألماني ولا مؤلف ألماني، ولكنه هو كارليل المؤلف، والمترجم، والناقل، والصديق، والمخترع لقصة الأستاذ وكتابه من خياله الحافل الخصيب، ووصفه هذا للأستاذ إنما هو وصف لنفسه، يدلك على أنه يعلم ما في ذهنه من الغرابة والتعقيد، ولكنه يملك ملاحظته ولا يملك تغييره؛ لأنه طبيعة لا حيلة فيها للتطبع، واضطرار لا يجدي فيه الاختيار، وإنك لتقرأ في أثناء الكتاب سخرية ب «الأستاذ» وتبرما بأسلوبه في التعمق والإسهاب فإذا كارليل أمامك عائب ومعيب، وساخط ومسخوط منه! ولعله في كل ذلك ساخر من القارئ الذي يتشكى الصعوبة في الفهم، ولا يكلف نفسه مشقة النظر والتأمل، أو ساخر من الكتابة الحديثة التي تجري على الهوى، وتكتب لأوقات الفراغ، ولا تجري على شوق إلى المعرفة، أو تكتب ليعنى بدراستها العاملون والفارغون.
ولما ظهر الكتاب بالإنجليزية ذهب بعض الناقدين يسألون: أين توجد مدينة «فير فسننشت» التي يعيش فيها الأستاذ الألماني المزعوم، والتي طبع فيها كتابه الموهوم؟ مع أن الكلمة بالألمانية معناها «لا أرى أين» وفي ذلك إشارة إلى أن المدينة من مدن الخيال لا من مدن الحقيقة، وأن الأستاذ الألماني شيء لا وجود له في غير رأس كارليل وصفحات كتابه، وقال هذا الناقد متهكما: إنه لا يظن أن أبا مسيحيا يسول له قلبه أن يصب على ابنه هذا الاسم الكريه «تيوفلسدروخ» وهو الاسم الذي اختاره كارليل لأستاذه العجيب! وتناول ناقد آخر جملة من بعض الفصول، فقال: إنها تقرأ عكسا كما تقرأ طردا، وإن القارئ الذي يبدأ من الذنب إلى الرأس أقرب توفيقا لفهمها من القارئ الذي يبدأ من الرأس إلى الذنب، وأصاب كارليل من سخرية الناس مثل ما أصاب من سخرية نفسه، ولكنه لقي الآذان التي تصغي إليه، وأنزل كتابه في المكان الذي هو أهله، وتجاوز قراؤه عن فوضاه ليسعدوا بما يتخللها من الروح الحي والعبقرية الثاقبة والهمسات التي تسمعها من هنا وثم، فتنبئك عن حقيقة بعيدة الصدى محجوبة القرار. •••
إن كارليل أحد أولئك الكتاب القلائل الذين نتحاشى الكتابة عنهم؛ لأننا نعلم أن حقهم عندنا لا تفي به مقالة واحدة ولا عشر مقالات، وأن شرح آرائهم يرجع بنا إلى استئناف حياتنا الأدبية وتجاربنا الفكرية والنفسية من بدايتها إلى هذه الساعة، فقد قرأنا له معظم رسائله وكتبه وأوصينا الكثيرين بقراءتها، وعرفنا له في تثقيف الناشئة التي تقرأ الإنجليزية أثرا لا نعرفه لكاتب سواه؛ فالتعقيب على كاتب كهذا هو بمثابة عصر عشرين سنة من الحياة؛ لاستخراج رحيقها واستجماع خلاصتها، والموازنة بين عناصرها، وليس هذا بالمطلب الذي يسهل الإقدام عليه ويستخف بالتورط فيه، فليست كتابتنا عنه هنا إلا كتابة موقوتة في انتظار الفرصة الوافية والدراسة الجامعة، وكنا نود لو اختار المترجم الأديب رسالة أخرى لكارليل غير «فلسفة الملابس»؛ لأنها ليست بأحسن الأمثلة التي ترغب فيه وتنوه بقدره، فأما وقد وقع اختياره عليها فإننا نثني على عنايته بأسلوب ترجمتها ونحمد له قلة المآخذ الجوهرية في نقل ألفاظها ومعانيها، ثم نوصي القارئ بأن يحذف العنوان ويتجاوز عنه، ويقرأ الرسالة على أنها مجموعة متفرقة بغير عنوان لا على أنها رسالة في فلسفة الملابس أو في أي فلسفة أخرى، فإذا هو صنع ذلك لم يفته أن يعثر في كل فصل على نبذة حكيمة، أو خطرة لامعة، أو لمحة شعرية، أو نكتة جدية، فيأتي عليه وهو غير نادم على تعبه فيه ولا مستزهد لمحصور منه، وها نحن نقدم له المثال ونقلب الصحائف بغير ترتيب ولا تعمد فننقل له ما يصادفنا من هذه الطرف التي يرسلها كارليل على صفحاته بغير حساب، فهذه صفحة يقول فيها: «من بواعث الحزن أن أحب الناس إلى قلوبنا وأعظمهم شأنا في عيوننا إذا عاد إلى الحياة بعد مدة وجيزة من وفاته، ألفى محله مشغولا ولم يجد لنفسه في الدنيا مكانا، فهذا نابليون وبيرون على ما كان لهما في النفوس من المكانة السامية قد أصبحا في بضع سنين من الطراز القديم، وصارا عن أهل أوربا غريبين أجنبيين» وهذه صفحة أخرى يقول فيها: «إن العقيدة مهما صحت وقويت هي شيء عديم القيمة إن لم تصبح جزءا من السلوك والخلق، بل هي في الواقع لا وجود لها قبل ذلك؛ لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات، حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور تدور عليه. عندئذ تصير إلى نظام معين، ولقد صدق من قال: «لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل» لذلك أنصح لمن يقاسي التخبط في الظلام البهيم أو يعاني التعيث في الضياء الكليل، ولا يزال يتضرع إلى ربه ويرجو من صميم قلبه أن يسفر الفجر الملتبس عن صبح مبين أن يضع في سويداء فؤاده هذه الحكمة الغالية: ابدأ قبل كل شيء بالواجب الذي بين يديك، بالعمل الذي تعرف أنه واجب، فإنك إن فعلت اتضح لك الواجب التالي» وهذه صفحة ثالثة يقول فيها: «خلاصة القول: إنك إذا أردت الآباد والآزال فابحث عنها في ملكات الإنسان العميقة المطلقة - في القلب والوهم، وإذا أردت الأيام والأعوام فابحث عنها في ملكاته السطحية المحدودة - في العقل والفهم. لهذا كان من حق الملهمين من الشعراء والفنانين أن ندعوهم سلاطين هذا العالم وأمراءه؛ لأنهم يصورون للناس رموزا جديدة ويقتبسون لهم من السماء نورا يهتدون بهديه» وهكذا وهكذا لا تفتح الكتاب على صفحة إلا وقعت على شذرة، ولا تنتهي من فصل إلا وقد تنبه فيك شعور أو عرض لك باب التفكير.
وفلسفة الملابس أين هي في شذرات كهذه تلتقطها من هنا وهناك، وتلخصها كلها في قوله طورا: «إن المجتمع بني على الملابس ...» وقوله تارة أخرى: «إن المجتمع ليسبح في فضاء اللانهاية على الملابس، كأنه سابح على بساط سليمان، ولولا هذا البساط لسقط في أعماق الهاوية وعالم الفناء» أو في قوله: «تأمل أي معان جليلة تنطوي عليها ألوان الملابس، فمن الأسود القاتم إلى الأحمر الوهاج، أي خصائص روحانية وصفات نفسانية يكشفها لك اختيار الألوان، فإذا كان التفصيل ينبئك عن طبيعة الذهن والقريحة، فإن اللون ليخبرك عن طبيعة القلب والمزاج ...» وإنه ليجد حينا ويمزح حينا ولكنه لا ينتظم في حين من الأحيان، ولا يمشى بك خطوتين على طريق إلا عدل بك إلى طريق غيره على عجل، كأنه سائح واسع الخبرة والسياحة، ولكنه سريع الملل غريب الأطوار.
وللملابس ولا شك فلسفة لم يبسطها كارليل في هذا الكتاب، فهل نعود إليها في مقال تال لتفصيلها وضم حواشيها؛ يجوز! ولكننا لا نرى بأسا من الإلمام بها في هذا المقال الذي يتقاضانا عنوانه شيئا من تلك الفلسفة وإلماعا إلى هذا الموضوع! وبحسبنا منه الآن ما يبرر العنوان ويحتقب بعض الوشائع والألفاق فنقول، كما يقول الأكثرون: إن غرض الملابس الأول هو الزينة لا المنفعة وإن الملابس خلقت لإظهار جمال الجسم لا لستره، ولإخفاء القبيح منه لا لإخفاء الجميل، ثم نقول إن الملابس فيما يخال الأكثرون تعين على العصمة والعفاف، ولكن كتابا قليلين يعدونها مجلبة لبعض الفساد ومعوانا على بعض الغواية، فهي التي عودتنا أن نعتز بالجمال المموه، ونعرض عن الجمال الصحيح، وهي التي جعلت للجسم نجاسة تحجب وتشتهى وغطت على ما فيه من معاني الفن ومحاسن الهندام، ولو تعرى الناس لبحثت في كل ألف امرأة ينظر إليها الناظرون الآن لصبغة وجهها وتنسيق حليتها، فلا تجد امرأة واحدة يتم لها هندام الجسد وتناسق الأعضاء، وتستحق منك نظرة الفنان البريء إلى التمثال الجميل، ثم لو تعروا لبقيت نماذج الأجسام المليحة، وزالت تلك النماذج الشوهاء التي تتوارى من الفناء في ثنايا الثياب، وتحتمي منه بجاه الأصباغ والأزياء، فالعري خير من لباس يستر ليغري، ويداري قبح القبيح ولا يظهر جمال الجميل، والثوب على ما نراه الآن خدعة شائنة لا هو بالوقاية الصالحة ولا هو بالزينة التي تعف عن الإغواء، وقد كان الناس ينظرون الأجسام فلا يلتفتون منها إلى جوانب الشهوة، ولا يغرمون منها إلا بالوسيم القسيم، فلما تدثروا باللباس اشتهوا ما يشتهى وأضراهم الحجاب بما كانوا عنه معرضين.
كذلك يقول القليل من الناس، وإن في مقالهم لنصيبا من الحق غير قليل.
ماكيافيلي1
نقولا ماكيافلي السياسي الإيطالي المشهور وصاحب كتاب «الأمير» الذي رمى فيه إلى فصل السياسة عن الفضائل. - ما رأيك؟ إن كنت قد سمعت!
كان السيد نيقولا يسأل هذا السؤال بلهفة، فأجابه ليوناردو:
2
إنني لم أسمع شيئا، وإنني لسعيد بأن أراك. قل لي، أرجوك.
فأجابه ماكيافيلي: إلى الطريق الآخر، ثم مضى به في زقاق بعد زقاق يعلوها الثلج إلى حي مهجور في جيرة الشاطئ، ودخل به إلى كوخ حقير تأوي إليه أرملة رجل كان يصنع السفن، وهو المكان الوحيد الذي وجده خاليا لسكنه في المدينة، فأوقد شمعة، وأخرج قنينة خمر من جيبه فضرب عنقها في الحائط، وجلس قبالة ليوناردو ونظر إليه وعيناه تسطعان، ثم قال في تؤدة ورزانة:
إذن لم تسمع أن أمرا خطيرا نادرا قد حدث! إن قيصر قد ثأر لنفسه من خصومه وقبض على المتآمرين، إن أولفرنو وأرسيني ينتظران الآن حكم الموت، وتراجع في كرسيه ينظر إلى ليوناردو ويغتبط بدهشة، ثم تكلف السكينة وقلة التأثر، وأخذ يصف الفخ الذي نصبه قيصر لخصومه في «سنيجاجليا» ويقص على زميله كيف استدرجهم قيصر إلى لقائه، ثم قابلهم وعانقهم، وناداهم باسم الأخوة والمحبة، ثم جاء بهم إلى القصر، فما هو إلا أن دخلوه حتى تكنفهم الجند من كل صوب، وشدوا وثاقهم، وأودعوهم في زاوية منه، ريثما يقضي عليهم في تلك الليلة.
وانطلق ماكيافيلي يقول: الحق يا سيد ليوناردو لقد وددت لو أنك رأيت كيف كان يعانقهم ويقبلهم. إن لمحة واحدة مريبة أو إيماءة واحدة متهمة كانت تكشف عن نيته وتفضح كمينه ، ولكنك ما كنت تسمع من صوته ولا تلمح من وجهه إلا الإخلاص الصادق الذي لا تشوبه شائبة، حتى لقد لبثت إلى اللحظة الأخيرة لا يساورني شك ولا يخطر لي أنه إنما كان يتصنع ويتراءى، وأحسب هذه الحيلة أجمل الحيل التي عرفت منذ كانت السياسة إلى اليوم.
فتبسم ليوناردو وقال: لا ريب أن سموه قد أبدى عن تقحم ودهاء، ولكنني لا أدري ماذا في هذه الخيانة مما يستطير إعجابك؟ - خيانة! كلا يا سيدي، عندما تكون المسألة مسألة إنقاذ لوطنك لا موضع ثمة لخيانة أو أمانة، ولا لخير أو شر، ولا لرحمة أو قسوة، فكل الوسائل سواء إذا بلغت إلى الغاية. - وهل هذه مسألة إنقاذ وطن؟ إني إخال قيصر لم يعن إلا بمصلحته! - أهكذا أنت أيضا لا تفهم؟ إن قيصر هو عامل المستقبل في إيطاليا المتحدة، وما كان زمن قط بأليق من هذا الزمن لظهور البطل، وإذا كان لا بد لإسرائيل أن ترسف في الأسر لينبغ فيها موسى، أو كان لا بد للفرس أن يذعنوا لنير الميديين تعظيما لجلال قورش، أو كان لا بد للأثينيين أن يهلكوا في صراعهم تمجيدا لطسيوس، فاليوم لا بد لإيطاليا أن تحمل العار والذل وأن تعنو وتتمزق بغير رأس ولا زعيم ولا دليل، وأن تحرم وتوطأ بالأقدام وتصطلح عليها جميع الكوارث التي تبتلى بها الأمم لكي ينبغ فيها البطل الجديد الذي ينقذ وطنه، وكأي من رجل خيل إليه أنه هو البطل الموعود ثم مات والعمل العظيم باق لم يعمل، وها هي الآن لقى بين الموت والحياة في انتظار منقذها الذي يأسو جراحها، ويقضي على الفوضى في لومباردي، والنهب في توسكاني، والقتل والبغي في نابولي، وهي تتضرع إلى ربها ليل نهار عسى أن يبعث إليها المنقذ المنظور. - ... من يعش ير يا صديقي نقولا؟ ولكن دعني أسألك سؤالا، ما الذي ألقى في روعك اليوم أن قيصر هو المنقذ المختار من قبل الله؟ أتراها حادثة سينجاجليا هي التي أقامت لك الدليل على بطولته؟ - نعم؟
قالها ماكيافيلي وهو يستعيد سكينته ومضى يقول: «إن السطوة في عمله هذا قد دلت على أنه صاحب المزية النادرة التي تمزج بين المواهب العظيمة ونقائضها. أنا لا ألوم، أنا لا أمدح، وإنما أنا دارس يختبر، وإليك رأيي في هذه القضية. إن من طلب شيئا فإنما يناله بإحدى وسيلتين: بالوسيلة المشروعة أو وسيلة القوة، والأولى صفة الناس والثانية صفة الدواب، ومن شاء أن يحكم فلا مناص له من الاثنتين ولا محيص له من أن يعرف كيف يكون إنسانا تارة ودابة تارة أخرى، وذلك هو مغزى الأساطير القديمة وما ترويه لنا عن «أخيل» والأبطال الآخرين الذين رباهم شيرون ذلك الكائن الذي نصفه دابة ونصفه إله، أما سواد الناس فلا طاقة لهم بالحرية، وإنهم ليخشونها أشد من خشية الموت. إنهم إذا اجترحوا إثما سحقتهم وطأة الندم. ولكنه هو البطل، رجل القدرة، ذلك الذي يطبق الحرية ويحطم الشرائع بغير خشية ولا توبة، والذي يظل بريئا في الأذى، كما هو شأن الدواب أو شأن الأرباب. فاليوم قد رأيت في المرة الأولى من قيصر علامة على أنه هو المختار من قبل الله.»
ذلك هو رأي ماكيافيلي في قيصر بورجيا كما حكاه مرجكفسكي في رواية «الرائد» أما رأي قيصر في مكيافيلي سفير فلورنسة في بلاطه فهاكه كما جاء على لسان هذا الراوية الألمعي. قال: واغتنم ليوناردو الفرصة فطلب من الأمير إذنا بلقاء السيد نيقولا، فهز الأمير كتفيه وهو يبتسم في دعابة: إنه لغريب صاحبك نيقولا هذا؛ إنه يسأل الإذن بالمقابلة ثم لا يقول شيئا، ما بالهم يرسلون إلي مثل هذا الإنسان الغامض العجيب! ثم سأل ليوناردو رأيه فيه فقال ليوناردو: لقد وجدته يا صاحب السمو رجلا من أصدق ما رأيت في حياتي فراسة وأسدهم نظرا.
قال الأمير: لا ريب في ذكائه، ولا يخامرني الشك في قدرته على فهم الأمور، ولكنه مع هذا غير جدير بالاعتماد عليه، إلا أنني أوده ويزيدني مودة له حسن رأيك فيه، وإنه لسليم الطوية وإن كان ليخال نفسه أدهى بني الإنسان! وربما خاتلني أنا؛ لأنه يراني عدوا لجمهوريتكم! ولكني أغفر له خداعه لعلمي أنه يحب وطنه أشد من حبه لنفسه، إنني سأستقبله، أبلغه ذلك، وعلى ذكر الرجل أذكر كأنني سمعت أنه يجمع كتابا في فنون السياسة وحيل الحرب، أليس كذلك؟
ثم ضحك قيصر ضحكته اللطيفة الخفيضة، كأنما خطرت له فكاهة مسلية وقال:
هل أتاك نبأ الكتيبة المقدونية؟ لا! إذن فاسمع: جاء السيد نيقولا مرة إلى قائدي بارتولميو كابرانيكا وبعض زملائه من الضباط وطفق يشرح لهم من كتابه في الحرب كيف تصطف الجيوش على نظام تلك الكتيبة، وكان في شرحه فصيحا مبينا حتى اشتاقوا جميعا إلى رؤية الكتيبة في الميدان، فذهبنا إلى ساحة ملائمة للتجربة، وتركنا نيقولا يصدر الأوامر إلى الجنود، فماذا صنع؟ حسن، إنه لبث زهاء ثلاث ساعات يجاهد مع ألفين من الجنود يعرضهم للبرد وللمطر وللريح عسى أن تنتظم الكتيبة المقدونية والكتيبة لا تنتظم، وبعد لأي وعلاج طويل ضاق بارتولميو ذرعا وتقدم - وهو لم يقرأ كتابا حربيا قط - فجمع الصفوف على النظام المطلوب في لمح البصر، ومن هذا يتبين لك الفرق بين العمل والنظر، ولكن ألق بالك جيدا إن أشرت إلى هذه الحكاية. إن السيد نقولا لا يحب بعدها أن يذكر بشيء مقدوني على الإطلاق!
وهكذا بينما كان ماكيافيلي يقدس قيصر بورجيا، ويجعله رسولا من قبل الله، وبطلا مدخرا لإنقاذ الوطن، كان قيصر بورجيا يتفكه بدهاء ماكيافيلي وفنونه السياسية وتنظيماته العسكرية، ويتخذه لهوا وسخرية لفراغه، ويأبى أن يضيع الوقت في الإصغاء إليه، ولا تظنن هنا أنك تقرأ قصة من القصص التي يخلقها الخيال، ويبالغ فيها التمويه والتكميل، كلا! فإن الحقائق التاريخية كلها تصدق ما رواه الكاتب، وتحكي مثل ما حكاه من خلائق الرجلين العظيمين اللذين اقتسما السياسة بينهما في عصرهما، فباء أحدهما بالنظر والخيبة وباء صاحبه بالعمل والغنيمة، ولم يكن حظ ماكيافيلي عند حكومته بأسعد من حظه عند قيصر، أو عند القواد الذين ألف لهم كتابه وود لو يدربهم على تنظيم الصفوف وتعبئة الجيوش! فقد كان رجال حكومته يبخلون عليه بمرتبه ويؤخرونه عمن هم دونه في العلم والعبقرية ، وكان الرجل يحب وطنه، ولكنه يستصغر حكامه لما يراهم عليه من الجهل والضعة، والبعد عن مثال الحاكم المختار في رأيه، وكان طيب القلب، ولكنه يخجل من طيبته كأنما يخجل من جريمة؛ لأنه اعتقد أنه مهيأ في الدنيا لعمل جليل، وأن جلائل الأعمال لا تليق بها الطيبة والسلامة، وكان صادق الفراسة في الناس، ولكنه كان لا يعلم كيف يروضهم على ما يريد، وكيف يتوسل إليهم بوسائل الإقناع والقبول، فلم يبق له إلا أن يؤلف في السياسة بعد أن أعياه أن يعمل في السياسة! وإلا قنينة الخمر! وزيارة الحانات البعيدة في أطراف المدينة! وإلا مصاحبة إخوان السرور وأخدانه يفسر لهم ولهن على مائدة الشراب أبيات بترارك وألغاز الأدب، ويكشف لهم ولهن عما فيها من المضامين والتوريات، وهذا الداهية الغرير هو مؤلف كتاب الأمير الذي يتخذه بعض الناس إنجيلا للطغاة المستبدين، ويتخيلون صاحبه مثلا في الشر والغيلة، وإيثار المنفعة والتزلف إلى الأمراء، وما كان للرجل نصيب من تأليفه إلا سوء القالة، ولعنة الجاهلين بتلك الحقيقة المظلومة.
وأما كتاب الأمير، فهل تراه أفاد أحدا من الأمراء والحكام! لا نظنه أفاد أحدا من هؤلاء، وإنما فائدته للقارئين الذين يعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون من خلائق الطغاة ورياضة الشعوب، وسيكون الحكام أبدا كما كانوا في كل زمان بين «عمليين» لا حاجة بهم إلى الهداية في هذا المجال أو «نظريين» لا قدرة لهم على تطبيق النظريات، ولسنا نقول: إن السائس المفطور مبرأ من الخطأ غني عن الإرشاد، ولكنا نقول: إنه إذا أخطأ فخطؤه عملي قلما يفيد منه البحث والتفكير، وإذا صحح زلاته فتصحيحه لها عملي لا شأن له بالنظريات، وهو يخطئ ويصيب في دائرة العمل فلا تدخل الكتابة في نظام حياته إلا من باب الإيجاز والتنفيذ لا من باب التحليل والتعليل.
نسأل: هل أفاد كتاب «الأمير» ولا نسأل هل أضر؛ لأننا لا نحسب أميرا عدل عن الخير إلى الشر بتعليمه، وظالما كان ميله إلى الظلم من أثره، وقد قيل: إن عبد الحميد كان يقرؤه ويدمن مراجعته ، ولكنا نظن أن عبد الحميد كان هو هو ولو لم يخلق في الدنيا السيد نيقولا، ولم يكتب فيها حرف من كتابه، وما كان عدد الغرقى في البسفور أو القتلى في المكامن لينقص واحدا لو أن عبد الحميد لم يطلع في حياته على كتاب الأمير، ولم يسمع باسم ذلك الأديب الظالم المظلوم.
قيل: إن بسمارك ندم على سياسته القاسية التي جنى بها على الأمم القتل والأسر، وغامر فيها بهناءة الجموع والآحاد، وقد كتب في سنة 1856 يقول: لتكن مشيئة الله. كل شيء هنا في هذه الأرض إنما هو مسألة وقت وأوان، فالأمم والأخلاق، والحماقة والحكمة، والسلم والحرب، تذهب وتجيء كالأمواج والبحر باق حيث كان، ولا شيء على الأرض إلا الرياء والتدجيل وسواء ذهب عنا هذا الحجاب من اللحم والدم بإصابة من الحمى، أو بقذيفة من الرصاص، فإنه لذاهب في القريب العاجل أو بعد حين، ويومئذ يتشابه البروسي والنمسوي، فيعود من أصعب الصعب تمييز هذا من ذاك.
وبعد عشرين سنة كان بسمارك يصطلي في قصره بفارزين وأمامه تمثال النصر يفرق التيجان، فأطال السكوت وهو ينظر أمامه، ويلقي في النار بعيدان الحطب من حين إلى حين ثم أخذ فجأة يذكر جهوده السياسية، ويشكو من أنها تركته بغير عزاء ولم تمتعه بالرضا عن نفسه ولا بالصداقة من الآخرين، ولم يجلب بها السعادة لأحد قط ... «فلا هو سعد بها ولا سعد بها أهله، ولا سعد بها أي إنسان» قال بعض الحاضرين: ولكنك جلبت بها سعادة أمة عظيمة. قال بسمارك: «نعم! ولكن شقاوة كم من الأمم؟ فلولاي لما وقعت حروب ثلاث من أهول الحرب، ولولاي لما هلك ثمانون ألف إنسان، واشتمل الحزن الأليم على الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأيامى. لقد سويت حساب ذلك كله مع خالقي، ولكنني لم أنل سرورا قط، من جميع تلك الجهود.»
هذه فلسفة قطب من أقطاب السياسة العملية، الذين يريدهم ماكيافيلي لإنقاذ الشعوب، ولكن في أي ساعة؟ في ساعة الخلو والعزلة والإخلاد إلى الدعة والتأمل، ولو عاود الرجل مكانه وانغمس في لجة العمل مرة أخرى، وأسلم أذنيه وعينيه لضوضائه ولألائه لنسي هذه الفلسفة أو لما منعه ادكارها من تكرير تلك الحروب، وإلقاء الألوف من الناس في غمرة الأحزان والآلام، فإن كان لكلام بسمارك في عزلته دلالة فتلك الدلالة المحزنة التي لا مفر منها لباحث في شئون الناس، وتلك هي أن السعادة في الدنيا حرام على القادرين والعاجزين، وألا رضا عن النفس لناجح ولا لمخفق في هذه الحياة.
مضت أربعمائة سنة على وفاة ماكيافيلي فاحتفى بذكراه الإيطاليون وتحدث الناس بفلسفة ذلك الماكر السليم، ولقد طوت هذه المئات الأربع كثيرا من أضراب قيصر بورجيا وبسمارك في القسوة والخديعة، وأخذ الشعوب بالحيلة والنفاق، أو بالقمع والإرهاب، ولكننا على يقين أن ليس الأستاذ نيقولا مسئولا عن فاجعة من فواجعهم المشئومة، وأن كتاب «الأمير» لم تسفك فيه قطرة ولا مزق من جرائه شلو غير قطرات المداد وأشلاء الأوراق! وقد احتفل العالم بذكرى «رجل طيب» حين احتفل بذكرى نبي القسوة والدهاء، ومعلم القادة والسواس فنون البطش والطغيان - فهل ترانا نحسن إلى رفات الرجل في قبره أم نسيء إليه بهذا الثناء الذي كان يخجل منه في حياته، لا ندري ولكننا ندري أنه حقيق بذلك الثناء، وأنه كان «رجلا طيبا» على كل حال.
فلسفة الملابس (2)1
ما من إنسان إلا يضع شيئا من نفسه في ملابسه، فإن كان ممن يعنون بها ففي تلك العناية دليل على ذوقه، وخلقه، وتفكيره، وفي بزته الظاهرة عنوان لما يخفي عنك من نفسه وقلبه، وإن كان ممن يهملونها، فأنت تعرف من قلة عنايته شيئا يطلعك على أسبابها الدخيلة، ويكشف لك عن شواغل فكره، وهموم فؤاده، فكأنما تنطق ملابسه في صمت وبداهة بما ليس تنطق به الملابس التي يطول فيها التحضير والانتقاء، ويكثر فيها التدبير والاحتفاء، وربما كان سر انصرافه عن تجميل نفسه أنه مشغول بالجمال في كل ما عداه من الأناسي والأشياء، وربما كان جميل النفس، ولكنه غير بصير بصناعة التزيين والتحسين، إذ البون بعيد بين أن يكون المرء جميلا في الخلق والخليقة، وأن يكون هو مخترعا للجمال.
ويقول خائط مشهور في لندن: «إن أكثر من يتعبني من الناس في تفصيل ملابسهم أولئك الذين لا يبدو عليهم أنهم يحفلون بما يلبسون» وهذه ملاحظة يعرفها كل خائط، ويؤخذ منها أن الذين يهملون ملابسهم أقل عددا ممن تدل عليه الظواهر، وأنهم قد يضطرون إلى ذلك الإهمال مكرهين، فلا تسعفهم الملابس في الترجمة عن رغباتهم الخفية وأذواقهم المنوعة على أن هذه الحقيقة لا تلبث أن تظهر لك من شارة صغيرة، أو هيئة منزوية، فينقلب العي في ترجمة الملابس إفصاحا، والخفاء ظهورا وإيضاحا، وتسمع من جلباب هذا الذي «لا يبدو عليه أنه يحفل بما يلبس» كلاما يقوله ككل كلام تقوله الملابس الثرثارة والأزياء البليغة، فأنت إذا استعرضت مائة بذلة «خالية» في مخزن المخلوعات فقد استعرضت مائة نفس، وعرفت من تلك الأشباح الميتة أرواحها التي كانت تعمرها بكل ما فيها من فضل وغرور، ورصانة وطيش، وقبح وجمال، وجد وهزل، ولاح لك كأنك في حضرة حاشدة حية وكأن تلك الأرواح التي فارقت هذه الأشباح اللبيسة قد تركت عليها نضحا من حياتها، وأثارة من سرائرها، فمنها ما ينعت بالعقل والكياسة، وما ينعت بالخرق والبلاهة، ومنها ما يحيي تحية الإكبار وما يعرض عنه إعراض الزراية، ومنها ما يدخل الجنة التي وعد المتقون، وما يذهب إلى النار التي يصلاها الكافرون! فهي أشباح وأطياف وأجسام وأفكار، وليست بالخيوط البالية والنسيج الرديد!
إنك إذا حادثت إنسانا في الفن الجميل فإنما تحادثه في الأشكال والألوان، وإذا حادثته في شئون الاجتماع، فإنما تحادثه في النظام والشريعة، وإذا حادثته في الأدب والتاريخ فإنما تحادثه في الشعور والخبرة، وإذا حادثته في الدين والفلسفة فإنما تحادثه في آماله البعيدة وأشواق النفوس الرفيعة، ولكنك إذا درست كساء يعنى ذلك الإنسان باختياره وتنسيقه، فقد درست في حين واحد جماع رأيه في الأشكال والألوان، والنظام والشريعة، والشعور والخبرة، والآمال والأشواق، وكنت كأنما قد عاشرته دهرا تسمع له في الفنون والاجتماع، والآداب والتواريخ، والدين والفلسفة، وكأنما قد لخصت معارفه التي يشعر بها، والتي لا يشعر بها في صفحة من القطن، أو من الصوف، أو من الحرير، بل كأنما قد عرفت منه ما يريد هو أن يعرفك إياه وما لا يريد، فالذي قال: إن عشير المرء دليله قد أصاب وأجاد، ولكن أصوب منه وأجود من يرجع إلى العشير الذي يلابس ويلامس، ويطابق الأعضاء والأفكار، ويأخذ من أذواق صاحبه وأهوائه ما ليس يأخذه العشير من العشير، ولئن كان جمادا لا حياة له، ليكونن ذلك أبلغ في الدلالة على صاحبه؛ لأنه يستعير إذن من حياته، ولا يستقل بوصف عنه، خلافا للصديق الحي الذي يشابه صديقه ما يشابه، ثم يحور إلى طبع لا سلطان عليه للأصدقاء.
وإذا جلست على مجاز الناس لم يكن شيء - بعد تصفح الوجوه - أمتع لك وأدل عليهم من تنوع الثياب والبزات، وتقيد المتقيدين بالأزياء، وتصرف المتصرفين في تلك الأزياء، فمن هذا الذي يلقاك بلون في كل ملبوس إلى ذاك الذي يتحرى الوحدة في جميع الألوان درجات كثيرة بعضها إلى العلو، وبعضها إلى النزول، ولكنهما طرفان متقاربان في هذا الجيش المديد الذي نستعرضه على قارعة الطريق، فكلاهما يطلب الجمال وكلاهما بين الكلفة والادعاء، ويجتمع في اثنيهما صنفا الغرور اللذان يتعاوران الناس ويظهر من أثرهما ما يظهر على النفوس والأذهان، والأقوال والأفعال: صنف الغرور الواثق بنفسه الجاهل بكل قدره، وصنف الغرور الذي يتوارى عن النظرة الأولى، ولا يريد أن يحشره الناس في زمرة المغرورين، فأما الأول فمتظاهر يحب أن يظهر بكل ما يروقه، ويجهل أن كثرة الألوان ليست من كثرة الجمال، وأما الثاني فمتظاهر يحب أن يظهر على غير هذه الصفة، ويجهل أن الذوق إنما يعرف بالتآلف بين الألوان المتعددة، ولا يعرف بالوحدة في اللون، والتقارب في الصبغة، فكل عين تعرف أن هذا اللون يشبه ذاك، ولكن ليست كل عين بقادرة على أن تجمع بين الألوان الكثيرة في تناسب مقبول، وبين هذين الطرفين طرف الغرور البسيط، والغرور المرطب تتمشى أخلاط شتى من الصنفين، وتتمثل للناظر ضروب شتى من الادعاء والتكلف، وحب الاستقلال وحب الطاعة والإرضاء.
وقلما اختلفت الأمم قديما في شيء اختلافها في الثياب والأزياء، فإنه ما من شيء تختلف به أمة إلا وله أثره في لباس أبنائها، وأسلوب تفصيلهم لذلك اللباس، فتباين الزي ينطوي فيه تباين الإقليم والصناعة، والمعيشة والعادة، والحكم والدين والتفكير، وما من خطوة يخطوها الثوب من لدن يكون زرعا في الأرض، أو شعرا على جلد حيوان، إلى أن يصبح لباسا للعظيم والحقير والكبير والصغير، إلا ويتراءى فيها علم الأمة وقدرتها وذوقها وخبرتها، ودستور حكمها ونظام المعيشة فيها، وقد كتب أناس من الأوربيين في فلسفة اللباس، وكتب آخرون في فلسفة العمائر وجرت بينهما العصبية لما يكتبون فيه، كما تجري العصبية بين من يدرسون النحل ومن يدرسون النمل من علماء الحشرات! ففريق اللباسيين يقول: إن الثياب أبين عن العقول والآداب، وفريق البنائين يقول: بل العمائر ألصق بالنفوس، وأنم عن حضارات الأمم، وطبائع الأفراد، والسيد كرستيان باردي صاحب كتاب مستقبل العمارة يقول: «إن نطاق الباحث في فلسفة الثياب علي سعته لا يذكر إلى جانب النطاق الذي ينفرج أمام الباحث في تاريخ العمائر، وتنوع الأساليب البنائية، إذ إن أساس الهيئة الثيابية إنما ينجم عن هيئة الجسم الإنساني التي لا تتغير، في حين أن أساس الهيئة البنائية يقوم على النظام الاجتماعي، وما يعتور ذلك النظام من تبديل متجدد، واختلاف ليس له من نهاية» والسيد جيرالد هيرد صاحب كتاب «تحليل الثياب» يرينا من اختلاف «نظريات» اللبس بين الأمم ما تقل في جانبه نظريات البناء القديم والحديث، ويصل بين التاريخ وفلسفة «ما وراء الطبيعة»، ولسنا نحن من هذه العصبية ولا من تلك ولا ثأر لنا عند الحجارة ولا عند الخيوط، ولكننا نقول - ونتوخى الإنصاف فيما نقول - إن تغير الثياب أكثر وأعجب من تغير البيوت، وإن ذخيرة الإنسانية من أزياء الحلي والحلل تربى على ذخيرتها من أساليب العمارة في كل جيل، وإن ما يضعه الناس من أنفسهم في كسائهم أظهر وأجلى مما يضعونه في مساكنهم وأثاثهم، ولو كان الجسم الإنساني يتغير كل يوم لما كانت ذخيرته من السرابيل أكثر عددا ولا أعجب تنوعا من هذه الذخيرة التي افتن في تفصيلها وتجميلها هذا الجسم المتشابه المحدود.
أما الأخلاق فعلاقتها بالكساء علاقة لزام، لا يخفيها تبدل الشارة، ولا تجدد الزي والجديلة، فلباس الأمم المجبولة على العزم والشجاعة والحرية غير لباس الأمم المجبولة على الكسل والجبن والهوان، والجزء الذي يوكل إلى اختيار الفرد من ملابسه كفيل بالإبانة عن شخصه ومزاجه، وخليقة نفسه، ودخيلة طبعه، وقد تشف الثياب عن الجسم أو لا تشف، وقد تثقل عليه أوتخف، ولكنها على جميع حالاتها تشف عن النفس في الجماعة أو الفرد أيما شفوف، وتمثلها أدق تمثل، ولسنا نحصر الأمر في العفاف والصيانة، ولا فيما يظنه الناس من نفع الثياب في زجر الشهوات وستر المغريات، فإن الأخلاق كلها على صلة مكينة بما يلبسه الرجال والنساء للزينة أو للوقاية، وعلى مثال واحد في الإبانة، وإن اختلفت لغاتها ولهجاتها في التعبير، وقد نرى فضلا عن هذا أن الثياب زادت عوامل الإغراء ولم تنقصها وأضعفت الصيانة ولم تحصنها؛ لأن المرء يزيد بها جماله ويستر قبحه، ويفسح للخيال مجال التصور والفتنة، وهما أغرى من الواقع والحقيقة، فإذا قلنا: إن للأخلاق علاقة بالثياب فليس الذي نريده أنها تصون العفاف، وتقمع الشهوات، ولكنا نريد الأخلاق بمعناها الواسع الكبير.
في قصة أناتول فرانس عن «جزيرة البنجوين» يروي لنا الكاتب حوارا بين القديس الذي استجيبت دعوته في الطير، فتمثلت بشرا سويا، ودانت بالمسيحية والفداء وبين كاهن عليم بالأمور خبير بغواية الشيطان، فيأبى القديس أن يظل الطير الآدميون عراة الأجسام ويقول الكاهن: «ألا ترى يا أبتاه أن الخير في عري هذه الطير، وما لنا ندثرهم؟ إنهم إذا لبسوا الثياب وقبلوا شريعة الأخلاق داخلتهم الكبرياء، وخامرهم الرياء، وغلبت عليهم القسوة والجفاء.» ويصر القديس على رأيه فيقول له الكاهن وقد أشار إلى واحدة من إناث الطير: «هذه واحدة مقبلة علينا ليست بأوسم ولا بأقبح من سائرهم، وإنها لفتية ولا أحد يرمقها بنظرة، فهي تتلكأ على الشاطئ وتحك ظهرها بأظافرها ولا تزال تمشي وإصبعها في أنفها، ولا يسعك يا أبتاه وأنت تتلمحها إلا أن ترى ضيق كتفيها، ودمامة ثدييها، وسمنة أعضائها، وقصر ساقيها، وإلا أن ترى ركبتيها المحمارتين تصطكان في كل خطوة تخطوها، ومفاصل جسمها وكأنما ركب في كل منها رأس قرد صغير، وانظر إلى قدميها العريضتين تتشعب فيهما العروق وتتشبث أصابعهما الصغيرة العوجاء بالصخر، وتعلق به الإبهامان كأنهما رأسا ثعبان، ها هي تمشي فتختلج كل عضلاتها في الحركة، وننظر نحن إلى تلك العضلات فلا يخطر لنا إلا أنها آلة صنعت للمشي، وليست بالآلة التي صنعت للحب والغرام، وإن كانت لهي آلة لهذا وذاك وفي جسمها أدوات شتى غير ما ذكرناه. فتعال يا سيدي الرسول الجليل ننظر ماذا أنا جاعل منها الساعة.»
ويقبض عليها الكاهن ويلقي بها وهي ترجف من الذعر على قدمي القديس الجليل، وتتضرع إليه ألا يؤذيها ولا يمسها بسوء، ثم يأخذ في إلباسها فيعجبها ما تراه من هذه الزينة المفرغة على جسدها، وتنطلق وقد لفت ذيل إزارها على كفلها، ووزنت خطوتها وهزت ردفيها، فما هو إلا أن يراها واحد من ذكران الطير حتى يتبعها، ثم يقفوه ثان، وثالث، ويلحق بهم كل من كانوا على الشاطئ يضطجعون، ويشهد القديس والكاهن هذه الفتنة المخلوقة من الثياب فيقول الكاهن: «الحق أن في الحياة لسرا يجذب الأنظار إلى النساء، وأن وسواس نفسي لأعظم من أن تجدي فيه المداراة» ثم يهجم على الطائرة الآدمية، ويدفع عنها من حولها، ويعدو بها إلى كهف قريب، فيحوقل القديس ويعلم أنه الشيطان تلبس بجثمان الكاهن؛ ليخلع فتنة اللباس عن الإناث. •••
هذه قصة فيلسوف أبيقوري يعيش في باريس، ويرى ما تصنع الثياب بالنساء والرجال ويؤمن بعقيدة السرور، ولو شاء كل ملاحظ لرأى ما رآه أناتول فرانس، وعلم من القديس أن للشيطان يدا طائلة في صنع الثياب وإبداع الأزياء.
أبيات من الشعر1
هل كان البارودي شاعرا؟ بلا ريب! كان شاعرا له طلاوة وفيه حياة، ولبعض أشعاره نغمة وإيقاع لا نجدهما إلا في القليل من شعر القدماء والمعاصرين، وإنما شكك بعض الناس في شاعريته حذلقة التمييز التي أولع بها من يدعون التفريق بين الكلام ووضع القائلين كل قائل في مقام، فإذا بدت على كلام الشاعر طلاوة الصناعة، قالوا هذا صانع وليس بمطبوع وعز عليهم أن يجعلوه شاعرا حسن الصناعة أو شاعرا مطبوعا على الصناعة الحسنة والرصف المنغوم، وإذا بدت عليه الحكمة قالوا هذه فلسفة وليست بشعر، كأنما الشعر والفلسفة لا يلتقيان أو كأن تصوير بعض الإحساس لا يحتاج إلى فلسفة، وتفهيم بعض الفلسفة لا يحتاج إلى إحساس، وإذا بدت عليه الركة في اللفظ مالوا إلى التسليم له في المعنى ليقولوا هو شاعر التدبيج والتحبير، وليس بشاعر التوليد والتفكير. ليعطوا كلامهم صبغة التمييز، وينزلوا أنفسهم منزلة الحكم والانتقاد، وكثيرا ما قابلوا بين شاعرين فحكموا لأخسهما شعرا، وأضعفها ملكة بالسبق والترجيح؛ لأن المرجوح في نظرهم صاحب فكر وصناعة، فيقولون عنه: إنه صانع ومفكر وليس بشاعر، ولأن الراجح في نظرهم لا فكر له ولا صناعة فهو إذن شاعر؛ لأنه ليس بمفكر ولا بصناع! وهكذا كانت تجني الحذلقة على الأدباء والكتاب والشعراء، وكادت تجني على البارودي فتخرجه من عداد الشعراء، وإنه مع هذا لشاعر له من حسنات التذوق والتصوير ، وإلهام الحس ولطف الشعور، وعذوبة الروح ما ليس للكثيرين، وليس المقام هنا مقام إفاضة في نقد البارودي فنورد لقرائنا محاسن نظمه، ودلائل وحيه، وإنما ألممنا بشاعريته في الطريق لنتكلم في أبيات له تذاكرناها منذ أيام أثناء حديث عن هذا الشاعر الفارس السياسي الأديب. •••
لقيني أديب فاضل، وفي يديه كتاب وسألني: أي هذين البيتين أبلغ معنى وأجمل صياغة قول البارودي:
أقاموا زمانا ثم بدد شملهم
ملول من الأيام شيمته الغدر
أو قوله:
أقاموا زمانا ثم بدد شملهم
أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر
قلت: الأول أبلغ وأجمل في رأيي. قال: وفي رأيي أيضا، ولكن إليك رأيا آخر يقول بخلاف ذاك، وفتح الكتاب - وهو كتاب أدب وتاريخ للأستاذ محمد صبري معلم التاريخ الحديث بدار العلوم - فإذا به يقول: «من العجب حقا أن ينشر المرصفي للبارودي، وهو حي في ريعان الشباب نصا لقصائده أصح بكثير من النص الذي نشر بعد وفاته . على أننا من جهة أخرى قد أسعدنا الحظ بالوقوع على نصين مختلفين لقصائد أو أبيات معدودة، لا نشك أن الثاني منها الذي ظهر في ديوانه هو في الحقيقة النص الأول الذي أصلحه البارودي وصقله بعد إعمال الروية فيه، ونقده نقد الصيرفي الحاذق ... جاء في القصيدة التي يجاري بها أبا فراس:
أقاموا زمانا ثم بدد شملهم
ملول من الأيام شيمته الغدر
وقد روى صاحب الوسيلة البيت على الصورة الآتية:
أقاموا زمانا ثم بدد شملهم
أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر
فانظر إلى الفرق بين الصياغتين، وتأمل كيف كان البيت في أول الأمر كالطائر الذي كسر أحد جناحيه فتعسر عليه النهوض، حتى جاء الشاعر وبدل الشطر الثاني بشطر آخر يتلاءم مع الأول معنى ومبنى، فإن قوله ملول من الأيام بعد «ثم بدد شملهم» من أضعف التراكيب وأخسها بخلاف «أخو فتكات بالكرام» فإن هذا التركيب جمع بين الجزالة والرقة اللتين بلغتا منتهاهما في آخر البيت حين فسر شاعرنا الكناية بقوله اسمه الدهر. أضف إلى ذلك أن حزن الشاعر يتجلى في الشطر الأخير على أولئك النفر الغر الذين بدد الزمان شملهم، وهذا أتم للمعنى وأوفى وأكثر اتصالا بما جاء بعد ذلك.»
وألاحظ أولا أن قافية «الدهر» وردت في هذه القصيدة قبل خمسة أبيات حيث يقول البارودي في بيته المشهور:
إذا استل منهم سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
وهذا مما يرجح أن البارودي عدل عن المصراع الذي تكررت فيه القافية إلى مصراع غيره، ثم أقول: إلى هذا الحد تختلف الآراء في بيت واحد بين المشتركين في القراءة الإفرنجية، ولم أكن لأعرض لهذا الخلاف، لولا أنني أردت أن أتخذ منه مثالا للأسباب التي نفضل من أجلها بيتا على بيت وأسلوبا على أسلوب، والأمثال كما قلنا في فصل تقدم خير معين على توضيح الآراء ووضع المقاييس.
فنحن نرجح أولا أن البيت الذي نشره المرصفي هو البيت كما صاغه البارودي للمرة الأولى؛ لأنه أشبه بالضجيج الذي كان مغرما به في صباه، وأقرب إلى أن يروع القارئ بتهويله لا بمدلوله، ثم عدل عنه إلى الصيغة التي نشرت في الديوان، وهي أشبه برصانة السن وتجارب الشيخوخة التي طال بها عهد التأمل في غير الأيام وتقلبات الصروف، ولولا ذلك لما رجع طابع الديوان إلى الصيغة الأولى التي مضت عليها عشرات السنين، وترك الصيغة التي استقر عليها رأي البارودي الأخير.
ونرى بعد أن البارودي يكون مخطئا لو أنه قال أولا: «ملول من الأيام شيمته الغدر» ثم عدل عنها إلى قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» لأن الصيغة الأولى أصدق في وصف الأيام وأدل على سآمة الناظم وضجره من الحوادث، وأقرب إلى التشخيص والتصوير من الصيغة الثانية.
فإن قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» يصور لنا الحوادث التي تبدد الشمل كأنها لا تكون أبدا إلا كحوادث السكك الحديدية، ونكبات الزلازل، وانقضاض الصواعق، وهي ليست كذلك فيما نعلم ويعلم الناس، فإن التغير من حال إلى حال طبيعة الدنيا التي تبدد الشمل وتبلي النعمة وتفني الحياة، ولو لم تقع المفاجآت الدواهم، ولم تنقض الرزايا الخواطف على غير موعد، ونحن نفهم أن شيخا مثقلا بأعباء السنين يقول «ملول من الأيام» بعد أن قال في الشباب «أخو فتكات» ولكننا لا نفهم أن يعكس الأمر، فيذكر الفتك في الشيخوخة، ولا يروقه أن يصف الأيام بالملالة في سن الضجر والسآمة، والحقيقة أن الشيخوخة التي طالت بها مشاهدة الغير وتعقب الناس والزمان هي أولى بأن تتمثل الأيام في صورة الملول الذي يتقلب ويتبدل ويغدر عن شيمة وديدن لا عن سورة عارمة وهياج فاتك، وقد يعطيك البيت على هذه الصيغة صورة القدر في أبديته الطويلة يلعب بالخلائق لعب السائح الضجر في غير اكتراث ولا تعمد، ولكنك لا تلمح من الصيغة الأخرى للقدر إلا صورة عنترية تصول وتجول وتنادي المبارزين والمناجزين، وليست هذه بالصورة الصادقة، وإن كان فيها من الضجة ما يباغت الأسماع ويشده الحواس؟
وفي قول البارودي «ملول من الأيام» لمحة من الشعور الإنساني؛ لأنها تشعرك مرارة نفس القائل وطول تأمله في مصائب الأعزاء وتقلبات الحدود، وليس في قوله «أخو فتكات» لمحة من ذلك الشعور؛ لأنها أشبه بالآليات منها بالحسيات، فلا يخطر لك حين تسمعها إلا أنها صدمة أصابت جدارا أو ضربة وقعت على حجر، ولا يمنعك أن تظنها من نظم آلة صماء إلا أن الآلات الصماوات لا تنظم الأشعار، وفضلا عن هذا ألا يفتك الدهر باللئام كما يفتك بالكرام؟ ألا يتقلب القدر بمن تبغض كما يتقلب بمن تحب؟ فقوله: «أخو فتكات بالكرام» ناقص في هذا المعنى فوق ما فيه من خطأ الوصف وقعقعة التهويل المكذوب، وأنت إذا سمعته بدهك بما يشغلك عن لطف الكناية فلا تعود تبالي أكان اسم صاحب هذه الفتكات الدهر أم غير الدهر، ولكنك إذا سمعت «ملول من الأيام» انسرحت أمامك ساحة الحوادث فرأيت أطوارها طورا بعد طور ولمحت صورة الزمن القديم يشرف على كل هذا إشراف اللاعب الملول، ويجيء ذلك بعد قوله «أقاموا زمانا ثم بدد شملهم» فيكون أنسب للتراخي في التقلب، وأقرب إلى ما جرت به العادة من غير الصروف.
لا يخطر لك هذا كله حين تفضل أحد البيتين على الآخر، ولكن الناس يستحسنون أو يستهجنون ثم يرجعون إلى التعليل والتفسير، وفي هذا دليل آخر على أن التذوق هو تعليل موجز سريع، وأنه قد يغني عن المنطق، ولكن المنطق لا يغني عنه بحال. •••
وكان بعض الأدباء يقرأ أبياتا لحافظ إبراهيم من قصيدته في زلزال مسينا حيث يقول:
رب طفل قد ساخ في باطن الأر
ض ينادي أمي! أبي! أدركاني
وفتاة هيفاء تشوى على الجمر
تعاني من حره ما تعاني
وأب ذاهل إلى النار يمشي
مستميتا تمد منه اليدان
تأكل النار منه لا هو ناج
من لظاها ولا اللظى عنه وان
قرأ الأديب هذه الأبيات ثم قال: حبذا هي لولا «تمد منه اليدان»، فهذه شهد الله من ضرورات النظم لم يكن للشاعر بها يدان!
قلت: حبذا إذن هذه الضرورة التي وفقت حافظا لخير ما يقال في هذا الموقف، فلو أنه استطاع أن يقول يمد اليدين لما أتى بشيء ولهمد في البيت معنى الهول الذي يطالعك من قوله: «تمد منه اليدان» فإن بناءها على المجهول هنا يريك أن الأب المروع لم يكن يدري ما يصنع، وأنه ذهل عن وعيه فيداه تمتدان من غير شعور ولا فهم لمعنى حركاته ووجهة خطواته، وعندي أن كلمة «تمد أو تمتد» في مكانها هذا أبين عن هول الزلزال من الأبيات الأربعة، وما فيها من نار تأكل، وأرض تنفغر، وأصوات تصيح، وهذا توفيق إذا جاء به الشاعر عن قصد فهو براعة وإذا جاء به عن غير قصد فهو إلهام.
إن كان في هذه الأبيات ما يؤخذ على حافظ فليس هو تلك الضرورة السعيدة، وإنما هو اتهام للرحمة الإنسانية قد تنطوي عليه أبياته، وقد يبدر من بعض الشعراء والكتاب على غير نية، فقد أراد الشاعر أن يمس فينا كوامن الإشفاق، فوهم أننا لا نرثي للمنكوبين إلا إذا كانوا طفلا صغيرا يشفق عليه كل مشفق، أو فتاة هيفاء يحزن الناس عليها للجمال لا للرحمة، أو أبا ينظر الناس بعينيه إلى أطفاله المفقودين ويحسون معه بحنانه المستطار، وليس يحتاج المرء إلى كبير حظ من «الإنسانية» ليأخذ بيد الطفل الصغير، ويتفجع للفتاة الهيفاء، ويأسى لمصاب الأب الثاكل، فلئن كان حافظ قد صدق الوصف، وأبلغ في الصدق، وأفلح في تنبيه الشفقة وبسط الأيدي بالمعونة لقد كان يبلغ المدى في الإحسان لو أنه استمد الوصف من حاسة غزيرة وقدرة فنية تنتزعان من الزلزال صورة منكوب غير عزيز على النفوس، لا بل صورة حيوان هائم في هول تلك القيامة، فتهبانه من الشعر ما لم يوهبه من عفو الرحمة، وتفيضان عليه من الجمال والمودة مثل ما أفاضته الطبيعة على الطفل المهجور، والفتاة الهيفاء، والوالد المرعوب، ونشعر حين نقرأ الوصف أن جمالا أعلى من جمال الطفولة والملاحة والأبوة، يرتقي بنا إلى ذلك الأوج الرفيع، وذاك هو جمال العبقرية التي تعرف العطف حيث لا يعرفه سائر العاطفين.
السيدة الإلهية1
صورة اللادي هاملتون في زي عابدة باخوس إله الخمر.
ساعات بين الكتب أو ساعات بين الصور! هي على حد سواء، ففي كل صورة مجودة عبقرية ممثلة، ونفس شاخصة، وتاريخ قد يفوق التواريخ والقصص بما تضمنه من غرائب الأقدار ونوادر الأسرار، وماذا في الكتب غير ذاك؟ فإذا أملك يوما أن تقرأ الكتاب وتحادث المؤلف فقلما يملك أن تقرأ الصورة، وتساجل المصور، وكلاهما بعد ذلك في الصحائف سواء.
اليوم قائظ والشمس تقذف الأرض بالنار، والناس لائذون بالبيوت - بيوتهم لا بيوت الله! - من غضب السماء، وقد أغلقت نوافذي وجلست بيني وبين القيظ حجاب من الحجر والخشب والزجاج، فكأنني الشيخ أوى من حرارة الحياة إلى وقار السن فهو ينظر إلى القائظة المحتدمة في النفوس وبينه وبينها سور من التجارب يظلله ويحميه، وما أردأ التجارب من موصل لحرارة الحياة! وألقي بعيني إلى الكتب فكأنما هي ثراثرة على شفاهها حديث تهم أن تقذف به عند أهون إشارة، ومن الذي يؤمئ بتلك الإشارة الهينة؟ لا والله! ما اليوم يومك ولا يوم رقصاتك وصرخاتك يا مولانا نيتشه، وما اليوم يومك ولا يوم أبطالك ووعودك يا صاحبنا كارليل، وما اليوم يومك ولا يوم أرواحك ورياضاتك يا أبتا لودج! وما أراه يوم واحد من هذه الرءوس الصالحة التي تعودت أن تفرغ جعبتها في الرءوس صيفا وشتاء وبالليل وبالنهار، فدعونا مما تقولون للدنيا ومما تقوله الدنيا لكم، فليس بين الإيمان بعقولكم وبالدنيا وبين الكفر بجميع العقول وجميع الدنياوات إلا بضع درجات في ميزان الجو، ثم تتساوى الحماقة والحكمة، ويتجاور العدم والوجود.
أعرضت عن الكتب كما أعرض عنها في كل يوم من هذه الأيام القائظة، وأخذت مجموعة الصور أقلب فيها بين اليقظة والنعاس، والعيان والحلم، وفي هذه المجموعة وجوه شتى حلم بها الفن المبدع، وارتقى فيها إلى ما فوق المشهود والمأمول، وفيها تماثيل أرباب وربات يعبدها من ليس يعبد اليوم فينوس وكيوبيد وسيكي والزفير. ولكنها لا تستوقفني جميعا كما تستوقفني صورة واحدة ليست صاحبتها بربة، ولا هي بخاطر في منام، وليست إلا جسدا من الدم واللحم ومخلوقا ولده حداد في قرية خاملة من بلاد الإنجليز، وامرأة خاطئة باعت الخبز حينا ثم عاشت حتى اشتهاها أصحاب العروش والتيجان، ورآها الأستاذ «رومني» كبير المصورين الإنجليز في عصره فجن بها جنونه ودعاها «المرأة الإلهية» وهو يعلم أنها هي المرأة الخاطئة؛ لأنه رأى فيها أبدع ما صنع الله، وعلم أن شعورها بالفضيلة لم يغلب قط، وإن كانت فضيلتها قد غلبت في بعض محن الحياة، ورسم لذلك الوجه الذي قلما يشهد مثيله في هذه الدنيا ثمانين رسما أو تزيد لم يدع ربة من ربات الأقدمين، ولا حورية من حور الأساطير، ولا عروسا من عرائس الماء والآجام إلا ألبسها سمتها، وخلع عليها جمالها، فبدت فتنتها فتنة الربات والحور، وفاقت حقيقتها آمال الفن والعبقرية، وجعلت تخطر في مصنعه وكأنها سماء الأولمب كاملة بكل ما فيها من جمال الآلهة وسحر الخيال.
تلك هي «أما» كما يدعوها المقربون أو «لادي هاملتون» كما عرفها المجتمع، أو هي المرأة الإلهية وكل إلهة في القدم كما كان ينعتها رومني المفتون.
تعود صاحب لي كلما رأى صورها التي عندي أن يقول: طوبى لنلسون؟ إني أريد أن أحسده فلا أدري أعلى هذه الحبيبة أحسده أم على تلك العظمة التي أصبح بها في الخالدين ؟ إن الرجل لسعيد، ولكني لا أعلم أسعيد هو بالنصر في عالم الحرب، أم سعيد بالنصر في عالم الغرام؟ ولو أننا سألنا نلسون لأجاب وأغنانا عن التخمين، فما كانت العظمة لنلسون ولا لغيره إلا تكاليف وفروضا يشقى بها المكلفون، وما كان المجد إلا صخبا لجوجا لا نوم فيه ولا سكون، وإن لم يخل من أمانيه وأحلامه، فإن كانت سعادة في المجد فهي سعادة قلب لا سعادة رءوس وأكاليل، ولن يسعد قلب بغير عطف ولن يكمل عطف بغير حب جميل.
وانظر إلى وجه القدر! إني إخاله يومض ويبتسم ونحن نذكر السعادة والسعداء، وما يضحك القدر من أحد ضحكه من السعداء ومن يهبون السعادة! فهذه المرأة التي ولدت في كوخ الحداد وعاشت بعد ذلك في قصور الإمارة، وهذه المرأة التي وهبت نلسون من النعيم ما لم تهبه الأساطيل ولم ييسره النصر المبين بعد النصر المبين، وهذه المرأة التي تحدث العالم بجمالها كما يتحدث بظواهر السماء وطوالع الأفلاك، وهذه المرأة التي حسدتها النبيلة والماهنة، ونفست عليها العفيفة والفاجرة، وتمنت حظوظها الطموحة والقانعة، وهذه المرأة التي ذاقت حلاوة الشرف ورويت بكأس العار - هذه المرأة التي عرفت كل ما تعرفه حواء في حياتها - هل في بنات حواء من شقيت أشد من شقائها، وابتليت آلم من بلائها وذرفت أكثر من دموعها؟ قليل فيما نظن، فقد سقاها الدهر بكأسيه، لا بل سقاها بكأسه! فما نعلم لهذا الدهر الضنين إلا كأسا واحدة يملأها للسعداء وللأشقياء، فلا يزال الشقي يتحسس فيها طعم السعادة، ولا يزال السعيد يجرع منها طعم الشقاء.
حياة لو خلقتها قصة لكانت غريبة، وجمال لو أبدعه مصور لكان طيفا موهوما، فكأنما ولدت هذه المرأة لتتخذها الحقيقة معجزة لغرائبها، تقر لها غرائب الأكاذيب وبدائع الأوهام، ثم جزتها على ذلك جزاء الحقيقة في كل زمان، وهل جزاء الحقائق إلا صدمة الجد وسخرية الخيبة ومرارة الرجاء المضاع؟
بنت حداد فقير نزلت لندن في الخامسة عشرة فتناهبتها الفاقة والرذيلة، ثم عثر بها نبيل من أجلاف النبلاء، فاحتملها إلى قصره في الريف تسقيه الخمر ويباهي بها على مائدة الشراب ثم هو يهينها ويسومها العسف فتخضع للعسف وتصبر على الهوان، ثم هي على صبرها وطاعتها جامحة النفس تتفزز بالحياة، وتهجم على المخاطر، وتروض الخيل العصية لا يجرؤ على ركوبها أشجع الفرسان، ويلقاها هناك سيد مهذب على شيء من العلم والذوق يسمى «جريفيل» فإذا هي مأخوذة بأدبه ومجاملته، مبهورة بظرفه وكياسته، مصغية إليه في دهشة الطفل الغرير تستمع إلى نصحه، وتجهد نفسها في إرضائه واحتذاء مثال المرأة الحسناء في نظره، ويغضب عليها النبيل الريفي فتلجأ إلى جريفيل في لندن، فيقوم لها مقام المعلم الصارم العسير، ويجلب لها المهذبين ويحاسبها على الهفوة، ويعتد الإحسان إلى الفقراء من هفواتها! ويتلقى سورة إعجابها وحبها بفتور الكيس الذي يغتفر الجريمة الصامتة، ولا يغتفر السورة الناطقة! وتنقضي على ذلك سنوات أربع وهو يزيدها تزمتا وجفاء، وهي تزيده حبا ووفاء، وتلد له بنتا فتقر بها عينها ويزور لها وجهه، ويبدو له أن يتزلف إلى عمه الغني فيبيعها إياه؛ ليكتب له العم الغني ميراثه وتأبى هي الفراق، ثم ترضى به حين يخدعها جريفيل ويفهمها أنه يستعين بها على قضاء مأربه عند عمه، وأنه يرسلها معه إلى إيطاليا لتتم هنالك فن الغناء وتستوي على المسارح نجما ساطعا ينتفع بماله ويستمتع بضيائه، وتقبل هي هذه الخدعة، فتبرح لندن على أمل اللقاء القريب، فإذا هي مع أمها التي لا تفارقها في قصر اللورد هاملتون سفير الجلالة البريطانية في بلاط نابولي وعم ذلك الحبيب الشريف!
وتنطوي صفحة من حياة «أما» في وطنها وتبدأ صفحة جديدة في بلاد أخرى، وهي يومئذ في العشرين وصديقها اللورد في الخمسين، قسيم وسيم، خبير بالفنون والتماثيل ولا سيما تماثيل الحياة، ويعلم هو حبها لابن أخيه فيمهلها على ثقة من فعل الزمان، وفعل الفراق وفعل الحكمة الجافية في خليقة جريفيل، ويستغرب الناس مكانها من القصر فيقول لهم: إنه يحب الغناء ويحب النابغات في الغناء فهو يعد هذه الفتاة لمستقبلها في عالم الإنشاد والتمثيل، ويفتتن بها زواره فإذا هي حديث المدينة، وإذا بالملك يسعى إليها متخفيا ليظفر برؤيتها وسماع غنائها، وإذا بالملكة تدبر المفاجآت لتنظر إلى ذلك الوجه الذي يلهج به كل شريف وشريفة في البلاط، ويكسف نجمه كل نجم في تلك السماء المرصعة بالزواهر والشموس، ويقدم جيتي ملك الشعراء في زمانه، وجوبيتير سماء الأولمب في جلاله وكبريائه، فلا تفوته هذه التحفة النادرة بأرض التحف والآيات، ويكتب عنها فيقول في حماسة لم يألفها قلم ذلك الجوبيتير الوقور: «ها نحن نرى رأي العين - كاملا ومجسما في حركاته الرائعة - كل ما جاهد في تمثيله رجال الفنون في غير طائل، فهي بين واقفة أو راكعة أو جالسة أو مضطجعة أو جادة أو حزينة أو لاعبة أو مهجورة أو نادمة أو مغرية أو متوعدة أو ملتاعة القلب مفجوعة تتلو كل حركة بحركة من حركاتها الأخرى وتتولد منها، وهي تعرف كيف تلعب بطيات منديلها الواحد بما يوائم كل لمحة من الملامح، وكيف تلبسه على رأسها على مائة شكل مختلف من ملابس الرءوس» وذاك أنها تعلمت من «رومني» الذي عرفها به جريفيل كيف تحكي أشكال الآلهة وبنات الأساطير، فأحسنت في جميع المواقف إحسانا فاق تعليم المعلم وحكاية المقلد، وعرضت ذلك كله على جيتي؛ لأنه كما قالت وافق هيئة الملك في خيالها أكثر من ذلك الملك المتوج وهو يلاحقها بحبه وهي ترفض ذلك الحب الذي يتنافس فيه الملوك والخواتين. هذا وهي لا تزال على الوفاء لجريفيل تواليه بالكتب، وتتوسل إليه أن يشخص إليها وهو لا يزيد على السكوت وإرسال كتبها واحدا بعد واحد إلى عمه المتلهف على يوم النسيان والقطيعة بينها وبين ابن أخيه، ولما خطر له أن معين الصبر أوشك أن ينفد وأن أمد الوفاء قد جاوز حده خاطبها متوددا وعرض لها متغزلا فغشي عليها من ألم الصدمة، ولزمت غرفتها تبكي وتنتحب لهذا الغدر من اللورد في حق جريفيل، ويفطن الكهل المحنك إلى الموقف الدقيق فيبلغها عزمه على السفر إلى روما عسى أن تفقد محضره فتعرف قيمته لديها، وتتطرق من الاشتياق إلى قبول الغزل والتودد! فتفلح الحيلة ويجتمع غياب هاملتون وإعراض جريفيل على الفتاة المهجورة، فتسكن إلى قسمتها المحتومة في تسليم وديع لا يخلو من بعض الرضا والارتياح.
وكانت في قصر هاملتون قريبة له تستقبل ضيوفه بعد موت زوجته الأولى، فما زالت به تلومه في شأن «أما» واللوم يغريه حتى نحاها عن استقبال الضيوف وعهد بذلك إلى «أما» فأصبحت ربة داره وصاحبة بيته، ومهدت لها تلك القريبة الخرقاء سبيل التزوج به، فلما سمع أن ملكة نابولي توحي بهذا المقترح لم يستغربه، ولم يجفل لسماعه إجفال السفير العظيم من البناء بخليلته، وكان قد شاخ ووهنت نفسه فيئس من زاوج يلائمه غير هذا الزواج بمن أحبها وأنس إلى عشرتها، وأقامها مقام الزوج في كل شيء إلا في الاسم والكتابة، فعقد العزم على القران وهونه على البلاط الإنجليزي بخطاب من ملكة نابولي وعدت فيه أن تستقبل السفيرة في بلاطها، وتعاملها معاملة أترابها، وما دعا الملكة إلى كل هذا البر بأما إلا أمران أحدهما الشكر لها على رفض غرام الملك، والإعراض عن إلحافه وألطافه، والثاني حاجتها إلى صديقة في السفارة البريطانية تأسرها بفضلها، وتعتمد عليها في تمكين عرشها الذي يوشك أن تعصف به الثورة الفرنسية والمطامع النابليونية، فكان لها ما أرادت وكافأتها أما فيما بعد بإنقاذ حياتها وحياة آلها، فكان جزاء الفتاة الوضيعة خيرا من جميل الملوك.
ثم ظهر نلسون في حياة أما بعد أن شاخ هاملتون، وتعاورته الأمراض ولزم الفراش في أكثر الأيام. ظهر في الشواطئ الإيطالية ينازل الفرنسيين، ويطارد سفنهم، ويحتاج في كل حركة يتحركها إلى السفارة الإنجليزية أو إلى شخص «أما»؛ لأنها هي كل شيء في البلاط، وخشي الملك سطوة الفرنسيين فمنع تموين السفن الإنجليزية، فكادت تفشل الرقابة وينطوي نلسون في غمرة الخمول، فصمدت أما لهذه الأزمة العضال، ولم تهدأ ولم تنثن حتى تغلبت بإرادة الملكة على إرادة الملك، وأسلمت الأسطول أمرا يبيحه التزود بالماء والطعام حيث شاء، فإذا كانت وقعة أبي قير مستحيلة بغير هذه المعونة، وكانت حماية الهند مستحيلة بغير وقعة أبي قير، فالدولة البريطانية مدينة لهذه المرأة بأكبر ما تدان به دولة عظيمة لفرد من الأفراد.
وانتصر نلسون فحببها فيه النصر والإشفاق، وماذا غير المجد والوطنية والرحمة يحببها في رجل مقطوع الذراع، مفقود العين، مشوه الجبين، معروق اللحم، يرجف لكل خطب يعتريه كما ترجف القصبة في الريح، وتنكأه جراحه الأليمة فإذا هو عابس السحنة، حزين أو ثائر النفس كالمجانين؟ ما كان ذلك حب شهوة، ولا حب رذيلة، ولكنه حب القلب والرأس، وحب المجد والوطن، وليس أكرم من ذلك الحب في صدور النساء.
وجاءت حادثة الفرار بالأسرة المالكة من نابولي إلى بلارم، فكان الفضل فيها أكبر الفضل لأما ثم لتمساح النيل كما كانت تسمي نلسون بعد وقعة أبي قير، وأقاما في العاصمة الجديدة إلى أن كان العود إلى لندن، فوجدت أعداءها الفرنسيين قد سبقوها بالإشاعات والأقاويل في وطنها، ونبشوا ماضيها وحاضرها وزادوا على ما علموا شيئا كثيرا من افتراء الضغينة، وكيد الخصومة، فلم يشأ البلاط الملكي أن يستقبلها، وعاشت في عزلة عن المجتمع الشريف وفي غبطة بقرب نلسون الوفي الأمين، ثم مات اللورد هاملتون، ولم يوص لها إلا بثمانمائة جنيه في العام، وماذا تصنع ثمانمائة جنيه لامرأة تعودت بذخ القصور، وعلمها البلاط القمار الذي لم تتعلمه في أزقة الفساد؟ ثم مات نلسون وهو يذكر اسم بنته الوحيدة منها، ويتركهما بعده في كفالة الوطن الشكور، ولكن الوطن الشكور سجن السفيرة التي وهبت له نصرة أبي قير عقابا لها على المطال بالدين، وألجأها إلى الأرض الفرنسية التي فضحتها، وأطلقت ألسنتها بالتقول عليها، فعاشت في مدينة كاليه ما عاشت، ثم ماتت فيها وهي تناهز الرابعة والخمسين ودفنت بها في قبر حقير بمال سيدة من المحسنات.
هذه قصة المرأة الخاطئة أو المرأة الإلهية! قصة امرأة كان حسنها آية فنية، وكان تاريخها آية فنية أخرى، وبلغت بها الحقيقة شأو الخيال، ثم نمت فيها عبرة الرواية الإلهية، فكانت ضحية لا بد منها للعرف المرعي والأدب المصون، فلو قيل لنا بعد كل هذا أكان البلاط الإنجليزي على خطأ أم على صواب في رفضها لقلنا بل كان على صواب فيما فعل، وكان لا يقدر على غير هذا الجزاء الكنود، فإن حسنا أن يبقى للآداب المعروفة وجهها المنظور ولو شقيت في ذلك بعض النفوس، وليس الذنب فيما أصاب المرأة المظلومة ذنب البلاط، وإنما هو ذنب الزمن الذي أنشأ المسكينة على أن تكون قصة من القصص، ونسي أنها حقيقة من الحقائق، وبماذا تنتهي تلك القصة الفنية التي نسجتها حياة الحسناء العجيبة إن لم تنته بالتضحية الفاجعة، والختام العجيب؟ لقد كانت رضا الفن في حياتها ومماتها ونعيمها وشقائها! ولم تكن رضا العدل إلا في القليل من هذه المقادير، فإن ذكر لها الذاكرون خطيئتها وجماحها، فليذكروا لها منصفين إحسانها حتى ما كانت تضن بمال على فقير، وحبها لأمها حتى ما كانت تهجرها في بيئة الملوك والأمراء، وتقديسها لوطنها، حتى ما كان في زمانها من خدمة ونصرة أعظم من نصرها إياه.
جورج رومني1
أيهما خلد الآخر : رومني الذي حفظ لنا جمال السيدة الإلهية، أو السيدة الإلهية التي ألهمت المصور فنه، وملأت عينيه ببهجة الحسن، وأجرت يده بالخلق والإحسان؟ لقد وعدها هو أن يخلدها في صوره، ولم تعده هي شيئا، ولكنها خلدته على غير موعد، فلا نخشى هنا أن نقع في «مسألة الدور» أو نتهم «بعدل سليمان» إذا قسمنا الحق بينهما نصفين فقلنا: إنه هو خلدها بفنه وإنها هي خلدته بوحيها، فكان جزاؤهما من معدن واحد وعملة واحدة، فلولا صور رومني لفني الروح من جمال «أما» وبقي الشبح الذي تحفظه الصور الشمسية، أو ما يشاكلها من نقش أناس لم ينظروا إلى طلعتها باللحظ المسحور، والقلب المأخوذ، ولولا «أما» لما توفر صاحبها على رسم الملامح والوجوه، وهو الذي كان يزدري هذه الصنعة ولا يصبر على مزاولتها إلا ليعش ويدخر الثروة، ثم يتفرغ لهواه من الفن وهو تصوير البطولة وإحياء الشخوص الخيالية من قصائد الشعراء ونوادر التاريخ.
فقد كان رومني - كما كان كثير من العبقريين - يجهل أحسن ملكاته، بل يجهل أحسن مبدعاته، وطالما تردد بين الموسيقى والتصوير في مبدأ نشأته، فلم يثبت على نية التصوير بعد طول التردد إلا منقادا لقضاء الظروف غير عامد ولا متخير، ثم كان يرسم الصور الشخصية لطلابها ليعيش بأجرها وهو كاره لهذا العمل معول على تركه حين يغنيه الثراء عن أجره، ولم يدر أنه سيعيش بهذه الصور في عالم الذكرى كما عاش بها في عالم الخبز والماء! وكثيرا ما كانوا يسألونه عن أحسن صوره وأعزها عليه، فكان يذكر لهم نقوشا لا تخطر على بال ناقد ولا يذكره الآن ذاكر، وليس رومني ببدع في هذا الجهل، فإن الإنشاء الفني أبوة نفسية ولا يندر أن نرى الأب يحب من أبنائه من هو أقلهم جدارة بالحب، وأشدهم عقوقا للوالدين، فقد يعز الرجل من أبنائه من أنصبه وأحزنه وكلفه المشقة والخسارة، وقد يحسب هذه الكلفة من قيمته ويحرص عليه بقدر ما تكلف في حبه، ويصنع الفنان مثل ذلك فيحب الأثر الذي أجهده وأضناه ولا يذكر الأثر الذي جاءه عفوا بغير مجهدة، وأكثر ما يكون إحسان العبقريين فيما سهل مورده وقل عناؤه، وتأتى لهم بغير كلفة، فهو لهذا رخيص في حسابهم وهم لهذا أبعد الناس عن إنصاف ما يبدعون وتصحيح الرأي فيما يؤثرون وما يهملون.
جورج رومني.
والناس يتغالون اليوم في اقتناء آثار رومني، ويشترونها حيثما عثروا بها، وبالثمن الذي يقدره لها مالكوها، فلا تكمل مجموعة أو متحفة بغير صورة أو اثنتين من مخلفاته الكثيرة، ولا يستكبرون ثمنا - مهما كبر - على النادر النفيس منها، وقد بيعت إحداهن في السنة الماضية بسبعين ألف جنيه، ولا تبرح الصحف تروي لنا أسعار قطع له تباع بالألوف في بلاده وغير بلاده، أما القطعة التي بلغت السبعين ألفا فهي صورة السيدة دافنبورت التي رسمها المصور بواحد وعشرين جنيها، ولعله لم يكن في ذلك التقدير بالرجل القنوع.
إن القارئ لا يسعه إلا أن يخطر الغبن على باله كلما سمع بالحظ الذي فات رومني من أثمان صوره بعد مماته، فأين العشرات من الألوف؟ وأين أرباح المالكين من أرباح الذي لولاه لما كانت الصور ولا تغالى بأثمانها المالكون؟ على أن رومني لم يكن مغبونا في حياته ولم يسمع عن مصور في عصره نال من إقبال الجد، وبعد الصوت، وحسن التقدير فوق ما ناله، ويؤخذ من مذكراته أنه رسم تسعة آلاف من علية القوم وأوساطهم في أقل من عشرين سنة، وأن دخله كان يبلغ أربعة آلاف جنيه في العام، وأجرة الصورة كانت تتراوح بين الثمانين والمائة وهي قيمة قلما يزداد عليها في عصره، وقد حسده منافسوه وقدحوا في فنه واشتدت غيرة السير جوشيا رينولد منه فكان لا يطيق اسمه ولا يسميه إذا ذكروه إلا «بالرجل الذي في شارع كافندش»، والعجيب هنا أن ينسى السير جوشيا أدب اللياقة في حق زميله الحيي الوديع وهو الرجل الحليم المصقول الذي لا تبدر منه بادرة ولا تجمح به نزوة، وأعجب منه أن يعرف له رومني حقه، ويكبر قدره، وينكر على الذين يفضلونه عليه، وهو الرجل المعتزل النابي بنفسه الذي لا يغشى مجالس اللياقة ولا يفقه «قوانين» المجاملة، وما كان ذلك عن دهاء منه ولا عن رياء، فإن رومني لا يعرف الدهاء ولا الرياء، ولا يداري شيئا بين صدره ولسانه، ولكنها طبيعة فيه جنبته هموم المنافسة، ونأت به عن عراكها، فبلغ الشهرة التي بلغها بغير سعي ولا حيلة، وكره لصوره أن يعرضها في «الأكاديمي الملكية» ترفعا لا ندري أو تنائيا عن زحام المنافسين وخصومة القادحين، فلم يخسر بهذه العزلة شيئا ولم يزد إلا اشتهارا وشيوعا على قلة الكاتبين عنه والمشيدين بذكره، وكان فيما قاله خصومه عنه: إنه كان يستجلب الحسان إليه بتمويه صورهن وإيداعها المحاسن الكاذبة التي يتخيلنها لأنفسهن! وليس هذا بصحيح إلا بمعنى واحد لا مطعن فيه على مصور قدير، فقد كان الرجل يلمح الشبه بين حسانه وبين من يقاربهن من حور الأساطير وربات الأقدمين، فيعكس عليهن ذلك الشبه ويجلوهن في فتنة «أسطورية» تكسوهن سحرا وخيالا على حقيقة، ولكنه كان يقصر هذا المزيج الأسطوري على من يحبها ويستوحي ملامحها، ويصورها ظاهرا وفي باطن نفسه أن يصور «شخوص» البطولة التي يحن إليها، وينتهز كل فرصة لتمثيلها والانقطاع لها ، فهو في هذه الحالة كالذي يتعمد تمثيل ربة شعرية فيتخذ لها نموذجا من أحب النساء إليه، وأحظاهن في عينه، وليس في ذلك تمويه ولا مبالغة، وإنما هو التمثيل الذي تجتمع فيه أحلام المصور، ومناظر العيان، وأخيلة القدم في نظرة واحدة. •••
ولد جورج رومني في شمال لانكشير سنة 1734 وتعلم التصوير على فنان قرية كندال، ثم أصيب فيها بالحمة فسهرت عليه فتاة طيبة على شيء من الملاحة ولزمته في مرضه حتى أبل فشكر لها صنيعها، وتزوج بها ولكنه فارقها حين ضاقت به القرية ليلتمس مستقبله في لندن، وقسم ثروته التي كان يملكها في ذلك الوقت بينه وبينها، فأعطاها خمسين جنيها وأخذ الخمسين الأخرى معه يستعد بها لما هو قادم عليه. ونزل لندن سنة 1762 فلم يطل مقامه بها حتى اشتهر وتدفق عليه طلاب الصور، وأمن على مستقبله فتاقت نفسه إلى زيارة إيطاليا لاستتمام علمه ودرس البقايا الفنية في معاهدها، فقضى في روما سنتين، وقفل إلى لندن وقد تزود علما وخبرة ولم يفته أن يأخذ من فن فرنسا خير ما تعطيه يومئذ، وهي منجبة «جروز»، ومخرجة المدرسة التي تجمعت مزاياها العالية في ذلك المصور النابه، فسرت إلى «رومني» نزعة جروز إلى تحضير طائفة من العواطف المحببة من ملامح معهودة يعجب بها ويتعلق بأصحابها. ثم جاءته «أما» في سنة 1782 حين كان في الثامنة والأربعين فهام بها، ورأى نور الحياة من عينيها ولبث زهاء عشر سنين يتلقاها في مصنعه أكثر الأيام، وتجلس له جلساتها الأسطورية التي لا عداد لها، وما كانت إلا بضع جلسات حتى تفاهم المنفيان من وطن السواد، وانعقدت بينهما الصداقة الحميمة، فكانت ترفو له ثيابه، وتطهو له طعامه، وتبثه ما في نفسها ويبثها ما في نفسه، وباتت هي إلهة وحيه وبات هو كهف عزائها الوحيد بين حبيب فاتر القلب، ودنيا لا تسمع الأعذار، ولما جاءت تنبئه بسفرها إلى نابولي دارت به الأرض، وأظلمت فوقه السماء، وظل بعدها عازب الفكر مشلول المواهب، لا تغنيه عنها الحسان اللواتي يجلس إليه «لأنها شمس سمائه وهن النجوم الوامضات» ولا يستريح إلى عمل يوليه بعض السلوان.
أما زوجه التي فارقها في كندال على موعد اللقاء في لندن عندما يدير عليه الرزق وتغدق عليه الثروة، فقد بقيت حيث هي حتى عاد إليها لقي محطوم الجسم والعقل في الخامسة والستين، يتعثر إلى القبر ويمل أنفاس الحياة، فغفرت له هجرانه، وخيانته، وتكنفته بحنوها ومؤاساتها حتى قضى نحبه بين ألم الداء، وتبكيت الضمير. وكان قد زارها مرتين أو ثلاثا في تلك الفترة الطويلة، ورتب لها معاشا يكفيها، ولكنه لم يستقدمها إلى لندن، ولم يعلم أحد ما سر ذلك إلا ما يقوله الشفعاء له، وليس هو بالعذر الوجيه، وإن كان عذرا يرضاه الذين يعرفون طبع الرجل البريء من الشر واللؤم، ويحسبون زوجه عقبة في طريق فنه، واتصاله بطلابه وطالباته، وهم غير كثيرين، قال فتزجيرالد صاحب الذخيرة الذهبية المشهورة: «لقد عاد إليها وهو شيخ طليح أسقام، يوشك أن يجن وليس له من ولي ولا رفيق، فقبلته وواسته إلى يوم وفاته. إن هذه المأثرة الصامتة لخير من صور رومني كلها، ولو نظر إليها من وجهة الفن دون الأخلاق، وإني من ذلك لعلى أتم يقين» وقال تنيسون في قصيدته ندم رومني «لقد أيم زوجه في حياته، وباع الرحمة بنقشة على القرطاس.»
وقال في تلك القصيدة بلسانه: «أحبك فوق حبي إياك يوم الزفاف، وأرجو - ولعلني أتوهم - أن غفران الإنسان يمس السماء، فتغفر لي لأنك أنت غافرة ذنبي، وترسل من رحمتها شعاع ضياء إلى الراحمة الرءوم.» •••
أما فن رومني فجملة ما يقال فيه: إنه كان أقدر مصور في زمانه على اختطاف اللمحة البارقة على الوجوه، وتقييدها بالريشة والطلاء، أو أنه كان قديرا على إخفاء قدرته العظيمة وراء الملاحة المحببة التي يسبغها على وجوهه وشخوصه، ولكن تلوينه لا يجاري تلك القدرة في البراعة والإتقان، ولا ينم على الذوق اللطيف الذي تنم عليه دقته في أداء الملامح، وتسجيل خفقات الشعور على صفحات الوجوه.
ساعات بين الصور1
لا يزال الإنسان حاسة أقوى من فكرة، وجسدا أوكد من روح، ينبئنا بهذا كل طور من أطواره ورغبة من رغباته، وينبئنا به أنه لا يني يدير الفكرة في رأسه ونفسه، ثم هو لا يستريح حتى يسمعها صوتا أو يبصرها رسما، أو يجسمها في مثال نفس الحواس بشكل من الأشكال، وهو إذا امتلأت نفسه بالعقيدة لم يغنه الامتلاء عن تصويرها لعينه وسمعه ولم يكن هذا الشبع النفساني بعقيدته صادفا له عن تلمسها في عالم «الأجسام»، بل كان على نقيض ذلك باعثا على التجسيد ومضاعفا لحاجته إلى السماع والعيان، ومن ثم قامت النصب والأوثان، وراحت الرموز المصورة طلبة الفنون؛ لأنها أوكد للحقائق وأدعى إلى التأمل في معانيها والتوسم لملابساتها، فإذا سنحت لك الفكرة ورأيت صورة تمثلها فكأنما أصبت لها قيدا يربطها بالذهن فلا تخشى عليه الشرود والإفلات، ولم يخطئ المجازيون حين سموا الكتابة تقييدا وتسجيلا، فإنها لقيد صحيح منذ كانت تنقل المعاني من فضاء التجريد المطلق إلى حظيرة تمس وتنظر وتسمع بالآذان، ولكننا نظلم الإنسانية إذا حسبناها أسيرة الحس وحده واتخذنا من ميلها إلى الرمز والتجسيد دليلا على ضعف سلطان المعاني، حين تنقش الرسوم وتنصب التماثيل وتصوغ الأناشيد والصلوات، فلولا اشتياقها إلى تثبيت المعنى وتوكيده لما أولعت بأن تخلق له جسدا يستقر فيه ويعيده إلى النفس «معنى» أكمل وضوحا، وأجمل منظرا، وأدوم في الذاكرة والشعور. •••
أنظر الآن إلى معنى رمزي جميل خلقته الخرافة اليونانية، ورسمه المصور الإنجليزي هربرت دريبر، وأخذته المتحفة الوطنية للفنون البريطانية فحفظته بين المقتنيات الكثيرة التي تباهي بها المتحفات الأوربية. هذا الرسم هو «مناحة إيكاروس» الفتى الأسطوري الذي طار على جناحيه، واستهوته السماء فهبط إلى غمار الماء في مكان منسوب إليه، يعرفه الجغرافيون باسم البحر الإيكاري من أمواه الإغريق، فهي كما ترى أسطورة لها مكانها من علم الجغرافية ومن هذه البحار الدنيوية التي تمخرها السفن، ويغرق فيها من تستهويه الأقدار إلى مسارب القيعان! وصاحبها كما سترى موجود بيننا إلى اليوم يحمل جناحيه، أو تحمله جناحاه ويعلو إلى أوجه المقدور ثم يهبط إلى لجة تنطبق عليه، وتذكر باسمه وإن لم يسمع بها الجغرافيون!
مناحة إيكاروس .
كان إيكاروس مع أبيه «ديدالوس» في جزيرة إقريطش يتعلم عليه الصناعة والحكمة، وكل ما يعرفه الإنسان، فقد كان ديدالوس هذا لقمانا يونانيا لا تفوته صناعة، ولا تخفى عليه خافية، وكان عند ملك الجزيرة «مينوس» فأمره أن يبتني له تيها لا يهتدي الداخل فيه إلى مخرج منه، فصنع الحكيم التيه وأنجز مشيئة الملك حتى لقد ضل هو وابنه فيه حين ألقى بهما الملك في غيابته، ثم نجوا بتدبير الملكة، ولم يشأ مينوس أن يبرحا الجزيرة فوضع يديه على السفن كلها وتركهما بين الماء والسماء يستهدفان للموت إن هربا، ويستهدفان له إن آثرا البقاء، ولكن ديدالوس حول مزيال لا يعيا بحيلة ولا يقف عند عقبة، فإن كان «مينوس» قد حكم على الماء فهو لا يحكم على السماء، وإن كان قد أوصد عليه منافذ الجزيرة فهو لا يوصد عليه منافذ الفضاء، ومينوس يستطيع أن يسجن ولكن ديدالوس يستطيع أن يطير، فهو يستخبر سر الطير وينسج جناحين من الريش يركبهما فتعلوان به وتغنيانه عن المطية والشراع، ولكنه يقدم ابنه على نفسه ويرسله قبله ريثما يصنع له جناحين آخرين فيلحق به بعد قليل، ويخشى أن يزهى الولد بنشوة الطيران فيوصيه أن يتوسط ويتئد لئلا يهجم على الشمس فيلهبه شعاعها، ويذيب لحام الريش فلا يمسكه في المطار، أو يسف إلى الماء فيناله رشاشه ويثقل على جناحيه إلى القرار، ولكن من لهذا الفتى بالتوسط والاتئاد؟ إن جناحيه ليحملانه وإن السماء لمفتوحة أمامه، وإن للتحليق لسكرة تطيش معها العقول ويخاف على صاحبها ما لا يخاف عليه من سراديب التيه! فإلى السماء، إلى الشمس بلا توقف ولا احتراس فأما رشاش الماء فلا خطر عليه منه؛ لأن طماح تلك السكرة يأبى عليه النزول والإسفاف؛ وأما السماء فلا شيء يذوده عنها، ولا شبح الموت بحائل بينه وبينها، وفي أي شيء تهون الحياة على الشباب إن لم تهن عليه في سبيل السماء! فما هو إلا أن استقل ريشه وضرب بيمينه وشماله حتى نسي وصية أبيه، ومضى في الجو صعدا كأنما يبتغي الشمس ، ولا يبتغي المآب إلى أرض يونان، غير أن الشمس لا تدرك والشعاع لا ينسى وصيته الأبدية إذا نسي الشباب وصية الآباء؛ فقد ذاب اللحام، وفكك أوصال الجناحين، فهبط الفتى على صخرة في اليم جسما بلا روح، وأطلت بنات الماء من مساربهن يبكين عليه ويندبن ذلك الطماح المنكوس والشاب المضيع، فهن باكيات عليه في ذلك المكان إلى اليوم.
الحب والحياة.
لا نعلم ماذا أراد وضاع الأساطير بهذه الخرافة الكاذبة الصادقة، ولا إلى أي شيء رمزوا بهذا التاريخ الطويل العريض الذي لا يذكر التاريخ أساسه من الحقيقة، ولكن ألا ترى أن قصة إيكاروس هي قصة كل شاب طموح في غمرة من غمرات الحياة؟ أليس كل من يعالج أزمات السريرة يضل في تيه يبتنيه بيديه، ثم يلقي نفسه بين الماء والسماء. الخطر من أمامه والخطر من خلفه وهو حائر بين المأزقين يقتحم سبيل الخلاص، وإنما ينشد الرفعة حين يخيل إليه أنه يطلب الخلاص؛ ثم ألا ينسى السلامة التي خيل إليه أنه طالبها حين يستقل الجناح، ويستغويه لألاء الشمس وتستخفه نشوة الصعود؟ ثم ألا يرتقي به المطار آخر الأمر إلى الأوج الذي تتخاذل فيه الأجنحة، وتنحل العزائم، ويرتد الإمعان في العلو إمعانا في التدهور والهبوط، ثم ألا تحتويه اللجة غريقا في جانب من جوانب نفسه فلا يبقى بعده إلا اسم على صفحات الماء ودمعة كريمة في جفن جميل؟ أليس إيكاروس على هذا المعنى حيا خالدا في إهاب كل إيكاروس لا تفتأ لجته مواراة في «جغرافية» كل إنسان؟ إن هذه الأسطورة لتقرب بين عالم الخرافة وعالم الحياة، فترينا أن الخرافة ليست بأعجب من الحياة، وأن دنيا الحياة ليست بأضيق من دنيا الخرافة، وهذه إحدى فوائد الرموز إذا حسن التعبير بها عن الوقائع والمألوفات. •••
وأنظر الآن إلى صورة رمزية أخرى لجورج واطس أشهر الرامزين من مصوري الإنجليز، هذه الصورة هي صورة الحب والحياة على قمة شاهقة تحف بها المزالق والظلمات، الحياة هزيلة عجفاء لا طاقة لها بالصعود إلى تلك القمة، لو لم يأخذ بيدها الحب المجنح المسكين، فهي تنظر إليه في ثقة كثقة الأطفال وضراعة كضراعة الاستسلام، وهو يحنو عليها ويظلها بجناحه ويخطو بها على الصخور القاسية فينبت الزهر حين يخطوان، فإذا نظرت إلى هذه الصورة فلديك رسم محسوس لكل معنى يدور بين الحب والحياة، فضعف الحياة ممثل في الفتاة النحيلة التي تكاد تهتز من الوجل والوهن، لولا المعونة من تلك اليد الآخذة بيمينها والجناح الحادب عليها، وقوة الحب ممثلة لك في ذلك الفتى الأمون الصليب الذي يعرف طريقه، وإن لم ينظر أمامه ولم يتلفت حوله، والذي يأمن السقوط لأنه يطير بالحياة إذا زلت به قدماه، ومصاعب العيش ممثلة لك في الصخر الأصم يدمي الأقدام، ويطبق حوله الظلام، ومناعم الحياة ممثلة لك في الزهر ينبت في الحجر الصلد والأحلام تسمو إلى ذلك العلو المخيف، فكل ما يقوله القائلون في الحب والحياة ملخص أمامك في صفحة تستوعبها اللمحة، وتتزيا فيها الفلسفة بزي المشاهد الملموسة، وقد يكون هذا الرمز انتصارا للحس على الفلسفة، ولكنه على التحقيق انتصار له في سبيل الفكرة العظيمة لا في سبيل اللمحة العاجلة والتجسيد الكثيف. •••
وإذا ذكر واطس وذكرت الصور الرمزية، فصورة الأمل الخالدة المعروفة لا تنسى في هذا المقام، فقد لخص فيها المصور فلسفة الأمل، كما لخص هناك فلسفة الحب والحياة، فالسماء قاتمة ليس فيها إلا كوكب واجف ينشره الظلام ويطويه، والقيثارة مقطعة الأوتار إلا وترا واحدا يهمس بلحنه لمن يستمع إليه، والعين معصوبة، تزيد الليل ظلاما على ظلام، والعازف يكب على القيثار عسى أن يسمع ذلك الصوت الخافت الذي يجريه هو على الوتر الأعزل الفريد، والأرض تدلج في غياهب المجهول إلى حيث يحدوها الرجاء؛ وهذه صورة الأمل الذي يبقى لنا حين يذهب كل شيء منا، فهو الأمل في الصميم، أو هو غاية ما تنتهي إليه الآمال.
على أنني أقابل بين الرمزين رمز الحب والحياة، ورمز الأمل فيعن لي أن أسأل: ألم يكن الأحرى بالصورة الأولى أن تسمى الأمل والحياة؟ لأن الأمل هو قائد الحياة وهو يرتفع إلى فوق شأوها، ويسندها إذا حاق بها الخور، وشارفت مزالق القنوط؟ فإن كان في الحياة شيء هو أكبر منها فذاك هو الأمل؛ لأنه هو الذي يكبرها ويعلو بها أوجا بعد أوج، ويفرق بين الحقير والعظيم من أنواع الحياة، فأحرى بالقائد في صورة واطس أن يكون هو الأمل لا الحب الذي لا يعيش بغير أمل، أليس كذلك؟ ثم أعود فأقول: إن الحب من الرجاء لقريب، وإنهما في أكثر النفوس لكلمتان لمعنى واحد، فلا رجاء بغير حب ولا حب بغير رجاء.
آراء لسعد في الأدب1
في هذا الأسبوع - أسبوع سعد - لا حديث إلا عنه، ولا بحث إلا في سيرته وأعماله، وعبرة حياته ومماته، وليست مقالة هي ألصق بموضوع هذه المقالات من كلام نخصه بسعد وبطائفة من آرائه وأقواله، فإن العظماء أيا كانت مناحي عظمتهم، ومواطن تفكيرهم هم موضوع قديم للأدب والتاريخ، ومادة لا تنفد للنقد والدراسة، وإن سعدا كان الكاتب البليغ والخطيب المبين كما كان السائس الخبير، والزعيم الكبير، فالأدب بعض جوانبه وإحدى مشاركاته، وله فيه آراء صائبة ونظرات نافذة قلما يهتدي إليها أدباؤنا المتفرغون للكتابة أو المتخذون منها صناعة ورياضة، وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدا في إصلاح الكتابة من أسبق الأيادي بالتجديد في الآداب العربية، فقد كان هو وصديقه الشيخ محمد عبده يقومان على تحرير «الوقائع المصرية» وتصحيحها قبل سبع وأربعين سنة، وكانت هذه الصحيفة يومئذ مفتوحة لأقلام الأدباء والمنشئين غير مقصورة على القوانين والأنباء الحكومية كما هي اليوم، فعملا فيها على تحرير العبارات، وتقويم الأساليب وإدخال القصد والدقة في المعاني والألفاظ، فأفادا في هذا الباب أحسن ما يفيد كاتبان في ذلك الزمان، وبدءا عهد للكتابة العربية لم يسبقهما إليه سابق في هذه الديار. يعرف لهما هذا الفضل من اطلع على مقالات سعد الأولى التي أعاد البلاغ نشرها من سنتين مضتا، فإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التكلف والتلفيق ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل.
ونحن لم نرد بهذا المقال أن نفصل الكلام في مكان سعد من البيان والأدب، فإن لهذا البحث مادة لم نستجمعها وسيجيئ أوانها وأوان الكتابة من كل ناحية من نواحي هذا الفقيد العظيم. إنما أردنا أن نروي عن الفقيد آراء مسموعة في البيان وما إليه، تشف عما أوتيه رحمه الله من حصافة الذهن، وقرب المتجه، إلى الحقيقة بغير تعسف ولا إجهاد، فما كان يدور كلامه على الأدب مرة إلا سمعنا منه قولا أصيلا، ونقدا مسددا، يحصر فيه غرضه أوجز حصر وأوفاه، وكان من عادته رحمه الله أن يخاطب كل فريق فيما يألفون وما يعرفون، فربما جلس إليه الفلاحون السذج فيحادثهم عن الزرع والقلع وصناعة الألبان، وغلات الحبوب كأنه واحد من صغار الأكارين، طلاب القوت من هذه الصناعة، ويلوح عليه الاغتباط بعلم هذه الأشياء كأنه مطالب بعلمها وعملها مأجور على حذقها وإتقانها، وربما جلس إليه التجار فيسألهم عن الرواج والكساد والغلاء والرخاء، ويأخذ من خبرتهم ويعطيهم من نفيس الرأي ما هو عازب عنهم، وعلى هذه السنة كان يخالطنا في الأدب، وما إليه كلما اجتمع لديه فئة من أهل الأدب أو الصحافة، ويبدي في توجيه كل بحث يتولاه تلك المهارة التي تسايرت بها الأمثال في مجلس النواب. •••
كان يوم عيد، وكان في مجلسه رهط من الأدباء والمعنيين بالأدب، أذكر منهم جعفر ولي باشا وزير الحربية، وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، والشيخ المنفلوطي وأساتذة لا أعرفهم، وجرى الحديث في أساليب بعض الكتاب فقال رحمه الله: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة، ولكني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها! فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون ب «المفرق» ولا يبيعون بالجملة!
قال الشيخ المنفلوطي: يغلب يا باشا أن يشيع هذا الأسلوب بين الصحفيين الذين يكلفون ملأ الفراغ، ولا تتيسر لهم المادة في كل موضوع.
فابتسم الباشا وقال للشيخ: إنك يا أستاذ تتكلم عن الصحفيين وهنا واحد منهم. ثم التفت إلي وقال: ما رأيك يا فلان؟ قلت: هو ما يقول الشيخ المنفلوطي، مع استدراك طفيف قال: ما هو؟ قلت: إن هذا الأسلوب هو أسلوب كل من يتصدى لملأ فراغ لا يستطيع ملأه، سواء كتب في الصحافة أو في غير الصحافة، وعاد الشيخ المنفلوطي فقال: إن فلانا - يعنيني - لا يحسب من الصحفيين؛ لأنه من الأدباء. قال الباشا: أوكذلك؟ ثم تفضل بوصف موجز لأسلوب كاتب هذه السطور ليس من حقنا نحن أن نرويه.
واستطرد الكلام إلى الإيجاز والإطناب، فقال الباشا: إن الإيجاز متعب لأنه متب يحتاج إلى تفكير وتعيين، ولكن الإطناب مريح؛ لأن القلم يسترسل فيه غير مقيد ولا ممنوع، وقص علينا قصة رجل كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بقوله: «اعذرني من التطويل فليس لدي وقت للإيجاز» وعقب عليها بقوله: إن هذا الاعتذار قد يبدو عجيبا لمن لم يمارس الكتابة، أما الذين مارسوها فهم يعلمون صعوبة الإيجاز وسهولة التطويل.
وجاء ذكر المحسنات والشغف بها فقال رحمه الله: إن المحسنات حلية، والشأن فيها كالشأن في كل حلية. ينبغي أن تكون في الكتابة بمقدار، وإلا صرفت الفكر عنها وعن الكتابة، وعندي أن المقال الذي كله محسنات، كالحلة التي كلها قصب لا تصلح للبس ولا للزينة. •••
وكنا عنده يوما وفي المجلس صروف، وحافظ، ومكرم، فجاء ذكر كتاب حديث فقال الباشا: إن عيب صاحبه كثرة الاستعارة، ثم قال ما أظن صاحبه يريد ما يقول؛ لأن الذهن الذي يملك معناه يملك عبارته بغير حاجة كثيرة إلى المجاز؟
قلت: يا باشا، إن الاستعارة ما برحت دليل الفاقة في المال واللغة.
قال: هذا معنى حسن، ولذلك أنت لا تستعير! ومضى يقول: إنني أفهم الاستعارة للتوضيح والتمكين، ولكني لا أفهم أن تكون هي قوام الكلام كله، وكل استعارة عرفت، وكثر استعمالها أصبحت كلاما واضحا، وذهبت مذهب الأفكار المحدودة؛ لأن الذهن يطلب الاستعارة ليستعين بها على التحديد، فإذا وصل إلى التحديد كان في غنى عن الاستعارة وعن المجاز؟ •••
وسألني مرة: هل تخطب يا فلان؟
قلت: قد تعودت إلقاء الدروس في التاريخ، وأدب اللغة، وفي الإلقاء شيء من الخطابة. قال: نعم، ولكن الخطابة تبادل وإلقاء الدروس يأتي من ناحية المعلم، ولا يشاركه فيه تلاميذه، إلا أن تكون مشاركتهم بسرعة الفهم وحسن الإصغاء.
وهنا ذكرت أن الرئيس كان أكثر ما يتدفق في خطبه، عندما يتعدى التبادل بينه وبين سامعيه حد الشعور إلى المجاذبة بالكلام، فإذا سئل ونوقش قليلا تفتح في القول، وأخذ من طوالع الملتفين به ما يوحي إليه فنون المقال المناسب لذلك المقام، وكان أسرع ما يكون إلى الإفاضة إذا تكلم أمامه المتكلمون، وأحسنوا التعبير والإلقاء، فإذا أجابهم بعد ذلك جمع أغراضهم كلها، وتأهب للكلام كما يتأهب الفرس الكريم للإيفاض في مجال السباق.
وقال لي وقد دخلت عليه يوما على أثر أيام توالت فيها خطبه وجهوده: أسمعنا مما عندك؟ قلت: إنما جئت أسمع من الرئيس.
قال: ولكن الرئيس يريد أن يكون اليوم سامعا! ثم ضحك وقال: لا المغني يحق له أن يطلب الطرب، ولا الخطيب يحق له أن يطلب الكلام، أليس كذلك؟ وأخذ يتحدث عن الكاتب والخطيب ومزاج كل منهما فقال: إن الكاتب تناسبه العزلة، ويخاطب قراءه من وراء حجاب، فلا يراهم ولا يرونه، أما الخطيب فالاجتماع ميدانه ولرؤيته السامعين أثر في نفسه يستجيشه ويهيب بملكته.
ثم قال: إن الكتابة أصبحت تتعبني أكثر من الكلام. قلت: يا باشا إن بياناتك خطب مكتوبة، قال: نعم. إذا أمليتها كانت كالخطب، وإذا كتبتها استحضرت موقف الخطابة.
على أن الأمر الجدير بالملاحظة في خطب الرئيس وبياناته، أنك تقرأ خطبه فتجد فيها دقة علمية لا تجدها في أقوال الخطباء، وتقرأ بياناته فتجد فيها رنة بيانية لا يعنى بها في خطبه، وتعليل ذلك عندي أن محضره المهيب الجذاب يغنيه في موقف الخطابة عن الرنة الحماسية، فيحرص على التدقيق وأنه يحب أن يودع بياناته روح الخطابة على البعد، فيكون الخطيب فيه أيقظ من الكاتب والمتحدث، فهو يعنى بالدقة حين يخطب ويعنى بالنغمة حين يكتب، أو هو خطيب في كتابته، وكاتب في خطبه، يعطي كليهما في وقته ما هو أحوج إليه من تمحيص أو تنغيم. •••
ولم يكن رحمه الله يتكلم كثيرا عن الشعر والشعراء. همس لي مرة كأنه يمزح: «كلام في سرك. أنا ليس لي الشعر» وقال مرة أخرى: «إنما أحب الشعر السهل الواضح المبين، أما الشعر الذي يحوجني إلى التنجيم فلا أستطيبه» وكان يرى أن شعر الحكمة أفضل الشعر وأعلاه، ويقرأ المتنبي ويحفظ له أبياتا كثيرة، ويستشهد بها في بعض الأحاديث، ولما لقيته آخر مرة عرض بعض ما يخشاه وكأنه لم يكن راضيا عن أناس يعملون باسمه ما لا يروقه فقال: «لو بغير الماء حلقي شرق» وكررها مرتين.
ولما كتبت الفصلين اللذين نشرا في المراجعات عن المنفلوطي، وفرقت بين الكاتب والمنشئ، ورفعت منزلة الكتاب على منزلة المنشئين، ناقشني دولته في هذا التفريق وهذه التسمية، فقال: إن الإنشاء فيما يبدو له هو أغلى من الكتابة؛ لأنه خلق وإبداع ولا يشترط في الكتابة أن تكون كذلك، فالمنشئ كاتب وزيادة، والكاتب قد يأتي بشيء من عنده وقد يأتي ببضاعة غيره، قلت: إنما عنيت يا دولة الرئيس الاصطلاح، ولم أعن الأصل في وضع اللغة، والإنشاء عندنا هو تمرين التلاميذ على صف الكلام، وتنميق الألفاظ، فهو بهذا المعنى دون الكتابة في مراتب الأدب، والذي ينشئ يحفل بلفظه وتنضيده، أما الذي يكتب فلديه معناه يفرغه في القالب الذي يؤديه، فأجاب دولته: ما أحوج الاصطلاح إذن إلى تغيير أو تفسير. •••
هذه وغيرها مما لا يحضرني الآن ملاحظات مسموعة من سعد، لو أضيفت إلى ما كتب أو ما تكلم به في هذا المعنى لاجتمع منها مذهب في الأدب، يضاف إلى مذهبه في السياسة ومشاركاته في الثقافة العامة، وهي مشاركات لا يكمل درس هذه الشخصية النادرة بغير الإحاطة بها من جميع النواحي.
النثر والشعر1
كتب الأستاذان هيكل وطه حسين في النثر والشعر العربيين، فاتفقا على أن الكتابة النثرية في هذا العصر متقدمة، آخذة بأسباب النضج والتوسع ، وأن الشعر متخلف مقصر عن مجاراة العصر، وتلبية دواعي العلم والحضارة الحديثة، وعلل الأستاذ طه هذا التخلف بكسل الأكثرين من الشعراء، وقلة إقبالهم على القراءة الصالحة، وحرصهم الشديد على مرضاة الجمهور، وأراد الأستاذ هيكل أن يجيء بأسباب أخرى لهذه العلة المتفق عليها فأتى بكلام لا نخلص منه إلى نتيجة محدودة، أو رأي ممهد للنقد والمناقشة، وقد كتب بعض الأدباء في هذا المبحث فاتفقوا أو كادوا يتفقون على سبق النثر وجمود الشعر، إلا قليلا مما استثنوه من هذه القضية العامة، وتفاوتوا في إنصاف الشعراء الذين شذوا عن ربقة الجمود، تفاوتا يرجعون فيه إلى اختلاف في الميول، واختلاف في الاطلاع، واختلاف في الفهم والأخلاق.
والحقيقة التي لا نقبل النزاع بين العارفين المنصفين، أن الكتابة النثرية في هذا العصر تخطو خطاها الواسعة إلى مدى لم يسبق للعربية به عهد على إطلاق العهود من قديم وحديث ، وستبلغ هذا المدى فتمشي جنبا إلى جنب مع الآداب المنثورة في الأمم الغربية المتقدمة وتشترك بنصيبها في الثقافة الإنسانية التي يحمل أمانتها المتمدنون، وهي قد بلغت إلى اليوم في بعض الأبواب منزلة تضارع ما عند الغربيين من أمثالها، وتدخل في مضمارها برأس مرفوع وأمل وثيق، ولم تتوان في الأبواب الأخرى عن شأو الغربيين إلا في انتظار العوامل الاجتماعية التي أنشأت بيننا وبينهم فروقا تتناول الآداب والمعيشة والعرف، وسائر ما يختلف به الغرب من الشرق ولا يقتصر على الكتابة والكتاب.
هذا بالقياس إلى الآداب الحديثة في أوربا أما إذا قسنا الكتابة العربية في عهدنا هذا إلى أدوارها السالفة فهي اليوم في مكان أعلى من أن يقابل بأرفع مكان بلغته في الزمن القديم، وهي سواء نظرنا إلى عدد الكتاب، أو إلى موضوعاتها الكثيرة، أو إلى سعة المفردات أو إلى صحة التعبير، قد أدركت حظا من كل هذا لم تدركه في زمن الجاهلية، ولا في زمن المخضرمين ولا في زمن المحدثين، ومن شاء أن يتثبت من ذلك فله أن يختار خمسين سنة تبتدئ بأي عهد يختاره في تاريخ الآداب العربية، ثم يحصي من فيها من الكتاب عددا وقدرا ويقابلهم بكتاب العربية في نصف القرن الذي ينتهي بسنتنا هذه، ونحن زعيمون له أن يجد إلى جانب كل أديب في العهد السالف خمسة من أمثاله، أو أكثر بين كتاب العهد الحديث، وأن يجد إلى جانب كل صفحة ينتخبها للأولين صفحات تضارعها وترجح عليها في كتابات الآخرين، وأن يجد بعد هذا وذاك فنونا من القول لم يطرقها كتاب العربية السابقون، ومناهج من البلاغة لم تتفتح لإمام منهم ولا مأموم، وهذه مقابلة عملية لا تكثر فيهل اللجاجة، ولا تتشعب فيها الظنون، فمن شاءها فليحاولها ونحن على اليقين الأيقن أنه لا يبدأ المحاولة إلا انتهى إلى حيث نحن منتهون.
ولقد كان من دأب العرب أن يتعلقوا بالقديم ويفضلوا كل ميت على كل حي؛ لأنهم قبائل بادية والقبائل من دأبها أن تعتز بالنسب، وتدل بالعصبية، وتجعل قبلتها إلى الماضي الذي يجيئها منه الفخر والتراث المذخور، ثم نزلت بالأمم العربية آفة الشيخوخة وهي - أي الشيخوخة - موكلة أيضا بما سبق لا تزال تحن إلى ما كان، وتنفر مما يكون، وتذكر ما حولها بالتنقص والزراية، وتذكر ما غبر عليها بالعجب الأسف، فاجتمع هذان السببان على إخفاء تلك الحقيقة التي نقررها وهي ارتقاء اللغة بيننا وعلوها على ما بلغت إليه في جميع أدوارها البائدة، وشاعت سخافة التقديس والتطويب للماضي حتى رأينا من نقاد العرب المعول عليهم من يقول عن هذا الشاعر أو ذاك: لو تقدم في الجاهلية يوما واحدا لفضلته على جميع الشعراء! وظهر في أيامنا من ينوح على العرب ويندب لغة العرب، ولو رفعت طباق الموت والجهل عن أولئك العرب لرقصوا في أجداثهم فرحا، وحمدوا الله على أن قيض للغتهم التي نشأت على موات الصحراء ميادين تحسب فيها من لغات الحضارة والحياة، ويكتب فيها ما يكتب اليوم من ضروب المعرفة وفنون التعبير، فليس يليق بنا في القرن العشرين وفي دور النهضة والرجاء أن نعبد الماضي وندين بالشيخوخة، ونستدبر الدنيا الشاخصة إلى الأمام لننظر إلى الوراء ونتمرغ بين القبور، وإنما يليق بنا أن نؤم المستقبل، وندين بالفتوة، ونفني القرون الخيالية فينا فلا نفنى نحن في غبار تلك القرون.
بقي أن نعرف لماذا تقدم النثر وتخلف الشعر، أو حيل ما بين الناهض منه وبين حقه من الفهم والذيوع؟ والأستاذ طه حسين يعلل ذلك بأن الكتاب يطلعون ويجدون فيما يكتبون، وأن الأكثرين من الشعراء يقنعون بجهلهم، ويعطلون عقولهم لقلة من يتقاضاهم الدرس والتفكير، وأنا ممن يفرضون القراءة والتفكير على الشعراء، ولا يؤمنون بشاعر عظيم لا تستخرج من شعره فلسفة جامعة للحياة، فليس الشعر خيالا محضا كما يزعمون، ولا هو بطلاء مزركش لا عمق له من البديهة والفهم الأصيل، وإنما الشعر إحساس وبداهة وفطنة و«إن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها للفلسفة، والشعر مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير، فلا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف، فلا نعلم فيلسوفا واحدا حقيقا بهذا الاسم كان خلوا من السليقة الشعرية، ولا شاعرا يوصف بالعظمة كان خلوا من الفكر الفلسفي، وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ إنما المفهوم المعهود أن شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية، ورسل الحقائق والمذاهب في كل عصر نبغوا فيه، فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفيه ولا يغض منه مكانهم في تواريخ الآداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح الأذواق، وتقويم الأخلاق، لا تضيع سدى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم الخيالية» وهذا ما كتبته في صدر الكلام عن فلسفة المتنبي وما أود أن يتقرر بالشرح والتكرير.
ولكننا لا بد أن نسأل بعد هذا التفريق: لماذا يطلع الكتاب ولا يطلع الشعراء؟ لماذا يكسل الناظم ولا يكسل الناثر؟ أو لماذا يقنع القراء بالسفساف من شعرائهم، ولا يزالون يطمعون في الكمال من كتابهم؟ نظن نحن أن هذا الفارق بين النثر والشعر راجع إلى عوامل كثيرة بعضها عالمي تشترك فيه جميع الأمم، وبعضها مصري يخصنا نحن المصريين دون عامة الأمم الغربية والشرقية، وبعضها شخصي مقصور على أشخاص الشعراء الذين يجمدون على القديم ويعجزون عن التجديد.
فأما العوامل العالمية التي تشترك فيها جميع الأمم فذلك أن الشعر تطلبه العاطفة، وأكثر ما تدور العاطفة على الحب أو النخوة، وقد شغلت هذه العاطفة في العصور الحديثة بشيء غير الشعر يشبهه في إثارة الإحساس، ولا يشبهه في التهذيب وتغذية الوجدان، شغلت العاطفة الشعرية بالصور المتحركة، والروايات المجونية، وأخبار الصحف، ومناوشات السياسة، فجارت هذه البدع كلها على جمهور الشاعر الذي كان يصغي إليه وحده ليستمع منه نغمات الحب، وخفقات القلوب، وسورات النخوة والحمية، وأصبحت البطولة اليوم للصوص والعمالقة الذين يظهرون على لوحات الصور المتحركة، بعد أن كانت لأبطال القصائد وفرسان الأناشيد، وانتقلت المساجلات الغرامية اليوم من عرائس الغزل وشهداء الأغاني إلى فلان وفلانة من رجال الروايات ونسائها، وعارضي أنفسهم وأنفسهن على مسارح اللهو في كل مساء وكل بلدة، وفشت مع هذه البدع روح الفردية التي قطعت أرحام المودة، وروح الاستخفاف التي كشفت الإنسان فحرمته من رهبة الأسرار، وهيبة القداسة، وروح المال التي حصرت علاقات الناس في الأرقام الحسابية، والمنافع القريبة، فكان من ذلك كله جنايات متلاحقات على الشعر، وعلى موضوع الشعر لم يسلم منها بلد، ولم يفلت منها لسان.
وأما العوالم المصرية فجميعها مما ينزل بقدر الشاعر، ولا يطمع الناس في الشيء الكثير منه، حسبه أن يهذر ليعجب، أو يجتنب الجد ليكون في ميدانه؛ لأن الشاعر كما عرفناه في الجيل الماضي نديم مجالس وطالب قوت يلتسمه بالمدح والهجاء، والتزلف والرياء، ولم يكن لنا تراث قديم من القصائد المقدسة ورثناه عن عهد الفراعنة، فكنا نقرن الشعر بذكريات ذلك المجد التليد، ونرفع الشاعر إلى مكان الوحي والكهانة، وسبب ذلك كما ذكرناه ببعض التفصيل في مقالاتنا عن «الشعر في مصر» أن الكهانة الفرعونية استأثرت بالوحي وتقديس البطولة؛ لأنها نشأت في ظل دولة قوية عريقة فلم تترك معها متنفسا لوحي الشعر، ومناجاة البطولة الشعبية، وانحصر النظم في أغراض صغيرة قلما ترتفع إلى سمائه العالية الرحيبة، فلا تاريخنا القديم ولا تاريخنا الحديث يرفعان الشعر إلى المقام الذي نريده له اليوم، وهو مقام الإلهام والإلهية ومقام الرسول الذي يفضي إلى الناس بأسرار الحياة وعجائب الطبيعة، وإذا أنت هبطت بموضع إنسان ولم تنتظر عنده الشيء الكثير فقد أعفيته من الكلفة، وأرحته من كل عناء، ناهيك بعناء الدرس والثقافة! وهذه هي الآفة المصرية الخاصة التي نرجو أن ننجو منها؛ لنعلم أننا نجد ونعلو إلى مقام الصلاة حين نقرأ الشعر، ونستطلع إلهامه، ولسنا نلهو أو نعبث بنديم مجلس لا شأن له ولا وقار.
وأما العوامل الشخصية فيعرفها الذين يعرفون أشخاص شعرائنا الجامدين ووسائلهم التي يتوسلون بها إلى خداع الجمهور القارئ، وإسكات الناقدين! فلولا الرشوة والدسائس الخبيثة لما انساقت الصحافة في تيار الخداع والتستر، ولا ضربت الغفلة المدبرة على أنظار سواد القراء، ولولا أن أناسا قليلين استطاعوا أن يفكوا عنهم قيود الرشوة فحطموا هذا الرصد الكاذب القائم على الكهف الأجوف من ورائه لبقي الناس مخدوعين فيه إلى أن يشاء الله.
هذه عوامل شتى من شئون العالم وشئون مصر وشئون الجامدين المدلسين تصطف كلها في وجه كل شاعر مصري يسمو بالشعر إلى مكانه، ويبرئ الأدب عما يشينه، فهو يأتي حين يفلح بالمعجزة القاهرة، ويولي حين يخفق بعذر لا يجهله من يريد أن يعرفه، ولا نظن شاعرا في أمم الأرض تجرد لعمل أصعب مراسا، وأقل فائدة من عمل الشاعر المصري المجدد في هذا الزمن النثري في كل شيء.
كلمة عن الأستاذ الزهاوي1
جاءني الخطاب الآتي من صاحب الإمضاء بتونس. قال كاتبه الأديب بعد ديباجة التعارف:
أما الآن فبقيامكم ضد الثرثارين، وتقويضكم لبناء ما كانوا يحسبونه آثارا أدبية، وإماطتكم اللثام من كل من كنا نعدهم من الشعراء الفحول، والكتاب المبرزين، قد أسفرت النتيجة عن تجدد حقيقي في اللغة والأدب، إذ أدركوا ما ترمون إليه في انتقاداتكم فيهبوا يتبارون فيه جاهدين قرائحهم، وصارفين مهجهم نحو «الحياة» نحو «الجمال» نحو «المثل العليا» تلكم الكلمات الحية التي ما وجهت طرفي نحو أي سطر من فصولكم ومطالعاتكم ومراجعاتكم ونحو أية صفحة مما تكتبون إلا عثرت عليها ، ولصرف مهجتكم إلى هذه المطالب ونقدكم الصحيح الخالص من الأغراض وسعيكم وراء الحقيقة رضي القوم أم غضبوا أتيت أعرض عليكم كلمة في رفيق صباي ومربي روحي راجيا منكم التفضل بإبداء رأيكم فيه، ولكم الشكر الجزيل سلفا؛ لأن كل هاتيكم الخلال جعلتني كما جعلت غيري يعتبرون قولكم الفصل فيمن تكتبون له أو عليه.
ذلكم الرفيق يا سيدي، هو فخر العراق كما تقولون جميل صدقي الزهاوي، فقد عرفته منذ دخلت المدرسة، وولعت بديوانه حتى إنني كدت أن أحفظه نثرا ونظما فمن نزعته في الشعر إلى قوله في القبر:
ولست بمسئول إذ ما سكنته
أكنت عبدت الله قبلا أم اللاتا
إلى قوله في مهاجميه:
يا قوم مهلا مسلم أنا مثلكم
الله ثم الله في تكفيري
وعندما أسأم استمرار قراءتي فيه أعمد بعد تحضير واجباتي المدرسية إلى مطالعة أحد الدواوين، فأرى نفسي كأنني انتقلت من روضة حافلة بالأزهار من كل صنف، زاهية بالماء الزلال الجاري و«الهزار» على أغصان أشجارها، يشدو بنغماته العذبة الشجية إلى أرض قاحلة لا ماء فيها ولا شجر ولا هزار، فلا ألبث أعود إلى ديواني الأول، وشغفي به يزداد كلما رأيته سابقا وغيره لاحقا، وهكذا.
وما أقوله لكم في ديوانه، أقوله لكم في مباحثه التي تنشر في الهلال، حتى إنني إذا لم أجد فيه فصلا من فصول جميل انقبضت نفسي لذلكم كثيرا، وإذا رأيت فيه مبحثا له قدمته على سائر الموضوعات فقرأته، وأعدته المرار العديدة حتى تعلق بذهني جمل منه، ومن الجمل أفكار ومن الأفكار مناقشة تنتهي بي إلى قضاء جزء كبير من أوقاتي معه، وحمادى القول إن السيد جميل لهو أحق بالنقد من سواه، وبمن يظهر آثاره الأدبية والفلسفية، وهذا لا يتصدى للبحث فيه إلا أمثالكم الذين يقدرون الأدب حق قدره. إذ من العار أن نبقى كما قال فيلسوف العراق لا نعرف قيمة للأديب في قطرنا إلا بعد مماته:
من بعد ما في قبره
أوصاله تتبعثر
ماذا من التكريم ير
جو ميت لا يشعر ... هذا، وإنني أعتذر إلى سيدي الأستاذ من تجرئي على مكاتبته، إذ لست ممن يراسلون أمثاله، ولولا إعجابي بجميل صدقي الزهاوي، وحبي لناقد خبير ينشر للقراء آراءه، ويبين لهم فجها من ناضجها، ما تسرعت في المراسلة أترجى ما يقال في فخر العراق وعنه.
عبد القادر بن خليفة بن ميلاد
جاءني هذا الخطاب من شهر مضى وفيه غير ما نشرت هنا، كلام مسهب في مثل هذا المعنى ولواحقه، فتوسمت من لهجته وخلوص إعجابه أدبا جما ونفسا مستشرقة إلى الحقيقة، وهممت أن أجيبه إلى رغبته ولكنني ترددت؛ لأنني أعلم أنني أستطيع أن أتبسط في شرح كل رأي أراه في الأدب والشعر، دون أن أعرض للأستاذ الزهاوي نقدا أو تحبيذا وخلافا أو وفاقا؛ ولأنني أوقر هذا الباحث الفاضل وأعرف استقلال فكره واستقامة منطقه وجرأته في جهاده وغبنه بين قومه، فلا أحب أن أقول فيه لغير ضرورة من ضرورات البحث مقالا لا يوائم ذلك التوقير ولا يناسب ما له عندي من القدر والرعاية، ثم عن لي أن في الكلام عليه مجالا لكلمة أخرى تقال عن التفريق بين الملكة العلمية والملكة الشعرية، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم، لا ضير منها على أحد عامة ولا على الأستاذ الزهاوي ومن يعجبون به خاصة، إذ هو ممن يقال فيهم قول حق لا يغضب الطبيعة القوية، والنفس المروضة، والضمير الواثق من قصده وعمله، فكتبت هذا الفصل الموجز آملا أن أجيء فيه بحقيقة تسوغ المساس برجل لا أحب أن أمسه بغير ما يرضيه. •••
أول كتاب قرأت للزهاوي كان كتاب الكائنات أو رسالة الكائنات؛ لأنها عجالة مختصرة من القطع الصغير، وكان ذلك قبل عشرين سنة أو نحو ذلك وأنا يومئذ كثير الاشتغال بما وراء الطبيعة وحقائق الموت والحياة، ومباحث الدين والفلسفة. فراقني من الرسالة سداد النظر، وقرب المأخذ، ووضوح التفكير، والجرأة على العقائد الموروثة مع ما في ختام الرسالة من اعتذار لا يخفي ما وراءه، ولا يغير رأي القارئ فيما تقدمه، وكنت كلما عاودتها تبينت فيها منطقا صحيحا يذكر القارئ بإشارات ابن سينا ونجاته، ويزيد عليهما بالجلاء والترتيب، ثم قرأت للزهاوي شعرا ونثرا وآراء في العلم والاجتماع، تدل على اضطلاع واستقلال ونزعة إلى الثقة والابتكار، وكان آخر ما قرأت له رسالة «المجمل مما أرى» ثم شعر ينشره في الصحف المصرية من حين إلى حين.
هل الزهاوي شاعر أو عالم أو فيلسوف؟ إن آثاره في الشعر والنثر تدعوك إلى هذا السؤال، فمباحثه مما يتناوله الفيلسوف والعالم، ونظمه يسلكه بين طلاب المقاصد الشعرية، وقد يختلف جواب الناس على السؤال الذي سألناه فيعده بعضهم من الفلاسفة، وبعضهم من الشعراء، ويميل به بعضهم إلى فريق العلماء، أما أنا فرأيي فيه أنه صاحب ملكة علمية تطرق الفلسفة، وتنظم الشعر بأداء العلم، ووسائل العلماء.
الشاعر صاحب خيال وعاطفة، والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحساب مع المجهول، والعالم صاحب منطق وتحليل، وحساب مع هذه الأشياء التي يحسها ويدركها، أو يمكن أن تحس وتدرك بالعيان وما يشبه العيان، فإذا قرأت مباحث الزهاوي برزت لك ملكته المنطقية لا حجاب عليها، ولمست في آرائه مواطن التحليل والتعليل، ولكنك تضل فيها الخيال كثيرا والعاطفة أحيانا، وتلتفت إلى البديهة فإذا هي محدودة في أعماقها وأعاليها بسدود من الحس والمنطق لا تخلى لها مطالع الأفق، ولا مسارب الأغوار، فهو يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس وتغشيها سحب النهار، ولا تنطبق فيها الأجفان، ولا تتناجى فيها الأحلام وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا وشمسا، ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء! وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل، ثم جاء العقل ليتممها ويأخذ منهما لا ليلغيهما، ويصم دونهما أذنيه، فأما الزهاوي فهو يحاول أن يلغي الخيال والبداهة، ويظن أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا بعقله ولا يهتدي إلى الطريق المفطور إلا بعقله، وليس هذا بصحيح في حكم العقل نفسه، إذا أنصف العقل ووفى لمنشأه الأول وقصارى مطمحه الأخير.
إن كل منطق لا يكون صحيحا إلا إذا دخل في حسابه أمران محيطان بنا متغلغلان فينا لا مهرب منهما ولا روغان. نعني بهذين الأمرين «المجهول» أولا و«العاطفة» ثانيا، فهما راصدان لكل قضية منطقية يهدمانها هدما، ما لم يكن لهما في زواياها مكان مقدور، فالعالم لا شأن له بالمجهول وليس له شأن كبير بالعاطفة كما يحسها الشعراء، وهو إذا أراد حصر نفسه في معمله وخرج منه بنتيجة علمية لا غبار عليها من ناحية النقد والاستقراء، ولكن الفيلسوف إذا خرج إلى دنيا لا مجهول فيها ولا عاطفة توحي إليها، إنما يخرج إلى دنيا غير دنيانا هذه، وإنما يأتي لنا بفلسفة خليقة بعالم آخر غير عالمنا الذي يحيط به مجهوله، وتعمل فيه عواطفه، وقد يصيب بمنطقه هذا في حقائق الأرقام والإحصاءات، ولكنه لا يصيب به في معاني الشعور وأسرار الحياة، إذ كيف يحسب حسابا لهذه المعاني والأسرار، وهو لا يحسها ولا ينقاد لدافعها؟ وكيف يصيب في المباحث النفسية وهو لا يحسب حسابا لتلك المعاني والأسرار؟
من منا يكون محبا معقولا مطابقا للمنطق، إذا هو نظر إلى حبيبه بالعين التي يراه بها جميع الناس؟ إن نظرك إليه قد يكون معقولا مطابقا للمنطق إذا نظرت إليه بتلك العين التي يراه بها من لا يحبونه ولا يؤثرونه على سواه، ولكنك أنت نفسك - أنت الناظر - لا تكون «محبا منطقيا» موافقا للمعقول والمعلوم من شئون المحبين حين تتساوى أنت وسائر الناس في الإعجاب بحبيبك؛ لأن المحب المعقول هو الذي يرى حبيبه بعين لا يراه بها الآخرون، وكذلك الحياة قد تكون أنت منطقيا إذا عرفتها بالعقل وحده كما يعرفها غير الأحياء لو كان غير الأحياء يعرفون الحياة، ولكنك لا تكون «حيا منطقيا» إذا أنت لم تعرفها كما يعرفها كل حي مخدوع بها غارق في غمرة عواطفها وأشجانها، فكن لنا حيا منطقيا أو أنت إذن إنسان لا يعنينا رأيه في الحياة؛ لأنه ليس منها بمكان قريب أو على اتصال وثيق.
والزهاوي تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول - بالمنطق - أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فهو يقول: «في المجمل مما أرى أن مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في أصلها إلا قوة، وأن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى يحتوي على عدد غير متناه من العوالم النجمية، وأن في كثير من هذه العوالم نظاما مثل نظامنا الشمسي، وأن في ذلك النظام أرضا مثل أرضنا وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن محدود ثم يختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانا مثلي وآخر مثلك وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم فيها ما جرى لهم في هذه تماما.
وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم وبعضها في بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا فهو يولد في غيرها من جديد من نفس آبائه الذين ولد في أرضه هذه منهم، وإذ إن هذه الأرضين لا تتناهى فكل فرد من الناس غير متناهي العدد غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالا في هذا الكون اللامتناهي، وأن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدا إذا كان هنا شقيا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا ونتولد منهم كما تولدنا، ونموت كما في هذه المرة، وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى الأبد. ... ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار، وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره الأولى؟ فأجيب إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى، فهو مثل العلم بالذكر وكفى به نفعا أنه يظان الإنسان أن موته موقت ليس أبديا، وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة. الأول أن العالم بما فيه من الأجرام غير متناه، والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم بل ينحل تركيبه، وينحل إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكون مادة بعد تطورات متعددة ثم ينحل، ثم يتركب إلى ما لا يتناهى، والثالث أن جواهر كل جرم من الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن يوجد جرم واحد غير متناهي السعة، والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على أشكال متناهية؛ لأن جواهرها متناهية وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر فهو كغيره من الأشكال يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر أيضا يعود بشكله وعقله، وإلا لم يكن الدور تاما والعالم أجمع تابع لهذا الناموس الدوري الأعظم.»
هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ الزهاوي في رسالته «المجمل مما أرى»، فالمنطق هنا يتكلم ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه يستلزم الدور ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى والحركات لا تتناهى والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار فيما يلي أو فيما سبق قبل الآن، يجب أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان لأن لا نهاية الفضاء موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها الذي هي فيه؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررا على هذه الأرض بعينها، فلماذا نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟ •••
ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ الزهاوي صاحب ملكة علمية رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعر، فمن ينشده فلينشد عالما ينظم أو يجنح إلى الفلسفة فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان.
البطولة1
على ذكر سعد
من هو البطل؟! لا نريد أن نستوحي جواب هذا السؤال من أقوال المؤرخين وعلماء النفس ورجال المعرفة والأدب، وإنما نريد أن نستمع إلى أقوال العامة الذين يحسون البطولة، ويؤمنون بها ولا يقرءون الكتب أو يبحثون في موضوعاتها، فإذا سألت هؤلاء من هو البطل؟! فيغلب أن تسمع منهم جوابا واحدا هو أشبع الأجوبة وأخطؤها، أو هو خطأ لأنه يصف لك البطولة من ناحية بارزة فيها كدأب العامة ومن لا يتكلفون النقد والمقابلة، ثم هو يدع نواحيها الأخرى ومراميها فلا يبقي لها بالا ولا يظن أن لها شأنا في تقدير البطولة و«تكوين» الأبطال، ذلك الجواب الشائع الخاطئ هو أن البطل من لا يخاف، وفلان بطل عندهم؛ أي إنه مقتحم هجام لا يبالي العواقب، ولا يرتدع عند خطر، وتلك الصفة الغالبة للبطولة في رأي الأكثرين.
أما أن البطل شجاع فهذا صحيح لا غبار عليه، وأما أنه لا يخاف فهنا موضع النظر والتأمل؛ لأن الشجاعة ليست هي عدم الخوف وإنما هي التغلب على الخوف، وليست هي نقيض العقل والحكمة وإنما هي نقيض الجبن والضعف، فرب رجل لا يبالي الخطر يكون اقتحامه جهلا بالخطر وغفلة عن العواقب، ويشبه في هجومه على الأمور حيوانا يثب على فريسته كما يندفع الحجر ألقت به يد قوية فهو لا يملك الجمود في مكانه، وإنما الشجاعة الإنسانية التي تشرف هذا الإنسان وترفعه إلى مقام البطولة هي أن تعرف الخوف ثم تكون أنت أكبر منه وأقوى من أن تستكين له وتنكل عن قصدك لأجله، فالبطل يخاف ولكنه لا يستسلم لخوفه، وربما كان في إقدامه ضرب من الخوف أعلى من هذا الذي يفهمه السواد، كخوف الضمير أو خوف الصغر في نظر نفسه، أو خوف العار على الأقل وهو ضرب نبيل شائع بين الناس أكثر من شيوع خوف الضمير، أو خوف حساب الإنسان لنفسه.
قد تسمع جوابا آخر على سؤالك من سواد الناس وأشباه السواد، فيقولون لك: إن البطل هو من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، ويكونون أيضا على صواب في هذا الجواب من ناحية واحدة وعلى خطأ كثير من نواحي عدة. إذ البطل قد ينهزم كثيرا في ميدان جهاده بل هو قد يؤثر الهزيمة أحيانا على الظفر؛ لأنه لا يحارب بكل سلاح ولا ينشد كل غاية، وليس من النادر بين الأبطال من ماتوا مهزومين في عصرهم وغالبهم أناس دونهم في العظمة والبطولة أو ليسوا من العظمة والبطولة على شيء؛ وكأي من هزيمة هي أشرف من نصر يجيء بذميم الوسائل وحقيرها، ويكون محصورا موقوتا لا نفع فيه لأحد ولا أثر له بعد حينه، ولعل الأصح هنا أن يقال: إن البطل من يغلب نفسه ويقوى على شهواته، لا من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، فإذا وقف البطل بين فتنة الطمع والغواية، وفتنة الحرب والسطوة، فخطر الأولى عليه أكبر من خطر الثانية، وحاجته إلى البطولة التي يقمع بها قسوة نفسه أعظم من حاجته إلى البطولة التي يصرع بها قوة خصمه، فليست الغلبة في كل حال هي شأن البطل، وإنما تطلب منه الغلبة على النفس أحيانا، كما تطلب منه الغلبة على الخصوم.
أوسع من هؤلاء نظرا وأرفع نفوسا من يصفون البطولة بصفة غير الاقتحام والغلبة، وهي صفة الإيثار وقلة الحرص والأنانية، ولكننا نحب أن نقول هنا: إن الأثرة والإيثار خلتان تلتقيان كثيرا في أجواء العظمة وميادين «المصالح الكبيرة»، فمن الإيثار في هذه الأجواء والميادين ما هو أثرة بارزة، ومن الأثرة ما هو إيثار محمود. وصاحب الشريعة الذي يفرض على الإنسان أن يؤمن بشرعه أو لا يرى له حقا في الحياة ماذا تسمى فريضته تلك إلا أنانية لا أنانية بعدها، وأثرة تفوق كل أثرة؟ تسميها أنانية وأثرة بلا مراء، ولكنك لا يسعك أن تفرق بينها وبين الإيثار في سبيلها، ولا تدري كيف يكون هذا الرجل مؤثرا أو غير مستأثر إذا هو أراد أن يكون، والعظيم - مذ كان عمله يتناول الأمة بأسرها أو يتناول الدنيا بجملتها - يخدم الناس ويبرهم ويؤثرهم على نفسه حين يخدم وطره، ويحرص على إنجاز عمله، فالأنانية هنا قوة تلهب الغيرة في قلب العظيم لمنفعة الناس لا لمنفعته، وهي خديعة طبيعية تخدعه بها الفطرة كما تخدع الأحياء باللذة التي يجدونها في تخليد النوع وحفظه من الفناء، ولو أنك فرضت على العظيم الذي هذا خلته أن يصبح أنانيا بغير هذه الأنانية النافعة، لما استطاع ولا قدر على أن ينصف نفسه من تلك القوة التي تسخره وتوهمه أنها تأجره على ما يعمل ولا أجر له على هذا العناء، ولو جردته من هذا الخلق لجردته من شيء يتعبه هو وينفع الآخرين وبلغته الراحة التي كانت تعز عليه وحرمت الناس جهده ونصبه الذي كانوا ينعمون به؛ ولسنا نقول: إن الفرق معدوم بين الأنانية والإيثار في الأبطال والعظماء، فإن من هؤلاء أناسا يوصفون بهذه الخلة وأناسا يوصفون بتلك، ومنهم أناس إذا تعارضت الدوافع الذاتية والدوافع الغيرية اختلف المسلك بينهما على حسب اختلافهم في الطبائع والميول، ولكنا نقول: إن الأنانية لا تحرم البطل بطولته إذا نزل بها في ميدان العمل الكبير ومستبق الهمم الجسام.
وربما قيل بعد هذا: إن البطولة إذن هي العمل الكبير الذي يغير صفحة التاريخ ويحول مجرى الحوادث، ويكون له دوي على رأي أبي الطيب كتداول الأنامل العشر في الآذان، نقول «لا» مرة أخرى؛ لأن هذا الخلط بين العظمة والبطولة وهما غير سواء في العالم والسمات، فقد يكون الرجل عظيما وليس هو ببطل، وقد يكون بطلا صغيرا لا ينعت بالعظيم، وتيمورلنك قد غير صفحة التاريخ، وحول مجرى الحوادث، بل نعتقد نحن أن له فضلا على حضارة اليوم لعلنا كنا فاقديه لو لم يظهر لغاراته أثر في الوجود، فهو الذي أجلى الترك عن بلادهم وهو الذي جر بذلك إلى فتح القسطنطينية، فانتشار النهضة، فالتماس المسالك إلى الهند حول إفريقية فتسابق الأمم في العلم والسياحة، وفنون الحرب والسلام، فهو ذو حصة في حضارة اليوم ترجح على حصص الكثيرين من ذوي الشهرة بالخير والسمعة بالتعمير، ولكن هل ننظم تيمور لنك في أبطال الإنسانية لأنه عظيم الجهود أو عظيم الأثر في الدنيا؟ كلا، فقد يعد الرجل في العظماء ولكنه لا يعد في الأبطال، ولا خطر لأحد أن يعده في هؤلاء.
وها نحن قد رأينا أن الشجاعة وحدها لا تهم في تكميل البطولة، وإنما الذي يهم هو غرض الشجاعة، وأن الغلبة كذلك لا تشهد بالبطولة، وإنما الذي يشهد لها الميدان الذي يحرز فيه الغلبة، وأن الأنانية لا تنقض البطولة؛ لأنك قد تجعل الخير مطلبا أنانيا فأنت إذن خادم نفسك وخادم الناس من طريق نفسك، وأن العظمة ليست هي البطولة؛ لأن العظمة صفة مشاعة بين الخير والشر والنفع والإيذاء، فخلاصة ما تقدم أن للبطولة سبيلا هو ذاك الذي يعنينا منها وذاك الذي يميزها من العظمة والإيثار والغلبة والشجاعة، وكأننا نقول بعد هذا: إن البطولة هي التضحية ثم إنها هي التضحية في سبيل الآخرين.
إن البطولة والاستشهاد بمعنى واحد، فإذا قيل لك: إن فلانا بطل فاسأل هل هو شهيد؟ فإذا سمعت نعم فهو البطل عظم أو صغر، وإلا فاختر له صفة غيرها؛ لأن الشهادة عنصر لا تقوم بطولة بغيره، وليست البطولة على هذا بالشيء النادر بين الناس، فإن كل إنسان بطل في صفة من صفاته وفي ساعة من ساعاته، فالأم التي تسهر الليل وتضني وتهلك وتصبر على الشظف والهوان؛ من أجل ذلك المخلوق الضعيف الذي تسميه ابنها، والذي يجهلها ولا يجزيها ولا يدفع عنها ولا عن نفسه هي آية بطولة كريمة، ومثل تخر له الجباه وتسخو له النفوس بالعطف والتنزيه، ولكنه بعد مثل قديم مشترك بين جميع الناس، بل مشترك بين جميع الأحياء لا فضل فيه لمخلوق على مخلوق، ولا لامرأة على امرأة إلا في العوارض والنوافل، والمحب الذي يشقى ليسعد حبيبه وينصب ليعلم أن في النصب راحة لمعشوقه، ويستطيب العذاب في عاطفته والشدة في خلوص طويته هو آية أخرى، ولكنه كذلك آية مشتركة لا يندر مثلها ولا تخشى الإنسانية من نفادها، والحارس الذي يستهدف للموت لينقذ قطارا يوشك أن يتردى في العطب أو مدينة يوشك أن يدهمها العدو، أو غريقا يوشك أن يلتهمه الماء هو آية أخرى أندر من ذينك المثلين، ولكنها لا يندر أن تشاهد في بعض الحيوانات الوفية، أو بعض النفوس التي لا يرجى منها خير كبير للإنسانية، والطيار الذي يغامر بالحياة في الجو العصي يذلل صعابه ويفتح فجاجه بطل يجور على نفسه ويوسع للناس آفاق الحياة، ولكنه لا يسمو إلى أفق عال من البطولة؛ لأنه إنما يغلب خوفا مألوفا في قلبه، وليس هذا الخوف بأغرب ما يتقى، ولا بأهول ما يخاف على الأبطال، فأنت ترى أن البطولة على هذا ليست من الندرة بحيث يظنها السواد، ولكنما البطولة العظيمة هي تلك المنحة النادرة بين هذه الخلائق، كندرة كل شيء عظيم، ولو لم يكن في الدنيا إلا الأبطال العظماء، لما أوجدوا عليها شيئا، وليس من حولهم من يلبي بطولتهم، ويجاوب أريحيتهم، وينجذب إلى ذلك العنصر فيهم، كما ينجذب الجرم الصغير إلى الجرم الكبير، فهذه البطولة في كل إنسان هي التي تستجيب الدعوة إذا أهيب بها وتنهض للفداء إذا أصابت من ينسيها صغائرها، ومن ثم تلك الفورات العجيبة في الشعوب تثور في أيام وتخمد في أيام أخرى، فلا يثيرها الخطر ولا المبدأ ولا الحض ولا التأنيب؛ لأنهما إنما تنتظر البطولة التي تخاطبها بلسانها فتهب من قرارات الصدور.
فالأبطال درجات والأبطال ضروب وشكول، وكما يوجد البطل الصغير والبطل الكبير، يوجد كذلك البطل الوطني والبطل الديني والبطل العالم والبطل المستكشف، وهذا الذي يعيش بين الجماهير وذاك الذي يعكف على العزلة، وذلك الذي يجوب الأرض ولا يستقر له قرار وأولئك الذين يتباينون في خصال شتى، ويختلفون بينهم اختلاف النقيض من النقيض ولا تجمعهم كلهم إلا جامعة البطولة، فلا تصدق من يقول لك: إن البطل لن يكون إلا جهما عسوفا ولا من يقول لك: إنه لن يكون إلا بشوشا صبورا، أو جادا صعيبا، أو فكها مداعبا، أو غازيا، أو مؤاسيا، أو غرا، أو داهيا، أو غير ذلك من الشرائط التي يتمحلها بعض وصاف البطولة وحاصري حدودها ومزاياها، فالحق من كل هذا أن البطولة هي الفداء، وأن البطولة العظيمة هي الفداء العظيم، وأن عنصر التضحية هو أن يكون الإنسان منظورا في خلائقه وسجاياه إلى غيره فكلما كان ذلك الغير أكبر عددا، وأشرف قدرا، وأبقى أثرا، كان عنصر التضحية أجل وأكرم وأغلى وأقوم، وكان هذا هو مناط التفاضل بين الأبطال من جميع الدرجات والشكول.
وللتضحية مقاييس أخرى في باطن النفس غير ذلك المقياس الذي يظهر في خارجها ، ويرجع فيه إلى الناس وما يصيبون من بطول البطل وجهاد الشهيد، ذلك المقياس نعرفه حين نعرف التضحية ونتفق على معناها، فهي كما نفهمها نحن الغلبة على الخوف، أو الغلبة على الأمل، والمقياس الذي يفرق بين درجاتها وشكولها هو - على هذا - المقياس الذي يفرق بين ضروب المخاوف وضروب الآمال، فمن الخوف ما يغلبه المرء ببادرة واحدة، تثب إلى رأسه فإذا ذلك الخوف صارع أو صريع، وانتهت الوقعة بهذه الوثبة الواحدة، فليس لها عليه كرة تعود، وأن الذي يبخع نفسه ليستطيع أن يثب هذه الوثبة فلا يدل على كبير شيء، ولا يكون له قسط من دعوى البطولة، وإن شبيها بهذا لمن يغلب خوف الموت مرة واحدة أو مرات بوثبة من تلكم الوثبات الفجائية أيا كان باعثها والأمل الذي وراءها، فتلك هي بطولة النوبات أو بطولة الفداء الطارئ يساور القلب في الفينة بعد الفينة، ولا يشف عن قدرة دائمة وخلق أصيل، ومن الخوف ما يطول أمده ولكنه لا يحتاج إلى قدرة عظيمة لجهاده، فهذا الخوف أو ذاك دليل على عنصر البطولة التي تغلبه، أو تروضه على الطاعة والسكوت.
وقد يعرض على الإنسان مبلغ من المال ليبيع وطنا أو عرضا أو حقا، فيجمع قوة نفسه ويقهر غواية المال وفتنة السرور واللذة، ويقول كلمته الرافضة وكأنه مغمض العينين أو في غيبوبة السكر والحمية، فضيلة هذه القوة لا تنكر ولكنها مع هذا فضيلة لها حدها وقيمتها وتعلوها ولا شك درجات كثيرة من الفضائل وقوى النفوس تعلوها مثلا تلك القوة التي تصر على الإباء، والإغواء ملح عليها والحوادث تتقلب حولها، والفاقة والغنى يتعاورانها واللين والشدة يتناوبانها، وتعلوها كل قوة مطمئنة تقهر التجارب والغوايات التي تطيف بها أبدا علها تجد عندها غرة للتطلع، أو موطنا ضعيفا للتسليم.
إن الرجال الذين يخافون على أممهم الذل ويرجون لها العزة، أو الذين يخافون على العالم قاطبة أن يرين عليه الرجس، ويرجون له الخلاص والرفعة، أو يخافون عليه الظلام والجهالة، ويرجون له النور والمعرفة، إن هؤلاء الذين يخافون ذلك الخوف، ويرجون ذلك الرجاء ثم يثبتون على محنة المطامع والآلام أعواما طوالا لا يلوي بهم جاه، ولا تقعد بهم رهبة، ولا ينسون الأمة والعالم في مآزق الهول ومدارج الغواية، أولئك هم عظماء الأبطال في تاريخ بني الإنسان وأولئك هم شرف الآدمية وعزاء الحياة، والمعنى الذي تطيب من أجله الأرض وتنظر من صوبه السماء.
ومن هؤلاء كان سعد زغلول.
الوطنية (1)1
الوطن موجود لا شك فيه، وفي العالم أوطان كثيرة وشعور حق بالوطنية لا يتوقف الاعتراف به على النفاذ إلى كنهه واستقصاء منشأه والبحث في فائدته وضرره، فمن الآن إلى أن يتفق الساسة والباحثون على معنى الوطن وحدوده، لا حاجة بنا إلى إلغاء الوطنية أو الإغضاء عن وجودها، ولا موجب لإرجاء حركة من حركاتها في انتظار تلك النتيجة التي سيتفق عليها فلاسفة السياسة والاجتماع أو لا يتفقون!
الوطن موجود الآن لا شك فيه، ولكنهم يقولون: إنه لم يكن موجودا من قديم الزمان، بل لم يكن موجودا قبل نصف قرن من الزمان، فالحقوق الوطنية وحرية الأوطان والمطالب القومية وحرمات الأقوام كل هذه وما إليها ألفاظ حديثة في معاجم المؤلفين، لا تعثر بها في كتاب قبل الثورة الفرنسية، وإذا عثرت بها في كتاب سابق للثورة، فهي كلمات عندهم لا تفيد معناها الذي اصطلحنا عليه الآن، يقولون هذا ولكنهم لا ينفون به كثيرا؛ لأن الوطنية إن هي إلا نوع من «العصبية» عرفناه بهذا الاسم في العصر الحديث، وما كانت الإنسانية قط في عصورها الماضية خلوا من بعض أنواعها بأسماء تختلف في ظواهرها، ولا تختلف في جواهرها إلا قليل اختلاف، فعصبية القبلية، وعصبية الجنس، وعصبية اللغة، وعصبية الدين، كلها دليل على أن الوطنية - من ناحية العصبية فيها - ليست بالابتكار الذي لفقه الخياليون أتباع الثورات ودعاة النهضات، ولو كان الناس يعرفون أسماء عواطفهم وغرائزهم قبل المضي فيها والانقياد لها لقلنا: إن الوطنية ينبغي أن تكون حدثا طارئا؛ لأنهم لم يسمعوا بها إلا في هذه السنين ولم يتفقوا بعد على ما تعنيه وما لا تعنيه؛ ولكن الناس لم يتفقوا قط على جامعة من الجامعات الأولى التي سيرت حشودهم، وأقامت دولهم، وقلبت أطوارهم، ولم يتعودوا أن يفرزوا وشائج العصبيات ليعرفوا منابتها وطرائقها، قبل أن يكونوا أبناء قبيلة أو أبناء لغة أو أبناء دين أو أبناء وطن، فالأمر الذي لا شبهة فيه هو أن العصبية قديمة، وأنها لم تغب من تاريخ الإنسانية، ولم تزل هي المحور الذي تدور عليه علاقات الدول والشعوب.
كثرت بعد الحرب العظمى دعوات الوطنية، وكثرت بعدها كذلك دعوة أخرى تشكك في الوطنية وتنزع إلى توهينها وإضعاف شأنها، ولا سيما في نفوس الشعوب الطامحة إلى الحرية، هذه «الدعوة الأخرى» هي دعوة «الدولية» أو الأممية، أو هي الدعوة إلى أن تكون كل أمة وحدة في أمم كثيرة تتكافل معا في الصالح والآمال، وتنزل كل منها عن جزء من حريتها لضمان التعاون والاتفاق، والمشاهد في أمر هذه الدعوة أنها لا تروج ولا تشتد إلا من جانب الأمم التي استوفت جميع معالم الوطنية وصنوفها، ولا ينتظر من دخولها في الاتفاق إلا أن تجور على الوطنيات الأخرى، وتحد من حريتها ومطامحها، فدعاة الأممية اليوم هم أبناء الأمم الغالبة التي تستفيد كل شيء من هذه الدعوة، ولا تخسر شيئا في سبيلها، وهذه ظاهرة لا تزكي الدعوة ولا تستميل إليها المدعوين.
ومن كتاب الأمم المقتدرين في هذا العهد رامزي موير، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة منشستر، هذا الأستاذ عالم مؤرخ، ولكنه مبشر إنجليزي يسخر العلم والتاريخ في خدمة الدولة البريطانية، فأنت تقرأ كتابه عن «الوطنية والأممية»، فتحار أين هي الضحية التي تجرد بها إنجلترا على مذبح «الخلاص» المنتظر والوفاق السعيد الرشيد، فكأن بني الإنسان لم يمنحوا قسطهم من الرشاد، ولم يلهموا نزعتهم إلى الأممية إلا لتكون إنجلترا هي رأس الأمم، وهي جابية الأرض إلى موعد لا نعلم منتهاه، وقد يكون هذا هو رأي العالم الإنجليزي، ولكنه لن يكون رأي العلم ولا رأي وطنية أخرى غير وطنية الإنجليز.
يتكلم الأستاذ رامزي كلام العالم المحقق، حين يبحث في معاني الوطنية وتعريفاتها، لولا أنه اتخذ له وجهة غير وجهة العالم من مبدأ الأمر، فلم يتأد به البحث إلى النتيجة البريئة من الأهواء، ونحن نعيد استعراضه لهذه المعاني والتعريفات؛ لأنه استعراض واف لم نقرأ خيرا منه في سياقه، ولكننا لا نتخذ معه تلك الوجهة التي أملتها عليه «الوطنية» وهو يعالج أن يهون من شأنها ما استطاع! فهو يسأل: «ماذا نعني بكلمة الأمة!» ثم يجيب: «أنها كما هو ظاهر ليست الشيء الذي نعنيه بكلمة الجنس، ولا الشيء الذي نعنيه بكلمة الدولة، وقد نعرفها الآن بأنها بنية من أناس يحسون أنهم مترابطون بالطبع فيما بينهم بروابط من القوة والصدق، بحيث يعيشون معا سعداء، ويسخطون إذا فرق بينهم، ولا يطيقون الإذعان لأناس لا يشركونهم في هذه الروابط.
ولكن ما هي روابط الألفة التي لا بد منها لتكوين أمة! إن الإقامة في بقعة جغرافية ذات معالم مقصورة عليها، هي في الغالب معدودة بين تلك الروابط، ولا ريب في أن أوضح الأمم سمات ومعالم كانت لها فيما بينها وحدة جغرافية، وكان الفضل في قوميتها أكثر الأحوال لتلك الوحدة ولذلك الحب الذي يشعرون به للتربة التي درجوا عليها، ولمشاهد الطبيعة التي ألفوها. على أن الوحدة الجغرافية ليست على كل حال بالشرط الجوهري للقومية، ومن السهل أن نرى أمة مبعثرة الموطن في بقاع تختلف أشد الاختلاف كالأمة الإغريقية، وهي مع هذا على شعور قوي بالوطنية، كما أن حدود بعض الأمم ذوات النزعة الوطنية البارزة ليست بالحدود التي تميزها المعالم الأرضية، فالبولونيون مثلا، وهم أبناء أمة من أشد الأمم الأوربية غيرة على الوطن وإصرارا على الحمية الوطنية، يقيمون في أرض ليس لها معالم واضحة من أية جهة من جهاتها، والفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم نواحيه، في حين أن الوحدة الجغرافية الحقيقية على السهل المجرى الذي تحدق به مناطق الجبال، ويتخلله نظام نهري واحد لم تفلح في إنشاء وحدة قومية، فالوحدة الجغرافية ربما ساعدت على تكوين أمة، ولكنها ليست بالضرورة ولا هي بألزم عناصر القومية.
ندع هذا، ونلتفت إلى الوحدة الجنسية، فقد طالما حسبوها لازمة بل حسبوها أنها هي العنصر اللازم للقومية، ومع هذا لا نرى أمة على الأرض تخلو من مزيج الأجناس، ولم يسبق قط أن كان في الدنيا جنس - تيوتون أو سلافا أو قلتا - أفلح في ضم أفراده جميعا إلى آصرة قومية واحدة. إنما يكفي أن تنسى العناصر التي تتألف منها الأمة أصولها المختلفة، وألا يفصلهم فيما بينهم فاصل ظاهر الرسوم والسمات، أو لنا أن نقول: إن امتزاج الأجناس لا يمنع الأمة أن تنمو فيها روح قومية ما دامت أجناسها مدمجة فيها مشتركة بروابط الزواج والروابط الأخرى، وإنما يعوق الروح القومية أن يكون بين أجناس الأمة جنس يتعالى على سائرها، ويعتقد لنفسه التفوق والسيادة عليها، وأن يتمثل هذا الاعتقاد في أحكام الشريعة أو العادة. وربما كانت أجناس المجر خليقة أن تنطوي في قومية واحدة، لو لم يعتزلها المجريون من مبدأ الأمر، ويترفعوا عن رعاياهم السلافيين والرومانيين، ولقد كانت العقبة الكبرى في طريق القومية الهندية قانون الطبقات الصارم الذي أقامه الآريون حائلا بينهم وبين الاختلاط بجمهور رعاياهم، وهناك عنصر ثالث للوطنية أخطر كثيرا من عنصر الجنس وهو الوحدة اللغوية، فمما لا جدال فيه أن وحدة اللغة رابطة من أهم الروابط ولا سيما من حيث إن ملامح اللغة وشياتها لها سلطان كبير في ملامح الأفكار وشيات الميول بين الذين يتكلمون بها، فإن اللغة المشتركة معناها أيضا الآداب المشتركة، والمطامح الفكرية المشتركة، وميراث مشترك من الأغاني والقصص يتضمن الروح القومية وينفثها في كل جيل، على أن وحدة اللغة لا يلزم أن تجب الوحدة القومية، واختلاف اللغة لا يلزم أن يمنع تلك الوحدة، فاللغة الإسبانية فاشية في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، ولكن هذه البلاد قد فقدت منذ عهد طويل كل شعور يجنح بها إلى الدخول في طي القومية الإسبانية، وكذلك الأمريكيون الشماليون يتكلمون الإنجليزية وهم قومية مستقلة كل الاستقلال، وينحو الأستراليون والكنديون هذا النحو في الشعور بالقومية المستقلة، وإلى جانب هذا نرى الأيقوسيين أمة، وإن كان بعضهم يتكلم الإنجليزية، ونرى السويسريين أمة، وإن لم تكن لهم لغة خاصة ولم يزالوا موزعين بين الفرنسية والجرمانية والإيطالية، ونرى البلجيك أمة وإن كانوا يتكلمون الفلمنكية والفرنسية والجرمانية، فوحدة اللغة بهذه المثابة ليست بالضرورة لنمو القومية المحتومة، ولا هي كافية وحدها لإتمامها على كل ما لها من القوة البنائية في إنشاء الأقوام.
ولقد عدت وحدة الدين أحيانا عاملا من عوامل القومية، ورأينا أحوالا لا شك أن الدين كان فيها أحد العوامل القومية القوية، ومن هذا أن النزعة القومية في إسكتلاندة قد تعزى إلى جون نوكس أكثر من أي عامل آخر على انفراد، إلا أن الدين وحده يندر أن يخلق أمة إن لم نقل إنه لم يكن قط كافيا لخلقها، وما برح الإخفاق يصيب كل محاولة ترمي إلى بناء الوحدة السياسية على أساس الوحدة الدينية، فربما كان الأقرب أن يقال إن الشقاق الديني يعوق الألفة القومية كما حدث بين الهولنديين والبلجيكيين، إذ استحال عليهما الانضواء إلى دولة واحدة لما بينهما من اختلاف العقيدة الدينية، وإلا فإن البلجيكيين يختلفون فيما بينهم لغة وجنسا أشد من مخالفة بعضهم للهولنديين في هذه الأمور، وقد كان تفرق المذهب هو العقبة الكبرى في طريق الحركة الوطنية في أيرلندة كما كان تفرق المذهب بين الكاثوليك والمنشقين في الأمة البولونية أحد الأسباب التي هوت بتلك الأمة، بيد أن هناك أحوالا أخرى لا تقل عن هذه لم تمنع فيها الخلافات الدينية العميقة وحدة القومية، فألمانيا نصفها بروتستانتي ونصفها كاثوليكي، وإنجلترا لم تعرف وحدة الدين بعد عهد الإصلاح، وها هي الحرية الدينية الكاملة في جميع أمم الغرب تحسب اليوم من علامات الدولة المتمدنة. غير أننا لا ننسى أن الوحدة الدينية في بعض الحالات تصبح عاملا لا غنى عنه في إنشاء القومية، إذ إن المدارك الأدبية والعقيدة الأساسية عن مكان الإنسان في هذا العالم وواجباته لجيرانه، يجب أن لا تكون من التفرق بحيث يستحيل معها أو يصعب التفاهم جدا بين أبناء الأمة الواحدة، ولهذا كان الخلاف الجوهري بين نظر المسلم ونظر المسيحي في الدولة العثمانية حائلا، جعل نمو الروح القومي بين أبنائها من الأمور التي لا تحتمل الحصول. ... وكثيرا ما نجم عن طول الخضوع لحكومة وطيدة النظام - بل الخضوع حتى للحكومة لطاغية - أن تتولد الحاسة القومية، وبخاصة إذا استطاعت الحكومة أن تبني بين رعاياها نظام عدل ومساواة، يقبلونه ويدخلونه في شئونهم المعيشية، ولا نزاع في أن سيطرة الملوك النورمانيين والإنجيليين ونظام العدل العجيب الذي بسطوه بين رعاياهم كان عاملا رئيسيا في ضم الشعوب الإنجليزية، واندماجها في أمة شاعرة بالحساسة القومية، وكذلك القومية الفرنسية مدينة بمثل هذا الفضل لحكومة ملوكها المستبدين، من عهد فيليب أغسطوس فنازلا، ولم تتألف الوحدة الإسبانية إلا بفضل الملكين المستبدين شارل الخامس وفيليب الثاني، ومما يستحق التنويه أن فكرة القومية لم تسنح قط لأهل الهند، إلا بعد أن دانوا جميعا للحكومة الراسخة والإدارة القانونية المنظمة، التي جاءت مع السيطرة البريطانية، على أن مجرد الاشتراك في الحكومة بالغا ما بلغ من النظام لن يأتي بوحدة القومية، ولا بد أن يسبق ذلك عناصر أخرى وروابط طبيعية من هذا النوع أو ذاك؛ لكي تخلق مؤهلات الأمة قبل أن يتسنى للقوانين المنظمة أن تخلق فيها الوحدة.
والآن في هذه الأيام - حيث لا يزال الزي الغالب على التفكير أن نرد جميع حركات النفوس الآدمية إلى أسباب اقتصادية - نسمع أحيانا من يقول إن الاشتراك في المصالح والشواغل وما يحدثانه من تشابه النظر إلى الحياة، هو على الأقل عامل فعال في إنشاء القومية إن لم يكن هو العامل الأول والأخير فيها، ولا ننكر أن بعض الأمثلة قد يؤيد هذا الرأي في أمم صغيرة كالدنمرك وهولندا، ولكن هذا الرأي لا يثبت على الامتحان؛ لأنه لا اشتراك في المصالح الاقتصادية بين فلاح دورست والعامل في لانكشير، أو بين زارع الخمر في بروفنس والعامل في ليل. على نقيض ذلك تتصل مصلحة العامل في ليل بالألماني أكثر من اتصالها بابن بروفنس، والزارع في روسيا الشرقية هو من الوجهة الاقتصادية، أقرب إلى قريبه المنكور في بولونيا منه إلى العامل السكسوني، ولا يخفى أن سياسة الحكومة المالية ربما ساعدت على تمكين الوطنية، إلا أنها لا تنجح في ذلك إلا حيث تجري في أمة لها عهد بالوطنية المسكينة.
والمرجح عندنا أن أقوى عوامل القومية طرا - أي العامل الضروري الذي لا مناص من وجوده إذا غاب كل عامل سواه - هو الاشتراك في التراث التاريخي بين طائفة من الناس، أو الاشتراك في ذكريات آلام صبروا عليها، ومفاخر ظفروا بها ومثلوها في القصص والأناشيد، وفي الأسماء الغالية أسماء شخوص أعزاء كأنما جمعوا في أنفسهم خصال الأمة ومطامحها وما كانت وطنية الجبليين الجفاة في الصرب - وهي تلك التي لا تهدم - مدينة لشيء من الجنس واللغة والدين كما هي مدينة لذكرى استيفان دوشان المجيدة، ولذكرى كوسوفو الفاجعة والقرون الأربعة التي انقضت بعدها في رق العبودية، ولكن يحسن بنا أن نذكر هنا أن صلات كثيرة حديثة تدخل فيها الأمم بمحض اختيارنا للتعاون على غاية جليلة، ولا تقل عن تلك الصلات في التوحيد والتأليف، فإذا دخلت فيها الأمم ظهرت لها قومية كأنها فوق القومية تضمهن جميعا، ولا تمحو القوميات الأولى، ومن هذا القبيل قومية بريطانيا التي تشمل قوميات إنجلترا وويلس وإسكتلاندة وأيرلندة، ومن هذا القبيل أيضا قد تنمو - بل هي تنمو الآن - تلك القومية الأعظم الأوسع بين جميع الداخلين في الإمبراطورية البريطانية، تلفهم معا ضحاياهم المشتركة في جهادهم الأخير في سبيل الحرية.
ومن ثم؛ نرى أن الوطنية فكرة مراوغة، لا يسهل تحديدها، ولا يستطاع حصرها أو تحليلها بالصيغ التي يحبها أساتذة الألمان.»
الوطنية (2)1
اطلع القراء في العدد الماضي على كلام الأستاذ رامزي موير في الوطنية، ومعالمها، والعناصر التي تميز الأوطان وتكونها، وانتهوا من كلامه، ونحسبهم قد علموا قصده الذي ينزع إليه ولا يجاهد في كتمانه، فهو يريد أن يقول: إن الإمبراطورية البريطانية يمكن أن تصبح على تمادي الأيام وطنا جامعا لأوطان كثيرة، وإن وطنية المستقبل - لا بل الوطنية في جميع أدوارها - لا تمنع الانضواء إلى علم الإمبراطورية، والدخول في عداد شعوبها.
فإن قيل له: وكيف يتفق هذا على تباعد الديار، واعتراض الأرضين والبحار؟ جاز له أن يقول: إن الوحدة الجغرافية لم تكن قط شرطا لازما من شروط الوطنية، فإن الإغريق كانوا موزعين على أرجاء الأرض وكانوا يذكرون أوطانهم، ولا ينسون قوميتهم، وإن احتج عليه محتج باختلاف الأديان أو باختلاف اللغات أو باختلاف الأجناس، سرد له الأمم التي اشتركت في «حاسة القومية» على ما بينها من اختلاف في اللغة والدين والسلالة، أو ذكر له الحكومات التي بثت في الأمم معاني الوطنية بما شرعت لهم من القوانين العادلة، ووطدته بينهم من النظام المكن، وهكذا لا يعترض عليه معترض إلا وجد مثلا يدفع به اعتراضه، ويخرج منه على مشابهة بين الإمبراطورية وبين وطن قديم أو حديث في هذا الاعتبار أو ذاك.
كذلك شأن الوطنية في تسيير حقائق العلم والروح لأهوائها وعصبياتها، ورامزي موير مثل واحد من أمثلة هؤلاء العلماء الإنجليز الذين يوسطون العلم، ويبدءون وينتهون بالعصبية، على أنه ليس بأعجب الأمثلة التي تجلو لك هذه الخلة في قومه، فهو مؤرخ شئون حديثة والشئون الحديثة قريبة إلى مباحث السياسة ومنازعها وعاداتها في الإقناع والتفكير، فإذا رأيت له أسلوب الصحفي العامل في خدمة الإمبراطورية والدعوة إليها، فليس في هذا مناقضة كبيرة لصناعته ونوع بحثه ، أما العجيب حقا فهو أن ترى رجلا مثل أوليفر لودج يتغنى بمآثر الإمبراطورية ويعد احتلالها مصرا في صفحات المجد والفخار، فقد يصل العالم إلى هذه النتيجة من طريق درسه واستقرائه، ولكنه لا يحق له أن يقرر فيها «رأيا علميا» حتى يلم بكل ما صنعته إنجلترا لمصر قبل الاحتلال وبعد الاحتلال وحتى يسأل نفسه: هل وقفت إنجلترا في طريق الحكومة الوطنية قبل الاحتلال وحاربتها بالكيد والدسيسة لكي تعوق تقدمها أو لم تفعل؟ وهل ما عملته إنجلترا لتثقيف المصريين في مدى أربعين عاما هو كل ما يجب على طالب المجد والفخار أن يعلمه أو دون ذلك؟ وهل شجعت إنجلترا أحسن الأخلاق وأكرمها في أبناء مصر أو شجعت أخلاقا لا ترضاها في أبنائها، ولا تقابل من يتسم بها منهم بغير الذم والزراية؟ فإذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وراجع الوثائق والأسانيد التي لا بد له من مراجعتها، وقابل بين ما تم وما كان يمكن أن يتم، ووازن بين الأغراض المدعاة والأغراض الصحيحة، فله بعد ذلك أن يحكم حكمه ويفصل في الأمر، كما يفصل العالم في معضلاته، ولكن هل راجع أوليفر لودج هذه المراجع وحاسب نفسه ذلك الحساب؟ نظن أنه لم يفعل، وإنما أوليفر لودج الإنجليزي هو الذي يتكلم عنا، وليس أوليفر لودج صاحب الدقة الرياضية، والسبحات الروحية، وقائل الكلمة يزنها بميزان لا يختل قيد شعرة، ولو كان فارغا أو حائما على حواشي الفروض، فإذا كان لكل هذا دلالة نستفيدها فتلك الدلالة «العلمية» هي أن الوطنية أقوى وأعمق في الضمائر، وأعظم سلطانا على العقول، مما أراد العالم الإنجليزي أن يقول.
على أنه هب أن رامزي موير لم يكن إنجليزيا، وإنما كان روسيا أو جرمانيا يسوق آراءه في مصلحة الإمبراطورية البريطانية، فعل يدعو ذلك إلى قبول كلامه، أو هل هو خليق أن يهدينا إلى حجة في ذلك الكلام يرضاها المنصف، ويسلمها الباحث النزيه؟ كلا! فإن كلاما كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية، وتقريب الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى مستقيم. قد تقول مثلا ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ أهي اللغة؟ كلا! فإن أناسا كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون، أهي أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله، أو يقوم مقامه في حيوان، أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين، وبعض الناس يزحفون على أربع، أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقا بين دم الرجل ودم المرأة، وبين دم الشيخ ودم الصبي، وكلهم من بني الإنسان، وزد على هذا أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا؛ فإن أناسا في ذروة العظمة قد يرجح عليهم في نقاوة الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة، أهي قابلية التناسل؟ كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع واحد، وقد يعيش الرجل والمرأة معا عيشة الأزواج ولا ينسلان.
وقد تقول هذا وأشباهه في المعالم والمزايا التي تملأ الأبصار والمسامع فلا تكون إلا مقاربا لمن يقول: إن الوطنية تشبه عدم الوطنية؛ لأن هذه المزية أو تلك من مزاياها قد تنعدم في بعض الأوطان، فالحقيقة من وراء هذه الأمثلة والشكوك هي أن الوطنية وعدم الوطنية نقيضان، وأن المزايا التي توجد بها الوطنية شيء، والمزايا التي تنعدم بها شيء سواه، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون وطنيا وغير وطني في آن، فإذا كانت مزايا الوطنية لا تجتمع كلها في وقت واحد في وطن واحد فهذا هو الأمر المعهود من قديم الزمن، والأمر الذي لا غرابة فيه ولا ينتظر غيره، ولكن: هل منع ذلك أن تكون أوطان، وأن تكون غيرة على أوطان، وعداوة وصداقة في سبيل الأوطان؟ لا! لم يمنعه فيما مضى ولا هو بمانعه فيما يلي، ولا هو بمتغير في جوهره؛ لأننا عرفنا أن اللغة وحدها أو أي معلم من معالم القومية، لا يتمم القومية بجميع المعالم في جميع الأوطان.
ومهما يقل المؤرخون، فإن هناك شيئا مشتركا في كل وطن نعلمه، وهو الشعور بفخر واحد وإهانة واحدة تميز كل وطن من سواه. كيف يأتي هذا الشعور ويتغلغل في الأفراد؟ أيأتي من اللغة، أو وحدة المكان، أو اتفاق العقيدة، أو ذكريات الألم والفخار؟ هذا شيء يقع فيه الاختلاف على التحديد والتمييز، ولكنه لا ينفي الحقيقة الأولى، وهي أن الشعور موجود وإن تعددت أسبابه وعوامله، وهذا الذي يعنينا ولا يعنينا سواه.
ربما قال الباحثون: إن الأوان قد آن أو سيئون للنظر في مساوئ العصبيات، وأخطار الإحن والعداوات التي تشجر بين الأقوام والأوطان، وربما قالوا: إن تهوين هذه الفوارق ضرورة يقضي بها حب السلام وحقن الدماء، فإذا نحن لم نستغن بالعلم على كشف الضلالات والأوهام، فأي شيء يصل بنا إلى ما نريده؟ أما الذي نقوله نحن فهو أن مساوئ العصبية كمساوئ الشخصية من أكثر الوجوه، فما من جريمة أو سيئة أو رذيلة إلا ومردها إلى شعور الإنسان بشخصيته، وانقياده لدوافع الأنانية والأثرة، لكنا ننظر إلى الجانب الآخر فلا نرى فضيلة ولا مبرة ولا شهرة حسنة إلا ومردها إلى مثل ذلك، أي إلى شعور الإنسان بشخصيته وانقياده لدوافع الأنانية والأثرة، فإذا أحصينا للإنسانية حظا بلغته من فهم، أو إحساس، أو عمارة، أو حضارة، فإنما أساس ذلك كله أن كل إنسان شخص مستقل بنفسه، عامل لمنفعته، متجنب لضرره، وإذا قصد المصلحون أن يمنعوا شرور المجرمين، ومصارع النزاع بين الناس، فهم لا يمنعونهم بنسيان الشخصية والشعور بها، وإنما يمنعونها بالتوفيق بين شخصيات كثيرة، تتعدد في ظواهرها وبواطنها، ولا يحول التعدد بينها وبين التناصف ورعاية الحدود.
كذلك الوطنية إنما هي للأمم بمثابة الشخصية للأفراد - بها يناط الواجب في الحياة، وعليها تفرض الحقوق - فمن كان يبتغي عند أمة من الأمم خيرا تؤديه في هذه الدنيا، أو حصة تساهم بها في ثقافتها وعمارتها، فلن يكون ذلك إلا بشخصية قومية تفرض عليها الأعباء، وتطلب منها الحقوق، وإذا حدث في يوم من الأيام أن أمة وقفت بين واجب العصبية وواجب الفكر والحكمة: العصبية تنفخ فيها روح العزة والإباء، والفكر يميل بها إلى الخضوع والدعة فقد تستغني عن الفكر في هذا الموقف، فتكون خسارتها موقوتة، ومصابها مما يعوض بعد، ولكنها إذا استغنت عن روح العصبية ضاعت أبدا، ولم يغثها المرشدون والحكماء، وفقدت وحي الطبيعة الذي ركب في الطبائع لحفظ الأفراد والأقوام، فالفكر يهدي في الأوقات بعد الأوقات، وقد يخطئ وقد يصيب، أما الغريزة أو الفطرة فتخطئ وتصيب أيضا، ولكنها على طول الزمن طريق الهداية الذي ينتهي إلى الصواب.
ولو رددنا بني الإنسان إلى مبدأ الخليقة ليعودوا كرة أخرى مفكرين لا عصبية بينهم لاجتنبنا بعض الخسائر التي يساقون إليها مع أوطانهم وعشائرهم، ولكننا نخسر معها كل ما ربحناه الآن من تنافس الأمم، ومن فضائل النفوس التي تحفظ الناس أفرادا وجماعات، وتصم آذانهم عن خدعة الفكر المضلة في الأحايين وتعصمهم من مخاطره التي يجر إليها حب السلامة وحصر الأمر، فالفكر كالمصباح تهتدي به إلى مواقع قدميك خطوة بعد خطوة في شعب السراديب وأتياه الظلام، والأنانية الفردية أو الأنانية القومية كالحبل المشدود بين تلك الشعب يهديك إلى الوجهة في مفترق كل طريق، وقد تستغني عن المصباح إذا أخذت بالحبل المشدود وقاربت بين خطاك، أما الحبل المشدود فلا غنى لك عنه بحال.
وبالشخصية أو بالوطنية يناط أشرف أسباب الحياة، وهو الأمل في السمو والارتفاع. فما بقي للإنسان هذا الأمل فكل مفقود غيره لا يضيره، وما ضاع منه فكل موجود غيره لا يفيده. قد يفشل الفرد أو قد تنخذل الأمة، فإذا بقي لهما بعد الفشل والهزيمة أمل في الرفعة، فالهزيمة كالنصر، والضرر كالغنيمة، وقد يسلم الفرد أو قد ترغد الأمة فإذا اشتريا السلامة بفقدان الأمل في الرفعة، فتلك سلامة الذي لا يخاف على نفسه؛ لأنه أضاعها والذي لا يجشم الدفاع عن وجوده؛ لأن وجوده عالة على غيره، وتلك هي منزلة الحيوان السائم أو هي منزلة الموت إذا كان لا بد أن تكون الحياة حياة إنسان.
سأل الأستاذ الفرنسي فقيدنا سعدا، وهو يتقدم لامتحان الإجازة الحقوقية: أليس من حق الأمم الممدينة أن تستعمر السودان؛ لأن أهله لا يعمرونه، والأرض بين خلق الله يرثها الصالحون؟ سؤال لم يكن ليغيب عن سعد وجه الصواب فيه، ولم يكن ليخفى عليه أن الاستعمار قد يأتي بالخير ويجلب العمار، ولكن ترى لو بطل التنافس بين أصحاب الأوطان، ومن يطمعون فيها لتعميرها أي معنى يكون للقوة والضعف والتقدم والتخلف؟ وأين هو الحق إذا كان المغصوب لا يعارض فيه ولا يطالب بدليله؟ فحق الأستاذ الفرنسي هو حق جيل واحد وقوي وضعيف لا يتغيران، وأما حق التلميذ سعد فهو حق الأجيال كافة، وحق جميع الأقوياء والضعفاء والنظرة الضيقة هنا هي نظرة الرجل الذي يريد من الأمم الضعيفة أن تستهدي بالفكر ساعة، ولا تستهدي بوحي الفطرة في جميع الأوقات، وليست هي نظرة الرجل الذي ينظر النظرة الأولى ثم يعود إليها؛ لأنها هي النظرة الأخيرة بعد كل ما يتمحله الفكر، ويلفقه الجدل.
فإذا أردنا أن نعرف هل الأممية خير أو شر ؟ فالمحك الذي لا يكذب هو أمل الرفعة، إن كانت «الأممية» تدع للداخلين فيها أملهم في الرفعة، فهي خير لا يناقض الوطنية ولا يضير الإنسان أن يفقد في سبيله ما توجبه عليه دواعيه، أما إذا كان فرضا مقضيا على الأمم يحرمها أبدا أن تسمو إلى مقام فوق مقامها، ويسجل عليها أبدا أن تدين لغيرها بالسيادة والتفوق عليها فهي آفة لا تمتزج بالوطنية، وخديعة لا يكون منها إلا ضرر معجل للضعفاء، ثم ضرر مؤجل للأقوياء، ولن تقيد الحروب والثورات، ولكنها تقيد عدد الخصوم، وجوانب الخصومة، وليس هذا بالغنم الذي يساوي خسارة الوطنية في ميزان الإنسان الخالد.
العادة1
بين نقائض الحياة
كلما ازددنا خبرة بالحياة، ظهر لنا أن أصعب ما فيها من المصاعب، إنما هو تغيير عادة، وأن الموت نفسه لا يفجعنا في أعزائنا، إلا لأنه يقتلع من نفوسنا عادات تعودناها، ويمنعنا مآلف طالما أوينا إليها، فلو مات نصف الناس - بل لو مات الناس جميعا - دون أن يغيروا لنا عادة في الحس أو في العقل لما تحركنا لهذا المصاب، ولا هالنا أن تنقضي كل تلك الحياة ونحن نضيق صدرا بحياة واحدة مألوفة لدينا تفارقنا ، وينقطع ما بيننا وبينها، ولو رجعنا إلى مصائب النفوس كلها لم نجد بينها إلا ما هو تغيير لعادة نحس به فجأة، أو على تراخي الزمن حسبما فيه من مصادمة أو مجاراة.
يقال: إن الحيوان لا يعرف الموت ولا يدرك كنهه، وإن كان ليهرب منه بغريزته، ويعمل كل ما يعمله عارف الموت للتعلق بحياته، والظاهر أن هذا صحيح، وأن عرفان الموت حصة الإنسان وحده من هذه الأحياء، ولكن إذا فهمنا من ذلك أن الحيوان لا يحس فقد الموتى من ألفائه ولا يحزن عليهم، فذلك خطأ تكذبه المشاهدة وينفيه التأمل. إنما نختلف عن الحيوان في هذا الأمر بشيء واحد هو أننا نعلم إن دهم الموت عزيزا علينا أن تغيير عاداتنا حاسم أبد لا رجعة له إلى آخر الزمان، وأن الحيوان يحس تغيير العادة، ولا يبعد بمداها إلى غير لحظته التي هو فيها، فالموت عنده والبعد إلى حين سواء في الواقع والصدمة وطبيعته من ثم أقرب إلى السلوان، وأبعد منه في آن واحد. أقرب إلى السلوان؛ لأن الفناء عنده كالفراق القريب لا يرجح أحدهما على الآخر عند حلول الكارثة، وأبعد من السلوان؛ لأنه هو ابن العادة وأسيرها فإذا تجمعت حياته على عادة من العادات، فقد يهلك عند تبديلها ولا يجد من العقل ذلك المعوان الذي يجده الإنسان، وذلك العزاء الذي يخلقه بالتأسي والأمل، وكلاهما محجوب عن الحيوان.
ومن خصائصنا نحن بني الإنسان اللغة، نحصر بها المعاني فنفهمها، ونحصرها أيضا فلا نفهمها، أو لا نحسها كما ينبغي لها من الإحساس بها، فهذه كلمة «مات» ماذا يتبادر إلى الذهن من لفظها مفردة بغير «فاعل» يقترن بها؟ يتبادر إليه أن فعلا واحدا حدث هو الموت، وأن شيئا واحدا بطل هو الحياة، ولكن هل هذا تصور صحيح للحقيقة؟ هل هذا من الحصر الذي يحيط بجوانب الحوادث، أو من الحصر الذي يطمسها ويخفيها؟ الحقيقة أنه لا الموت فعل واحد ولا الحياة شيء واحد، وإنما الموت أفعال كثيرة، أو بطلان أفعال كثيرة، والحياة هي كل ما يشتمل عليه معجمنا من أقوال وأفعال.
يعرف هذه الحقيقة بحسه ووجدانه من جرب فقد عزيز عليه. يعرف أنه يأسى على أشياء لا عداد لها حين يأسى على ذلك العزيز، يأسى على كلمات سمعها لن يسمعها بعد ذاك، وعلى ملامح رآها لن تلم بها عيناه، وعلى مجالس حضرها لن ترجع بها الأيام، وعلى مسرات اشترك فيها لن يجد شريكه عليها أبد الأبيد، وعلى غدوات وروحات ومناظر ومسامع وأشواق وفجائع تنتزع كل منها انتزاعا من مكانها في النفس الموجعة، فكأنما النفس بها مصرع أشلاء أو ميدان يئن فيه الجريح، ويبغت المصعوق، وكأنما في النفس مقتلة طائشة حين تنكب بفناء صديق له فيها ما له من الآثار، وكأنما كل أثر حفظته من صديقها روح حية، تعالج سكرات الردى وتستمسك بالبقاء، فالموت فعل واحد في اللغة، ولكنه أفعال لا حصر لها في طوايا النفوس، ومن مات له عزيز فهو هو الواقع في غمرة الموت يمشي في عالم الحياة بجيش من الجرحى والهالكين، والحياة بحذافيرها ما هي، أليست عادة واحدة كبيرة؟ أليست جملة عادات تجمعت في بنية واحدة؟ لقد كان المتنبي بصيرا ملهما حين قال:
إلف هذا الهواء أوقع في الأنف
س أن الحمام مر المذاق
فإنما الحياة إلف هذا الهواء، وهي إلفة، أو عادة، من وقع في أسرها شق عليه الفكاك منها.
ولكن من نعني إذا قلنا: إن الإنسان يألف الحياة؟ نعني ذرات في الجسم الحي ألفت أن يتصل بعضها ببعض، وأن يكون اتصالها هذا على صورة خاصة بها، فإذا كانت جرأة من الإنسان على الموت فليست هي إلا تلك الجرأة النبيلة على اقتحام الحديد، وليست هي إلا الفتح للمجهول والغلبة على أسر القيود، وقد يتعود الإنسان ذلك أيضا فلا يقدم على ترك الحياة إلا بقوة من الحياة.
إن تعقب الدرجات التي تترقى فيها الكائنات تهدينا إلى فروق بينها، يمكن إجمالها في فرق واحد، وهو أن الخليقة كلما ارتقت كانت آية ارتقائها القدرة على الابتداع؛ أي على اقتحام المجهول والغلبة على القيود، فبين الجماد والنبات والحيوان والإنسان فروق خلاصتها أن أرقى هذه الكائنات أقدرها على قهر العادة بعادة أكبر منها، بل لك أن تقول: إن أرقى هذه الكائنات من تم له الانتقال من العادة البسيطة إلى العادة المركبة، ومن العادة المحصورة في نفسها إلى العادة التي تشرئب لما فوقها، وسنعيد هذا القول بعبارة أسهل موردا على الذهن، وأبعد عن أغراب الفلسفة التي تصد بعض الأسماع عنها، فنقول: إن الابتداع هو علامة الارتقاء، وإن الابتداع هو الخروج على العادة، وإن القدرة على الابتداع لن تخرج عن كونها عادة أخرى لا رأي للمرء في اتباعها أو اجتنابها، وإنما هي عادة أرفع من عادات وقيد أجمل من قيود. •••
ألاحظ أنني كلما دخلت حجرة مظلمة مددت يدي إلى مفتاح الإنارة أديره، قاصدا أن تضيء تلك الحجرة، فإذا تكرر هذا العمل مرات في أيام متواليات تعودت يدي أن تمتد إلى مكان المفتاح بقصد وبغير قصد، فإذا كان الوقت نهارا وكنت مشغول الفكر في أمر من الأمور أدرت المفتاح، ولم ألتفت إلى ما صنعت إلا بعد حين، وقد يكون الوقت ليلا والحجرة مضاءة فتتحرك يدي بغير تفكير إلى المفتاح تديره، فإذا الحجرة مظلمة فأنتبه إلى خطأ اليد في هذه الحركة، فالعمل الذي تتعوده يعفيك من مؤنة التفكير والتدبر، ويريحك من جهد الإنشاء والموازنة، ولكنها راحة لا تنال إلا على حساب ملكة معطلة، وقدرة في الذهن مهملة. أو كما قال أبو تمام:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
ففي كل حرية تبعة ومشقة، وفي كل راحة إعفاء من تبعة وسلامة من مشقة، وهنا تتلخص محاسن العادة ومساوئها، فإذا هي تسهيل وحرمان في آن واحد.
تعود عملا من الأعمال تسقط عنك كلفاته وتبعاته، ويسهل عليك أداؤه، ولكنك تخرج بذلك العمل من حيز الابتداع، وتدخل به في حيز الآلية، فأنت كاسب خاسر، ومستهدف لراحة الإعفاء وخطره في وقت واحد، ولن تسلم من مغبة العادة إلا إذا «تعودت» أن تكون مبتدعا أبدا تتخذ من تسهيل بعض الأشياء سلما إلى اقتحام ما فوقها ، كما يصنع القائد الفاتح حين يأمن على أرض ذللها ليتخذ منها حصنا يهجم منه على ما بعدها، فأما أن تخرج بالعادة من دائرة الابتداع أبدا فتلك خسارة وعبودية، وكل ما فيها من راحة إنما هو راحة العبد يعفى على طوع أو كره من تكاليف الأحرار وتبعات «المسئولين».
ويقول ببليليوس سيروس الروماني: «في بعض الأحيان يكون من الشر أن تعود نفسك ما هو خير» وهذا قول حكيم، ونظر صحيح، فإن العادة خير إذا سهلت لك عمل الخير، وسوغته لطبعك، وأجرته من أخلاقك مجرى الأمر الذي لا تعسف فيه ولا إرهاق، ولكنها شر إذا سلبتك التصرف، وجعلتك عبدا لشيء من الأشياء لا مفر لك منه، ولا علم لك بالمواضع التي يحسن فيها اجتنابه، فالابتداع - بعد كل ما يقال - هو أحسن عاداتنا؛ لأنه رفيق الحرية ورفيق التبعة، نتجدد به ولا نخسر بالتزامه ، وسنة الحياة هي سنة الابتداع، فهي لا تفتأ في جديد وهي لا تطمئن على محصول حتى يلج بها القلق، ويحملها الشوق إلى سواه، وقد كانت الهجرة عادة حسنة لبعض الطير، وكانت له فيها سلامة ونجاة؛ فلما اعترض البحر طريق هجرته أصبحت وبالا عليه أشد من الوبال الذي يخشاه؛ وكثير من الناس من يألف الشيء فيجني به خيرا، أو يمهد به طريقا وعرا، ولكنه يتمادى فيه فينقلب عليه، ويحتاج إلى الخلاص منه، ولا ضير على الإنسان أن يعدل عن صواب أصبح خطأ، وإنما الضير أن يستعبده الصواب، فإذا هو مخطئ على الرغم منه، وإذا هو شر من المخطئ الذي يفكر ويريد.
وتعجبني كلمة لوزير إنجليزي - أظنه تشمبرلن الكبير - إذ عيره خصومه أنه تحول من رأي كان يؤيده ويشتد في تأييده، إلى رأي يناقضه كل المناقضة، فقال الوزير الأريب: إنني لا أحب أن أستعبد نفسي حتى لما كنت أقوله في أمسي! وتلك كلمة قد يقولها السياسي اللبق ليقضي بها لبانة ويخدع بها جمهورا، ولكنها قد تجري على لسان الحكيم، فلا يعيبها مراء ولا يشوبها خداع.
وإن الخطأ لمعدود في بعض الأحوال من فضائل الإنسان، ودلائل الإدراك، فالنحلة لا تخطئ في شكل خلاياها، ولا تغلط في تقويم مكعباتها، والإنسان عرضة للغلط في كل شيء يرسمه، وفي كل بناء يقومه، ولا يكون غلطه إلا دليلا على سعة الجوانب، واضطلاعه بأعباء الصواب، وقد نهبط من النحلة إلى الآلة المسيرة، فنقول: إن المطبعة لا تنحرف نسخة من كتابتها عن نسخة، وقد تنحرف كل نسخة يكتبها الإنسان عن الأخرى، فمن الاستعداد للصواب أن تكون مستعدا للخطأ، ومما يشين الصواب ألا تكون قادرا على غيره، ولا مختارا في اتباعه والمواءمة بينه وبين زمانه ومكانه.
وفي تركيب الطبائع أن تحب الذين يدركهم ضعف الإنسانية، وتنفر ممن لا يدركهم ذلك الضعف في بعض جوانب الشعور، فإن النفس التي تشعر تخطئ، والنفس المعصومة ليست من بني الإنسان، فلا قرابة بيننا وبينها ولا تعاطف ولا محبة، والطفل أكثر الناس خطأ ولا يمنعه ذلك أن يكون أحب إلينا من الكهول الحكماء، والشيوخ المحنكين؛ لأن العطف من الحياة والحياة لا تنافي الخطأ وإنما تنافي الجمود، فلا الفكر إذن ولا العاطفة يمنعان الخطأ، ولكنهما يمنعان أن يظل الإنسان آلة تستعبدها العادة وتستكين بها السهولة، ولا أدري ماذا يعني من قال إن الحياة تضحية مستمرة، ولكني أستطيع أن أفهم من قوله هذا أن التزام العادة أثرة مريحة، وأن تغيير العادات تعب وتضحية، وأن الحياة لا تني تدفعنا في طريق تغيير العادات، فلا نطمئن إلى مألوف حتى نزهد فيه لنألف، ثم نزهد فيه دواليك بغير انتهاء، فالحياة بهذا المعنى فداء متجدد، وألفة بعدها فرقة، وفرقة تعود إلى ائتلاف.
الناس أحباء ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، هذا صحيح، وقد يكون صحيحا مثله أن الناس أعداء ما ألفوا، أحباء ما جهلوا، فإننا لا نزال على ما فينا من الاستراحة إلى المألوف الذي نهواه مدفوعين إلى المجهول الذي لا نراه، ولا نزال نألف ثم نترك ثم نألف، فنشقى بهذا النقل ولا يلوي بنا الشقاء، وقوام القولين أن العادة راحة وسكون، والحياة حركة وابتداع، فنحن بخير ما جرت عاداتنا على سنة الحياة ، وبقيت لنا القوة التي تعيننا على تبدل الراحات، وتعاقب المألوفات حتى إذا فقدنا هذه القوة أصبحنا شيئا آخر، لا يحسن التبدل أو لا يحسن الحياة، وفقدنا العادة الكبرى التي تنطوي فيها جميع العادات.
العقل والعاطفة1
حول رد الأستاذ الزهاوي
قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردا للأستاذ الزهاوي على مقال كتبته عنه مجيبا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ الزهاوي من الملكة العلمية، أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي، فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول: إنه فيلسوف، وإنه شاعر، لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدا أو أكثر، فإنني لم أتكفل بهم، ولا تحسب علي أخطاؤهم، أو يختلس مني صوابهم، ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح، فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام، وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ الزهاوي من الفلسفة والشعر ولا لمطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.
ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ الزهاوي لأعمال الإنسان، ولهذا هو يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف - فضلا عن الشاعر - إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم الإنسان ومكانه في هذا الكون، كما هو إنسان في حقيقته لا يتصوره الذين يستهدون بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور، وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة من ذلك المقال. (1)
يقول الأستاذ الزهاوي: «من طار بجناح العقل أخيرا لندبرغ؛ وصل إلى باريس من نيويورك في 34 ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»
وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في 34 ساعة، ولعلهم يصلون غدا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب، ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله إلا كانت العاطفة هي محركه وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلما من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة، واتجهت إليه الرغبات. وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.
ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول: إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير، فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع نحن الشرقيين أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداءة؛ لأنها وليدة البواعث وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث أي في الخلق والإحساس، وليس تفاوتا في العقل والتفكير، وطريقنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح، وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل. (2)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابا للمعرفة مستثنيا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجا باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»
أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها، وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، هي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن نفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وأن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء. فالدنيا لا تتغير ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الخلق والتنويع، وليس من المنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يغرب عنا أبدا أن وراء هذه الحواس ينبوعا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكا لا حد له من الصيغ والتعريفات. (3)
ويقول الأستاذ الزهاوي: «لو جعلنا الخيال والبداهة في المنزلة التي يضعهما فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون الإنسان البدائي بل الحيوان أكبر فلاسفة الأرض لولا ما ينقصهما من البصيرة والحساب، أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف أسرار الطبيعة، ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره، وما الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه وإلا كانت الحيوانات كلها فلاسفة كما سبق، وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته في نشوء الإنسان من الحيوان، وكم خالفه أهلها وكم مقتوه وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم، ولكن في النهاية كان هو الفيلسوف ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.»
هذا الذي يقوله الأستاذ الزهاوي! ويدهشني منه أنه يتكلم عن العاطفة كما يتكلم عنها المغنون، و «أولاد البلد» حين يتشاكون جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها، فالحب عاطفة ولكنه يجرح نفوسا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيما لهم إلى من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها، فإن أصحاب العقول لربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم فكانوا بذلك أقمن ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنيين و«أولاد البلد» المتظرفين.
وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ: إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ولا بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين. وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة والخيال، ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير.
ولقد ذكر الأستاذ اسم دارون صاحب النشوء والارتقاء، فهل له أن يذكر أيضا أن الخيال كان أصدق من العقل ألوفا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع، وتلاقح الإنسان والحيوان! نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنا غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل من تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضا أن دارون ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب النشوء والارتقاء؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس.
ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق» وهذا الذي أقوله أنا وأقول معه: إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له حسابه، فأي منطق يحق له أن يقول عن عمل من أعمال الناس ينبغي أن يكون هكذا، أو لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم فما هي السعادة! إن لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنساني «عاطف» فلا حاجة به لإنسان. •••
نود أن يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما يعوزهم، فيجب أن يعلموا أن الذي يعوزهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل، أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ الزهاوي أن يسأل نفسه هذه الأسئلة وهي: (1)
ألا يمكن أن يقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟ (2)
لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلا يستند إلى دليل مشكوك فيه. أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا دعواهم : اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسا يتماثلون وأجراما تتماثل فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، إن وجدتم فعودوا إلينا إذن بالنبأ اليقين؟!
إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة، مضت عليها أزمنة مختلفة، وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الوضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل إن كان له اقتضاء؛ فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين فيجب - لهذا السبب عينه - ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟
نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم حفظه الله أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف، فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة، فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!
شكسبير (1)1
سيان أن نكتب عن شكسبير، أو عن الطبيعة البشرية، وحقيقة الشاعرية، فشكسبير عنوان كلا عنوان، وموضوع كلا موضوع؛ لأنه هو موضوع يمس حياة الإنسان وكل شيء يعنينا من خلائق النفوس، إذ أي شيء «إنساني» ليس شكسبير؟ وأي شيء يعنينا في هذه الدنيا ليس بالإنساني في بعض نواحيه؟
في روايات شكسبير وأشعاره رجال كثيرون، يعملون ويتكلمون ويتفكرون بما تعرب عنه الكلمات، وبما تنطق به المواقف ولا يلفظه اللسان. هم على اختلاف في المراتب فمنهم الملوك والوزراء والقادة والتجار والصناع والمتسولون ومن لا مرتبة لهم ولا عمل، وهم على اختلاف في الطبائع والأخلاق، فمنهم الكريم واللئيم، وذو النجدة والأريحية، وصاحب الدسيسة والخديعة، والحكيم الأريب والأبله المغرور، والعليم والجهول، والقوي المستضعف وأولو الكفاية في كل فن من فنون الحياة، ومن لا كفاية لهم في شيء من الأشياء، وهم على اختلاف في الحالات والأطوار فمنهم الظافر والمخفق، والراضي والغاضب، والمستبشر والقانط، والمحب والسالي، والطامع والزاهد، ومن هو مزيج من هذه الحالات ومن ليس له في حالة منها نصيب معدود، وهم على اختلاف في الأسنان فمنهم الشيوخ الفانون، والفتيان في مقتبل الحياة، والكهول والصبيان، وكل هؤلاء يعرضهم شكسبير عليك فإذا هم يعملون كما ينبغي أن يعمل، ويقولون كما ينبغي أن يقال، ويفكرون كما ينبغي أن يعهد فيهم التفكير، ويسيرون في حياتهم وبين أصحابهم وعشرائهم كما ينبغي أن تكون السيرة لكل سن، ولكل حالة ولكل خليقة ولكل مقام، وإذا بهذا الشاعر في علمه الذي لم يأخذه عن الأساتذة، وفي مرتبته التي لم تعد يسار الفقراء، وفي وظيفته التي تقلب فيها بين الفلاحة والتمثيل، يصور لك الملك في حالاته وكلماته فلا يخطئ التصوير، ويمثل لك كل إنسان فلا يخالف الحقيقة ويجيء لك بروايات كأنما هي خريطة الدنيا وضعت لتنشأ الدنيا على خطوطها من جديد إن أدركها البوار.
أعجب من هذا في العجب نساء رواياته وهن متباينات في السن، والمزاج، والفكر، والخليقة، والبيئة، والمقام. محبات على اختلاف في اللهو، وطيبات على اختلاف في الطيبة، وداهيات على اختلاف في الدهاء. كلهن صنعة كاملة لا أمت فيهن ولا عوج، ولا مبالغة ولا تفريط، فلو قيل: إن شكسبير رجل ولا يخفى عليه ما في طبيعة الرجال عظموا أو صغروا، وطابوا أو خبثوا، فماذا يقال في تصويره للنساء إلا أنه إلهام نافذ وبصيرة صادقة، تنطبع عليها مشاهد الحياة فإذا هي كلها على حد سواء في الجلاء والإتقان؟
بل أعجب من هذا في العجب أن يدخل شكسبير في رواياته أناسا مرضى العقول أو مصابين بضروب الهوس، فيقول عنهم أو يجعلهم يقولون ما لم يعرفه أطباء عصره، وما لم يعرفه الطب الحديث إلا منذ عهد قريب، ثم يأتي الأطباء المتفرغون لهذه الأمراض، فيأخذون أعراضها من رواياته كما يأخذونها من كل تجارب المستشفيات، ويستعرضون دلائلها في أبطاله كما يستعرضونها في بدوات المرض وفي كتب «التشخيص». وتلك آية لا مثال لها على استقامة القريحة في الملاحظة والاستيعاب، فكأنما هي خلايا الجسم الصحيح يأخذ كل منها حظه من الغذاء، ويقوم بقسطه من العمل بلا إملاء ولا تدبر ولا اكتراث.
وربما كان أعجب من كل هذا علمه بعادات الجماهير، والتفاته إلى أطوار الجماعات، وأساليب الدعاة في تقليب شعورها من السكون إلى الهياج، ومن المودة إلى العداء، ومن الشكر والإعجاب إلى الذم والانتقام، فمذ كم من السنين بدأ العلماء يكتبون في «نفسية الجماعات» ويدرسون طبائع الجماهير، ويدونون الحقائق والآراء عن هذا الباب الجديد من أبواب النفسيات؟ منذ سنين لا تتجاوز الخمسين، ولم تكن في عصر شكسبير حكومات شعبية كالتي نعرفها اليوم، فكنا نقول: إنه نقل عما سمع ورسم على ما رأى، ولم يصل إليه من أنباء الرومان واليونان إلا ما وصل إلى كل قارئ بين عامة القراء في زمانه، فما استخرج منه أحد «علما» لأهواء الجماعات، ولا وصفا لأساليب الدعاة، ومع هذا أي أستاذ في النفسيات يفطن إلى دقائق هذه المعاني كما فطن إليها صاحب رواية «يوليوس قيصر»، وواضع الموقف الذي انقلب فيه «الجمهور» من موالاة قاتليه إلى ملاحقتهم بالمسبة والتعزير، واشتداد الطلب في أثرهم بالقتل والتدمير؟ أي خطيب يعرف من أسلوب الدعوة ما عرفه ملقن «مارك أنطوني»، ذلك الخطاب الذي بدأ بالبكاء وانتهى بالفتنة العمياء.
لقد بلغ من إغراب شكسبير في ابتداع الصدق أنك لا تقف فيه عند غريب، وصار في هذا الوصف كالأيام «كله عجائب حتى ليس فيه عجائب.» فأنت تمر بشخوصه وأقوال رجاله ونسائه، كما تمر بمدينة قد ألفتها عشرين سنة لا يخفى عليك خاف من مناظرها ولا بديع مستغرب من مظاهرها، وتكاد لا تحس ببصرك وسمعك وأنت عابر في أحيائها. كل هذا مألوف معروف صادق مشاهد ، لا شك فيه ولا شبهة في وجوده، فأين يقف الإنسان ليتأمل وأين يشعر بحسه لينظر ويسمع ويتدبر؟ هذه هي غرابة شكسبير التي بذت الغرائب، وتلك هي معجزته التي تعنو لها المعجزات، فأنت لا ترى فيه إلا صدقا وحقا ولا تفاجئك الدهشة، حتى فيما يخيله إليك من مناظر الجنة والعفاريت والأرواح والأطياف؛ لأنك تراها هناك كأنك تعهدها على هذه الصفة بما أفرغه عليها الشاعر من حلة الصدق، وبما خلقه لها من شخوص تلائم ما يروي لها من صفات وأعمال، وقد أصاب الفيلسوف شلجل في بيان هذه الحقيقة فقال: «إن هذا البرومثيوس
2
لا يخلق الناس وحسب، بل هو يفتح لنا أبواب عالم الجنة المسحور، ويستحضر لنا أطياف الظلام، ويعرض لنا ساحراته في زوايا الأسرار المحجوبة عن رحمة الله، ويعمر الهواء بلواعب الجنة وهواتف الأرواح، فإذا بهاته الأخلاق التي لا وجود لها في غير أوهام الخيال تتراءى في صدق واتساق، وتبدو لنا - ولو كانت أعجوبة شائهة مثل كليبان - على نمطها الذي يخيل إليها لو ظهرت في الحياة لسارت في شئونها هذه السيرة، ولك أن تقول: إنه كما ينفذ بقريحته الخصبة إلى عالم الطبيعة ينفذ بالطبيعة إلى عالم القرائح وراء الواقع والحقيقة، فنحن نضل في تيه الدهشة حين نرى الخوارق والأعاجيب، وما لم يرد على الأسماع قريبة منا هذا القرب الحميم.»
هذه قدرة لم يضارع شكسبير فيها أحد من شعراء الأرض قاطبة، ولم ينسغ في الغرب شاعر يسوغ للشهرة والعبقرية أن تسولا له التطاول إلى مقامه، إلا شهد له بهذه المنزلة التي لا تطاول، واعترف بها اعتراف من يقر بعظمة الله فلا غضاضة فيها ولا عار، إذ هي قدرة شذت وانفردت حتى علت على الأنانية والعصبية، وأصبحت من عجائب الطبيعة التي لا يضير المرء أن يشهد بها لهذه الأمة أو لتلك، ولا يخطر له أن ينكرها على أهلها وصاحبها، إلا إذا خطر له أن ينكر الشلال على نياجرا أو الدر على البحار، فليس شكسبير بإنسان من الناس في هذا الاعتبار ولكنه خارقة إلهية لا يدخلها الناس فيما بينهم من المنافسات والموازنات، بل لقد اتخذ بعض النقاد هذه الخارقة فيه سبيلا إلى انتقاصه فقالوا إنه قطعة من الطبيعة العمياء، وإنه يبني شخوصه كما يبني النحل خلاياه بلا قصد ولا علم، ولا احتمال للغلط ولا فضل في الإتقان.
إن كثيرا من قراء الأدب عندنا لا يفهمون وجه المعجزة في جعل أناس كثيرين يتكلمون كما ينبغي لهم أن يتكلموا، ويعملون كما ينبغي لهم أن يعملوا، ويعرضون لها في المعرض الذي يلائمهم من الفكر والخليقة والسن والحالة النفسية والمقام، فهؤلاء عليهم أن يذكروا المشقة التي يعالجونها حين يعن لهم أن يصفوا إنسانا يعرفونه ويعاشرونه ويسمعون كلامه في كل موقف، ويشهدون عمله في كل مجال. إنهم يعالجون مشقة عظيمة في استجماع تلك الأقوال والأعمال ثم في تحليلها وتقسيمها ثم في استخراج ما وراءها من المشارب والطباع، ثم في نقل تلك المشارب والطباع إلى أوصاف في اللغة تطابق الحقيقة، وتدل على صاحبها أصدق دلالة، فإذا كان هذا مبلغ المشقة في وصف من نشاهد ونعاشر، فأشق منه جدا أن نصف من نتخيله أو نقرأ عنه أو نخلقه على غير مثال نراه، وأصعب من هذا وذاك أن نترقى من الوصف إلى تركيب «الشخص»، وإرساله مرسل الأحياء حين يشعرون ويتكلمون ويعملون، نعم. ذلك أصعب جدا من مجرد تسمية الصفات وسرد عناوين الأخلاق والكفايات، فإنك قد تنظر إلى الرجل فتعرف مكره واحتياله، ولكن المسافة لا تزال بعيدة بين هذه المعرفة وبين أن تبين لنا كيف يعمل الماكر المحتال في كل حادث يتفق له وكل موقف يجمعه بسواه، والمسافة لا تزال بعيدة أيضا بين تبيين عمله في الحوادث والمواقف وبين خلق تلك الحوادث والمواقف خلقا يناسب مجمل أحواله ومجمل أحوال المشتركين معه في الرواية الواحدة، وقد تعرف المئات من الناس كلهم يوصفون بالصدق والعلم والمروءة والدماثة، ولكنك تنظر إليهم إذا تأملتهم فتعلم أنهم «شخصيات» متعددة متفرقة على اتفاقهم في أسماء الصفات والطباع، بل نجد أن أحدهم قد يعمل في حالة من الحالات ما يأبى أن يعمله غيره، ويقول في شيء من الأشياء ما لا يقوله الآخرون، فالوصف إذن مشقة عظيمة ولكنه قدرة لا تذكر إلى جانب القدرة على تركيب الشخصيات والمواقف، والفرق بينهما كالفرق بين من يتفرج ويفهم ما يتفرج به وبين من يخلق الشيء الذي يفهمه الناظرون.
فإذا قيل لأدبائنا هؤلاء الذين لا يفهمون معجزة شكسبير: إن هذا الشاعر قد أبدع في قريحته مئات من تلك «الشخصيات» التي ينم وصفها فضلا عن خلقها على قدرة نادرة وعبقرية رفيعة، فحري بهم إذن أن يلموا بطرف من تلك العبقرية، ويقفوا على حذر عند ذلك الغور، وأن يذكروا أن هذا كله فضل يضاف إليه فضل مثله في الإعجاز والإغراب، وهو فضل الجمال الذي كسيت به تلك الصور، والبلاغة التي نطقت بها تلك الشفاه، والشاعرية التي تبهر السامع بنظيمها كما تبهر المتأمل بنفاذها وإلهامها، والسحر الذي هو حسب القائل من فخر إن لم يكن لها لهو فخر تلك الفطنة وذلك الإلهام.
كبر على بعض النقاد أن يسلموا بتلك القدرة المعجزة، أو تلك القدر المعجزات لرجل نشأ كما نشأ شكسبير وتعلم كما تعلم، فراحوا يذكرون أفرادا من العلماء والوجهاء ينحلونهم رواياته، ويرجعون إليهم بفضل تأليفه ونظمه! وهي حماقة يولع بها طلاب التسلية واللغو، ولا يعيرها التفاتة من يفقه ما التأليف وما المألفون، ولو لم يكن في روايات شكسبير من الأغلاط التاريخية والجغرافية والهفوات النحوية والصرفية، ما ليس يصدر عن أولئك العلماء والدارسين لجارت تلك الحماقة على كثيرين، فما أشبه هؤلاء اللاغين المتبطلين بمن يسمعون أن رجلا حمل الجبل فيسألون: هل كان الرجل مصارعا مضبور الخلق، أو كان رجلا لا علم له بالجلاد ورفع الأحمال؟ إنا ها هنا حيال «معجزة» لا شك فيها ولا خلاف في وجودها، ولن تكون المعجزة أقل إعجازا حين تحمل اسم مؤلف مستور، أو تحمل اسم «شكسبيرها» المشهور!
شكسبير (2)1
رواياته التمثيلية
كان من المستحيل على عبقرية شكسبير أن تستكمل ظهورها في أي فرع من فروع الشعر والأدب غير الرواية المسرحية، فهذه المعرفة الملهمة بالطبيعة الإنسانية، وهذه القدرة على تصوير الشخوص والمواقف، وهذه السليقة الجياشة بالعواطف والسرائر، وهذا الذهن الحي الذي يهتدي عفو البديهة إلى أخفى الخفايا وأصدق الحقائق، وهذا النظم الساحر الذي يبدع إبداعه في أرق الغزل، كما يبدعه في أهول الهول وأضخم المشاهد، كل هذه الملكات الكاملة في تلك القريحة النادرة ما كان لها من مجال تبرز فيه على أحسنها، وتستتم فيه قواها أفسح وأصلح من مجال الرواية المسرحية. ولو كانت الرواية القصصية قد راجت في عصر شكسبير رواجها في القرن الثامن عشر وما بعده، لكان محتملا أن ينصرف إليها وأن يميل به ازدحام سابقته بالشخوص وحوادث الحياة إلى تأليف القصص واختراع الأبطال من الخيال أو من محفوظات التاريخ ونوادر أهل زمانه، ولكننا فيما نظن كنا نخسر «بداهة» شكسبير ووحي قريحته لو أنه اتجه هذا المتجه، وأخذ في تأليف قصصه على أساليب الروائيين الذين نعرفهم في الآداب الحديثة، فإن «الروائي» يشرح ويحلل وينظر نظرة المتفرج أو يدرس شخوصه دروس العالم المتفقه، أما شكسبير فلم يكن هذا ميدانه في رواياته المسرحية، وإنما كان يخلق الشخوص ويحيا حياتها من الداخل، ويجيئنا بها لنراها كما نرى الأحياء في هذه الدنيا، ونأخذ أخبارها من أقوالها وأفعالها كما نأخذها من وقائع الأيام وامتزاج الناس بالناس، فهو لا يقول لنا انظروا إلى «هاملت» كيف تضطرب عزيمته، ويختل صوابه، ويثقل رياء الناس على طبعه، وكيف يقول لكم هذا القول ليطابق ما صورته لكم من ذكائه، وطيب طويته، وتذبذب عزمه، بل يقول لنا هاكم «هاملت» فانظروا كيف هو واحكموا عليه كما تحكمون، وهو لا يشرح لنا «الشخوص» التي يمثلها، وإنما يضعها في مواضعها، ويمزج بين حياتنا وحياتها ثم يتركها لمن شاء أن يشرحها ويدرسها ويفهمها كما نفهم الرجال والنساء في مواقف الحياة، وهو لا يقص علينا ما صنعه أبطاله وما هم خليقون أن يصنعوه، وإنما يرينا إياهم وهم يصنعون ما يليق بهم ويصفون أنفسهم بألسنتهم وأعمالهم، وليس هذا مجال الدرس والتحليل، ولكنه مجال الخلق والإنشاء، أو ليس هو مجال القصة ولكنه مجال التمثيل .
كذلك لو انصرف شكسبير إلى نظم الشعر في الغزل والوصف والمغازي والوقائع لما ظهر لنا كاملا ولا نصف كامل؛ لأن ملكات الذهن الإنساني ليست مما يشبه بالمصابيح الكهربائية التي يضيء سائرها إذا تعطل بعضها، ولكنها في هذا المعنى أشبه بخلايا الجسم الحي إذا سرت إلى بعضها جراثيم الفساد، أو علل الجمود، فقلما تسلم بقيتها من خطر العدوى أو خطر الإجهاد والإرهاق، فإذا طبع الذهن على أن يكون شاعرا وناقدا ومفكرا معا، فهو يكون مفكرا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر والنقد، وناقدا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر والتفكير، وشاعرا ناقصا إذا هو لم يستوف حظه من الملكتين الناقدة والمفكرة، فلو انقطع شكسبير للغزل مثلا لأفسده عليه الفكر المعطل والطبيعة الواسعة حين تهم أن تظهر في الغزل ولا يتسع لها فيه سبيل الظهور، ولو انقطع للملاحم لجار فيه جانب القاص الراوية على جانب الخالق المصور على البداهة، ولو انقطع للتأمل لاختلط عليه الأمر بين الخلق والابتكار وبين النظر في أسبابه وأساليبه، فالمصادفة التي ساقت شكسبير إلى الكتابة المسرحية هي المصادفة التي أهدت شكسبير إلى العالم، وحفظت شكسبير من الضياع.
ومع هذا نحن لا نعلم كيف التفت الفلاح القروي إلى التمثيل، ولا كيف اتفقت هذه المصادفة التي أهدت إلى العالم أكبر شعرائه أجمعين، وكل ما نعلمه أن أباه كان يحب التمثيل ويعضده في بلده، وأنه هو كان ممثلا ثم خطر له أن يؤلف للمسرح، فبدأ بمحاكاة بعض الشعراء المعاصرين ثم نبذ المحاكاة ورجع إلى سليقته فبلغ هذا الشأو الذي لم يبلغه سواه، أما كيف سيق إلى التمثيل فذلك سر مجهول لا ينكشف لنا من آثاره ولا كلام معاصريه، فقد قيل إنه اتهم في بلده بسرقة الغزلان وعاقبه على ذلك النبيل صاحب الحديقة التي سرق منها فهجاه ونجا بنفسه إلى لندن، ثم عمل هناك على أبواب المسارح يمسك الجياد للسادة والسيدات، ويعيش بين الممثلين ويتطلع إلى اليوم الذي يقف فيه على خشبة التمثيل، فإن كان هذا صحيحا فقد كان وشيكا أن يظل شكسبير سارق غزال وشاعر الناس أجمعين، فلم تكن سرقته بفعلة النذل الجبان يقعد به الكسل عن العمل الشريف فيستحل لنفسه متاع الآخرين، ولكنه اصطاد الغزال لأنه كان يحب الصيد، وينشط نشاط الفتوة في زمن كان الصيد فيه حراما على غير النبلاء، وأصحاب الضياع والآجام.
إن شكسبير لم يكن مفطورا على التمثيل، ولا كان المسرح له إلا معرضا للشخوص وكتابة الروايات، ولقد كان له نظر صائب في هذا الفن، وعلم بتقسيم الروايات كما كانوا يقسمونها في عصره، ولكنه لم يثق بتمثيله قط ولم تمنعه قدرته على اختيار الأدوار أن ينزل عن الدور الكبير في كل رواية لمن هو أقدر على الإجادة فيه. فكان وهو مالك المسرح ومؤلف «هاملت» وواضع ذلك الدور الذي يخيل إلى النقاد أنه كان أحب الأدوار إلى نفسه، يرضى أن يقوم في الرواية بدور «روسنكرانز»، ويدع تمثيل «هاملت» لبرباج ممثل المأساة المشهور في تلك الأيام، وذلك تواضع لا يدل إلا على إنصاف للنفس وللآخرين، أو على حكمة بصيرة بوجوه المصلحة والتدبير. أو على سأم من صناعة التمثيل، وكراهة لما كان يحيط بها من الهوان ويصيبه في جرائرها من عنت تأباه تلك النفس الكاملة وذلك الشعور الكريم.
ولا يعلم ناقد هل كان شكسبير يفضل الكتابة في المآسي، أو الكتابة في المهازل
2
وأشباهها من الروايات المحببة إلى الجماهير، ولكنك تقرأ قوله عن بولونيوس: «إنه لا يلذ إلا بحديث فجور أو مجون.» وشكواه من الجمهور الذي لا يفقه إلا الصراخ والجلبة ولا يعجب إلا بالتخايل والادعاء، ولا يحب إلا أن يضحك على السماع، فتفهم من هذه الشكوى التي أجراها على لسان هاملت أنه لم يكن يرضى عن الملاهي والمضحكات، ولم يكن ليكتب المهازل لولا رغبة النظارة في اللغط والترويح، ويرى الدكتور جونسون أن مهازل شكسبير تفوق مآسيه؛ لأنه يتهم شكسبير بالتهاون وقلة العناية، وهما بالهزل أنسب وإلى المواقف الخفيفة أقرب، ولكن جونسون أبعد الناس عن إنصاف الشاعر العظيم، وأدنى الناقدين إلى الخطأ في فهم ملكاته والفطنة إلى آياته، ومن الذي يقرأ قوله: «إن مهازله - مهازل شكسبير - تعجب بالفكرة واللغة ولكن مآسيه لا تعجب في أكثر الأحيان إلا بالحادثة والحركة. وإن مآسيه يلوح عليها الفطرة والإلهام» ثم لا يسرع إليه الريب في سداد هذا النظر الزائغ، وصحة هذا النقد الجزاف؟ فالحق أن مهازل شكسبير تدل على إجادة الرجل تمييز المضحكات، ومداعبة الطبائع الإنسانية، والعطف على ما فيها من مواطن الضعف والغرور، بل هي متحف لكثير من الشخوص العزيزة على القراء، المحببة إلى النظارة، الملطفة لقسوة الجد ومرارة الآثام، وكل هذه الشخوص لها نصيبها من الفطرة والإلهام كما يقول الدكتور جونسون، ولكنها لا تفوق في شيء من ذلك نصيب هاملت ولير وعطيل وياجو وريتشارد الثالث وأوفيليا وكليوبترة وجولييت وغيرهم وغيرهن من أبطال المآسي والتاريخيات، فإن البداهة التي ظهرت في تصوير هاته الشخوص الجدية لا تفاق في موقف آخر من مواقف شكسبير ، ولسنا نقول كما قال هازلت إن الأستاذية التي أظهرها شكسبير في مهازله لا تقل عن أستاذيته في المآسي والتاريخيات، فإن رعاية الجمهور في هذه الروايات قد جنت عليها أحيانا ما لم تجنه رعاية الجمهور على المآسي والتاريخيات، ولكنا نقول: إن في مهازل شكسبير مزية واحدة لا تكثر في مآسيه وتاريخياته، وهي قوة البطلات وبروزهن على الأبطال. فإذا استثنيا كليوبترة ولادي مكبث - ولا حيلة لشكسبير في هذا الاستثناء - فالنساء في الروايات الخفيفة أقوى وأقدر على الجملة من نساء «الجديات»، وهن كذلك محور تلك الروايات وذوات النصيب البارز من الأدوار، وتلك آية أخرى من آيات الإلهام في شاعر البداهة والنظر السليم؛ لأن نكبة المرأة الناعمة البريئة هي جوهر المأساة فلا بد من إظهار المرأة فيها على جانب من الخفض والرقة والعطف المرحوم لا يناسب القدرة والدهاء والادعاء، ولا حاجة إلى ذلك في الروايات الخفيفة أو المضحكة، بل ربما كان ظهور المرأة في هذه المواقف بالعلم والصلابة أدعى إلى التفكه والابتسام.
وليست مهازل شكسبير بالمهازل التي تقوم على نقد العادات الطارئة والمظاهر الاجتماعية الزائلة، فإن بداهة هذا الرجل تأبى أن تتعلق بشيء يزول، أو يقف على حواشي النفوس. إنما هي مهازل الطبائع التي لا تتغير، والعيوب التي تشاهد في كل أمة وفي كل زمان، والنظرة التي ينظر بها الشاعر إلى تلك الطبائع والعيوب نظرة الفطرة الرءوم، والنحيزة الكريمة، والعاطفة الحنون، فسخريته كما قال هازلت سيد النقاد الإنجليز: «تنقصها لذعة النكاية، ويندر أن تجد فيها إثارة من الضغن والحفيظة، حتى فلستاف تتجلى لنا أضحوكته العظيمة من جانب المرح العابث لا من جانب السخف المطبق.» ولعل هازلت على صواب حين يقول: «إن النقص في موحية
muse
تلك الروايات أنها هي طيبة كريمة، وأنها تعلو على اللاعب من الشكول، ولكنها لا تجد سرورها الأكبر في إنزال الطبيعة الإنسانية بأقصى ما يستطاع من منازل الخسة والسخف والزراية، وهذا هو الموضع الذي يعرض منه الخلاف بينها وبين مهازل العصور التالية، التي يقال إنها أظرف وأكيس، فهذه المهازل «الكيسة» إن هي إلا مهازل أبناء الزي والجديلة والشمائل المصطنعة.» وشكسبير لم تكن تعنيه هذه المضحكات الزائفة؛ لأنه أكرم من أن يعبث بالعبث الذي لا يحتاج إلى من يضحك منه، وأكبر من أن يغمره عصر ضائع في غمار العصور.
شكسبير وهاملت (3)1
في شخصية «هاملت» دلالات كثيرة على شكسبير. بل لم يضع شكسبير على لسان أحد من أبطاله بقدر ما وضع من كلامه هو على لسان هاملت، فشكوى هاملت هي شكوى شكسبير نفسه من الناس والحياة ومن أبناء وطنه، ولهاملت في غضون بثه ونجواه كلام هو أخلق أن يجري على لسان الشاعر الممثل المتبرم، من أن يجري على لسان الأمير ولي عهد المملكة، فنجواه في مطلع الفصل الثالث إذ يقول: «نحيا أو نموت؟ تلك هي الحيرة. لا ندري أهو أنبل لنا وأكرم أن نحمل الضيم من دهر عسوف نصبر على رجومه وسهامه، أم نهيب بأنفسنا إلى الثورة على ذلك الخضم الموار بالمتاعب والآلام فنستريح منها؟ وما الموت؟ أهو نوم ولا زيادة؟ لئن كان الموت نوما يريحنا من أوجاع الفؤاد الضمين ومن ألف نزعة يبتلى بها هذا اللحم والدم لهو إذن ختام تتلهف عليه النفوس، ولقد يكون الموت نوما ويكون في النوم حلم يغشاه، وتلك هي العثرة! إذ من يعلم ما تلك الأحلام التي تطيف بالنائم في ضجعة الموت بعد أن ينفض عنه وعثاء حياته؟ هنا العقبة، وهذا السر الذي تطول فيه شقوة الحياة. إذ من الذي يطيق الصبر على سياط الزمان ولذعاته، وعلى ظلم الظالم، وصلف المتجبر، وآلام الحب المزدري، ومطال القضاء، وعجرفة المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين حين يكون في يديه أن يفصل في هذه القضية بطعنة واحدة من مدية وحية؟ لم هذا الضجر المرهق من أعباء الحياة الثقيلة لولا خوف ما بعد الموت وخشية تلك الدار التي لم يكتشفها رائد ولم يرجع منها قاصد؟ فهذا الذي يشل العزيمة ويخلد بنا إلى شر نعلمه مخافة شر لا نعلمه، وكذلك تفت الضمائر في أعضادنا ويغشي شحوب الحذر على سمات عزائمنا، فتصدف عما همت به من جليل الأمر، ويلتوي عليها سبيل الإنجاز.»
فهذه المناجاة أشبه بشكسبير منها بولي العهد اليائس. إذ ربما ضجر الأمير الكريم من الحب المزدري، وصلف الأغرار، وكبرياء ذوي المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين، ولكنك لا تخطئ هنا أن تسمع صوت شكسبير يعاف الحياة، ويحدث نفسه بالموت من أجل هذه الأمور، ومن تحصيل الحاصل أن نقول: إنه هو الذي جعل الأمير الفتى يعلل سآمته من الدنيا بهذه العلل، ويوسوس له بإيثار الفناء على الحياة. فشكسبير هو الذي امتحن في حياته ازدراء حبه، وكبرياء ذوي المناصب عليه، ومطال القضاء، وسخرية الأغرار والأدعياء، وهو الذي يفكر ذلك التفكير ويجريه على لسان أميره الحزين.
ولقد سرت خرافة بين بعض الناقدين فحواها أن شكسبير كان من رجال الكسب الذين أشرجوا على طبائع العمل والتدبير فلا يشغلهم من الدنيا شاغل بعد أن تمتلئ الجيوب وتعمر البيوت، ولا ندري كيف سرت هذه الخرافة بين الناقدين فقبلوها وركنوا إليها، وليس في حياة الرجل ولا في رواياته وأشعاره ما يشف عن هذا المزاج، أو يرجح فيه هذه الخلة، فشكسبير لم يكن إلا شاعرا ولم تكن همومه إلا هموم شاعر، ولا مزاجه إلا مزاج أبناء الفنون والخيال، ولم يكسب من رواياته إلا ما يكسبه كل ناظم راج عمله ولقي الإقبال على تمثيله، ولم يكن كسبه عزاء له عن هواجس الأديب ومطالب الإنسان، ولا مطمعا يغنيه عن مطالع القلب المتفتح والنفس الجياشة والعقل الكبير.
نشأ شكسبير في عصر السياحات والمغامرات، والهجوم على العالم الجديد الذي يمني الناس بالفراديس والكنوز، فما استخفته هذه الآمال كما استخفت سواه، ولا خطر له أن يطلب الذهب حيث يطلبه رواد الغنائم والكشوف، وإنما أحب أن يربح كما يربح الشعراء في زمانه، وعاش للأدب والحياة النفسية، كما يعيش كل أديب يصغي إلى هواتف وحيه، ويتبع هداية قريحته وكان يتجرع الغصة بعد الغصة في حياته، ويصبر على المحنة بعد المحنة من أبناء عصره، ويستقبل الدنيا بنفس الشاعر، فلا ينسيه المال أشواق فؤاده وأحلام خياله، فلم يكن في مزاجه من طبيعة «الكسب والعمل» إلا ما يكون في مزاج كل شاعر غير مأفون ولا متلاف، ولو كسب أضعاف ما كسبه لما أنساه ذلك نفسه المغبونة، وأحلامه الذاهبة، وقلبه الجريح.
وإنما ورد ذلك الوهم على بعض النقاد؛ لأنهم رأوه يعتزل التمثيل ويأوى إلى بلدته ليزرع الأرض، ويثمر المال، بعدما حفل وطابه بثروة المسارح، وأرباح الروايات، ولكنهم لو تريثوا قليلا لرأوا في ذلك دليل المزاج الشاعر لا دليل التجارة والشعف بالكسب والمال حيث كان، فقد كان يقيم في لندن على مضض، ويتوق إلى ساعة يفارقها فيها غير آسف عليها؛ لأن نفسه لم تكن تقنع بما يصيب من خير ينغصه عليه الهوان واليأس من الحب والكرامة، وكانت صناعة التمثيل لهوا زريا، لا تقبل معاهدها في الأحياء الشريفة المستورة، ولا تزورها العامة إلا على غضاضة، بل لقد كان الممثلون عرضة لزرايتين كلتاهما مؤلمة، وكلتاهما تفدح النفس وتغض من عزتها: إحداهما الزراية التي لم يسلم منها تمثيل صحيح ولا غير صحيح، والأخرى الزراية التي يتلقاها صاحب التمثيل القيم من جمهور يجهل فنه، ويؤثر التهريج والمجون، ومن ثم وصاية هاملت أن تكرم وفادة الممثلين في قصر الملك، ولا يستصغر شأنهم في الضيافة، من ثم تعريض هاملت «بفرقة الغلمان» في المدينة، أو قل تعريض شكسبير بتلك الفرقة التي ألفها «الأرل أوف أسكس» فصرفت النظارة عن رواياته، ودلت شكسبير على قيمة شعره عند الناس بعد عمله الطويل في التأليف والتمثيل.
فالرجل قد أفرغ كثيرا مما في نفسه في هذه الرواية، وظهر فيها هازئا بالناس متبرما بالمقادير، مترددا بين الموت والحياة، وكان ذلك قبل مفارقته لندن بعشر سنوات أو قراب ذلك، فأي عجب في أن يهجر لندن إلى قريته الجميلة ليعيش بين مروجها وبساتينها، معتزلا هذه المعيشة بعيدا عن هذه القصص، مستريحا من هذه الجهالات؟ وأي «طبيعة عملية» تغري مثل هذا الرجل بالهجرة من العاصمة - حين يتاح له المزيد من الربح والشهرة - لولا نفس يعنيها شعورها فوق عنايتها برزقها، وتسرها الكرامة فوق سرورها بالسمعة الداوية والصيت البعيد!
وفي روايات شكسبير الأخرى - مآسيها ومضحكاتها - غمزات أخرى من هذا القبيل تشف عن ألم الرجل لحاله، وسخطه على نصيبه وخيبته في حبه، ولكنه كتب هاملت في فترة من فترات السوداء والقنوط وفي أيام تداولته فيها آلام «الحب المزدري» والوشاية التي نمت عليها أغانيه ولم يفصح التاريخ عن حقيقتها، فاصطفى هاملت للبوح بنجواه، ورمى أبناء وطنه كلهم بالجنون حين قال على لسان حفار القبور: إنهم أرسلوا هاملت إلى إنجلترا ليتداوى بالسياحة من المس الذي اعتراه «وإنه إذا لم يشف من ذلك المس فلا ضير. إذ لا أحد في إنجلترا يفطن إلى جنونه؛ لأنهم كلهم هناك مجانين.» وساعده جنون هاملت على أن يقول بحكمة الموسوسين ما لا يقال في حكمة العقلاء، فصب غضبه على المرأة، وقرف النساء كلهن بالخنا، وأنذر كل زوج بالخيانة، وسخر تلك السخرية البائسة من العفة والصيانة، والحب والوفاء؛ لأن عجائب الطبيعة الإنسانية التي لا حد لها قضت على هذا الساحر العليم بسرائر النفس ألا يعصمه سحره ولا علمه من أشراك غاوية لعوب من بنات البلاط، كانت تعاهده على الوفاء وتخونه مع أصدقائه فتفجعه في الحب والصداقة، وتلهب غيرته وأسفه بنارين لا بنار واحدة، تقول له بعد ذلك ما يحلو لها فيصدق تصديق البلهاء «إذ الحب مجنون صادق الجنون، فأنت تعملين ما تشائين وهو لا يسيء الظنون.» •••
على أننا إذا رجعنا إلى ما قاله شكسبير بلسانه لا بلسان أبطاله في رواياته لم يخف علينا الشجن الذي كان يعتلج بقلبه، والحسرة التي كانت تحز في صدره، فهو يقول في أغانيه: «دع أولئك الذين أسعدتهم طوالعهم بما لم تسعدني يزهون بالمراتب والألقاب، إنني أنا المحروم من ذلك الفخار لا أجد السرور عند أغلى ما أعز في الحياة.» ويحدثنا عن نفسه وهو «مخذول من الجد والناس يبكي وحده نصيبه المنبوذ، ويزعج السماء بصراخه العقيم، وينظر إلى نفسه فيلعن قسمته، ويود لو رزقه الحظ قسمة غيره من الرجاء والوسامة والأصدقاء.»
فالذين يمثلون لنا شكسبير رجلا راضيا عن الدنيا لما أصابه من عروضها وحطامها يجهلون الرجل، ولا يفهمون لحنه من مضامين رواياته، وإنما شكسبير «هاملت» عاقل بل هو كتب هاملت ليقول بلسانه «المجنون» ما لا يقوله لسان الحكمة، أو ليأخذ «الحكمة من أفواه المجانين» كما يقول العرب في الأمثال، وقد أراده في خاتمة الرواية خلافا لما جاء في القصة القديمة؛ لأنه أسكن للطبيعة الإنسانية من أن يحسب البقاء وارتقاء العرش نصرا نختم به حياة رجل في مزاج هاملت المحزون، وفي تلك البيئة التي فقد فيها أباه، وشهد خيانة عمه وأمه وأضاع حبيبته، واقترف جريمة القتل على غير قصد منه، وعز عليه أن يجد الفرد الواحد الأمين في عشرة آلاف من الخائنين، ومثل شكسبير لا يحفل بالأسطورة القديمة إذا هو حيي في نفسه حياة هاملت، فأوحت إليه سليقته أن الموت هو خير ما تستريح إليه وتظفر به، بعد ذلك السأم القائم، واليأس الدفين.
لقد ثقلت قيود الرشد على رأس شكسبير فخلعه برهة؛ لينعم بطلاقة الجنون، وليقول كل ما يعلم؛ لأنه «ليس كل ما يعلم يقال.»
قصة العقل والعاطفة1
حكي أنه كان في بلد من البلدان في زمن من الأزمان رجل حكيم يوصف بالشعر والفلسفة معا، ويأبى إلا أن يكون عالما وشاعرا وفيلسوفا في نفس واحد، وكان يقال لذلك الحكيم. ما ملكة يحتاج إليها العالم دون الشاعر والفيلسوف! فيقول العقل، ثم يقال له: ما ملكة يحتاج إليها الشاعر دون العالم والفيلسوف؟ فيقول: العقل! ثم يقال له: ما ملكة يحتاج إليها الفيلسوف دون الشاعر والعالم؟ فيقول: العقل! وهكذا يرى الذي يسأله أن العلم والشعر والفلسفة شيء واحد، وأن هذه الأوصاف ليست إلا اختلافا في اللفظ كاختلاف المترادفات في نطق اللسان!
وقيل له مرة: إن الاختراعات المبتكرة والعلوم الحديثة، إنما ظهرت وتفشت في القرنين الأخيرين، وإنه لم يسبق لعصر في التاريخ أن كثرت فيه المخترعات كثرتها في هذين القرنين فما تعليل ذلك في رأي الحكيم العليم؛ فكان يقول والعهدة على الراوين: إن الناس كثرت اختراعاتهم في القرنين الأخيرين ولم تكثر في القرون الأولى، لأن العقل خلق لهم فجأة سنة سبعمائة وألف بعد الميلاد، ولم يكن في رءوسهم قبل ذلك عقل ولا معقول، فأثنوا عليه ودعوا له بالإفادة والزيادة.
وقيل له مرة، إن شكسبير كان شاعرا عظيما فكيف كان كذلك؛ فقال لأنه لم يكن عاقلا، فعجبوا من سعة العلم الذي يجمع بين الضدين النقيضين، وقالوا في لهجة التأمين والتسليم: يفتح الله على من يشاء بما يشاء كيف يشاء.
وقيلت له أشياء كثيرة من قبيل هذه الأشياء فكان يجيب عليها أجوبة كثيرة من قبيل هذه الأجوبة، وكان عن علمه وفلسفته وشعره جد راض، وكانوا هم عن كل ما أوحي إليهم من العلم والفلسفة والشعر جد راضين. •••
أيها القارئ! لو أن راويا قص عليك القصة التي قدمناها لك، لغلب على ظنك أن الفيلسوف المزعوم واحد من أولئك الأسطوريين الذين يتحدثون عنهم كما يتحدثون عن آلهة اليونان، وربات الخيال، وأبطال خرافة، وأحياء إيثوب، ولكنك إذا علمت أنه حقيقة من حقائق الحياة، وأنه يعيش في هذا الزمان، ويقول هذا الكلام، ويجادل من يناقضه فيه أحر الجدال، فلا ريب أنك تحسبه خبرا جديرا بالقصص، وأعجوبة خليقة بالإظهار.
ومن شك في هذا الخبر أو من استعجب هذه الأعجوبة فليبين لنا ماذا يقول الأستاذ جميل صدقي الزهاوي في مقالاته التي يرد بها علينا إن لم يكن يقول: إن العالم كالشاعر، وإن كليهما كالفيلسوف، وإن كل ما يحتاج إليه هذا أو ذاك أو ذلك ملكة تعليل وسليقة تحليل، لا يتطرق إليها خيال، ولا تصغي إلى بديهة، ولا ترجع إلا إلى المنظار والمشرط والإنبيق؟ وماذا يقول الأستاذ إن لم يكن يقول: إنه لا يحتاج في شعره غير ملكات التعليل والتحليل، وإنه مع ذلك شاعر إن شاء حينا، وعالم إن شاء أحيانا، وفيلسوف إن شاء في كل حين؟ إن كان يقول: إنه شاعر بفضل ملكة أخرى غير التعليل والتحليل فليبين ما اسم تلك الملكة، وما مكانها في بيت واحد من شعره الكثير؟ وإن كان يقول إنه شاعر أو فيلسوف بفضل ملكة التعليل والتحليل دون غيرها فليبين لنا إذن ما الفرق عنده بين الشاعر والعالم، وما الفرق عنده بين أحدهما والفيلسوف! •••
لقد أسلفت للأستاذ أنني لا أعنى بإنكار فلسفته أو شعره، ولكن أعنى بتقرير حقيقة يكاد لا يعوزها الدليل، وإن كانت محلا للشك في رأي بعض الكتاب والدعاة، وتلك الحقيقة هي أن الإنسان لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير، وكذلك يفهم بالحياة التي هي مجموعة من هذه الملكات كيفما تعددت فيها التسمية والتقسيم، فأنت إذا أردت أن «تفهم» إنسانا فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط عليه ملكة التعليل والتحليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر؛ فقولك «تفهمها» مرادف لقولك تحسها وتتخيلها وتشملها بعطفك وبديهتك وفكرك، ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ذلك خير لك وألف خير من أن تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس.
يقول الأستاذ الزهاوي: «قد كانت للفرنسيين والألمان والإنجليز من الأمم عواطفهم ألف عام، فلم يكتشفوا أو يخترعوا يومئذ شيئا يذكر، بل كان العرب في ذلك العصر سباقين إلى الاكتشاف أكثر منهم، وليس ما قدم الإغريق في يوم ازدهار الحضارة والحكمة عندهم هو عواطفهم، وما أخر غيرهم من الأمم المعاصرة لهم هو عقلهم، بل الذي قدم أولئك هو حرية الفكر، وحرية القول، والكتابة، وكثرة المتضلعين من العلوم فيهم، وعدمهما أو قلتهما عند هؤلاء يومئذ، ولا حاجة بنا إلى الرجوع إلى العصور الخالية، فإن اليابان لم تتغير عواطفهم في مدة الخمسين سنة الأخيرة، وهم اليوم يكتشفون ويخترعون. ذلك لأن المتعلمين فيهم اليوم يعدون بالملايين فلا غرو أن ظهر بينهم عدد غير قليل من المكتشفين والمخترعين.»
كذلك يقول الأستاذ فما أعجب أن يكون هذا دليله على ما يزعم، وحجته على بطلان ما نقول. اليابان والصين - مثلا - كانوا معا جهلاء جامدين فتقدمت اليابان وعلمت وظلت الصين في ربقة الجهل والجمود. كيف كان ذلك؟ كان بالعلم! وكيف كان العلم أيضا؟ كان بالعلم! فاليابان إذن كانت عالمة قبل أن تتعلم وناشطة من الجمود قبل أن تنشط من الجمود! فما أصح هذا العقل وما أعجب هذا التدليل، لو أننا قلنا: إن البواعث النفسية تغيرت في اليابان فطلبت العلم، ولم تتغير في الصين فظلت على جهلها لما كان هذا عجيبا في رأي المنطق ولا في رأي الإحساس والخيال. أما أن نقول: إن الناس تخلق لهم عقول فجأة فيفهمون بها ما لم يكونوا يفهمون فهذا هو النبأ العجيب، واللغز المريب، والقول الذي لا يسلمه جاهل ولا لبيب.
ونذكر العرب كما ذكرهم الأستاذ فنقول إنهم كانوا - كما قال الأستاذ - سباقين إلى العلم أكثر من الأوربيين، ثم ركدت حركتهم وتقدم هؤلاء، فلماذا كان هذا؛ أين ذهبت العلوم والمعلومات والعقول والمعقولات؟ أأصبحوا ذات نهار فإذا بالعلوم والعقول قد شدت رحالها في ظلام الليل، فإذا هم يجهلون ما كانوا يعلمون، وينسون ما كانوا يذكرون! لا نظن الأستاذ يزعم هذا، وإنما كانت هناك بواعث نفسية ثم هجعت وداخلها الفساد فلم ينفعهم العلم ولم يصلحهم التفكير، وهذه البواعث النفسية هي التي تغيرت أيضا حين تبدلت حالة العرب من الجاهلية إلى الفتح والغلبة والحضارة، وهي التي تغيرت أيضا حين تبدلت حالة العرب من السبق إلى التخلف ومن الابتكار إلى المحاكاة، وقل مثل ذلك في الفرنسيين والألمان والإنجليز من الأمم قبل ألف عام، وفيما هم عليه في هذه الأيام، فليس الفرق بين الأمم الفتية والشائخة فرقا في العقل والتفكير. إذ ربما كانت الأمم الشائخة الهاوية أظهر تفكيرا وعقلا من الأمم الفتية الناهضة، ولكنه هو الفرق في العواطف والبواعث النفسية، وسائر ما ينتظم تحت كلمة الحياة، وهذا الفرق هو الذي يميز بين الشعوب المتحضرة على اشتراكها في حصة العلم والاختراع، فإن شعوب أوربا وأمريكا تتقاسم حصة العلوم الحديثة وميراث الحضارة والصناعة ولكنها ليست شرعا في التفوق والسيادة؛ لأنها ليست بشرع في العاطفة والحس والخيال، وعلينا نحن أن نفهم هذا جيد الفهم فلا نبخس حق الفنون والأذواق والآداب، كما يفعل المتعجلون منا ولا تنطلق مع أولئك الدعاة الذين يهتفون باسم العلم، وهم يجهلون مكانه من حياة الأقدمين والمحدثين. •••
وأرى أن إيمان الأستاذ بالرجعة والدور والتسلسل قد تزعزع بعد مناقشتنا إياه في مقدماته وأسبابه، فهو اليوم يشترط أن تظل مجاميع الكواكب منقسمة «في هذا الفضاء غير المتناهي إلى أجرام قد تباعد بعضها عن بعض فكان بينها مسافات شاسعة» ليجوز له أن يقول: إن الأشكال متناهية وإنها لا بد على هذا أن تعود إلى ما كانت عليه كرة أخرى، وليس أمام الأستاذ إلا خطوة أخرى لينكر الدور والتسلسل كما ننكره نحن، ويكفر بدين لا يجدي على المؤمن به غير تكرار البلاء الذي نفر منه إلى الإيمان، فإن أمامه أن يقول: إن الجواهر لا يمنعها مانع أن تأبق من مجموعة إلى مجموعة أخرى في الفضاء فتغير عدد الجواهر، وتتغير الأشكال ولا تعود الجواهر إلى أشكالها في حاضر ولا ماض، وهو سواء أقال ذلك أم لم يقله غير مستطيع أن يحجر على الجواهر أبدا أن تنتقل من مجموعة إلى مجموعة في طويل الآباد والأبعاد. •••
وبعد، فما بال الأستاذ يدفع عن نظرية الدور والتسلسل كأنها نظريته التي استنبطها، ولم يسبق إليها؟ ألا يعلم أن الرجعة مذهب من مذاهب الهند الأقدمين؟ بل ألا يعلم أن نيتشه قال بها في هذا العصر وتطرف فيها كما تطرف هو، فانتظر أن يئوب إلى الأرض هومر والمسيح ونيتشه وكل حي وكل موجود؟ «فكل شيء يذهب وكل شيء يعود ودولاب الوجود أبدا يدور، وكل شيء يموت وكل شيء يزهر كرة أخرى وفصول الوجود أبدا في تكرير، وكل شيء يتحطم وكل شيء يلتئم وبيت الوجود أبدا يبني نفسه من جديد، وكل شيء ينفصل وكل شيء يرجع إلى اللقاء، وحلقة الوجود أبدا على عهدها المعهود»، هكذا يقول زرادشت أو هكذا يقول نيتشه في أسلوب الأنبياء والكهان.
ولم يكن نيتشه في حاجة إلى كبير عقل ليهتدي إلى نظرية الدور والتسلسل، فالأستاذ يعلم أنه كان عبقريا ملتاث الفكر ، وربما علم أنه كان على وشك الجنون يوم اهتدى إلى هذه النظرية التي لا تستريح إليها العقول، بارك الله في عقل الأستاذ وصرف عنه السوء، وأكثر من أمثاله وإن كان هو يزعم أن أمثاله كثيرون يعدون بالملايين في عوالم هذا الفضاء.
أرباب مهجورة1
كانت الأقدار في عون الآلهة التي لم ترزق حظها من العبادة، ولم يكتب لها نصيبها من الصلوات والقرابين. إن الجائع الذي لا يجد طعامه لبائس جد بائس، ولكن أشد منه بؤسا وأبلغ منه شقاوة ذلك الإله الذي خلق ليؤمن به المؤمنون، والذي نحت من معدنه لتخر له الجباه وتستلقي في محرابه الهامات، ثم هو باق في العراء مستلق على الرمال، لا محراب ولا كهان ولا دعاء ولا صلاة، فهذا بؤس الآلهة وهو إله البؤس كما يقولون! ولعل الجائع الذي ضل طعامه واجد من يعطف عليه ويرثي لحاله، أو غير يائس من لقيمات يقتات بها من يد غني أو فقير، أما الآلهة المنكوبة في عبادها فلا عزاء لها ولا عطف بينها ولا رجاء في إنسان ولا إله؟! ومن أين يأتي العطف في عالم الآلهة؟ ليس بين الكائنات العليا إلا تقاليد البلاط أو شارة العداء والقتال، وأما الناس فهم إما معطوها العبادة أو معطوها الفناء، وهي عندهم إما رب يطاع أو حجر يلقى على عرض الطريق، فويل للآلهة المسكينة من عبادها الأقوياء عليها، ثم ويل للعباد من آلهة لا تحفظ نفسها، وهم يرجونها لحفظ العالمين!
في الوادي الشرقي من أسوان إلهان أو ثلاثة من هذه الآلهة معزولة، تركها الناحتون حيث نحتوها من الصخر الخامل المنسي في غمار المناجم، وضنوا عليها بالنقل إلى حيث تقام على قدميها وتتلقى نصيبها من الدعاء والبخور، تركوها في العراء وأودعوها ذمة الخمول، فلا يعلم الناظر إليها من هي ولا من هم أولئك الذين جنوا عليها تلك الجناية، فلا هي من الصخر ولا هي معدودة في زمرة المعبودين، وهي هناك عمل لم يبلغ تمامه وشيء لم يأخذ له صورة في الأخلاد، وبنية شائعة بين الآلهة والملوك يطلق عليها كل اسم ولا يطلق عليها اسم من الأسماء، أهذا «أوزوريس»؟ نعم في زعم أناس يعرفون ملامح الإله ويأخذونه بالمخايل والأشباه! فمسكين هذا «الأوزوريس» النكرة يكاد لا يعرفه أحد بين الصخور إذا فقد الشارة والعلامة! ومسكينة تلك الإلهية التي تنتهي بصاحبها إلى هذا المصير.
وإذا سألت أناسا آخرين من أصحاب الآلهة الأقدمين أنكروا الشبه، وقالوا لك: لا، ليس هذا صاحبنا «أوزوريس» ولا هو في السمت الذي عهدناه لذلك الإله العظيم، وما هو إلا ملك مجهول أو إله لم يدرج اسمه بعد في دفتر المواليد، فمن هو! لا نعلم ومن ذا الذي يعلم الملوك والأرباب إذا تجردوا من الحلل وخرجوا من المحراب!
وإذا أعدت إليهم السؤال عن الجبار الآخر المطروح على مسافة منه، فعلمهم به كعلمهم بذاك وعلمهم بهذين كعلمهم بكل أثر هنالك لم يبلغ التمام ولم يكشف عنه اللثام، وغاية ما يهديهم الظن إليه أن هذه الآثار قد تكون لأبي «إخناتون» رسول الشمس والوحدانية، ومنكر الأوثان والوثنية، مات الوالد ميتته العاجلة فعق الولد تذكاره برا بأتون وإشفاقا على الدين الحديث من بقايا الدين القديم.
أو أن «أمنحوتب الثالث» والد ذلك الرسول قد غضب على عامل التماثيل، فلم ينقده أجره وأقصاه عن حظيرته، ونبذ تماثيله في مكانها ثم عوجل بالموت فلم يعن خليفته بأمرها، يعزز هذا الظن أن اسم الملك منقوش على لوحة من الصخر هناك يواجهها عامل التماثيل داعيا مبتهلا وهو ممحو المعارف مدثور السمات، فهل صنع الملك به ذلك الصنيع من غضب عليه أم صنعه به أناس من مشوهي الصور وكارهي هذه العبادات؟ هنا ينتهي الظن إلى ظنون، وهنا لا نعلم نحن ولا هم يعلمون.
أما المكارون الذين يصحبون رواد الآثار في ذلك المكان، فعلمهم بكل شيء فيه علم اليقين وتاريخهم الذي يقصونه عليك لا تلعثم فيه ولا تشكيك. هذا تمثال رمسيس. وذلك تمثال آخر لرمسيس، وذلك مقعد عظيم كان يجلس عليه رمسيس، فما أسعد ذلك الملك في عالم الذكر والخلود! لقد جار في حياته على آثار الغابرين فدعاها لنفسه، وطمس أسماءهم ليلحقها باسمه، ثم ها هو بعد آلاف السنين من ذهاب سلطانه ينحله الشعب ما لم يعمل، وينسبون إليه ما ليس له من أثر، ويجعلون اسمه عنوانا لكل مالك وكل معبود وكل تمثال! فما من تمثال إلا هو تمثال رمسيس، وحسب الملوك الآخرين عزاء أنهم معروفون عند العارفين، ومجهولون عند أولئك الجاهلين!
على أنك هنا في مكان تلمس فيه قرب الذكر من النسيان وصلة النباهة بالهوان، كلها من معدن واحد وكلها في جيرة واحدة، فهذه فضلة الصخر التي بين يديك لا علامة عليها ولا نقش فيها ولا تنويه. ربما كان شطرها الآخر تمثالا نصبوه في بعض المعابد المصونة فحيته الوجوه زمانا بالسجود، وارتفعت له الألسنة زمانا بالدعاء، وذكرته الأقلام زمانا في صحف التاريخ واقترن ذكره زمانا بذكر العبادات والآلاء والفتوح والأنباء، أو ربما كان شطر منها ذلك التمثال المغمور في الرمال، لم يعرف له اسم ولم يبرح مقره من صفحة الخمول، وكلها بعد صخرة واحدة تلك الفضلة المنبوذة، وذلك الصنم المعبود وهذا التمثال المهجور.
وعن يمينك وعن شمالك عشرات من الحجارة المعلمة، كانت في طريق الحجاج إلى معبد إيزيس، أو الغزاة في سبيل الذود عن الوطن والطموح إلى الخلود. عبرتها الملوك والقواد فنقشوها وأفردوها بالعلامات والشيات، فانظر إليها تجد لها بروزا على لداتها وأقرانها، واستطالة على القمم الباذخة من فوقها، وفيم ذاك؟ أصلها من أصول الحجارة الصلب التي تحيط بها، وموضعها قريب منها إن لم يكن دون موضعها، وإنما عبر بها الملوك وأفردوها بالنقوش فجاءها النبل وتوارثت التنويه! وهل كان للناس في القديم من نبل وتنويه غير أن يعبرهم الملوك جادين أو لاهين، ويخلعوا عليهم شية من الشيات، أو طلسما من طلاسم الأسماء؟
وتأمل في أصنام مصر التي حج إليها الناس قديما، ويحجون إليها في هذا الزمن الحديث هل تجد صنما لم يكن في سالف عهده صخرة مطروحة بين هذه الصخور؟ قل فيها من نجم في غير هذه البقعة أو البقاع القريبة منها، فهي لو حنت إلى أصلها لعادت شظايا بددا إلى هذه التربة التي لم تكترث فراقها ولم تأسف عليها، وها قد أخذ الخلود شبعه من المنجم الغني فماذا غير فيه وماذا أحدث في نواحيه؟ لا يزال فيه متسع لكل ذكر على الأرض، وكل صنم تستدعيه العبادة والإعجاب، ولا يزال الخمول بخير لا يحس ما يسع به الذكر الحميد أو الذميم، وما تأخذه منه الشهرة بالحق أو بالباطل والبهتان. •••
دعتني هذه البقعة إليها كما تدعوني كلما نزلت بأسوان، فما تسأم هي الدعوة وما أسأم أنا التلبية، وكيف وهي تدعو الناس إليها باسم أعظم الأشياء في هذا الوجود؟ باسم الحياة تدعوهم وباسم الخلود وباسم الفناء، وليس أعظم من هذا الثالوث داعيا يجيبه السميع.
تسلك هذا الطريق فيغمرك نور شمس لا تدري كيف يكون معها الموت، ويحدق بك موات صحراء لا تدري كيف تكون معه الحياة، وفيما بين ذلك ذكريات باقيات وآثار خالدات، وحسيس أصوات خافت من عبقريات ذاهبة، طالما جاست في هذه الديار ونقبت في هذه الأحجار، وأفرغت عليها من روحها فإذا هي ملك تعرفه بسيماه أو رب تسجد له الجباه، فإذا غشيتك غاشية الحلم بين هذه العناصر والأطياف فأنت في طريقك هذا كأنك في تلك البقعة التي كان يجتازها الخضر كل خمسمائة عام، فيجد فيها البحر في موضع المدينة ويجد فيها المدينة في موضع البحر، ويراها خلاء قواء في هذه الزورة، ويراها مروجا وبساتين في الزورة التي تليها، وفي كل مرة لا يكف عن العجب وهي في كل مرة لا تكف عن التجديد، فقد كان هنا نيل لا يزال واديه مشقوقا في الهضاب ثم جف النيل وجرت الأقدام منه مجرى السفن، وكانت هنا آجام تعمرها الفيلة والأسود فلا آجام اليوم ولا أوابد، إلا قليلا من الأرانب والظباء والوعال، وفلولا من الثعالب والذئاب والضباع، وكانت هنا حصون هاجمها الفناء حتى عفى عليها أو كاد فخلفتها حصون أخرى يهاجمها الفناء ويعفى عليها أو يكاد، وكانت هنا معابد فصوامع فمساجد ثم جاء على آثارها خراب تدين له بيوت الأرباب، والناس ولا يعفى منه قديم ولا حديث، وحول ذلك الصحراء تستأثر بالبقاء الطويل لا يتبدل فيها شيء إلا أن يكون جبل صامت في موضع بركان ثائر، وغدير وشيك النضوب في موضوع كثيب من الرمال. •••
وقف بي الحمار عند «المسلة» الكبرى التي أراد بها البناة أن تكون أكبر مثيلاتها في مصر فأبت الأيام إلا أن تظل في أحضان الجبل على قيد باع من التمام، وقف هنالك لأنه تعود الوقوف على الآثار والإبطاء على معالم هذه القفار، فأرسلته وأنا أحمد له ما استطاع من الشغف بذلك التاريخ القديم، وأفاضل بينه وبين من تحفزهم إلى المكان عادة كعادته، أو من لا يحفزهم إليه شيء قط وهم على مسيرة لحظات منه! وأويت إلى كنف الجبل توقرني الذكرى الحافلة بالعبر، ويحف بي الضياء الزاخر بإشراق كإشراق الأمل، وحرارة كحرارة الهيام، وأنشد بيني وبين نفسي:
طهرت بماء سمائها أمم
وبه تطهر روحها الهند
والروح أولى أن يطهرها
نور يجف بها ويمتد
فيض يشف فما به كدر
ومدى يفيض فما له حد
وجلست ما بدا لي أن أجلس، ثم نهضت إلى الحمار وهو مطرق «يفكر» كحمار شيخوف فلعله يسأل نفسه . ما لهؤلاء الناس ولهذه البقعة لا يفتئون يأتون بي إليها من حين إلى حين؟ وماذا يشوقهم منها ولا علف فيها ولا خضرة ولا ماء؟ فإن لم يكن هذا سؤاله فهو أعلم من أناس يسألون هذا السؤال، ولا يعثرون له على جواب!
الكمال (1)1
... فكرت في تطور الحياة وسعيها نحو الكمال ثم سألت نفسي: ولكن هل الإنسانية بالغة من الكمال حدا ليس بعده غاية؟ وإذا بلغت ذلك الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وما هي تلك الصورة التي يتجلى فيها ذلك الكمال؟ وإذا كانت لن تبلغ حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي، بعثت إليك بهذه الخواطر لتبسط الرأي على صفحات البلاغ الأسبوعي، وتكشف عن الحقيقة، ولك مني جزيل الشكر.
محمود محمود محمد
مصر في 26 ديسمبر سنة 1927
إن الأديب صاحب هذا الخطاب يحسب أنني أعرف من أمر المستقبل ما لا يعرفه هو أو يعرف أي إنسان، وهذا حسن ظنه منه لا حيلة لي في تحقيقه، ولو شئت لأحلته إلى ما بعد ألف سنة، ووصفت له ما عسى أن يكون عليه حال الإنسان في المستقبل القريب فلا يستطيع أن يناقضني فيما أقول. أو يستطيع هو أن يناقضني، وأستطيع أنا أن أرجئ الأمر إلى أن يحين الموعد، ونرى أينا أدنى إلى الحقيقة! ولكني لا أحب هذه النبوءات المعلقة، وأريد أن أخطو معه خطوات في عالم المجهول، ونحن على مأمن من الرجعة إلى مكاننا في القرن العشرين.
ولا يحسبن الأديب أنني قليل الادعاء في علم المستقبل إلى الحد الذي تخيله له هذه المقدمة الوجيزة، فإنني مدع له الآن شيئا أنا على أتم اليقين منه، وأوكد التوكيد من صدقه، فأقول له: إن الإنسانية لن تبلغ أبدا حدا من الكمال ليس بعده غاية؛ لأن هذا ينتهي بنا إلى الكمال المطلق في مخلوقات لها بداية ونهاية ونشأة تندرج عليها من نقص إلى كمال، فضلا عن أن الكمال المطلق شيء غير مفهوم، ولا يمكن أن يفهم؛ لأنه غير محدود، وكل ما كان غير محدود فليس في الإمكان حصره، ولا الإحاطة به من طريق المعرفة الإنسانية، وهو فضلا عن هذا أيضا غير مرغوب فيه لو أمكن وقوعه؛ لأن الحياة كلها قائمة على الحاجة والحاجة قائمة على النقص، فإذا كملنا كمالا لا حاجة بعده فقدنا لذة الحياة من حب وطعام، وسعي وتحقيق للأمل، ونصر على المخاوف، إذ كان لا معنى للحب في مخلوق كامل المطالب؛ لأن الحب هو الحاجة إلى شريك أو الحاجة إلى خلف، ولا معنى للطعام من باب أولى ولا للسعي ولا للأمل والخوف، فالكمال المطلق إذن شيء لن نبلغه ولن نتصوره ولن نستريح إليه، والأديب صاحب الخطاب على هذا الرأي كما أرى لأنه يسأل: إذا بلغنا ذلك الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وهو على حق في سؤاله؛ لأن الحياة الإنسانية لا قيمة لها إذا بطلت فيها الحاجة، والسعي إلى سدادها، وإنما نترقى في الاحتياج كلما ارتقينا فيكون أرفعنا نفسا ذلك الذي يحتاج إلى أمر لا يحتاج إليه من هو دونه. وحاجة الكمال نفسها مطلب لا يشعر به كثيرون، ولا يقلقون بالهم بما كان منه وما هو صائر إليه، فهذه ضريبة على بني الإنسان لا فكاك منها، ولا هم يستوفونها إلى أن يدركهم الزوال، وصدق من قال:
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
في قصيدتي «ترجمة شيطان» أمثل الشيطان الذي تاب عن الإغواء وأدخل الجنة، قائما يسأل الله جل وعلا: هل نستقر وبيننا وبين الكمال غاية؟ وهل نسعد ونحن غير مستقرين؟ وما نعيم الجنة إذا كنت أرى الكمال ولا أبلغه، أو أراه ولا أطلبه؟ هل يسلب مني الشوق إلى الكمال، فأنا إذن موكوس ممسوخ؟ أو يبقى في هذا الشوق فأنا إذن مجاهد محروم؟ كلاهما لا ينتهي إلى سعادة، ونحن ها هنا في النعيم وهل نطلب النعيم إلا لنعيش فيه سعداء؟!
فمن جرى على فلسفة هذا الشيطان فسبيله أن يسأل عن هذا المنوال، ولا يظفر ببيان وخير لنا هنا - على هذه الأرض - أن نستقر على شيء فيه بعض من سعادة الاستقرار، ذلك الشيء هو أن السعادة إنما هي في السعي والطلب، أو في الأمل الذي ينتقل بنا من حال إلى حال، فأما الاستقرار التام فلا نبلغه ولا هو بمحمود إذا نحن بلغناه. وقد أنصف شوبنهور حين شبه الإنسان في الحياة بالحمار الذي يصعدون به جبال الألب، ويضعون على رأسه حديدة يعلقون فيها العلف بحيث لا يناله ولا يغيب عن نظره! فهو أبدا صاعد وهو أبدا بعيد من ذلك العلف المأمول! ولكنه يصعد ويصعد وينسى مشقة الصعود، ويتلهى عن الجوع، ويقوم بأداء ما هو مسخر فيه، وكذلك الإنسان يفتأ ينظر إلى الأمل الذي بين عينيه فيخطئه أو يصيبه، ولكنه يستعين به على الصعود في مرتقى الحياة، ويؤدي ما هو مفروض عليه وهو يحسب أنه ساع إلى طعامه، فلنستقر على هذا إذا كان لا بد من استقرار، ولنعلم إن رضينا أو غضبنا أننا ما لنا غيره من قرار.
ندع الكمال المطلق غير مأسوف عليه، فما هو إلا الفناء أو شبيه بالفناء إذا قيس إلى الإنسان، ونسأل كما يسأل الأديب صاحب الخطاب: إذا كانت الإنسانية لن تبلغ حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي؟ ويبدو لي أنك لن تكون على يقين من هذا كيقينك من ذاك. أو قد تكون على يقين من مستقبل بني الإنسان، ولكنك لا تحب أن تفتح عينيك على ما تراه؛ لأنك لا ترى في النهاية الخاتمة إلا الزوال المحتوم، وإلا فإلى أي حال ينتهي الإنسان على هذه الأرض إلا أن يبيد كما تبيد الخلائق أجمعون؟ ليست أسباب الحياة مؤاتية أبدا في هذه الدنيا، وليس الكوكب الذي نعيش عليه بمعصوم من الدمار، وستمضي القرون بالألوف أو بالملايين، كما نمضي غمضة العين في آباد الزمان، ثم يحين الحين، ويفنى كل من في الأرض قبل أن تفنى الأرض بقرون.
زحل أشرف الكواكب دارا
من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثان الد
هر مطف وإن علت في اتقاد
نبوءة لا تعجبنا ولا ريب، ولكن كم في الحياة التي نحياها الآن من أمور لا تعجبنا، وهي مع هذا كائنة لا يختلف فيها حيان! فنحن نحيا ونعلم أننا سنموت، ولا نكف من أجل هذا عن الحياة، وقد تسأل في سخط وريبة: ما فائدة الحياة إذن إن كان قصارى الإنسان على الأرض أن يبيد وتعفو ريحه من هذا الكوكب أبد الآبدين؟ فقل لي حماك الله كم من هذه الأمم التي عاشت وماتت وتعيش الآن وتموت يعلم فائدة ما من الحياة؟ فإن قلت إنهم يفرضون لها فائدة يعيشون لها، ويحتملونها من أجلها فاعلم علما ليس بالظن أنهم سيفرضون لها هذه الفائدة وما يشبهها ولو تحققوا فناء الإنسان، بعد كذا أو أكثر من الزمان! وأنهم قادرون على أن ينخدعوا ما داموا قادرين على أن يحيوا، فما ينخدع الشاب إلا لأنه أحيا حياة من الشيخ المتهدم، وما يخلو الشيخ من الخديعة شيئا فشيئا إلا؛ لأنه يخلو من الحياة، فستوجد لنا الحياة فائدتها المزعومة وستقنع بها أبناءها المؤمنين بها ما داموا في قيدها، ولو تحققوا الموت بعد حين. بيد أنهم لا يتحققون الموت ما دام فيهم رمق منها، ولا يزالون يتبعون الأمل ما داموا يحسون ويعقلون.
هذا ما أقدر لبني الإنسان في المستقبل البعيد، ولا يحزنني أن يكون هو المستقبل القريب، فإن كل أحد من رواد المستقبل أعظم تفاؤلا مني، وأرفق ببني الإنسان رجاء، فعزائي أن تفاؤله ليس خيرا من تشاؤمي، وأن تشاؤمي ليس شرا من تفاؤله، فيما يرجع إلى مصير بني الإنسان.
بقي أن نشغل أنفسنا بما يتاح لنا من الكمال المحدود في هذا العمر القصير، ولا عجب أن نشغل أنفسنا بهذا فقد سمعنا بالكثيرين ممن قضي عليهم بالموت يذهبون إلى الجلاد في أجمل بزة، وأحسن هيئة، ويأبون أن يذهبوا إليه شعثا غبرا على غير ما يليق بهم من السمت والجمال، فإذا كانت «الإنسانية» مقضيا عليها بالموت بعد الدهر الدهير، فليس ذلك بمانع أحدا أن يتزيا بما يتاح له من أزياء الكمال في البقية الباقية لها من العمر الطويل؛ لأن الكمال خير من النقص على كل حال، أو لعله أسهل من النقص في عرف من ينشدونه ولا يعيشون بغيره.
لكل عصر مثال أو أكثر للرجل الكامل في الحاضر والمستقبل، ولهذا العصر أمثلته الكثيرة للكمال، ولكنها تلتقي كلها في مثالين متناقضين: أحدهما هو «السبرمان» والآخر هو «الجنتلمان».
يتناقض هذان المثالان: فالسبرمان في رأي نيتشه - صاحب هذا المثال - إنسان فرد منظور في خلقه إلى نفسه لا إلى غيره، أما «الجنتلمان» فمنظور فيه إلى البيئة لا إلى نفسه، ومطلوب منه صفات اجتماعية لا توافق الصفات الفردية التي يطلبها صاحب ذلك المثال.
فالسبرمان طالب قوة لا يعدل بها شيئا، أو طالب جمال؛ لأن القوة هي الجمال، وهو قهار متجبر لا يرحم نده، ولا يعطف على من دونه ولا يحسب للناس حسابا إلا أن يكون ذلك لسفك دماء، أو مخالفة على عداء، وهو عضو في مجتمع، ولكنه كالعضو «الفزيولوجي» الذي يأخذ نصيبه من الغذاء كله، ولا يترك بقية منه للأعضاء الأخرى، إلا ما زاد على حاجته، وكذلك يجب أن تكون بنية المجتمع في رأي نيتشه، وإلا كان الجسم الذي ينزل فيه عن غذائه رعاية لعضو غيره مشفيا على السقم والموت، وغير أهل لأن يجمع بين هاتيك الأعضاء، فآفة الحياة الإنسانية السليمة أن يأخذ فيها كل إنسان حقه، ولا يبالي بمن يعجز عن أخذ حقه لنفسه؛ لأن الجسم الصحيح يصنع هكذا في توزيع الغذاء على جميع الأعضاء.
أما الجنتلمان فيخالف هذا المثال من وجهين: يخالفه أولا في أنه اختراع لم تخترعه عبقرية واحدة كالسبرمان، ولكنما اخترعته أمم وعصور لا تحصى، وإن كانت كلمته التي اشتهر بها من لغة الإنجليز، ويخالفه ثانيا في صفاته الفردية والاجتماعية؛ لأنه يدين بالعطف الذي لا يدين به السبرمان.
والذين عرفوا «الجنتلمان» كثيرون، ولكننا نجتزئ منهم بتعريفي اثنين قد أحاطا بأحسن ما يقال في صفات هذا المثال، فالسير شارل والدشتين يقول في كتابه الأرستو، ديمقراطية «إن المثل الأعلى للجنتلمان يشمل فيما يشمله أن يكون رجل شرف، أي رجلا يعنى في جميع أعماله بأن يعيش وفاقا لأعلى مبادئه، على الرغم من وحي المصلحة والراحة الذي قد يجنح له إلى وجهة أخرى، وهو رجل قد أدخل في قانونه - غير ناظر إلى المنفعة أو المآرب الخاصة - أسمى مبادئ الأخلاق الاجتماعية التي تعرف في زمانه، فالشرف والنزاهة في جميع معاملاته، والصدق في صفقات العمل، أو في العلاقات الدقيقة بينه وبين الناس تمتزج عنده بالكرم والإقدام على اتخاذ تلك المبادئ التي لا تبالي أحكام الظروف، ورجل الشرف هو ذلك الذي لا يقدر على عمل وضيع ولا على فكر وضيع ولا على إحساس وضيع، والذي لا يستطيع عوض أن يكون جبان النفس أو جبان الجنان، وهو مثال الرجولة والشجاعة الأدبية، قد تعهد في نفسه شجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز والشهوات، وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور الذي يسيطر على ما حوله.»
ويقول الكردينال نيومان فيما نقله عنه المطران الفيلسوف «أنج» في كتابه «إنجلترا»: «ألزم تعريفات الجنتلمان يقال: إنه ذلك الذي لا يوقع ألما بأحد كائنا ما كان، وإنه يجتنب جهده كل ما يخدش أذهان صحبه، أو يكدرها، وإنه يجتنب الصدمة والاحتجاز والكآبة والتذمر، وإنه يجعل همه الأكبر أن يدع كل إنسان على هينة وطمأنينة، ولا يتحدث عن نفسه إلا مضطرا ولا يدفع عن نفسه لمجرد رد الإساءة، ولا يصغي إلى وشاية أو لغو، أو يتعجل بإسناد الغرض إلى من يتعرضون له، بل يفسر كل شيء على أحسن وجهه، والجنتلمان لا يكون وضيعا ولا صغيرا في منافساته، ولا يخلط بين الشخصيات والكلمات العوراء وبين الحجج والبراهين، أو يلمح بالسوء الذي لا يجهر به، وهو إنسان له فهم يعصمه أن يضطرب من العدوان وشغل يلهيه عن تذكر الإساءة، وحلم يأبى عليه الضغينة، وقد يكون على خطأ أو صواب في آرائه، ولكنه أصح فكرا من أن يكون ظالما، وعنده من البساطة مثل ما عنده من الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه، ويلتمس الأعذار لما لهم من الأخطاء.»
فالصورة الأولى أقرب إلى الأدب، والصورة الأخيرة أقرب إلى الدين، وكلتاهما مثل أعلى يعسر وجوده في حقائق الحياة.
أي المثالين إذن أولى بالاتباع؟ الجنتلمان أو السبرمان؟
موعدنا بذلك المقال القادم إن شاء الله.
الكمال (2)1
السبرمان والجنتلمان «الأبيرمنش» كلمة كانت معروفة في اللغة الألمانية قبل فردريك نيتشه، الذي تنسب إليه وتلصق باسمه، ولكنه هو أول من أعطاها المعنى الذي عرفت به، بعد شيوع مذهبه وترجمة كتبه، و«السبرمان» هو ترجمة هذه الكلمة باللغة الإنجليزية، ومعناها الإنسان الأعلى أو الإنسان الذي فوق الإنسان.
لما اتخذ نيتشه هذه الكلمة وأطلقها على بطله الموعود، كان ولا ريب يؤمن بمذهب النشوء والارتقاء، ويتوهم أن السبرمان سيخرج من الإنسان كما خرج الإنسان من القرد، ويقول: إن هذا الإنسان جسر يعبره القرد إلى السبرمان، ووسيلة إلى المستقبل، وليس بغاية ينتهى إليها، ولعل المسافة بين إنسانه الموعود، وإنسان اليوم ستكون أكبر وأغرب من المسافة بين إنسان اليوم وجدوده القردة وذوات الأربع! فالسبرمان على هذا خيال، أو مثل أعلى وليس بصورة مرئية يحتذى على مثالها، أو مرتبة مستطاعة في عهدنا هذا يرتقي إلى منالها.
أما «الجنتلمان» فهو في وصف الواصفين له شيء موجود ومعهود، يعد بالعشرات والمئات ويكثر مثاله في الأندية والمجامع، ومحافل السروات وأبناء الطبقات الرفيعة، فليس الاختلاف في شأنه إلا اختلافا في تعيين صفاته، وحصر شمائله، وتعديد الخصال التي تبدو منه في كل يوم من أيام حياته، فالفرق بين الجنتلمان والسبرمان في هذا الحساب كالفرق بين الخلائق الحية وخلائق الأساطير، أو كالفرق بين الحقائق والأحلام.
ولكن الأمر على غير ما يتخيله أنصار السبرمان وأنصار الجنتلمان في هذا الاعتبار، فنحن نعتقد أن السبرمان كما وصفه نيتشه موجود أو موجود من يقاربه في أصول الأخلاق والمشارب، وأما الجنتلمان كما يصفه الكاتبون عنه فهو الخيال أو هو المثل الأعلى الذي لا وجود له في الآمال والأحلام.
فليس يندر أن تعرف في الوقت الحاضر - بل في التاريخ الماضي - إنسانا من المتجبرين يطغى بأنانيته الساطية على أبناء زمانه، ولا يؤمن بغير عظمته وجبروته: الخير عنده هو ما أرضاه والشر هو ما أسخطه وخالف هواه، والفضائل والمحاسن لا قيمة لها في عرفه، إلا بقدر ما تصلح له وتجري مع مطامعه، والرذائل والمثالب لا معنى لها إلا أن تعوق مبتغاه، أو يتسم بها من لا يرمون إلى مثل مرماه، وهو في كل ذلك نبيل النفس، عالي الهمة، عظيم الدهاء، يقضي بالحيلة ما ليس يقضيه بالشجاعة ويعرف الصدق والخديعة كأنهما لونان من ألوان القوة يظهر بكل منهما حيث يوافقه، أو حيث تملي عليه البداهة الملهمة بغير إرادة ولا إطالة تفكير، إلى آخر هذه الأوصاف التي حققها نيتشه فيمن سماهم أنصاف السبرمانات، ثم لم يستطع أن يسمو إلى ما فوقها من أوصاف السبرمانات الكاملين.
أما الجنتلمان أو «رجل الشرف» كما جاء في تعريف السير شارل والدشتين «الذي يعني في جميع أعماله بأن يعيش وفاقا لأعلى مبادئه على الرغم من وحي المصلحة والراحة، والذي قد تعهد نفسه بشجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز والشهوات، وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور» وكذلك جنتلمان الكاردينال نيومان «الذي لا يوقع ألما كائنا ما كان، والذي عنده من البساطة مثل ما عنده من القوة، ومن الوضوح مثل ما عنده من الحزم، ويجب ألا يزاد على ما عنده من الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه ويلتمس الأعذار لما لهم من الأخطاء.» نقول أما الجنتلمان على هذه الصورة أو على تلك فهو أقرب إلى المثل الأعلى منه إلى الواقع المشهود، وأدنى إلى عالم الأحلام منه إلى عالم العيان، وربما بحثت في كل عشرة آلاف من أصحاب هذا العنوان فلم تجد واحدا يعالج أن يكون على تلك الصفة من علو النفس وجمال الشمائل، وكل ما هنالك - أو أكثر ما هنالك - من الجنتلمانية صنعة يحذقها الطالب في بضعة أشهر، يتلقن فيها حركات وإشارات لا يصعب تلقينها، ويجري على أساليب في المعيشة لا يتعذر الجري عليها، ويحترس من إظهار عيوبه المحرمة في حكم هذه الصنعة، فإذا هو مقبول في مسلك أهلها، محسوب بين أصحاب عنوانها، ولا سيما إذا كان على شيء من التعليم، والإلمام بأوائل الفنون، وخبرة كافية بمزجيات الفراغ، وأحسن من ترى من أصحاب هذا العنوان أناس لهم ذوق في الاستمتاع بالترف الجميل يأخذونه مأخذ العادة، ويدرجون فيه على المحاكاة، أو يرجعون فيه إلى إحساس لطيف، يدرك هذا الترف الجميل ويعجز عن خلق الجمال وابتكار، فلا تلبث أن يتبين لك نقص ذلك الإحساس كلما خرج من نطاق العادة والمحاكاة إلى فسحة التمييز والاستقلال بالفهم والشعور، وقد ترى في خدم الفنادق الذين طالت ممارستهم لآداب التحية وعادات المجتمع في الطعام والشراب والملابس والزيارات، وأدمنوا الالتفات إلى الصور وألوان الجدران وأصناف الأثاث والتحف وأطوار «السادة» ومراتب الاجتماع أناسا ينغمسون في البيئة الجنتلمانية إذا شاءوا، ولا ينكشف أمرهم بين أفرادها لندرة الجنتلمانية الحقيقية أو المحاولة الصحيحة التي تطمح إلى هذه الجنتلمانية.
فليس الجنتلمان الشائع في العرف هو الإنسان الذي لا يوقع بأحد ألما كائنا ما كان ، بل هو ذلك الذي يتحرى في الإيلام أسلوبا غير أساليب السواد والسوقة، وليس هو الذي يعيش على أرفع مثال للمروءة والشيم، بل هو ذلك الذي يستبيح كل مأثمة ويستحل الكذب والخيانة والظلم في صيغة مصقولة غير نابية، وليس هو الذي يطالب في بيئته بالكمال والشمم وطهارة الأخلاق والمأرب، بل هو ذلك الذي لا تعني بيئته بشأن من شئونه ما دام حاظيا أمامها بشروطها المرسومة في مظاهر الحركة والتصرف والكلام، وليس هو الذي يقال عنه أحسن ما يقال في المجالس والندوات، بل هو ذلك الذي يقال عنه كل شيء وتبقى له بعد ذلك شرائط اللباقة والهندام، حتى لقد أصبحت تكاليف «البيئة الجنتلمانية» على أصحابه عنوانها أخف التكاليف على أهل بيئة من البيئات، وسهل الأمر على طلابه فلو أنشأت مدرسة مستعجلة لتخريج الجنتلمانية كما يخرجون الضباط في إبان الأزمات الحربية لتستطيع تخريج الألوف المؤلفة في كل ستة أشهر على أكمل ما يروم المجتمع، وتشترط الطبقات الرفيعة، فقد أفلح قانون الجنتلمانية الشائع في شيء واحد وهو تهوين الكمال على من يبتغيه، وتقريب التهذيب لمن يريد الاختصار، فما على هذا إلا أن يتقن الأساليب والظواهر، ثم لا يسأله أحد عن علم، أو خلق، أو ذوق، أو شعور، وليكن أضيق الناس عقلا، وألأمهم خلقا، وأسخفهم ذوقا، وأضلهم شعورا، فإذا ظهر عليه شيء من ذلك فتلك إذن غرابات شخصية، وأطوار خصوصية! ومن آداب «البيئة الجنتلمانية» ألا تحجر على هذه الغرابات والأطوار، بل تستملحها وتنجذب إليها؛ لأنها أقمن بالتنويع وتبديل الطعوم.
فإذا كان نيتشه قد ظن أن السبرمان أمل نتطلع إليه في المستقبل البعيد، فيجب أن نعلم نحن أن الجنتلمان - كما هو في صورة المثل الأعلى - أبعد تحقيقا، وأوغل في الحلم والتأميل، ولكننا سألنا أي المثالين أولى بالاتباع: السبرمان أو الجنتلمان؟ فالرأي عندي أن الفردية في السبرمان أكثر مما ينبغي، وأن ملاحظة البيئة في الجنتلمان أكثر مما ينبغي كذلك؛ لأن الإنسان ليس بالفرد المقطوع عن بيئته، ولا هو بالمستغرق في تلك البيئة، وإنما هو فرد وابن بيئة تعيش معه وابن نوع قد عاش قبله وسيعيش بعده، فإذا انحصرت آدابه في التفرد فذلك نقص وخلل، وإذا انحصرت آدابه في البيئة فذلك نقص وخلل، وإنما يستتم حق الفردية، وحق البيئة، وحق النوع، فهذا هو الكمال المقدور له، وهذه هي القبلة التي تهديه إلى مواقع الرشد والضلالة في مسيره.
إن نيتشه قد أخطأ فهم النشوء والارتقاء حين بنى ظهور السبرمان على أصول هذا المذهب، وأخطأ التشبيه حين قابل بين العضو في الجسد والإنسان في أمته أو نوعه؛ لأن «الفزيولوجيا» التي اعتمد عليها لا تؤيد قوله عن العضو إنه يستهلك كل غذائه لنفسه، بل هي ترينا العضو شيئا لا معنى له بغير خدمة الجسد كله، فالقلب ما الغذاء الذي يأخذه في جانب الغذاء الذي يعطيه؟ والمعدة والكبد والدماغ وسائر الجوارح والأعضاء، ما هي وما وظائفها وما سر وجودها إن لم تكن منفعتها لجسدها مقدمة على منفعتها لنفسها؟ وقل مثل ذلك في الإنسان العظيم أو الحقير، ما سر عظمته أو حقارته إن لم يكن منظورا في ذلك كله إلى غيره؟ وفي أي مظهر تتجلى هذه الغيرية إن لم يكن مظهرها صفات المفاداة، والبر، والرحمة، والاتصال بعروق من العطف، ووشائج من الأخلاق؟
أما العرف الشائع فقد أخطأ أشد من هذا الخطأ في فهم «الجنتلمانية»، فجعل المجتمع الحاضر - بل جعل البيئة الخاصة من المجتمع الحاضر - هي الحياة كلها، وهي محور الآداب والكفاءات، فلا أدب ولا كفاءة إلا ما يرضيها، ولا شيء في الدنيا جل أو صغر يبيح الإنسان أن يطرح أحكام هذه البيئة، ويجسر على إغضابها. فضاعت في هذا التقدير الفضائل النوعية التي إنما جبل عليها الإنسان لتقويم نوعه وتحسينه لا للاستغراق في بيئة زمانه والتفرغ لإرضائها عنه، وأصبحت هذه الفضائل التي تتفاوت بها الأقدار والمواهب كالنوافل المهملة في جانب الظواهر التي يقتضيها المجتمع من عباده. مع أن هذه الظواهر لا فائدة لها إلا كفائدة الزيت في تسهيل الحركة على العدد، وتليين العلاقات بين أجزاء الأداة الكبيرة المسماة بالأمة أو البيئة، ولكنها ليست هي العدد وليست هي الوظيفة التي أريدت بتركيبها وهندسة أجزائها وتقويم بنائها. إنما هي الزيت الذي يسهل حركاتها ويلين علاقاتها، ولا فائدة له إذا استغنت عن تسهيل الحركة وتليين العلاقات.
وإذا شئت أن تسبر مدى هذا الخطأ فتصور عظماء الإنسانية الذين هذبوا عقولها، وثقفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها، وأسرار علومها محرومين من حق العمل والتقدير، إلا أن يكونوا على وفاق البيئة الجنتلمانية، وأحكام الأندية ومحافل الظرفاء! ثم تصور كم تخسر الإنسانية من فقد أولئك العظماء وتعويضها بجنتلمان عصري عن كل عظيم مفقود، فإنك لا تملك نفسك أن تبتسم حين تتصور موسى وبوذا والمسيح ومحمدا أو بولس الرسول وهومر وأفلاطون والغزالي وأشباههم وأندادهم محاسبين في معاملات الحياة بحساب الأندية وقسطاس الظرفاء! ومتى ذكرت ذلك فإنك تذكر لا محالة أن الرجل قد يسخط أبناء جيله، ويزري بما تواضعوا عليه، وينبذ كل ما تفرضه عليه البيئة، ثم يظل بعد هذا كله إنسانا عظيما خليقا بالحب والإكبار.
فلا سبرمان نيتشه إذن، ولا جنتلمان العرف الشائع، ولكنما الإنسان الذي تمتزج فيه حقوق الفرد والبيئة والإنسانية جميعا هو مثال الكمال المطلوب، فإن سألت أي هذه الحقوق ينساها إذا اشتجرت في نفسه، واستحال عليه التوفق بينها، فاجزم بأنه ينسى فضائل الفردية والبيئة في سبيل فضائل الإنسان الباقية؛ لأنه طالب كمال والكمال معلق بالدوام ولا بحاجات نفسه الزائلة، ولا بالزمان المحدود الذي يعيش فيه.
توماس هاردي (1)1
أتراهم إذ يسمعون أنني سكنت سكوني الأخير، ينظرون على الأبواب إلى السماء قد حفلت بالنجوم التي يشهدها الشتاء، ويهتف نجي من الذكر في إخلاد أولئك الذين نزل الحجاب بيني وبينهم فلن يروا لي بعد ذلك وجها، فيهمس لهم أن قد مضى، وكانت له عين موكلة بهذه الغوامض والأسرار.
كذلك قال توماس هاردس في قصيدته الختام، فكأنما أوحى إليه لسان الغيب أنه مفارق هذه الدنيا في ليلة من ليالي الشتاء، ترتفع العيون إلى سمائها فتذكر الشاعر الذي كلفت عينه بالنجوم، وشملتها قريحته بسواد من الحزن الذي شملت به كل موجود: ثم أغمض عينيه عنها فأطبقا على ظلام كظلام الليل الذي كان فيه، لولا أنه ليل لا تشرق في سمائه نجوم، ولا يستنزل فيه وحي القصيد.
ألا من منبئ الشاعر الذي سكن اليوم سكونه الأخير، أن له في النفوس لذكرا تجدده كواكب الشتاء وكواكب الصيف، وتعيده ظلمات النفوس، وما يسطع في ثناياها من الشهب والشموس، وأنه لحبيب إلى كل قلب عرفه في حياته، وسيظل حبيبا إلى كل قلب سيعرفه بعد مماته، فإذا شخص الناظر المفعم الفؤاد إلى طلعة الفجر يتراقص فيها الورق اليابس والأخضر، كما تطايرت الأطياف من عصا الساحر، أو شخص إلى الليل كأنما يزحف إلى الشرق محسوس الحركة ملموس الجلباب، أو شخص إلى الكواكب تخالجه الرهبة من التفرد معها في غيهب الظلام، أو شخص إلى الشمس يعجب لعبادها وما وفقوا له من الهدي القديم، فهو ذاكر لا محالة صاحبه هاردي صاحب «ساكني البرج» و«تس» و«في معزل عن هيجة الزحام» ومسائل الطبيعة ليلها ونهارها، وطيرها وأشجارها، عما لا علم لها به من غوامض وأسرار.
توماس هاردي.
وإذا انقلب الناظر إلى فؤاده يتردد فيه بين ينابيع الرجاء، ومفاوز الخوف، ومروج الدعة ووعور المحنة، وصحراء اليأس، وسراب الآمال، فهو لا ريب ذاكر في ذلك العالم المستهول دليلا كأرفق ما يكون الأدلاء الذين جاسوا خلال القلوب، وسبروا أغوار السرائر، ونشروا في ذلك الميدان المكظوظ بالأشلاء والمصروعين أخوات من الرحمة، طاويات الضلوع على أسى وإشفاق، باسمات الوجوه عن صبر وإيناس، يضمدن الجروح، ويجبرن الكسور، ولا يخدعن أحدا بغير الحق، ولا يضحكن للملهوف ضحك الغواية والغرور، فإن عزاء لكل نفس أن تكون الحياة قد ضمت بين ضيوفها في يوم من أيامها رفيقا كذلك الشاعر الذي كسا الحزن رحمة، وجعل للشك قرارا كقرار الإيمان، وزان السواد بخير ما تجتمع فيه الزينة والحداد، وإن أنسا لسالك هذا الدرب الموحش أن يخاف فيه كما خاف ذلك الرفيق، وأن تفارقه الطمأنينة كما فارقت ذلك الصابر المطمئن إلى كل مستنفد للصبر، ملعج لسكينة الاطمئنان.
لقد كان هاردي من أحب القانطين إلى القراء وأخفهم محملا على الموافقين له والمخالفين في الرأي والشعور، فقد كان الرجل بين الشك، بل كان في بعض قصائده بين الإنكار، وها هو ذا بعد موته يدفن في مقبرة وستمنستر أي في مقبرة الدير الذي يشرف عليه القسوس، وكان أبعد الناس عن الملوك والأمراء فلم يبعده ذلك عن حبهم وإكبارهم، ولا قعد بولي العهد أن يقصد إليه منذ خمس سنوات ليزوره في بيته حيث يقيم في الريف، وكان منقبضا عن الحياة فلم يحل ذلك بينه وبين المستبشرين بها، ولم يقطع ما بينه وبينهم من المودة والإعجاب.
وإن من غرائب هذه الحياة أن يطول فيها مقام الذين يجتوونها، ويتبرمون بأكاذيبها وآلامها، وأنها تمسك لديها من لا يودونها ولا يحتفون بخيراتها، فهذا توماس هاردي الذي تتلخص فلسفته في إن هذه الدنيا كلها شيء عدمه خير من وجوده، والإضراب عنه خير من المضي فيه، قد عاش حتى بلغ السابعة والثمانين وطالت صحبته لها إلى السن التي يكره فيها الحياة من جبلوا على التفاؤل والاستبشار، وقديما كان المعري يذم العيش، ويرثي لكل مخلوق في قيد «أم دفر» وقد جاوز الثمانين بسنوات، ونيف شوبنهور على السبعين وهو إمام المتشائمين في الزمن الأخير، ومات كارليل عن ست وثمانين ولم تكن نظرته إلى الحياة نظرة الواثق المستريح، فكأن ما طبع عليه هؤلاء المتشائمون من فرط الإحساس بالألم، يجنح بهم إلى اتقائه واجتناب أسبابه، وكأن سكوت بواعث الحياة في نفوسهم يزهدهم في مطالبها، ويعفيهم من مجاشمها وأطماعها التي تعاجل الآجل بالسقم والعناء، فلا ندري أهذا من ذنوب الحياة التي تسوغ نقمتهم عليها أم هو من حسناتها التي تتهمهم بالزيغ والنكران. •••
ولد توماس هاردي سنة 1840 من أسرة معروفة في دور ستشير، وخرج إلى الدنيا مشكوكا في حياته، ونشأ في طفولته ضعيفا ميئوسا من بقائه مثل كثير من المعمرين بين رجال الأدب، وقد تعلم في صباه هندسة البناء ثم تتلمذ في هذه الصناعة لأستاذ من أهل بلده مختص ببناء الكنائس والصوامع، فبرع في صناعته وأفلح بعد قليل ، ورحل إلى العاصمة فنال جائزة المعهد الملكي على رسالة في موضوعها، ثم نال في السنة نفسها 1863 جائزة الرسم وتخطيط المنازل من «جماعة العمارة». ولكن نجاحه هذا لم يطمس في قريحته نزعة الأدب والشعر، فكان ينظم المقاطيع من حين إلى حين، ويكتب القصص الصغيرة التي أصابت حظا من الشهرة نشط به إلى مواصلة الكتابة والإقدام على التأليف فيما هو أكبر وأضفى، وربما كان الفضل في توجيهه هذه الوجهة للروائي المشهور «جورج مردث»، الذي أعجب بإحدى أقاصيصه وفطن إلى مقدرة كاتبها في فن الرواية، بل ربما كان لهذا التنشيط دخل في الأسلوب الذي جرى عليه هاردي، واشتد فيه الشبه بينه وبين مردث في متانة اللغة، ورصانة الموضوع، والتنزه عن الدنايا، والحرص على الآداب الرفيعة، وإن كان هاردي ليمتاز على أستاذه بالشاعرية والشغف بالمناظر الريفية، ولا يتكلف ما تخال أن مردث كان يتكلفه من التزمت والوقار.
وفي سنة 1874 أصدر روايته «في معزل عن هيجة الزحام»، بعد روايتين كبيرتين أو ثلاث فأذاعت شهرته في عالم الأدب، ووطدت مكانه بين أساتذة فن الرواية، وتعاقبت له روايات شتى كانت تستقبل بالإعجاب، وتشهد له بالعبقرية وصدق البيان، ولكنه ما كان قط من قصاص الجماهير، ولم يزد المطبوع من أروج رواياته على بضعة آلاف قلما يعاد طبعها، كما تعاد الروايات الشعبية التي تباع منها عشرات الألوف في كل مرة، ويعاد طبعها مرات في العام.
فقد كانت شهرته أكبر من رواجه، وكان الإعجاب به أكبر من الإقبال عليه؛ لأن قراءه هم قراء الأسلوب البليغ، والنظرة الفنية الخالصة، ومن يدركون جمال الريف ويفقهون معنى العطف على مناظره وسكانه وسذاجة العيشة التي شغف الشاعر بالحكاية عن أوصافها بين أبناء وطنه، وما زال هذا الطراز من القراء قليلا في أكثر الأمم قراءة، وعند أعظم الأدباء مكانة.
وقضى، قبل التفرغ للروايات، بضع سنوات في نظم الشعر، ثم أقل من نظمه وهو يعاوده على فترات، ولكنه لم يهجره قط، ولم يزل يتحول إليه لينظم فصلا منثورا أعجبه أو يصور حالة نفسية، أو يصف منظرا من مناظر الخلاء، وأطول أشعاره «ملحمة» أتمها سنة 1908 وسماها «العواهل»، وأدار وقائعها على سيرة نابليون بونابرت، فجعله هو محرر الملحمة ومعرض ما في الحياة من عبر وأطوار.
ثم ترك الرواية وأقبل على القصيد في أواخر أيامه، وكان من عجائبه أنه قصر نظمه على الشعر الغنائي أو الغزلي، بعد أن نيف على السبعين، وفرغت من نفسه دواعي هذا الشعر الذي يظن أنه ألصق بالشباب، وأعصى على الكهول والشيوخ، ولكنه نقض هذا الظن ولم يكن عجيبا منه أن ينقضه في الحقيقة؛ لأن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في هذه المعاني بعد أن تهدأ ثورة العواطف التي تبلبل القرائح، وتغشي عليها بدخان الأشجان والشهوات، فإذا بدت على شعر الشباب دفعة الفتوة وجماح العاطفة المستعرة، فالشيخ أحجى أن ينظر إلى اللباب من وراء تلك الغشاوة، وأن يصفي تلك البلابل والأوشاب، وأن ينشدها في سكينته ومعرفته إنشاد العازف المالك لريشته ويده، البصير بما يدور في نفسه، فيجيء إيقاعه أقرب إلى الصفاء والاتزان ويستعيض من البراعة والسلاسة بعض ما فاته من التوهج والحرارة، ولا يغب عن بالنا أن الغرابة في إبداع الشيخ هاردي أقل وأقرب تفسيرا من إبداع الشيوخ الذين يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة هاردي أبدا ساخرة وزفراته أبدا مكبوحة صابرة، وأناشيده تليق بالشيوخ كما تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق بالإجادة في هذا المجال من سواه وهو هو توماس هاردي، سواء نظم في الحب أو في الحكمة، وفي تجارب الهرم أو عواطف الشباب.
إن مكان هاردي من أساتذة الرواية في الذروة العالية، فما مكانه يا ترى بين شعراء العالم المعدودين؟ أهو في مثل منزلته الروائية، أم له مكان هنالك دون ذلك المكان؟ أما كاتب هذه السطور، فإنه لم يقرأ لشاعر حي شعرا يفضل شعره على الجملة، أو يدانيه فيما ارتقى إليه من فتوته التي بلغ فيها إلى قمته الخاصة، ولكني لا أحسبه بين الرعيل الأول من شعراء العالم الذين أفردتهم العصور، وميزهم تاريخ بني الإنسان في جميع الأقوام والأزمان، فهو أجل وأعظم شعراء عصره، ولكنه ليس بين الأجل والأعظم من شعراء كل العصور.
وقد تساءل بعض المعجبين به لم لم يمنح جائزة نوبل كما منحها الذين لا يتطلعون إلى مكانه ولا يرتقون مرتقاه في الشعر والرواية؟ فقيل لهم: إنه لم يكن «مثاليا» في قصائده ورواياته، ولا متفائلا مبشرا في نزعته ومذهبه، ومن شروط نوبل أن تقصر جوائزه الأدبية على أصحاب العبقرية المثالية، والمطامح الراجية المستبشرة، وقد يكون هذا هو السبب ولكن هل عرض هاردي شعره أو رواياته على المحكمين في هذه الجوائز ليسوغ لنا البحث في سبب رفضه وتقديم غيره عليه؟ لا أعلم، ولا يلوح لي أنه قد عني بذاك.
توماس هاردي (2)1
شهرته وتشاؤمه
الشهرة والتقدير شيئان قلما يتفقان، فالشهرة هي ضوضاء وأصداء، تتساوى فيها أعلام الأماكن والأناسي وأسماء الجديرين بالتنويه والإعجاب، الجديرين بالمقت والنسيان، وكأنها بهذه المثابة أصوات آلية لا قصد لها ولا تفكير فيها، ولا تدل إلا على وجود كائن من الأحياء - أو غير الأحياء - له اسم يعرفه الألوف بدلا من الآحاد، كما يعرفون أن في بلاد الهند جبلا يسمى الهملايا، وفي عالم الخرافة جبلا يسمى «قاف».
أما التقدير فهو وزن وقياس، ومعرفة وعاطفة ، ولا يكون إلا عن علم وفهم وشعور، فهو لباب الشهرة وجوهرها، والمعنى الذي به تكون الشهرة فضلا ونعمة، يغتبط بها من ينالها، وبغيره تكون الشهرة أصواتا يتشابه فيها دعاء الناس وعواء الكلاب، بل يتشابه فيها كلام السامعين بها ودوي الطبول وأزيز الآلات.
لم يظهر الفرق بين الشهرة والتقدير في إنسان، كما ظهر في توماس هاردي الذي بلغ من تقدير قومه وغير قومه غاية ما يصبو إليه الأديب، ولم يبلغ من الشهرة «الآلية» بعض ما بلغه أدعياء الأدب وثراثرة الصحافة، فقد مضى عليه جيل كامل وهو مجهول في أهل بلده وبين عشيرته وجيرانه، لا يخطر لأحد ممن يرونه في قريته أن هذا الرجل الحزين الدلف بين المروج، أو الراكب على الدراجة هو أعظم من كتب الإنجليزية ناثرا وشاعرا في زمانه، وربما لم يعرفوا اسمه على حقيقته إلا إذا كانوا من أهله الأقربين، أو على اتصال به جد حميم. اتفق لمعجب به أن ذهب يزوره أو يحج إليه، كما يقول فنزل بفندق صغير في قرية معزولة من قرى «وسكس» التي خلد مناظرها بشعره ونثره، فجلس في انتظار الغداء يحادث فلاحا مفراحا من تلك القرية، وخطر له أن يسأل عن بطله المحبوب وهو لا يشك في معرفته إياه، واحتفاله بشأنه فسأله: هل يجيئكم توماس هاردي هنا؟ فجعل الرجل يتمتم: توماس هاردي! توماس هاردي! ولاحت عليه حيرة البحث والمجاهدة في الاستحضار، وبعد هنيهة أشرق وجهه، كمن قد ظفر بفكرة مهجورة، طال عليها أمد النسيان، وقال للحاج المشدوه: «لعلك تعني بل هاردي ذلك الرجل الضئيل صاحب الشوارب المدلاة؟ نعم هو يجيء هذه القرية كل يوم سوق!»
وهكذا آثر هو لنفسه أن يعتزل لندن وباريس، بعد أن عاش فيهما ما عاش، حيث تتدافع المناكب على الشهرة، وتحتال الأسماء على الظهور، وأوى إلى قريته - غير بعيد من البيت الذي ولد فيه - يعاشر الفلاحين ويحادثهم وهم يجهلون من شأنه، ما يعلمه في أقصى الأرض قارئه العارف بمقام أديب القرية العظيم، ولبث حياته كلها بعيدا عن المجامع متحاشيا مواطئ الأقدام، لا يستريح إلى زيارة الغرباء، ولا يأنس إلى أحد غير أصحابه السذج الذين يعرفون «بل هاردي» الفلاح، ولا يعرفون توماس هاردي الشاعر القاص الفيلسوف، وكان أبغض شيء إليه وسائل الشهرة الحديثة من نشر وتصدية، وعرض في الصور المتحركة، فلما مثلت رواية «تس» في السينما، وابتذلت مواقفها لإرضاء النظارة للصبيان والجهلاء، أسف لذلك أشد الأسف، وأبى أن يحضرها في معرض الصور، وقال في شيء من الغم والتأسي: «إن الرواية ستعيش على الرغم من ذلك.»
وعرف عنه أنه لم يكن يطيق الملاحظات على رواياته وإنما يحتملها احتمالا، ولا يبالي أن يناقش فيها أو يصحح أخطاءها. كان بعض الناس يلومه مرة على مصير «تس» البريئة المسكينة التي أسلمها إلى الشنق، وختمها بكلمته الساخرة «لقد نفذ العدل! لقد فرغ رئيس الخالدين من عبثه بتس دربر فيل» وكانت في المجلس سيدة سليطة، فقالت: «أما أنا فأسفي أن المستر هاردي لم يشنق أبطال روايته جميعا» كأنها تقول: إنه كان خيرا له ألا يكتب الرواية أو أن يكون قد قضى على أبطالها قبل أن يخلقوا، وكانوا على المائدة، فانحنى الشاعر قليلا، ومضغ لقمة ومضى في طعامه.
وهو على قلة مبالاته بآراء الناس في رواياته كان يألم للجهل والرياء، ويسخط سخطه الوديع إذا ابتلي بنوبة عارضة من حماقة الجماهير، فلما أخرج روايته «هود» وانحنى عليها الناقدون بالتشهير والتجريس، وحرمت بعض المكاتب بيعها لما فيها من صراحة، لم يتعودها الإنجليز في الكتابة عن علاقات الرجال والنساء، أنفت نفسه أن يكتب رواية بعد ذلك، وآلى أن تكون «هود» خاتمة حياته الروائية، وقد بر بعهده فلم ينشر بعدها إلا رواية واحدة قديمة، كانت مهيأة للطبع والتنقيح قبل أن يبغت بتلك الحملة الهوجاء، ثم أقبل على الشعر فكان ذلك خير عوض له وللقراء ولوطنه الذي لم يكف عن توقيره وتقديره، وإن خالفه بعض ناقديه في تناول الحقائق وصراحة التصوير.
فلك أن تقول: إن «توماس هاردي» كان مشهورا خاملا إذا أردت بالشهرة تلك الأصداء التي تتجاوب بها طبول الجماهير، أما نصيبه من تقدير العارفين فلا مطمع بعده لطامع، ولا مثيل لما ناله منه بين أبناء قومه وقارئي شعره ونثره في الأمم كافة. كان كبلنج يلقبه ب «الملك»، وكان الملك جورج يتتبع كتبه واحدا بعد واحد، ويسأل عنه ويعنى بأخباره، ولما مرض منذ شهر ولزم فراشه أبرق إليه يواسيه ويرجو شفاءه، واحتفل الأدباء بسنته الأولى بعد الثمانين فكتب إليه أكثر من مائة أديب شاب يحيونه ويعجبون بروح الصبر والأنفة التي بثها في تآليفه وأشعاره، وزاره ولي العهد في بيته الريفي منذ خمس سنوات ليبلغه بلسانه حبه، وحب أبيه وأهل بيته، وهذا مع أنه لم يكن شاعر التاج، ولا كان يخدم الملوك بقول صريح، أو بتضمين ملموح، وبيعت نسخة خطية ناقصة من قصته «عينان زرقاوان» بألف وخمسمائة جنيه منذ سنتين، ومنحته الحكومة وسام الاستحقاق وهو في السبعين، وأهدته الجامعات الكبرى أفخر ألقابها غير مطلوبة ولا ممنونة، وزاره نوابغ الممثلين يعرضون له في بيته فصولا من قصائده الكبيرة، ورواياته التي أفرغت في قالب التمثيل ولم يشهدها هو في مسارح العواصم، وحفه عالم الأدب الرفيع بعطف وتقديس كذلك الذي يحف به الأحبار المباركون والأولياء الصالحون، فلو دعاه كبلنج «القديس» لكان أليق به من لقب «الملك»، وأشبه بتقواه وإجلال الناس إياه، ومقامه حيث تحج إليه الشهرة ساعية على القدم، مطهرة من لوثة الصغائر والأحابيل.
ويخطئ الذين يحسبون هذه العزلة، وهذا الانزواء كراهة للناس، أو فاقة في العطف والإحساس. إذ ليس أوسع عطفا وأكرم حسا من رجل يجد في حياة الفلاح الساذج، وفي حبه وبغضه، وفرحه وحزنه، وفي هموم عيشه، وحظوظ ماشيته وأرضه، مواطن للعطف يشغل بها نفسه، ويقصر عليها قلمه، ويستوعب كل صغيرة منها في روايته وشعره، فهذا لا يكون إلا من نفس طهور جبلت على محبة الناس، وطويت على البر بهم والحنان عليهم. نعم كان الرجل متشائما من تصويره الأسود للحياة، ولكنه لم يكن تشاؤم النفس الغاضبة لا يتصل بينها وبين الدنيا سبب من الفهم والشعور، ولم يكن تشاؤم النفس الوضيعة لا تطلع على نبيل في الدنيا ولا تود أن تطلع فيها على نبيل، ولم يكن تشاؤم الأنانية التي تريد احتجان الخير كله، وتتهم الناس بالكنود؛ لأنها هي لا تنطوي على غير الكنود، ولكنه كان تشاؤم العاطف الذي يرثي للناس من عسف المقادير؛ لأنه يحس تلك المقادير في ذات نفسه، ويحيط ميدانها بعطفه، وينفذ إلى دخائلها نفاذ الوالد المشفق إلى دخائل قلب وليده، ثم يتمنى لو لم تكن الحياة ولم يكن الأحياء، لا لأنه يحب لهم الموت ولكن لأنه يحب لهم حياة خيرا من هذه الحياة وأسلم من الوهم والشقاء.
ويغلب أن يكون ذلك شأن فلاسفة التشاؤم الأقوياء بأفكارهم وقلوبهم، إذا اعتزلوا الناس وسخطوا على مقادير الحياة، وآية ذلك ما اتفق من عطفهم جميعا على الطير والبهائم، وبرهم بهذه الخلائق التي يعذبها الناس، وهم يتعاطون فيما بينهم ما يسمونه الرحمة والحنان! فشوبنهور كان له كلب يألفه ويناجيه، ويغرم به حتى لقبه صبيان الحارة: «شوبنهور الصغير»، نسبوه إليه لأنهم لم يروا بينهم ولدا ينسبونه لذلك الشيخ ويعرفونه باسم ذلك الفيلسوف العقيم، وكان ألذ شيء لديه أن يعاشر الحيوانات ويرقبها، ويأنس بها وتأنس به، فهو يقول: «أي لذة تداخلنا عندما نرى حيوانا مطلقا يدبر شئونه بنفسه غير معترض ولا مسوق. تراه إما يتلمس طعامه، أو يتعهد صغاره، أو يخالط الحيوانات من جنسه إلى نحو ذلك، وأن هذا لهو الذي ينبغي أن يكون، وهو الذي لا يمكن أن يكون سواه، فإن كان ذلك الحيوان طائرا متعت نفسي بالنظر إليه برهة من الزمن. لا بل فليكن فأرا مائيا، أو ضفدعا، فذلك لا ينقص من سروري بالنظر إليه، ويعظم سروري به إن كان قنفذا، أو عظاة، أو أيلا، أو غزالا، وما كان التأمل في أحوال الحيوانات ليسرنا لولا أننا نأنس فيها حياتنا مصغرة بسيطة.»
وكان ليو باردي يحب الطير، وقد كتب فيها مقالا ليس أبلغ منه، ولا أمتع بين ما كتب في معناه، وكان المعري يأبى أن يأكل حيوانا، ولو كان فيه دواؤه، بل كان يوصي بتسريح البرغوث، ويعتده أفضل من التصديق بالمال على المحتاج.
تسريح كفك برغوثا ظفرت به
أبر من درهم توليه محتاجا
وكان ينكر على الناس أن يأكلوا الشهد؛ لأنه للنحل قد جمع لا لآكله المشتار:
اتق الله حتى في جني النحل شرته
فما جمعت إلا لأنفسها النحل
وربما تناول عطفه الضاريات، فيعرف لها عذرها فيما تجنيه على الفرائس الضعاف:
ولولا حاجة بالذئب تدعو
لصيد الوحش ما اقتنص الغزال
أما توماس هاردي فكلبه مشهور ككلب شوبنهور، ورفقه بالطير والأوابد يعرفه الذين عرفوا جهوده في تحريم الصيد والرأفة بالحيوان، وعرفوا المقبرة التي أعدها في حديقة بيته للطير والحيوانات الأليفة التي ماتت لديه، وكان أصبر من زملائه، وآلف الناس، وألين جانبا للحب والزواج، فقد تزوج مرتين، وكان زواجه الثاني وهو في الرابعة والسبعين، بعد وفاة زوجته الأولى بعامين، ثم كانت آخر حركة له في الحياة هزة ضعيفة من رأسه إلى ناحية امرأته التي كانت تقوم على سريره.
وقد يكون أغرب ما في عطف هؤلاء المتشائمين، أنهم اشتهروا جميعا بحبهم لآبائهم وهم يحسبون الحياة شرا، ويعدون الولادة جناية، فأما المعري وشوبنهور فأولهما قد رثى أباه رثاء اللهفة والوفاء، وثانيهما قد أهدى إلى ذكرى أبيه كتابه الذي يثبت فيه عقم الحياة! وأما توماس هاردي فقد كانت وصيته أن يدفن مع أبيه وأمه؛ حتى حارت الأمة الراغبة في تقديره كيف تجمع بين رعاية هذه الوصاة وبين القيام بحق ذكراه ودفنه في مدفن العظماء؟! فالمتشائمون الذين من هذا الطراز يجتنبون الناس؛ لأنهم أكبر منهم عطفا، لا لأنهم أقل عطفا من أحلاس المجامع ورواد الزحام، وهم يرفضون الود الرخيص، والود المزيف؛ لأنهم أشوق إلى الود النفيس وأعرف بالود الصحيح.
توماس هاردي (3)1
آراء في شعره ومناقشة لهذه الآراء
ورد إلينا البريد الإنجليزي، وفيه مقالات كثيرة عن توماس هاردي وشعره ورواياته ومكانه في عالم الأدب، وأقوال شتى هي ولا ريب خلاصة الأقوال المختلفة في هذا الأديب الذي اتفقت الآراء على أنه كان أديب إنجلترا الفرد في زمانه، وقل بين كتاب الصحف من وافق رأيه رأي توماس هاردي في نفسه، واعتقاده في منزلته من الشعر ومنزلته من الرواية، فقد كان شغف هاردي بشعره أكبر من شغفه برواياته، وكان اعتقاده أن محصوله في عالم الشعر أجود وأجدى من محصوله في عالم الرواية، وذلك ظاهر من اشتغاله بالنظم طول حياته، وعكوفه عليه في أيامه الأخيرة وابتدائه سيرته الأدبية، واختتامه إياها بالنظم لا بالكتابة، ولكن المرء لا يحب أفضل أولاده، والأديب لا يحب أفضل ملكاته في كل حين، فأسباب الحب والإعجاب في النفس قد ترتبط بالآمال، كما ترتبط بالحقائق، وقد تقام على مواطن الضعف كما تقام على مواطن الحزم والحصافة، وربما كان شعر هاردي أثبت مكانا في عالم الخلود من رواياته؛ لأن تخليد الكلام المنظور أيسر وأشيع من تخليد الكتب المطولة المنثورة، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن هاردي حري أن يعد بين النخبة الممتازة من القصاص في جميع لغات العالم، وأن يسمو بينهم إلى منزلة قل أن يتجاوزها منهم متجاوز، ولكنه غير حري أن يعد بين النخبة الممتازة من الشعراء الذين أنجبتهم جميع الأمم في جميع العصور؛ لأن شعره على جماله وصدقه لم يتسع حتى يشمل آفاق الشعر البعيدة، ولم يعذب حتى يبلغ أحلى ما يبلغه الشاعر من العذوبة؛ فهو في بابه حسن معجب، بل هو في بابه فرد لا نظير له في شعر أحد غيره. وقد يلزمك أن تمزج بين هيني وجيتي الألمانيين، أو بين شلي وورد زورث الإنجليزيين؛ لتخلص إلى روح يتفق لها ما اتفق لهاردي وحده من السخر والحكمة واليأس والسلوى في بعض أشعاره. إلا أن انفراده بمزاج خاص لا يشبهه فيه شاعر، أو وفاؤه لمزاجه الذي جبل عليه، وصدقه لشعوره الذي أحس به، لا يستلزم أن يكون فردا في علوه وفي محاسن الشعر كله، فهو فرد مقدم في بابه، ولكنه ليس بالفرد المقدم في كل باب.
يختلف معنا في هذا الرأي الكاتب الروائي دافيت جارنت، الذي يقول في إحدى الصحف الأسبوعية: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا بفقد هاردي، ولكننا لم نفقد أعظم قصاصنا، وإن الفلاحين في رواياته لا يمكن أن يشبهوا الحقيقة حتى في «دورستشير» التي كانت قبل سبعين سنة، دع عنك فلاحي اليوم الذين لا يشبهونهم في شيء، فإذا كانوا مع ذلك يهزون نفوسنا فذلك لأنهم خلائق شاعر.» وقد يكون هذا رأي الكثيرين من قراء هاردي، ولا سيما بين الروائيين الذين يحكمون عليه بما يضعونه لأنفسهم من المقاييس، وما يتخيلونه للرواية من الكمالات وما يطبقونه على أعمالهم من الآراء، بل نحن نقول: إننا لنؤثر قراءة شعره على قراءة رواياته؛ لأن شعره إنساني عام، ورواياته إقليمية محصورة، تصف الإنسان من خلال مناظر الريف ومآلف القطان في مكان معلوم. إلا أن هذا لا يغير الرأي الذي قدمناه؛ لأن اختيارنا ما يوائمنا من عمل أديب لا يدل على أن هذا الذي يوائمنا هو خير ما يمتاز به ذلك الأديب، فقد يبيع التاجر صنفا هو أنفس الأصناف عنده، أو هو صنفه الذي اشتهر به، ثم لا يشتريه كل إنسان؛ لأنه لا يحتاج إليه، وقد يكون الأديب شاعرا وروائيا فيقرأ القارئ رواياته، ولا يطلع على شيء من شعره؛ لأنه من قراء الروايات وليس من قراء الأشعار.
كذلك لا ينبغي أن نأخذ من قول الروائي جارنت: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا ولم نفقد أعظم قصاصنا»، إن هذا المقياس هو أصدق المقاييس لتقدير ملكات الأدباء، فقد يكون هذا العصر ضعيفا في الشعر قويا في الرواية، فيكون الأديب عالي المكانة في الرواية، وهو دون القمة العليا بين القصاص، ثم يكون أرفع الشعراء قدرا في زمانه، وليس هو من الشعر في المكان المعدود، فإذا فقدناه قلنا: إننا فقدنا أعظم الشعراء، ولم نفقد أعظم القصاص، ولم يكن في ذلك دلالة على أنه شاعر كبير وليس بقصاص كبير، وإنما المقياس الصحيح أن نذكر الشعراء الكبار والقصاص الكبار في جميع الأزمان ثم نسأل: هل مكان هاردي أثبت وأرفع بين هؤلاء أو بين هؤلاء؟ هل هو أقرب إلى ديكنز وثاكري وترجنيف ودستوفسكي وأبانيز وبورجيه أو هو أقرب إلى شكسبير وملتون وهومر وسفكليس وأندادهم من الأقدمين والمحدثين؟ والواقع أن روايات هاردي على ما فيها من المآخذ أقرب إلى أعلى الروايات وأبلغها من سائر روايات عصره في بلاده، وأنه هو الآن أصدق القصاص، وأبلغهم بين الإنجليز خاصة، وإن كان للشعر فضل في إجادته الرواية وإسباغه العطف والمحبة على خلائقها، وإذا عاش غدا بالشعر ولم يعش بالرواية، فإنما يكون ذلك لأن الرواية أثقل جناحا في مطار الشهرة من القصيد المطول، ومقاطيع الشعر القصيرة على السواء.
ويقول ناقد ال «مورننج بوست» في تقديره لشعر هاردي: «إن فنه في أشعار شبابه جدير بالعناية الكبرى من دارسي الصناعة الشعرية، فليس في شعره تلك الصيحة الدافقة الطيعة التي تسمعها من البلبل والقبرة، وإنما تلمح فيه على نقيض ذلك أثر الجهد والمعالجة، فالقصيدة من قصائده لا تنجم لأنها ينبغي أن تنجم، بل هي منظومة لأن الشاعر قد جمع لها عزيمته وأبى عليها إلا أن تكون، فهو يتخذ لنفسه عند البداية خاطرة مرسومة وصيغة معلومة يلتقيان في أنشودة منظومة، فإذا تعذر عليهما ذلك أو أبت اللغة أن تسلس له مقادها، عمد الشاعر إلى سلطانه وألجأها كرها إلى الوفاق في عبارة منظومة، وهذه طريقة في النظم لا بد منتهية بالفشل في الأيدي التي هي أضعف من يديه، فيستعصي الوزن واللغة على الشاعر، ويشمسان على قياده أشد شماس، ولكن العجيب في هاردي أنه يفلح فيما يريد، نعم إن شعره لا يفيض فيضا، ولكنك تراه مطرقا مسبوكا في قالب جميل، كأنما استوى فيه على الكره منه، والنهاية في هذه الحالة كما في تلك جديرة بالإعجاب.»
وكلام هذا الناقد صحيح، فأنت يخيل إليك حين تقرأ شعرا لهاردي أن الكلام فيه مطرق تطريقا، كما يسبك الحديد المذاب في الأتون الموقد، وليس بمرسل إرسالا، كما يفيض الماء من الينبوع الجياش، ولكن الذي نريد أن نقوله هنا هو أن شعورنا هذا حين نقرأ كلام هاردي وأمثاله إنما هو من الوهم لا من الحقيقة، أو هو راجع إلى سبب يتصل بطبيعة المعنى لا إلى سبب يتصل بأسلوب الصياغة، فليس الشعراء الذين نتلقى غناءهم كما نتلقى غناء البلبل فياضا مرتجلا لا حبسة فيه ولا جهد ولا علاج، هم الشعراء الذين تسهل عليهم الصياغة، ويلين لهم مقاد الكلام، فقد كان البحتري أسلس من المتنبي نظما، وأسرى إلى النفس نغما، وأعذبه في الذوق مسا، وكان مع هذا يعاني في النظم ما لم يكن يعانيه المتنبي الذي لا تسمع منه تلك الصيحة البلبلية الدافقة الطيعة، ولا تتوسم على قصائده ذلك السخاء الفياض بالخواطر والعبارات، وربما حذف البحتري نصف القصيدة لتسلم له السلاسة في بقيتها، ولم يكن المتنبي يفرط في بيت مما يقصد معناه، ولقد كان زهير أسلس من طرفة، وكان طرفة أسخى بالشعر وأسرع في صياغته من صاحب الحوليات الذي قيل: إنه كان ينظم كل قصيدة في عام، وقد عرف عن أناتول فرانس أنه كان يعيد كتابة الجملة الواحدة خمس مرات وستا وثمانيا في بعض الأحيان، وهو ذلك الكاتب الذي يخيل إليك وأنت تقرؤه أنه يرسل القلم يكتب وحده بغير تردد ولا تنقيح، وكان فلوبير يعيد كتابة الصفحة حتى تكاد لا تبقى كلمة من كتابتها الأولى، وهو أعذب من كتب في عصره لفظا، وأقلهم جهدا، فيما يبدو على ظاهر الكلام، وربما كان هاردي أقدر على النظم السريع من ملتون الذي تضرب بجزالته وحلاوة موسيقاه الأمثال، ولكنك لا تشعر حين تقرؤه بذلك الانطلاق الذي يستخفك حين تقرأ صاحب الفردوس المفقود، وشمشون الجبار، فنحن واهمون حين نعزو خفتنا في قراءة بعض الأناشيد إلى خفة الشاعر في نظم تلك الأناشيد. إنما هي طبيعة المعنى التي تخيل إليها ما نتخيل من خفة وطلاقة، لا علاقة لهما بعمل الشاعر في صياغته واختبار ألفاظه، فالشك والوجوم والوقار، لا تسلس كما يسلس الغزل الواثق، والحزن الساذج، والأمل الطليق، والشاعر الذي ينظم هذا غير الشاعر الذي ينظم ذاك، فلو أسلمنا شلي أو ملتون قطعة من قطع هاردي لرأينا المطرقة والأتون تظهران في موضع الينبوع والماء السلسبيل، ولو استطاع هاردي أن يحس بالحياة كما أحس بها ذانك الشاعران لسمعنا الصيحة البلبلية، ولم نتخيل الدمية المسبوكة كما نتخيلها الآن ، وكل شعر في الدنيا إنما نجم؛ لأن قائله أراد أن ينجمه لا لأنه هكذا يجب أن يقال، وقد يريده الشاعر ويشقى به أشد الشقاء، ثم يجيئنا بالقصيد فنقول أجل هذا كلام يوشك أن يقال بغير قائل! وصاحب الكلام يعلم أنه لو لم يرده ويقتسره على ما أراد، ويسهر الليل في تطويع معناه لنغمته ولفظه، لما صاح البلبل، ولا تدفق الينبوع.
وصفوة القول في هذا الموضوع أن هناك ضروبا من الإحساس لا يتأتى أن تصاغ إلا في قالب يوهمك الصعوبة والعلاج، ولا يخف بالقارئ خفة السهولة والطواعية، وأن هذه الضروب من الإحساس لهي خليقة، على الرغم من ذاك، أن تصاغ شعرا، وأن يكون صائغها عريقا مطبوعا على سليقة الشعراء، ففي الدنيا أنواع من الشعر بقدر ما فيها من أشخاص، وليس يوقع في روع القارئ أن الشعر هكذا في صورة واحدة ليس غيرها إلا القدامة، وقلة الاطلاع، وضيق نطاق الحياة، والأخذ بأطراف التعريفات التي لا تحصر شيئا، فضلا عن أن تحصر حدود الشعر، وهي رحيبة مجهولة كحدود الكون التي لا تعرف الانتهاء. •••
ويقول جيمس دوجلاس في «الدايلي إكسبرس»: إن هاردي سيطر على فن المنثور، ولكنه لم يسيطر على فن المنظوم، ويقول في الوقت نفسه: إنه كان من عظماء شعراء المآسي في الدنيا، يحسب مع هومر وفرجيل ودانتي وملتون، في سعة الخيال، وجبروت العبقرية، ولا عيب في شعره إلا أنه يعوزه الشكل والأسلوب «ففي شعره كله جبار يئن وينصب أنين المارد المقيد في الأغلال.»
والذي نراه نحن أن المارد المقيد في الأغلال هو عصر الشك والحيرة والاضطراب، لا أسلوب هاردي وطريقته في التعبير، فإذا سألنا هل كان هاردي أصدق شعراء عصره في الترجمة عن روح الزمن الذي عاش فيه أو هو لم يكن كذلك؟ فنحن لا نستطيع إلا أن نعترف له بالتفرد في هذه الترجمة الأمينة الوافية، والتفوق على جميع الشعراء في أداء الرسالة التي توحيها طبيعة القلق ووساوس الارتياب، فكيف يكون مقيد الفن إذن وهذه عبقريته حرة لم تحجب من صورة الزمن كثيرا ولا قليلا، ولم يعقها عائق أن تنطق بأسلوبها الذي لا ينطق الوحي العصري بأسلوب سواه؟ إن الريشة هنا حرة مرسلة، وإنما القيد والأنين في شبح المارد الذي نقشته الريشة على الصفحة السوداء، فهناك التململ والاضطراب، وللريشة الثناء والإعجاب، ولا يخلو القارئ من ذنب يلام عليه؛ لأنه صفر للمثل المجيد من حيث كان أحق بالتهنئة والتصفيق.
ولسنا نعني أن توماس هاردي كان مبرءا من كل مأخذ في النظم والصياغة، فقد قلنا في ذلك ما يدفع هذا الالتباس، ويدل على رأينا في شاعريته، وأسلوبه، ومنحاه، ولكننا نريد أن نقول: إنه ما كل قيد تحسه في الشعر يكون قيدا في الشاعر، فإن للموضوع قيوده، وللزمان قيوده، والشاعر الطليق القدير هو الذي يريك القيود حين لا تكون حرية ولا انطلاق.
الجزء الثاني
إبلاسكو أبانيز1
كان في بداية هذه السنة أربعة من أعلام الرواية المشهورين في العالم لا تخرج إمامة هذا الفن من بينهم، ولا يكون إمام القاصين في الدنيا إلا واحدا منه، وهم مرجكفسكي الروسي وهاردي الإنجليزي، وبورجيه الفرنسي وأبانيز الإسباني.
فأما مرجكفسكي فمزيته أنه يمزج الفن والعبادة والتاريخ مزجا ينبض بدم الحياة، ويتخايل في ثوب الجمال، فلا تخلو رواية له من صراع بين العبادات، أو من وثنية الفنان الذي يقدس الصور والأجسام، أو من تصوير لعوامل التواريخ كأنها أدوار يمليها مؤلف عظيم على مسرح رحيب، أو كأن الناس فيها تماثيل تخلق للزينة والنظر، وتمشي من هذه الدنيا في متحف زاخر بالنماذج والأنماط.
وأما هاردي فمزيته الشغف ببساطة الريف، والإيمان بالجبرية، وتحكيم القدر في كبائر الحياة وصغائرها، وإظهار الناس كأنهم ألاعيب في أيدي الطبيعة تهشمهم وتعبث بهم لغير حكمة معروفة ولا دلالة مستبينة، وإدماج ذلك كله في قالب من الشعر تلتقي فيه عزلة الآلهة المنزهين عن عواطف الإنسان، وإنسانية الشاعر الذي نزفت دموعه الأحزان.
وأما بورجيه فمزيته البراعة في حبك فصول الرواية والدقة الصادقة في تحليل النفوس، وتوضيح خفايا الشعور حتى لقد يسهب في ذلك إلى حد ينسيه نفس القارئ، وما قد يعتريها من الملل ويتحول بها من أبطال الرواية إلى المؤلف ودروسه ونظراته في الحياة والناس.
وأما أبانيز فمزيته كل ذلك وأكثر من ذلك، فهو في بعض رواياته ك «سونيكا» مثلا يضارع مرجكفسكي في إحياء التاريخ، وإلباسه ثوب الفن، ونفاذه إلى لباب العبادة الوثنية، وتقديس الصور والأجسام، وهو في رواياته «الموتى يحكمون» و«زهرة الربيع» و«الغوغاء» و«العرينة الحمراء» و«الفيضان» و«البوديجا» على الخصوص، بل في رواياته كافة على العموم، يضارع هاردي في وصف معيشة الأقاليم، وهموم الزراع والعمال، ومناظر الخلاء كما يضارعه في تحكيم القدر وسخرية الأيام لولا أنه يشوب ذلك برفق لا تراه في «قدر» هاردي المعتزل الأعمى عن كل ما يحيط به من الأوجاع والآمال، وهو في دقة التمثيل ضريب بورجيه في غير تعمل ولا تعمد، ولا شيء من ذلك الأسلوب التعليمي الذي يذكرك بالمشرحة والكتاب، فأنت لا تحس والرواية بين يديك أنك تقرأ كتابة رجل يعنى بتحليل النفوس وتجزئة أنواع الشعور، ولكنك إذا أردت أن تحس ذلك وجدته على مقربة منك في كل رواية، وفي كل بطل وفي كل موقف، كأنه مقصود في غير كلفة ومحلل في غير تجزئة ولا تمزيق، فلو حاولت أن تستخرج من جميع رواياته بطلا واحدا كان نصيبه من الشرح الصادق المفصل أقل من نصيب الأبطال في روايات بورجيه، لعز عليك أن تجد ذلك البطل، ولعرفت حينئذ أن التحليل النفسي قد يبلغ تمامه حين يأتي عرضا ولا يظهر عليه التعمد والالتفات الدائم.
وربما أسهب أبانيز في الوصف واستطرد إلى العلم والدرس ونسي الحادثة والأبطال، ولكنه يستجيز ذلك لنفسه كما يستجيز المحدث المسموع أن يلتفت بسامعيه إلى موضوع له ارتباط بالقصة وللسامعين شوق إلى استطلاعه فيه؛ لثقتهم بخبرته الواسعة، وإمتاعه في كل حديث واستطراد، وإنك لتعجب لما تراه في روايات هذا الكاتب القدير من دلائل الاطلاع الواسع، والخبرة الوافية بشئون هذا العالم، فمن علم بالبحر وأحيائه واصطلاحات رجاله، إلى علم بالتاريخ الغابر والحاضر، إلى علم بالموسيقى والفلسفة والفنون، إلى علم بالحرب والتعبئة، إلى علم بسير العظماء والأدباء، إلى علم لا يباريه فيه أحد بحياة الأندلس في جميع عصورها، وفي جميع الأصقاع التي نزح إليها أهلها؛ وهذا كله إلى تنويع سهل غير متكلف في تصوير الرجال والنساء من جميع الطبقات والأمزجة والأخلاق، ويغلب أن يجعل ديدنه في تصوير النساء خاصة أن يكفر عنهن أو يستجلب لهن العطف بما يقاسينه من الحب والعذاب، إلا إذا كانت المرأة من طبقة الأشراف الماجنة التي يزدريها في بلاده، ويستفز أبناء وطنه إلى احتقارها والثورة عليها، فهو لا يبالي أن يحرمهن شرف الحب ويجعلهن فرائس الشهوات؛ لأنه يرى كما يقول في رواية «الموتى يحكمون»: أن الحب عبقرية كعبقرية الفن والشعر، لا تسمو إليها كل طبيعة ولا يستمتع بجمالها كل من يتحدث بها «فكل إنسان يحسب أن له حقا في أن يحب، والحب في الحقيقة كالمواهب والجمال والحظ نعمة نادرة لا يستمتع بها غير نخبة قليلة ممتازة من الناس، إلا أن الوهم - لحسن حظ المحرومين - يتسلل هنا لمداراة هذا التفاوت الظالم، فلا يختم إنسان حياته إلا وهو يحلم بشبابه ويحن له الحنين والأسى، ويزعم لنفسه أنه قد عرف الحب حق عرفانه وما كان الذي عرفه إلا بحرانا من سورة الشباب»، وهو يعطي المرأة حقها من الدنيا، ويعرفها لها قدرتها في تصريف شئون الحياة وأعمال الرجال، كما يتبين ذلك جليا في روايته «أعداء النساء».
وفي قصته الصغيرة «أبناء حواء الأربعة» يقول الراوي: إن حواء لما زارها الإله بعد طردها من الجنة كانت في شغل بتجميل نفسها لاستقباله وإرضائه، واسترجاع النعيم الذي فارقته في السماء، فما هو إلا أن همت بتنظيف أبنائها حتى أقبلت طلائع الموكب الإلهي وهي لم تكد تفرغ من تنظيف الرابع من أولئك الأبناء الكثيرين، فشاء الله أن يهب لأحدهم الملك، ووهب للثاني الفصاحة، ووهب للثالث القضاء، ووهب للرابع المال، وقضى على البقية حين أخرجتهم له عند منصرفه باكين قذرين أن يظلوا في خدمة إخوتهم الأربعة أبد الآبدين، فكان هؤلاء هم طوائف العمال والأجراء الذين قضى عليهم الإهمال بالشقاء الدائم في خدمة الآخرين، وهنا يعترض على الراوي معترض من السامعين فيقول له: ولكنك نسيت أن لحواء بنات كما كان لها بنون، فماذا قسم الله لهن من حظوظ الحياة؟ فيجيبه الراوي: يا بني! إنك لصغير لم تنضجك الأيام كما ينبئني عنك سؤالك. إن الله قد قسم لبنات حواء كل ما يعمل له الملوك، والفصحاء، والقضاء، والأغنياء، والعمال، فهؤلاء لا يتعبون ولا يجمعون لأنفسهم، وإنما يتعبون ويجمعون لينتهي التعب والجمع كله إلى بنت من بنات حواء! وفي هذه القصة الصغيرة يتلخص رأي أبانيز في العلاقات الطبيعية بين الإناث والذكور من ذوي المتربة وذوي اليسار.
ولقد كانت قدرة أبانيز في القصص الصغيرة كقدرته في الروايات الكبيرة على خلاف القاصين الذين يجيدون أحسن الإجادة في إحداهما دون الأخرى، فهو يتناول الحالة النفسية فيفرغها في أقصوصة بارعة، يعنى فيها بالوصف والتمثيل أكثر من عنايته بالواقعة والمواقف، ولست أنسى ما حييت وصفه للعجوز التي فقدت ولدها في الحرب، ثم رأت صورته في عرض عسكري مرسوم على لوحة السينما، ولا وصفه لجلال الأمومة في قصة «المشوه» ولا وصفه لموقف الرجل الملقب بالحمامة في قصة «طلقة الظلام» ولا وصفه للعالم الذي شق الصحراء ليفي بنذره للأيم المقدسة، ولا وصفه لليلة الصربية، أو لخادم القطار، أو للعذراء المجنونة، أو لشخص من الشخوص الكثيرة التي وصفها أبسط وصف وأجمله وأصدقه في أقاصيصه الصغيرة، فتلك صور تنطبع على صفحة الذاكرة فلا تمحوها قراءة الكتب، ولا تجارب الأيام.
ولم يكن يخطر لي وأنا أعد اسم أبانيز بين الأسماء التي يقارن بها هاردي، أنني سأرثي هذا الأديب العظيم عقيب رثائي لذلك الشاعر العظيم، فقد شاء القدر أن يذهب كلاهما في شهر واحد وهما أكبر من نكبر من أدباء هذا الزمان، وكانت خسارة الأدب العالمي بموتها خسارة لا تعوضها الشهور والسنون.
كان مولد أبانيز في سنة 1867 بمدينة بلنسية، وكانت صناعته التي تعلم لها المحاماة، وصناعته التي بدأ فيها عمله الصحافة، وليس أبانيز اسمه ولا اسم أبيه، ولكنه اسم أمه عرف به مع اسم أبيه «بلاسكو» على سنة متبعة في بلاد الإسبان، أما اسمه فهو «فيشنت»، ولكنه لم يشتهر به كما اشتهر باسمي أبيه وأمه، وقد نشأ على حب الحرية والجمهورية، فكان من أنصار الكوبيين على دولته حين نهض هؤلاء للمطالبة بالاستقلال، ولاذ بإيطاليا متخفيا على ظهر باخرة؛ فرارا بحياته من الموت في إبان الشغب الذي أثاره لنصرة الكوبيين، وقد سجن مرارا وذاق العذاب أمر العذاب في سجنه، فلم يتحول عن رأيه ولم يعدل عن معاداة الحكومة الملكية؛ لأنه رأى كما قال بلسان الخطيب النائب في رواية الفيضان «إن المال الذي ينفق على البيت المالك أكثر من المال الذي ينفق على التعليم، وأن تزويد أسرة واحدة بما يملي لها في عيشة الكسل والبطالة يكلف الإسبان ما لا يكلفهم إياه إيقاظ جيل كامل لحياة العصر الحديث، وأن المدارس في فلب العاصمة الإسبانية باقية في كهوفها القذرة، بينما ترتفع الكنائس والأديرة في أكبر الطرق والميادين كأنها قصور السحر التي يتحدثون بها في الأساطير؛ وأن خمسين بيعة جديدة قد أقيمت في خلال عشرين سنة؛ لتحيط بنطاق العاصمة ولم يبن فيها غير مدرسة واحدة تقارن أية مقارنة بالمدارس التي غصت بها كل مدينة في إنجلترا وسويسرة» فهذه الحقائق وأمثالها مما ألقاه على لسان خطيب الأحرار في مجلس النواب، هي التي بغضته في نظام الملكية والكنيسة، ودفعت به إلى محاربة هاتين القوتين حربا لا مهادنة فيها ولا سلام، وهو نفسه كان نائبا يلقي مثل هذا الكلام في مجلس النواب، حيث انتخب سبع مرات للنيابة عن مكان مولده بلنسية، وربما كانت كراهته للألمان ومناصرته للحلفاء بكتاباته ورواياته في أثناء الحرب العالمية أثرا من آثار سخطه على الملوك الجرمان، الذين وطدوا في بلاده نظام الاستبداد والكنيسة، وملكوا الرهبان نصف الأرض يستغلونها، ولا ينفقون منها في غير المظاهر والشهوات. وقد نعى على هؤلاء الملوك أشد النعي في رواية «ظل الكنيسة» وألقى عليها تبعة الضعف والفاقة التي أصيب بها شبه الجزيرة، بعد أن أزهر وأثرى في عهد المغاربة المسلمين.
وعرف أبناء قومه إخلاصه وصدق بلائه، فأحبوه حب العبادة واستدعوه إلى أمريكا الجنوبية ليحاضرهم في الأدب والاجتماع، فاستقبله على الشاطئ ثمانون ألفا من سكان «بونس إيرس» يحفونه بإجلال كإجلال الأرباب وحب كحب الآباء، وطاف تلك الأرجاء جنوبا وشمالا فحث أبناءها على تعمير ما لم يزل من أرضها صالحا للتعمير، فاستجابوا له وأسرعوا إلى تلبية نصحه، وكان له بذلك فتح في عالم الزراعة والصناعة كفتحه في عالم الأدب والسياسة، إلا أن الرجل ما لبث أن كابد السياسة وبلا من دسائسها وألاعيبها ما يبلوه منها المصلح الحر النزيه حتى عافها وتزعزعت ثقته بجدواها في الإصلاح والتجديد، فدان بالعلم والفن وحدهما وصرف لهما كل سعيه وجاهه واقتداره، وآمن بشيء واحد هو الإشفاق على أهل وطنه الجهلاء الفقراء، والنقمة على طغاته الظلمة الجبناء، وقد عاش مغضوبا عليه من هؤلاء منفيا على تخوم بلاده حيث أقام على رابية جميلة يكتب الرسائل والروايات، ويستأجر الطيارات لإلقاء النشرات على الجماهير في المدن والقرى التي حرمت فيها كتبه ورسائله ورواياته، ومات ولما يزل في منفاه.
ولا نظنه احتفظ بعقيدة ثابتة تطمئن إليها نفسه، كما يطمئن المؤمن إلى عقيدة دينه. إلا أنه كان يعتقد كما قال في رواية «بحرنا»: «إن جميع الأديان تفقد بعض جمالها حين تعرض للنقد والامتحان، ولكنها على الرغم من هذا ما فتئت تنجب القديسين والشهداء وجبابرة الأخلاق، وقد عرفنا من شتى التجارب أن كل ثورة محصها العلم تنكشف عن عوار لا يقره الباحثون، ولكن هذه الثورات ما برحت تخرج للعالم خيرة أفراده، وأعجب أعمال جماعاته، وغير كاف أن نولد ونلد لأن الحيوانات جميعها تعمل في هذا ما يعمله الإنسان، وإنما على الإنسان أن يضيف إلى ذلك شيئا لا يملكه سواه وهو ملكة النظر إلى المستقبل، ملكة الأحلام، فلا غنى لنا عن مثل أعلى نضيفه إلى تراث الآباء، أو عن قدرة تتكفل لنا ابتداع ذلك المثل المأمول.»
فعقيدة أبانيز هي العقيدة في تلك القدرة، وإصلاح وطنه هو القطب الذي دارت عليه تلك العقيدة، ولما نشبت الحرب العظمى كان رجاؤه أن ينجلي نصر الحلفاء من تمكين الحرية، وإسقاط الملكيات البالية، فأكب بجملته على تأييد قضية الحلفاء، وزار الميدان مرات وألف رواية «فرسان الرؤيا» التي أطارت شهرته في الخافقين، وقيل فيها إنها أروج كتاب بعد التوراة، ولم يكرثه أن يكسب منها فقد باعها بستين جنيها لصحفي أمريكي، وهي تلك الرواية التي أدرت على ناشرها ألوف الجنيهات، ولكنه نظر إلى قضية العدل والحرية، حيث آمن بها فما وني ولا أحجم عن نصرتها بما استطاع وما ملك من هبة ومال.
لقد كان الرجل فخر وطنه في هذا العصر، ومات منفيا عن وطنه! إن في ذلك لعبرة بالغة، وإن الغد ليرينا من بقية هذه العبرة، ما يؤكد يقين القائلين بأن العاقبة للمصلحين.
الشعر والنثر1
... يرى الأستاذ أن النثر الآن بلغ مبلغا لم يبلغه في أي عصر من عصور اللغة، ويظهر أثر ذلك في وفرة عدد الكتاب، وتنوع موضوعات الكتابة، ثم في سعة المفردات، فأنا وإحكام الأسلوب، وفي نفسي من الأمرين الأخيرين شيء، أما سعة المفردات فأنا أعتقد أن اللغة كائن حي يقوم بعض ألفاظها على أنقاض بعض، وأن بجانب هذه الألفاظ التي استحدثت في اللغة العربية - وقليل ما هي - ألفاظا أخرى أوفر منها عددا كانت تستعمل في بعض العصور، وقد أميتت عندنا الآن تماما، فكما أن الحاجة تحفزنا الآن إلى استحداث ألفاظ لمعان حديثة كذلك كانت حاجة الجاهلية مثلا تمس إلى استعمال ألفاظ كثيرة، قضي علينا بتركها تغير وجه الحياة.
وكذلك القول في إحكام الأسلوب، فإنني في حاجة إلى من يثبت أن أساليب كتابنا اليوم في المواضيع التي يطرقونها أحكم من أساليب الجاحظ، وابن المقفع، والصولي، وابن مسعدة، ومن إليهم في المواضيع التي طرقها هؤلاء. على أن وفرة عدد الكتاب في العصور الحالية وقلته في العصور الخالية يرجع إلى عدم وجود المطبعة، أو عدم انتشارها في تلك العصور.
بقي أمر أكاد أعتقده دليلا على عدم نضج النثر، وقد وجدت الأستاذ الزيات أشار إليه في العدد الثاني من «الجديد» بقوله: «لا نزال نعرف النثر في نسج الفصول وإنشاء الرسائل، والغرب يمطرنا كل يوم فنونا شتى من القصص الرفيع يعالج فيه كتابه مشاكل الحياة ومسائل اليوم.» والحق أن اختفاء القصة من عالم النثر أمر يدعو إلى القلق لا سيما وهم يعدون ذلك عيبا في الشعر الذي يرسف في أغلال الوزن والقافية، أما جمود الشعر فيرى الأستاذ أن من أسباب ذلك أسبابا عالمية ترجع إلى أن الحب والنخوة اللذين يدور عليهما الشعر قد أصبحت تحركهما في العصور الحالية الصور المتحركة ومسارح التمثيل، ثم إلى انصراف الناس عن الشعر بالمناوشات السياسية، ولا أدري هل كان لهذه الأسباب أثرها في الشعر الغربي أم لا؟ ثم لا أدري كيف أوفق بين ذلك وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي انتشر فيها عندهم التمثيل، ثم قد يكون من المشكل علي في رأي الأستاذ أيضا أن يأخذ على شعرائنا اقتناعهم بالفكر السطحي، ويحتم على الشاعر أن يكون فيلسوفا، وهو بجانب ذلك يقول: إن الشعر خلق لتغذية العواطف، وأكاد أعتقد أن تغذية العواطف تتناقض مع الفلسفة التي تستلزم توغلا في التفكير وتعمقا في البحث واستكناه الحقائق، وبعد فقد أدليت إلى الأستاذ الجليل بتلك الكلمة الجريئة البريئة آملا أن يغتفر لي ما فيها من الجرأة على مقامه الرفيع لبراءتها من كل شيء إلا بغية الوقوف على تلك المواضع التي أشكل علي أثرها. فحبذا لو تفضل بذلك ثم ذكر لنا في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي كان ينبغي أن يطرقها الشعر الحديث ولم يفعل أو طرقها وقصر فيها ...
محمود غنيم
بدار العلوم
جاءتني هذه الرسالة وفي بعض أسئلتها منادح لتفصيل رأي، أو تصحيح فهم، أو توكيد حقيقة مما أسلفته في كلامي عن الشعر، والنثر ونقدي لبعض الشعراء، فرأيت أن أجيب على تلك الأسئلة بل لعله يزيل لبسا عرض من مفاجأة الرأي، ويصحح فهما مستعدا للتصحيح.
إن قولنا: إن اللغة كائن حين لا يناقض القول بأن اللغة العربية قد اتسعت للتعبير عن المعاني المختلفة اتساعا لم يسبق لها عهد بمثله في عصر من العصور، وإلا استحال علينا أن نزعم أن لغة ما على الإطلاق تتسع وتزداد صلاحا للتعبير؛ لأن كل لغة كائن حي فكل لغة إذن تنبذ بعض مفرداتها، وتستحدث غيرها ولا زيادة هناك ولا اتساع، وهذا خلاف الواقع المشاهد في تطور جميع اللغات التي يقال فيها إنها تزداد وتنمو؛ لأنها كائن حي يقبل الزيادة والنماء، وإلا كان مصيره إلى الهرم والفناء، وإنما المقياس الذي نفضل به عصرا على عصر في أطوار اللغات هو أن نعلم أي هذه العصور يحتاج أبناؤه إلى مادة من اللغة أوسع وأغزر، وهل هو يفي بتلك الحاجة ويقوم بها أو يكون أوفى بها وأقوم عليها من سواه؟ ولا شبهة في أن عصرنا الحاضر هو أحوج العصور إلى المادة اللغوية؛ لأن نصيبه من العلوم والمطالب الفكرية والاجتماعية أعظم من نصيب الجاهلية، وصدر الإسلام، وما بعد هذين العصرين إلى أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، ولا شبهة كذلك في أننا لم نكن أعجز عن الوفاء بتلك الحاجة من أي عصر عربي أحس خلة في اللغة وتصدى لسدها، وإن شئت فتخيل أديبا عباسيا ينتقل إلى عصرنا وأديبا عصريا ينتقل إلى عصر العباسيين، وقل لنفسك أيهما يحس بالحرج حين يتصدى للكتابة في موضوعات زمانه؟ إن أشد الجامدين عنتا ليؤمن بأن الحرج على الأديب العصري المنتقل إلى زمان العباسيين أهون من الحرج على الأديب العباسي المنتقل إلى هذا الزمان.
ونريد أن نقول هنا: إن مادة المعجمات العربية ليست بمادة لغة واحدة مقدرة على حسب الأشياء، وإنما هي في حقيقتها مادة عشرين لغة أو تزيد؛ لأنها تورد لنا المفردات التي استعملت في لهجات قبائل شتى ولغاتها لا في لغة واحدة وضعت فيها الكلمات على قدر المعاني، فاقسم العدد على عشرين أو أكثر تنقص معك مادة المعجمات إلى ثروتها التي لا تمويه فيها ولا مبالغة، أما اليوم فنحن نمشي في طريق التخصيص فننبذ التكرار الذي لا فائدة له، ونكتفي بكلمة لكل معنى لا تشاركها كلمة غيرها في أدائه، وشتان بين لغة تعطيك خمسمائة كلمة لشيء واحد وتضن عليك بكلمة واحدة لمئات الأشياء، ولغة أخرى تعطيك كلمة لكل شيء وتبلغ مفرداتها مبلغ تلك في الكثرة والاتساع، فلغة الجاهلية أضيق اللغات إذا قيست بما نطلبه نحن من مفردات المعاني ومصطلحات الفنون والعلم الحديث.
أما الأسلوب إن كنت تعني الأسلوب المرسل في مثل كتابي كليلة ودمنة والحيوان، فعلم الحساب يثبت لك أن هذين الكتابين أقل في عدة المفردات، وتنوع التركيب، ووضوح الأداء، والقصد في العبارة، من كتب المعاصرين التي يحتفلون لها بالتجويد والانتقاء، وإن كنت تعني أسلوب المقامات والأسجاع والفواصل، فهذه ما تركها أدباء العصر تهيبا لها ولا جهلا بها؛ لأن سخفاءه يجيدونها كما أجادها نبغاء المتقدمين، ولكنهم تركوها ازورارا عنها، وعرفانا بفضل البساطة والترسل في الإفصاح عن طوايا الأفكار والنفوس، وإنك لتجد في كتابات الجاحظ، وابن المقفع، والجرجاني، من الفهاهة والغموض كلما اعتمدوا التفكير ما يقل مثله في كتابات المعاصرين النابهين، وليست كثرة هؤلاء الكتاب راجعة إلى المطبعة كما قلت؛ لأن المطبعة أداة للنشر وليست أداة لخلق الكتاب، ويصح أن يقال إنها سبب من أسباب تصعيب الشهرة، وقلة التبريز لكثرة المتسابقين في الميدان، وشدة الزحام على النبوغ، فما يهمل من الكتابة في عهد المطبعة أضعاف أضعاف ما يهمل في عهد المخطوطات، ومجال الكاتب في القرون الوسطى أسهل وأرحب من مجال الكاتب في القرن العشرين.
وليس من الصواب أن نقول: إن النثر لم ينضج عندنا؛ لأننا لا نكتب القصص كما يكتبها الغربيون، فإن القصة أقل أبواب النثر حاجة إلى غزارة المادة وبلاغة الأسلوب؛ لأنها تبلغ بالإسهاب والحوار وإلقاء الكلام على ألسنة العدد الكثير من الناس ما يبلغه كاتب الرسائل بالقول الصادع، و«جوامع الكلم»، ووضع الحصر في موضع التوزيع، ولكننا لا نرى بيننا القصاص المنقطعين لكتابة الروايات والقصص؛ لأن الترجمة أسهل من التأليف، ولأن الأوربيين سبقونا إلى باب الرواية فاشتهروا بها وأخذوا سبيل المزاحمة على مريدي التخصص في هذا الباب، ولا يقال: إن النثر عاجز في أسلوب القصة؛ لأن النثر العربي في عصرنا لا يعجز عن استيعاب قصة من أجود القصص التي كتبها الغربيون، فإن أردت الملكات فلك أن تحكم بأنها معدومة أو قاصرة؛ لأن القارئ العربي يجد الميدان مكتظا بالقصص الغربية الشائعة فيميل إلى المترجم دون المؤلف، ولا يطول صبره على المبتدئين حتى يضارعوا أساتذة هذا الفن من الغربيين. •••
ونقول: إنك لا تدري كيف توفق بين جور التثميل والصور المتحركة على الشعر في العصر الحديث، وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي انتشر فيها عندهم التمثيل، فاعلم أنك تدري كيف توفق بين الأمرين حين تعلم أن الشعر كان مستأثرا بجميع فنون الكلام في عصر الإغريق، ثم شاركه النثر وظهر التخصص في الموضوعات، وما زال يظهر حتى انقسمت الروايات إلى تمثيلية وغير تمثيلية، وانقسمت التمثيلية إلى أقسام معروفة بأسمائها وعلاماتها، وغير التمثيلية إلى أقسام معروفة كذلك بأبحاثها ومطالبها، وكل هذه وما يضاف إليها من الصور المتحركة ، والمشاهد المنوعة، والملاهي الطريفة، والصحف والمجلات، قد انتزعت من دولة الشاعر ما كان له وحده بغير منازع، فمكان الخيال والعاطفة يشغله الآن عشرات من أنواع الكتابة واللهو، ولم يكن يشغله في الزمن القديم غير نوع واحد، وهذا فضلا عما أشرنا إليه في مقالاتنا من شيوع التعليم بين العامة، ووفرة أرباح الذين يكتبون لهم، وانصراف الأدباء إلى هذا المورد السهل القريب عن موارد للأدب الرفيع تجشمهم أضعاف العناء ولا تبض لهم إلا بالربح القليل، أما أثر السياسة في الشعر فإن المنازعات السياسية تقوم اليوم على برامج الأحزاب، وتفاصيل الخطط، وبراهين الوقائع والأرقام، بعد أن كانت تقوم في العصور الغابرة على التنافس بين الملوك، والتفاخر بالفضائل الشعرية، فلا محل فيها اليوم للشعر كذلك المحل الذي كان له في دولات الملوك السابقين، فإذا ظهرت العاطفة في السياسة فهناك يظهر الشعر على قدر، وهناك نرجع إلى حال يشبه ما كان من أحوال الشعراء في العصر القديم. •••
وما حتمت أنا على الشاعر أن يكون فيلسوفا، بل أنا لم أكد أفرغ من مناقشة الأستاذ الزهاوي في التفريق بين الشاعر، والعالم، والفيلسوف، وإنما قلت: إن الشاعر الكبير هو من يشعر بجوانب الحياة فتستخرج من شعره صورة جامعة لكل شيء فيها، وفلسفة خاصة أو نظرة خاصة إلى العالم كما يدركه هو ويراه، فمثل هذا الشاعر إذا سألت عن صورة الحياة عنده أو عن فلسفته هو في الحياة أمكنك أن تجدها مفرقة في شعره، ناطقة بسعة نفسه، واشتمال قريحته على كل ما حوله، أما الشاعر الذي تحاول أن تعرف كيف أحس بالحياة في جملتها فلا نعرف لها صورة جامعة في شعره، ففيم تسميه شاعرا كبيرا وكيف نفرق إذن بين الشاعرية وصياغة الألفاظ واللعب بالأوزان.
وكأني بالأديب كاتب الرسالة يحسب أنني أقيد الشاعرية بأبواب دون أبواب، فهو يسألني أن أذكر له في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي كان ينبغي أن يطرقها الشعر الحديث ولم يفعل، أو طرقها وقصر فيها، فليعلم أن أبواب الشعر عندي هي أبواب الحياة على اتساعها فمن دل على حياة شاعرة في نظمه فهو شاعر، ومن لم يدل على ذلك فما هو بشاعر، ولو نظم في جميع الأبواب التي عرفها الشرقيون، والغربيون، والقدماء، والمعاصرون، وإن ما آخذه على الشعراء الذين أنقدهم وأستصغر شأنهم هو أنهم لا يحسون، لا أنهم ينظمون في هذا الباب ويدعون بابا غيره أولى بالنظم فيه، فإليك الغزل مثلا وهو أقدم الأبواب في الشعر كله، هل تستطيع أن تعثر في نظم شعراء الجمهور بقصيدة - نعم بقصيدة واحدة ليس إلا - تدلك على أنهم أحسوا حقا إحساس العاشق، ووصفوه في بعض أطواره وخطراته وصف العارف الخبير لا وصف المقلد لمطالع الأولين، واللاعب بالكلمات ونكات الألفاظ؟ فإن لم يكن فيهم دليل على الإحساس في هذا الباب؛ فليست الأبواب هي التي تعوزهم، وإنما الذي يعوزهم هو الحياة أو الإدراك والشعور، وليس يغنيهم عنهما أنهم مرنوا على الوزن عشرات السنين، فإننا لا حاجة لنا بهذه ولا من أجلها كان وجود الشعر في لغات الناس.
فن التصوير بين القديم والحديث1
في المعرض الفرنسي
في المعرض الفرنسي الذي يقام الآن في القاهرة حجة للقائلين بأن تقدم الفن غير تقدم العلم، وأن سنة الارتقاء لا تسري على التصوير خاصة سريانها على الصناعة والاختراع، ففي الصور التي رسمها عباقرة التصوير قبل مائة سنة ما هو أجمل وأفخم، وأدل على القدرة والأستاذية من أحدث الصور التي ابتدعتها قرائح المعاصرين، ولو جاز لنا أن نوافق أو نخالف أحد الفريقين من الناقدين لقلنا: إن «الإمبرشنزم» الذي لهج به المصورون في هذا العصر، يهبط بالفن كلما تمادى إلى حيث يكثر فيه الادعاء، ويضعف المرجع المصطلح عليه، ويصبح الشذوذ هو القاعدة والقاعدة هي الشذوذ.
لم يكن الفن القديم غفلا من دلائل الشخصية التي ينزع إليها أنصار «الإمبرشنزم» أو الإحساسيون؛ لأنك لا تخطئ أن ترى لكل مصور قديم علامة يعرف بها، وطابعا ينم عليه وموضوعا يكلف به، وأسلوبا في الأداء والتلوين لا يشابه أساليب الأساتذة الآخرين، فالإحساسية الحقيقية التي تبرز فيها ملامح الشخصية لم تكن مفقودة ولا منسية في تلك العبقريات التي بقيت آثارها إلى اليوم تتحدى المنافسين بالتعجيز، وتعلو فوق هام المناقضة والمحاكاة، وإنما الفرق بين تلك الإحساسية وما يقابلها من نزعة المصورين في العصر الحاضر هو الفرق بين مزاج سليم متزن صادق مستوعب، وبين مزاج قلق متفاوت يعنى بجانب ويصدف عن جوانب، أو هو الفرق بين المساواة والبساطة، وبين الإغراب والبهرج.
و«نزوة الإعلان» هي الآفة في كل ما تناوله العصر بالتبديل من فنونه، وآدابه، وسياساته، وأطواره الفردية والاجتماعية، فإن الرغبة في لفت الأنظار والمغالاة بوسائل التأثير، والاعتداد المفرط بما يسمونه استقلال الشخصية هي الأعراض التي لا يفوت المراقب أن يلحظها في كل مطلب من مطالب هذا الزمان، وكل أثر تتمخض عنه عبقريات الأدباء ورجال الفنون، فليس هذا العصر بعصر الأضواء التي تنير وتهدي وتثبت على الإنارة والهداية، ولكنه عصر النيازك التي يتفجر كل نيزك منها عن الأحمر، والأخضر، والأصفر، ويعلو في الجو شهابا ثم يهبط إلى الأرض بهرجا من الألوان والأشكال، ولا نظن الفن الذي من هذا القبيل فنا إنسانيا يصدق في الإبانة عن طبائع الإنسان الخالدة، وحواسه الصحيحة، وميوله التي لا تختلف باختلاف الزمن والمكان، ولكنه هو فن النزوة الموقوتة، والغرابة التي يوشك أن تضمحل مع الألفة لا أن تزيدها الألفة من توطد واستقرار.
فالمصور الحديث الذي يجري على أسلوب الإحساسيين المزعوم يريد أن يتخذ له لونا وسحنة بارزة في جميع مصنوعاته كل البروز، فيوشك أن تقارب حدود الكاريكاتور وتلح على الأذواق إلحاحا يخالطها بالضجر والنفور، وقلما ترى فيهم من يحرف الأشكال أو الألوان ليكون التحريف أدل على المعنى، وأبعث على توجيه الفكر إلى ناحيته المقصودة، وإنما هم يحرفون الأشكال والألوان؛ لتدل عليهم وتؤخذ عند النظر إليها مأخذ العلامة الشخصية التي يتفردون بها، أو هي بمثابة توقيع شائع في الصور تعرف به أسماؤهم ولا يعرف به شيء سواها، فالتوقيع على الصورة بالحرف الصريح يغني عن هذه الخواص التي ينتحلونها لغير معنى ولا مسوغ من الفكرة أو الأداء، والإحساسية في هذه الحالة هي مجرد المخالفة للآخرين على نمط يستطيعه كل من يبغي الخلاف والشذوذ، ولقد رأينا في معرض الخيال المصري صورة نهج فيها صاحبها على منهج الإحساسية فأجاد ووفق أحسن التوفيق في مخالفته لألوان الشجر، واختياره اللون المغشي بالظلام بين الشحوب والسواد؛ لأنه هو اللون الذي يؤدي جو السكينة والظل المخيم على تلك الأدواح، فهذه المخالفة للون الأخضر الذي يبادر النظر من الشجر كله هي أقرب إلى إحقاق روح الصورة، وتمثيل جوها من الصدق الحرفي في محاكاة ألوان الطبيعة، ولكن المخالفة التي على هذا الأسلوب قليلة فيما نراه عندنا من صور الإحساسيين، وأكثر ما نراه في تحريفاتهم إن هو إلا أزياء لا نفهم لها حجة كزي السراويل الواسعة بعد زي السراويل الضيقة، أو كزي اللون البنفسجي بعد زي اللون الأزرق أو المرقط، وكلها ذاهبة مع الزمن كما يذهب كل جديد يؤتى به حبا للجديد ورغبة في التنويع الموقوت، ولا تبقى إلا الإحساسية المستمدة من الحس الصادق، والعلم الصحيح.
ولا فائدة من نقل الصور الفنية للتمثيل بها على ما نقول، فإن الصورة كلما بلغت حد الإتقان، وتميزت فيها براعة العبقرية عز على الآلات أن تنقلها، أو تنقل لها شبها يشير إلى سحرها وروعتها ولو بعض الإشارة، ولكننا نحيل القارئ إلى المعرض ليرى فيه مثلا صورة كوربيه مع الكلب الأسود، ويتأمل ما فيها من الدلائل الشخصية الناطقة، وما يحف بها من جو هو في باب المدركات النفسية أدخل منه في باب المشاهدة التي تدركها الحواس، وليرى الفرق بين الوجه الذي يرسمه ألف مصور، فإذا الرسوم كلها نسخة واحدة تتفاوت في درجات الإتقان، ولا تتفاوت في معنى الأداء، وبين الوجه الذي لا يمكن أن يحكيه إلا مصوره الذي يفرغ عليه من نفسه وجوه ودخيلة روحه ما ليس يشترك فيه جميع المصورين؛ فكوربيه في هذه الآية المعجزة إحساسي قادر يبده الناظر بالملامح الشخصية في الجلسة، والتلوين، والحركة، والجو الذي يحيط بفكره وسريرته، ولكنه إحساسي لأنه هكذا كان، لا لأنه أراد أن يقول للناس: «هاكم معشر الناظرين أنموذج رجل من الإحساسيين.»
ولينظر القارئ أيضا إلى صورة «السيدة في الثوب الأسود» لريكاردو فإنه يرى بين يديه صورة كاملة مستوفاة، لم تدع خفية من خفايا النفس إلا أبرزتها على الملامح، والوقفة، ونظرة العينين، وإيماءة الشفتين، فتجاوبت كلها بملامحها وألوانها لتمثيل تلك السيدة على وجه يريك حقيقة مزاجها وعصارة حياتها، حتى ليكاد يسرد لك من تاريخها ونياتها ما تخفيه هي على نفسها، فلا تدري أي بقية في هذه السيدة أبقاها ريكاردو للمصور الإحساسي؟ وأي جانب خاص من جوانبها أو معنى مستقل من معانيها ينفرد المصور الإحساسي بالالتفات إليه، ثم يقدر على أن يبرز فيه ما لم يبرزه ذلك العبقري القدير على أتم وضوح وأبلغ تأثير؛ فإن الذي يقتطع جانبا من جوانب هذه الآية ليخصه بالالتفات، إنما يشوه الآية كلها أو ينقصها، وما هو بقادر بعد ذاك أن يضع في جانبه الذي اقتطعه من القوة والوضوح فوق ما وضعته ريشة ريكاردو على جميع الجوانب، وتلك فضيلة الفن القديم أو الفن الذي لم تصبغه النزعة الإحساسية بكل صبغتها، فهو متساو في الالتفات إلى الظواهر، والبواطن، والألوان، والجو، والمائية، والبدوات الخاصة، والطبائع المشاعة، يجمعها ولا يجزئها، ويسبكها في قالب واحد يسع كل شيء ولا ينسى أي شيء، ولو شئنا أن نعد الصور على هذا المنوال لما فرغنا ولا قلنا في آخر الأمر إلا بعض ما نريد أن نقول، فالحق أن هذا المعروض ثروة فاخرة تشده الناظر، فإذا هو كالبخيل الجشع فتحت له أبواب الكنز على حين غرة، وأرسلته بين أكوام الذهب والجواهر، تتخطف عينيه بالبريق والاستهواء.
إن في أسلوب النظر، واختيار الموضوع، وتنوع الأداء، وانتشار المعاني متسعا لإظهار «الإحساسية» و«الشخصية» يغنينا عن هذا التعمد في التلوين، أو التعسف في تخصيص الملامح، أو المبالغة في الاتكاء على ناحية من النواحي، فإننا إذا تمادينا في اختراع الألوان والمواقف على هذه النماذج الحديثة خارجون لا مناص إلى البهرج أو «الفانتزية» مضيعون جمال الاتساق بتلك التجزئة التي تذكر الناظر بموائد التشريح، فليكن الفن كاملا حتى حين ينحصر في أداء لمحة خاصة، أو دلالة مقصودة، أما أن نأخذ لنا جانبا تتعلق عليه بقية الجوانب كما يتعلق الجسم المشلول على أعضائه الساعية، فذلك اقتضاب لا يشبع حاسة الكمال والإتقان التي هي جماع روح الفنون، وأما أن نوكل الحواس بالغرائب والتهاويل فذلك مضيع لنزاهة البساطة التي هي لب لباب الجمال.
وأحسب أن «المعرض الفرنسي» سينفعنا في مقتبل نهضتنا الفنية؛ لأنه يفسح آفاق الفن ويعلو بها إلى حيث لا ينالها الغرور القصير والطموح الكليل، ثم هو يرينا مثالي القديم والحديث فلا يغوينا الحديث بزخرفه، كما قد أوشك أن يغوي بعض الناشئين في غيبة القديم الفاخر المهيب، فهم أحرياء حين يبصرون هذه الفتن الطاغية، ويقلبوا النظر في آثار هؤلاء الجبابرة أن يكفوا من غلواء «الإحساسية» ويقصروها على ما فيه فضيلة وإحسان، والحق أننا ننظر إلى آثار الجيلين الماضيين ثم ننظر إلى آثار الجيل الحاضر فنرى المسافة تتسع جدا بين المفضول المرجوح من الناحيتين، ولا نراها تتقارب كثيرا بين الفاضل الراجح من هذه وتلك، وقد تقدم علمنا بالنور والتشريح، وظهر أثر ذلك في بعض آيات المحدثين، ولكنه، بعد، تقدم لا ينسينا سمو الفن على متناول «سنة الارتقاء» وأن الإنسان الفنان قد بلغ قمته قديما، وما برح الإنسان العالم يتوقل بين القمم والوهاد.
الحب والغزل1
كتب طالب أديب في العدد الماضي من البلاغ الأسبوعي يعقب على كلامي عن توماس هاردي حين أقول: «إنه أجاد في نظم الغزل بعد السبعين، وإن ذلك لم يكن عجيبا منه لأن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في هذه المعاني، بعد أن تهدأ ثورة النفس التي تبلبل القرائح وتغشي عليها بدخان الأشجان والشهوات.»
والطالب الأديب يقول: «إن قشور الحب ولبابه سيان، وأدق من هذا أن تلك القشور هي لباب الحب الذي لا لباب غيره، وإن غشاوته لا تسر وراءها إلا ما هو من نوع هذه الغشاوة، أو ما هو دونها، ونرى لذلك أن الشبان أحجى من الشيوخ بالتعبير عن الحب والتغني بآثاره، إذ هم الذين يفهمونه حقيقة الفهم بغرائزهم الطبيعية من غير كد ذهن وعميق تفكير.»
ثم يقول: «وماذا عساه في الحب مما يكبره الشيخ ويعجب به؟ وأي شيء فيه غير قابل للتحليل والوزن بتلك الموازين الدقيقة الميكانيكية! اللذة! إنه لا يجد في الحب لذة، وإذا وجدها فقد تواردت عليه اللذات في أيامه الماضية، الألم؟ لقد سقته الصروف منه كاسات مرة، وقد جرت لها نفسه ومرنت عليها فلم يعد يحفل من الألم بجديد، الغيرة؟ لقد علمته الأيام أنها ضرب من ضروب العبث، وهكذا كلما عرضت الشيخوخة لأي معنى من معاني الحب التي يفتن بها الشباب لم تر فيه شيئا طريفا ولم تعن بالتعبير عنه، وإذا عنيت جاء تعبيرها بسيطا هادئا فيه كثير من قناعة الشيخوخة وعدم اكتراثها.»
والموضوع الذي طرقه الطالب الأديب جدير بأن يعاد إليه لإبداء رأي في الحب والغزل يدخل في باب الأدب، كما يدخل في باب التحليل النفسي الذي هو محك الآراء في الأدب الحديث.
والمسألة بعد ليست مسألة نظريات يرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها، إذ كل ما يجب علينا - لكي نقول إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانا ونكون على ثقة وبينة مما نقول - هو أن نعلم أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدا مقبولا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية وحدها في عنفوان الشباب، فهل نظم توماس هاردي غزلا جيدا بعد السبعين؟ نعم! وإذ كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة.
فالشيء الذي لا نكران له ولا خفاء به هو أن شيخا جاوز السبعين قد نظم في المعاني الغزلية وأجاد فيها - على أسلوبه - أحسن إجادة، وهذا حسبنا لنقول إن الغزل قد يوجد حيث لا شباب كما أن الشباب قد يوجد حيث لا غزل.
على أننا لو فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا هذا المثل القريب ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني الغزلية وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها، فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول لا؛ لأن الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور عليه.
فالحب عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبا ولا هي من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة، ولكنا نعني الصلة «النفسية» التي تجمع الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة، وقد ثبت للباحثين في طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة وينتقل الذكر والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوربا وأفريقيا ثم يعودان من تلك الرحلة إلى حيث كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه، فالحب على هذا لا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا إن لكل حي غزله الذي ينطلق بما في نفسه فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل متغزل نصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء.
إن الذين يقتلون أنفسهم حبا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدا من الذين يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء، فلا ريب أن الشاعر لا يحسن الغزل بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد يعلو حين يهبط الحب على درجات لا تناسب بينها في العلو والهبوط، وسر ذلك أن شاعر الغزل يقسم نفسه بين محبوبين هما الحبيب والفن، فيكون نصيب الحب أجزل عنده من نصيب الفن، كما يكون نصيب الفن أجزل عنده من نصيب الحب، ثم لا يلزم أن يكون أحدهما على قدر الآخر، ولا أن يكون الغزل الجيد دليلا على العاطفة الجيدة في جميع الأحوال.
والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي الفتى أوائل شبابه ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق إليها بغير هداية ولا تمييز، وقد يطلب الشريك في الحب وهو لا يعلم ما الذي يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه والذي يعطيه إياه؛ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية أو نفسية يشبعها أي شريك يصادفه ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق؛ وقد يكون احتدام شوقه ناقصا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل طعام، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف عن سواه.
والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين وامتزاج بين قلبين وجسدين، وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه؟ وقبل أن ينكشف له قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب؟ وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل فيه رغائب الأجسام؟ وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة؟ فليس الاحتدام هو الحب نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن يكون يعانيه، ولكن الحب هو التفاهم على إشباع حاجات النفوس والأجسام، ولا يكون تفاهم على هذا إلا حيث يكون فهم صحيح ناضج لما تحتاج إليه نفس المحب ونفس الحبيب.
فللشباب حبه وللرجولة حبها وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين، وقد تعتري كل عاطفة من هذه العواطف زيادة في الشعور، ونقص في التفاهم، أو زيادة في التفاهم، ونقص في الشعور، أو تكافؤ بين الاثنين فلا يمنعهما شيء من ذلك أن تقول، وأن تزود الشاعر بمؤنة الغزل والتشبيب.
وإذا تقضى الشباب، وتقضت بعده الرجولة، وتقضت بعدهما الكهولة فهل تنفد مؤنة الغزل وهل تبطل دواعيه؟ كلا! هناك الحنين والتذكار وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد وداعية حاضرة في كل حين، ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس شيوخا وشبانا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن أو ألم أو خالجة ثائرة أيا كان فحواها إنما كان كله من قبل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارمة، فيسلس لهم المعنى ويصفون الشعور من كدر الدخان والضرام، وهم حين يتضرمون حزنا أو شوقا تستغرقهم العاطفة، فلا يلتفتون إلى النظم ولا يشتغلون بغير ما هم فيه ولا يحلو لهم أن يسجلوا شيئا لم يزل في مجراه، ولم يأن له موعد التسجيل، فإن ساورهم لجاج النظم في تلك الحالة فقلما يوفقون لآية من آياته التي يتم فيها صفاء المعنى وصفاء الأسلوب، ولا ننس بعد ما أسلفناه كله مرانة الزمن الطويل على معالجة الصياغة، ومداورة المعاني، وسياسة الأفكار والعواطف، فإن لها لقدرة تعوض الشاعر العبقري ما تتحيفه الشيخوخة، وتعصف به السنون.
ولا عجب أن يجيد هاردي الغزل، أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس والقرائح، وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة هادية عليها سمة الرجل وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة، وقد نبهنا إلى ذلك حين قلنا في مقالنا الأول عنه: إن الغرابة في إبداع الشيخ هاردي أقل وأقرب تفسيرا من إبداع الشيوخ الذين يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة هاردي أبدا ساخرة، وزفراته أبدا مكبوحة صابرة، وأناشيده تليق بالشيوخ كما تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق بالإجادة في هذا المجال من سواه، وهو هو توماس هاردي سواء نظم في الحب، أو في الحكمة، وفي تجارب الهرم، أو عواطف الشباب.
ولا نختم هذا المقال قبل أن ننبه إلى ملاحظة أخرى تحتاج هنا إلى تنبيه، وتلك هي أن شعر الغناء عند الإفرنج أعم من شعر الغزل، وما إليه في اصطلاح العرب، فقد تنتظم فيه كل مناجاة غزلا كانت، أو وصفا، أو حكمة تتزيا بزي العاطفة الشخصية، وهكذا كان شعر هاردي الذي عنيناه بشعر الغناء.
الإحساسية في التصوير1
يذكرني مقالك عن «فن التصوير بين القديم والحديث» بذلك المقال الذي أودعت فيه «إحساسيتك» بأول عدد من «البلاغ الأسبوعي» وكنت قد عرضت فيه بالإحساسيين من المصورين تعريضا أخطر من تعريضك الجديد. على أني أبادر إلى القول بأن اللوحات المشوهة التي لحظتها في الدور الأعلى من المعرض الفرنسي، الذي لا يزال قائما إن هي إلا نماذج للفن المصري الذي أبدعت كل الإبداع في تحقيره، والتنفير منه باسم الإحساسية وهو لم يكن ولن يكون من الإحساسية في كثير ولا قليل.
إنما هي بدعة لجأ إليها بعد الحرب الكبرى فئة من المصورين المعاصرين ل «نزوة الإعلان» التي اعتبرتها بحق آفة هذا الجيل، والتي أحسنت بها تعليلك أمرهم وتكييفك إياهم بذلك الذي اصطلحوا على تسميته الفن المصري أو الفن الحديث.
أما الإحساسية الصحيحة - وعام 1865 بدء ظهورها - فهي التي لمست أثرها فيما أبدعت إطراءه باسم الفن القديم، وما هو بقديم إلا فن روفائيل ومن نحا نحوه ممن سبقوا الإحساسيين بأجيال.
لقد أخطأ مترجم السياسة الأسبوعية ترجمة «الإمبرشنزم» بالفن العصري في مقال المستر ستيوارت الإنجليزي، وأراه لهذا قد أخطأ تكييف المقال في مجموعه، وإن يكن قد أجاد التعبير في مواضع أخرى كثيرة، وهنا يتجسم لنا الخطر من بقائنا بغير موسوعة عربية تثبت المصطلحات الغربية على حقيقتها الفنية أو العلمية، وتعرف فيها الإمبرشنزم إحساسية لا فنا عصريا أو حديثا ويقرأ فيها أيضا: «إن الذي سيهبط بالفن إلى حيث يكثر فيها الادعاء ويضعف المرجع المصطلح عليه، ويصبح الشذوذ هو القاعدة والقاعدة هي الشذوذ» إنما هو الفن العصري وليست الإحساسية تلك التي أتذوقها في نثرك وشعرك، كما أتذوقها في طريق أهل الفن العالي أمثال من أكبرتهم بحق في مقالك الأخير ، وبعد، فكم تكون الإحساسية مدينة لك إذا تكرمت بتحقيق أن الفن العصري شيء آخر غير الإحساسية، ثم أثبت التحقيق في كتاباتك الخالدة، فها هي ذي الإحساسية تحدثني بأنك استمرأتها واستنكرنها في آن! ألست قد استروحتها باسم الفن القديم أو الإحساسية الصحيحة، ثم عدت فاستقبحتها باسم الفن العصري أو الفن الحديث؟ وتقبل.
شعبان زكي
مطرية مصر
أوافق صديقنا المصور الفاضل على وجوب التفريق بين «الإحساسية» والفن العصري لأن ظلما كبيرا للإحساسية أن تزج بآياتها كلها تحت عنوان الصور العصرية، التي لا نصيب لها من فن ولا فهم، ولا ذوق ولا خيال.
وأريد أن أقول هنا إن الذي عنيته بالفن القديم هو الفن الذي يجري على أسلوب «الكلاسيك» أو الرومانتيك مع بعض التجوز، وليس الفن القديم في تاريخه ومولد أصحابه؛ لأن بعض الصور التي نوهت بها لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين أو تسعين سنة كما هو مكتوب على عناوينها، فلا يظن أنني أقصد بنسبتها إلى القديم إلى أسلوبها المدرسي «الكلاسيك» أو المدرسي المعدل «بالمذهب الرومانتيك» وهو تعديل لا يخرجها في أصول الرسم والإحاطة بالموضوع من النظام الطبيعي إلى الفوضى التي لا ضابط لها على الإطلاق.
وإنني أعتقد أن كل تجديد صحيح في فن التصوير لا ينافي «فكرة» الأساتذة الأقدمين عن الفن ونظرتهم إلى الأشياء على الإجمال؛ لأنهم لو عادوا اليوم لما رفضوا أن يستفيدوا في تصويرهم مما أحدثته علوم التشريح، وملاحظة النور والظلام، ولكانوا إحساسيين حين تكون الإحساسية صادقة ومجددين حين لا يتمادى التجديد إلى الشعوذة والبهلوانية، إذ ما هي الإحساسية في نشأتها؟ هي فيما أراها تكميل لنظر الأقدمين، مسبوق إليه أو متوقع في آثار بعض الأساتذة الإسبان والفرنسيين، و«ديلكروا» لم يكن إحساسيا ولكن أسلوبه في ملاحظة المسافة لا ينكره الأسلوب القديم، ولا أي أسلوب صحيح، فلا يعاب عليه أنك حين تدنو من أزهاره لا ترى إلا بقعا من الألوان يتعذر عليك تمييزها، ثم تبتعد قليلا قليلا، فإذا هذه البقع ورود وأزهار لا أجمل منها ولا أصدق في رعاية اللون والرسم والمسافة، بل هذا من القدرة التي يعجب لها كل من يراها، والتي تفوق قدرة الأقدمين في فضيلة لا خفاء بها، وهي أن الأقدمين كانوا ينقلون ما يرونه على اللوحة، أما ديلكروا فإن الذي يضعه على اللوحة شيء غير الذي يراه، وغير الذي تراه أنت حين تقف على مسافة محدودة، ولا ريب أن نقل المنظر كما هو أسهل من ترجمته إلى منظر آخر يختلف في القرب أشد الاختلاف وينطبق على البعد المحدود كل الانطباق، وهكذا كانت صور سيسلي ومونيه وبيسارو، أو كانت بعض صورهم التي رأيناها في المعرض الفرنسي واستدللنا بها على قيمة الصور الأخرى، التي لا نراها إلا منسوخة في مجموعات المتاحف، فإنها كلها صادقة إذا نظرت إليها من مسافتها المقدرة أو حبست الأشعة في العين على القدر المناسب لألوانها الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد يسهل ضبطها والرجوع إليها في النقد والتعليم، ومجمل هذه القواعد أن اللون الواحد كالأحمر أو الأصفر مثلا ليس هو لونا واحدا في الحقيقة؛ لأنه يختلف باختلاف اللون الذي كنت تراه قبله وباختلاف البعد والقرب والزاوية التي تنظر منها إلى الشيء الملون به.
وإنك حين تنظر إلى هدف بعد هدف يلزمك حصر للنظر في كل من هذه المرئيات يخالف حصره في الهدف الآخر، وإن المنظر في مجمله غير المنظر في تفاصيله، وإن تعميم الظلال على الأسلوب القديم ناقص في حكم الحس؛ لأن ألوان التظليل لها قانون غير القانون الذي أدركه القدماء، فكل هذا لا غبار عليه. ولكننا لا نريد أن نغلو في تقديره كما يغلو المتشيعون للإحساسية، ولا أن نجرد أسلوب الأقدمين من كل فضله في هذه الناحية، مثال ذلك شجرة معينة تريد أن تصورها: فهذه الشجرة ليست منظرا واحدا لأنها في الصباح غيرها في المساء، وفي الربيع غيرها في الشتاء، فما العمل في هذه الحالة؟ هناك ثلاثة أساليب لاستجماع هذه الأشكال المتغايرة: أحدها أسلوب مونيه الإحساسي، الذي يريد أن يصور على طريقة العصفور المتنقل في التغريد، فهو يرسم تلك الشجرة عشرة أشجار أو ثلاثين أو أربعين، على حسب تغير الساعات والفصول والأنوار والظلال، وأسلوب آخر إحساسي يحصر الشجرة وحدها ويغض النظر عن تفاصيل المنظر الذي حولها، وعن تفاصيل الشجرة نفسها؛ ليعطيك إياها في لحظة واحدة من الزمن كما لاحت لعينه، وكما وقعت في نفسه، وأسلوب الأقدمين وهو يضحي ببعض الظواهر التي تضحي الإحساسية بأكثر منها ليعطيك الشجرة في كثافتها، وتلوينها، وتظليلها، وروحها، ولبابها، الذي قلما ينال منه تغاير الأزمان والأجواء، فلا ريب أنه مهما اختلفت المظاهر فهناك الشجرة التي تمر بها كل هذه المظاهر، والتي تحتاج إلى التصوير جملة واحدة، كما يحتاج إليه كل مظهر من مظاهرها.
وهنا يبدو لنا أن الأقدمين كانوا إحساسيين أكثر من الإحساسيين؛ لأن فضل الإحساسية الأكبر هو الاعتماد على الشعور، أي تصوير الشيء كما يبدو في نفس ناظره من وراء المحسوسات الآلية؛ فالأستاذ الذي ينفذ من وراء الصباح والمساء والربيع والشتاء؛ لينقل لنا الشجرة كما قد يتخيلها واحدة كاملة في جميع هذه الملابسات هو إحساسي ينقل من الداخل أكثر مما ينقل من الخارج، ويعطينا من الجوهر أقرب مما يعطينا من الأعراض، وهذا هو الكمال الذي قد تفسده التجزئة حين يغلو فيها الإحساسيون إلى الحد الذي ترامى إليه ذلك الناقد المتهوس مارنيتي
Marinetti
الإيطالي، فزعم أن الفن يجب أن يعنى برسم الأشياء في الزمان لا في المكان وحده، وفسر ذلك بأن المصور يجوز له أن يرينا ظهر الكرسي من خلال جسم الرجل الجالس عليه؛ لأن ذلك الرجل سيفارق كرسيه في زمن قريب! وإنه يجوز له أن يرسم أذرعا خمسا أو ستا للرجل الذي يحك رأسه؛ لأنه يؤديه بذلك أداء صادقا في أزمانه المتتابعة، ويسمي أنصار هذه المدرسة أنفسهم بجماعة المستقبليين
Futurist
ويقضي سوء حظ الفن أن تتفق لبعضهم بعض الإجادة الفكاهية على مثال صورة «السيدة والكلب» فتشيع أنماطهم بين الأغرار ويتخذون من تلك الإجادة الطارئة جوازا يدخلون به في دائرة المحظور، ثم تبحث عن كل هذه الكلمات الخاوية من مستقبلية إلى رسم في الزمان لا في المكان إلى «النفاذ المحسوس في خلال المادة» إلى غير ذلك من الطبل والطنين، فتلفيه كله لا يخرج عن رسم الحركة الذي عرفه الأقدمون وأدوه أجمل أداء، ووصفه شاعرنا العربي ابن حمديس حين قال:
أسد تخال سكونها متحركا
في النفس لو وجدت هناك مثيرا
فليس بين المدرسيين والرومانيين والإحساسيين النابغين من لم يرسم لنا الجسم في حركة تخيل لنا ما قبلها وما بعدها، وترينا إياه في الزمان لا في المكان وحده، ولكنهم لم يلجئوا قط إلى تعديد الأرجل والأذرع والوجوه، ولو فعلوا ذلك لكان أيسر عليهم وأقل مؤنة، وأغنى عن البراعة الفنية من كل أسلوب معروف، إذ لا صعوبة في محاكاة شريط الصور المتحركة الذي يؤدي من هذه اللمحات المستقبلية ما ليس يؤديه أبرع المستقبليين في الجديد والتلفيق.
وليت الأمر وقف عند حد هؤلاء المتهوسين، فإن الفوضى إذا بدأت لا تنتهي إلى نهاية معقولة، وقد بدأ «الإحساسيون» يبيحون الانحراف عن القواعد؛ لضبط المرئيات النفسية وفتحوا باب التصرف في الألوان، فظهر على أثرهم الإحساسيون المحدثون
Neo-impressionists
والتقسيميون
Divisionists ، الدواميون
Vorticists ، والتعبيريون
Expressionists
وأولئك المستقبليون وطوائف أخرى لا نحصيها، مما يدخل في هذه الأسماء التي يشملها اسم وما بعد الإحساسية
أو اسم الوحشية الذي أطلق على بعضها في فرنسا
Fauvism
وإنه لأليق بهم قاطبة من جميع تلك الأسماء.
وإلى القراء مثلا واحدا من أمثلة هذه الصور التي رسمها «كاندنسكي» الروسي البولوني قبيل الحرب، ولم تعدم ناقدا مثل السير ميشيل سادلر، يزعم أنه تبين فيها تعبيرا عن حالة القلق التي تقدمت الحرب؛ لأنه بصر فيها بحطام من المدافع والأجسام والدواخين؛ فلينظر القراء إلى أي نهاية بلغ بالفن انحرافه عن الأصول لتصوير ما يسمى الإحساس المستكن في العواطف والأوهام.
ولم يكن في حساب «الإحساسيين» أن «فكرتهم» تهبط إلى هذا الحضيض، وتمسخ هذا المسخ الشنيع، ولا كان هذا شأن جميع الإحساسيين في هذا العصر، أوربيين كانوا أو شرقيين، ففي الدور الأعلى الذي عرضوا فيه العصريات صور لأرنست لوران يغبطه عليها أقدر الأساتذة المتقدمين، وفي معرض «هداية» الذي لا يزال مفتوحا إلى الآن صورة «للرقص» أنصف فيها الأستاذ كل حق من حقوق الرسم والحركة والمعنى، وأتى فيها بآية من الآيات التي يفخر بها أكبر المصورين، فعلى مقربة من الصورة لا ترى إلا خطوطا تبين للناظر عن شيء قليل من الراقصة والراقص، ثم تتضح الإبانة كلما ابتعدت حتى ترى الجهد ملموسا في الراقص الشيخ والأثر ملموسا في الراقصة الفتية، مع إتقان لا مزيد عليه في الملامح وتمثيل الإحساس، وفي هذا المعرض نشهد الإحساسية التي لا يبعث المصور إليها عجزه في الرسم، وتمحله للهرب من الإتقان فيه، فإنك ترى دلائل القدرة على الرسم والافتتان بالأنوار والظلال بادية على الصور الأخرى التي قضى بها الأستاذ البارع حق القربان الفني للشمس المصرية، ومعابد الفراعنة الخالدين.
لم يكن الشتات الذي آل إليه الفن الحديث في حساب الإحساسيين السابقين، ولكنه كان مخشيا من يوم أن شذ المجددون عن سنن المدرسيين في الأصول العامة، فنشأت في وقت واحد على التقريب طلائع مدرسة تدعو نفسها بأنصار الرسم الجيد
La bonne Peinture
على محاذاة الطلائع التي ظهرت للإحساسيين. كأنهم يتهمون الإحساسية بالعجز في الرسم؛ لأنها تنحرف عن تقاليده في بعض الأحيان، فإذا شاء المصورون القادرون أن يجنبوا الفن عواقب الفوضى والشتات، فالسبيل إلى ذلك أن يغلقوا الباب على الدعاوى النفسية التي لا وازع لها، وليجعلوا الظواهر أصولا لا يعدوها المتخيلون ولا الواقعيون ولا يحاد عنها لأي عذر من الأعذار، ولا نستغني نحن في الشرق خاصة عن تقدير تلك الأصول إلى جانب العناية، بما اقترحه صديقنا المصور الفاضل من الاتفاق على المصطلحات، وضبط الأسماء، فإن إرسال الترجمة على عواهنها خليق أن يوقع القراء في الخطأ والإجحاف.
الربيع1
لماذا تغني الطيور؟
الربيع!
أين؟
ألا تراه؟ ها هو، هنا، هناك، في كل مكان، في الشجرة المورقة، في الزهرة المتألقة، في العصفور المارق من وكره، في الأحياء المتوثبة، في السماء الضاحية، في هذا الضياء النافذ الوهاج، كأنما يكشف بواطن الحياة من حيث اختبأت من طوارق الشتاء، أو كأنما يحيل الدنيا معنى يشف ويتخيل، لا جسدا يكثف ويلمس، أو كأنما يفيض عليها من صراحة اليقين، فلا تردد على سماتها، ولا خجل في حركاتها، ولا مبالاة أن تدل على نفسها بكل دلالة، وتعرب عما في ضميرها بكل مقالة؛ فما بالربيع من حاجة إلى من يدلك عليه، ويترجم لك عنه؛ لأنه لا يتوارى عن أذن تسمع، وعين تنظر، وأنف يستنشق، ويد تلمس، وقلب يشعر، وحياة يأتيها النبأ المفرح من باطنها قبل أن ينتقل إليها بالآذان والعيون والآناف، وإنه لينطق ويتحدث كما قال البحتري:
وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
بل هو يتكلم ولا يصنع من شيء إلا أن يتكلم ويتكلم، وما نحسب إلا أن الحياة كلها تعبير وإعراب، وإلا أن الربيع عندها هو ساعة الوحي والإلهام، ولا نظن الإنسان بدأ يسأل نفسه: ما الحياة؟ وما فائدة الحياة إلا في غاشية من غواشي الشتاء، حيث يبدو على كل شيء أنه يتلعثم ويطرق، ويلتمس المعاذير لوجوده وظهوره.
أما في الربيع فما الحاجة إلى بحث عن الحياة أو عن فائدة للحياة؟ ها هي الحياة جريئة على العدم لا تمهله أن يسألها لم أنت هنا؟ وما الذي تبغينه في هذه الأرجاء والآفاق؟ بل ها هي الحياة غنية بنفسها ولا شيء في الأرض والسماء غيرها. فحسبها أن تحيا وأن تقول: إنها تحيا، وأن تسمع أنها تحيا ولا مزيد على ذلك ولا داعية إلى المزيد، فإذا بدأت تلتمس الأسباب فقد بدأت تعتذر وقد بدأت ترتاب في دخيلتها وفيما حولها، فلا سبب يرضيها، ولا شفيع يغنيها غير السكوت، أو كلام هو أغمض وأخفى من السكوت.
الحياة تعبير، وقد نفذ البحتري إلى طويتها حين كانت غاية الغايات في الحسن عنده أنه يتكلم أو أنه لا يحجم ولا يخفي، فتلك شيمة كل شباب، وتلك شيمة كل ربيع؛ لأن الربيع شباب الزمان، وتلك شيمة كل حياة؛ لأن الحياة هي الشباب.
ولقد قدر لعصر البحتري - عصر النيروز والمهرجان - أن يكون شعراؤه أصدق الواصفين للربيع في كل سمة يعرفه بها الواصفون، ويتأمله فيها المتأملون، فإن قلت: إن الربيع تعبير فقد أحسن البحتري التلميح إلى معناه، وإن قلت إنه زينة، فأبو تمام يعرفه كذلك حين يقول:
دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر
وإن قلت: إنه حب فابن الرومي ينبئنا بذلك حين يصف الأرض فيه بأنها:
تبرجت بعد حياء وخفر
تبرج الأنثى تصدت للذكر
أو حين يقول:
ورياض تخايل الأرض فيها
خيلاء الفتاة في الأبراد
أو وهو يجمع قولي البحتري وأبي تمام في قوله:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشي من زواهرها
حمرا وصفرا وكل نبت غبراء
فالربيع زينة، والربيع حب، والربيع تعبير، بل ما الزينة، وما الحب إلا التعبير في لبابه، وإلا حسنا يريد أن يظهر، وسرا يهم أن يبوح ويتفشى، وحياة تود أن تمتد من حيزها إلى كل حيز يحملها إليه باعث الحياة ومعينها بالظهور والذيوع؟ •••
آخر من يعلن لك بشارة الربيع هم جماعة الفلكيين في تقاويم الفصول، فإن برنامج الموكب عندهم لا يسلم من التقديم والتأخير، وكل شيء أصدق من التقاويم في الرواية عن الطبيعية حتى الأفلاك التي يرصدها أولئك الفلكيون، وحتى أعشاب الأرض التي لا تلغو، وحتى العصافير التي لا تخلق إلا لتلغو وتهذر، وتتحدث بالمفيد وغير المفيد!
ففي صبيحة يوم من الأيام صحوت فإذا أنا أسمع من خمائل الجيرة أصداء طال عليها صمت الشتاء، ولم تنطق منذ أشهر بغير دعاء الحدأ والغربان التي لا يصمتها شتاء ولا صيف. عادت العصافير إلى التغريد والهذر فقد اختفى إذن شبح الشتاء العبوس، وانطلقت أطفال الطبيعة تلعب في غير خوف ولا انقباض، وهي إلى أن يرجع ذلك الشبح لن تكف عن اللعب واللغط، ولن تفتر عن الحركة والمراح، ولن تدع مكانا يحملها إليه الجناحان إلا أن نقلت إليه بشارة الربيع وصدحت فيه بأنشودة الحياة.
وكأنما كنت على انتظار هذه البشارة، وعلى مسمع منها قبل أن تهتف بها المناقير، فقد قضيت أواخر الشتاء أقرأ عن الطير مستعيضا بذكرها عن سماعها، فصحبت «بنيامين كد» في خلواته مع الطبيعة، وماشيت بوتر في عالم الموسيقى الآبدة ، وأصغيت مع إدوارد جراي إلى أغاريد الربيع والخريف، فكان ترحيبي بالبشارة ترحيب المنتظر المتشوف، وسماعي بالخبر كسماع الحالم أفاق من حلمه فرأى من كان يراه في منامه، أو كما يقول صديقنا شكري:
وكنت كراء في الكرى طيف جنة
فلما تمشى في الصباح رآها
فأصغيت أسمع النبأ الجديد، وهل ثم من نبأ جديد؟ كل ما أزعجتني هذه الثرثارة لتفضي إلي به هو أنها هناك، وأنها حية كما أعلم، وأنها سعيدة بالحياة، فأهلا وسهلا! نعم النبأ هذا والله، وما يبرح جديدا طريفا في كل يوم، بل ما يبرح قديما معادا ألذ من الجديد الطريف، فمرحبا بالنبأ والمنبئين ومرحبا بالخفة المستطارة، التي تنقض كل ما أوقرتنا به فلسفة المتشائمين. •••
لماذا تغرد الطير؟ لأنها تجد الطعام الكثير كما يقول بعض الطعاميين النفعيين الذي لا يتناولون الحقائق أبدا إلا من الأذناب، ولكن إدوارد جراي يراقب الطيور، ويتفهم لغاتها فيأبى أن يجعل ألسنة الهواتف كلها في بطونها، ويأخذ في حوار بين باحثين مفروضين يؤيد أحدهما فلسفة الطعام، ويشك الآخر في هذه الفلسفة. يقول الطعامي قوله فيجيبه صاحبه بأن الطعام أكثر ما يكون في شهري أغسطس وسبتمبر، فلماذا يقل فيهما الغناء؟ فلا يقنع الطعامي بهذه المناقضة ولا يعسر عليه أن يلتمس العلة لقلة الغناء فيما يصيب الطيور من الإعياء بعد موسم الحب والإنتاج، فيسأله صاحبه: ولماذا تعود فصيلة من الطير إلى التغريد في أكتوبر، ولا نسمع في هذا الشهر صوتا لفصائل أخرى؟ فيجد الطعامي جوابا يورده على شيء من الحذر والتحفظ ويقول: لعل هذه الفصائل أيضا ينالها من التعب ما ليس ينال الأخريات! فيذكر له صاحبه اسم العصفور الدوري، وهو طائر ينسل ريشه في موسم الحب، ثم لا يستهل شهر أغسطس حتى يتدفق بالتغريد والتهليل، فينتهي الحوار بهذا، وينتقل المؤلف إلى رأي الذين يرجعون بسبب الغناء إلى الحب، فيقول: إن هذا العصفور الدوري يتجنب الأنثى ولا يطيق اقترابها في الخريف، ثم هو لا ينقطع عن الغناء حين يكون على تلك الحالة من النفور، ولعله يغني حينذاك ليقرر مكانه ويدفع المزاحمين عن غشيانه، وهو سبب معروف مشهود لرفع الصوت بالترنيم والتحذير.
ويخرج الوزير المشغوف بالطير من بحثه على نتائج ثلاث هي: (1)
أن الغذاء لازم للغناء، ولكنه لا يكفي وحده لابتعاثه. (2)
أن الحب باعث للغناء في الطيور المغردة كافة، فهي تغرد جميعها في موسمه، وتبلغ فيه غايتها من النشوة والإطراب. (3)
أن تقرير المكان كاف للغناء، إن لم يوجد له سبب سواه.
ولكن الوزير يعود بعد إثبات هذه النتائج فيورد عليها الريبة من غناء الزرازير في الخريف حين تتجمع في مكان واحد، ولا يبتعثها للغناء حب ولا تقرير مكان، وإنما تغني لأنها لا تعرف عندها سببا للسكوت، فلا بد إذن من نتيجة رابعة وهي: (4)
أن بعض الطيور تغني لمحض الشعور بالراحة والسلامة، بغير سبب خاص من تلكم الأسباب.
وكأن هذا كله ينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي أن الطيور تغني لأنها خلقت للتعبير عن حياتها كلما زالت موانع التعبير، ومن السخف أن يقال إنها تغني؛ لأنها تجد الطعام الكثير لأن وجود الطعام نفسه في الربيع والصيف، يحتاج إلى تعليل غير ذلك التعليل، وإذا كانت الأرض تقتبس من الربيع حياة تسخو بالحبوب والخيرات، فما الذي جناه الأحياء عند هؤلاء الطعاميين، حتى لا يقتبسوا من الربيع خصبا ينطق بالغبطة والسرور، وبكل ما تفيض به النفس من حب ورجاء واعتزاز؟
لكأن هؤلاء المساكين يحسبون أن الحياة تجرم في حق نفسها، أو في حق خالقها إذا ظهر فيها وجود لغير المعدة، ولم تكن المعدة هي جميع الأعضاء والأجسام، والطعام هو كل ما تدور عليه المساعي والأعمال والأقوال، ولكنه هوس «بالماديات» غلوا فيه حتى عاد أقبح وأغبى من الهوس ب «الروحيات» الذي جرهم إلى إنكار الروح، ثم جرهم من إنكار الروح إلى إنكار الحياة الظاهرة، إلا أن تكون جسما يكال بالمكاييل، ويوزن بالموازين. •••
إن الربيع ليغني لأنه حي، ولا سبب للغناء غير ذلك، ولا حاجة إلى سبب غيره لمن يحس ويعيش، والربيع حي؛ لأنه موسم الحرارة والضياء! وهل الحياة إلا حرارة وضياء؟ إنك لتؤمن بالروح وحده ، أو بالجسم وحده، ثم تقول إن النور هو مصدر كل شيء وأصل كل حياة، فلا تكون إلا على صواب، وما كان نور العين ولا نور الروح إلا شيئا واحد في العنصر والقرار، وإلا عنصرا واحدا لكل ما يظهر في هذه الدنيا للبصائر والأبصار.
عقول الأزهار1
هل للأزهار عقول؟ أما إن كانت عقول كعقول الإنسان تدرس وتبحث وتستنبط الأفكار في العلم والفلسفة، وتقيس ما تجهل على ما تعلم فلا بالبداهة، وما عن هذا يسأل أحد؛ لأن الأمر فيه ظاهر غني عن السؤال، وأما إن كانت عقول تناسب الزهر وما يحتاج إلى من تفكير في حياته - إن كانت بحياته حاجة إلى التفكير - فهذا الذي يجوز فيه السؤال، وهذا الذي يعنيه السائلون حين يبحثون للزهر عن عقل يدرك ما هو لازم له من الإدراك.
نحن في عصر يقول فيه أحد العلماء الهنود بأن الروح حظ مشترك بين الإنسان والجماد، بله الإنسان والحيوان والنبات، ويقول فيه: إن إحساس المعادن بما يؤثر فيها إنما يجري على مثال الإحساس في الكائنات العضوية من النبت فما فوقه إلى الإنسان العالم والشاعر، وليست هذه بأول مرة سمعنا فيها هذه الفلسفة من جانب الهند، فإنها هي صاحبة القول بوحدة الوجود ، وتناسخ الأرواح، وانبثاث الحياة الإلهية في كل شيء مادة وغير مادة، ولكنها المرة الأولى التي يدرس فيها «التصوف» في معامل العلم الطبيعي، ويشترك فيها المجهر والمخبر والإنبيق للوصل ما بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وإقامة الدليل على فلسفة الصوامع وتسبيح النساك؟
وتلك آية أخرى من آيات المزاج القومي الذي لا تغلبه الدراسة، ولا تنقله الثقافة من حيث غرسته ثقافة الآباء والأجداد، فقد قيل: إن الطبيعة وعلومها من شأن الغربيين المحدثين، وإن ما وراء الطبيعة وفلسفاته من شأن المشارقة الأقدمين، فما هو إلا أن نبغ عالم طبيعي بين الهنود حتى ظهرت الفلسفة الروحية في المعمل، والتقت الطبيعة وما وراءها على رأي الهند في مجاهل الزمان القديم، وبرز الكاهن من وراء العالم ليرفع الصلاة في معهد التحليل والتجريب إلى عرش «برهما » السرمدي، وليقول لنا مرة أخرى: إن حكماء الهند لم يتصوفوا من قلة العلم وإنما تصوفوا؛ لأنهم هكذا خلقوا وهكذا، انتهت إليهم عبر الحضارات البائدة، وأملت عليهم روح الطبيعة والإقليم.
فإذا كان للجماد إدراك على قول «بوز» - ذلك العالم الهندي - فأقل من ذاك في الغرابة أن يدرك الزهر، وأن يكون له عمل يوحيه عقل، ويشف عن تدبير، ونحن وما نشاء في إلحاق ذلك العقل بأي طبقة من طبقات العقول، وإنزال ذلك التدبير بأي منزلة من منازل الإلهام أو التفكير.
وهل لنا أن نترسل في التعميم ما دمنا قد بدأنا بالمزاج القومي الذي ظهر في تصوف عالم الهنود؟ فالذي يقول: إن للزهر عقلا أو ذكاء يفهم فهمه، ويقصد قصده، هو شاعر غربي ولكنه من أصل شرقي؛ لأنه سلالة يهودية قد ورث عن آبائه إيمان إسرائيل، وأخذ منه مزجه بين عالم الأرض وعالم السماء، ونظرته المادية التي لا تنسى الدين، ونظرته الدينية التي لا تنسى المادة ولا تقيم الفوارق بين حيز الروح وحيز المحسوس. ذلك هو «موريس مترلنك» شاعر البلجيك أو إن شئت فقل متصوف البلجيك؛ لأن نصيبه من خيال المتصوفة أوفر من نصيبه من خيال الشعراء، فقد كان مترلنك أسبق إلى القول بذكاء الأزهار، والنداء بالروح الملهم الشائع في ممالك الحشرات والنبات، ولم يمنعه أن يقول ذلك علمه وتجريبه ولا مراقبته لطبائع الأحياء على طريقة المعامل ومذهب العلماء، فهو شرقي آخر قد نقل المعبد إلى المعهد وكتب على الأرض عنوان السماء.
يقول مترلنك: «ويخيل إلي أني لن أكون مغرقا في الجسارة إذا قلت: أن ليس ها هنا أفراد من الخلق لها ذكاء أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه الدنيا كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي الخيوط التي تهيأ لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون أدمغتنا هي الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف في طبيعته ولا هو صادر من ينبوع غير ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم، وفي الزهرة، وفي الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا لم نرزق بعد تلك الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض مظاهر ذلك الإدراك في غير أنفسنا، وإنه لحق علينا أن نشتبه في كل هذا الذي نراه من مظاهره في أنفسنا؛ لأننا نحن الحكم، ونحن المدعي، ونحن أصحاب المصلحة في تعمير عالمنا بالفاخر المعجب من الأوهام والآمال، وهذا هو الحري بأن يغلي عندنا كل علامة نلمحها في غيرنا، ولا يبعد أن تكون تلك العلامات التي أتيح لنا أن نلهمها من الأزهار ذرة ضئيلة، لا تقاس إلى الخبر الذي تفضي به الجبال والبحار والنجوم لو فاجأنا فيها أسرار حياتها. على أن ما لمحناه ثمة خليق أن يخامرنا ببعض الثقة حين نقول: إن الروح الذي يحيي الجميع أو ينجم من الجميع هو من عنصر هذا الروح الذي تحيا به أجسامنا، وإذا كان هذا هكذا، وكان هذا الروح مثلنا أو كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتويه كذلك فينا، وكانت وسائله وسائلنا، وعاداته عاداتنا، وشواغله ودواعيه شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو أرفع وأجمل، هي آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا.
أيكون إذن مناقضا للمعقول أن نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير اختيارنا، ما دام من المحقق أن ذلك الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك، ولا ترمي إلى قصد من السعادة والكمال والانتصار على ما نسميه شرا وموتا وظلاما وعدما، وليس هو فيما يحتمل إلا ظل ذلك الوجه أو السبات الذي يوده.» •••
هذه هي الفلسفة التي يتعلمها مترلنك من الأزهار - كلمات الربيع - أو كلمات الحياة مذ كان الربيع هو أظهر مظاهر الحياة، ولم يكن مترلنك أول من تلقن هذه الفلسفة الموحاة من عقول تلك الخلائق الجميلة «وليدة الأرض والضياء»، فلقد علم الشاعر العربي قبله «أن الله ليس له شريك» حين ننظر إلى العيون اللجينية على الذهب السبيك، وفطن وردزورث إلى الأسرار التي تضمنتها كئوس الرياحين، وقال هوراس سميث: إنه ليجد القساوسة والمحاريب والعظات في أفواه الزهر لو قذفت به الهجرة إلى حيث لا تبلغ الدعوة ولا تدق النواقيس، وقال تنيسون: إنه يقبض على سر كل شيء حين يضم يده على الزهرة الصغيرة، فالأزهار قديمات العهد بإيحاء الفلسفة وجلاء الغوامض والتبشير بما في الطبيعة من مسرة وجمال، ولكن مترلنك لم يقصد ما ذكرناه حين وصف هذه الفلسفة أو هذه الوعاظ بالعقل والحكمة والذكاء، ولا هو أراد الوحي الذي نوحيه لمن يستمعون إلى رسالة الطبيعة في غيبوبة التصوف والإلهام، وإنما أراد الذكاء الذي يفتق الحيلة، والعقل الذي يدبر المعيشة، والدهاء الذي يسوس مصاعب الأيام، والفطنة التي تتغلب على ضرورة القيد والاحتباس في مكان واحد، واستشهد بالأمثلة الكثيرة من الأزهار التي تحتال على التشرق والإطلال على منافذ الضياء، والأزهار التي تحتال على العصافير والحشرات لتنقل بذورها ولقاحها إلى حيث يقدر لها النماء والإنتاج، وأخبرنا بدهاء المديكاجو
Medicago
الصفراء التي كأنما علمت أن اللوالب التي تحفظ بذورها لا تضمن لها الانتشار ولا يسعها أن تعهد بتوزيعها إلى الريح؛ لأنها ملاصقة للتراب، فاحتالت على تلك البذور بشوكات دقاق تشتبك بالأحياء التي تأكلها فتنتقل إلى مكان بعيد، ويكون لها بذلك حظ في الذيوع والحياة لم تسعد به إخواتها اللواتي لم يوفقن لهذا الاختراع، وما بال اللوالب تلتف على بذور هذه الفصيلة من جميع الألوان؟ يقول مترلنك: إن هذه الفصيلة الماكرة تودع بذورها اللوالب لتطيل بقاءها فيها وتؤجل سقوطها ما استطاعت فيتسع الوقت لإطارتها مع الريح قبل ذهابها في التراب فقد سبقت أرخميدس إلى فلسفة اللوالب، وجاءت إحدى بنات الفصيلة - وهي الصفراء منهن - فسبقتهن باختراع الشوك الذي يغنيها ما ليست تغنيه الرياح.
هذه الحيل والأحاييل هي التي عناها الشاعر المتصوف بذكاء الأزاهير، ولمح علامة الذكاء الشامل الذي يتخلل كل شيء على حسب استعداده لإبراز ذلك الذكاء، والحق أننا إذا بحثنا في الحيل التي تحتالها الكائنات كلها لتخليد نوعها، ومكافحة العوادي على حياتها لم نجد بينها كبير فرق في أساسها وجوهرها؛ لأنها كلها تصدر عن عادات لدنية مسوقة بسلطان قاهر لا دخل فيه للإرادة والتفكير، فإذا دخل فيها التفكير كانت قد بلغت حدها، وأكملت غايتها، ولم يزدها التفكير إلا نافلة لا ضير من نقصها والاستغناء عنها، فإن لم يكن كل هذا عبثا وكان فيه ما فيه من إدراك وبصيرة، فنصيب الزهر لا يقل عن نصيب الحيوان بل عن نصيب الإنسان في ذلك الإدراك وتلك البصيرة، ولا خلاف في ارتقاء الذكاء الإنساني إلى مرتقاه الذي يعلو به على كل موجود معروف على الأرض - فتلك بديهية لا معنى للكلام فيها والتساؤل عنها - ولكن الخلاف يكثر جدا - ويجب أن يكثر - حين نريد أن نقول: إن الإنسان قد استأثر بالبصيرة الملهمة، وانفرد بالعقل الذي يشتمل على الفكرة والغريزة، فما كان تدبير الإنسان لتخليد نوعه بمختلف فتيلا عن تدبير الزهرة لتخليد نوعها، أو هو إذا اختلف بعض الشيء ففي العوارض التي تجيء بعد الأساس والجوهر، ويتفق كثيرا أن تعرقل أغراض الطبيعة الخفية لا أن تزيد عليها في تحري الإنجاز والإتقان.
فلنأذن لبنات الروض بعقول ترشدها إلى الخير والجمال، ولنحمد الله على أنها ليست بمجنونة يطيش بها الجنون فتهلك وتفنى، ولا بعاقلة ترصد حبائل العقل للآمنين، وتتخذ فتنتنا بجمالها مصائد للمطامع والآثام، ولنسعد بذكائها إن كان في الذكاء سعادة! ولتبشرنا بصدق رجائنا إن صح ما توسمه فيها الشاعر المستبشر، فإن لم يكن ذلك صحيحا، فأقل ما توحيه إلينا أن تبث في أبصارنا بشاشة الجمال والإقبال، وتنفث في ضمائرنا أريحية الجدة والنضارة، وأن نجعلها مقياسا لحياتنا نعرف به قسطنا من القوة والشعور والحرية، فقد كانت هذه الأمة أشغف الأمم بالزهر تنثره على موائدها، وتضفر به شعورها، وتتقرب به إلى أربابها يوم كانت تحيا وتقتدر وتعتز بسيادتها على الأمم، ثم ذبلت أزاهيرها يوم تولاها الذبول، فتبدلت ضعفا من قوة، وجمودا من شعور، وخنوعا من عزة، فإذا أزهرت رياضها فتلك نفوس تنضر بالحياة الكريمة، قبل أن ينضر التراب بالخمائل والأغصان.
هنريك إبسن1
ولد هنريك إبسن الذي احتفل العالم الأدبي بانقضاء مائة سنة على مولده في العشرين من شهر مارس سنة 1828 بقرية «إسكاين» من بلاد النرويج، وكان أبوه على حالة من اليسر رضية، ولكنه فوجئ بالضيق والفاقة وإبسن في الثامنة من عمره، فتركوا منزلهم الأول الذي عاشوا فيه عيشة الرفاهة، وانتقلوا إلى بيت صغير في أرباض القرية، ولم يحرم الطفل في هذا البيت الجديد متعة صبيانية طابت لها نفسه المفطورة على العزلة، وهي حجرة علوية كان يخلو إليها ويعكف فيها على القراءة فيما يصادفه من الكتب، وكانت مسرته الأخرى غير القراءة معالجة التصوير الذي كان يرجو أن يتخذه صناعة لمستقبله، وهم بذلك حين خرج من المدرسة في الخامسة عشرة فثناه العوز الشديد عن متابعة هذه الأمنية، واضطر أن يقضي خمس سنوات في إحدى الصيدليات يكسب قوته من قليل ما يرزق، وينظم الشعر في أوقات فراغه، حتى ضاقت نفسه بتلك القرية وطمح بنظره إلى العاصمة عسى أن يصيب فيها شهرة في الأدب لا يتطلع إليها ملازم القرية الصغيرة، فهبط «كرستيانا» سنة 1850 ومعه قصة من الشعر المرسل نظمها في ثلاثة فصول، ونشرها هناك بإمضاء مستعار فلم يحفل بها أحد، واشتغل بالصحافة في عمل ضئيل قليل الجدوى، ثم تكفل له بعض الأصدقاء بوظيفة أدبية في مسرح برجن فلبث في هذه الوظيفة خمس سنوات ألف في أثنائها بعض الروايات ومثلتها الفرقة فلم يكن لها حظ النجاح، ولم يلبث أن انقلب إلى العاصمة حيث أسندت إليه وظيفة الإدارة الفنية في المسرح الجديد الذي أقيم لمنافسة مسرحها القديم، فما هي إلا فترة تزود منها بعض الخبرة في أعمال التمثيل حتى أفلس المسرح ولاحقته الخيبة التي ما تكاد تفارقه منذ ولد، فلجأ إلى التصوير يتبلغ بربحه القليل، واضطر إلى قبول الخدمة في المسرح القديم الذي كان ينافسه ويعاديه وطرق أبواب الحكومة يلتمس منها معاشا سنويا يعتمد عليه أسوة ببعض الأدباء والمؤلفين، فضنت عليه وردته مرة بعد أخرى لشدة وطأته فيما كان يكتبه عن الحكام والأساليب الحكومية، ثم ضاقت به بلاده فهجرها خمسا وعشرين سنة، لم يزرها في خلالها إلا زورتين قصيرتين، وخرج يضرب في الأرض بعد أن بنى بفتاة أحبها في بؤسه وشظفه، ولم يبال بعاقبة هذه التبعة الكبيرة، فقضى سنوات في إيطاليا، وقدم إلى مصر، وعاش في ألمانيا، ولم ينقطع عن تأليف الروايات في غربته يرسلها إلى بلاده لتمثيلها على مسارحها فيصادفها القبول حينا والسخط أحيانا، ويتلقاها الجمهور بنوبات من الثورة والحنق، أو نوبات من الإعجاب والغفران، وعلت شهرته بين أهل وطنه بروايتين من هذه الروايات نظمهما في إيطاليا، وحلق بهما في ذروة الشعر والبلاغة والقدرة الظاهرة على وصف الشخصيات وتدبير المواقف، وهما روايتا براند وبيرجنت، ثم عادت الحكومة فسمحت له بالمعاش الذي طالما ضنت به عليه، وصلحت الحال بينه وبين أهل وطنه في سنة 1891 فثاب إليه معززا محفوفا بالتبجيل والتقدير، وكانت شهرته قد سرت إلى أوربا، وعده النرويجيون من مفاخرهم القومية فاحتفلوا ببلوغه السبعين في حماسة وشمم، وأقاموا له تمثالا تجاه مسرحهم الكبير بعد ذلك بعام، ثم لزمه المرض ورانت على عقله غشاوة الداء والهرم ، فلم يخرج أثرا يذكر في سنواته الأخيرة ومات سنة 1906 وهو على أبواب الثمانين، فشيعته الأمة والحكومة في جنازة رسمية لم يسبق مثلها لأحد من أدباء النرويجيين.
هذه ترجمة إبسن موجزة اقتبسنا معظمها من مقدمة «فاركهارسون شارب» على روايته «بيت اللعبة»، وهي ترجمة تدل على صراع طويل بين الفقر واليسر، والإهمال والإقبال، والحظوة والنفور. •••
أما قيمة الرجل الأدبية فخلاصة القول فيها: إنه رائد المدرسة الاجتماعية بين كتاب المسرحيات، وأنه كغيره من الرواد يندفع إلى الغلو والشطط، ويستنفد الجهاد منه فوق ما يستنفده الخلق والإنشاء، وإذا ذكرنا الإهمال الذي أصاب الرجل في حياته، والعناد الذي قوبلت به جهوده، والغربة، والفاقة، ونكاية الخصوم، والجفوة التي فطر عليها لم نعجب أن نراه هادما قلما يبني، وصلبا قلما يلين، وعنيدا يقابل الإصرار بمثله ؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن دعواه أو يصدق أن أبناء وطنه ينصفون حين يرونه خلوا من كل ما يستحق الإصغاء، ولعله لم يكن يقصد كل ما قرءوه بين سطوره؛ لأنه طالما شكا تعسفهم في تفسير رواياته، وكتب مرة إلى ناشر أعماله على أثر ظهور رواية «بيرجنت» يقول:
علمت أن الكتاب أثار الخواطر في النرويج، وهذا لا يزعجني مقدار ذرة، ولكنهم في النرويج وفي الدانمرك كذلك قد وجدوا ثمة تعريضا لا أقصده، وهجوا لم أفكر فيه. فما بالهم لا يقرءون الكتاب كما يقرءون شعرا؟ إنني كتبته على هذه النية، ولم تكن أهاجيه إلا كلمات معزولة هنا وهناك، فإذا كان النرويجيون اليوم يبصرون أنفسهم في شخص بيرجنت، فذلك شأن الشعب الصالح الذي يعنيه.
ولكن ما الحكم في شأن إبسن من حيث فنه وأثره في الحياة الاجتماعية؟ أما الفن فخصوم الرجل يشهدون له بالشاعرية، وجيشان الخوالج النفسية، ويعجبون بقدرته على رسم بعض الشخصيات بذلك الإتقان الذي لا يعهد إلا في كبار الروائيين، ولكنه كان كثيرا ما يزج بنفسه بين أشخاص رواياته فيلبسهم ثوبه، ويلقي على ألسنتهم كلامه، ويعيرهم أشجانه وهمومه؛ فبيرجنت مثلا كان صورة أبيه وآس كانت صورة أمه مع شيء من المبالغة والتحريف ، والمنافسة التي بين سكول وهاكون في رواية طالبي العرش هي المنافسة التي كانت بين إبسن وزميله بجورنستين في عالم التمثيل، وإذا هو لم يدخل حياته بين تضاعيف الرواية بلون من الألوان فكثيرا ما يجعل البطل أو البطلة ألعوبة كألاعيب «خيال الظل» لترديد آرائه وإلقاء كلماته، فالأبطال في رواية «الأرواح» خيالات يحرك المؤلف ألسنتها من وراء الستار وينقلها سياق التفكير في ذهنه هو لا في مواقف الرواية، والعجيب أن إبسن نفسه يقول عن «الأرواح» لأحد أصدقائه: «إن المؤلف لم يقف قط بمعزل عن الحركة في رواية له كما وقف في رواية الأرواح»، وهذا مثل آخر على خطأ الشعراء والكتاب فيما يحكمون به من مؤلفاتهم وآثارهم، فقد يدركهم فيها ضعف الأبوة، فيحبون في موضع النقص ما لا يحبون في موضع الكمال.
وقد سلمت شخصيات غير قليلة من جور المؤلف، ومشاركة حياته في حياتها، وسلمت جميع رواياته من تمحل الأسلوب القديم في الروايات، وتكلفه للختام الباهر، وشتاته في الزمان والمكان، بل لقد بلغ به التحرز من هذا حد الوسواس، ولم تبلغه النزوة القديمة إلا مرة في رواية العرش، حين رد الكاهن الخبيث طيفا ينطق بالنبوءات ويستكشف العواقب، ولكنه لم يكد يسلم في رواية واحدة من آفة الإملال والفتور، فلولا معونة كريمة من الناظر لما استطاع المؤلف أن يمسكه في كرسيه إلى الختام.
أما المحور الذي تدور عليه روايات إبسن فلا يندر أن ينتهي على غير طائل، أو على فكرة لا تطابق صدق العلم ولا صدق الطبيعة، ولا تدل في استعراضها ومرماها إلا على خبل واختلاط؛ فالأم في رواية الأرواح تخاف على خلق ابنها من عدوى أبيه، فتدفع عنه الخطر وتلتمس له النجاة من فساد الأحلاق، ولكن أيدري القارئ بماذا تدفع عنه ذلك الخطر الموروث؟ بإرساله بعيدا منها إلى باريس ليعيش في بيئة الفنانين، ويستفيد هنالك فضيلة الخلق المتين! ولما مات الأب وقفل الابن إلى داره لم تمض عليه ساعات حتى غازل الخادمة في المطبخ كما كان يفعل أبوه! فتصيح الأم إنها الأرواح، وإنها هي خلائق الآباء تظهر في الأبناء، كأن الوراثة نسخة «مطابقة للأصل» في كل حادث وفي كل حركة، وكأن الولد لا يرث عن أبيه خلقه إلا إذا غازل حيث كان أبوه يغازل بلا تصرف ولا تنويع، وكأن البيوت البريئة من عاهات هذه الوراثة لا تقع فيها المغازلات بين الأبناء الشبان والبنات الخادمات، ولكنها هي «هوسة» إبسن بالوراثة لا ينساها في رواية، ولا تزال أرواحها تعدو وراءه إلى كل مكان.
وفي رواية «بيت اللعبة» يجيء لنا إبسن بامرأة لها ثلاثة أطفال وزوج لطيف يدللها ولا يسيء إليها، وتنقضي بينهما ثماني سنوات في منزل الزوجية وهي تسرف وزوجها يمدها بالمال الذي تنفقه بغير تذمر ولا سآمة، ثم إذا هي في ليلة واحدة تهجر ذلك الزوج، وتهجر أولئك الأطفال، وتهجر ذلك المنزل ، ولا تطيق أن تبيت فيه ليلتها إلى الصباح، ولا تقبل من ذلك الزوج الودود الذي لا يزال يعرض عليها المساعدة إذا احتاجت إليها كثيرا ولا قليلا في يومها ولا في غدها. لماذا؟ لأن زوجها اطلع على جريمة تزوير اقترفتها هي لأجله فهاله الأمر وكبر عليه أن تكون قنبرته وسنجابه وعروسه إلى آخر تلك الأسماء التي كان يناغيها بها جانية مزورة! ثم زال الخوف من الجناية ولكن «نورا» أي الزوجة وجدت في لمحة عين أنها يجب عليها توا أن تهجر ذلك الزوج، وتهجر أولئك الأطفال المساكين، وتأبق من البيت تحت ظلام الليل إلى حيث لا تدري ولا يدري إبسن! وكيف وجب عليها ذلك؟ قيل: وجب عليها ذلك؛ لأنها مطالبة بفريضة عليها لنفسها غير فريضة المجتمع، وغير فريضة الأمومة، وغير فريضة الزوجية، وغير كل فريضة فرضتها الطبيعة والناس على النساء، وإن المرأة لا تكون وفية لتلك الفريضة حق الوفاء إلا إذا صنعت ما صنعته «نورا» وداست على كل شيء في سبيل «الحرية الفردية».
ثم يجيء إبسن إنجلترا «برناردشو» فيهذي هذيانه في هذه الحكاية، ويرفع راية الإنصاف لأولئك النساء المظلومات اللواتي جار عليهن الرجال؛ لأنهن يلدن ويخلصن لبيوتهن وأبنائهن! ويجيء مجاذيب العلم ودراويش الفردية فيلعنون الرجال؛ لأن النساء قد خلقن يطلبن الأولاد والأزواج! وما ذنب الرجال في هذا؟ قيل: ذنبهم أنهم لا يؤمنون بالعلم الذي جعل النساء كالرجال في كل شيء في القرن العشرين، بل سوغ لهن على هذا القول حقوق الفردية المطلقة التي لم تسوغها الدنيا قط لإنسان، ولن تسوغها أبدا لإنسان ولا لغير إنسان! وحجتهم في ذلك أن العلم لم يثبت لنا فرقا بين الرجل والمرأة، فلماذا أثبت الرجال فرقا بينهم وبين النساء؟ كأنما العلم استطاع أن يثبت فرقا بين أعظم عظيم وأحقر حقير بطريق التشريح والتحليل، أو كأنما العلم لم يثبت لنا أن الأنوثة صفة سلبية في كل حيوان، بل في كل نبات ظهر فيه التذكير والتأنيث، فالأنثى في النبات لا تنقل لقاحها إلى الذكر بل تنتظر اللقاح من ذكور النبات حتي يجيئها مع الريح أو مع الحشرات، والأنثى في الحيوان لا تحمل إلا أن تعرض محاسنها وتنتظر من يفوز بها ممن يتنازع عليها، والأنثى في النوع الآدمي تخجل من المفاتحة؛ لأنها تزري بأنوثتها وتقدح في أمس صفاتها بها وأعرقها في صميم تكوينها، وهذه الطبيعة التي جعلت الأنوثة «سلبية» لا تستقل بعمل إيجابي هي التي قضت على «فرديتها»، ذلك القضاء الذي لا حيلة فيه لامرأة ولا لرجل، فماذا يصنع العلم وماذا يصنع القانون في حقيقة هي أقدم من العلم والقانون، وأقدم من الإنسان والحيوان؟ وأي فائدة من نكران هذا القضاء المبرم غير مسخ الطبيعة، وإطاشة الأحلام؟
وربما كان من سخر الأقدار أن يكون إبسن صاحب رواية «بيت اللعبة» هو الرجل الذي كان لا يأتمن زوجه على خياطة أزراره، ويأبى إلا أن يخيطها بنفسه؛ لأنه كان يعلم أن النساء لا يعملن شيئا فيوثقنه حتى خياطة الأزرار! ولكن إبسن كان كما قلنا رائدا يجمح كما يجمح الرواد، ويغفل عن العاقبة لاستغراقه في غمرة النزاع والجهاد، فإذا ناقض نفسه وجنى على المجتمع ضررا من جمحاته فعلى الذين بعده أن يصلحوه ويستدركوه، ويقفوا منه على حدود الإفراط الذي دفعته إليه الضرورة، ولعله بعد لم يكن إلا علامة من علامات زمانه يقول في الروايات ما يوشك أن يفعله الزمان في الحياة.
الحقائق الشعرية1
كيف يجب أن تفهم؟
كل شيء نسبي، ونحن لا نعرف شيئا قط إلا بالنسبة إلى غيره، هذه حقيقة علمية، وليست بحقيقة شعرية أو خيالية، يقول فيها كل قائل حسبما يغريه به حسه وخياله.
فلو ولد اثنان فسار أحدهما على سرعة الأرض حول الشمس، وسار الآخر على سرعة الضوء في تلك الدارة لعبر المسافة بعينها، وعمر أحدهما سنون عدة وعمر الآخر بضع دقائق، وإنما يقاس عمرهما بنسبة السرعة التي يسيران عليها، ولا نهاية للتفاوت بين الأشياء المتحركة في درجات السرعة.
وقد يرى النائم في لمحة عين ما لا يراه المستيقظ في أيام، فبين اللحظة التي يسمع فيها النائم صوت المدفع، واللحظة التي يستيقظ فيها من نومه لا ينقضي أكثر من ثوان قليلة، ولكنه قد يرى في هذه الثواني معركة أو نكبة يطول شرحها، ولا يزال يخرج فيها من مأزق إلى مأزق ومن حادث إلى حادث، تضيق عنه الساعات الطوال، فيرى الجيوش ويرى الصفوف ويتمثل الميدان ويستجمع فيه من حركات الكر والفر، ويخترع أسباب الحرب بين الفريقين ويدخل فيها بهوى من أهوائه، ثم يباغته صوت المدفع، ويخامره الخوف فيستيقظ وهو لا يصدق أن هذه المناظر كلها وردت على مخيلته في أقل من دقيقة واحدة، فلو أنه وصف الثانية أو الثانيتين اللتين عبرتا به وهو في تلك الرؤيا بأنها فترة طويلة من الزمن لما كان مخطئا في تقديره، ولكان المخطئ هو الذي يقول له: إن الثانية أو الثانيتين لن تكونا في الزمن إلا قصيرتين!
هذه حقائق العيان التي لا مراء فيها، فإذا انتقلنا من العيان إلى الخيال فليس بالمستغرب أن نصف اللحظة بأنها تكون طويلة، وتكون قصيرة على حسب الخواطر والذكريات التي تصاحب تلك اللحظة في النفس، ونحن على صواب في كلا الوصفين، فساعة اللقاء بين الحبيبين لمحة طائرة وأبد حافل بالصور والأخيلة والمعاني والخواطر، وأنت تصفها مرة بأنها عقيقة البرق في سرعة وميضها، وتصفها مرة أخرى بأنها الخلود في اتصاله ودوامه، بل أنت تصف الساعة الواحدة من تلك الساعات بالوصفين معا، فلا تكون على خطأ في هذا ولا في ذاك، فإذا استحضرت لهفتك عن فواتها وشوقك إلى المزيد منها فهي قصيرة خاطفة، وإذا استحضرت أحاديثها، وإحساساتها، وانتقالك فيها من حلم إلى حلم، ومن متعة إلى متعة، ومن خيال إلى خيال وكبرت كل خيال وكل حلم وكل إحساس وكل كلمة في خلدك أضعافا مضاعفة، لم تكن بك حاجة إلى اقتضاب تلك الصورة المتساوقة والخوالج المتوافقة، بل كانت حاجتك إلى التمادي فيها والاستطالة لها، والإغراق في تقليبها وتوسيعها، فإذا هي أمامك قصة لو أردت أن تكتبها لجاءت في مجلدات ضخام تقرؤها في ساعات بل في أيام، والساعة بعد هي هي لم تختلف ولم تطل ولم تقصر إذا وقفنا في قياسها عند تلك الآلة التي ترصد لتقسيم الزمان.
فليس من الخطأ إذن أن نقول في ليلة من ليالي اللقاء:
ليلة أسرعت وهل يبطئ السا
لك إلا في الحرة العوجاء
2
ثم نقول في تلك الليلة بعينها فضلا عن ليلة أخرى:
طالت ولا غرو فالجنات خالدة
وفي الوصال من الجنات ألوان
لأن مقياس الوقت في الإحساس - وفي الشعر الذي هو صورة من الإحساس - ليس هو الساعة المركبة من حديد ونحاس، وإنما هو النفس المركبة من خيال وتصور وشعور، وهذه النفس قد تنظر إلى العام فإذا هو لمحة للهفتها على فواته، وقد تنظر إلى اللمحة فإذا هي دهر سرمد لازدحامها بالمنظر بعد المنظر، والخيال بعد الخيال، إلى غير نهاية يحدها الحس ويقف عندها الاستحضار.
أكتب هذا وبين يدي ملاحظات لبعض الأدباء على ديوان شعري، وفي ذاكرتي ملاحظات شتى قرأتها فيما مضى، وعندي رغبة في الكلام عن الحقائق الشعرية لهذه المناسبة التي لا يطلب فيها البيان من غيري كما يطلب مني، فهي فرصة حسنة للإدلاء برأيي في الحقائق الشعرية، وكيف يكون فهمها ومقياس صحتها، ثم فرصة حسنة لتوضيح رأي في شعري لم أكن أحفل بتوضيحه لمن لا يخلصون النقل ولا يتأدبون في المقال.
من تلك الملاحظات ما كتبه الأستاذ الأديب عبد الله أفندي حبيب في زميلتنا «السياسة» الأسبوعية، وأجراه مجرى الحوار بينه وبين صديق له يناقشه في بعض القصائد والمعاني، وقد أشرنا فيما تقدم إلى إحدى تلك الملاحظات، ونحن مشيرون فيما يلي إلى ملاحظات أخرى وردت على لسان الصديق في ذلك المقال.
يقول الصديق: قل لي بحقك هل من الشباب من يقول في ذم كتبه؟ ثم ينقل قصيدة «يا كتبي» وفيها هذه الأبيات:
كم ليلة سوداء قضيتها
سهران حتى أدبر الكوكب
كأنني ألمح تحت الدجى
جماجم الموتى بدت تخطب
والناس إما غارق في الكرى
أو غارق في كأسه يشرب
أو عاشق وافاه معشوقه
فنال من دنياه ما يرغب
أو سادر يحلم في ليله
بيومه الماضي وما يعقب
ينتفع المرء بما يقتني
وأنت لا جدوى ولا مأرب
إلا الأحاديث وإلا المنى
وخبرة صاحبها متعب
فماذا في هذه الأبيات مما لا يقوله الشاب الدارس؟ بل ماذا في هذه الأبيات مما يقوله الشيوخ: هذه أبيات لا يمكن أن نتخيلها منسوبة إلى شيخ في الستين، أو كهل في الخمسين؛ لأن هذا أو ذاك يعلم أن زمان الغرق في الكرى والغرق في الكأس وموافاة العاشق للمعشوق، والسدارة في الأحلام قد مضى وانقضى، فليست الكتب هي الحائلة بينه وبين ذلك العهد، ولا معنى للنقمة عليها؛ لأنها خير ما يسليه في ستينه أو خمسينه، وإنما يحق ذلك للشاب في إبان عهده، وفي بعض ثوراته على الكتب؛ لأنها تحرمه صبوة الشباب ولا تغنيه عن تلك الصبوة؛ وقد نظمت هذه القصيدة قبل بضع عشر سنة فجاءت في إبانها، ولكنني لا أستطيع أن أنظمها بعد بضع عشرة سنة؛ لأنها تكون يومئذ كلاما في غير أوان: ويقول الصديق إن الشاعر الذي ينادي حبيبه:
لا تخش إلحافا عليك فما نرى
ضوء النهار يزيد بالإلحاف
فامنح قليلك كل حين منحة
يبق الكثير وراء الاستنزاف
لا تبذلن لنا جميع رجائنا
فتذودنا عن غيثك الوكاف
من يمنح الشيء الذي ما بعده
منح يكن كالمانع الصداف
يخرج من شاعريته وعشقه إلى الفلسفة والزهادة، ويسأل: أليس أقرب إلى الفطرة قول العقاد نفسه:
كن لقلبي بعض يوم ولتكن
كل يوم لك صبحا ومساء
أيها المعطي غدا عن سعة
أعط إذ أنت مليء بالعطاء
إنما اليوم لدينا كغد
وغد يا صاحبي اليوم هباء
ونقول: لا، ليس هذا بأقرب إلى الفطرة، ولكنه هو وما سبقه بمكان من الفطرة واحد. وكان يجب على «الصديق» أن يقرأ قبل ذلك في القصيدة الهمزية:
طالما غبت على وعد فما
أثمر الوعد بصيف أو شتاء
ويمر الحول لا ترجع لي
رجعة الأقمار غبا أو ذكاء
ويقرأ فيها أيضا:
قال لي لما عراني فرحي
بجنون: أكذاك الشعراء؟
ما عهدناك لجوجا نزقا
سرك الدهر بشيء أم أساء
ليعلم موقع تلك اللهفة التي لا تصبر ساعتها، ولا ترجئ يومها إلى غدها، ثم كان يجب عليه أن يقرأ في الفائية قبل ذلك:
راق الأوان فهل لطالع سعده
نجم فيلمح في الضياء الصافي
لا أسأل الفلكي عنه إبانة
إن السعود تجمع الألاف
وإذا المراد من الزمان أطاعني
أمسيت لا يسع الزمان خلافي
ليعلم معنى تلك «الكفاية الروحية» التي لا تفرق من الغد، ولا تنظر في الماضي والمستقبل إلا إلى أمد بعيد. بل كان يجب أن يقرأ فيها قبل ذلك:
إيها أبا الأنهار ليس بنافع
خوف التفرق والحبيب مواف
لو كان يدفع بالتوقع حادث
لرأيت في تنبؤ العراف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
إني سعدت بقدر ما استرجعت لي
يا نيل من حقب ومن أسلاف
دهر قد انبسطت عليه ساعة
فاستأنفته كأحسن استئناف
وصلت حديث زماننا بقديمه
وصل الصحيفة نائي الأطراف
وبدت لنا صور العصور كأنها
رسم على صفحات مائك طاف
ومناظر القمراء أشبه بالذي
أحييت من ذكر مضين ضعاف
فالذكر والنظر العيان كلاهما
حلم بها متشابه الأفواف
ليستقر في روعه معنى تلك الكفاية الروحية التي لا تريد أن تنظر إلى شبح الفراق حتى حين بدا لها الشبح في أطوار اللقاء، ولا تدع له إلا مكانا قصيا في الوهم ليس ينزعج منه الحاضر السعيد، وكان يجب عليه أن يؤلف بين الأبيات كلها ليعلم معنى ذلك الامتداد البعيد، الذي تناول آلاف السنين ونظر إلى الدنيا نظرة الخالدين، فإنه إذا استحضر هذه الحالة علم أنها حالة لا تناسب تلك العجلة التي نراها في القصيدة الهمزية، وعدها أقرب إلى الفطرة وهي ليست أقرب منها قيد أنملة، بل كان يجب عليه أن يقرأ في ليلة أخرى على النيل:
مذكري بالنيل والبدر وما
بين هذين من الكون المنار
ومنحى بها عن ثغره
وهي لا تغني ولا تشفي الأوار
لا تذكرنا بما لم يأتنا
خبر عنه ولم يرفع ستار
نحن في بحبوحة الحب وهل
خلقت بعد نجوم وبحار
نحن في آزالنا الأولى وهل
غير هذا الحب في الكون مدار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فتمل الحسن منها ولتكن
لي منها نشوة تنسى العقار
وكذاك الخمر من يسكر بها
فهو عنها في ذهول بالخمار
ليعلم أن الشاعر قد يحس الإحساس الواحد في الموقف المتشابه على عدة وجوه، وأنه ما دام يعبر عن الحالة ونقيضها فليس به عجز عن الشعور بإحداهما، ولكن العجز بمن لا يستطيع أن يحس الحالتين، فإذا هو عبر عن الشعور في موضع، ولم يعبر عنه في موضع آخر؛ فذلك لأنه يضع كليهما في موضعه من التعبير، أو لأنه لا ينبغي أن يحس الشيء على نمط واحد لا يتغير، وإلا لأمكن أن نتصور آلة عدادة تقوم بوظيفة الإحساس في كل موقف بالعدد المعلوم.
وانتقد الصديق هذه الأبيات:
يا للسماء البرزة المحجوبة
أعجب ما أبصرت من أعجوبة
تروعنا أنجمها المشبوبة
تهولنا قبتها المضروبة
كأنها الهاوية المقلوبة
كأنها الجمجمة المنخوبة
تهمس فيها الذكر المحبوبة
لأن «الخيال الذي يحلق بصاحبه في أجواز الفضاء في ظلمة الليل وسكونه، لا يليق به بعد ذلك أن يراها كالهاوية المقلوبة؛ ثم لا يقنع بهذا وصفا فيراها كالجمجمة المنخوبة، وليست الجمجمة المنخوبة إلا عظمة مظلمة ضئيلة.»
ولو تذكر الصديق أننا نقول: إن السماء تروعنا وتهولنا، ولا نقول إنها تسرنا وتبهجنا لتذكر أيضا أن أشبه شيء بالروعة والهول هو وقفة الإنسان حين ينظر متهيبا على حافة الهاوية، وإن فراغ السماء المظلم الرهيب - وفيه النجوم - كفراغ الجمجمة التي تخيفنا وتهمس في نفوسنا بالذكر المحبوبة، أو تخيفنا لأنها تهمس في نفوسنا بتلك الذكر، وهي على تلك الحالة الموحشة، وليست الجمجمة عظيمة أو ضئيلة، ولكنها أهول خواء في الدنيا؛ لأنه خواء الرأس الإنساني وما فيه من فكر ورجاء ومشاهد وعوالم، وهي أهول من السماء والنجوم؛ لأن السماء والنجوم بعض ما تهمس به من ذكر الحياة.
وروى الأديب عن صديقه أنه ذكر هذين البيتين:
إن الجسوم مثناة جوارحها
إلا القلوب فصيغت وهي أحدان
لكل قلب قرين يستتم به
خلق وخلق فهل يرضيك نقصان؟
ثم قال: «هل تذكر هذا ويسيغه عقلك؟ وماذا تقول في ذلك وأعيننا تشهد وتشريح الأجسام يشهد أن في الجسم أعضاء كثيرة لا قرين لها مثل القلب، ففي الجسم كبد واحد، وطحال واحد، إلخ.»
وقد أجاب الأديب صديقه بما بدا له، ولكنه لو شاء الاختصار لقال له: إن الجوارح هي الأعضاء العوامل، وليست هي كل أعضاء الجسم الظاهرة والباطنة، وأن المقصود بالقلوب هنا ما يتمثل فيه الجانب المعنوي من الإنسان، أي الجانب المقابل للجسوم، وليس في الإنسان عضو يشارك القلب في هذا المعنى. •••
وقد قرأت في «المقتطف» كلمة لقارئ فاضل يقول عني مما قال: «ويريك البداوة ممثلة في «وقفة في الصحراء» وهو يقول: هضابك أم هذي أو أذى عيلم، ويصف الوحش فيقول:
يلوذ ببطن الأرض، والأرض جمرة
خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم
فتتسامح معه في عصيانه أهل القوافي حين يزج «آدم» في بيت من هذه القصيدة.»
وأنا أشكر القارئ الفاضل على الروح الطيب الذي كتب به كلمته، وأقول له: إنني لا أبالي بعصيان أهل القوافي كل المبالاة، ولكنني لم أعصهم هنا؛ لأن آدم على وزن أفعل من الأدمة، ولا خلاف بين أهل القوافي في جواز «أفعل» في هذه القافية؛ لأن المدة هنا همزتان متواليتان، وليست بألف التأسيس التي تلتزم في كل قافية من القصيدة.
ويقول القارئ الفاضل: «والديوان مليء بنظم الخواطر في الفلسفة، والحكمة، والاجتماع، تكسوها شاعريته حلة نقية، إذا هي لم يهتز لها الشعور فإنها مما يطول فيه التأمل، فكثير من شعره قد لا يشعل العاطفة، وإنما يطيل شغل العقل.»
وأنا أريد أن أكون موجزا ورجلا من رجال الأعمال لا من رجال النظريات في مناقشة هذه الملاحظة، فأنا أسأل القارئ الفاضل أن يذكر لنا إذا شاء شاعرا واحدا ينظم فيما يهتز له الشعور، ولا يطول فيه التأمل، ثم يختار من شعره الذي هو رضاه في هذا الباب عشرين قطعة أو ثلاثين أو أربعين، وأنا كفيل له أن أختار من شعر الديوان إحدى وعشرين أو إحدى وثلاثين أو إحدى وأربعين قطعة على مثالها، ومن معدنها وأزيده إذا زاد، وحسبه، إن شاء الله، أن يخلو هو بنفسه ويتناول ديوان شاعر واحد أيا كان، ويحصي ما فيه من تلك القطع التي تهزه ليقابله بعد ذلك بصاحب الديوان، فهذه هي الطريقة «العملية» التي يجوز بعدها الحكم وتعصم الناقد من الزلل.
ولست أشترط على الناقد شططا حين آخذه بالبحث في ديوان شاعر واحد لا أكثر؛ إذ إن المرء إنما يطالب بأن يكون شاعرا واحدا لا عشرة شعراء في ديوان! فمع هذا الشرط - الوحيد - أنا مستعد لسماع نتيجة البحث في ديوان أي شاعر شرقي أو غربي، وليكن الباحث مخلصا في بحثه وأنا بالانتظار!
الإيمان العلمي1
... قلتم في مقالكم عن عقول الأزهار إن شاعرا بلجيكيا اسمه مترلنك يصف الحيل التي تحتالها الأزهار لحفظ نوعها وزيادة انتشارها، ويستدل بعجائب الطبيعة على حكمة عظيمة في هذا الوجود، ولما كانت هذه الأمور تحيرني كثيرا فقد أردت أن أسألكم: هل وصل ذلك الشاعر بالعلم إلى الإيمان؟ وهل هو مؤمن؟ وإذا لم يكن مؤمنا فماذا ينتظر من العلم حتى يصل به إلى الدين.
ي. ط.
كل ما يقال في عقيدة الشاعر البلجيكي مترلنك: إنه لا يؤمن بالأديان المعروفة إيمان أتباعها بأصولها وفروعها، ولكنه يرغب في الإيمان بالله، ويكثر من الاطلاع على الأديان القديمة والحديثة، كما يظهر من كتابه «السر الأعظم». وخلاصة ما انتهى إليه في ذلك الكتاب وفي كتبه الأخرى أن للكون سرا لم نصل إليه، وقد لا يكون في مقدرونا على حالتنا الحاضرة أن نصل إليه، ولكنه سر لا يسعنا أن نغفل عنه، ولا أن نفصل بيننا وبينه، فهو محيط بنا مسيطر علينا ندرك أثره في أنفسنا، وفيما حولنا، ولا ندرك كنهه، ونقترب منه في ساعات الإلهام على حسب ما عندنا من الاستعداد لمقاربته، والنفاذ إلى ما وراء الستر الذي بيننا وبينه، غير أننا لا نستوضحه وليس يلزمنا أن نستوضحه كل الاستيضاح لنصدق بوجوده، ولك أن تقول: إن الشاعر البلجيكي يميل إلى الإيمان بوحدة الوجود، أو إلى التوحيد بين الله والكون، واعتبار هذه المظاهر المحسوسة كلها مظاهر إلهية تتساوى في العظمة والقداسة، وإن كنا نحن لا ندركها على السواء، ولا نزال نرى فروقا بينها في تمثيل إحساسنا القاصر وفكرنا المحدود.
ولو أننا نظرنا بعين «البصيرة» لتقاربت تلك الفروق، وانطوت كلها في روح واحد لا أول له ولا آخر، وليست المادية فيه بأقل من روح الإنسان، ويسهل عليك أن تعرف عقيدته هذه من كلامه الذي نقلناه عنه في عقول الأزهار، إذ يقول: «ليس ههنا أفراد من الخلق لها ذكاء، أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه الدنيا، كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي الخيوط التي تهيأت لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون أدمغتنا هي الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف بطبيعته ولا هو صادر من ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم وفي الزهرة وفي الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا لم نرزق بعد تلك الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض مظاهر ذلك الإدراك في غير أنفسنا.»
هذه خلاصة جامعة لكل ما كتبه مترلنك في العقيدة وأسرار الأديان، فهل نسميه مؤمنا؟ وهل نسمي ذلك إيمانا؟ الأمر الذي لا ريب فيه أنه ليس بكافر ولا منكر للإلهية، والأمر الذي لا ريب فيه كذلك أنه راغب في إيمان يطمئن إليه ويستقر عليه، والأمر الذي لا ريب فيه بعدما تقدم هو أنه لم يصل إلى الاطمئنان والاستقرار، ولا يزال في حاجة إلى اليقين المفصل الذي نعرفه في المؤمنين بالأديان، ولكن هذا الإيمان الذي يؤمنه هو لباب أصيل لا غنى عنه في دين ولا عقيدة، وهو جانب حرام لا يقع فيه الخلاف بين المتدينين، فإذا خرجوا إلى التفاصيل التي تمتحن بها قوة التصديق، وقد تكون هذه القوة مستمدة من العلم بالأشياء كما قد تكون مستمدة من الجهل بها، فالذي يصدقه العالم غير الذي يصدقه الجاهل، والذي يصدقه الكتابي غير الذي يصدقه الوثني، وليس أسهل الناس تصديقا أحسنهم إيمانا، وإلا كان العجائز اللاتي يصدقن بكرامات الأولياء، ويعتقدن أن بركة التعاويذ تغلب جراثيم الأمراض بغير حاجة إلى علاج، من خيرة المؤمنين والمؤمنات، ونحن لا نعدهن كذلك ولا نطلب من العالم تصديقا كهذا أيا كان اعتقاده الذي به يدين، فالأشياء التي تزيد بها الأديان على عقيدة مترلنك هي الأشياء التي تنشأ عن الإيمان، وليست هي الإيمان نفسه؛ لأن يقينك بالبعث مثلا ليس هو الإيمان، ولكنه هو نتيجة لكونك مؤمنا بكتاب من الكتب، أو نبي من الأنبياء، وهنا يقف مترلنك فلا يثبت ولا ينفي؛ لأن وسائله العلمية لم تساعده على تصديق ما يصدقه المؤمنون.
وأنت تسأل: إذا لم يكن «مترلنك» مؤمنا فماذا ينتظر من العلم حتى يصل به إلى الدين؟ كأنك تقول: إذا كان الرجل يؤمن بالحكمة التي دل عليها العلم في حياة الأزهار، فلماذا لا يتدين وماذا يحتاج إليه المتدين غير الإيمان بقدرة حكيمة عظيمة في الوجود؟ أليس هذا كفاية؟
والذي أراه أن الأديان جميعها تقوم على شيء أكثر من الإيمان بقدرة حكيمة عظيمة في الوجود، تقوم على الإيمان بصلة العطف بين الإنسان وتلك القدرة فوق الإيمان بحكمتها وعظمتها وسائر صفاتها، وربما أتى على الإنسان زمان كان يؤمن فيه بآلهة لا حكمة لها ولا عظمة، بل بآلهة خرقاء ظالمة تجور على الناس بغير قانون ولا نظام، ولكنه لم يؤمن قط بإله خلا من صلة العطف الإنساني كيفما كان إدراكه لنوع العطف الذي يرجوه عند ذلك الإله، فالشرط الأول في الدين هو التصديق بالعاطفة التي بين الله والإنسان، وبأن الصلة النفسية غير منقطعة ولا يمكن أن تنقطع بين إحساس الفرد، وإحساس الوجود.
هب أن دينا قام يدعونا إلى الإيمان بإله حكيم عظيم تقتضي حكمته خلق الناس وتعذيبهم وإفناءهم أمما وأفرادا ثم ينقرضون جميعا؛ لكي تتم تلك الحكمة التي يرمي إليها الإله، وهب أن الحكمة التي رمى إليها هي التدريج إلى خليقة أرقى من الخليقة الإنسانية، تعمر هذه الدنيا زمانا ثم تنقرض كما انقرض الناس، لتخلفها خليقة أرقى وأرقى، وهكذا وهكذا إلى غير نهاية أو إلى نهاية بعيدة لا صلة بينها وبين رجاء الإنسان. هب أن دينا قام يدعونا إلى ذلك أتحسبه صالحا للتدين والإيمان، وموجبا على الناس العبادة والصلاة والراحة التي يجدونها الآن في الأديان؟ لا أعرف ما رأيك في هذا، أما رأيي فهو أن أديان الهمجية خير وأصلح من هذا الدين، وأن الإله الذي يبطش بي فأقبل بطشه أو أثور عليه أقرب إلي من الإله الذي يخلقني، ثم لا يخلق بيني وبينه صلة نفسية إلا كهذه الصلة التي بيننا الآن وبين المادة الصماء.
إن الكون عظيم لا تحده العقول، ولكن عظمته تلك لم تغننا عن الإيمان بالله؛ لأننا حين «نؤمن» إنما نطلب شيئا غير العظمة فيمن نؤمن به، وذلك الشيء هو العاطفة والصلة النفسية واليقين بأن الحكمة الإلهية مرتبطة بحياة كل فرد منا، وليست حكمة نضيع نحن في أغراضها ومراميها، وإذا تأملت في الكلمة التي نقلناها عن مترلنك ظهرت لك هذه الحقيقة، وعلمت أنه لا يكتفي بدلائل الحكمة ولا يستغني بها عن دلائل الرجاء، فالروح الشامل للحجر، والنجم، والزهرة، والحيوان، موجود يتراءى له في حيث رآه، ولكنه لا يكتفي بوجوده ويستطرد إلى الرجاء فيقول: «إذا كان هذا الروح مثلنا أو كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتوي محتوى كذلك فينا، وكانت وسائله وسائلنا، وعاداتنا وشواغله ودواعيه، شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو أرفع وأجمل هي آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا، أيكون إذن مناقضا للمعقول أن نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير اختيارنا ما دام من المحقق أن ذلك الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك ولا ترمي إلى قصد من السعادة والكمال والانتصار على ما نسميه شرا وموتا وظلاما وعدما، وليس هو فيما يحتمل إلا ظل ذلك الوجه، أو السبات الذي يعتريه.»
فحكمة الروح المصرف للوجود لا تغني نفوس المؤمنين عن الرجاء في «السعادة والكمال والانتصار على الشر والموت والعدم» وليست الحكمة هي المقصودة دون ذلك الرجاء الذي يحبب إلينا الإيمان والتدين، وتقوم عليه التضحية بحياة النوع وكل ما تملكه النفوس، فلا إيمان مع القنوط ولا غنى لنا بالحكمة التي تقطع ما بيننا وبين نظام الوجود، ومترلنك يترقى من القول بالحكمة إلى القول بأن رجاءنا جزء من رجائها، ثم يترقى من ذلك إلى القول بأن رجاءنا إذن غير عقيم، وأن انتهاء الحياة الإنسانية بالموت أمر غير معقول؛ لأنه يخالف الحكمة ويخالف الرجاء، ولكن كيف تكون السعادة والكمال وكيف يكون الانتصار على الشر والموت والظلام؟ هنا تتكلم الأديان ويسكت مترلنك وأمثاله؛ لأنهم يودون أن يتكلموا فلا يجدون الكلام.
وعندي أن الإيمان فطرة في الإنسان؛ لأن الإيمان في صميمه هو التلاؤم بين النفس وبين الوجود الذي هي مخلوقة فيه، ولن يعقل أن يكون تنافر بين موجود وبين الوجود، وإنما يعترينا القلق حين نريد «التصديق» ونحتم على أنفسنا أن تصدق بأمور معينة لا محيد عنها، فعند هذا يكف المرء عن التصديق بتلك الأمور، إذا لم تواته الأدلة والبينات، ولكنه لن يكف عن الإيمان وفيه أمل، ولن يكف عن الأمل وفيه حياة.
الجمال والشر في الفنون1
كان السلطان سليم أديبا ينظم الشعر ويحسن الاستماع إليه ، وكان حاكما صارما لا يستجيب إلى الأدب إذا دعاه صوت السياسة، فمثل بين يديه يوما رجل مقضي عليه بالموت عرف ما في نفسه من حب الأدب وتقريب الشعراء، فتوسل إليه أن يصغي إلى قصيدة أعدها لاستعطافه، فأذن له في الإنشاد، وما هو إلا أن استهل الرجل أبياته حتى أقبل عليه السلطان بجملته وظهر عليه الإقبال والإعجاب، وجرت عبراته على خديه إلى أن فرغ الشاعر من القصيدة، وقد حدثته نفسه بالنجاة ووقف يترقب كلمة العفو تنفرج بها تانك الشفتان المزمومتان، ولكن السلطان لم ينطق بتلك الكلمة ولم يرجع عن قضائه الذي قضاه فيه، وقال: إنما كانت الدموع جزاء شعره وأما ذنبه فلا بد له من جزاء.
ذكرت هذه «النادرة» وأنا أقرأ مقال الأستاذ طه حسين عن الحرية والفن في مجلة «الجديد»، فقد تكلم الأستاذ عن بودلير، وقال في وصفه: إنه «إذا ذكر الحب ذكر معه الألم والموت، وهو إذا ذكر الألم ذكر معه الحب والموت، وهو إذا ذكر الموت ذكر معه الألم والحب، وهو في كل ذلك حر جريء مجازف، يتخير أبشع الصور وأقبحها وأشدها تأثيرا في النفس من هذه النواحي البشعة القبيحة، وهو مادي التصور، لحسه المادي أثر قوي في شعره، ولا سيما حس اللمس والشم والبصر؛ فهو يعرض عليك هذه الصور البشعة التي يحسها الشم أو اللمس أو البصر في الأجسام الهالكة المتحللة. و«أزهار الشر» هذه التي يشتمل عليها ديوانه أزهار فيها جمال قوي رائع، ولكنه في الوقت نفسه بشع مخيف تضطرب له النفس وتشمئز في كثير من الأحيان، فهناك مسألتان يثيرهما شعر بودلير: إحداهما قدمتها لك، وهي: هل للفن أن يستمتع بحريته الكاملة بالقياس إلى الأخلاق والسياسة والدين وما إليها من النظم الاجتماعية؟ وجواب هذه المسألة طبيعي، فأما أصحاب الفن فيقولون نعم؛ لأنهم يطالبون بحريتهم إلى أقصى حدودها كما يطالب العلماء بحريتهم العلمية في أقصى حدودها، وأما الحكومات والبرلمانات وحماة النظم الاجتماعية والسياسية فيجيبون: لا، وجوابهم هذا يختلف باختلاف حظوظهم من المحافظة والاعتدال والتطرف، وما أرى إلا أن هذا الخلاف سيظل أبدا، أما المسألة الثانية التي يثيرها شعر بودلير فأجل من هذه المسألة خطرا، وأخلق منها بعناية الكتاب والأدباء عندنا، وكم أحب أن أعرف فيها رأي هيكل والعقاد، وهي: هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعا ويستخلص منه صورا فنية جميلة، وبعبارة أدق وأوضح: هل في الشر جمال يصلح موضوعا للفن؟»
ذكرت قصة السلطان سليم وأنا أقرأ هذا المقال وأنتهي منه إلى هذا السؤال، فإن شأني مع بودلير وأمثاله شبيه بشأن السلطان سليم مع شاعره المذنب المنحوس، أرثي له وأدينه في آن، وأقرؤه وأود لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق بذلك المزاج الذي أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط لحذفت منه الكثير، وأرسلت به إلى المستشفى أو السجن ثم أوصيت به الطبيب أو السجان، وربما حرصت بعد ذلك على «ملف القضية»؛ لأنه يشتمل على ديوان المتهم!
ولكنني إذا حكمت عليه وأنا قاض في محاكم الناس فإني لأحكم له لو كنت قاضيا في المقادير محتكما في قوانين الوجود، فلو جاء يستنصفني - وقد أخذ بتلابيب الحياة - لأنصفته منها وألزمتها العوض مما جنت عليه؛ لأنه يستطيع أن يقول والحق كله فيما يقول: «إن هذه الحياة قد جارت علي أقبح الجور، وحرمتني الأبوة وحرمتني المنزل الأنيس، وحرمتني العافية وحرمتني كل لذة من لذات الطبيعة البريئة. أسقمتني فبدت لي سقيمة، شاهت في عيني فلم أرها إلا شائهة، خذلت قواي فما أبقت لي من بقية إلا تلك القوة التي ألعنها بها، وأصوغ الشعر في هجائها»، «وأمسيت معها كأنني ملك تجري في عروقه الملتفة دماء شائخة، وتغيم على سماء بلاده المواطر المكفهرة، وإنه لصبي في عمره شيخ في همومه. يعرض عن مجالس النصحاء ليقع في السآمة بين كلابه وألاعيبه؛ فلا كلاب الصيد تستفزه ولا جوارحه تهزه، ولا يتحرك في وجهه أثر خالجة، ولو ماتت رعاياه على باب قصره، ولن يستطيع نديمه المهذار - وإن أغرب في الحيلة والدعابة - أن يطلع بابتسامة على تلك السحنة المريضة الكابية. حسان البلاط اللواتي يبر بهن جميع الملوك لن يخففن بالزينة الوقاح شيئا من كآبة تلك العظام النخرات، وسريره المفروش بالرياحين كالقبر في غاشية ذلك الظلام، والطبيب الذي يأخذ ذهبه ينفخ في روحه على غير جدوى، ويغمسه في حمام من الدماء كتلك الحواميم التي كان أبناء روما يسخنون بها عروقهم الفاترات، ولكنه لن يسخن آلام هذا الميت النواضب من الدماء؛ لأن في عروقه ماء أخضر من نهر النسيان
2
أمسيت على هذه الحالة الكريهة مع الحياة فلم يكفها ذلك حتى أسلمتني إلى الشلل والجنون، ثم نبذتني إلى القبر غير مشيع وغير مأسوف علي! فإذا أنا أحسنت في هجائها فهل يغمطني القضاء العادل فضل ذلك الإحسان؟ وإذا هي أوحت إلي وأبنت لها عن وحيها فهل صدقت أنا أو كذبت في ذلك البيان؟»
يستطيع بودلير أن يقول ذلك لو أتيح له أن يأخذ بتلابيب الحياة إلى موقف القضاء، فيكون الحكم له عليها في شريعة العدل المطلق ولا يكون لها عليه، ولا سيما وهو صادق في شره، صريح في ألمه، مجيد في صراحته، يأبى أن يرائي الخير الغالب، ويرجم الشر الموءود مع الراجمين، وأي شر؟ لقد خيل إلى المسكين أنه شرير خلو من الخير، وما كانت ثورته الخائبة على الطبيعة إلا ضرا من ثورة الضمير على ظلم الشرور، ولا كان إمعانه في النظر إلى الدمامة والقبح إلا اشمئزازا معكوسا يأخذ من نفسه الكليلة مأخذ الانتقام، وإخال ستورم صاحب المقدمة التي صدرت بها أشعاره في اللغة الإنجليزية قد أنصفه ولم يظلم الحق حين قال: «إنه سلك إلى الخلاص سبيله السفلية» إذ لو كانت غاية الرجل من التسفل أن يصل إلى الحضيض لما برمت نفسه بما هو فيه، ولكان ثمة في عنصره الذي يكون فيه الشرير كما يكون السمك في الماء. ولكنه شقي بائس، ولو عقب المنصفون بكلمة واحدة على ديوانه وحياته لما كانت هذه الكلمة إلا «مسكين» وإلا فأين الشر اللئيم من نفس تكره الحياة؛ لأنها لا تقدر على أن تنال العطف وأن تنيله لمخلوق؟ وأين الشر اللئيم من نفس رزقت العطف المزيف مرة واحدة فلم تقصر في الرحمة والوفاء ما استطاعت الرحمة والوفاء؟ وممن كان ذلك العطف الذي استحق رحمة بودلير ووفاءه؟ من بغي خلاسية كانت تتودد له فواساها في مرضها، وأنفق عليها في المستشفى وحفظ لها من حقوق الحب ما ليس يحفظه بعض المحبين. •••
أما الشر والجمال فقد اجتمعا كثيرا في الطبيعة والحياة فلماذا لا يجتمعان كثيرا في القصيد وسائر الفنون؟ بل لقد كان القبح نفسه - وهو نقيض الجمال - موضوعا للفنون الجميلة من شعر وتمثيل وتصوير، فلم نستغرب مجيئه في ذلك المعرض، ولم يمنعنا دور القبح أو الشر الذي يمثله الممثل، أو يصوره المصور، أو يصفه الشاعر، أن نعرف فيه مزية الأداء الجيد الجميل؟ وقد روي عن ليونارد دافنشي المصور الباحث العظيم أنه كان يتصيد المتسولة القباح المعارف والأجسام فيسقيهم الخمر ويقص عليهم النوادر المضحكة ليغربوا في الضحك ويلمح على وجوههم المنكرة سرور البشاعة المخيف، فيلتقطه لتوه ويسجله في كناشته، وهو سعيد بتصويره الجميل لذلك المنظر القبيح، وكان شعار التصوير في الزمن القديم: «إذا كنت لا تجد من يحب أن يراك فكيف تجد من يحب تصويرك؟» أما اليوم فشعار الفنون عامة أن كل ما يؤدي أداء جميلا فهو موضوع صالح للقلم والريشة والمعزف، وعلى هذا يعطينا الشاعر جمالا حين يعطينا الجثة الميتة في قصيد جيد الوصف والأداء، ويفعل الممثل شيئا حسنا حين يتقن تمثيل الغدر والدناءة والإثم والرذائل الشائنة لمن يقارفها من الناس.
إن البركان الثائر لمن أجمل المناظر التي تتملاها العيون، وتهتز لها النفوس، وهو مع هذا يهيج على المدائن فيدمرها، وعلى الأحياء فيقتلها، وعلى التماثيل البديعة فيتلفها؛ فهو من هذه الناحية شر يستدفع، وبلاء لا يستطاب، فإذا قلنا: إن البركان جميل فنحن لا نقول إنه جميل؛ لأنه شر يوبق ويهلك ولا يشفق وإنما نقول: إن الجمال فيه معزول عن الشر في السبب والمظهر، فلو أمنا شره لخلص لنا جماله، وطابت لنا رؤيته بغير تنغيص ولا حذر.
وما من شيء في الدنيا هو شر في ذاته ولذاته، وإنما يكون شرا حين يضاف إلى غيره ويستعمل في موضعه. ف «الميكروبة» كما يقول أوليفر لودج: فتح من فتوح الحياة حين تخلق وتتميز من المادة الصماء، ولكنها بلاء على الحياة حين تصارعها في جسم حي آخر فتضنيه أو ترديه، فما بال الميكروبة إذن لا تكون جميلة إذا كان لها وجود مستقل يمكن إدراكه والتأمل فيه بمعزل عن الأحياء الآخرين!
وربما كانت مسألة الشر في بعض الأحايين مسألة مقادير لا مسألة أساس ولباب. فالسم قليله خير وكثيره شر، وقد يكون قليله وكثيره جميل المنظر إذا اجتزأنا منه بالنظر البعيد.
وربما كانت مسألة الشر أيضا مسألة أفراد وأوقات، لا مسألة عموم ودوام، فما يكون شرا لهذا يكون خيرا لذاك، وما يتقى شره في زمن قد يطلب خيره في زمن سواه، فهو ليس بالقبيح على إطلاقه، وما دام كذلك فلا تناقض بينه وبين الجمال ولا حرج على الفنان أن يوجه إليه ملكة الفن الجميل.
وهب أن شيئا ما لا يكون أبدا إلا قبيحا مخيفا أليس من وظيفة الفنون أن تحرك فينا الشعور بالحياة، وتنبه فينا كوامن الإحساس بكل ما في هذا الوجود الذي نعيش فيه؟ فالفن لا يخطئ حين يمثل الشر المخيف، والخوف في ذاته كالسرور إذا قسناه بمقياس الإحساس، ولم ننظر إلى العواقب وراءه والأسباب، ولكننا إذا أجزنا للشاعر أن يتخذ الشر موضوعا في بعض الأحيان لا نبرئه من تهمة المسخ والانحراف حين ننظر في شعره فلا نرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض، فنقول: إنه شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ثم نقول إنه يحس هذا دون غيره؛ لأنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة.
ذلك مجمل رأيي في سؤال الأستاذ طه حسين، وهو بعد رأي يتسع فيه القول للتمثيل والإسهاب.
قضية المرأة1
في هذا الأسبوع انقضت عشرون عاما على وفاة المصلح الكبير قاسم أمين، صاحب كتابي «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وأول من رفع صوته في الشرق القريب بإصلاح المجتمع من طريق إصلاح النساء، وقبيل ذلك بأيام وصل إلي كتاب «السفور والحجاب» لصاحبته الكاتبة الأديبة الآنسة نظيرة زين الدين الذي قصدت به إلى «تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي» وطلبت إلي أن «أحلل الكتاب تحليلا؛ فما كان فيه خير للأمة أظهرته لها إظهارا جميلا، وما كان غير موافق أشير إليه ليبدل تبديلا.»
فمقال هذا الأسبوع إذن مقدور «لقضية المرأة» وأنا أكتب في هذا الموضوع لأقول كلاما مداره وفحواه أنها قضية نعرف المدعي فيها، ولكننا لا نعرف المدعى عليه.
وبيان هذا أننا لا نجد المرأة مظلومة في أمة إلا كان الظلم من نصيب غيرها كما هو من نصيبها، بل ربما كان نصيبها هي منه أرفق وأسلم من نصيب غيرها؛ لأن المرأة لا تظلم إلا حيث يكون جهل وعسف، ولن يكون الجهل والعسف في خليقة دون خليقة وفي جهة من الحياة القومية دون بقية الجهات، وقد يعصم المرأة بعض العصمة من طغيان ذلك الظلم أنها تتشفع إلى ظالميها بشفاعة الأمومة والمحبة والقرابة، فيخف وقعه عليها أو يمتزج بالحنان والرحمة، فتأخذ «المرأة» في حياتها البيتية بعض ما حرمه النساء في الحياة القومية، وتصول الأم والزوجة والحبيبة بالسلاح الذي سلبته «الأنثى» في صراع الدنيا، أما الرجال فالظلم الذي يصيبهم لا هوادة فيه ولا ترفيه، والجهل الذي يصيبون به المرأة يضربهم بأيديهم في غير رحمة ولا شفاعة.
لما كانت المرأة تسام الذل والهول كانت الأمم تساق إلى الطاعة والعبادة سوق القطعان، وكان الدين سوط عذاب والملوك آلهة لا يعدلون في ثواب ولا عقاب، ولما كان الظلم شريعة الأمم كانت ضحاياه بين النساء أقل وأهون شرا من ضحاياه بين الرجال، فليس للمرأة قضية على الرجل يعدل فيها هو أو يظلم كما يشاء هواه، وإنما الرجال والنساء أصحاب قضية واحدة يشكون فيها الطبيعة تارة والشريعة تارة أخرى، والجهل والفاقة والجمود والمصادفات تارات أخريات، وإذا حكم في تلك القضية لأحد الفريقين فقد حكم للفريقين معا وخرج الرجال والنساء فائزين من الخصومة! لأن الرجل لن يعرف الإنصاف إذا جهلته المرأة، والمرأة لن تسعد بحق تجور به على حقوق الرجال.
يعجبني من كتاب «السفور والحجاب» أدب جم، واعتدال محمود، ولكني لا أدري لماذا شاءت الآنسة الأديبة أن تجعل مسألة المرأة مسألة دينية تحل بالمناقشة في أقوال الفقهاء، وليست مسألة طبيعية اجتماعية تحل بالرجوع إلى قوانين الفطرة وشريعة الحياة! وأنا أقول: لا أدري لماذا شاءت ذلك؟ ولعلني أدرك السبب وأعذرها فيه، فإن الجامدين من رجال الدين كانوا ولا يزالون - في سوريا على الخصوص - هم أقوى خصوم المرأة، وأعنف المنكرين لما تنشده من نهوض وتعليم، ولكن أقول مع هذا إن أولئك الجامدين لن يتغيروا بالمناقشة والدليل، وإنه إذا جاء الوقت الذي يصبح فيه الدليل مقبولا تسيغه عقول لا يحجبها الجمود ولا تشلها العادات، فقد جاء الوقت الذي يصبح فيه الدليل نافلة لا تقدم ولا تؤخر، ويصبح الجمود خصما ضعيفا لا يحسب له حساب: وخير ما نزكي به كتاب «السفور والحجاب» أنه سيعين على تقريب ذلك اليوم ويبلغ أثره من عقول الناشئة البريئة وهي في موقفها بين الجمود والحرية تنتظر من يدفع بها في هذا الطريق ويعدل بها عن ذاك.
وما الذي تنشده المرأة الشرقية؟ إذا كانت تنشد التعليم والحرية التي ترفعها عن مكان السفيهة المحجور عليها طول حياتها، والتي تليق بأمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا، فعجيب وايم الحق أن يوجد في الناس من ينكر عليها هذا الأمل، ويزعمه مطلبا يطول فيه الخلاف وتتباعد الآراء! والذي يلوح لنا من كتاب «السفور والحجاب» أن صاحبته المهذبة لا ترمي إلى أبعد من ذلك ولا تريد إلا أن تقيم الدليل على أن الحجاب المطلق «أمنية» لا وجود لها في عالم الواقع إذا نظرنا إليها كأنها العاصم من الغواية والمانع من الرذيلة، وإن سفورا لا يسف إلى التبذل خير من حجاب لا يعصم رجلا ولا امرأة، وما عصم قط النساء والرجال في عصور الخالفين ولا في عصور المتقدمين، وأراها بليغة موفقة حين تقول: «ليت شعري هل يخطر في البال أن في العالم سافلا ينظر إلى محارم غيره نظرة سوء ومحارمه إلى جانبه؟ أو لا يخطر ببال الرجل حينئذ مهما كان دنيئا أن نظرته السيئة إلى محارم غيره إذن ضمني منه لغيره في أن ينظر إلى محارمه مثل نظرته تلك؟ وهل تخافون يا سادتي خورا في نفوسكم ومروءتكم وآبائكم وآدابكم إلى هذا الحد، فنجتنب مثل هذه الاجتماعات الشريفة ونحن ندعي أننا أشرف الناس؟»
وسواء سمينا ما في الكلام من الإقناع بلاغة أو حقا، فالأمر المشاهد الغني عن البرهان هو أن الحجاب كما يتخيله الجامدون لم يتحقق قط في زمن قديم ولا حديث، وأن الدول الإسلامية الغابرة - كالدولة العباسية في الشرق والدول الأندلسية في المغرب - قد بلغت فيها الحرية حد الإباحة لأنها أخذت شر ما في الحجاب وشر ما في السفور، وغلبتها قوانين الحياة فواجهتها برياء يتردد بين الحجاب والسفور، ولم تواجهها بصراحة سافرة وطبع مستقيم؛ فالحجاب على ما يتخيله الجامدون وهم لم يوجد ولن يوجد ولا فائدة من المغالاة في التعلق به غير هذا العوج الذميم، الذي تبتلى به العقول والأخلاق من مغالطة الحقيقة، وهي لا تغالط إلى زمن طويل. •••
على أن في كتاب الآنسة الأديبة فصلا في سياق فصول كثيرة عنوانه «المرأة أصلح من الرجل في الفطرة عقلا. هو يرجحها بالقوة الجسدية، وهي ترجحه بالنفس العاقلة المرضية» ويجري كل ما في هذا الفصل على المعنى الذي ينطوي في عنوانه، ومؤداه أن المرأة أسلم فطرة، وأسمى روحا، وأصح عقلا، وأن الرجل أقوى جسدا وأصلب مراسا، وأنه ما تغلب على المرأة وحرمها العلم والحرية إلا بهذه القوة الجسدية.
فلو كان كل ما في هذا الفصل أنه تسلية تقال أو «تحية صالون» لما كان فيه من بأس ولا كان غريبا عما قاله الرجال، ويقولونه من تحيات وصلوات رفعوا بها المرأة إلى سماء الأرباب والملائكة، ومنحوها السيادة والسلطان على القلوب والعقول والأجسام، ولكنه تحية قد تنقلب إلى عقيدة وعقيدة قد تنتهي إلى مزاعم لا تريح المرأة ولا تريح الرجل، ولا تمضي على سواء الفطرة ومطالب الاجتماع، فماذا يضيرنا أن نخرج من «الصالون» قليلا إلى محراب الحقيقة؟ بل ماذا يضيرنا أن نستبقي قانون الصالون هنيهة لنحيي به الحقيقة وهي «سيدة» أيضا! وهي أكبر من جميع «السيدات» في السن وأولى منهن بالمجاملة والتمليق؟
إن الامتياز بالفطرة والروح لا بد أن تكون له سمات ظاهرة، ولا تخرج هذه السمات عن عالم الواقع أو عالم الفنون أو عالم العلوم، وفي جميع هذه العوالم لا نرى أثرا لامتياز المرأة على الرجل بالفطرة المبدعة والروح السامية والعقل السليم، بل نرى على نقيض ذلك أن الأديان والفلسفات والجمال الذي يبتكره الشعراء والمصورون، والمعارف التي يستنبطها العلماء، إنما كانت من عمل الرجل وحده أو كان حظ المرأة منها أقل من القليل، ولا يقال: إن الرجل قد غلب المرأة بقوة جسده فحرمها الابتكار في الأديان والفنون والعلوم، وانفرد بمزايا الفكر والنفس لأنه أقوى في الجسد وأصلب في الرأس، فإنه ما كان ليغلبها لو كانت كل ميزته عليها قوة جسده وصلابة مراسه، وما كان ضعفها أو أسرها ليمنعها الإبداع في الفن كما أبدع فيه العبيد الأرقاء من الرجال المستضعفين، وهل يتساوى الآن أبرع الطهاة وأبرع الطاهيات في الأجر والتفنن والإتقان؟ كلا! وذاك مع أن المرأة صاحبة هذه الصناعة منذ وجدت، والرجل واغل فيها لا يشتغل بها إلا في الأحايين.
لا يا سيداتي! إن فضيلة المرأة الكبرى أنها متممة للرجل، وليست بمنافسة له في ميادين العمل والجهاد، وإنها لن تتممه بصفات العمل والجهاد، وإنما يتم هو بها، وتتم هي به إذا قابلته بصفات غير هاتيك الصفات: بالحنان والرحمة، والعزاء والاستجاشة، التي تحيي فيه الرجل وتحيي فيها المرأة، وتبلغ بهما معا أقصى التمام، وما برحت نهضة المرأة بخير ما طلبت حقها وعرفت أن حقها هذا لن يناقض حقوق الرجال، أما حين تطلب الحرية لتتحدى بها الرجل وتتمرد عليه، فهي فاشلة، وهي خاسرة، وهي نادمة في خاتمة المطاف.
إن نهضة المرأة في العالم لم تخل من نقمة تميل بها إلى التمرد والمناجزة، وتلقي في بعض النساء الجامحات أن العناية بمرضاة الرجل مهانة لا تليق بالحرائر الناهضات، كأن الرجل لا يعمل لمرضاة المرأة ولا يشغل باله بالتجمل لها والظفر بحبها وإعجابها، وكأن المرأة لا تكون حرة إلا إذا كانت «رجلا» تلبس كما يلبس الرجال وتصنع ما يصنعه الرجال، ولا تدع لهم من فضل إلا تطاولت إليه وادعت القدرة عليه، وهي لا تكون رجلا ولا تود أن تكونه، ولا هي تعني نفسها بمحاكاته إلا من قبيل «البروز» الذي هو ضرب من الزينة وطبيعة راسخة من طبيعة الأنوثة.
كذلك نمقت الحرية التي تجني على حياء المرأة؛ لأننا لا نفهم معنى الأنوثة بغير معنى الحياء، فكل أنثى حيية مستعصمة حتى في النبات وحتى في الحشرات وحتى في الحيوان، وكل أنثى تقوم في حرم من الأنوثة لا تعوضها منه الحرية ولا السرور، فالرجل لا تقتل رجولته الحرية التي يسعى بها إلى المرأة ، ولكن المرأة تقتل أنوثتها وجمالها كل حرية تجني بها على طبيعة الخفر والحياء.
وكتاب «السفور والحجاب» ينشد الحرية المصونة، ويدعو المرأة لتصبح امرأة كاملة لا لتصبح رجلا في كل شيء، فهو دعوة مباركة ونداء رخيم مسموع، وهو خليق أن يكون حجة من أجمل الحجج في قضية المرأة الناهضة، بل في قضية الرجال والنساء على أسباب الجهل والجمود، وإنها لقضية ناجحة لا محالة، ولا يكون نجاحها في نهاية الأمر إلا نجاحا لهؤلاء وهؤلاء.
هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1
وجه إلي الأديب اللبدي في عدد الأسبوع الماضي هذا السؤال الذي تحاور فيه الأستاذان هيكل ومطران في إحدى مساجلات الجامعة المصرية وهو: «هل الأدب العربي قديمه وحديثه يكفي وحده لتكوين الأديب أو لا يكفي؟»
والذي أظنه أن السؤال على هذه الصيغة يحتاج إلى تتمة وتقييد؛ إذ ينبغي أن نعرف قبل الإجابة عنه: من هو الأديب الذي يراد تكوينه؟ أهو الشاعر أو القصصي أو المنشئ الناثر أو الناقد الباحث في مقابلات الآداب، أو المشارك في جميع هذه الفنون؟ فالأدب العربي قديمه وحديثه يكفي فيما أرى لتكوين الشاعر والقصصي والناثر المنشئ، ولا يكفي الناقد الباحث في مقابلات الآداب؛ لأن هذا البحث يستلزم الإحاطة بأكثر من أدب واحد، وحكم العربية في هذا كحكم اللغات الأخرى التي يقاس بعضها على بعض، ولا يتأتى تعميم الرأي في آدابها واستخلاص القواعد منها إلا بعد النظر في جميعها.
أما الشاعر والقصصي والمنشئ الناثر ففي الأدب العربي قديمه وحديثه كفاية لهم من زاد اللغة لو أسعفتهم السليقة، وأحسنوا الفهم والاستقراء؛ لأننا لا نظن اليونانية التي نظمها هوميروس، والإنجليزية التي صنف فيها شكسبير، والإيطالية التي اتخذها دانتي، كانت أوسع نطاقا وأغزر لفظا وأكثر علوما من هذه العربية التي تلاقت فيها الروافد من لغات اليونان والفرس والهنود والإفرنج، وكل أمة خالطها العرب، وما استعان هوميروس أو شكسبير أو دانتي بعلم أوفر من العلم الذي يتاح لقارئ العربية في هذه الأيام، فإذا ظهر في الناطقين بالعربية من له سليقة هؤلاء الشعراء، وصدق بداهتهم ، وجودة تعبيرهم فقد يعالج بعض الصعوبة في تذليل البحور لمعانيه، وتمهيد الأفكار لطريقته، ولكنه يقول ما عنده ولا يقل ما يقوله عن مرتبة الكلام في آثار أولئك الشعراء.
ولكن ما يستطيعه شكسبير لا يستطيعه كل أديب، فقد ينظم الشاعر الشعر الجيد في غرض من الأغراض فيستحق أن يسمى الأديب، وأن يكون علما من أعلام الأدب في طبقته وبابه، ولكنه لا يكون شكسبير إلا إذا ارتقى إلى مقام الأديب العظيم والمفرد العلم في جميع الطبقات، ولا يرتقى ذلك المرتقى حتى تزدحم نفسه بذخائر الحياة وتجيش قريحته بعباب الأفكار والبدائه، فإذا هي منصبة على اللغة وإذا اللغة في ذلك الأتون الملتهب أطوع له من الحديد المذاب في يد القين القدير، فالأديب العظيم لا غنى له عن عبقرية كعبقرية شكسبير، أو عن اطلاع واسع في جميع اللغات يقوم له مقام المنظار حين ينحسر النظر المطبوع عن الأمد البعيد، أما «الأديب» الذي يقنع بحصة في الأدب يستحق بها هذا اللقب فحسبه أية لغة يكتب فيها الكتاب وينظم الشعراء؛ ولا حاجة إلى العبقرية النادرة ولا الاطلاع الواسع ليبلغ ذلك النصيب.
نعم إن في اللغات الأوربية عبارات لا يسهل نقلها إلى العربية بقوتها وطلاوتها ونفاذ معناها وبلاغة إيجازها، فإذا نظرنا إلى هذه العبارات بدا لنا أن ملكة التعبير في الأديب لا تكمل ولا تستوفي صقلها وتدريبها، إلا إذا عالجت تلك العبارات وتطرقت إلى سرها واقتبست من سحرها وعرفت مخارجها من الأفكار، ومواقعها في الأسماع، ولكنك تستطيع أن تقول مثل ذلك في اللغة العربية وأن تهتدي فيها إلى شذرات وأبيات لا ينقلها أبلغ الناقلين إلى الأوربية إلا تعثر به الجهد دون شأوها من البلاغة والعذوبة، فهنا تتعادل الكفتان بين اللغة العربية واللغات الأخرى، أو تفترقان ولكنه في فرق المقدار لا في اللباب.
وسبب هذا الفرق مستسر في النفوس والأفكار لا في الألسنة والكلمات فالأوربيون قد دربوا على فنون من الإحساس والتفكير لم يألفها المتكلمون بالعربية، فكثرت في لغاتهم دلالتها واحتالوا فنجحت حيلتهم في التعبير عنها، فلو أنهم نشئوا على الكلام باللغة العربية لصقلوا فيها تلك المعاني، وطبعوا فيها تلك الصيغ والأساليب، ولو أن العرب نشئوا على الكلام باللغات الأوربية وهم مقتصرون على إحساسهم وتفكيرهم لوقفوا بها عند موقفهم من اللغة العربية، وماذا تصنع اللغة إذا كانت العلة في الإحساس والتفكير؟ دع الشاعر العربي يحس ويفكر كما يحس الشاعر الأوربي ويفكر، وأنت تراه يكتب بالعربية كما يكتب صاحبه بلغته الأوربية، ودعه على منهجه من إحساس وفكر وأنت لا تراه يكتب حرفا من ذاك ولو جمعت بين شفتيه لغات الأولين والآخرين، فالاطلاع على اللغات الأخرى لا يفيد الأديب كثيرا إذا نبا به الذهن والشعور، والاكتفاء باللغة العربية لا يضيره كثيرا إذا اتسق به ذهنه واستقام شعوره، ولا خلاف في أن الاطلاع وسيلة من وسائل التثقيف والتقويم، وأن الأديب العربي الذي يعرف الفرنسية يقرأ ويفهم ما ليس يقرؤه ويفهمه الذي يجهل تلك اللغة، كما أن الأديب العربي الذي يعرف الإنجليزية يطلع على أشياء غير التي يطلع عليها عارف الفرنسية، وكما أن الأديب الإنجليزي الذي يعرف العربية تتسع له منادح للقول لا تتسع لمن يجهلها؛ فإذا كان المراد أن زيادة الاطلاع على اللغات الأوربية تزيد الأديب في الدرجة ووسائل المعرفة، فهذا كما قلنا لا خلاف فيه، أما إن كان المراد «التكوين» في أي درجة تتفق له فلا مانع من أن يكون أديبا ولا زاد له غير محصوله من الأدب العربي قديمه وحديثه. وربما أعاننا على حصر البحث وتقييد الجواب أن نسأل السؤال على هذه الصيغة: هل يبلغ الأديب أقصى شأو الأدب وهو لم يطلع على غير اللغة العربية؟ والجواب أنه يبلغه إذا أسعفه طبعه، ولا يبلغه إذا خذله الطبع ولو اطلع عل جميع اللغات، وأنه إذا كان فيه مستصلح ومستزاد فأحرى بسعة الاطلاع أن تهيئه للصلاح والزيادة. •••
وبعد، فهل هذا الذي عناه السائلون والمستمعون بمناظرة الجامعة المصرية؟ يخيل إلينا من كلام الأستاذين المتناظرين، ومن مذاهب المتشيعين لكل فريق أن الذين اطلعوا على محور المناظرة إنما انتظروا أن يكون الخلاف في شيء آخر غير ظاهر السؤال وهو: هل اللغة العربية لغة قائمة على نفسها، مكتفية بذاتها، لا تحتاج إلى مزيد من اللغات الأجنبية عنها؟ وهنا لا محل للخلاف ولو على سبيل الجدل؛ لأن اللغة العربية في هذه الصفة كسائر اللغات الكبيرة ما خلت قط ولن تخلو يوما من إضافة أجنبية في المفردات والمعاني والتراكيب، وقد أعجبتنا كلمة للدكتور يعقوب صروف نشرها المقتطف في عدده الأخير يقول فيها ذلك العالم الخبير بمصاعب الترجمة والتعريب: «إن مميزات اللغات ليست قائمة بما فيها من الأسماء والأفعال بل بما فيها من حروف المعاني، وأساليب التصريف والاشتقاق وتركيب الجمل. أي بصرفها ونحوها وبيانها، ففي اللغة التركية ألوف من الكلمات العربية، وقد تقرأ سطرين فيها مؤلفين من عشرين كلمة فتجد فيها عشر كلمات عربية، ومع ذلك يبقى الكلام أمامك تركيا مغلقا لا تفهمه ما لم تتعلم اللغة التركية؛ لأن تصاريفها وتراكيبها وحروف المعاني فيها غير ما هي في العربية، وكل ما دخل التركية من لغة العرب لم يصرفها عن كونها تركية، ولا حط من منزلتها بل زادها غنى وزاد أهلها مقدرة على التعبير عن المعاني، ومثل ذلك اللغتان الإنجليزية والفرنسية، فإن فيهما عشرات الألوف من الكلمات التي تشتركان فيها ومع ذلك فكل لغة منهما مستقلة عن الأخرى تمام الاستقلال.
ولقد دخل العربية قبل جمع معجماتها كثير من الكلمات اليونانية والقبطية والفارسية والسريانية، فلم يغض ذلك من كرامتها واستمر الدخيل يضاف إليها حتى الآن، ويستحيل أن ينقطع ما دامت اللغة حية، والمتكلمون بها يخالطون غيرهم من أهل اللغات الأخرى.»
فزيادة اللغة ونماؤها علامة الحياة، واكتفاؤها وركودها علامة النواء والفناء، والعجيب أن يستدل أحد بالقرآن لينقض هذه البداهة وهي لا تؤيد بدليل كما يؤيدها القرآن، ففي الكتاب كلمات دخلت إلى العربية من الفارسية واليونانية وغيرها كالإبريق، والإستبرق، والفردوس، والدرهم، والقنطار، وكلمات وضعت لغير معناها عند العرب كالصلاة، والزكاة، والإسلام، والحنيف، وقصص لم يروها العرب إلا عن الشعوب الآخرين، وألفاظ لم تلتزم فيها قواعد الصرفيين والنحاة، وفي ذلك دليل على حاجة اللغة العربية إلى غيرها، وعلى أن الحياة الجديدة حيثما نجمت نجم معها تعبير جديد، فمن هو العربي الجاهلي الذي كان يفهم الزكاة كما نفهمها الآن؟ وكيف كان الإسلام يعبر عن معانيه إذا ظل العرب لا يفهمون من كلماتهم إلا ما كان يفهمه الجاهليون؟ وإذا كان جديد الإسلام لم يستغن عن جديد الكلام، فما أحوج كل جديد إذن إلى تجديد المفردات والتراكيب؟
كل هذا لم يكن به من غرابة عند العرب الجاهليين ولا عند المسلمين في إبان الدولة الإسلامية، ولم نسمع اعتراضا عليه ولا توجسا منه في أشد نوبات العصبية القومية والغيرة الدينية، وإنما اشتد هذا التوجس في عهد الضعف والجمود قبيل هذا الجيل كما قلنا في مجلة الجديد: «ترى لو كانت الدولة الآن في العالم للأمم العربية أكان يفزع الجامدون من الجديد فزعهم هذا الأخرق العقيم، ويبالغون في خطره على اللغة مبالغتهم التي ملكت عليهم أسباب التفكير الصحيح؟ أكانوا يحسبون أن كل كلمة جديدة أو عبارة مودية باللغة وقاضية على فصاحتها وبلاغتها وآتية لها ببدعة لم يسبق السابقون إليها! لا نظن ذلك، فقد أدخل العرب في لغتهم أيام قوتهم وغلبتهم مئات من أسماء الثياب، والأثاث، والعلوم، والمخترعات، غير خائفين على اللغة ولا وجلين من عواقب هذه التوسعة؛ لأنهم كانوا يأخذون تلك المفردات من أمم أضعف منهم بأسا وأقل منهم شأنا، بل من أمم تدين لهم بالطاعة وتدخل في حوزة سلطانهم الكبير، ولم يكن في ورود تلك الزيادة معنى الإغارة المخيفة والسطوة الخارجية، وإنما كانت كالجزية يأخذه السيد المعتز بنفسه الواثق بيومه وغده من عبده الذي يخدمه بلغته كما يخدمه بكل شيء عنده، ولولا ذلك لكان عرب الأمس من جامدي اليوم بالغيرة على لغتهم من الطوارق الأجنبية، ومدافعة المفردات والأساليب الغريبة التي تسربت إليها.»
عود إلى الشر والجمال1
... قرأت مقالك الأخير «الجمال والشر في الفنون» ردا على الأستاذ طه حسين، وكنت من قبل أعرف نظرتك إلى الحياة تلك النظرة الفنية الصادقة، وكنت أيضا أعرف تقديسك للحرية والجمال، وأعتقد معك بأن الجمال حرية، ولذلك تنبأت قبل أن ينتضح قلمك بالكتابة عن علاقة الشر بالجمال، وتنبأ معي تلاميذك الذين يهديهم أدبك في طريق الجمال والحرية والاستقلال بما يكون عليه رأيك، وقد صدقت النبوءة، وجاء رأيك صورة صادقة من صور نفسك التي تمثلها تلاميذك أحسن تمثيل.
وإذا كانت كتابة سيدي الأستاذ تنسي القارئ نفسه أثناء القراءة، فإنه لا ينشب أن يعود إلى نفسه فيطيل التفكير والتأمل والتخييل.
ذكرني مقالك الأخير بمقال آخر في كتاب «المراجعات»، وهو الاعتراف بالعيوب، فلم أستطع المواءمة والملاءمة بين المقالين، ذلك أنك وصلت في هذا المقال إلى النتيجة الآتية: «لنا أن نعرف الطبيعة الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أن الإنسان لم يصعد في سلم الخلق إنسانا ليظل حيوانا في كل شيء، ولنا أن نعترف بالشهوات والعيوب، ولكن علينا ألا نتخذ من هذا الاعتراف نشيدا نتغنى به غناء الافتخار، ونحرق حوله بخور البشرى والانتصار» فكيف نوفق إذن بين إنحائك باللوم العنيف على كتاب الواقع والطبيعة، وهم يكتبون عن الشهوات الشيطانية ويخرجونها من قماقمها لينتزعوا منها صورا فنية جميلة، وبين ردك على سؤال الأستاذ طه حسين في أن الكتابة عن الشر والقبح حسنة جميلة إذا كانت فيها مزية الأداء الجميل؟
زكريا ميخائيل
كلية الآداب - الجامعة
أرى أن الطالب الأديب قد كان في غنى عن الرجوع إلى مقال «الاعتراف بالعيوب» في كتاب المراجعات؛ لأن ما ذكرته في ذلك المقال قد أعدت ذكره بمعناه عند الكلام على «الجمال والشر في الفنون»، ولم أستحدث في هذا الموضوع رأيا غير الذي رأيته من قبل في «الاعتراف بالعيوب». فأنا لا أخرج شعر بودلير من الفن؛ لأنه يصف الجثث والمناظر المنكرة فيحسن الوصف ويصدق في التعبير، ويرعى الأمانة في الشعور، ولكني لا أبرئه «من تهمة المسخ والانحراف حين أنظر في شعره فلا أرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض»، فهو شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ولكنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة. بل لقد قلت إنني أقرؤه وأود لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق بذلك المزاج الذي أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط، لحذفت منه الكثير وأرسلت به إلى المستشفى أو السجن، ثم أوصيت به الطبيب أو السجان.
فكل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أقول في كلام بودلير وأمثاله إنه ليس بشعر؛ لأنه في الحقيقة شعر بليغ صادق الوصف، حسن الأداء، وأيا كان رأيي في المثل الأعلى والأخلاق فليس في قدرتي ولا هو من حقي، ولا هو مما يطابق نظرتي إلى المثل الأعلى والأخلاق أن أجيء إلى كلام فني فأخرجه من سلك الفنون، أو أن أخلط بين مقاييس البلاغة ومقاييس الأخلاق.
كان بعض الدعاة الدينيين - ولا أريد أن أذكر اسمه هنا - دميما قميئا، رث المنظر، مشوه الوجه بالدمامل والثآليل، سليط المقال، لا يكف عن اللعن والوعيد، فلو حكمت على ذلك الداعية بمقياس الجمال لاستقذرته وأعرضت عنه، ولو حكمت عليه بمقياس الشريعة في بداية ظهوره لقضيت عليه بجريمة العبث بالعقائد المرعية، والثورة على النظام، ولو حكمت عليه بمقياس التاريخ والخير لعرفت له فضائله، ورفعت قدره، وأغضيت عن حكم الجمال وحكم النظام، فماذا تقول في الناقد الذي ينكر على ذلك الداعية رسالته في الدين، ومواعظه في الأخلاق لقبح منظره وسلاطة لسانه؟ وماذا تقول في الناقد الذي ينكر عليه تلك الرسالة؛ لأن قانون زمانه كان يدينه بالثورة والعصيان، إن الذي تقوله في هذا الناقد هو الذي يجب أن تقوله في ناقد يزعم عن بودلير أنه ليس بشاعر ولا صادق في الوصف، ولا بليغ في الأداء؛ لأنه لم يكن على سجية نرضاها في قوانين الأخلاق، وإذا كان حبك للخلق الكريم لا يبيح لك أن تصف الداعية الديني بجمال الجسم، وملاحة التقاسيم، فحري بكراهتك للخلق الدميم ألا تبيح لك نكران البلاغة على شاعر بليغ؛ لأنه لم يكن على خلق كريم، ولا سيما إذا كان ذلك الشاعر لا يكذب ولا يزيف، وليس يصف للناس إلا ما هو صادق في إحساسه موفق في أدائه.
محكمة النقد محكمة كثيرة القضاة كثيرة القوانين، لا يجلس فيها قاض واحد ولا تدين بقانون واحد، وكأنها محكمة الخلود عند قدماء المصريين قضاتها أربعون، وميزانها لا يفرط في كبير ولا صغير، ولو أنك نقدت وحشا كالنمر لتعددت النظرات إليه، وتباينت الأحكام عليه، فاحكم عليه بقانون الزارع الضنين بخرافه وأبقاره تقض عليه برصاصة قاتلة، واحكم عليه بقانون عالم الحيوان تره جديرا بقفص الصيانة وطيب الطعام، واحكم عليه بقانون المصور تنفق وقتك في رقابته وتمثيل حركاته وألوانه، واحكم عليه بقانون الشاعر يرعك بأسه وضراوته ويعجبك زئيره وانفتاله، واحكم عليه بقانون التاجر تقدره بقيمة جلده في سوق الصناعة والزينة، واحكم عليه بقانونه هو تجده على حق حين يلتهم الفرائس، ويهجم على الناس، ولا يعف عن شيخ ولا رضيع، واحكم عليه بقانون الخالق الذي خلقه تعلم أنه جزء من هذه الحياة له فيها مكانه وأصله وجملة خيره وشره، ولست تستطيع أن تجد القانون الذي يبيده مرة واحدة، أو يصونه مرة واحدة؛ لأن حقيقته أوسع من أن يحدها قانون واحد؛ وهو هو النمر وليس هو بالإنسان ولا بالإنسان الشاعر الذي يذهب بك الحكم عليه مذاهب في تقدير الفن والجمال والأخلاق والعلم - لا انتهاء لها ولا ضابط لحدودها الواسعة - فإذا أثنيت على بودلير في ناحية، وذممته في ناحية، فأي عجب في ذاك والرجل في شعره وحياته أوسع من حقيقة النمر، ومن حقيقة بعض الناس.
وما بالنا نختلف في الشر والفن ولا نختلف في الفن والعلم؟ فالعلم يبحث الأمراض والرذائل، ويعالج الطيب والخبيث ولا يحصر بحثه في الخير والكمال، وعذر العلم في هذا - إن كانت به حاجة إلى العذر - هو عذر الفن حين يعرض الحسنات والسيئات، ويحيط بالحميد والذميم، ثم نحن نعرف أن المرض شر وإن درسه العالم، وأن الرذيلة شر وإن نظم فيها الشاعر، ونقول إنه شاعر شرير إذا كان ولعه بالشر يعميه عن الخير، ويحجب عنه الكمال، ونقول: إنه شاعر عظيم إذا كان يمثل لنا الشر كما مثل لنا ملتون خبث إبليس، أو كما مثل لنا ابن الرومي دمامة الأحدب والأصلع والشحيح، فهو شاعر هنا وهناك، ولا دخل في اختيار موضوعه لقدرته الشعرية إلا حين ننعت قدرته بنعت من الصحة أو من الأخلاق.
تقول: أليس الشاعر لا ينبغي له «أن يتخذ من الاعتراف بالشهوات والعيوب نشيدا يتغنى به غناء الافتخار، ويحرق حوله بخور البشرى والانتصار؟»
نقول: نعم لا ينبغي له ذلك، ولكن ترى لو أنه فعل ما نهيناه عنه ماذا يكون؟ ألا يكون شاعرا؟ كلا! بل يكونه ويكون أنه فعل ما لا ينبغي، وليس فعل ما لا ينبغي بالممتنع على الشعراء خاصة ولا على الناس كافة، فإذا شئت أن تسأل: أو لا نحتقره إذا هو أجاد في الشعر وفعل ما لا ينبغي له؟ قلنا: بل لك أن ترسله إلى السجن، وللدنيا بعد ذلك أن تحكم عليك أنت أو عليه هو بجملة ما عندها من قوانين الشرائع والعواطف.
إن الشعر غير الجمال. هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا يلزم منه أن الشرير غير الجميل، فقد يكون الشر في جميل، وقد يكون الجمال في شرير، ومن هنا ينطوي وصف الشر في وصف الجمال، ويجمع الشاعر بين الوصفين، ولا مطعن عليه في الذوق أو الفن أو الإحساس.
وإن التعبير عن الشر غير الشر في ذاته، وهذا حق آخر لا ريب فيه، فقد يكون الشيء شرا محضا، ويكون التعبير عنه جميلا يروق الناظر المتأمل، ومن هنا نعبر عن اللؤم وهو قبيح بالكلام البليغ وهو جميل، ولا مطعن على من يعبر ذلك التعبير من جانب الفن، ولا من جانب الأخلاق.
وإن تصور الشر في ذاته غير عمله وتسويغه، وكذلك لا ريب فيه، فلا حرج على أحد أن يتصور الشر ويعرفه، ولكن الحرج أن يعمله، ويستحسنه، والحرج عليه في هذا إنما يكون من ناحية الأخلاق لا من ناحية البلاغة والتصوير، فإذا كانت العقرب تلدغ الناس وتميتهم فلا لوم على على المصور أن يرسم العقرب ويمثل فريستها، ولكن اللوم عليه أن يجعلها تلدغ وتميت وأن يستحب منها اللدغ والإماتة، وهو حين يفعل ذلك لا يكون مصورا ولا ينصرف النقد منه إلى ملكة التصوير.
على أننا نقول ما هو أبعد من ذلك مدى في هذا الباب، نقول إن القانون الذي يقضي على الحياة بأن تبرز نفسها، وتمثلها في خيرها وشرها هو أعرق وأكبر وأقوى من جميع قوانين الأخلاق السارية ما ظهر منها وما سوف يظهر وما بطل وما لا يزال؛ لأن الناس إذ يضعون قوانين الأخلاق السارية إنما يضعونها من حيث هم أعضاء في مجتمع وأصحاب مصالح ومعاملات، ولكنهم إذ يندفعون إلى تمثيل أنفسهم إنما يندفعون إلى ذلك من حيث هم أناس بل من حيث هم أحياء سابقة للاجتماع والمصالح والمعاملات، بل نكاد نقول من حيث هم موجودات يجري عليها ما يجري على كل موجود؛ لأن تمثيل ما أنت عليه هو طبيعة التكوين لا محيد عنها لكائن يعقل أو لا يعقل ويريد أو لا يريد، فقد تغيرت قوانين الأخلاق ولم يتغير الشعر والفن ولن يتغيرا أبد الزمان، وقد أمرت الأخلاق أمرها، ونهت نهيها، ونظم الشعراء فيما أمرت به ونهت عنه فطرب الناس للنظم وحنقوا على الناظمين، ولو لم يكن قانون الحياة ذاك أقدم من قوانين العرف ودواعي الاجتماع لما بقي هذا البقاء في كل أمة، ولا كانت له من قوة تشد أزره إلى جانب القوانين التي يشد أزرها الجنود والجلادون، فحسب الأخلاق إذن أنها تحكم على زمانها وتصول برهبتها، وكفى صيانة لها وضمانا أنها مخشية البطش والازدراء، وأنها تثأر لنفسها من طغيان ذلك القانون القديم، فذلك كاف جد الكفاية لبلوغ غايتها، وإنجاز وظيفتها وحماية حوزتها، أما الزيادة على ذلك فربما كانت أخطر من طغيان دوافع حياة.
تمثال النهضة1
الضروريات قبل الكماليات، كلمة تسمعها كلما تحدث متحدث عن أثر يقام لعظيم، أو زينة فنية تتجمل بها مناظر المدينة، أو دراسة أدبية لا يصنع منها الخبز، ولا يحمل عليها الماء، والذين يصيحون بتلك الكلمة يظنون أن الدراسات الفنية والأدبية مما يمكن أن يؤجل ويؤجل ويؤجل إلى أن ننظر حولنا فنرى أننا مستوفون لكل صناعة مربحة، ولكل علم منتج، ولكل عمل يدوي وأننا لا نشتري الإبر ولا الخيط والمخيط من الأسواق الأجنبية! فيومئذ نقول لأنفسنا: ها نحن اليوم قد استوفينا الضروريات، فلنبدأ بالكماليات، وها قد وفر عندنا الزاد فلنلتفت للنوافل والفضول، ونقول للمصورين، والموسيقيين، والكتاب، والشعراء. الآن فاظهروا من حيث كنتم مختفين ثم اخلقوا لأنفسكم المواهب والعبقريات التي لم تكن مخلوقة قبل اليوم، فقد فرغنا من مائدة الطعام والشراب، ولم يبق لنا إلا أن نلهو بالمنادمة والسماع!
وذلك خطأ جسيم هو فيما يلوح لنا وليد الخطأ في وضع كلمة لغير معناها، أو وصف شيء بغير صفته، فالفنون والآداب ليست من «الكماليات» التي تجيء في ترتيب الظهور بعد الطعام والشراب والكساء والبناء؛ لأن الأغاني والصور والحلي وجدت مع الناس قبل أن يبرحوا الكهوف إلى العمار وقبل أن يتهيأ لهم من وسائل الرفاهية ما يتهيأ اليوم لأفقر الناس، وإذا كان الإنسان يعيش بغير الصور والأناشيد ولكنه لا يعيش بغير الخبز والماء ولوازم الجسد، فليس مقياس الحياة هو أقل ما نحتاج إليه ولا نعيش بغيره، بل هو أرفع ما نحتاج إليه وقد نعيش بغيره.
فنحن والحيوانات سواء في مادة العيش التي يقوم بها الجسد، ولا يقدر على الاستغناء عنها بحال، ولكن ضرورة الحيوان ليست هي ضرورة الإنسان، وكون الإنسان إنسانا وليس بحيوان هو الذي يستلزم أن تكون له ضرورات غير الضرورات الحيوانية التي لا تعيش بغيرها عامة الأحياء، ومن تحريف الحقائق أن يظن أن الفنون والآداب كماليات، وأن الكماليات إنما تأتي بعد الضروريات في ترتيب الظهور، فإن الفنون والآداب علامات ظاهرة لمطالب نفسية باطنة إذا وجدت هذه المطالب وجب أن توجد معها تلك العلامات، ولم ينتفع فيها الإرجاء ومحاولة الترتيب، فلا معنى إذن لتسميتنا الفنون والآداب بالكماليات، وانتظارها في دورها بعد استيفاء جميع الضروريات، فإن الكماليات إذا كانت تجيء في الحاجة إليها بعد ترتيب الضروريات فليس باللازم أن تجيء ملكاتها بعد الملكات التي تستنبط الضروريات، ومن المضحك أن نتصور ملكات الذهن والنفس مصطفة في «طابور» مرتب على حسب الفوائد المحسوسة التي تعود علينا منها، فلا تتقدم الحيلة التي تخترع في الحدادة مثلا على الحيلة التي تخترع في الزراعة، ولا تبرز الفلسفة والشعر والتصوير في ذلك الطابور، إلا بعد أن يتقدمها كل ما يلزم من الملكات لاختراع المحاريث والمواقد والمباني والبخار والكهرباء! وهكذا حتى ينتهي «الضروري» إلى آخر صغيرة في أصوله وفروعه، ثم يؤذن «للكمالي» بموقفه في «طابور» الملكات! إذ الواقع أن الهبات الشعرية والفنية طالما ظهرت في الأمم قبل الهبات المخترعة في حاجات الطعام والكساء والبناء، وأن دلائل الحياة لا تعرف ترتيبا ولا طابورا، فهي إما موجودة أو معدومة وهي إن كانت موجودة فلا بد أن تظهر بعلاماتها وتعبيراتها، ولا تتأخر عن ذاك بمشيئة من يريد تأخيرها، فالذي يقول لنا انتظروا حتى تصنعوا كل إبركم وأثوابكم في مصر، ثم احفلوا بالتماثيل والمعارف والخطب والأشعار، كالذي يقول للإنسان انتظر حتى تشعر بالجوع قبل أن تعلم عينيك الشعور بالضياء، وأذنيك الشعور بالغناء، ولسانك الكلام والترنيم؛ لأنك بغير المعدة لا تعيش، ولكنك بغير النظر والسمع والكلام تعيش وتحسب من الأحياء، فالشعور إذا انبث في الفرد أو الأمة لا يتبع في مسيره ذلك الخط العجيب من الترتيب المضحك المستحيل، ولكنه ينبث هنا وهناك ويدل على نفسه بمختلف الدلالات، وقد يأتي بالمغنين المطربين قبل أن يأتي بالحدادين والنجارين، مذ كان الغناء أدل على الحياة من عمل الحديد والخشب، فإننا بغير الحديد والخشب قد نحيا ونمتلئ بالحياة، ولكننا بغير البواعث التي تستجيش النفس إلى الغناء لا نعد من الأحياء. •••
هذا كلام يقال لأولئك الذين لا يريدون أن يروا في جوانب مصر تمثالا واحدا، أو يسمعوا فيها نشيدا واحدا، حتى تمتلئ بالمصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم، وحتى تستغني عن كل علم يستزاد من علوم الطعام والأموال، فإذا تمت لها طلبتها من هذه «الضروريات» فهناك تشرع في نحت التماثيل، وصوغ الأناشيد، ولكن لماذا ليت شعري أو ليت شعر أولئك الضروريين؟ لماذا ننحت التماثيل ونصوغ الأناشيد بعد بناء المصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم والمدارس التي تزودنا بعلوم الضرورة والاحتياج؟ أننحتها ونصوغها لمجرد أننا قد بنينا هاتيك المباني وختمنا هاتيك العلوم؟ أننحتها ونصوغها احتفالا وابتهاجا بالفراغ من الضروريات، وتضييعا للوقت حبا للبطالة لا حبا لشيء آخر وراء ذلك التضييع؟ إن التماثيل تنحت والأناشيد تصاغ لبواعث في النفس تدعو إلى نحتها وصوغها، وليس لمجرد الفراغ من بناء المصارف والمستشفيات وما إليها من لوازم المعاش، وإذا وجدت تلك البواعث فهي لا تنتظرنا ولا تستمهلنا، وليس لها محيص عن الظهور ولو لم يكن في البلد مصرف واحد ولا مصنع واحد، وما دام التمثال كالمصرف مرتهنا بدواعيه وموحياته فلماذا يتوقف أحدهما على الآخر ولا يظهر كل منهما حين ينبغي له الظهور؟ إنه ليظهر في حينه وإن التمثال لا يتوقف على المصرف ولا المصرف يتوقف على التمثال إلا بمقدار ما يتوقفان معا على نهوض الأمة وحظها من الشعور والإدراك. •••
في وقت واحد بزغت فكرة المصرف بمصر وفكرة التمثال؛ لأننا في وقت واحد نهضنا للحرية والكرامة، وأحسسنا بالفاقة في عالم المال، وفي عالم الفن الجميل، وليس التمثال الذي تجسمت فكرته وتم تكوينها هذا الأسبوع إلا لونا محسوسا لتلك الحياة التي برزت بألوان شتى في المصرف، وفي السياسة، وفي الآداب، وفي العلوم، ولكنه ليس بالفكرة الأولى في فنوننا الجميلة، وإن كان هو الفكرة الأولى التي اتصلت مظاهرها بحياة الطرقات والجماهير.
تمثال نهضة مصر أول عنوان يقرؤه العابر في ميادين القاهرة من كتاب نهضتنا الفنية، أو إن شئت فقل من كتاب نهضتنا القومية في شتى فروع الحياة، وقد كان العابر في هذه العاصمة لا يقع على رمز واحد لروح مصر الحديثة، ولا يلمح في طية من طياتها ملامح منف الذاهبة، وآثار الجبابرة الخالدين من بناة الأهرام والأوتاد، فاليوم يتصل ما بين مصر الحديثة ومنف القديمة، ويتقارب ما بين أبي الهول الرابض وأبي الهول الناهض، وتنطق صخور مصر مرة أخرى بما أفاضته عليها روح مصر؛ ماضيها العريق وحاضرها المأمول.
هذه هي القيمة الكبرى لتمثال النهضة الذي أنجره الأستاذ محمود مختار، فهو عنوان مشهود لشيء في مصر غير المعدة والمحراث، وهو نبوءة للمستقبل وشعاع ينعكس من حاضرنا على غابرنا، بعد إذ كان النور كله منبعثا من الماضي على خواء في الحاضر لا يسر الناظرين، ولقد نقدت التمثال عند الشروع في بنائه ليزول عنه نقصه، وتصح له قيمه، فهل أذكر ذلك النقد الآن! نعم أذكره لأقول لمن أنكروه يومئذ: إنه أفاد كل ما يرجى له من فائدة، وإن ثناءهم على التمثال لم يخدمه كما خدمه الناقدون. قلت يومئذ: «وفي التمثال ما عدا هذا عيب آخر من عيوب النظر الفني والنظر التاريخي معا. ذلك أن أبا الهول المصور فيه لا يشبه في شيء من ملامحه أبا الهول القديم الذي بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما في معابد البطالسة من هذه النصب، وإنه لمن الخطأ في قصة الفن والتاريخ أن نختار لتصوير نهضة مصرية نصبا بنته في مصر أسرة أجنبية وعندنا تمثالنا ذاك العريق المهيب» فمن ينظر الآن إلى وجه أبي الهول الذي أميط عنه الستار في هذا الأسبوع يحمد للأستاذ أنه أخرجه في صورة مصرية فرعونية تدل عليها الشفتان والأنف والذقن والخدان والعينان، ولم يجعله بطليموس كما مثله في صوره الأولى منذ ثماني سنوات، ويخيل إلينا كما لاحظ صديق لنا أن الأستاذ مختار غلا في ذلك حتى ألبس وجه أبي الهول مسحة الإنسانية التي لا تناسب ما يحف به من رهبة الغموض والأسرار، وقد يقال: إنه ألبسه هذه المسحة؛ لأن أبا الهول المجاهد في النهوض يناسبه ضعف الإنسانية وعناؤها في مغالبة العقبات والآلات، وهذا عذر له وجهه إذا قيل، ولكننا نفقد أبا الهول كله إذا فقدنا اللغز فيه، فليكن له نصيب الإنسانية بمقدار ما يوحيه الجهاد والكفاح، ولكن لا يخل من نصيب الغموض والأسرار الذي هو معناه الأصيل، وموضوع العجب في التحرك والنهوض.
إن تمثال «نهضة مصر» باكورة الرموز الفنية في ميادين العاصمة، فلا يكون له معنى إلا إذا تبعته شواهد هذه النهضة في غير تمثال واحد لمعاني الحياة القومية، ولا نغتبط به جد الاغتباط إلا إذا كان ترحيبا بما يخلفه من روائع التماثيل في كل ميدان.
الفنان أو معاني الكلمات1
... تستعملون في كتاباتكم كلمة الفنان بمعنى الرجل الفني أو المتفنن وهي في اللغة بمعنى حمار الوحش، وقد نبه إلى ذلك بعض الباحثين في اللغة، وقرأنا هذا التنبيه مكررا في إحدى صحفنا اليومية، فما هو الوجه الذي تعولون عليه في استعمال هذه الكلمة؟ وهل لكم أن تخصصوا مقالا من مقالاتكم في البلاغ الأسبوعي لبيان رأيكم في الكلمات التي ينكرها أناس من أنصار القديم وهي دارجة في كتابات بعض الأدباء؟
علي محيي الدين
كلمة الفنان من الكلمات المشتقة، وليست من الكلمات الجامدة التي وضعت في أصل اللغة لاسم لا تنصرف عنه، والشأن في جميع المشتقات أنها صفات يوصف بها كل من يشترك فيها بمعنى من معاني تلك الصفات، كالفراس تقال للأسد، وتقال لكل من يفترس مثله، ولو كان الفرس بالكيد والغلبة، لا بالأظفار والنيوب، فمن أين جاء وصف حمار الوحش بالفنان؟ وما الذي دعا إلى تعريفه بهذا الاسم في بعض ما سمع من أسمائه؟
إن الفن في أصل اللغة هو الخط واللون، ومنه التفنين بمعنى التزيين والتزويق، والأفانين بمعنى الفروع أو الضروب، وهكذا كل ما تعدد فيه الأشكال والأوصاف، مما ينظر بالأعين أو يدرك بالأفكار، وقد سمى حمار الوحش ب «الفنان»؛ لأنه كثير الخطوط أو كثير الفنون، وكذلك سمي بالزرد؛ لأن جلده كالزرد في نسجه المتداخل أو المتقارب، فإذا جاز لنا أن ننكر الفنان بمعنى كثير الفنون جاز لنا أن ننكر إطلاق الصفات على غير موصوف واحد، وهو في اللغة وفي غير اللغة لا يجوز، بل جاز لنا أن ننكر على العرب أنفسهم وصف الخطوط بالزرد؛ لأن الزرد في الأصل هو الخنق والتضييق، ومنها سمي الزرد؛ لأنه حلق ضيق يدخل بعضه في بعض وتنسج منه الدروع.
ومن هذا القبيل تسمية الظبي بالأعصم والظبية بالعصماء، ثم وصف القصيدة والمعاني بهذه الصفة؛ لأنها تشارك الظباء وغيرها من العصم في المنعة، والصعوبة وبعد المتناول، بل من هذا القبيل نقل العزة من الصعوبة إلى رفعة الشأن، والذلة من السهولة إلى الهوان، وأصلهما موضوعان لغير هذا المعنى ، فالعزيز هو الصعب، والذليل هو السهل، وليست كل صعوبة شرفا ولا كل سهولة عيبا، ولكن هكذا يشاء انتقال المعاني في كل كلمة وكل لغة يعينها الاستعمال ولا يعينها شيء غير الاستعمال.
فالذي لا ريب فيه إذن هو أن الفنان كلمة عربية، وقياس عربي، وأنها بمعنى الكثير الفنون أو الكثير التزيين؛ لأن العرب تقول فن الشيء أي زينه فهو فان وفنان، ولا خلاف في صحة هذا الحرف ولا في صحة هذا القياس، فلو لم يرد في السماع اسم «الفنان» علما على شيء كثير الخطوط والفنون لما كان لنا محيص من الإتيان بصيغة المبالغة على «فنان» من الفعل «فن» بمعنى زين، كما تقول خطاط من خط، وعداد من عد، وحلال من حل، وهكذا في جميع صيغ المبالغة على هذا القياس.
ولقد كانت العرب تعرف «كتب» بمعنى ربط أو قيد، والناقة «المكتوبة» عندهم هي الناقة المربوطة أو المقيدة، فلما عرفوا الخط والتدوين سموا هذه الصناعة كتابة؛ لأنها تقيد الكلام فلا يشرد عن الذهن، ولا يضل في تيه النسيان كالناقة المقيدة التي تصان بالرباط عن الشرود والضلال، فليس الكاتب الآن هو الرابط كما كانوا يدعونه عند وضع الكلمة في البداية، ولكنه هو صاحب صناعة القلم قد غلبت عليه التسمية، حتى نسخت أصل الكلمة وخصت بالمعنى المجازي، فلا تنصرف إلى المعنى الأصيل، فلو قلت إن «الكتابة» ليست بعربية لكنت أصوب قولا ممن يرى أن الفنان ليس بعربية؛ لأنك تستطيع أن تخالف في أن «الفنان» هي صيغة المبالغة القياسية من «فن» وأن «فن» فعل عربي بمعنى زين أو خط أو لون، وأن هذا الحرف إما أن يقبل عربيا في أساسه على هذا المعنى أو لا يقبل على الإطلاق.
ونحن نقول الآن أنصار القديم وأنصار الجديد، فمن من العرب الأولين كان يفهم الجديد على معناه الذي فهمه العرب المتأخرون! إن الجديد في أصل وضعه هو المقطوع، والثوب الجديد عندهم هو الثوب المقطوع؛ لأنهم يجدونه أي يقطعونه حين يشترونه، فهو مجدود وهو «جديد». ثم أصبح الجديد وصفا لكل حديث طريف، ولو لم يقطع ولو لم يكن ثوبا أو شيئا من أشياء اللباس، ولا تزال جد وجذ وجز ترد في المعاجم وفي الكتابة بمعنى قطع، أي بمعناها الأول الذي عرفه العرب الأولون، فإذا قلنا لأحد «هذه فكرة جديدة!» فقال لنا إن كلامكم هذا غير عربي لأن الفكرة لا تقطع، فهل يكون صوابه إلا كصواب الذي يقول إن «الفنان» غير عربية؛ لأن العرب وصفت بها حمار الوحش فلا يجوز بعد ذلك أن يكون شيء له خطوط وله فنون غير جلد ذلك الحمار! •••
وبعد فلماذا نفصل الفني على الفنان في الدلالة على المصور والشاعر والمنشد ومن إليهم من رجال الفنون؟ هل أطلق العرب كلمة «الفني» على المصورين والشعراء والمنشدين؟ كلا! ولم ترد قط كلمة «الفني» بهذا المعنى في كلام عربي قبل العصر الحديث، فإذا كانت الفني لم تسمع عن العرب فلماذا ندع الكلمة التي لا التباس فيها لنستعمل كلمة تلتبس بالمنسوب فلا ندري حين نقول «الفني» هل نحن ننسب إلى الفن أو نحن نعني الرجل الفنان؟ أليست الفنان أقرب إلى صحة الاستعمال؛ لأنها صيغة مبالغة صحيحة من فعل عربي صحيح، ولأنها من جهة أخرى أدل على الخلق والإنشاد من مجرد النسبة إلى الفن كما تنسب المصنوعات، ولأنها من جهة ثالثة هي القياس في أوصاف أصحاب الصناعات، كالعطار، والنجار، والحداد، والفراء، والوراق، والسراج، إلى آخر المقيس والمنقول عن العرب في هذا الباب؟
فلا خطأ ولا تجوز في استعمال «الفنان» لمعناها الحديث، ولا وجه لأن يقال: إن «الفنان» غير عربية إلا إذا جاز أن يقال: إن «الكاتب» كذلك غير عربية؛ لأن الكتابة عمل غير الذي اصطلحنا عليه الآن. •••
إن التصرف في أوضاع الكلمات طبيعة اللغة التي لا طاقة بمنعها لمتشدد ولا مترخص. وقد يكون للتشدد أثره الصالح في صيانة اللغة من غلواء المترخصين الذين يستحدثون الكلام المخالف للسماع والقياس بغير ضرورة موجبة، أو يهيمون على رءوسهم في الترجمة والتعريب بغير علم ولا عناية.
ولكن هذا التشدد لن يحيي كلمة ميتة، ولن يميت كلمة حية، ولن يكون هو القسطاس المستقيم فيما يؤخذ وفيما يترك من المفردات، فإذا أورد متشدد اعتراضا على كلمة يستغربها، فمآل الحكم في ذلك الاعتراض إلى الاستعمال، وما رزقته اللغة من قوة البنية التي تعصمها من الخلل والفوضى، ومصير كل كلمة صالحة إلى الدخول في بنية اللغة، والتمشي مع قواعدها وأصولها حتى يعود الحكم فيها كالحكم في كل كلمة عريقة أو مستحدثة، ولسنا نأبى على المتشددين حذرهم وصلابتهم؛ لأنهما خير من الفوضى والإباحة التي لا ضابط لها، بل هما خير من تعسف المعربين الذين يعيبون الترجمة في بعض الأحيان؛ لأنها لا تؤدي معاني المترجمات كل الأداء لأول وهلة، فالذين يقولون مثلا إن «الدراجة» لا تصلح لترجمة «البسكليت» لأن كل ماشية تدرج فهي دراجة، وليس الدرجان مقصورا على البسكليت وحدها - هم أقل تصرفا وسماحة من الذين يحرمون كلمة الفنان وما شاكها، وأشد تحريجا على اللغة من أنصار القديم - إذ إن معنى «البسكليت» في أصل وصفها هو «ذات الدائرتين الصغيرتين» وهو معنى لا يدل عليها كما قد تدل عليها الدراجة، فالغلو في مذهب التعريب على هذا النمط، واتخاذ هذه الحجة الواهية سببا لتفضيل كلمة البسكليت على كلمة الدراجة خطأ لا يقل عن خطأ المتحرجين من كل تصرف في أوضاع الكلمات، ومن كل تبديل لما سبق به المتقدمون.
والعيب عند هؤلاء وهؤلاء أنهم لا يذكرون أن إطلاق اللفظ على المعنى هو مناط التعيين لذلك المعنى، وهو هو الفارق بين اللفظ وسواه، وأن كل استعمال يجوز إدماجه في قاعدة من قواعد اللغة هو استعمال صحيح لا غبار عليه.
الشعر العربي والشعر الإنجليزي1
... أدينا امتحان آداب اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وكان من مواضعيه التي سئلنا الإجابة عليها: أي فروق خطيرة لاحظتها فيما درست من شعر إنجليزي بين الشعرين العربي والإنجليزي؟ وفيم تراهما يلتقيان؟ وقد فكرت لأول وهلة فيكم لتوفركم على درس الأدبين، وإذا كنت لم أستطع سؤالكم أثناء الامتحان فها أنا أبادر بعد الفراغ منه إلى سؤالكم، وموضوعنا هذا فيما أرى موضوع قيم يستحق الكتابة بل يستوجبها وجوبا ممن عرك الأدبين، ووقف على ما فيهما من حسن، وما التقينا عنده فأثبتا وحدة النفس الإنسانية والفنية، وما اختلفا فيه نزولا عند حكم البيئة والظروف.
عبده حسن الزيات
إني أرحب بسؤال الطالب الأديب؛ لأنه سؤال وجهته إلى نفسي كثيرا، وأظنني قد أجبت عليه مفرقا في بعض المقالات التي عرض فيها ذكر الأدبين العربي والإنجليزي، فخلاصة المشابهات والفروق التي دلتني عليها قراءتي لأشعارنا وأشعار الإنجليز يمكن أن تجتمع فيما يأتي: تتقارب المشابهة بين الشعر العربي والشعر الإنجليزي جدا في المعاني الحسية الفردية، ولبيان ما أريده ب «الحسية الفردية» أقول إنني أعني بها تلك المعاني التي لا يحتاج الشاعر للشعور بها إلى أكثر من أن يكون إنسانا له بنية جسدية، ومطالب نفسية، لا علاقة لها بالبيئة الاجتماعية، فالحزن، والغضب، وحب المرأة، ووصف المشاهد التي تقع عليها الحواس، والألم الذي يصيب الجسم، أو يمس النفس من ناحيته، كل هذه إحساسات يمارسها الإنسان الفرد؛ لأن له تركيبا جسديا يرى ويسمع ويجوع ويعطش ويشتهي ما يشتهي، وتتصورها أنت فيه ولو لم تتصور له أمة ينتمي إليها وتاريخا يرتبط به، فهي إحساسات مرجعها إلى وظائف الجسد وتركيب الفرد من حيث هو كائن حي لا صلة له بالأمة والتاريخ، وهذه هي الإحساسات التي يتشابه في وصفها الشعر العربي والشعر الإنجليزي، وتنعقد المقابلة فيها بين الشعرين، فترى للعرب فضلا لا يقل عن فضل الإنجليز، وقد يرجع عليه أحيانا لتفرغ العرب لهذه المعاني وانصباب خواطرهم في ناحيتها دون غيرها، فليس بالنادر أن ترى للشريف والبحتري والمتنبي وأبي نواس والعباس بن الأحنف وأبي العتاهية، وأضراب ابن مناذر والعتابي والحسين بن الضحاك وعلي بن الجهم، ومن قبلهم في الجاهلية، ومن بعدهم من المحدثين، أبياتا وقطعا في الرثاء والغزل والشكوى تضارع أبلغ ما نظم الإنجليز في هذه المعاني، وقد تفوقها على الجملة في النفاذ والتوقد الذي تمتاز به الصرخات الحسبة، والومضات المحصورة، وقد نرى أن رثاء العرب يفضل رثاء الإنجليز في هذه الخصلة، فيمعن في حس قارئه ويستبكيه، على حين أن الرثاء الإنجليزي يستجيش عنده الخواطر المحزنة، ويخاطبه بلسان البكاء الذي تفيض به أجفان العيون، وهنا تقف المشابهة العامة بين الشعرين العربي والإنجليزي؛ لتبدأ الفروق وتنفرج مظاهر الاختلاف.
أما هذه الفروق والمظاهر المختلفة فأشملها وأعمها أن شعر العرب شعر منبت مقصور على أمة واحدة، وأن شعر الإنجليز شعر متفتح الجوانب متصل بحياة الأمم الأخرى. فإذا أردت أن تعزل الشعر العربي عن أشعار العالم شرقيها، وغربيها، وقديمها، وحديثها، لم يكلفك ذلك أكثر من حذف كلمات تسربت إليه من اللغات الأخرى، وتبديل مصطلحات لا تتعدى ظواهر المعيشة، وقل أن تبلغ إلى بواطن الأفكار والسرائر. أما إذا أردت أن تضع الشعر الإنجليزي بمعزل عن آداب العالم، وأن تخرج ما تسرب إليه من الآداب اليونانية والرومانية والفرنسية والإيطالية وعقائد المسيحية، وما امتزج به من أساطير الشماليين والقلتيين، وخالطه من حياة الإنسانية العامة في مجموعها، فإنك تحاول المستحيل ولن تفلح فيما تحاول، وكذلك لن تفلح إذا حاولت أن تمسح عنه الصبغة الإنجليزية المستقلة، والخصائص التي استفادها من عناصر هذه الأمة، فأنت بين يدي شعر له صبغته القومية التي لا تختلط بصبغة أخرى، وله في الوقت نفسه وشائج إنسانية لا تمحو عنه تلك الصبغة القومية.
ومن الفروق الواضحة بين الشعرين العربي والإنجليزي أن أولهما يدور أكثره على الحس وثانيهما يدور أكثره على العطف والخيال؛ فالشاعر العربي يصف امرأة لها سمات جسدية من الفرع إلى القدم تقاس وتكال، وأما العاشق الإنجليزي فيصف المرأة التي يحبها كأنها روح عاطف له ثوب من الجسد جميل، فإن هو أشار إلى صفة من صفات هذا الثوب فليذكر به معنى من معاني العطف والتوسم يطهر أو يخبث على حسب النفوس والأذواق، كذلك يشبه الشاعر العربي ما يصفه فإذا هو يعني بالصورة المحسوسة دون الصورة الباطنية، ويريك الهلال منجلا، والقمر درهما فضيا، والبستان طنافس ونمارق، ولا يحكي لك وقع هذه الأشياء في النفس كما يحكي لك صورتها في الأحداق. ولولا ابن الرومي لخلا الشعر العربي من ملكة التصوير العالية، وتشبيهاته الخيالية الرفيعة، فهو في هذا الباب فريد هذا الشعر إن لم نقل إنه فريد أشعار العالم كله، وهو نعم العوض عن تلك الخسارة التي لا يدركها نقادنا السابقون، ومن حذا حذوهم من نقادنا التابعين.
وقد يلحق بهذا الفرق ما نلاحظه من كثرة الذكاء
Wit
في الشعر العربي، وقلة الفكاهة
Humour
على خلاف الشعر الإنجليزي الذي تتلاقي فيه الفكاهة والذكاء، ويتجارى فيه أصحاب النكات الذكية وأصحاب الفكاهات العاطفية؛ ولا يخفى أن هذه النكات مرجعها إلى الفهم، وأن تلك الفكاهات مرجعها إلى سعة العطف، وتعدد جوانب الشعور.
وقد يدخل في هذا الفرق أيضا - أي في دوران الشعر العربي على الحس ودوران الشعر الإنجليزي على العطف والخيال - أنك ترى الارتباط قليلا بين معاني القصيدة العربية، ولا ترى قصيدة إنجليزية تخلو من رابطة تجمع أبياتها على موضوع واحد، أو موضوعات متناسقة، ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت، وكانت وحدته عندهم القصيدة، فالأبيات العربية طفرة بعد طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض؛ وسبب ذلك كما قدمت هو أن الحس لا يربط بين المعاني، وإنما يربط بينها التصور والعاطفة والملكة الشاعرة، فإذا تعود الإنسان أن يتصور وأن يعطف وأن يشعر، تعود أن يدرك المعاني الواسعة والسوانح النفسية التي تتعدد فيها الظلال والجوانب والدرجات ، فيأتي بالفكرة لا يستوعبها البيت، ولا يغني فيها الاقتضاب، وإذا هو لم يتعود إلا أن ينقل عن الحواس الظاهرة وقف إدراكه عند المتفرقات، فأغنته طفرة البيت عن تماسك الأبيات.
ومن الفروق بين الشعرين أن الفردية غالبة على شعر العرب، والاجتماعية غالبة على شعر الإنجليز، فالعواطف التي في الشعر العربي هي العواطف البسيطة الساذجة في غير تركيب ولا تنويع، ويندر أن تجد فيه أثرا للعواطف المنوعة المتشابكة التي تتولد من قدم الحضارة، وألفة التعاون، وتكاليف الاجتماع، وكثرة اختبار النفوس للنفوس في مختلف الأحوال والأطوار، فالشاعر الإنجليزي إذا وصف الحياة الإنسانية وصف حياة ضافية تتسع لمقامات المجتمع، وأشتات دواعيه، وتكاليفه، وآداب طبقاته وأفراده، ودخائل عقائده وثقافاته، مما لا تتسع له حياة القبيلة أو الحياة الحضرية التي ما تزال على أوضاع القبيلة، أما الشاعر العربي فعلاقة الإنسان عنده بالإنسان محدودة وأسرار النفوس عنه محجوبة مسدودة، وسذاجة العواطف خصلة ملازمة له مذ كان التركيب في هذه العواطف لا يأتي إلا من تركيب العلاقات بين الناس في بيئات الحضارة؛ وربما جاء من هنا - ومن بعض الأسباب المتقدمة - ظهور الروايات التمثيلية والقصصية في الأدب الإنجليزي، وامتناعها في الأدب العربي، وربما جاءت منه أيضا سذاجة المدح العربي التي لا تشبهها سذاجة مروية في الآداب الأوربية؛ فقد لجأ الشعراء في كل أمة إلى الأمراء والسروات، وأخذوا من جاههم ونوالهم، ولكنك لا ترى مدحا كهذا المدح الفردي المفتوح إلا في الشعر العربي، حيث لا يرضي المادح أميره إلا إذا وصف شخصه وأطنب في وصفه بأحب الصفات إليه، كما يفعل الطفل حين يمدحك، ويمد يده إلى السكرة التي في يدك وهو لا يكتم عنك أنه يقول الكلمة الطيبة؛ ليأخذ على أثرها السكرة الحلوة، فلا لباقة ولا تفنن في الإرضاء والثناء، وإنما هو المديح على أسذج ما تراه في طفولة الفطرة، وقد تتصور هذا حيث تكون العلاقات الفردية هي الغالبة، والمدائح الفردية هي المطلوبة، ولكننا لا نتصوره حين تنشأ للتكاليف المدنية علاقات، ولباقات، وآداب، تترقى بصناعة التنويه والمدح من هذه السذاجة إلى شيء من التفنن والتنويع، فإذا وقفت أنا المادح وأنت الممدوح فردا أمام فرد فليس لي سبيل إلى غير الثناء على شخصك وتمليق سمعك، وإعلان شكرك، ولكني إذا وقفت أنا شاعر الأمة أمام أمير الأمة، فقد يجزئني في إرضائه وإرضاء الناس عنه أن أعلن فخار الأمة وأجعله هو مناط ذلك الإعلان وعنوان ذلك الفخار، وقد وجد من شعراء القبائل من نحا هذا النحو وطاف على الأمراء والفقراء يستأديهم ثمن ثنائه، وتمجيد آبائه، ولكنها فلتات لا يقاس عليها في جميع الأحوال.
هذه هي الخطوط الكبيرة في رسم الفوارق التي بين روح الشعر العربي وروح الشعر الإنجليزي، وهناك خطوط صغيرة قد تظهر في شاعر شاعر أو عصر عصر، فلا يتيسر تقييدها وحصر أسبابها إلا إذا تيسر تقييد جميع الفوارق الدقيقة بين الأشعار، وهو غير متيسر في هذه الموجزات؛ لأن هذه الفوارق مما يصح أن يلحظ بين شعراء اللغة الواحدة، بل بين قصائد الشعر الواحد في عهدين من عهود العمر، أو حالين من حالات القريحة والشعور.
نقد غريب1
جاءتني رسالة من بغداد بتوقيع «أكرم أحمد» يقول فيها: إن أناسا في المدينة يمشون بالدسيسة بيني وبين الأستاذ الزهاوي من جديد؛ لأنهم كتبوا إلي يزعمون أن ما نشرته «لغة العرب» في نقد ديواني إنما كتبه الأستاذ الزهاوي انتقاما لنفسه مما كتبته عنه في البلاغ الأسبوعي قبل أشهر، ويقول صاحب الرسالة: إنهم كاذبون فيما زعموا وإن الأب أنستاس الكرملي صاحب «لغة العرب» ليس بالرجل الذي يدعي لنفسه كلام الآخرين، وإن أناسا اقترحوا على الأستاذ الزهاوي أن ينقد ديواني؛ فأبى مخافة أن يجيء نقده على غير ما يريد من النزاهة والإنصاف، فحبذا لو أعرضت عن هذه الوشايات، وقابلتها بفصل أو فصول أكتبها عن «اللباب» ديوان الزهاوي الجديد، ويتبعها الزهاوي بفصول يكتبها عن ديواني، فينقطع بذلك القال والقيل، ولأكن البادئ بالكتابة عن اللباب؛ لأنني أنا البادئ بالتحامل على صاحب اللباب، كما يقول كاتب الرسالة الأديب.
هذه خلاصة الرسالة التي جاءتني من بغداد ولم أكن قد اطلعت على «لغة العرب » ولا رأيت عددا من أعدادها إلى ذلك الحين، فبعثت في طلبها ممن عسى أن ترد إليه، فإذا هي مجلة تطبع بالحرف الدقيق، وإذا فيها فصل يقع في زهاء ثماني صفحات نقدا لديواني مستهلا بهذه العبارة: «الأستاذ العقاد كاتب كبير، وكنا نعتقد أنه كذلك شاعر كبير حتى جاءنا ديوانه الجديد حافلا بما نظمه قديما وحديثا، فإذا هو دون ما أكبره تصورنا، وإذا هو مشحون بالأغلاط والضرورات القبيحة، وإذا هو قبر للألفاظ الميتة دارس، فيه كثير من العظام البالية، وإذا هو تافه المعاني في الأكثر، وإذا هو في كثير من قصيده يخرج عن الموضوع، فلا تبقى فيه الوحدة المتوخاة منه، وإذا هو يبالغ أو يغرق في كثير من أبياته، وإذا هو يقلد القدماء فليس فيه ما يمت إلى الشعور بواشجة إلا أبياتا قليلة متفرقة هنا وهناك، وكنا نراه قبل نشره ديوانه يطعن في مواهب كبار الشعراء، بل كان ينال من كل شاعر عربي تقريبا مصريا كان أو شاميا أو عراقيا؛ فما كنا نفهم علة ذلك بعد سكوته الطويل عن الشعر والشعراء، حتى ظهر ديوانه العجيب فأدركنا السر إلخ ... إلخ.»
هذه غريبة في النقد النزيه! وليس من شأني أنا أن أعزو هذا الكلام إلى أحد غير صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، فإن النقد هو الذي يعنيني وليس الكاتب، ولا من أوعز إليه، وقد صدر النقد في مجلة لم تنسبه إلى أحد، فهو لها إذن وهي راضية عنه موافقة عليه. غير أني أعجب والله لصدور نقد كهذا من مجلة يقال عن صاحبها: إنه كثير الاشتغال بالعربية واسع الاطلاع على قواعدها النحوية والصرفية، فإن في نقده لغطا فاحشا لا يقع فيه من له إلمام بهذه القواعد، واطلاع عليها ولو كاطلاع التلاميذ المبتدئين، ولست أعرف معرفة اليقين ما الأب «أنستاس ماري الكرملي» صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، ولكني كنت سمعت من صاحب لي أديب أنه راهب أدمن الاشتغال باللغة العربية حتى تريب رؤساؤه به لهذا، فنفوه إلى دير ينقطع فيه عن خدمة هذه اللغة زمنا لا أدري ما قدره، فإن صح ما رواه صاحبي الأديب فهم قد أطلقوه الآن؛ لأنهم رجعوا إلى الصواب في أمره، وعرفوا أن البلية على اللغة العربية في اشتغاله بها لا في انصرافه عنها وتركها وشأنها.
وقد يلذ القراء أن يروا مبلغ علم «اللغويين» الذين يتفيهقون باللغة حين يتصدون لنقد أحد من كتاب الجديد أو شعرائه! يتهجمون في التخطئة بغير روية، فيجردون أنفسهم من كل شيء حتى النحو والصرف وسائر القواعد التي يظن الناس بهم علمها إذا استكثروا عليهم علم ما وراءها مما يحتاج إلى نفاذ البصيرة وذكاء الفطنة، ولا ضير علينا أن نسقط دعواهم هذه ونكشف عن جهلهم بما يدعون؛ لأننا قلنا كثيرا: إن هؤلاء الذين يهتفون باسم العربية هم أضعف الناس وجها في ادعاء الغيرة عليها، وأجهلهم بآدابها وأسرار قواعدها، وسنبدأ بالنقد اللغوي؛ لأنه النقد الذي إذا قرأه بعض الناس في مجلة ك «لغة العرب» خيل إليهم أنه صادر من معدنه أو ممن يملك الكلام في موضوعه، أما النقد المعنوي فقد نهمله، وقد نعود إليه للتفكه وضرب الأمثال بهذه العجائب والمضحكات!
نقدت المجلة أول بيت في الديوان وهو:
قطب السفين وقبلة الربان
يا ليت نورك نافع وجداني
فقالت: «إن كان يريد فرضة خاصة، فهذه ليست قطب جميع السفن، وقبلة كل ربان، كما يفهم من الإطلاق.»
وأنا بعد أن أعجب عجبي من هذه اللوذعية التي لا تريد أن تترك بيتا واحدا في مطلع الديوان بغير نقد وتخطئة، أسأل صاحب لغة العرب: من الذي قال: إن الفرضة من الفرض يجب أن تدخلها كل سفينة في الأرض ليصح أن يقال فيها إنها قطب السفين؟! أوما كشفت يا مولانا عن تفسيرها في معجم بين يديك؟ فقد تجد تفسيرها في كل معجم أنها هي مكان ترسو فيه «السفن» بالألف واللام، ولم تخطئ المعاجم في هذا ولا يفهم منه بالبداهة أن كل فرضة يجب أن تدخلها كل سفينة حتى تسمى فرضة، ونحن نقول: إن الكعبة مكان يحج إليه المسلمون وإن بيت المقدس مكان يحج إليه النصارى، وليس كل المسلمين يحجون إلى الكعبة، ولا كل النصارى يحجون إلى بيت المقدس! فأين الخطأ في البيت؟ وأين الفهم لمعنى أل في أوائل الأسماء؟
وتنقد «لغة العرب» قولي:
يزجى منارك بالضياء كأنه
أرق يقلب مقلتي ولهان
لأن «يزجى» يتعدى بنفسه لا بالباء!
وأنا لا أجهل أن «يزجى» يتعدى بنفسه، وكان يجب على الناقد أن يعلم ذلك؛ لأنه نقل لي بيتا آخر أقول فيه:
وإن شئت أزجيت الجبان فأقدما
ووسوست في قلب الجريء فأحجما
ولكن صاحب لغة العرب هو الذي جهل ونسي؛ لأنه لم يراجع باب التضمين من كتب النحو على ما يظهر، فغاب عنه أن «يزجى» هنا مضمنة معنى «يدفع» وأنه كما يصح أن يقال دفعه ودفع به يصح كذلك على هذا المعنى أن يقال أزجاه وأزجى به، فإن أنكر الأب التضمين فليقل لنا ذلك لنملي عليه من أوجز الكتب في لغة العرب درسا تحتاج إليه «لغة العرب» في هذا الزمن العجيب!
وتقول المجلة: «ثم قال:
أمسيت أحداق السفائن شرع
صور إليك من البحار روان
ولو نصب شرع على الحالية لخلا البيت من تتابع الأخبار.»
لا يا مولانا هداك الله وعلمك العربية، وعلمك قدر نفسك. إن مجيء الحال من المبتدأ لا يجوز إلا في أضعف الأقوال، فتكرار الأخبار لو كان محظورا لكان أهون من المجيء بالحال على وضع ينكره جلة النحاة، فكيف وتتابع الأخبار لا حظر عليه ولا منافاة للفصاحة؟ أليس القرآن يقول:
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ؟ أليس القرآن يقول:
وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد ؟ فإن لم تؤمن بتنزيل القرآن من السماء فلتؤمن بأنه كتاب عربي مبين، يستشهد به حين لا يستشهد بكلامك السقيم.
وتقول المجلة: قال:
يشكو من الدنيا الألى لولاهم
ما كانت الدنيا تحب وترغب
ورغب فعل لازم لا يبنى منه المجهول إلا بحرف الجر، ورغب لا يحذف منه حرف الجر؛ لأنه يتعدى بحرفين مختلفين «فيه وعنه» ويختلف معناه بموجبهما.
لا يا مولانا. إن حرف الجر يحذف من رغب ومشتقاتها، كما جاء في القرآن
وترغبون أن تنكحوهن
وكما جاء في الشعر الذي استشهد به ابن هشام:
ويرغب أن يبني المعالي خالد
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم
وكما جاء في قول يونس حين سئل عن الشعراء: «امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب» وكما جاء في قول الشريف:
طواك إلى غيرك المعتفي
وجاوز أبوابك الراغب
وكما جاء في قول البحتري:
تولته أسرار الصدور وأقبلت
إليه قلوب من محب وراغب
وكما يعلم الأب لو أنه يقرأ كتب النحو فضلا عن الدواوين، وأقوال الأدباء .
وانتقد الأب قولي: «عسوفا إذا ما الخوف قد كان أحزما»؛ لأن الشرط والتحقيق لا يجتمعان! فنحن نقول له أصبت يا مولانا لولا أن «إذا» تستعمل للشرط في حالة التحقيق، بخلاف «إن» التي تستعمل للشرط في حالة التشكيك.
وتزعم المجلة أن قولنا: «ألا ولتفرق والدا عن وليده» غير فصيح؛ لأن اللام لأمر الغائب فلا يدخلها الفصحاء على المخاطب، وحسبنا نحن أن نقول له: إن النحاة لم يجدوا لهم سندا أفصح من قول الشاعر:
إذا جن جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافا إن حراسنا أسدا
ليستدلوا به على جواز نصب خبر «إن»، وحسبنا أن نورد له أن القرآن الكريم يقول في قراءة أبي: «فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون.»
وأخذت علي المجلة قولي:
دهر يدور صباحه ومساؤه
متعاقبان على مدى الأيام
قالت: والأولى جعل «صباحه» فاعلا ليدور، ونصب «متعاقبان» على الحالية، ونحن نقول ليس هذا هو الأولى، بل الأولى ما ذكرناه إذ جعلنا صباحه مبتدأ، فما دليلك - أصلح الله حالك - يا هذا المغرم المعنى بالأحوال؟!
وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول:
يرفلن في الحسن القشيب كأنما
ألبسنه يبقى على الأعوام
لأن الصواب في رأيها أن نقول «كأن ما» ليعود ضمير يبقى إلى «ما» فهل رأى القراء «عالما» باللغة العربية يجهل أن «ما» بعد «كأن » تكون كافة عن العمل، ولا تكون موصولة حيثما ترد؟
وخطأتنا لغة العرب أيضا في قولنا:
وتسلبني نورا أراك بوحيه
فأظهر ما أخفى سواد الدياجر
لأن الصواب في رأيها أن نقول «كنت أراك بوحيه»، فهل يدري أحد لماذا أجاز لنا صاحب لغة العرب أن نقول «تسلبني» عن الماضي ولم يجز لنا أن نقول: أراك بدلا من «كنت أراك»؟
وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول:
يهم ويعييه النهوض فيجثم
ويعزم إلا ريشه ليس يعزم
لأن الصحيح في زعمها أن نقول:
إلا ريشه فهو ليس يعزم، أو إلا أن ريشه ليس يعزم، فإن ريشه مستثنى منصوب فلا يصح أن يخبر عنه بقوله ليس يعزم.
أهكذا يا عالم العربية؟ ألا يجوز أن تكون «إلا » بمعنى لكن، وأن يكون ما بعدها جملة مركبة من مبتدأ وخبر؟ اعلم يا هذا أن هناك شيئا يسمى الاستثناء المنقطع، وراجع باب الاستثناء إلى آخره يفتح الله عليك الأبواب!
وأنكر علينا مولانا أن نقول:
لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
مكب وقد صاح القطا وهو أبكم
لأن رنق بمعنى خفق بجناحيه، ورفرف ولم يطر، لا كما شرحناه بقولنا طار طيرانا خفيفا، فليقرأ إذن مولانا ما جاء في لسان العرب في مادة رنق، حيث يقول اللسان: الترنيق كسر الطائر جناحيه من داء، أو رمي حتى يسقط، وهو مرنق الجناح، وأنشد «فيهوي صحيحا أو يرنق طائره» وترنيق الطائر على وجهين: أحدهما صف جناحيه في الهواء لا يحركهما، والآخر أن يخفق بجناحيه، ومنه قول ذي الرمة:
إذا ضربتنا الريح رنق فوقنا
على حد قوسينا كما خفق النسر
ورنق الطائر: رفرف فلم يسقط ولم يبرح، هكذا يفهم العرب الترنيق، فما قول «لغة العرب» لآخر الزمان في لغة العرب من أول الزمان؟
وتقول المجلة في قولنا:
أكان للمرء أيما أرب
في الصبر لولا كوارث الزمن؟
ليس من الصواب جعل أيما وهي للاستفهام اسما لكان المصدر كذلك بهمزة الاستفهام، ثم إن «أي لها صدر الكلام، فلا يجوز من هذا الوجه أيضا جعله اسما لكان.»
هذا قول «لغة العرب ...» ونحن نسألها: ما رأي «لغة العرب» في قولنا لها: «لم نر أي خطأ فيما انتقدت ولم يزعم أي أحد ما تزعمين.» أهذا كلام صحيح أو غير صحيح؟ فإن كان صحيحا؛ فلماذا لا يصح كذلك أن تكون «أي» اسما لكان و«ما» زائدة، كما قد ترد زائدة بعد «أي» في غير موضع الاستفهام؟
وتنكر علينا المجلة قولنا «لست على الصبر مزريا»؛ لأن «أزرى» يتعدى على الفصيح بالباء، ولم نعرف أحدا غيرها يجترئ هذا الاجتراء، وينكر تعدية أزرى ب «على»، وهي في كل كتب اللغة تتعدى بها كما تتعدى بالباء.
إن الرجل لعدو نفسه، ولو لم يكن عدوا لها لما تورط بها في نقد يكشف للناس حقيقة منه، لعلها كانت خافية عليهم، وستظل خافية إلى زمن بعيد، فقد أعلمهم من حيث لا يعلم أنه جاهل بالنحو هذا الجهل المعيب، بعد اشتغاله به سنين عدة، وإنها لفضيحة منكرة، ما كان أغناه عنها لولا التهجم والادعاء.
مثال من النقد1
جاءني الجزء السادس من السنة السادسة لمجلة لغة العرب التي يصدرها في بغداد الأب «أنستاس ماري الكرملي»، الذي رأى القراء مثالا من نقده للشعر فيما كتبناه عنه بالبلاغ الأسبوعي، وفي هذا الجزء السادس مثال آخر من نقده، يدل كما دل سابقه على جهل مطبق بقواعد اللغة، وفهم ضيق للأدب ومعاني الشعر، لم نر له مشابها بين جهلاء النقدة، وأدعياء اللغة، وهم غير قليلين، وفي ردنا على نقد هذه المجلة لديواننا فائدة قيمة غير فائدة التصحيح، وإظهار الأخطاء التي وقع فيها الناقد المغرور، وهي الكشف عن حقيقة الشهرة التي تنال أحيانا في بلادنا الشرقية، فقد تذيع عن بعض الناس سمعة العلم بالعربية، وهم يجهلون من أولياتها وأصولها ما يفرض علمه في صغار الشداة المبتدئين، وترى هؤلاء «المشهورين» يبيحون أنفسهم مقام الإفتاء والتحليل والتحريم في لغة العرب، وهم لا يفقهون منها جائزا ولا ممنوعا ولا يقيمون فهم عبارات منها، قلما تخفى على سواد الناس.
وفي طليعة هؤلاء صاحب مجلة «لغة العرب» الذي لا تقرأ له فصلا إلا رأيته يجزم بتحريم هذا، واستهجان ذاك، ويقول في ثقة الحجة العليم بالدقائق والجلائل: هذا يقال، وهذا لا يقال، وهذا حسن وهذا غير حسن، ولو راجع أشيع كتب النحو والصرف، وفهم أبسط القواعد اللغوية لعرف خطأه، وترك مجلس الأستاذ الناقد إلى مجلس التلميذ المتعلم المشكوك في فلاحه، وإن طال عليه زمان الدراسة والتلقين، فالكشف عن حقيقة هذه الشهرة الزائفة باب من أبواب العبرة، خليق أن يقصد لذاته، ويتخذ مثالا لغيره، من ضروب السمعة التي لا تقوم على أساس.
يشتمل نقد هذا الأعجمي الذي يرى أن ديواننا قبر للمعاني البالية، والسخافات، والأغلاط على مآخذ معنوية ومآخذ لغوية، فأما المعنوية فهذا نموذج منها، وفي إيراده الكفاية: قلنا:
قد كنت تبلغ ما تروم وتشتهي
لو أن للأيام عينا ترقب
لا يذهبن بك القنوط فربما
عاد الصباح وأنت لاه تطرب
وأنكر المعنى فقال: «كيف يؤمل له أن يلهو ويطرب، بعدما أحال أن ينال ما يروم ويشتهى؟»
وقلنا في قصيدة حمام البحر:
لا بل منيت بفتنة خلعت
جلبابها للكر والفر
والغيد أنفذ ما رمين إذا
جردن عن زرد وعن ستر
ونقده العلامة الفهامة فقال: «أي علاقة لحسناء تستحم بالكر والفر!»
وقلنا نخاطب الزهرة:
فريدة الأفق أسعديني
وخالسي النجم وارمقيني
والعلامة الفهامة يقول: «إذا كانت الزهرة كما يتوهم الأستاذ ربة الحب، فمن أي نجم تخاف ليأمرها بقوله: وخالسي النجم وارمقيني؟!»
وقلنا في وصف البحر:
لم أبصر الآذي فيه كأنه
خيل الطراد تسوقهن صباه
إلا وددت بأن أراه فلا أرى
أفقا يصد الطرف دون مداه
والعلامة الفهامة يقول في نقد القصيدة: «من العجيب أن يود رؤية البحر من يبصره، والقصيدة برمتها سخيفة!»
قلنا في الشمس:
لقد طال عمر الليل حتى حسبتها
توارت من الغرب المعصفر في رمس
والعلامة الفهامة يقول: «خلاصة البيت أن الليل قد طال فحسب أن الشمس قد توارت في رمس، هو المغرب المعصفر، والمغرب يكون معصفرا بعد تواري الشمس بقليل، ولكن هذه العصفرة لا تشاهد إذا طال الليل.»
هذا نموذج من فهم العلامة الفهامة لمعاني الشعر ونقده، وما أظن هذا الهراء يحتاج إلى رد أكثر من إيراده بحرفه، فليكن ردنا عليه أننا نشير إليه. •••
أما المآخذ اللغوية فقد علم القراء آنفا ما انطوت عليه من جهل هذا الناقد الأعجمي بأصول النحو والصرف جهلا يدفع به إلى تخطئة ما لا شك في صوابه، وما قد وردت النصوص باستحسانه أو بوجوبه، وسيرون في بقية نقده عجبا كذلك العجب، وغباء لا غباء مثله في فهم لغة العرب من صاحب «لغة العرب ...»
جاء في المجلة ص468: وقال: «خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم» والميم في «م القيظ» مخففة من «من» الجارة وهذا التخفيف ذميم، وإن ارتكبه بعض الجاهليين.
هكذا يقول العلامة الفهامة، والعلامات الفهامات يجب عليهم أن يعلموا ويفهموا أن أبا حيان يقول في هذا الحذف إنه حسن، وكثير، فهو إذن ليس بذميم ولا قليل.
وجاء في المجلة ص468: وقال في قصيدة ليلة الوداع:
تطلع لا يثني عن البدر طرفه
فقلت: حياء ما أرى أم تغاضيا؟
وأنت تعلم أن مقول القول لا يكون إلا جملة، فما وجه نصب حياء والمعطوف عليه تغاضيا!
هكذا يقول العلامة الفهامة، والعلامات الفهامات يجب أن يعلموا ويفهموا أن المفاعيل في العربية خمسة وليست مفعولا واحدا هو ذاك الذي يأخذ علامتنا وفهامتنا بخناقه، فحياء منصوبة هنا؛ لأنها مفعول له أو مفعول لأجله، والمعنى كما يفهم كل قارئ هو: «هل للحياء تفعل ما أرى أو للتغاضي!» أما الذي يخطر له أن حياء هنا لا بد أن تكون مفعولا به، ولا بد أن تكون خطأ لأنها آتية بعد القول، فذلك هو الببغاء الذي يحفظ أسماء المنصوبات، ولا يدري أين تكون مواقعها من الكلام.
وجاء في المجلة ص468 وقال:
كأن فؤادي طائر عاد إلفه
إليه فأمسى آخر الليل شاديا
يريد فشدا آخر الليل، وقوله: «فأمسى آخر الليل شاديا» كمن يقول أمسى فلان مغنيا عوض «غنى فلان» والفرق بين المعنيين ظاهر.
هكذا فهم صاحب لغة العرب، ولكن العرب الذين لا يفهم لغتهم صاحب لغة العرب يقولون: «لا أكلمك آخر الزمان» ويعنون إلى آخر الزمان، ونحن هنا نقول أمسى آخر الليل أي أمسى إلى آخر الليل، وهبنا قلنا أمسى فلان مغنيا، فنحن على هذا نريد أنه قضى المساء كله في الغناء فأي خطأ في ذلك، وما وجه الاعتراض عليه؟!
وجاء في المجلة ص468 وقال:
وأشكوه ما يجني فينفر غاضبا
وأعطفه نحوي فيعطف راضيا
يريد أن أشكو إليه ما يجني و«أشكو» لا يتعدى إلى مفعولين.
رجعنا إلى المفعول به كأنه هو كل بضاعة صاحبنا العلامة الفهامة من المنصوبات! و«ما» هنا ليست مفعولا ثانيا، وإنما هي بدل اشتمال في محل نصب على البدلية من مفعول «أشكو»، فهل لم يرد باب البدل على العلامة الفهامة؟ أو هو ورد عليه ولم يفهمه ولم يعرف تطبيقه؟ ومع هذا لو أننا عدينا «أشكو» إلى مفعولين لما كان في ذلك خطأ كما سيرد بيانه.
وجاء في المجلة ص468: وقال:
وأسلمت كفي كفه فأعادها
وقلبي فهلا أرجع القلب ثانيا
أراد أسلمت إلى كفه كفي فأعادها، وأسلمت قلبي، ولم يرجعه فلم يفصح، ثم إن أسلم لا يتعدى إلى مفعولين.
وجاء في المجلة ص469: «إن نؤجله الحساب إلى الغد» وأجل لا تتعدى إلى مفعولين.
المفعول به أيضا! لكأن اللغة العربية لا تشتمل على غير المفعول به، أو كأن الأفعال لا عمل لها إلا التعدية! ويخيل إليك أن الرجل لكثرة ترديده هذا المفعول قد حفظه، واستقصى بابه فلا يفوته حكم من أحكامه، ولا موقع من مواقعه، ولكن أتراه قرأ باب الحذف والإيصال في تعدية الأفعال؟ بل أتراه قرأ شرح الألفية لابن ناظمها وهي من أوليات الكتب النحوية؟ لو أنه قرأه لرأى فيه صفحة 127 من طبعة دمشق: يحذف حرف الجر وينصب مجروره توسعا في الفعل وإجراء له مجرى المتعدي، وقد يفعل نحو هذا بالمتعدي إلى واحد فيصير متعديا إلى اثنين كقولهم في كلت لزيد طعامه ووزنت له مالي. تقديره كلت زيدا طعامه ووزنته مالي، فلا خطأ في قولنا «أشكوه ما يجني» ولا في قولنا «أسلمت كفي كفه» ولا في قولنا «نؤجله الحساب» وإنما الخطأ والجهل في تخطئة هذا الصواب المجمع عليه، وهو قاعدة من القواعد المحفوظة المدونة في أمهات الكتب النحوية، ولعمري إن الرجل الذي يجهل مواقع البدل والمفعول لأجله، ويجهل حكم المفعول به، وهو لا يفتأ يعيد ذكره ويكرر إعادته، لحقيق أن يتعلم النحو في المكاتب الأولية، لا أن يتصدى بالتخطئة لأناس يعلمون النحو من هم أعلم به من هذا الأعجمي المأفون.
وجاء في المجلة ص489: وقال من قصيدة المنظار المقرب:
أنت عين من زجاج موقها
يجذب الأنوار من كل سماء
شرح الموق، فقال: هو الحدق، والموق طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع ولا دخل له بالرؤية، فلا يصح قوله: يجذب الأنوار من كل سماء ...
ذلك قصارى ما يلحنه العلامة الفهامة من لغة العرب، ولكن العرب يطلقون الجفن ويريدون العين، ويذكرون الجزء، ويعنون الكل، والموق بعد غير متفق على أنه طرف العين مما يلي الأنف، كما يقول هذا المتعسف الجهول؛ لأن الموق يطلق على مؤخر العين ومقدمها معا، كما جاء في لسان العرب وغيره من المعاجم، وفي اللسان يستشهد الشاعر: «والخيل تطعن شزرا في مآقيها» ولا أظن عقلا غير عقل علامتنا الكليل يفهم أن الطعن موجه إلى أطراف العيون مما يلي الأنف، دون سائر الأحداق!
وجاء في المجلة: وقال:
ما للأماني يستضحكن لي غررا
وقد سلوت ويستحدثن لي غزلا
واستضحك بمعنى ضحك فهو لا يتعدى إلى المفعول ...
المفعول مرة أخرى والتعدي مرات ومرات، فأما وقد أعلمناك - يا علامة - أن في اللغة شيئا يسمى المفعول لأجله، فاعلم يا هذا أن «غررا» هنا مفعول لأجله.
وجاء في المجلة: وقال: «فاحتلن لاستدراجي الحيلا» واحتال فعل لازم لا يتعدى، فالعبارة خطأ إلا إذا تكلفنا فجعلنا الحيل مفعولا مطلقا لاحتلن.
ونحن لا ندري ما التكلف هنا وليس المفعول المطلق - كما يعلم التلميذ الصغير - إلا المصدر المنتصب توكيدا لعامله أو بيانا لنوعه؟ هبه أراد أن يجيء بالمفعول المطلق في هذه الجملة بغير تكلف فكيف تراه كان يجيء به، أم امتنع المفعول المطلق من الكلام لئلا يكون في اللغة غير مفعوله الحبيب إليه؟
وجاء في المجلة: وقال من قصيدة الشتاء في أسوان:
ما طب جالينوس قي
س بطبه إلا غرور
وقيس حال من «طب جالينوس» وإذا وقع الماضي حالا وجب تصديره بالواو وقد، أو بقد، أو الواو وحدها. نعم ورد مثل «كما انتفض العصفور بلله القطر» ولكن هذا لا يقاس عليه.
لا يا جاهل. يقاس عليه ويقاس ويقاس! ففي القرآن:
أو جاءوكم حصرت صدورهم ، ومن الشواهد التي نذكرها لك ونتحرى ألا تكون إلا من كلام أقحاح العرب قول المثلم بن رياح:
تصيح الردينيات فينا وفيهم
صياح بنات الماء أصبحن جوعا
وقول المرقش الأكبر:
وتصبح كالدوداة ناط زمامها
إلى شعب فيها الجواري العوانس
وقوله :
قلقت إذ انحدر الطريق لها
قلق المحالة ضمها الدعم
وقوله:
هل تعرف الدار بجنبي خيم
غيرها بعدك صوب الديم؟
أمست خلاء بعد سكانها
مقفرة ما إن بها من أرم
إلا من العين تراءي بها
كالفارسين مشوا في الكمم
وقول صخر بن عمرو بن الحارث بن الشريد أخي الخنساء:
لنعم الفتى أدى ابن صرمة بزه
إذا راح فحل الشول أحدب عاريا
وقول سويد بن أبي كاهل اليشكري:
تمنح المرآة وجها واضحا
مثل قرن الشمس في الضحو ارتفع
وقول طرفة:
وكرى إذا نادى المصاف مجنبا
كذئب الغضا نبهته المتورد
وقول كعب بن زهير:
سح السقاة عليها ماء محنية
من ماء أبطح أضحى وهو مشمول
فهل يكفيك هذا أو نزيد؟
وجاء في المجلة: وقال:
أبدا تحوط به ودا
ئعها بسور خلف سور
وتحوط فعل متعد بمعنى تحفظ، وإنما أراد تحيط به فلم يحسن التعبير.
يا لهذا المفعول المسكين! يا ابن آدم نحن نقول لك: إن الفعل متعد حقا، وإننا أوردناه كذلك وجعلنا ودائعها مفعولا له، ولكنك أنت الذي تقرأ ولا تفهم. أما الفاعل فهو الضمير عائدا على الطبيعة التي تقدم ذكرها في بيت سابق.
بلد تجود له الطبي
عة بالصغير وبالكبير
وجاء في المجلة: وقال:
ما كان أول مغرب
شهدت على مر العصور
والمغرب مذكر لا يحسن وصفه بشهدت.
ومن واجب هذا الدعي أن يعقل قبل أن ينقد، فإن التأنيث هنا للشمس التي يعود إليها الكلام كله في الأبيات السابقة وأولها:
والشمس شاخصة تكا
د تنوء من جهد المسير
على أن المغرب تؤنث وتذكر، مؤنثة في كتب الفقه واللغة التي فات صاحب «لغة العرب» أن يطلع عليها.
وجاء في المجلة: وقال من قصيدة البدر والصحراء:
إيها أبا النور أطربنا فكم لك من
لحن على البيد لم يطرب له أحد
قال أطربنا فهو يريد الإطراب، فلا معنى لإيها فإنها للإسكات.
أخطأت وجهلت يا علامة! راجع لسان العرب تعلم أن إيها ترد «بمعنى التصديق والرضا بالشيء» كما ترد بمعنى الإسكات.
وجاء في المجلة: وقال: «ليست شآبيبك الحفلى بمغنية» ولم أستحسن الحفلى ...
ونقول له: «ونحن لا نحفل باستحسانك!»
وجاء في المجلة: وقال:
أراك تغوينني بوحي
إلى السماوات يزدهيني
لا يقال أغواني إلى الشيء ... نعم! ولكن يقال بوحي إلى السماوات، وهذا هو الذي قلناه، فافهم!
وجاء في المجلة: وقال:
يا طالما تخدع الدراري
لواحظ الشاعر الحزين
وتخدع مضارع فهو للحال، أو المستقبل، والمستقبل لم يجئ بعد، والحال أقصر من أن يطول، فضلا عن كونه لم يطل في الماضي. نعم يجوز أن تقول طالما خدعت، ولكن لا يجوز «طالما تخدع».
هكذا يعقل العربية هذا العلامة! ولو كان يتهجى النحو لعلم أن «ما» المصدرية تدخل على المضارع أكثر من دخولها على الماضي، وأن المضارع يكون للاستمرار، ولا يجوز هنا أن نقول طالما خدعتنا الدراري؛ لأنها تخدعنا ولا تزال تخدعنا في كل حين، فلم ينقطع الخداع بانقطاع زمن مضى، كما يتصور هذا اللغوي العجيب.
وجاء في المجلة: ثم قال: «كفاكم نومة المنون» وهو يريد تكفيكم، فإنهم لم يموتوا بعد.
ولو أن هذا الأعجمي يقيم فهم الجمل العربية كما يفهمها السوقة والصبيان على الأقل، لفهم أن العرب تقول: هداك الله وعلمك العربية، وكفاك شر الادعاء» وهم إنما يعنون يهديك، ويعلمك، ويكفيك.
وجاء في المجلة: وقال من قصيدة ليلة الأربعاء:
يمن الله سعيه من رسول
يطرق الأرض وافدا من ذكاء
والضمير في سعيه راجع إلى القمر و«يمن» لا يتعدى بنفسه.
لا يا أيها الدعي المتعسف! بل يتعدى بنفسه، ولهذا يجيء منه اسم المفعول على ميمون، ويذكر بغير حرف الجر.
وجاء في المجلة: وقال: «أذكرتني بك الكواكب» والصواب «أذكرتنا إياك فإن أذكر يتعدى بنفسه إلى مفعولين. عدنا ما أدري للمرة كم إلى التعدية والمفعولات، وليس أعجب من جهل صاحب «لغة العرب» إلا إقدامه على المنع بصيغة الجزم الذي لا مراجعة فيها، فليعلم إذن أن «الذكر» مجردا ومزيدا يتعدى بالباء كما جاء في القرآن الحكيم:
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله .
وليعلم - وأجرنا في تعليمه على الله الذي خلقه - أن الباء لا تكون للتعدية وحدها، ولكنها تأتي لاثني عشر معنى، وتدخل في بعض هذه المعاني على الاسم الذي يتبع الفعل المتعدي كما جاء في قول الراعي وهو عربي قح:
هن الحرائر لا ربات أحمرة
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
و«يقرأ» يتعدى بنفسه كما كان يقول علامتنا الجهالة لو حضر الراعي في أيامه.
وكما جاء في قول امرئ القيس: «هصرت بغصن» وهو يتعدى بنفسه.
وكما جاء في قول الأعشى: «ضمنت برزق عيالنا أرماحنا» وضمن يتعدى بنفسه أيضا، وكما جاء في القرآن:
لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي
وأخذ يتعدى بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن:
وهزي إليك بجذع النخلة
وهز يتعدى بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن:
فستبصر ويبصرون * بأييكم المفتون
وأبصر يتعدى بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
ويلقي يتعدى بنفسه إلى آخر ما ورد في فقه اللغة، وأدب الكاتب في هذا الباب.
فقبل أن تحفظ كلمة التعدية يا هذا الدعي الجهول، احفظ مواضعها وأحكامها، وتتبع شواهدها في كلام العرب، وكتب الأدب، ثم أقدم على تخطئة من له من التلاميذ أناس يعرفون ما تجهله أنت من مبادئ العربية والآداب، ومن لو رأى تلميذا في غباوتك أيام اشتغاله بتدريس النحو والأدب لألقى به إلى خارج الحجرة، لا يعود إليها إلا إذا عاد بعقل جديد.
ولقد أضعنا الوقت وأطلنا في مناقشة جاهل، بلغ من جهله ما يراه القراء، فلا لوم علينا؛ لأننا لا نعد من ضياع الوقت أن نكشف لقراء العربية كيف يشتهر مثل أنستاس الكرملي هذه الشهرة «باللغة» وهو من علم اللغة بهذا المكان الحقير، فإن في ذلك كما قلنا لعبرة، وإن فيه لتصحيحا لمقاييس الناس، وفتحا لأعينهم على حقائق الدعاوى والإشاعات.
روسو1
بعد مائة وخمسين سنة من وفاته هل فشلت الديمقراطية؟
عاش مظلوما طول حياته، وبقي مظلوما بعد مماته، وكانت رسالته في هذه الدنيا أن يرفع الظلم عن المظلومين!
لكل عظيم سخرية من سخريات القدر في تاريخه، وكل تاريخ «روسو » سخرية تتبعها سخرية، ومفارقة تتلوها مفارقة، فهو أستاذ التربية الذي ضاع أبناؤه في ملاجئ اللقطاء، وهو أستاذ الاستقلال الذي لم يعش في حياته مستقلا عن المعونة، وهو أكبر أبناء زمانه أثرا في العالم كله وأقلهم نصيبا من زمانه. عاش مظلوما ولا يزال مظلوما، ولبث طوال أيامه يرفع الظلم عن المظلومين!
أكبر أبناء القرن الثامن عشر أثرا في العالم كله يأكل خبزه مضيفا في بيوت المحسنين، والرجل الذي زعزع رواسي الأرض تحت أقدام النبلاء كان يصيب طعامه أحيانا على موائد النبلاء، فإن ضاق به هذا الرزق فهو خادم في قصر، أو معلم دروس موسيقية، أو ناسخ ينسخ نوطة التوقيع بدراهم معدودة، أو مقتات بأعشاب البرية يجمعها بيديه، أو شريد بين البلاد ينفر من كل إنسان، وينفر منه كل إنسان، ولد منبوذا مهملا، ومات منبوذا مهملا، وبخلت عليه الدنيا بقوت رجل، وجاد هو على الدنيا بدساتير أمم، وغذاء عقول ما له من نفاد.
عاش مظلوما وكانت الطبيعة التي أحبها وفتح محرابها أول ظالميه، وكان هو أكبر الظالمين لنفسه في حياته الفانية وسيرته الباقية، وإلا فما له ولهذه «الاعترافات» التي سجلها على نفسه وخلد بها وصماته، وأقام بها حجة الناس عليه وما هم بخير منه، ولا هو بأولى منهم بالندم والاعتراف؟ لكأنه تعود ازدراء الناس فأحب أن ينغمس فيه إلى قراره، أو كأنه زهد في احترامهم الباطل فقذف بذلك الاحترام في وجوههم وأبرز لهم أخفى خفياته ليقول لهم: ها أنا «روسو» حقير كما تشاءون، ولكني «روسو» بعد ذاك على كل ما ترونه في من عيوب!
ما أضعفه من قوي وما أقواه من ضعيف! شبهه كارليل بالمصروع الذي ينهض بالقابضين عليه حين تأخذه نوبة الصرع، ولكنه لا يتماسك من الضعف حين تفارقه النوبة، وربما أصاب كارليل في وصفه، ولكنه لا يقدح في شأنه ولا في شأن عمله؛ لأن ضعف هذا المصروع مصيبة عليه لا يشاركه أحد فيها، كما يشاركه جميع الناس في قوته، بل هو الضريبة التي يؤديها وحده ليغنم الناس ثمرتها دونه، فشكرا له على ذلك الضعف الذي فرضته عليه الطبيعة فملكته القوة وسيرته حيث سار، ولو ملكها لعرف كيف يستفيد منها لنفسه فلم يظفر منها الناس بكل ما ظفروا به غير شاكرين.
والحق أن للجهاد في الحياة بواعث قاسرة لا سلطان للمجاهد عليها، ولا قدرة له على تبديلها، فهو مخلوق للجهاد أكان خيرا ما يلقاه أم كان ما يلقاه الوبال والجحود، ولو كان الجزاء هو مبعث الجهاد في سبيل من سبل العقيدة لكان روسو أولى الناس أن يكف عنه بما جوزي به في أيامه، ولعله كان أولى بالكف عنه لو اطلع على جزائه بعد مماته، وعرف الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات في محكمة الذكر والإعجاب.
ربما كان القدح في روسو أكثر من الثناء، وربما كان الكلام فيه أكثر من الإعجاب، ولا تنس سوء النية في النقمة عليه، وتسفيه رأيه، وتصغير شأنه، فقد أسخط رجال الدين ورجال الملك، ولم يكن حقيقا به أن ينتظر الشكر من غير الدهماء المظلومين، ورجال الدين - كما يقول هيني - طوال الألسنة، ورجال الملك طوال الأيدي، ورجال الدهماء طوال الآذان، أو هم لا يسمعون!
فلو كان روسو شرا مما كان عقلا وقلبا لما عز عليه أن يظفر بأكبر من قسمته في الذكر والثناء، ولما كان بعيدا أن يقل القادحون فيه ويكثر المادحون له، وأن يزداد الإعجاب به وينقص الحقد عليه، فإن مقياس التقدير الذي تدخل فيه إرادة الناس كثير الاضطراب والتناقض والشذوذ، أو إن شئت فقل: إنه مطرد القياس، ولكن على غير وتيرة نضبطها وندخلها في حساب معلوم، وكيف يزن الناس أعماء العظماء إلا على الجملة أو على وجه التقريب؟ وكيف يزنونهم ولا حاجة بهم إلى وزنهم، وإنما حاجتهم أن يأخذوا ما يعطونه، كما يأخذون ضوء الشمس وأنفاس الهواء؟ فلا الناس مضطرون إلى وزن أعمال العظماء، ولا هم قادرون على تمحيص وزنها إذا اضطروا إليه، وآفة العظمة أنها شيء لا يوزن بالموازين العامة، وأن الناس لا يملكون الموازين العامة، وإن كان القباني أحيانا من الخواص.
وزد على ذلك الرغبة في الحذلقة وهي أشيع جدا من الرغبة في الصدق والإنصاف.
فلا يندر أن ترى بين الناقدين اليوم من يصرف فلسفة روسو كلها بكلمة واحدة، يأخذها على طرف كتاب، فمن هو روسو؟ هو حالم يقول بالرجعة إلى الطبيعة، ويزعم أن كل حكومة في الأرض إنما قامت بعقد بين الحاكمين والمحكومين، وهذه أحلام وتخمينات لا تليق بأبناء الزمن الحديث، فهل روسو الصحيح هو هذا «الروسو» الذي يتخيلون أم أن الحذلقة هي التي خلقته في الأوهام وهي التي قضت عليه ذلك القضاء؟ لا! إن روسو الصحيح يحلم، ولكن بتقويم المجتمع لا بتقويضه، ويقول بفكرة «العقد الاجتماعي» التي قال بها من قبله، ولكنه يهذبها أحسن تهذيب وصلت إليه هذه الفكرة في كل زمان، وهو أعظم في عمله الأدبي وعمله التشريعي من جميع معاصريه واللاحقين به، أعظم من منتسكيو؛ لأنه يستمد الشريعة من حياة الإنسان ومنتسكيو يستمدها من نصوص القوانين، وأعظم من فولتير؛ لأنه مبتكر مخلص وفولتير قليل الابتكار قليل الإخلاص، وأعظم من ديدرو؛ لأنه تجاوز عصره وديدرو لم يبرح مستغرقا فيه، ولعله لا يضارع بعض هؤلاء في سعة التفكير وملكة السخر، ولكنهم بلا مراء لا يضارعونه في نفاذ البصيرة، وصدق الإلهام، وقد أجمل تقديره الأستاذ كول مقدم مؤلفاته في اللغة الإنجليزية فقال: «لم يكن لكاتب آخر في زمانه مثل ما كان له من الأثر البعيد، فيصح أن يقال: إنه هو أبو الحركة الرومانية في الفن والأدب والحياة، وإنه كان عميق الأثر في المدرسة الألمانية الرومانية وجيتي في مقدمتها، وهو واضع التحليل النفسي الذي فشا بعد ذلك في آداب القرن التاسع عشر، وهو البادئ بنظريات التربية الحديثة، وهو فوق هذا جميعه يمثل الانتقال في عالم السياسة من المذهب العتيق المتأصل في القرون الوسطى إلى فلسفة الحكومة العصرية، وقد كان سلطانه على فلسفة «كانت» الخلقية، وعلى فلسفة الحق في مذهب هيجل جانبين من جوانب مشاركته الأساسية في الفكر الحديث، وهو في الواقع هو الرائد العظيم للمثاليين عند الألمان وعند الإنجليز.»
ولقد يضاف إلى ذلك أنه هو رائد المدرسة الروسية الحديثة في الرواية، وفي الغوص على دخائل النفس الإنسانية، وأنه هو سابق الطبيعيين المصارحين من الشعراء والأدباء الفرنسيين والألمان والإنجليز، فهو سابق شاتوبريان وجين بول ريختر وبيرون، وهو إلى اليوم ظاهر الملامح في الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وفي كل أدب تناولته رسالته في عالم الكتابة وعالم التشريع، وقد تناولت رسالته في هذين العالمين جميع الأقوام.
لم يكن روسو قريب الصلة بالجمهور؛ لأنه كان يكتب في النظريات السياسية من وجهتها الفلسفية التي يعنى بها المفكرون والعلماء، ولا يعنى بتوجيه الخطاب إلى سواد القراء، ولعل هذا الذي أغفل عنه أصحاب السلطان فأمنوا جانبه، ووادعوه وخولوه بعض الحرية في شرح نظرياته مع مداراة قليلة كان يلجأ إليها لإخفاء مقاصده التي يفزع منها المستبدون، ولكن المداراة لم تخف تلك المقاصد عن قرائه، ولم تحل بينه وبين إطلاق نفس الفرد فيما يحسه من علاقته بالحياة وعلاقته بالحكومة، فأطلقت اعترافاته وقصصه حرية الفرد في عالم الفكر والشعور، كما أطلقت مباحثه حرية الفرد في طلب الحقوق ودفع المظالم، وكان له فضل لا يدانيه فضل كاتب ولا خطيب في إنشاء الديمقراطية الحديثة ونقض أساس الحكم القديم.
واليوم يذكره الفرنسيون بانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، والكتاب والمفكرون والساسة يعيدون النظر في الديمقراطية الحديثة ليسألوا: هل تصلح الديمقراطية لحكم الشعوب أم تراها فشلت بعد التجربة ، وآذنت بإخلاء المكان لنظام جديد؟ والناقدون قد يجدون للديمقراطية عيوبا تحتاج إلى إصلاح، فهذا غير غريب ولا منكور في عمل يأتي به الآدميون ولا سيما أعمال السياسة وتدبير الحكومات، ولكنهم يخطئون جد الخطأ إذا هم نقدوا الديمقراطية؛ لأنها لم تحقق للأم مرتبة الكمال المطلق في سياسة الشعوب، فإن الكمال المطلق لا يتاح لنظام ولا يدعيه أحد لما جربناه أو ما سنجربه من الأساليب المنظورة في المستقبل، وحسب الديمقراطية أن تقابل بالنظم الأخرى فترجحها في طول الزمن، ويثبت للناس أن جيدها خير من جيد الحكومات، وهذا ثابت إلى اليوم؛ أن القائلين بثبوته أضعاف أضعاف القائلين بثبوت سواه.
وما من قلق ينسب إلى الديمقراطية في هذا العصر إلا وهو مردود إلى بقايا الحكومة المطلقة وآثار الاستبداد القديم، فالقلق في إسبانيا علته الحكم المطلق لا الحكومة الديمقراطية؛ لأنها لم تكن قط ديمقراطية في تاريخها القديم والحديث، والقلق في إيطاليا علته كذلك حكم القرون الماضية، وحكم الفاتحين المستبدين لا الحكومة الدستورية التي لا عراقة لها في تلك البلاد، والأمتان العريقتان في حكم الدستور في القارة الأوربية هما الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية، وهما مثلان بارزان على فضل الحكم الدستوري ورجحانه على حكم الاستبداد، ولا خلاف في أمر إنجلترا، ولكنهم قد يختلفون في أمر فرنسا، وهي فيما نرى غير قابلة للخلاف، فقد كانت فرنسا كثيرة الثورات فبطلت فيها الثورات، وكانت عرضة للقحط والمجاعة فها هي الآن غنية تقابل ثورات الحرب وزلزال الأسواق بصدر رحيب، وكانت حروبها لا تنقطع وخصوماتها على حقوق العرش لا تنقضي، فها هي الآن لا حروب على العرش ولا خصوم، وكانت تفقد أملاكها في عهد الحكم المطلق، فها هي في عهد الدستور تضيف أملاكا إلى أملاك، فحاضرها خير من ماضيها، وحكمها على عهد الدستور خير من حكمهما على عهد أقدر الملوك المطلقين.
وليس من صحة النقد أن نحسب على الديمقراطية بعض القلق في إسبانيا وإيطاليا، ولا نحسب على الحكم المطلق ثورة الشيوعية الجائحة في البلاد الروسية، فلا مراء في أن الحكم المطلق مسئول عن ثورة الشيوعية وعن العيوب التي أثارتها، ولكن ما أكثر المراء في رد أسباب القلق في البلاد الأخرى إلى الحكومة الشعبية! وما أولاها أن تكون من نقص تلك الحكومة وحاجتها إلى التمكين والتكميل.
لم تفشل الديمقراطية في تجاربها، ولم تأت ذكرى روسو بعد موته بمائة وخمسين سنة في أوان لا يناسب مجد ذكراه، ولكن لعل هذه الغاشية العابرة ظلم جديد تعود هذا المظلوم الذي راح يرفع الظلم عن الناس!
فولتير الساخر1
روسو وفولتير اسمان لا يفترقان. كتبت لهما الصحبة في الممات، وفي الأثر، وفي الخلود، وفي التربة، وكانا في الحياة مفترقين يتراشقان بالتهم، ويتلامزان بالألقاب.
ماتا في سنة واحدة وتعاد ذكراهما اليوم معا بعد انقضاء مائة وخمسين سنة على وفاتهما في سنة 1778، ولما نفي نابليون إلى جزيرة إلبا نبش قبراهما ووضعت عظامهما معا في غرارة وألقي بها في الجير المتقد على قارعة الطريق، جزاء لهما على نقد رجال الدين، ونقد الملوك المستبدين! ولو شاءت تلك العظام أن تتكلم لما استطاعت أن تنال من رجال الدين وعصابة المستبدين بعض ما ناله هؤلاء من أنفسهم بتلك السخيمة البذيئة، ولو أعوز الحكيمين العظيمين برهان على صواب ما فعلاه في الحياة من تحطيم تلك الأصنام البالية، وتقويض تلك العروش الخاوية لتكفل رفاتهما المحترق بتكميل ذلك البرهان الناقص. إذ أي شيء أولى بالتحطيم والتقويض من آداب أناس لا تصان بينهم عظام الأموات في مقرها الأخير؟
ولد فرنسوا ماري أرويه في باريس سنة 1694، ولم يكن اسم فولتير إلا توقيعا مستعارا عرف به في عالم الكتابة دون اسمه واسم أبيه، وقد تعلم بمدرسة اليسوعيين فحفظ لها أجمل الذكرى في نفسه إلى آخر أيام حياته، وإن كان فيها قد شحذ السلاح الذي شهره بعد ذاك على الكنيسة والقساوسة والنظم المرعية في زمانه.
وما كان أحد ممن رأوه في طفولته يقدر له التعمير، أو بلوغ سن الرجولة لضآلته وهزاله ورجفانه من فرط العصبية لأقل هياج يعتريه، ولكنه على ضعفه وتوفز أعصابه قد عمر حتى نيف على الثمانين، وكافح شدائد الحياة وهزال البنية بالصبر والوقاية، وحسن التدبير، ولم يستتم نضجه في الكتابة والتفكير إلا بعد أن جاوز الستين!
وقد أراده أبوه على أن يدرس القانون مثله، فتظاهر بإرضائه وهو عاكف على النظم ومطالعة الكتب الأدبية، وجره نظم الشعر إلى السجن وهو في مقتبل شبابه لولعه بالهجاء اللاذع والسخر المؤلم، فمكث فيه إلى أن أفرج عنه الوصي على الملك لويس الخامس عشر، وما بلغ الخامسة والعشرين حتى مثلت له «أوديب» في مسرح «الكوميدي فرانسيز» ثم وظفت له الحكومة ما يساوي مائة وعشرين جنيها في العام، وهو مرتب لم يكن بالقليل في تلك الأيام.
وحظي فولتير عند العظماء والنبلاء، وكبرت مكانته بينهم ، فرضي عنه من رضي ونقم عليه من نقم، ولم يكن في وسعه أن يرضيهم جميعا لتنافسهم، وتباغضهم، واستطالته هو بالتنكيت والسخرية على بعضهم في مجالس الآخرين؛ فبينما هو في قصر الدوق دي سلي ذات ليلة إذ استدعاه إلى الباب شرذمة من الطغام بعث بهم الدوق دي روان ليضربوه ويهينوه، فانهالوا عليه ضربا حتى أشرف على الموت، وراح فولتير بعدها يقيم القيامة على الدوق دي رواه ويستدعيه إلى المبارزة، فقبضت عليه الحكومة، وزجت به في سجن الباستيل، ولم ينطلق منه إلا على شرط أن يختار لنفسه النفي، ويهاجر إلى بلاد الإنجليز.
وقد أجدت عليه هذه الهجرة فتعلم فيها كثيرا، وظهر أثرها في كتاباته عن النظم الدستورية وحملاته على الحكومة المطلقة، ثم قفل إلى فرنسا فكسب ثروة عظيمة بالمضاربة في أوراق الحكومة المالية، واستفاد من حصافته وذكائه في هذه الشئون، ومن مقدرة فيه على اصطياد الكسب، لم تفارقه طوال حياته، وشغف في هذه الفترة بالمركيزة دي شاتليه، فأخلص لها الحب وكانت هي المرأة الوحيدة التي شغلت باله، وعلقت ذكراها بقلبه، فلما ماتت لم يطق البقاء في فرنسا ولم يكن فيها آمنا على حريته، فقبل دعوة فردريك الكبير ملك بروسيا، ولبث في ضيافته سنتين حتى سئم أطوار هذا الملك الغريب، وسئم الملك أطواره، وهي مثلها في الغرابة إن لم تكن أغرب، فترك برلين ولاذ بمنزل معتزل على بحيرة جنيف عاش فيه إلى قبيل وفاته.
وعاد إلى باريس قبيل موته بثلاثة أشهر وأيام، فجن جنون المدينة احتفاء به، وتخفى النبلاء في ثياب الخدم ليظفروا بنظرة إليه، وجعل لا يظهر في مسرح إلا تعالى الهتاف بحياته، وغمرته آكام الورود والرياحين، ولا يسير في الطريق إلا ووراء مركبته رتل من مركبات الأصحاب والمعجبين، حتى احتاج إلى الراحة والسكينة، فأوى إلى صومعته على البحيرة، وأدركته الوفاة فضنت عليه الكنيسة بقبر؛ لأنه لم يكن يدين بالشعائر الكاثوليكية، وقديما ضنت عليه الأكاديمي بكرسي فيها؛ لأنه لم يكن يدين بتلك الشعائر!
قال كارليل: «أصبحت ملكة الاستهزاء في فولتير أقوى مزاجه ، فلم يكن سؤاله الأول في أمر من الأمور عما هو حق فيها بل عما هو باطل، ولم يكن يعنى بما يحب منه، ويوقر ويناط بالقلب، بل بما ينكر ويزدري ويضرب به عرض الحائط في لهو ومجانة، وفي هذا قد أصاب حقا أكبر الظفر والغلب، ولكنه لم يدخر من الثروة الصحيحة إلا القليل، أما الإكبار، وهو أعلى ما يتاح لطبيعة الإنسان من الشعور، والتاج الذي تزدان به مروءته، والذهب الثمين في نقده فما كان يلوح عليه أنه عرف منه حتى الساذج في التبر رغامه، أو سمع بخبره في مأثور الأخبار، وكان مجد المعرفة والإيمان غريبا عنه ولا عهد له بغير التنفيذ والتفسير؛ ومن ثم لم ينفذ ببصره في أعماق الطبيعة، ولم يتجل له قط في بعض لمحاته ذلك «الكل» القادر في جماله وغموضه السرمدي، وجلاله الشامل الذي تغيب في أطوائه الأنانية الصغيرة، وكل ما تجلى إنما هو هذا الجزء أو ذاك بين أجزاء «الكل» الشامل، وما قد يكون بين الجزئين من الفروق أو يكون فيهما من العيوب، فنظرته إلى الدنيا نظرة محصورة، وصورة الإنسان في ذهنه صورة صغيرة، فإذا أنت محصتها لم تسفر لك إلا عن هيئة سوقية، ولم تجد فيها إلا مرآة أو مرايا تنعكس فيها «الذات» ومصالح «الذات» الضئيلة، وما كانت الفكرة الإلهية الكامنة في قرار جميع الظواهر أخفى على أحد من خفائها عليه، فإذا قرأ التاريخ فهو لا يقرؤه بعين بصير ملهم، كلا، ولا بعين ناقد نفاذة، وإنما يقرؤه بنظارتين من العداء للكثلكة، وما كان تاريخه رواية رائعة تمثل على مسرح السرمدية الذي تضيئه مصابيح الشموس، وتخلفه ستائر الآباد، والذي يكتبه الله وتفضي بنا شتى مغازيه إلى عرش الجلالة المحجب بالأنوار، كلا! بل هو نادى حوار ممل متعب متعاقب عليه الدهور بين أصحاب الإنسكلبيديا وأصحاب السربون، فليس ما نراه في فولتير عظمة بل هو الحذق البالغ، وليس هو القوة بل النشاط والحركة، وليس هو العمق بل هو السطحية المحدودة.»
ولقد أصاب كارليل في مجمل تقديره، ولكن مع بعض الفلوتيرية التي أخذها هو على فولتير، فهو يحمل المعول الفولتيري في نقد الرجل، وينظر فيه إلى «ما ينكر ويزدرى ويضرب به عرض الحائط، لا إلى الذي يحب منه ويوقر ويناط بالقلب.»
فللرجل عذره في السخر وقلة الإكبار والاحترام؛ لأنه لم يكن يجد فيما يراه إلا النفاق، والخواء، والتداعي في كل جانب ألقى عليه بالنظر، وكذلك كان يفعل معاصره دافيد هيوم ومواطن كارليل، وهو لا ينتمي إلى أمة الإنكار والاستهزاء التي يحب كارليل أن يرد فولتير كله إلى طبيعتها الفرنسية.
على أن فولتير لم يكن بالمنكر البحت؛ لأنه كان ينكر الكنيسة وشعائرها ولا ينكر الله وعقيدته، وقد بنى كنيسة «لله»؛ لأنه كان يقول: إن الكنائس كلها تبنى للقديسين، وهو يعبد السيد ولا يعبد الوصفاء والحجاب!
وليس من المعقول أن يتأصل حب العدل في نفس منكرة نافية كما تأصل في نفس فولتير، فالذي ينفي كل شيء ويستهزئ بكل شيء، لا يعجب للظلم يغشي أحدا في هذه الدنيا ولا يثور لنصرة المظلوم حتى لينصره بعد موته، أو لمكافحة الظالمين حتى ليغامر في سبيل ذلك بحياته ورغده، ولك أن تسمي هذه الثورة تحديا، وغرورا، وإفراطا، في القوة الغضبية والكبرياء، ولكنك لن تستطيع الرجوع بها إلى الإنكار البحت، والنفي المطلق، إذ المنكر النافي لا يعرف كيف يحارب في صف دون صف، ولا كيف ينجذب إلى ناحية دون أخرى، والمنكر النافي لا يعنيه أن يتغلب فريق على فريق أو نظام على نظام؛ لأنهم سواء كلهم عنده في الخواء، وقلة الجدوى، واستحقاق الغبن، أو المحاباة، فإذا شغلت الظواهر الخادعة ذهن فولتير عما وراءها فبقوة من الحقيقة الكامنة وراء الظواهر يشتغل ذهنه بتمزيق ذلك الرياء، وتحقير ذلك الاحترام الكاذب، ولن تضن بالاحترام على غير أهله نفس تجهل قيمة الاحترام الصحيح ولا تبالي أن يناله من يستحقه ومن لا يستحقه، وإلا فماذا يهمك أن تقف حياتك كلها على تحقير الحقراء إذا كان الاحترام الصحيح عندك ليس بالشيء الخطير الذي تأباه على أولئك الحقراء؟ وقد يكون فولتير قليل الشعور بمصائب الأرواح، فلا عزاء لها عنده، ولا محل لها في حسابه، وقد يكون زميله روسو أحس بهذه المصائب وأكفل لها بالعزاء، ولكن من أدرانا أنه لو لم يحمل السيف في الميدان لكان أقمن أن يحمل البلسم وخيمة الإسعاف! فطيبة الرجل وسخاؤه بالمال على المعوزين، مع حبه للمال وحرصه عليه، وغيرته على العدل، ووفاؤه للصديق، وتلهبه لنصرة المظلوم، وإيمانه بالله في عصر الجحود صفات لا تكون في غير العاطفة الحية والطبائع النبيلة، وما ينبغي للجندي القادر على الحرب في ميدان الكفاح أن يطالب بخصال الكهان، وأخوات الرحمة الذين يرافقون الجيش لجبر المكسور، ومؤاساة الأرواح، وفولتير كان جنديا طول حياته فلا نطالبه بما لا يتفرغ له الجنود، ولو كانوا من ذوي الرحمة، وحسن العزاء.
ولم يكن فولتير واسع الروح ولا عميقها، ولا فيلسوفا ولا شاعرا ولا مؤرخا بين النخبة المختارة من الفلاسفة والشعراء والمؤرخين - هذا حق كما يقول كارليل - أو أقرب منه إلى الحق أن نقول: إنه كان يعاب في الفلسفة والشعر والتاريخ، حيث يحتاج الأمر إلى سعة الروح وعمق الإدراك، ولكنه بعد فيلسوف وشاعر ومؤرخ في كل ما يتوفر لهؤلاء من جلاء النظرة، وسداد الفطنة، وحصافة اللب، وسرعة الخاطر، وقوة العارضة، وهذه ملكات لا يستغني عنها الفلاسفة والشعراء والمؤرخون، ولا يكون الذي تتوفر له صاحب نصيب قليل في هذه الأبواب.
كان فولتير فياضا كالعباب الزاخر، لا ينفد ولا يخذله القلم في مقام، أسلوبه أسلوب الوضوح والسهولة والترسل بلا كلفة ولا تمحل كثير، وذهنه يتساوى سخاؤه في البحوث وسخاؤه في كتابة الرسائل للأصدقاء والمعارف والسائلين والمستفسرين، فله الآن عشرة آلاف رسالة محفوظة غير ما ضاع بينه وبين مراسليه؛ وكلها بأسلوب واحد في الوضوح والقدوة والفصاحة والسلامة من نقائص التركيب، وكلها تكاد تضارع مؤلفاته المحتفل بها في صفاء العبارة، وحسن الأداء، أما هذه المؤلفات فكثيرة منها في الفلسفة معجم الفلسفة ومحاورات لا تحصى، وفي التاريخ عصر لويس الرابع وشارل الثاني عشر، وفي الروايات زيروميزوب ومحمد وتانكرد وروما الناجية، وفي القصص صديق وقنديد، وهذه الأخيرة خير ما كتب في تقدير نقاد الفن والحكمة، حتى لقدا قالوا: إنها تغنيه عن جميع تصانيفه لو قضي عليها بالفناء.
وبعد فما الكتابة عن فولتير في هذه العجالة؟ هي تحية ليس إلا في هذه الذكرى التي يجددون بها عمله اليوم، وإلا فقد كان فولتير دولة أدبية لا تماثلها دولة أديب، وكان أوسع نطاقا من أن تحصره مقالة أو سفر كبير.
سير العظماء1
أطلعني كاتب زميل على كراسات مطبوعة من سير فلوطرخس التي ينقلها إلى العربية؛ لأكتب لها مقدمتها، وليس أحب إلي من ظهور هذه السير باللغة العربية؛ لأنها معرض واسع للعظمة في نواحيها المختلفة من حرب، وخطابة، وسياسة، وفلسفة، كما أدركها رجل واسع الإدراك حصيف الذهن نقادة مميز بين اللباب والقشور والحقائق والأباطيل. كشف النقاب بنافذ بصره عن أوهام كثيرة طالما انخدع بها أبناء عصره، ويخيل إليك وأنت تقرأ تراجمه للعظماء أن الترجمة خرجت مكتوبة وحدها لفرط بساطتها، وانساجمها وموافقتها لمجرى الأمور الطبيعية وملابستها للعظيم الذي تمثله وتكسوه بغير فضول ولا تعمل، ومشابهتها للخلائق الحية التي تحيا لنفسها، وتسير على قدميها، وتتماسك أعضاؤها وأنت لا تدري كيف كان مساكها، ولكنك إذا أقبلت تدرس المقدرة التي أتاحت لفلوطرخس أن «يعاطف» العظمة في كل نوع من أنواعها هذه المعاطفة السهلة البديهية التي توهمك أن الرجل يتكلم عن أبنائه أو معارفه وأهل جيرته بعلم أصيل ، واسترسال لا أثر للكلفة فيه تبين لك أنه عظيم، خلق لفهم العظماء ودرسهم كأنه لا يدرسهم، والحكاية عنهم كأنه يحكي عن حوادث كل يوم، أو عن أبناء الأغمار التي لا غرابة فيها، ونقص كبير في المنقولات العربية أن تظل محرومة من سير فلوطرخس وهي تغص بالمترجمات من أبطال القصص الفارغة التي لا فائدة فيها، ولا هي تداني تلك السير في المتعة والإيحاء، واستجاشة العواطف والأفكار.
أطلعني الكاتب الزميل على تلك الكراسات وأنا أتبع سير فلوطرخس حديث ظهرت مؤلفاته وانتشرت بعد الحرب العظمى، وإن كانت له سمعة سابقة في وطنه بترجمة النوابغ والأبطال، وهذا ال «فلوطرخس» الحديث هو «إميل لدفج» الألماني الإسرائيلي مترجم المسيح، وجيتي، وبسمارك، وولهلم الثاني، ونابليون، وكاتب عشرات من التراجم الصغيرة الموجزة التي لم ينقل منها إلى اللغات الأخرى إلا القليل، و«إميل لدفج» هذا حقيق بأن يعد في طليعة المختصين بالترجمة للأبطال والعظماء بسهولة تداني سهولة فلوطرخس، وبساطة تماثل بساطة الأساتذة الأقدمين، لم يفسدها تعمد التحليل، واعتساف «النظريات»، وكانت دراسته الأولى للقانون ثم تحول عنه إلى الرواية التمثيلية، ودون سيرة بسمارك في هذا القالب، فنبهته هذه المزاولة إلى استعداده الفطري، وملكة التخصص فيه، فعدل إلى كتابة «السير»، وجرى فيها على نمط شائق يعنى فيه بالحياة الداخلية أشد من عنايته بالوقائع الخارجية، ويفرغ به شيئا من الجدة على السير التي ألفها القارئ، ومسحة من الإنسانية المألوفة على كل عظمة، يرفعها التطويب والتقديس إلى مراتب الغرابة المنقطعة والإعجاز المعزول.
يقول «لدفج» في الفصل الأخير من كتابه على نابليون: «إن كتابة تاريخ إنسان وكتابة تاريخ حقبة من الزمن عملان منفصلان يختلفان في الاسم وفي الصنعة، وقد فشلت كل محاولة أريد بها التوفيق بينهما، وأنكر فلوطرخس إحدى الطريقتين، وأنكر كارليل الأخرى، ولهذا أفلح كلا الأستاذين في إنجاز عمله، ومن الإنصاف أن نقول: إن مثال فلوطرخس لم ينسج على منواله ناسج، فلا أحد بعد قد صرف همه إلى كتابة تواريخ العقول الكبيرة على أساس تاريخي بغير تصرف.»
ثم يقول لدفج: «إذا أردنا أن نصور حياة حافلة كحياة هذا الرجل لم يكن لنا بد من أن نصبغها بألوانه، فلا غنى للكاتب عن الرجوع إلى كلام صاحب الترجمة، ولا خوف من الإفراط في هذا الصدد مهما أفرط، إذ الواقع أن كل إنسان أقدر على شرح نفسه من أي إنسان غيره، فهو وإن خطأ أو كذب يكشف عن ذات نفسه للذين يخلفونه، ويعرفون الحق من أمره، على أن الكاتب أيضا ينبغي أن ينسى أنه يعرف الخاتمة؛ لأنه لا يسعه بغير الانتقال من لحظة إلى لحظة ووصف الإحساسات المرهونة بأوقاتها كما يحسها من لم يسبقها إلى النهاية المحجوبة، أن يحدث ذلك الشوق الذي يملأ ملاحقة الحوادث بالخوالج الحية.»
هذا هو مذهب لدفج في كتابة الترجمة، فهو لا يفصل بين الأبواب والعهود، ولا يعير الحوادث الضخمة عنوانا أكبر من عناوين الأخبار الدارجة والكلمات التي تقذفها المناسبة في عرض الكلام، ولكنه يمزج بين حوادث اليوم الواحد أتم المزج إذا كانت كلها ترجع إلى العوامل التي خلقها ذلك اليوم في سريرة البطل المترجم، منظورا فيها إلى أيامه المتتابعة وظروفه الحاضرة، فربما عرض لك الكارثة الحربية إلى جنب النكتة المرتجلة، وجمع بين الاثنين وبين وسواس العاشق وحنان الأب وضعف الطبيعة الآدمية، فتحس وأنت تقرأ هذا جميعه أنه وليد حالة نفسية واحدة حقا، وأن الأثر الكبير كالأثر الصغير في مرجعه إلى تلك الحالة النفسية، وعن هذا الأسلوب يقول لدفج: «إنه من السهولة بمكان لكل كاتب عرف أن جدود الإنسانية كبيرها وصغيرها مقدرة على السواء، فعرف من ثم أن الله هو المؤلف الأكبر لرواية الإنسان.» ولكن الحقيقة أن الأسلوب الذي اختاره لدفج وبرز فيه هو أصعب أساليب التراجم؛ لأنه بمثابة خلق رجل تصدر عنه أعماله وأقواله عفو البديهة، وفاقا للأخبار التي رويت عنه والظروف التي أحاطت به، وأسهل جدا من هذا أن يؤرخ الكاتب الحوادث بعناوينها ولا يضعها في موضعها من نفس صاحبها، أو يقرنها هناك إلى بواعثها وهو يتجاهل الخواتم التي يعلمها ليحس كل حادثة في حينها، كما أحسها العائشون معها ، فليس كل كاتب تهيأت له المعلومات من تاريخ نابليون أو جيتي أو المسيح أو ولهلم الثاني بقادر على أن يصنع كما صنع لدفج، وينشئ نفسا يعيدها في الحياة يوما فيوما بغير غفلة عن الماضي ولا تعجل للمستقبل، حتى ليبلغ من ارتباط الأمور بمجراها المألوف أن ينسى القارئ كل غرابة ويذهل عن مواضع الامتياز في طبائع أولئك الأفذاذ الممتازين؛ لأن كل شيء في مكانه وكل خبر في سياقه المعهود، فلا محل للدهشة ولا مثار للإعجاب والاستغراب، وتلك مزية بولغ في استيفائها حتى انقلبت إلى هفوة يلام عليها بعض اللوم، فقد أرضى الكاتب حاسة «التوقع» في كل صغيرة حتى أخلف التوقع في جملة الصغائر والكبائر، فإذا قرأت نابليون مثلا وأنت تتوقع أن ترى فيه «شيئا خارقا للعادة» كدت أن تنتهي منه جزءا جزءا وأنت لا ترى شيئا خارقا للعادة في نابليون بحذافيره؛ لأن أجزاء نابليون قد تناسقت لديك كما تتوقع بغير خلاف، ولهذا كنا نفضل ألا يستطرد المؤرخ الكبير في أسلوبه بتلك السهولة وذلك الانسجام، وأن يعمد إلى التركيز من حين إلى حين ليستوقف السياق المألوف، ويطلع قراءه على مواضع الغرابة والتقديس في البطل الممتاز، كما أطلعهم على شئونه التي تجري في الحياة مجرى العادة والعرف المشاع.
ولا يظن القارئ أن «لدفج» أهمل تعليل العظائم في تراجم عظمائه، أو خفيت عليه معجزاتهم، وغابت عنه العناصر الإلهية في خلائقهم الآدمية. كلا! إن لدفج لم يهمل علة ولم تخف عليه معجزة، ولا سها عن عنصر من عناصر القدرة الخارقة في تلك الخلائق المعهودة ولكنه صب معادنهم صبا في قالبها الجامع حتى تاهت العظائم في الزحام، واحتاجت في ذلك الحشد الزاخر إلى تنويه وإعلام، وحتى خيف على العظمة من فرط التسهيل والتبسيط أن يجترئ على هيبتها كل مجترئ ويستباح ذمارها لكل طامع.
وهنا نسأل: أيهما أفضل في تاريخ الأبطال، أن نسلك في تصويرهم سبيل التطويب والتقديس والتوجه إلى الغريب والمعجزات، أو سبيل التبسيط والتسهيل والتوجه إلى المألوف المشاع المطمع في التحدي والمحاكاة؟
والواجب أن نعلم : لم نكتب ترجمة العظماء قبل أن نتفق على الأسلوب لترجمة العظماء؛ فنحن نكتب هذه التراجم لإرضاء الشغف النفسي بالوقوف على كل سر، والإحاطة بخفايا الوجود، ولا سيما خفايا النفس الإنسانية التي هي قبلة الإنسان، وغاية ما يشغله ويستجيش عطفه وتفكيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نكتب تراجم العظماء لإنصافهم وتقديرهم وإعطائهم حقهم من جزاء التبجيل والإعجاب، ثم نكتبها من جهة غير هذه وتلك؛ لنستحث المقتدين بهم على ترسم خطواتهم والتطلع إلى مراتبهم؛ وفي كل غرض من هذه الأغراض لا ينفعنا أن ننفي عنصر الغرابة والتقديس من تراجم العظماء، أو ندمجه في سياق العرف المألوف، إذ العرف المألوف لا يستفز القدوة، ولا ينصف العظمة، ولا يبعث الشوق إلى المعرفة، فإبراز جوانب الغرابة والتنويه بها هو الأساس في تراجم الأفذاذ الذين ما كانوا أفذاذا إلا لأنهم غرباء يختلفون عن سواد الناس، فإذا دعانا الحق إلى الأمانة والتدقيق في تصوير حياة العظيم، ورد عناصرها إلى أسبابها المعقولة بحيث لا تبدو عليها مناقضة للحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفع ذلك بما يوازن هذه الأسباب المعقولة والحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفعه بما يظهر للناس أن تلك الأسباب لا تكون معقولة ولا طبيعية إلا مع نابليون مثلا، أو جيتي، أو ولهلم الثاني، أو المسيح، فمعقول وموافق للطبيعة وغير عجيب ولا مدهش أن يعمل هؤلاء ما عملوا ويحدثوا في تاريخ الإنسان ما أحدثوا، ولكن لماذا كان ذلك معقولا منهم وموافقا للطبيعة منهم وغير عجيب ولا مدهش منهم وإن كان فيه العجب كل العجب، والدهشة كل الدهشة من الآخرين؟ ذلك لأنهم غرباء عن المألوف، لا لأنهم مألوفون يدخلون مع سواد الناس في نسق واحد، وهذا الذي يجب أن يبين، وهذا هو الغرض من ترجمة العظيم، سواء كان ذلك الغرض إرضاء الشوق النفسي، أو إرضاء العظيم، أو حفز الهمم الطامحة إلى الاقتداء.
وقد يكون هناك محال لسؤال آخر وهو: هل الأفضل تاريخ العظيم في نفسه، أو في ظروفه الخارجية؟ ولكننا نعتقد أن الرأي في هذا مجمع عليه ، أو ينبغي أن يكون مجمعا عليه؛ لأن الظروف الخارجية لن تعنينا في شيء إن لم يكن وراءها كشف عن حقيقة نفسية في حياة المترجم له. نعم إن الحربيين - مثلا - يدرسون وقائع نابليون ويرتبون عليها ما يرتبون في علم التعبئة وقيادة الجيوش، ولكنهم يدرسونها علما مستقلا عن كل إنسان، كعلم الرياضة الذي تتساوى حقائقه في جميع الأزمنة وبين جميع الأفراد، أما إذا التفتوا إلى إحصائها ودرسها لأنها جزء من نفس نابليون، فهنالك تكون الحقيقة النفسية هي المقدمة في التصوير، وتكون الوقائع الخارجية هي الوسيلة إلى ذلك الغرض الأصيل.
تاريخ المسيح لإميل لدفج1
1
كان إميل لدفج الذي أشرنا إلى تراجمه للعظماء في المقال السابق موفقا في ترجمته لنابليون وبسمارك، وأقل من ذلك توفيقا فيما ظهر من ترجمته للشاعر جيتي باللغة الإنجليزية، ولكنه لم يصب توفيقا يذكر في ترجمته لولهلم الثاني، ولا في ترجمته للسيد المسيح.
فأما ولهلم الثاني فقد رسمه من جانب واحد لم يلتفت إلى غيره، هو الجانب المعيب المبالغ فيه، أو هو الجانب الذي أظهرته الدعاية السياسية من لدن أعدائه في البلاد الخارجية، وخصومه في الأحزاب الألمانية، وزاده تحيزا على تحيز أنه إسرائيلي يكتب عن عاهل كان معروفا بالغلو في الوطنية الجرمانية والاحتراس من معاشرة الإسرائيليين، فالذي يقرأ سيرة ولهلهم الثاني بقلم إميل لدفج، يخيل إليه أنه يقرأ قصة إنجليزية من قصص الحرب العظمى أو حملة من حملات الحلفاء التي كانت تروجها مكاتب الدعاية في أشد أيام اللدد والتناحر بين الحلفاء والجرمان، ولكنه لا يرى في كل مائة صفحة صفحة واحدة تومئ إلى ولهلم الثاني الذي حكم الأمة الألمانية جيلا كاملا، أزهرت فيه حضارتها أيما إزهار وارتفع فيه مقامها في العلم والصناعة والثروة والقوة والنظام إلى الأوج الذي لم ترتفع إليه قبل حكمه، والذي لولا نكبة الحرب - وهي نكبة كان مسوقا إليها أكثر مما كان سائقا - لاطرد في سبيله اطرادا يعيي المنافس، ويبهر النظير.
وأما في سيرة السيد المسيح فقد كانت الإسرائيلية آفة الكاتب كما كانت آفته في سيرة الإمبراطور؛ لأنها غلت يده عن تصوير بطله فلم يشارفه إلا على حذر وتقية، ولأنه جنح بطبعه إلى تمثيل المسيح يهوديا من اليهود وإسرائيليا من إسرائيل، فلم تكمل الصورة بين يديه ولم يكن يرسل عليها النور إلا من جانب الموافقة للبيئة دون جانب المخالفة، فالذي يرى السيد المسيح في هذه الصورة يرى ألوانا باهتة، كأنما رسمت على أضواء النجوم لا على ضوء النهار الساطع، ويعجب لماذا يجشم المؤلف نفسه مشقة الكتابة في هذا الموضوع بعد رينان؟ وما هي المزية الجديدة التي جاء بها بعد ذلك المؤرخ الأديب الجسور الذي خرجت صورة المسيح من بين يديه وهي تنضج بالغضارة وتتنفس أنفاس الحياة، فإن كانت المزية عنده أنه مسح عنها ألوانها وكبح بعض الشيء من حماسة الناظرين إليها فقد تم له ما أراد وباعد في الملامح ما استطاع بين صورته وصورة رينان، وإلا فقد كان رينان أجرأ منه على مواجهة الحقائق، وأجسر على الإنكار الحاسم حين تظهر لها ضرورة الإنكار، فلم تكن صور أجمل ألوانا وأوضح معارف وأحيا حياة؛ لأنه صدق من الأسانيد والمعجزات ما لم يصدقه «لدفج»، أو لأنه كان يجامل حيث يجترئ لدفج. كلا! فربما كان ذلك القس المسيحي أشد إنكارا من هذا الشاك الإسرائيلي، وكل ما في الأمر أن رينان كان أقدر على فنه وأحب لموضوعه، وأشبه بالسيد المسيح الذي تخيله، ونسج وشيجة العطف بينه وبينه.
ومن أوجه العذر ل «لدفج» أنه - كما قال - كتب تاريخ يسوع الرجل، ولم يكتب تاريخ المسيح صاحب الرسالة، فهذا عذر يقوله المؤلف ويدل على قصده من كتابة تاريخه، ولكن هل في وسعنا نحن الآن أن نفرق بين التاريخين جد التفريق وأن نتكلم عن يسوع بمعزل عن السيد المسيح؟ إن الذي يحق له أن يفرق بينهما هو الذي يستطيع أن يستحدث لنا أسانيد غير هذه الأسانيد التي بين أيدينا، والتي كتبت كلها عن «المسيح صاحب الرسالة»، ولم تكتب عن الإنسان البحت من يوم مولده إلى يوم انتهى العهد به، وهو الذي يستطيع أن يملأ الفجوات الخالية من ذلك التاريخ ويقرب الأطراف البعيدة، ويفسر ما يفتقر إلى التفسير، ولم يفعل «لدفج» ذلك أو هو عالجه فكان كل علاجه له أنه نفى ما هو منفي بذاته، وترك البقية للاحتمال المقبول عنده وليس هو بأقرب احتمال.
ونرى أن «لدفج» ليس بالرجل الذي يكتب تاريخ المسيح؛ لأسباب ثلاثة؛ أولها: أنه إسرائيلي يكتب للمسيحيين في أمة لم تخلص فيها المودة بين العنصرين. والثاني: أنه قليل التقديس بفطرته، فهو إلى فهم رجال الحرب والعمل أقرب منه إلى فهم رجال القداسة والإيمان، والسبب الثالث: أنه اختار أسلوب القصص لترجمة أبطاله، وهو أسلوب لا يوافق ترجمة المسيح لقلة المعلومات المفصلة التي نعرفها عن حياته، وصعوبة الترجيح فيها بين احتمال واحد وسائر الاحتمالات الكثيرة، وخير للكاتب أن يجعل تاريخ المسيح بحثا يعرض فيه لكل رأي ولكل فرض من أن يجعله قصة يتقيد فيها ب «شخصية» محدودة تطرد جميع حوادثها على مثال مرسوم، فرينان وهو أقدر على القصص وعلى الامتزاج بحياة المسيح، لم يستغن عن البحث على هذا المنوال، ولم تكن القصة في كتابه إلا بمثابة السمط تتعلق عليه جميع المعلومات.
ولو عاش رينان إلى اليوم واطلع على المباحث الجديدة في الحفريات والآثار ومقابلة الأديان وما كتبه بعض المؤرخين - ولا سيما الألمان - في حقيقة المسيح التاريخية، لكان أكبر الظن أن يفرغ جزءا كبيرا من ترجمته لإثبات وجوده، قبل أن يشرع في تأليف قصته على حسب الوقائع التي كانت معروفة في زمانه، ولو أن «لدفج» اختار أسلوبا غير أسلوب القصص لكان أحرى به أن يتوفر على هذا البحث الطريف؛ لأنه بحث ألماني في معظم أسبابه وأسانيده، ولكنه تركه لأنه لا بد له من تركه ولا يسعه أن يقص ترجمة إنسان يشك في وجوده، فيحسن بنا ألا نتخطاه بعد أن أصبح كل كلام في تاريخ ذلك الرسول الكريم مشتملا على مناقشة مسهبة، أو موجزة في هذا الشك الغريب.
كم من الناس على ظهر الأرض يؤمنون بوجود المسيح ورسالته، بل يعدون الإيمان بوجوده ورسالته أساسا للحقيقة العظمى؛ حقيقة الأرض والسماء والحياة وما بعد الحياة؟ لا أقل من ألف مليون إنسان! ومع هذا يتسع الشك في عصرنا للتردد في وجود المسيح، بل تذهب طائفة من المؤرخين إلى حد الجزم بإنكاره، والقول القاطع بأنه لم يكن إلا أسطورة من أساطير المتقدمين، فإن لم يكن في هذا الشك إلا أنه أعجوبة الشكوك في حقائق دنيانا لكفى بذلك حجة للنظر فيها على هذا الاعتبار.
ولماذا تشك هذه الطائفة في وجود المسيح أو تجزم بإنكاره؟ ما هي شبهتها على حقيقته أو دليلها على أنه لم يظهر قط في هذا العالم؟ إنهم يقولون في ذلك كثيرا، ويأخذون تارة مأخذ الإثبات والتقرير، وتارة أخرى مأخذ النفي والإدحاض؛ ولكن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة «المثرية»، إذ كان الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم مبدأ الانقلاب الشمسي بدلا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث. وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي «تعمد» فيه السيد المسيح. على أن هذا اليوم أيضا كان عيد الإله «ديونيسيس» عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد «أوزيريس» عند المصريين، ولا يزال متخلفا في العادات المصرية إلى اليوم. ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة - وكان يوافق السادس من شهر يناير في التاريخ القديم - كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم ولا يزالون يحتفلون به في عصرنا هذا باسم «عيد الغطاس.» وقد اتخذت المسيحية اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارا لآلام السيد المسيح قبل الصليب، وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله «أتيس» إله الرعاة المولود من «نانا» العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي جب نفسه في هذا الموعد ، ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة.
وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسما مختارا لأمهات كثير من الآلهة والقديسين، مثل: أدونيس ابن ميره، وهرمز ابن مايا، وقيروش ابن مريانات، وموسى ابن مريم، وبوذا ابن مايا، وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة، ومما يجري في هذا المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حورس كانت رمزا في الكنائس الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر، وكان اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ماريس
Stellah Maris
فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه في الأسماء ، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس، والمصريون يعتقدون في رع، والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس وأوزيريس: إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن، وهو ما يفسر صورة العذراء في القرون الوسطى، إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى إحدى أذنيها، وقال «ترتوليان» إن شعاعا سماويا هبط على العذراء فحملت بالسيد المسيح، أما التكفير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، وأقربه إلى موطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته، وبعثه في أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات، فكن يندبنه على باب الهيكل، وأنبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن رجلا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة.
والعشاء الرباني كان معروفا في عبادة مثرا، على الطريقة التي عرف بها في المسيحية، بل كان الخبز الذي يتناوله عباد مثرا في ذلك العشاء يصنع على شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة 140 لهذه المشابهة، وعدها مكيدة شيطانية لتضليل المؤمنين.
والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرا معروفة في عبادة ديونيسيس إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الجمل، والحمار، وعلى الحمار كان ركوبه حتى قيل: إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيسيس في ركوب الأتان، وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المزود الذي وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم؛ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر، وقمطته وأضجعته في المزود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.» أما الإحصاء في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس، ولم تجر العادة قط في دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها أجدادهم الأسبقون؛ ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من عدة جهات.
ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ولد فيه؛ فمن قائل إنه ولد في الناصرة، ومن قائل إنه ولد في بيت لحم. والذين يقولون إنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا الناصرة، وجاء في إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات مثل هذه عن النمروذ وفرعون مصر وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم؛ فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد عليه التاريخ، ولم تكتب هي ولا كتب غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين، أما الذين عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئا ولم يدونوا له خبرا حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات، فوجده غفلا من ذكره وهو مولود حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمة واحدة إلى الخوارق التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة، وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب ، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص.
تلك أمثلة من الملاحظات التي جعلت طائفة من كتاب التاريخ يشكون ذلك الشك الغريب في وجود المسيح، بل جعلت بعضهم يجزم بإنكاره، ويقول: إنه خيال لا حقيقة له تعلقت به الشعائر والنبوءات القديمة وحيكت حوله الأقاويل ممن لم يعاصروه فآمن به الناس، وهي ملاحظات نردها في المقال التالي إلى مكانها من الصواب.
2
لما شاعت فتنة الإنكار في القرن الماضي أصبح الإنكار شهوة وأصبح بعض الناس كأنما يبحثون عن شيء لينكروه إشباعا لتلك الشهوة، فظهر المنكرون لوجود المسيح والمنكرون لوجود شكسبير، وجاءوا بأدلة لا تصلح للبت بالإنكار، وإن صلحت للبحث وإعادة النظر في حقائق التاريخ، وكنت أقول لمن أخذوا بتلك الفتنة عندنا إن هذه الأدلة وأمثالها يمكن أن تقام على إنكار وجودكم أنتم وأنتم تجيئون بيننا وتذهبون ونراكم بالعين ونسمعكم بالأذن، فلو عهد أحدكم إلى خمسة من أصحابه أن يكتبوا ترجمته وأن يصفه كل منهم على ما يعلمه ويظنه لجاز أن يقعوا في تناقض أو خطأ أو قلب للحقيقة يسيغ للمنكر أن ينكر وللمرتاب أن يرتاب، فكيف بالتواريخ الماضية وهي عرضة للوهم والمغالاة، والامتزاج عن قصد أو غير قصد بغيرها من التواريخ؟ وكيف بالترجمة لإنسان يختلف الاعتقاد في شأنه من أقصى القطب إلى أقصى القطب، ويجيء في عصر من تبلبل الأفكار واضطراب الأحوال بين الشرق والغرب والإسرائيلية واليونانية والماضي والحاضر لا يسهل أن تتفق فيه الآراء والروايات؟
أنا آخر من يحتفل بامتزاج الرموز والشعائر، ويجعله دليلا قاطعا على إنكار وجود المسيح أو إنكار أي شيء؛ لأنني نشأت في إقليم لا تزال شعائر الديانة المصرية القديمة وعادات المصريين القدماء تغلب فيه على شعائر هذا الجيل وعاداته، فكرامات الأولياء اليوم هي كرامات الأرباب قبل أربعة آلاف أو خمسة آلاف سنة، وعادات القوم في المواسم وأيام الفيضان والمآتم والأفراح هي العادات التي قرأنا عنها في عصور الفراعنة. بل يذهب إلى اليوم النساء المسلمات والمسيحيات إلى تماثيل آلهة النسل الفرعونية يداوين العقم ويتعوذن بالتعاويذ، وكثيرا ما وقفت وأنا صبي على ضريح ولي من أولياء الجبانة المشهورة، فقيل لي اسمه وتاريخه وكراماته على وجه يختلط بالأرباب الأقدمين تارة، وبالأولياء الآخرين تارة أخرى؛ فلو أردت أن أشك في وجوده لشككت، وكانت حجتي في ذلك أقوى من حجج الشاكين في وجود المسيح؛ ولكني أبحث عن أصله فأعرف اسمه ومولده وسبب خروجه من وطنه وقدومه إلى هذه الجهة، فإذا هي «حقيقة» لا خرافة وسيرة صحيحة لا اختراع ملفق. وطالما تداويت من الحمى بماء النيل في ساعة معلومة من مطلع النجم، وبقراءة آيات من القرآن حلت في أيامنا محل الرقية في أيام الفراعنة، وطالما ذهبت بإخوتي الصغار إلى ضريح ولي على ساعة بالقطار لحلق أول خصلة من شعورهم؛ لأنه صاحب نذور الأطفال كما كان للأطفال أصحاب نذور في العهد القديم.
فإذا شككت في شكوك الناقدين والمؤرخين التي أوردوها على وجود المسيح؛ فذلك لأنني خبرت بنفسي قيمة هذه الشكوك في إنكار «الموجودين» الذين ثبت وجودهم على الرغم من الخطأ والتغيير في أسمائهم، وعلى الرغم من الخلط بينهم وبين الأرباب الغابرين والأولياء الآخرين، فعلمت أن أناسا كثيرين قد يوجدون وجودا لا لبس فيه، وحولهم من تلك المناقضات والأقاويل أضعاف ما يقوم الآن حول وجود المسيح.
ولو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل، لوجب أن نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي أحياها عن سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية وفي مقدمتها انتظار «الإمام»، و«المهدي»، أو «المسيح» وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية والإسرائيلية ووثنية المجوس.
ولست أشك ولا يستطيع أحد أن يشك في أن اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر هو يوم الشمس لا يوم مولد المسيح، ولكن ينبغي أن نذكر أن الكنيسة كانت تعلم ذلك حين نقلته مما وضع له إلى وضعه الجديد؛ لأنها رأت الاحتفال بهذا اليوم شائعا بين المسيحيين بحكم الوراثة والتقليد، فخشيت أن يتفاقم الأمر ويؤدي الاشتراك بين الوثنيين والمسيحيين في إحياء المواسم القديمة إلى النكسة والارتداد، فاجتهدت في صبغ تلك المواسم بالصبغة المسيحية لتفصل بينها وبين العقائد الوثنية، وهكذا كان في أعياد الميلاد وفي أعياد بعض القديسين والقديسات. قال العلامة فريزر في كتابه الغصن الذهبي: «إن البواعث على اختيار هذا اليوم مذكورة بصراحة عظيمة في كلام كاتب سرياني مسيحي يقول: إن السبب الذي دعا الآباء إلى اختيار اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر دون اليوم السادس من شهر يناير هو أن الوثنيين قد جرت عادتهم بإحياء عيد الشمس في اليوم الأول، وإشعال الأنوار احتفاء بذلك العيد، وكان المسيحيون يشتركون في العيد وشعائره ورموزه، فرأى أئمة الكنيسة أنهم - أي المسيحيين - يميلون إلى إحيائه فتشاوروا بينهم وقرروا أن يحتفلوا فيه بيوم الميلاد، وأن يجعلوا اليوم السادس من شهر يناير لعيد التجلي، وعلى هذه العادة مضوا في إشعال النار إلى اليوم السادس، وقد جاءت الإشارة إلى الأصل الوثني ضمنا - وإن لم تجئ تصريحا - في كلام أوغطسين لإخوانه المسيحيين إذ يوصيهم ألا يحتفلوا بذلك اليوم كما يحتفل به الوثنيون إحياء لعيد الشمس، بل إحياء له هو الذي خلق الشمس، وعلى هذا النحو أنكر ليون الكبير قول من قال، إن الميلاد يحتفل به إكراما لمولد الشمس الجديدة كما يسمونه، وليس إكراما لمولد المسيح.» انتهى كلام فريزر.
ويحسن بنا هنا أن نلاحظ الفرق بين رأينا نحن الآن في الوثنية، ورأي المؤمنين الأولين فيها قبل ألف سنة، بل قبل مئات قليلة من السنين؛ فالوثنية عندنا هي أوهام وأساطير، وآلهتها شخوص مجسمة لقوى الطبيعة، أو أسماء محرفة عن أسماء بعض الملوك الأبطال الذين عبدهم آباء الوثنيين فيما مضى. هذا هو رأينا في الوثنية، أما رأي المؤمنين الأولين فلم يكن كذلك، وإنما كانوا يرون أن الأرباب والأوثان شياطين موجودة تنتحل لنفسها صفات الله وأعماله، وتحاول أن تخدع عباده لتأخذ منهم قرابينه وصلواته ؛ فكل معجزة أو صفة يدعيها الوثني لربه هي معجزة أو صفة إلهية يختلسها ذلك «الرب» بالمكر والخديعة، ويجب أن ترد إلى «الله» صاحبها وصاحب الحق في العبادة والقربان لأجلها؛ فآباء الكنيسة مخلصون جد الإخلاص في نسبة الخوارق الوثنية والشعائر القديمة إلى «الإله» الذي يعبدونه؛ لأنهم يعتقدون أنها خوارق وشعائر مغتصبة بغير الحق، ولا وجه لبقائها في حوزة الأوثان والشياطين، ويخطئ من يتهم أولئك الآباء بالتزوير والاحتيال في هذا الصدد؛ لأنهم ما كانوا ليستطيعوا أن يتركوا «للشيطان» خارقة أو كرامة هم يوقنون أنها خارقة الله وكرامته قبل أن يدعيها الشيطان لنفسه. •••
كذلك لا نشك في خلو «يوسفيوس» من ذكر المسيح، وفي أن العبارة التي وردت فيه عن ظهور المسيح مدسوسة على النسخة الصحيحة؛ لأن هذه العبارة التي أنبأت بظهوره تقول: «حوالي هذا الوقت ظهر يسوع وهو رجل حكيم - إن صح أن يسمى رجلا - لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، وكان يعلم الناس ويفرحون بتعليمه، وقد جذب إليه كثيرا من اليهود والوثنيين وكان هو المسيح المنتظر، ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب كما طلب منه رؤساؤنا لم يتخل عنه محبوه؛ لأنه برز لهم حيا في اليوم الثالث مصداقا لنبوءة الأنبياء. هذه وعشرات الألوف من المعجزات الأخرى التي تتعلق به وبعشيرة المسيحيين الذين ينسبون إلى اسمه ولم تنقطع حتى اليوم» فكلام كهذا لا يعقل أن يكتبه يوسفيوس ولا يدخل في المسيحية، أو يظهر أثر إيمانه بالمسيح وأتباعه في سرد جميع وقائعه وأخباره، فهو كلام مدسوس بلا مراء، ويبقى أن يوسفيوس لم يكتب شيئا عن المسيح في تاريخه، ولكن علام يدل ذلك؟ إنه لا يدل على أن المسيح لم يوجد، ولكنه يدل على أنه لم يكن مستفيض الذكر في عصره، وأن المسيحيين لم يعظم شأنهم في أرضهم إلا بعد القرن الأول من ظهوره، وهذه حقيقة مسلمة لا يجادل فيها مؤرخ يعبأ بقوله.
ومن الأمور المقررة أن تواريخ حياة المسيح لم تعلم على وجه التحقيق، وأن أقدم الكتابات المسيحية لم تكتب قبل السنة الثانية والخمسين للميلاد، والذين كتبوها لم يروا المسيح رأى العين، ولم يعرفوا عنه شيئا إلا بالسماع، ولكننا لا نعلم على التحقيق تواريخ مئات من العظماء ولسنا نشك في وجودهم من أجل ذاك، وقد اشتملت الأناجيل على رسائل بطرس أحد الحواريين وهو شاهد عيان عاشر المسيح، وسمع منه، ووصفه كما رآه، وعرفه فجاء وصفه مطابقا لما يتخيله المتخيل من «شخصيته» التي صورتها لنا أقواله ووصاياه المتفق عليها في الأناجيل، والتي جلتها في الذهن أحوال البيئة وخلاصة الأخبار المصفاة من الخوارق والمبالغات، ولعل النقائص التي عرضت لتلك «الشخصية» في أقوال الحواريين هي أدعى إلى التصديق والدلالة على حقيقة وجودها من الأشياء المتفقة المتناسقة؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل التناسق التام بين وصايا المسيح وجميع أدوار حياته، ولا بد أن نتوقع شيئا من التطور في إيمانه بنفسه وتأدبه بأدبه، فمن أين اتفق للصيادين وتابعيهم العلم برسم «الشخصيات» حتى لا يفوتهم خلق التناقض في موضعه، وعلى حسب البواعث التي توحيه وتستدعيه؟ ومن أين لهم رسم شخصية متطورة في أدوار حياتها تتقدم في الإيمان بنفسها، والاهتداء إلى أسرار حكمتها وأدبها خطوة خطوة على حسب الشدائد والعوارض التي تفعل في النفس فعلها الخفي، وتنطق على اللسان بفيض ما يعتلج فيها من الثورات والشكوك وبوادر اليقين.
إن هذا بعيد عن الحواريين وكتاب الرسائل المسيحية الأولى؛ ولأنه بعيد عليهم يكون ما في أقوالهم من التناقض والغلو الذي لا يستغرب منهم مزكيا لزبدة تلك الأقوال ودليلا على أن «الشخصية» التي تحفظ خطوطها الصحيحة وراء نقائضهم ومبالغاتهم شخصية إنسان كان في عالم الحقيقة المحسوسة، وليست بشخصية خرافة أو كذب مقصود أو غير مقصود.
3
يشتمل كتاب «ابن الإنسان» أو تاريخ المسيح لإميل لدفج على تمهيد وفاتحة وخمسة أبواب، وفي التمهيد يقول: ليس من غرضي أن أزعزع عقيدة المسلمين بقدسية المسيح، فقد أرمي على نقيض ذلك إلى إقناع الذين يحسبون شخصية المسيح شخصية مصطنعة بأنه كائن حق، وإنسان في الصميم، ولو أنه لم يعش قط كما قال روسو لكان كاتبو الأناجيل في مثل عظمته، وليست وجهتي أن أشرح التعليم الذي يعرفه جميع الناس، ولكنني أرسم حياة النبي الباطنة وتعنيني دنياه التي كان يشعر بها لا نفوذه الذي جاء بعد ذلك بسعي الآخرين.
أما الفاتحة فهي فصل يصف به بيت المقدس في عصر المسيح، ويلم إلماما وجيزا بالأفكار الدينية والأدبية التي بدأت تشيع قبل المسيحية، وفيها مشابهة لوصايا المسيح كفلسفة سنيكا الأديب الروماني، وفيلو الفيلسوف الإسرائيلي الإسكندري، وهلل الحبر الإسرائيلي، وغير ذلك من الآراء التي نجمت عن اتصال المعاشرة بين اليهود واليونان والرومان، واضطرار بعض اليهود إلى مجاراة الحكومة الغالبة، والتسامح فيما يتشدد فيه الفريسيون المتنطسون، وهو يجيد في وصف الحياة العامة بأسلوب القصص الذي لا تعمل فيه، ولا سيما وصف الهيكل ونزول الليل عليه وطلوع النهار، والمقابلة بين حياة نساكه وحياة الرومان ومن تشبه بهم من أبناء إسرائيل.
وفي الباب الأول كلام مجمل على طفولة المسيح بدأ به والمسيح صبي يخلو إلى نفسه في الهضاب والمروج، وينصت إلى أصداء الطبيعة والحياة، ويتغذى بذلك الغذاء الروحي الذي لم يستغن عنه عظيم من عظماء الروح في عهد الطفولة، وقد تخلل هذا الوصف بوصف الناصرة ومعيشة أهلها الفقراء والأغنياء، وظهور الطوائف الدينية التي تنحو نحو البساطة في الاعتقاد والعبادة، ولا تتقيد بشعائر الكهنة ولا بالسنن العسيرة التي يتشبث بها الفريسيون، وإن كانت تتقشف في المعيشة، وتعرض عن الجاه واللذات، وفي هذا الباب الأول كلام على «يوحنا المعمدان» وتفريق بين شخصيته وشخصية المسيح، وبين سهولة هذا وعنف ذاك يطابق المأثور عن الرسولين، ولكنه يحتاج إلى التعليل الذي هو كما لا يخفى عمل المؤرخ الأول حين يتصدى لترجمة المسيح، واستخلاص الحقائق من خلال المأثورات والروايات، وهنا بداية الضعف في ترجمة «لدفج»؛ لأن عظمة المسيح كلها قائمة على «الطبيعة وسعة الروح» وخروجه في ذلك العصر بالسماحة وحب الخير خلافا لسنة الأنبياء المتشددين، ولسنة العصر الذي كانت تغلب عليه العصبية من جانب المحكومين والغشم من جانب الحاكمين، فإذا كانت في تاريخ المسيح «عقدة» تنتظر الحل والتفسير فهي العقدة «الشخصية» في تكوين مزاجه، وأنت تقرأ تاريخ لدفج فترى في تمهيده وفاتحته تعليلا حسنا لحالة العصر، ولكن «الحالة الشخصية» الخاصة بالمسيح لم تتقدم على يديه كثيرا، ولم يجئ فيها بشيء لا يغني عنه محض القراءة في الأناجيل بغير تفلسف ولا تنسيق.
وفي هذا الباب تبدأ مناجاة المسيح لنفسه بأحاديث النبوة والحكمة، وتأتيه هواتف المغيب والشهادة مؤيدة لما ألهمه ضميره وزكاه إعجاب الناس بعلمه وتعليمه، فيشرع في الدعوة المحدودة وهو بين حذر يوحيه إليه الاعتبار بمصير الداعة من قبله وانتظار الثقة المكينة بنفسه وطبيعة المسالمة التي تبغض إليه مصادمة غيره، وبين إقدام يستخفه إليه الفرح بكشف قواه والإحساس بالمجد الذي يرجو التمام على يديه، ثم تتعاقب «البشائر» وهي موضوع الباب الثاني من الكتاب، فنرى المسيح قد أخذ يؤمن صدقا وجدا بأنه هو «المسيح المنتظر» الذي جاء ذكره في النبوءات، وأنه منتدب في هذه الدنيا لأمر لا حيلة له فيه، ويجيد لدفج أيضا في تعليل هذه العقيدة بالحرب الظالمة التي لقيها المسيح من المنكرين والمتعنتين الذين لا شك عنده ولا عند الناس في ضلالهم وريائهم ونصبهم الحبائل للأنبياء والمصلحين، ففي أثر كل مقاومة كان يفوه بكلمة عن رسالته لم يكن يفوه بها قبل ذلك، ولعلها لم تكن تدور في خلده؛ لأنه يعلم أن الذين يتعنتون في إنكاره مبطلون يسيرون معه على سنتهم مع الأنبياء السابقين، فلم يبق إلا أنه هو على حق وأن هؤلاء المكابرين لا يقنعونه، وهيهات أن يقنعوه بأنهم على صواب وأنه هو على الضلال، وليس من وراء ذلك إلا الثقة بالنفس؛ لأنها تزكو وتنمو كلما وثق المضطهد من بهتان الخصوم، ولا يزال الإيمان بالرسالة يقوى ويكبر في نفس المسيح حتى تخطر له الهجرة إلى بيت المقدس والتبشير برسالته في الهيكل بين الكهان والأحبار، فيدخل الكاتب في الباب الثالث من تاريخه وعنوانه «الظلال تظلم» ثم يعقبه الصراع ثم الآلام، وفيها الخاتمة، وهي والبابان اللذان قبلهما لا تضيف شيئا إلى تكوين المسيح من حيث الملكة والإيمان بالرسالة، ولكنها تعرض ذلك الإيمان لكثير من المحن والغموم.
يقول لدفج في ختام كتابه بعد أن شاع في بيت المقدس أن جسد المسيح لم يوجد في قبره: «كانت أورشليم قد علمت كلها بالخبر في اليوم التالي، فشاعت في المدينة مائة إشاعة يدفع بعضها بعضا، فمن قائل أن بيلاطس ندم على تسليم جسد المسيح لأصحابه فأمر بإخفائه، ومن قائل إن الكهان سرقوه لكيلا تفتتن الجماهير بتقديسه، وخاطر ثالث يقول إن البستاني هو صاحب السر كله؛ لأنه خشي أن يكثر الوافدون على القبر فتتلف أزهاره، ورابع يقول بل هي فعلة لصوص المقابر الذين ينهبون من القبور كل ما يباع بمال، وخامس يقول إنه ما من أحد قط مات على الصليب بعد صلبه بساعات ثلاث، وإن تلاميذ الناصري لا بد قد أنعشوه من موته الظاهر وأبعدوه إلى مخبأ أمين، وذهب الكهان إلى بيلاطس يلومونه لتراخيه ويتنبئون بالمصاب الجلل بعدما أتيح لأتباع النبي أن يستولوا على جسده ليقولوا للشعب إنه رفع من الموت، ولكن النساء اللواتي أحببنه اعتقدن أنهن شاهدن المسيح في حلم اليقظة يرتفع بجسده.»
وظاهر من هذه الخاتمة ومما تقدمها أن لدفج يرجح القول بموت المسيح على الصليب، وكذلك يرجحه رينان، ويعزو البقية إلى خيال مريم المجدلية، ولكن فئة من المؤرخين ومنها أرثر ويجال المعروف عندنا في مصر، وصاحب الكتب المعدودة في تاريخ القديم يرون غير هذا الرأي، ويقولون إن حياة المسيح لم تنته على الصليب، وفي كتاب ويجال الحديث «الوثنية في مسيحيتنا» وهو الكتاب الذي نعتمد عليه كثيرا، يقول ذلك الأستاذ: «قبل هبوط الليل أخذته حالة شبيهة بالموت، كأنما هي معجزة ختمت على آلامه التي لم تطلق من فمه كلمة غاضبة، فأنزله أصحابه من على الصليب ووضعوه في جوف الصحراء، ليدفنوه عند الفجر بعد انقضاء العيد، ولكنه أفاق قبل تلك الساعة، وراح يخبر تلاميذه أنه حي وهم لا يصدقون ما يرون، ثم ذهب إلى الجليل، وتحدث إليهم فلم يكن في أعينهم إلا طيفا من عالم الأموات، فتركهم آخر الأمر وهو يقول إنه سيعود، ولكنه لم يعد قط، وانتهت بذلك قصته التاريخية .»
فالأستاذ ويجال يريد أن يقول: إن الذين رأوه وذكروا أنهم رأوه قد عاينوه حقا، وقد عاينوه جسدا وليس كما خيل إليهم أنه روح أو طيف صاعد من الأموات، فتلاميذه الذين رأوه وسمعوه كما جاء في الأناجيل، والخمسمائة الذين نظروا إليه كما جاء في الأعمال وفي رسالة بطرس الرسول، إنما شهدوه عيانا في قيد الحياة، ولم يشهدوا روحا ولا طيفا بعين الوهم أو بعين البصيرة، ويعزز ويجال قوله بما جاء في إنجيل يوحنا من أنهم رأوه على بحيرة طبرية ذات صباح، وطلب منهم طعاما، فالأرواح لا تطلب الطعام.
على أن بعض المؤرخين غير ويجال يروون كلاما غريبا لأناس زعموا أنهم رأوه في الهند بعد ذلك وعرفوه وحادثوه، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بعجز المؤرخين عن ترجيح قول على قول، بما يروون من الأخبار أو يتمحلون من التفاسير. •••
قلنا: إن «العقدة» في تاريخ المسيح هي تعليل مزاجه الشخصي الذي سما به على ضيق العصبية، وآداب أبناء قومه وأبناء زمانه، ولكننا لا ننصف «لدفج» إذا نحن لم نشر هنا إلى احتمال قريب لعله هو الاحتمال الذي اتجه إليه نظره، فقد لا تكون هذه العقدة «عقدة» على الإطلاق في نظر لدفج؛ لأنه رأى أن سماحة المسيح لم تشمل غير ذرية إسرائيل ولم تعبر الفجوة السحيقة بين أبناء قومه والوثنيين وأشباههم من بني الإنسان، فهو إسرائيلي من إسرائيل وإن سما على عصبية الكهان والنساك.
ففي خبر المسيح والمرأة الكنعانية يقول لدفج: «ولم يطل عليه المقام في السامرة حتى عرفته امرأة كنعانية كانت في ضائقة تريد منه العون فهي تتزلف إليه وتناديه بلقب من ألقاب اليهود: ارحمني أيها السيد ابن داود. إن ابنتي يعذبها شيطان، فمضى لسبيله ولم يعرها التفاتا؛ لأنه تعود ألا يعين أحدا غير اليهود، وتوسل إليه التلاميذ أن يجيبها ويصرفها لأنه تصيح خلفهم، فأبى أن ينحرف عن الشريعة، وعن عادته التي جرى عليها، وهز رأسه للمرة الثانية وهو يقول لهم: «إنما بعثت إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل.» أما المرأة فقد أصرت ولحقت به وألقت بنفسها أمامه وهي تناديه: أيها السيد، ساعدني! فأعرض مرة ثالثة عن نداء قلبه، وقال لها بجفوة: ليس حسنا أن نأخذ خبز البنين ونطرحه للكلاب، ولكن لهفة الأم المعذبة ترهف ذكاءها فتجيبه هذا الجواب الملهم: حق أيها السيد، ولكن الكلاب تأكل الفتات الذي يسقط من مائدة السادة، فقطعت هذه الكلمة آخر خيط ظل يربطه بالأوامر التي حفظها في صباه، وأحس أن المرأة الكنعانية تستحق من عونه ما تستحقه أية امرأة من إسرائيل.»
وقبل هذه القصة بسنتين اثنتين نقل لدفج كلمة المسيح لمن استغربوا مصاحبته للخطاة والمنبوذين، فضرب لهم المثل بإشعيا حين أعان المرأة الوثنية، واليشع حين أعان نعمان الوثني، وخليق بهذا أن يجعل خبر المسيح مع الكنعانية غريبا يحتاج إلى التعليل لولا أن «لدفج» لم يشأ أن يرى فيه إلا الوراثة القديمة التي لا يسهل التغلب عليها، وله في ذلك رأيه، وإن كان قرب المسافة في كتابه بين القصتين يقضي عليه بتمهل غير قليل للتوفيق والتفسير.
على أن لدفج لم يأت في تاريخ المسيح بشيء يصعب على أي إنسان أن يذكر مثله في مألوفاته، ويراه أحيانا في مدينته إن كان من أهل المدن، أو في قريته إن كان من أهل القرى، ولسنا نعني بذلك تبسيطه للخوارق والمعجزات، وإهماله لبعضها كل الإهمال، وتفسيره البعض الآخر بالإيحاء وسلطان العقيدة. كلا! لسنا نعني ذلك لأن أناسا مشغوفين بالمسيح أشد من شغفه قد فعلوا مثل فعله في تبسيط الخوارق والمعجزات، ولكنا نعني أنه أوشك أن يقطع كل صلة بين عظمة المسيح وعظمة الأثر الضخم الذي حدث في العالم باسمه، فكأن المسيح كان يستطيع أن يرتفع إلى عظمته بيننا لو كان أقل من ذلك تفوقا وعبقرية وصدقا، بل يخيل إلينا أن لدفج يتكئ جدا على النوبات العصبية، ويحب أن يفسر بها أمورا كثيرة كوجوم المسيح في العرس يوم ظنت به أمه الجنون، وهجومه على الباعة والصيارفة في ساحة الهيكل، ثم صفحه عنهم وقد عادوا إلى ما كانوا عليه، وسكونه بين يدي الحبر الأعظم وبيلاطس ، وطوارئ أخرى ذكرتها الأناجيل واتفقت عليها أو لم تتفق فردها لدفج إلى أسباب عصبية كثيرة التقلب والاضطراب، ولو أننا قبلنا هذه التعليلات لما شذذنا عن طبيعة الحياة، ولكننا نواجه بقبولها خارقة مدهشة في هذه الدنيا، وهي أن يكون المسيح مغلوبا على أمره بالمزاج الذي تخيله لدفج، وأن تكون له مع ذلك تلك الآداب الرفيعة، والسجية المحبوبة، والأثر الكبير.
وخير لمثال الكمال الإنساني أن تعلل المناقضات في سيرة المسيح بعقيدته الموروثة، أو تناقض الأحوال في زمنه، واتساع الفاصل بين روحه وأرواح سامعيه، من أن نعللها بتلك «العصبيات» الدارجة الرخيصة التي لا تصلح للوزن في هذا الميزان.
4
المسيح في الهند
في سنة 1887 وصل الكاتب الروسي «نقولاس نتوفتش» إلى الهند؛ لتعرف الشعوب الهندية، والبحث في أخلاقها، وأديانها، وآثارها الفخمة العجيبة، وطبيعتها الضخمة المهيبة، وظل يطوف من مكان إلى مكان على غير ترتيب سابق، حتى انتهى به المطاف إلى التبت الصغرى فاعتزم العودة منها إلى بلاده الروسية من طريق قره كروم والتركستان الصينية، ولكنه بينما كان يزور البيعة البوذية هناك أعلمه كبير الكهنة خبرا عجيبا عن المسيح وسياحته في الهند، وقال له الكاهن: إن السجل الذي يرجع إليه في تفصيل ذلك موجود في محفوظات «الحسا» عاصمة التبت الكبرى، وكعبة الحجاج في تلك الديار.
قال الكاتب: ولما كنت أستبعد العودة إلى زيارة الهند مرة أخرى، أرجأت أوبتي إلى أوربا ريثما أطلع على تلك المحفوظات، وإن كلفني الأمر رهقا، أو حملني مشقة الرحلة إلى «الحسا» فهي ليست من الخطر والمشقة بحيث يتوهم المتوهم، وهبها كذلك فقد تعودت أخطار السفر، ورضت نفسي على الضرب في مجاهل البلاد.
وزرت وأنا في عاصمة التبت الصغرى ديرها العظيم، القائم في أرباض المدينة فأطلعني رئيس الكهان فيه على المحفوظات التي لها صلة بتاريخ المسيح عندهم، وتفضل بتلاوتها علي والترجمان ينقل لي ما يتلو، وأنا أدون ما أسمع في دفتري حتى استوفيت ما في تلك المحفوظات، وهذه خلاصته:
لما بلغ عيسى، وهذا اسمه عندهم، الثالثة عشرة - وهي السن التي يتزوج فيها اليهود في زمانه - كثر طلابه لبناتهم من أشراف البلدة وأغنيائها؛ لما اشتهر به من الذكاء، والفصاحة، والخطب الجميلة، والمواعظ الدينية، وإن لم يكن أهله من ذوي اليسار الذين يرغب في مصاهرتهم الأشراف والأغنياء، ونفرت نفس عيسى عن الزواج فغادر منزل والديه خفية، وخرج مع بعض التجار من بيت المقدس إلى السند؛ ليستكمل، ويتعلم، ويطلع بنفسه على ما سمع عن حكمة الحكماء، وعلوم النساك، وأصحاب الأسرار.
وفي السنة الرابعة عشرة من عمره، قدم إلى بلاد الآريين، وأقام في البلدة المجتباة فذاعت له شهرة في أرجاء الهند الشمالية، وتسامع به الكهان والأحبار، ثم اجتاز بلاد الأنهار الخمسة و«راجبوتان» إلى جقرنات حيث يرقد الرفات البشري «لفيسا كرشنا» فرحب به الكهان البيض، وعلموه أن يقرأ الكتب المقدسة، وأن يفسر أسرارها، وأن يشفي المرضى ويطرد الأرواح الشريرة بالأدعية والعزائم، وقضى ست سنوات في جقرنات، وبنارس، وفي المدن المقدسة الأخرى، فأحبه الناس، ولا سيما الطبقات المحرومة التي كانت تنبذها أديان الهند ويترفع الكهان عن مقاربتها، والاتصال بها، أو إسماعها الكتب المقدسة، إلا في أيام الأعياد الكبرى؛ لأن «بارابرهما» خلقها من أحشائه وأقدامه فهي منبوذة مهينة بين خلقه! ولكن عيسى أنكر هذه اللعنة الكاذبة، وطفق يخطب في إنكارها، ويعاشر المنبوذين، وينحي على طغيان الكهان وتعاليهم على إخوانهم في الآدمية ويقول: «أبونا الرب لم يفرق بين أبنائه فكلهم أثير لديه.» وكان يدعوهم إلى ترك الأوثان وتقريب القرابين لغير الله، وينكر ثالوث براهما الخالق، وفشسنو الواقي، وسيفا المفني، ويقول لهم: «إن الديان السرمدي هو الروح الباقي وهو روح الكون الأحد المفرد، الذي لا يتجزأ، يخلق كل شيء، ويشتمل على كل شيء، ويحيي كل شيء، وإن البارئ الأعظم لم يشرك معه في سلطانه أحدا فكيف الأوثان الصماء!»
فلما اشتد أمره على الكهان وجماعة المقاتلة بعثوا في طلبه ليقتلوه، فحذره الدهماء وأخرجوه ليلا من أطراف جقرنات، فبلغ الجبل، ونزل بلاد «جوتميد» مولد بوذا الأعظم بين شعب يعبد براهما الواحد ذا الجلال، فتعلم لغتهم وحذقها، وعكف على درس كتبها وطروسها المحفوظة، ثم غادر نيبال وجبال هملايا، وهبط إلى «راجبوتان» ويمم الغرب يبشر بعبادة الله ويدعو إلى الكمال، ويحض الناس على اطراح عبادة الأوثان، فذاعت بين الوثنيين شهرته ولباه خلق كثير، واستفاضت في البلاد القريبة أنباء مواعظه ووصاياه وسبقته إلى بلاد فارس، فقابله كهانها حين دخلها بالحذر، وحرموا على الناس حضور خطبه، فلم يزدهم التحذير إلا عكوفا عليه واستجابة له. قال الكاتب الروسي: ثم قبض عليه الكهان، وأحضروه إلى رئيسهم وسألوه فأجابهم أحسن جواب، ولم يجدوا عليه سبيلا، فأظهروا الرفق به ولم يمسوه بسوء، ولكنهم أخذوه في جنح الليل إلى طريق مقفر يكثر فيه السباع، وأرسلوه هناك ليلقى حتفه بعيدا عنهم فوقاه الله، وما زال يتنقل في البلاد حتى آب إلى وطنه في التاسعة والعشرين من عمره، وبدأت سيرته المعروفة في الأناجيل.
يقول الكاتب الروسي: وهذه المحفوظات التي تلاها رئيس الكهان البوذيين في عاصمة التبت الصغرى هي مجموعة منسوخات كثيرة مكتوبة باللغة التبتية مترجمة عن بعض الصحف المودعة في مكتبة «الحسا» التي جلبت إليها من الهند، والنيبال، ومغادا، بعد المسيح بمائتي سنة فوضعت في البيعة الكبرى على جبل ماربور حيث يقيم حبر الأحبار وتودع المخطوطات المدخرة من قديم الأدهار.
أما تاريخ تدوين هذه القصص فيرجع إلى السنة الثالثة أو الرابعة بعد وفاة المسيح. كتبها الكهان حين جاءهم التجار بأنباء المسيح في وطنه، وأودعوها كعادتهم مكاتب البيع ، ومما يميل بالكاتب إلى تصديقها أنها لم تدون في بلدة واحدة ولا على نسق واحد، وإنما جاءت مفرقة من هنا وهناك ودونت مع قصص أخرى من أحداث ذلك العصر، فلا يستخلصها القارئ على هذا النسق إلا بعد جهد جهيد.
ويرى الكاتب أن هذه المخطوطات خليقة بالثقة والاعتبار؛ لأن الكتابة كانت معروفة في الصين والهند قبل موسى بزمن مديد، وكانت الشرائع والقوانين والمذاهب مكتوبة في سجلات محفوظة بلغت في الهند نحو 84000 وثيقة قبل الميلاد بستمائة سنة، ولا يتأتى أن تنقل نصوصها وتحفظ وتسجل إلا في عصور وعصور، فبينما كانت الشعوب الأمية كشعب إسرائيل تتناقل الروايات شفاها فما عن فم وجيلا بعد جيل، فيعتريها ما يعتريها من السهو والتحريف وتجسيم البعد وتكبير الخيال، كان الرواة الهنود يودعون الصحف روايات الحوادث التي يشهدونها ويسمعونها في زمنهم أو في عهد قريب منه، وثابت معروف أنه كانت للهند تجارة مع مصر والأقطار الأوروبية تمر ببيت المقدس فلا تنقطع أخبار الهند عن تلك البلاد، ولا تنقطع أخبار تلك البلاد عن الهند، فكانت القوافل الهندية في زمن سليمان تحمل المعادن النفيسة والمواد اللازمة لبناء هيكله وتزيينه، وكانت تجارة أوربا ترد إلى بيت المقدس بحرا على ميناء قديم في موضع مدينة «يافا» الآن.
قال الكاتب الروسي: ولما عدت إلى أوربا لقيت الكثيرين من رجال الدين المعدودين؛ رجاء أن يراجعوا مذكراتي ويعنوا بتحقيقها، فلم أجد سميعا ولم يوافقني أحد على نشرها، فعرضت مسألتي على الأستاذ جول سيمون فاستعظمها، ونصح لي باستشارة رينان في أمر تلك المذكرات وفي أمثل الوسائل لنشرها والتعقيب عليها، فاقترح رينان أن أسلمه المذكرات ليقدمها إلى المجمع العلمي، وأشفقت أنا من ذاك وأدركني الحرص على ثمرة جهدي وفضل هذا الكشف النادر، فرأيت أن أتولى نشره بنفسي وأكتب حواشيه وأعلق عليه وقد فعلت. فلعل الهيئات العلمية تعنى بإعداد بعثة للسفر إلى التبت ودرس الوثائق في سجلاتها، وتقرير قيمتها التاريخية.
هذه خلاصة تلك الرحلة العجيبة التي نشرها الكاتب الروسي منذ نيف وثلاثين سنة، فناقشها الكثيرون وقطع بافترائها بعض الثقات، ووصفوها بأنها تدجيل لا يستحق كبير عناء، ونحن أميل إلى الشك في أساسها، ولكنها إن صحت أو كان فيها جانب صحيح، وكانت هناك محفوظات كالتي ذكرها الكاتب الروسي ودونها فالأمر يحتمل وجهين. أحدهما أن النبأ في جملته صحيح وأن المسيح سافر إلى الهند، وعاش فيها قبل الرسالة، وتعلم من خير ما في البوذية والبرهمية، وعلمهم من خير ما في اليهودية والنبوءات الإسرائيلية، والوجه الآخر أن بعض الكهان الهنود في الزمن القديم أو الحديث خشي على دين قومه من شيوع المسيحية، فدون بعض تلك القصص ليعزز دينه ويجعله مصدر الأديان ومعلم الرسل، ووضعها ذلك الوضع المفرق الذي لا يكشف حقيقته إلا رجل عليم باللغات الهندية والتبتية، قدير على استقصاء أخبارها ومضاهاة محفوظاتها مزود بما كان يعوز الكاتب الروسي للتثبت والتمحيص الدقيق. •••
غير أننا إذا فرضنا الفرض الأخير حق لنا أن نستغرب شهادة الكهان لعيسى بالصلاح والهداية، وتزكيتهم لفضائله وعظاته، ووصفهم إياه وصفا يرغب في دينه ويرجحه على دين البوذية ودين البرهمية على الخصوص، ومن جهة أخرى نرى في الأناجيل ما يدل على تعمق المسيح في علم الشرائع اليهودية وأخبار الرسل ومأثورات الفريسيين، فمتى استوعب كل هذا العلم الغزير، وأنى له أن يستوعبه جميعا قبل الثالثة عشرة أو في سنة واحدة أو بعض سنة بعد العودة من رحلته الهندية؟! •••
على أن الأمر الذي نلاحظه في كتاب يؤلف عن تاريخ المسيح أن لدفج لم يشر إلى الهند والبلاد الشرقية وعلاقتها بالإسرائيلية في الفاتحة التي كتبها لإجمال الأحوال في عصر المسيح، فقد أشار إلى مصر، واليونان، والرومان، واقتبس بعض الآراء الفلسفية التي ظهرت في هذه الأقطار، وانتقلت منها إلى الجليل، وبيت المقدس، وأخذ بها عملا أو تعليما بعض المتسهلين الميسورين من طوائف اليهود، ولكنه لم يشر إلى الهند، وفارس، وبين النهرين وهي خليقة أن تذكر في هذا السياق؛ لأن علاقة الهند الروحية بأرض إسرائيل لا تنكر ولا تخفى سواء صحت أخبار الكاتب الروسي أو بطلت بعد الاستقراء، فقديما كان الإسرائيليون فيما بين النهرين وكانوا على مقربة من المجوس، ثم عادوا إلى بابل في الأثر، واختلط أكثرهم بأهلها حتى ضاع في غمارها ولم يعد إلى فلسطين مع القبائل التي نزحت بعد فتح قورش وهزيمة البابليين، وقد جاء ذكر المجوس في البشارة بمولد المسيح، كأنما كان الاعتقاد فيهم أنهم عليمون بالأنباء مطلعون على الأسرار يفهمون من حقائق الفلك والوحي ما ليس يفهمه أبناء إسرائيل، فالإشارة إلى هذه العلاقات القديمة لازمة في التمهيد لعصر المسيح، ولا سيما إذا لاحظنا المشابهة الشديدة بين البشارات والأخبار عنه والبشارات والأخبار عن بوذا، ولاحظنا إلى جانب ذلك قصص المسيحية الأولى التي لا تخلو من دلالتها التاريخية والنفسية ، وإن حكم الآباء الكنسيون ببطلانها من وجهة الاعتقاد.
5
خاتمة
على فهم شخصية المسيح يتوقف كل شيء، وهذه الشخصية هي في الوقت نفسه مقصد الباحثين وغاية ما يرجون الوقوف عليه من جمع الأسانيد ومقابلة الحوادث وتحليل الآراء، وخلاصة ما يقال في هذا الباب أن وصف هذه الشخصية لم يزل بعد مسألة من مسائل الذوق الفني الذي يعتمد من بعض الجوانب على حقائق العلم المحصورة، فلا أمل الآن في تكميل تلك الصفة على أساس الوقائع المقررة والأخبار المقطوع فيها بالإجماع، وعلى هذا النحو تعجبنا الصورة الموصوفة أو لا تعجبنا، على حسب ما عندنا من التخيل، وما أوحته إلينا المعلومات المتفرقة، والميول النفسية من الملامح التي لا يقوم عليها برهان وثيق، وقد نصيب أو نخطئ في التصور والتمثيل، ولكننا على ثقة من أننا لا نستطيع أن نجزم بتفضيل صورة على صورة من الوجهة العلمية، إلا إذا كانت هناك مخالفة بارزة لخبر أجمع عليه الباحثون.
والصورة التي مثلها لنا إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان» هي كما رأينا صورة مغرقة في البساطة، عارية من الفخامة التي يتوسمها المتخيلون الفنيون فضلا عن المؤمنين بدين المسيح.
وللبساطة فخامتها وعظمتها بلا مراء، ولكن الفرق بعيد بين البساطة البسيطة وبين التركيب المتشعب الذي يبدو للناس في مظهر البساطة؛ لأن صاحبه قد عرف كل شيء واطلع بالخبرة أو بالإلهام على خفايا الحياة ، فتشابهت لديه الأحوال وتقاربت عنده أنحاء النفوس، وترجم ألغاز الدنيا كلها في حل واحد يلوح للناس بسيطا متشابها وهو ينطوي على أعمق الأعماق وأعقد الأمور، فإذا أحببت أن أتخيل بساطة المسيح مما بقي لدينا من أقواله وأنبائه، فهي عندي أقرب إلى البساطة المركبة الملهمة التي لم تتبسط لعجز في التركيب؛ بل لأنها أعظم من التركيب وأشمل وأبعد مدى في قرار البداهة والإلهام، وليست هي البساطة البسيطة التي تلوح لنا من صورة إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان»، فإن المسيح على هذه الصورة ظاهرة غير خارقة لأحكام الكون، ولا ننكر فعل الظروف والطوارئ في سيرة كل عظيم، ولكننا لا نريد كذلك أن نتطوع بمنع العظمة منعا لا أساس له إلا الرغبة في منعها بغير سلطان من التاريخ، فليست العظمة - إلى أسمى حدودها الروحية - خارقة من الخوارق فنجنح إلى تعليلها، كما نعلل الأكاذيب في أساطير الأولين، ونبدأ بإنكارها والتماس التفسيرات المألوفة لها قبل أن يكون لدينا برهان يدعو إلى الإنكار والتفسير، وإنما العظمة شيء جائز في كل جيل، فإذا اقترن ظهور الرجل العظيم بالحوادث العظيمة فليس التبسيط أمانة للتاريخ في هذه الحالة، وإنما الأمانة الصادقة أن نقول الحق الغريب؛ لأننا غير مكلفين أن نتجنب الغرابة في كل حال، وأن نحكم على الدنيا بأنها لن تجيء يوما بغريب.
وقديما ذهب الميل إلى التبسيط بالمؤلفين إلى حد اختلاق العجائب التي هي أغرب من المعجزات التي أنكروها، والتمسوا من أجلها العلل والتأويلات. فجاء كارل فردريك بارد الألماني في أواخر القرن الثامن عشر يفسر المعجزات، ويقرب قصة المسيح إلى العقول التي لا تؤمن بالخوارق والأعاجيب، فإذا هو يزعم أن المسيح كان تلميذا لجماعة سرية كانت تعمل في ذلك العصر كما تعمل جماعات الثائرين، وأنها تعهدت المسيح من مولده فعلمته وأقرأته التاريخ وأنباء الشهداء والمرسلين، وأنه أعجبته سيرة سقراط اليوناني، وأحب أن يقتدي به ويستشهد في سبيل الحق استشهاده، وأنه كان يتكلم بلغتين لغة رمزية لا يفهمها إلا إخوانه في الجماعات السرية ولغة سهلة يفهمها سواد السامعين ، فحدث من ثم الاختلاف في مراميه والتضارب في روايات أقواله، وأنه حين كان يخلو بنفسه في البرية وعلى قمم الجبال إنما كان يذهب إلى الكهوف لملاقاة رؤساء الجماعة والرجوع إليهم فيما يعمل وفيما يقول، وإن معجزات إقامة الموتى وشفاء المرضى كانت من تعليم لوقا الطبيب والعضو المقدم في تلك الجماعة، فهو الذي علم المسيح أعراض الموت الكاذب وأسرار العلاج والمداواة بالعزيمة، وساعده على بلوغ ذلك المكان الذي أعدوه له بين الشعب لإنجاز ما دبروه، وأنه لما حان الوقت المعلوم اتفق لوقا وصاحباه نيقوديمس وحارام على تقديم المسيح للاستشهاد، فتكفل لوقا بالدواء الذي يقويه على الألم ومطاولة الموت ، وتكفل نيقوديمس بأن يسعى عند ولاة الأمر في التعجيل بإنزاله من الصليب، إلى آخر هذه التلفيقات التي أهون على العقل أن يفسر المعجزات والأسرار ولا يفسر ما فيها من التخمين والتنجيم، وتعاقب بعد كارل فردريك بارد مؤلفون على هذا الطراز إلى أن بطل سحر المفاجآت والألغاز في القصص والآداب، فبطل كذلك في تأويل التاريخ، ولكنهم أصبحوا يحاولون أن يجعلوه خلوا من كل غريبة، وينظموه كله من وقائع يشاهدها العابر في مدارج الطرقات، وهذا في ذاته عجيب غير مقبول في الخيال ولا مؤيد بالاستقراء.
واسم «ابن الإنسان» الذي اختاره إميل لدفج لكتابه اسم يدور حوله كثير من الأقاويل، فالذين حققوا أن المسيح كان يخاطب الناس باللغة الآرامية يقولون: إن كلمة «باراناش» أو ابن الإنسان بهذه اللغة لا تدل على أكثر من «الإنسان» أو ابن آدم، أو بعبارة أخرى أنها مرادفة لكلمة ابن الناس الني نطلقها في العربية على كل أحد، فليست كلمة «باراناش» مطابقة لكلمة ابن الإنسان التي وردت في النبوءات، وليس لها ذلك الطنين والغموض الذي يدخل في روع سامعها باللغة اليونانية، ويكاد يشك القائلون بهذا القول في دعوة المسيح لنفسه، واعتقاده في رسالته وهو شك لا موضع له؛ لأن كلمة «ابن الإنسان» ليست كل ما في كلام المسيح من الدلالات على الرسالة المكتوبة في أسفار التوراة، فمن آمن بوجود المسيح فليؤمن بدعوته لنفسه؛ لأن الشك في هذه الدعوة لا يستند إلى قول راجح.
إن قوة المسيح الروحية هي أساس كل عمل عظيم جاءت به هذه الشخصية العظيمة أو اقترن باسمها في سياق التاريخ، وقد يكون العطف عليه - عطف النساء والشبان الأبرياء والشيوخ الصالحين - سرا من أسرار الإيمان به والكره لظالميه والثبات على ذكراه، ولكن هذا العطف وحده ما كان كافيا لإنشاء دعوة كبيرة لو لم يكن وراء تلك الدعوة روح عظيم وسلطان أدبي يكون الاعتداء عليه مثيرا للنفس، مفعما لها بالسخط والإنكار، فعلى أساس العظمة الروحية فلنبن قيام العقيدة المسيحية، ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي من فعل البيئة ، وملاءمة الحوادث لانتشار الدعوة في جيل المسيح وفي الأجيال التي بعده.
وليس أثر البيئة وملاءمة الحوادث بالأثر القليل في هذه الدعوة ولا هو بالشيء الذي يكثر فيه الخلاف، فمن المحقق المجمع عليه أن عصر المسيح كان عصر استعداد للاعتقاد وتهيؤ لرفض القديم الرث، والإقبال على إيمان جديد. فاليهود كانوا يترقبون ظهور الملك المخلص لهم من أسر الظالمين، وكانوا يرجون في مبدأ الأمر أن يكون ذلك الملك المخلص ملكا حقا مسيحا أي ممسوحا بالزيت المقدس، يسترد لهم عرش داود ويكون ولدا من ذرية داود، ثم أخذوا ينقلون المسيح شيئا فشيئا من عالم الدنيا إلى عالم الروح قياسا إلى قوة الأعداء، واليأس من قهرها بالجيش والسلاح، فكلما كبرت في قلوبهم هيبة الدولة الرومانية، كبرت فيها صفة المسيح الروحية ولاذوا بالأمل في الرسالة بعد الأمل في إخلاف داود بملك من أبنائه، يضارعه في الحكمة والجاه، وما بلغوا إلى عصر المسيح حتى كان أحبارهم قد تشبثوا بتقاليد الدين تشبثا يزداد مع ازدياد الخوف من ضياع تلك التقاليد في غمار الحياة الرومانية، والعادات اليونانية التي تسربت إليهم من الفاتحين؛ فكان هذا التشبث مؤذنا بالنفور من شعائرهم العتيقة، ونصوصهم الحرفية، وداعيا إلى الشك في هذه الظواهر، والأخذ في الدين بالتسهل والسماحة، وتحضير الأذهان لتفسير النصوص بالمعاني الروحية، والمجاز المقول بدلا من تلك التقاليد التي يشق اتباعها على الناس في غمار المعيشة اليومية، وتقدمت المسيح طوائف كانت تتهم الأحبار بالرياء، وتتسهل في تفسير النصوص وتأويل التقاليد، ولا تتقيد بالأوامر والنواهي التي يتقيد بها الأحبار في التطهير والصلاة، فكان تهافت هيبة الأحبار والشك في التقاليد تمهيدا حسنا للإيمان بدين الروح، والخروج على دين الشعائر والحروف.
هذا في عالم اليهود، أما في عالم اليونان والرومان فقد ظهر قبل عصر المسيح مذهب الرواقيين المتقشفين، واشتدت وطأة الدولة الرومانية فكثر الناقمون عليها وعلى الدنيا من أجل ظلمها، واتسعت الفجوة بينها وبين رعاياها فاحتاجوا في وقت واحد إلى العزاء وإلى الثورة الروحية، ووجدوا كل أولئك في البشارة بالمسيح، وما تحمله هذه البشارة من الأمل للضعفاء والرفق بالمنبوذين والخطاة، ووافق هذا العصر امتزاج الديانات المصرية والهندية والفلسفة اليونانية، فتقاربت الفوارق في عالم الروح، وانهارت النظم التي طال على قيامها الزمان وتاقت الأفكار إلى شيء جديد، ولعل قراءة الأناجيل وحدها كافية للدلالة على استعداد الناس في ذلك الزمان للإيمان ويأسهم مما هم فيه، وثقل الوطأة على أعصابهم وعقولهم من حضارة تلك الأيام ومن مغاشم دولة الرومان، فما أكثر الصرعى والمجانين والمشلولين والمنزوفين فيما حدثتنا به الأناجيل من أخبار قصاد المسيح وطلاب الشفاء على يديه! وإذا ثقلت المغاشم على أعصاب الناس إلى أن يعد فيهم الصرعى والمجانين والمشلولون والمنزوفون بالمئات في إقليم صغير، فذلك عنوان لحالة النفوس، ودليل على بيئة صالحة للثورة والإيمان والتهالك في العقيدة، كما هو الشأن في كل من ثقلت على نفوسهم وطأة الآلام والشعور المكبوح، وتاقوا إلى مصرف للرجاء في عقيدة يوحيها إليهم رسول محبوب مهيب.
وكانت آمال المسيح هي آمال إسرائيل ولا ريب، وأمثلته العليا هي أمثلتهم العليا في التوراة، ولكنه كان بريئا من حجر التقاليد ناقما على رياء الأحبار متفتح القلب لأسمى معاني السماحة مطبوعا عليها بفطرته ممتازا بسعة الروح ورجاحة اللب وفصاحة اللسان، ولا نحب أن نعزو إليه ذهول المأخوذين كما توهم بعض كتاب سيرته، أو نتخذ من سكونه في محضر الأحبار بعد القبض عليه دليلا على وجوم عقله، واضطراب فكره ، فإنه ينبغي أن يكون عالما بالعاقبة التي تنتظره، وربما سكت لعلمه ببطلان كل حكم يبنى على اعتراف المسئول ولا تقوم عليه البينة، ويجري فيه الاتهام على حسب الشريعة الموسوية، فإن محاكمة المسيح كانت باطلة من وجهة الشريعة الموسوية، كما قرر ذلك القاضي الإنجليزي اللورد «شوارف دنفرملين» صاحب المباحث المعروفة في محاكمات التاريخ، فإن أشد الوجود ما كان ليمنع المسيح الكلام كما يتكلم غيره في مثل موقفه لو كان ما به هو خوف القصاص، وليس التسليم وقلة الاكتراث.
فالمسيح هو صاحب العقيدة المسيحية؛ والبيئة وملاءمة الحوادث لها قسطها المقدور في نشر دينه، وإقبال الناس على الإيمان ببشارته، ولكنه قسط لا تخلو من مثله عظمة حيث كانت، ولا يشترط في العظمة أن تخلو منه بحال.
رديارد كبلنج1
الشاعر كبلنج الذي ينزل مصر هذا الأسبوع، هو شاعر رحالة تفرقت حياته التي قاربت الرابعة والستين بين بلدان كثيرة، فليست هذه أولى رحلاته، ولا أطولها في مشارق الأرض ومغاربها. نشأ في الهند وساح في اليابان، وأمريكا، وأفريقيا الجنوبية، وأستراليا، وكاد أن يلم بكل طرف من أطراف الدولة البريطانية، فكان شاعر هذه الدولة بحق الطواف والمشاهدة، كما كان شاعرها بحق التنويه والإشادة، وهو في هذا العصر أشهر شعرائها وأكثرهم تداولا بين جميع طبقاتها، لا يجاريه في ذلك أحد ممن عاصرهم وعاصروه، وتقدمهم بالفضل أو تقدموه، وهو يستحق هذه الشهرة؛ لأنه أولى بهذا الضرب من الشهرة لا لأنه أشعر من أنجبت بلاده في زمانه وأعلاهم قدرا في مراتب العبقرية، وإنما استحقها لأنه شاعر كل يوم وشاعر كل إنسان، أو شاعر المعاني التي يألفها الجمهور في روحاته وغدواته، ويستطيع أن يألفها إذا هي عرضت له بغير سابق ألفة، فرديارد كبلنج هو كل إنجليزي في القسط المشترك بين جميع الإنجليز، وإن شئت فقل: إنه هو الإنجليزي الذي وقعت عليه القرعة؛ ليؤدي عن الجميع واجب الغناء والهتاف، فهو أحرى أن يكون صاحب وظيفة في الدولة، لا صاحب عبقرية شعرية معزول عن هذه الوظيفة. على أن عبقريته الخاصة لا تنكر؛ لأنها تلك العبقرية التي شاع بفضلها الشعر بين طبقات ما كانت تقرؤه ولا تلتفت إليه.
والسياحة هي ثروة الشاعر الكبرى، وينبوعه الذي استقى منه ما قد يستقيه غيره من الكتب والدراسة؛ فليس كبلنج بالرجل الواسع الاطلاع، ولا بالطويل الإقامة في المدارس والجامعات، وليس هو بالمتعمق في شيء من الأشياء، ولا بالذي تستحب قراءته في الشيء الوحيد الذي يميل فيه إلى إظهار المعرفة والبراعة، وهو وصف الآلات الصناعية وما إليها من أدوات الطيران والبخار، ولكنه يرتقي إلى قمته العليا حيث يصف المناظر، ويتحدث عن الهند ويتكلم مع الأطفال، ولك أن تتخيل رجلا طوافة جوالة خبيرا بالدنيا وبالناس، قد جمع نوادر السياحة وطرف الأحاديث، وجلس في بعض الزيارات إلى الكبار والصغار في حجرة الاستقبال فأقبلوا عليه يستمعون له ويستطلعون أخباره، والتف به الأطفال يريدون أن يأخذوا من أقاصيصه وألاعيبه بنصيب، فمن نادرة إلى طرفة إلى خرافة إلى وصف جميل إلى غير ذلك من بضاعة الرحالين العارفين بمختلف الأمم في مختلف البلدان، فإذا تخيلت هذا الرجل وأضفت إليه ملكة الكتابة المبتكرة، والملاحظة الدقيقة فأنت تعرف كبلنج، وتعرف كل ما تنتظره من منظوماته ومنثوراته وتعرف النطاق الذي يسبق فيه والنطاق الذي يخفق إذا تعدى إليه، وهو كجميع الرحالين يغلب عليه أنه يحيط علما بالناس، وقلما يحيط علما بالإنسان؛ فما شئت من وجوه متعددة وأجناس بعيدة وأطوار متغيرة، يقص عليك الرحالون قصصها، ويشرحون لك تواريخها ومأثوراتها، ولكنهم إذا تناولوا الإنسان الواحد لم يتغلغلوا في أطواء نفسه، ولم يسبروا من غوره إلا ما يسبره كل عابر طريق، وربما كان هذا الإنسان لا يعنيهم كثيرا؛ لأنهم لا يرونه في أنفسهم ولا في الآخرين، ولا يفرغون من عالم الدنيا فينقلبوا إلى عالم السريرة المحجوبة عن العيون، فانتظر عند كبلنج كل ما تنتظره عند ذلك الزائر الذي تخيلته في حجرة الاستقبال، واسمع منه كل ما يسمعه الزوار في تلك الحجرة، ولا سيما إذا أقبل على الأطفال يلهيهم بنوادر الحيوانات وأعاجيب المخلوقات، ولكن لا تنتظر من زائرك هذا أن يتعمق أو يتوغل في ذلك المجلس المطروق لكل زائر! فهو محدث ومغن في بعض الأحيان، ولكنه لن يكون كاهنا ولا حكيما إلا في عرض الحديث وفلتات اللسان، وقد تنتظر الشذوذ لهذه القاعدة العامة، فلا يخيب انتظارك لأن الشذوذ حاضر في هذه القاعدة حضوره في كل قاعدة سواها، ولعل الشذوذ هنا هو رواية «كم الأيرلندي» التي نزع فيها كبلنج بعض النزوع إلى التصوف وأسرار الروح، وخرج فيها بعض الخروج عن شعائر حجرة الاستقبال.
وأخشى من تكراري لذكر الاستقبال وحجرته أن يتطرق إلى القارئ خطأ في تصور كبلنج وأسلوبه وموضوعاته، فيحسبه من أولئك المتأنقين الذين يتكلمون بالكنايات ويشفقون على هوامس الآذان ، فكبلنج في الواقع أبعد الناس من هذه الطائفة، وأقلهم شبها بها في أسلوب الحديث وفي حذلقة الكناية، فهو لا يتورع عن لغة تمثل الحقيقة، ولو كانت لغة العسكر في الثكنات والحانات، وكل ما يشبه به زائر المجالس هو أنه لا يتعمق ولا يستطرد بسامعه من موضوعات كل يوم وكل إنسان: فأما فيما عدا ذلك فقد تسمع منه ما يأبى سماعه المتأنقون المتحذلقون، وقد تراه في ثياب «تومي» يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ويوحي إليك معاني اللعنات البذيئة، والفكاهات الغليظة، وإن لم ينطق بالألفاظ والعبارات.
كذلك أخشى أن يفهم القارئ أن كبلنج لا سحر فيه ولا غرابة؛ لأنه شاعر كل يوم وشاعر كل إنسان فلا مجال فيه لسحر الغرائب والأسرار. كلا فهذا إجحاف بالرجل وفهم لملكاته على غير الوجه الصحيح، فحق أنه شاعر البيت، والسوق، والطريق، والثكنة، والنهار، وليس بشاعر الصومعة والنفس الخفية والليل المعزول، ولكن غير حق أنه خلو من الحجر والغرابة على شئون كل يوم وكل إنسان، فإذا هي شعر وغناء، وإذا هو ينقل عرائس القصيد من أجوائها العالية، فيعلمها الخطر في الطريق بين السيارات والغوغاء وعساكر المرور! وتلك براعة لا يغمط حقها ولا ينسى فضلها.
ثم لا ننس كذلك أن كبلنج يحدث الناس عن الهند وهي في ذاتها أسطورة كبيرة ودنيا مسحورة ومتاع للخيال، يستخرج منه القارئ ما يغنيه عن خرافات الجن والعفاريت، وعجائب الأحلام والتهاويل، فالهند في شعر كبلنج هي الحلم الذي ينوب عن الأحلام والمجاهيل في شعر الآخرين، ولا يمنعها أن تكون كذلك أنها بلد معمور، له حيزه على الأرض ومكانه على خرائط الجغرافيا وأخبار الصحافة، فإن البعد معوان الخيال. والهند بعيدة جدا حتى على المقيمين فيها من الإنجليز والأجانب، وحتى على أبنائها الذين لا يعرفون حاضرها وغابرها إلا بالسماع، بل يوشك ألا يعرفوا الأرض التي يمشون عليها بغير السماع لما هم مستغرقون فيه من الأحاجي والألغاز!
ولد كبلنج في الهند وتزوج من الولايات المتحدة، وآباؤه الأقدمون من هولندة، وفي نسبه القريب مزيج من الأيكوسيين والأيرلنديين ! فهو خلاصة أجناس متفرقة، ولهذا أثره ولا ريب في تكوين المزاج والسليقة، ولكن شيئا من كل ذلك لم يكن له في تكوين أدبه ما كان لولادته في الهند من الأثر الكبير الذي لا ينفصل عن عمل من أعماله ولا فكرة من أفكاره، فإذا حذفت الهند وتوابعها من شعر كبلنج ونثره فقد حذفت عنصره الذي لا قوام له بغيره، والمرجح عندنا أنه لو لم يولد في الهند لما كان شاعر الاستعمار كما يلقبونه في بلاده، أو شاعر العلم البريطاني والدولة البريطانية دون غيره من الشعراء معاصريه. إذ الغالب على الإنجليز الذين يولدون أو يعيشون في المستعمرات أن يكونوا هم أشد الغلاة في تقديس الاستعمار، وكبلنج هو القائل بأمانة الرجل الأبيض في الحضارة الحديثة، وإن كل فرد من أفراد الأمم البيضاء مسئول عن سبعة أو ثمانية من أفراد هذه الأمم الملونة التي نصفها طفل ونصفها شيطان! وهو صاحب القصيدة الشائعة عن العلم الإنجليزي وصاحب الأبيات المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي الاثنان حتى تلتقي الأرض والسماء بين يدي الله يوم الحساب.» وهو كذلك الذي أتم هذا المعنى بقوله: «ولكن لا شرق ثمة ولا غرب ولا حد ولا معشر ولا ميلاد حين يتقابل الرجلان القادران وجها لوجه ولو أقبلا من أقاصي الأرض مفترقين.»
ويعزو بعض النقاد ولع هذا الشاعر بالمرعبات إلى نشأته في الهند، واستماعه إلى نوادر العجائز والقصاصين الذين كان يختلف إليهم في الخانات، ويتسقط منهم القصص والأساطير؛ ففي إحدى قصصه - وهي أبشع ما يأخذونه عليه - يجعل قردا يغار من زوجة صاحبه الصغيرة فيهجم عليها ويمزقها إربا إربا ثم يجلس والدم يقطر من يديه على مائدة الطعام، وأي معنى لهذه القصة التي يعافها السمع ويقشعر منها البدن؟ لا معنى غير الرعب والفزع وإثارة النفس بما لا تحب التأمل فيه! ولسنا نستبعد أن تكون بعض القصص التي ألفها كبلنج منقولة عن الأقاصيص الشعبية في الهند مع تصرف يسير في التنسيق والصياغة، فإن قصصه الأولى شبيهة بتلك البلاد ومأثوراتها، إذ كان يكتبها وهو يافع لم يتوسع في الاطلاع على مؤلفات القصاص.
يندر أن تورث العبقرية، ولا يندر أن تورث الأذواق الحسية، وقد كان والد كبلنج مديرا لمدرسة الفنون في لاهور، وكانت والدته وأخته تقرضان الشعر ولهما ديوان نظمتاه معا وسمتاه «ديوان أم وبنت». فكبلنج قد ورث الذوق الفني من أبيه وأمه، وزاد في الملكة بما ليس عند أبويه، فدقة الملاحظة أصيلة فيه مكينة في نفسه، وقدرته على الوصف هي شعبة من تلك الملاحظة الدقيقة، ومسحة من تلك القدرة الفنية الموروثة، ويقول الذين عرفوا آله وأقرباءه: إنهم كانوا جميعا من الطراز المفراح المقبل على الحياة، فهذه الحيوية الدنيوية إذن طبيعة في الشاعر قد ورثها من أبويه كما ورث منهما الذوق ودقة الشعور، ولا اتفاق بين هذه الطبيعة وبين ما ينعته به بعض النقاد من الكزازة، والجفاء، وضيق العطن، ونعوت أخرى لا تدل على المعهود في كلامه وفكره، فلعله تخرص الحساد، أو جهل الفضوليين الذين يكلفون الناس ما لا يطاق ويريدونهم على الصبر والرضا بكل صغيرة تخطر لهم، ولا يسمحون لهم بقليل من التحفظ والامتعاض، أما الذين عاشروا الرجل فيذكرون له المحضر الأنيس والنكتة المليحة، وإليه تنسب تلك النكتة التي تداولتها الصحف في أيام حملة النساء المطالبات بحقوق الانتخاب، فقد قال كبلنج لسيدة منهن: أولم تأخذ النساء بعد ما فيه الكفاية؟ فقالت السيدة: كلا! فلماذا يقسرون المرأة على أن «تأخذ» اسم زوجها؟ قال كبلنج مبتسما: ولماذا تترك له اسمه وقد أخذت كل شيء غيره؟ فكانت فصل الخطاب!
لسنغ1
بعد مائتي سنة من مولده
1
كان هيني من المعجبين بلسنغ أشد الإعجاب، وأنا من المعجبين أشد الإعجاب بالكاتبين الشاعرين معا، وأعتقد أنهما خير أدباء ألمانيا، وأن كلا منهما - ولا سيما هيني - مثل فذ في تاريخ الدنيا لا يضارعه في نوعه مضارع، ويندر أن يعجب الإنسان بأديبين أحدهما معجب بالآخر يرى فيه مثل رأيه ويحس نحوه مثل إحساسه، فمما يسرني أن أدع الكلام هنا لهيني يقول في لسنغ ما كنت أقوله لو أتيح لي أن أكتب بقلمه، أو يقول فيه ما هو صورة أنيقة صادقة لذلك الأديب في رأي كل من يقرؤه ويعجب بسجيته وأدبه. قال هيني في كتابه عن الدين والفلسفة:
ما من ألماني ينطق باسم لسنغ إلا ولهذا الاسم في صدره صدى مختلج، فمن عهد لوثر لم تنجب ألمانيا رجلا أعظم ولا أكرم من جوتهلد أفرايم لسنغ، وهذان هما آيتا الفخر والفرح لنا نحن معشر الألمان، نثوب في قلاقل الزمن الحاضر إلى مثاليهما المؤسيين فيجيباننا بنظرة حافلة بالأمل المشرق، وسيجيء بعدهما الرجل الثالث، الذي يتم ما بدأه لوثر ومضى فيه لسنغ، فهو بعدهما ثالث المحررين.
كان فضل لسنغ كفضل لوثر، فهو فيما خلا أثره الواضح المعروف الذي قام به قد ألعج روح الشعب الألماني من أعماقه، وأيقظ بنقده وحواره حركة عظيمة جامعة في العقول. كان نقده مسعر الحياة في وزمانه، بل كانت حياته كلها حملة حوار.
وقد سرى الإحساس بنقده النافذ إلى أوسع نطاقي الفكر والشعور في عالم الدين والعلم والفن، فهزمت براهينه كل مناجز وخرجت من كل نصر أقوى وأمتن، وكأنه كما قال عن نفسه كان يحتاج إلى النضال ليستنمي قواه ويبلغ بها حد الكمال، فهو كذلك البطل الشمالي الذي يتحدثون في الأساطير أنه كان يرث ذكاء من يقتلهم ومعرفتهم وشجاعتهم، وأنه انتهى بذلك إلى أن يستجمع في نفسه كل معاني الفضائل والكمالات. ولا يصعب علينا أن نفهم كيف استطاع هذا المقاتل المغوار أن يثير غير قليل من القلق في ألمانيا، ألمانيا تلك التي كانت يومئذ تتلفع بسبات أعمق من سباتها اليوم، فقد أذهلت جرأته الأكثرين، فكانت له هذه الجرأة خير نصير، ولا عجب فالجسارة سر النجاح في الأدب كما هي سر النجاح في الثورات وفي الغرام، فكانت فرائصهم ترتعد قاطبة من سيف لسنغ، وكانوا ولا رأس بين رءوسهم يسلم من ضرباته الدامغات، نعم فقد طاح برءوس كثيرة لمحض العبث والاعتداد بالقوة؛ وقد بلغ من نكايته أنه كان يرفع تلك الرءوس من حيث هوت على الأرض ليلوح بها للجماهير الناظرة إليه يريهم أنها خواء وأن بواطنها فراغ من كل شيء، ومن لم يصل إليهم سيفه أطلق عليهم سهام ذكائه تصميهم أنى ثقفتهم، فيعجب الصديق لدقة الريش في تلك السهام وتقع من العدو في صميم الشغاف، ولم تكن دعابة لسنغ تشبه هذا المرح وهذه الألاعيب الذائعات هنا في فرنسا - كان هيني يقيم في فرنسا - لا! لم تكن دعابته ككلب الصيد الفرنسي الصغير الذي يلاعب ظله، وإنما كانت هي القط الألماني الذي يلعب بالفأر قبل أن يقضي عليه.
أي لعمر الحق لقد كان الحوار متعة صاحبنا لسنغ وسروره، فما كان يبالي أكان مناجزه كفؤا له أم كان دون قدره، ورب أسماء قد أنقذها بالحوار من خمول هي أهل له عاشت في كتبه وحولها نسيج من أبرع التهكم وأمتع الفكاهة، كأنما هي حشرات مقبوضة في لفافة، فقد خلد خصومه لأنه أرداهم وقضى عليهم، ومن هنا كان يسمع بذلك ال «كلوتز» الذي أنفق لسنغ عليه ما أنفق من اللواذع والسخريات؟ إن الصخور الضخام التي دهداها عليه وسحقه بها كانت هي الصوة الخالدة التي دلت على طريق مصرعه.
وخليق بالتنبيه هنا أن هذا الرجل الذي كان أذكى الألمان كان كذلك أنبل الألمان، فلا شيء يعدل حبه للحقيقة، ولا موضع عنده لمساومة الباطل، ولو كان بهذه المساومة يخدم الحقيقة كما قد يفعل بعض الحصفاء في بعض الأحايين، فهو يقدم على كل شيء من أجل الحقيقة إلا أن يكذب من أجلها، وقد قال مرة: «إن الذي يجلب الحقيقة للناس محجبة مخضبة قد يكون سمسارها، ولكنه لن يكون عاشقها المفتون بجمالها.» وإنه لمما يكسر القلب أن تقرأ في ترجمته كيف بخلت الدنيا على هذا الرجل بكل مسرة حتى استكثرت عليه أن يلوذ إلى بيت يطمئن إليه، وقد خيل إليه مرة واحدة أن الحظ يبسم له فحظي بنعمة الزوجة المحبوبة وحظي بنعمة الأبوة، وسرعان ما حظي بهما حتى أفلتت منه النعمتان معا فكانت سعادته كشعاع الشمس يسطع على جناح طائر، فماتت زوجته وهي تلد ومات الطفل على أثر الولادة! وكتب عن ذلك الطفل إلى صديق له هذه الكلمات التي فيها ما فيها من فكاهة الرعب والأسى: لقد كان سروري قصيرا وكان فقدي إياه على كره ذلك الولد النجيب! فقد كان حكيما واأسفاه! نعم كان حكيما يا له من حكيم! ولا يخطر لك على بال أن هذه الساعات القلائل التي قضيتها في الأبوة قد جعلت مني أبا مسلوب الصواب بحب وليده، فليس الأمر كما تظن وإني لأعرف ما أقول، أليس من الحكمة أن يسحب ذلك الوليد إلى الدنيا بمقابض الحديد، وأنه لا يلبث فيها هنيهة حتى يلوح له ضلاله؟ أليس من الحكمة أن يغتنم فرصته الأولى لفراق هذه الحياة؟ آه! لقد عن لي مرة أن أسعد كما يسعد الناس فأخفقت في أملي أيما إخفاق. ... كان لوثر النبي الذي أومأ إلى الناس من سفر العهد الجديد إلى السفر المقدس الثالث. دعوته خليفة لوثر وأتكلم عنه هنا بهذه الصفة، ثم أتكلم بعد عن مكانه الفني، ففي هذا المجال كان له عمل ناجع في الإصلاح، وكان أثر سيرته لا يقل عن أثر كتابته في ذلك الإصلاح وهذا الجانب من جوانب جهاده هو أبرز ما ظهر له بين الناس وأكثر ما يدور الكلام عليه عند ذكره، ولكننا إذا نظرنا إليه من موقفنا الراهن بدا لنا أن معاركه الفلسفية والدينية أكبر خطرا من كل رواياته ومن كل آرائه في الروايات، على أن رواياته - كجميع ما كتب - لها شأنها الاجتماعي لا مراء، فما كانت «ناتان الحكيم» إحداهن قصة حسنة على المسرح فحسب، بل كانت كذلك رسالة في الفلسفة والفقه تؤيد الإيمان الخالص بالله وحده، إذ كان الفن عند لسنغ منبرا للعظات ينزل من منصة الوعظ أو من كرسي الأستاذ فيثب إلى المسرح لينطلق في الكلام ويظفر بالعدد الأكبر من السامعين، وقد قلت إن لسنغ متمم عمل لوثر؛ لأننا بعد أن قام لوثر فأطلقنا من عقال الموروثات ورد المسيحية كلها إلى ينبوع واحد وهو ينبوع الكتاب المقدس، رجعنا إلى الكتاب المقدس فعبدنا حرفه وران على العقول حكم الألفاظ، كما ران عليهم حكم الموروثات القديم؛ فلما جاء لسنغ كان له الفضل الأكبر في التحرير من طغيان الحروف.
مات لسنغ ببرنسويك سنة 1871 مجهول المقصد مكروها طريدا بين أبناء قومه، وفي تلك السنة ظهر بكونجسبرج كتاب عمانويل كانت في نقد العقل المجرد، فبدأ به ثورة فكرية في ألمانيا تقابل الثورة المادية في فرنسا وتعدلها في الخطر عند الباحثين المتعمقين. ا.ه.
هذان هما أعظم الألمان وأكرمهم في رأي هيني: لوثر ولسنغ، محرر العقول والنفوس من الموروثات، ومحرر العقول والنفوس من حكم الحروف، وقد أوجد التاريخ رابطة بين هذين الاسمين العظيمين قبل أن يوجد هيني رابطته بينهما بهذه المشابهة التي فيها من تقرير الواقع أكثر مما فيها من براعة التشبيه، فإن كلمنس لسنغ جد كاتبنا كان أحد الموقعين على البيان الذي صدر سنة 1350 بتعزيز المبادئ اللوثرية، وكان أبوه مؤلف كتاب مذكور يذب به عن تلك المبادئ التي اشتد حولها النضال في زمانه، فهو عريق في الجهاد لحرية الفكر والعقيدة، وهو أجرأ من آبائه جميعا؛ لأنه أذهل أباه وأغضبه بما اقتحمه من طرق جديدة في تحرير أفكار قومه وأرواحهم.
ويرى هيني أن عمل الكاتب في الدين والفلسفة أخطر من عمله في الفن والأدب، وقد تكون لهيني أسبابه التي تدعوه إلى هذا الترجيح؛ لأنه كان طريد العصبية الدينية، وكان يهوديا يعاني ما يعانيه سائر اليهود من الحرمان والاضطهاد في بلاد الألمان، فإذا أعجبتنا معارك لسنغ في ميادين الخلافات الدينية فلتلك المعارك شفيع عنده من جلالتها الباهرة لكل ملاحظ نزيه وشفيع آخر من موافقتها لهواه، ولا يجب أن يكون الإنسان يهوديا ليعجب برواية «ناتان الحكيم» وروح التسامح الذي تضمنته، والسمو والإخلاص في فهم حقائق الأديان، ولكنه يجب أن يكون مجروح القلب من مظالم العصبية حين يرجح جهاد لسنغ في ميدان الدين على جهاده في ميدان الفن والأدب.
فلسنا نعرف في العالم كله أديبا كان له فضل في تحرير آداب الغربيين كفضل هذا الناقد الملقب في أوربا بملك النقاد، وكتابه «اللاوكون» الذي سنعود إلى الكلام عليه في المقال التالي هو على كونه رسالة لم تكمل «إنجيل» فني قد خرج للأمم كافة بدين من الفن جديد ومذهب في النقد لم يكن له مثيل، قال ماكولي لصاحبه لويس: «إن قراءة هذا الكتيب كانت فتحا جديدا في حياته الفكرية، وإنه استفاد منه ما لم يستفده قط من كتاب» وناهيك بكتيب يثني عليه ماكولي هذا الثناء وهو ما هو من سعة الاطلاع في جميع اللغات، ومن دقة الملاحظة في تواريخ الآداب، ومن أصالة الرأي وكراهة الإغراق في كل ثناء، وقال أرنست فونتان: «إذا كان لسنغ عنيفا في بعض الأحيان وظالما في حملته على آدابنا - آداب الفرنسيين - فما كان ذلك إلا لفرط غيرته على تخليص قومه من الأصنام التي كانوا جد مستغرقين في عبادتها وتسديد الأدب الألماني إلى منهجه الطليق»، وهذه كلمة فرنسي في الناقد الذي جعل همه الأكبر تحطيم النماذج الفرنسية التي كان يعبدها الألمان، ولكنك لا تنصف هذا الناقد إذا قلت: إنه سدد الأدب الألماني وحده إلى المنهج الطليق، ولم تقل كما هو الواقع المقرر إنه كان أقدر السابقين على تسديد الأدب العالمي إلى ذلك المنهج، وإنما لا نستطيع أن نذكر قبله كاتبا في العصور الحديثة اجتمعت له ملكات النقد وأذواق الفن، ولا سيما الشعر والتصوير كما اجتمعت لهذا الناقد العظيم.
اللاوكون
2
اللاوكون في الأصل هو اسم كاهن إله البحر تبتون في مدينة طروادة، وإجمال قصته أن اليونان لما حاصروا هذه المدينة ويئسوا من فتحها صنعوا تمثالا عظيما على صورة حصان ودسوا فيه جماعة من شجعانهم وتركوه عند أبواب المدينة، وركبوا البحر متظاهرين بالرحيل يأسا من الغلب بعد طول الحصار، وكان لهم جاسوس في طروادة طفق يزين لأبنائها أن يسحبوا التمثال العظيم إلى داخل أسوارها ويحتفظوا به غنيمة لهم وتذكارا لثبات مدينتهم فمالوا إلى نصيحته، وتوجس الكاهن من عاقبة ذلك، فأنذرهم ألا يفعلوا مخافة أن يكون في التمثال نفر من اليونان مختبئين فيه لدسيسة دبروها بينهم وبين جيشهم الراحل، وضرب الكاهن التمثال برمحه فلم ينكسر فسحبه الطرواديون إلى داخل الأسوار، وأصر الكاهن على إحراقه فلم يلتفتوا إليه. قالت الأسطورة - أو الأساطير فإن هذه القصة كثيرة الروايات - وكانت الربة منيرفا تناصر اليونان وتشفق أن يصغي الطرواديون إلى إنذار كاهنهم فيكشفوا الدسيسة، ويحق الفشل على هذا التدبير وتبطل النبوءة القديمة التي أنبأت بفتح اليونان لطروادة فأطلقت الربة منيرفا ثعبانين هائلين على ولدي الكاهن وهو عند البحر يقدم القربان إلى الإله نبتون فالتهماهما ولم تغن استغاثتهما، ولا نجدته في دفع هذه الضربة من الربة الحانقة عليه الممالئة لأعداء بلاده، ثم أصيب في عينيه وأصبحت قصته مرتعا لقرائح الشعراء اليونان والرومان، وصنع فيها بعض المثالين هذا التمثال.
ويرى من ينظر إلى التمثال أن المثال قد صنع الكاهن حيث يبدو الألم على كل عضلة من عضلات جسده مبرحا شديدا، ولكنه لا يبدو كذلك من حركة شفتيه اللتين تفتران قليلا عن آهة رقيقة لا تناسب ذلك الألم المبرح الشديد، فهل في هذا التمثيل تناقض أو أن هناك سببا من أصول الفن يوجب أن يكون تمثيل الألم في عضلات الجسد غير تمثيله في حركة الشفتين؟
قال ونكلمان الناقد الفني الألماني المعاصر للسنغ: «إن قرار البحر ليبقى ساكنا وصفحة الماء عجاجة تضطرب ما طاب لها الاضطراب، وكذلك نرى في تماثيل اليونان ذلك الروح الكبير القرير وإن برح الألم وتفاقم العذاب فهذه الروح بادية في طلعة اللاوكون وليست بخافية في غير طلعته على ما به من شدة العذاب الأليم، وأنت ترى دلائل هذا العذاب في كل عضلة من عضلات جسده وكل عصب من أعصابه، ولكنه يتراءى على وجهه ووقفته بغير عنف ولا مجهدة، ففم لا يصرخ ذلك الصراخ المرعب الذي يرويه لنا فرجيل عن لاوكونه وفتحة الفم لا تدل على صراخ مرعب بل على أنين مكبوح.»
ومن هنا كانت بداءة لسنغ في الكتابة عن اللاوكون وعلاقته بالشعر والتصوير، ولهذا أطلق اسم اللاوكون على كتابه الذي تكلم فيه عن حدود الفنون وطرائقها في التعبير وإن لم يكن كله دائرا على موضوع التمثال وحده.
فلسنغ يقول: إن الصراخ مكبوح في وجه التمثال لسبب غير الذي ذكره ونكلمان في تلك الملاحظة، فاليونان لا يأنفون من الصراخ إذا برح بهم الألم، ولا يروي لك شاعر من شعرائهم خبرا عن أبطالهم الذين عانوا برح العذاب إلا وهو جاعلهم يصرخون الصراخ القوي المرهوب، فإذا كان تمثال اللاوكون لا يعبر عن ألمه بالصراخ فذلك راجع إلى الفرق بين الشعر والتصوير في طرائق التعبير لا إلى عظم الروح والرغبة في مغالبة الآلام، ومن ثم أخذ لسنغ في التفريق بين الشعر والتصوير وإقامة الحدود المحكمة لكل منهما في أساليب الوصف ومجازات التشبيه.
إن اللاوكون يغض من صراخه في رأي لسنغ لسببين متعلقين بأصول التصوير لا بأصول الأخلاق أو آداب التعبير عن آلام النفس البشرية.
فالسبب الأول هو أن منظر الصراخ على الفم وعلى ملامح الوجه بشع جد البشاعة مستكره جد الاستكراه، وما على القارئ إلا أن يمثل لنفسه فما مفغورا إلى أقصى ما يندفع إليه ألم المتألم ووجها تنقبض ملامحه حسبما توحيه حركة ذلك الفم المفغور، ثم يتصور كيف تكون بشاعة ذلك الوجه وموقعه الكريه من النظر والخيال؟ فلا المثال يرضى الجمال بتصويره على هذه الشاكلة لأنه منفر للنظر والفكر في آن واحد، ولا هو يرضى العطف؛ لأنه لا يعطي الناظر من أسباب العطف ما فيه الكفاية، وقد كان اليونان يكرهون تصوير البشاعة بل كانت حكومتهم تحرمها وتعاقب عليها. فلا جرم أن قد خطر للمثال الذي صور اللاوكون أن يكف من ألمه في ملامح وجهه، ويطلق من ذلك الألم في تصوير أجزاء بدنه، وقد فعل المصور تيمانتيس ما يشبه ذلك حين صور الفتاة أفيجينيا في موقف التضحية وصور الألم والحزن على وجوه النظارة كل بما يناسبه ويوافق قسطه من العطف والأسى، إلا أباها فقد غطى وجهه ولم يكشفه للناظر؛ لأنه لو سوى بينه وبين سائر النظارة في مظاهر الألم لكان ذلك مخالفا للواقع وللمعقول، ولو أعطاه حقه من تلك المظاهر لكان بشعا مستنكرا، فما صنعه مصور اللاوكون هو العرف الذي لا غرابة فيه عند اليونان ولا عند المحدثين الذين يفهمون الصور هذا الفهم ويؤدونها هذا الأداء.
فهناك فرق إذن بين الشاعر وبين المصور في طريقة التمثيل يبيح لأحدهما ما قد يحرم على الآخر، وليس كما قال بعض الأقدمين وجاراهم فيه معظم النقاد والمحدثين، من أن التصوير شعر صامت والشعر تصوير ناطق، ثم رتبوا على ذلك أحكاما شتى جرت إلى الخطأ في فهم الفنين على السواء.
ويسأل لسنغ: هل يتشابه شاعر القصة وشاعر الرواية التمثيلية في هذا الحكم؟ ولا يخفى أن لهذا السؤال موضعا هنا، إذ كان الشاعر القصصي يعطينا الصورة النفسية أو لا يعرض على أعيننا الصورة الجسدية، أما الشاعر التمثيلي فلا بد من ممثل نراه رأي العين ونستبشع منظره حين الإغراق في الصراخ وتقبيض الوجه، كما نستبشع هذا المنظر في صورة المصور والمثال، فإذا جاز للشاعر القصصي أن يشتد في وصف الألم على الحكاية فهل يجوز ذلك للشاعر الذي يصوغ كلامه في قالب الروايات التمثيلية؟ يقول لسنغ: نعم يجوز في بعض الأحيان لأننا لا نحتقر الصارخ في جميع المواقف، بل نحن نعطف عليه ونشعر بألمه إذا علمنا أنه لم يلجأ إلى الصراخ والولولة ضعفا وخورا، وأنه قد غالب نفسه جهد المغالبة وصابر الآلام كل المصابرة، وأعطى الرجولة حقها الذي لا يلام بعده على مطاوعة الألم ومؤاتاة الطبيعة البشرية، وكل هذا مستطاع أن يعبر عنه في الشعر، وأن يشرح على المسرح في المواقف المتتابعة، ولكنه غير مستطاع على هذا النحو في الصور ولا في التماثيل. •••
ذلك مجمل السبب الأول.
أما السبب الثاني فإجماله أن هناك فرقا بين الشاعر والمصور في اختيار الزمن. فالزمن مسلس العنان للشاعر يختار منه ما يشاء سابقا ولاحقا، ويعرض لك الصورة بعد الصورة متمما ومكملا بغير قيد ولا حد في هذا الباب، أما المصور فليس له إلا لمحة واحدة يختارها، وعلى سلامة ذوقه في اختيار هذه اللمحة يتوقف كل الأثر الذي يبغيه على شعور الناظم، فعليه من أجل هذا أن يختار اللمحة التي هي دون غيرها أملأ اللمحات باستيحاء السوابق واللواحق وتضمين المعاني المغيبة في المعاني المعروضة للنظر، ومن أجل هذا أيضا كان عليه ألا يختار لمحته بحيث توفي على النهاية القصوى لأول نظرة، ثم تحد الخيال فيقف مكانه ولا يتقدم ولا يتأخر ولا يلبث أن يمل ما يراه ويعرض عنه وهو كليل نافر، فإذا لاحظنا هذا فماذا يبلغ المصور من أنفسنا إذا هو مثل لنا اللاوكون في أقصى مدى ألمه، وجاء به فاغرا فاه مقبضا وجهه لا مذهب وراء رؤيته للتخيل ولا للشعور؟ إنه لا يعطينا مدى القصة واسعا كاملا، ولكنه يعطينا لمحة كابحة للخيال لا نلبث أن نملها كارهين. ولهذا كان مصور اللاوكون سليم البديهة والذوق لطيف الفطنة لدقائق فنه حين كبح صراخ اللاوكون، ولم يكبح خيال الناظر ولا شعوره.
وخلاصة الفروق بين الشعر والتصوير في رأي كاتب اللاوكون هي أن الشعر معني بوصف الحركات النفسية لا بوصف المشاهد المحسوسة، وأن التصوير على خلاف ذلك معني بكل ما يرى بالعين ولا يخامر النفس إلا من طريق الرؤية والملامسة، فالشاعر إذا وصف جمال المرأة وصف أثرها في النفس، ولم يشغل فنه بتصوير المحسوسات إلا من حيث هي دلالة على الخوالج والعواطف، أما المصور فله عمل آخر وهو نقل الصور من حيث هي مظهر ومكان له من حيث هي حركة وزمان، وهذه هي الخطوط البارزة في التفريق بين الفنين، ولكنها لا تمنع التداخل بينهما والالتقاء فيما يتشابهان فيه ويتوافيان.
ومن أمثلة لسنغ على الفرق بين الشاعر والمصور ها هنا صورة هلينا في شعر «هومر» وفي تماثيل المثالين وصور المصورين، فهي في التماثيل والصور امرأة فاتنة تم لها جمال الوجه والأعضاء، ولاحت بسمت بارع ينتقيه المصور على حسب المثل الأعلى من الجمال في ذوقه وخياله، أما في شعر هومر فأروع ما يروعنا من الصورة أن هلينا خطرت أمام شيوخ المدينة الحكماء فبهتوا وأقبل بعضهم على بعض يقول: لا عجب تضيع الأرواح وتشقى الأمم من أجل هذا الجمال! فليست هنا صورة محسوسة، ولكنه أثر في النفوس - نفوس الشيوخ - تتمثل به كيف يكون ذلك الجمال الذي لا يستكثر عليه الشيوخ الحكماء فضلا عن الفتيان الجامحين أن تشقى به الأمم، وتستعر حوله الحروب، فافرض الآن أن مصورا أراد أن يقلد الشاعر في تعظيم جمال هذه الفاتنة فصور لنا شيوخا مبهوتين يحيطون بها ويحملقون في وجهها فماذا يكون أثر ذلك من نفس الناظر؟ يكون أنه يستحمق أولئك الشيوخ ويتوهم أنهم نفر من تلك الطائفة المضحكة التي لا يزجرها الهرم عن التصابي ولا يزعها العقل عن غرور الشباب. ويكون على حق حين يتوهم ذلك لأنه لا يستطيع أن يدرك من الصورة كما أدرك من القصيدة أن ذهول الشيوخ الحكماء لم يكن إلا ابن لحظة عابرة، وأنهم كانوا ذوي الرأي من أهل المدينة المحنكين وليسوا نفرا من المتبطلين أحلاس الشهوات في سن يقبح فيها التصابي والمجون، وأنهم ما استعجلتهم الفتنة هنيهة حتى رجعوا إلى صوابهم وعادوا يقولون: أجل، ولكن عمار المدينة مقدم على كل ما عداه!
ونحسب أننا في غنى عن تنبيه القارئ اللبيب إلى إيجاز هذه الخلاصة، وأنها لا تغني عن مراجعة الكتاب ولا تمثل منه إلا بعض نواحيه، فلا يعرف اللاوكون حق عرفانه إلا من قرأ اللاوكون، ولكننا قادرون على أن نجمل هنا أثره الكبير في تصحيح الشعر، والتصوير، وإقامة الأذواق الفنية في الغرب على النهج القويم، فقد كان من هذا الأثر أن عدل الشعر عن حماقة الوصف المحسوس التي شغل بها المقلدون زمنا طويلا؛ لظنهم أنهم يرتقون إلى ذروة الشعر كلما ارتقوا إلى ذروة التصوير والتشبيه بالمحسوسات، وكان من أثره أن عدل التصوير عن الرموز المعنوية التي لا طاقة له بها، والتي هي ميدان الشاعر فهو عليها أقدر، وبها أحجى وأجدر.
في الأدب العربي
ابن الرومي: هل كان شريرا؟
1
كان ابن الرومي هجاء مقذعا في الهجاء، وكان لأهاجيه أثر كبير في حياته وفي شهرته؛ ومن هذا الأثر ما أشار إليه الأديب كامل أفندي كيلاني في «مقتطف» هذا الشهر، وعزا إليه سكوت أبي الفرج الأصفهاني عن الترجمة لابن الرومي مع من ترجم لهم من الشعراء والأدباء الذين لا يبلغون في الشعر مبلغه ؛ ولا يعلمون من ثقافة العصر علمه، فقد سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هاجهم وأقذع في هجائهم من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعله سكت لأسباب أخرى سنلم بها في مكانها من تاريخ الشاعر الذي نعنى بدرسه، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره، وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي شديد الكراهة للأمويين.
والواقع أن ابن الرومي لم يدع أحدا من النابهين في زمانه إلا هجاه أو أنذر بهجائه، والغريب في أمره أننا أخذنا نحصي أسماء من مدحهم وأطنب في مدحهم، ثم أخذنا نحصي أسماء من هجاهم وأغلظ لهم الهجاء، فإذا الممدوحون هم المذمومون أو المتوعدون بالذم إلا واحدا أو اثنين، وإذا أبطال الرواية المحببون هم أشرارها المبغضون المثلوبون، لا يكاد يفصل المدح عن القدح فاصل أو يكاد يكون المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان؛ لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا على حسب التواريخ والموضوعات.
هل كان ابن الرومي شريرا لأنه كان كثير الهجاء؟ لا، ولا شبهة من الريب في ذلك عندنا. بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء أو لو كان أكبر شرا لكان أقل هجاء لأبناء عصره، فما كان الهجاء عنده إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابه ذلك من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون، وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويتسخطون؛ لأنهم على ذلك مطبوعون.
إذا قرأت مراثي ابن الرومي في أولاده، وأمه، وأخيه، وزوجته، وخالته، وبعض أصدقائه، علمت منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم، والأنس بالأصدقاء والإخوان، وأنها هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة ، وليست مدائحه التي كان يمليها عليه الطمع أو الرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل التي لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرءوم، والصديق المحزون، ولن يكون الرجل كذلك ثم يكون بعد ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء.
ومن الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن حياة ابن الرومي نعرف أن الرجل كان لا يبخل بمعونته التي يستطيعها على أصحابه وزملائه، فكان يصلح للشعراء المغمورين قصائدهم، ويذكرهم بالخير عند ذوي الوجاهة والنعمة، وإن كانوا هم لا يذكرون له رفده ولا يرعون عهده، وكان يصنع القصائد لبعض الأدباء عسى أن يصيبوا بها غنما، ويصلوا بها إلى مجالسة العلية والأغنياء فيمدوهم بالحباء، أو يولوهم بعض أعمال الدولة. قال ابن المسيب: كان ابن الرومي يعمل الأشعار لابن عمار العزيري، وينحله إياها يستعطف بها من يصحبه، وكان ابن عمار منحطا فقيرا وقاعة في الأحرار وكان أيام افتقاره كثير السخط لما تجري به الأقدار في آناء الليل والنهار حتى عرف بذلك فقال له ابن الرومي يوما: يا أبا العباس قد سميتك بالعزيري، فقال له: وكيف وقعت لي على هذا الاسم؟ قال: لأن العزير خاصم ربه بأن أسال من دم بني إسرائيل على يد بختنصر سبعين ألف دم، فأوحى الله لئن لم تترك مجادلتي في قضائي لأمحونك من ديوان النبوة.
وكتب ابن الرومي إلى أحمد بن محمد بن بشر المرثدي قصيدة يمدحه بها، ويهنئه بمولود ولد له، ويحضه على بر ابن عمار والإقبال عليه يقول فيها:
ولي لديكم صاحب فاضل
أحب أن يرعى وأن يصحبا
إلخ إلخ ...
قال: «وصار محمد بن داود بن الجراح يوما إلى ابن الرومي مسلما عليه فصادف عنده أبا العباس أحمد بن محمد بن عمار وكان من الضيق والإملاق في النهاية، وكان علي ابن العباس - ابن الرومي - مغموما به، فقال محمد بن داود لابن الرومي ولأبي عثمان الناجم: لو صرتما إلي وكثرتما بما عندي لأنس بعضنا ببعض، فأقبل ابن الرومي على محمد بن داود فقال: أنا في بقية علة، وأبو عثمان مشغول بخدمة صاحبه، يعني إسماعيل بن بلبل، وهذا أبو العباس بن عمار له موضع من الرواية والأدب وهو على غاية الإمتاع والإيناس بمشاهدته، وأنا أحب أن تعرف مثله، إلى أن ولي عبيد الله بن سليمان وزارة المعتضد، واستكتب محمد بن داود الجراح وأشخصه معه، فاستخرج لابن عمار أقساطا أغناه بها وأجرى عليه أيضا من ماله، ولم يزل يختلف إليه أيام حياة محمد بن داود، وكان السبب في أن نعشه الله بعد العثار وانتاشه من الإقتار ابن الرومي فما شكر ذلك له، بل جعل يتخلفه ويعيبه، ومن عجيب أمر عزير هذا أنه كان يتنقص ابن الرومي في حياته ويزري على شعره ويتعرض لهجائه فلما مات ابن الرومي عمل كتابا في تفضيله، ومختار شعره، وجلس يمليه على الناس.»
نقول: ومثل هذا في العجب أن ابن الرومي نظر آخر قصيدة له مستعطفا لابن عمار، ومطالبا بحقه بعد ما كان بينهما من الملاحاة والقطيعة.
فالرجل لم يكن شريرا ولا رديء النفس، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في أعراض المهجوين؟ نظن أنه كان كذلك؛ لأنه كان طيب السريرة قليل الحيلة خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل ذلك العصر الذي اضطربت أموره وجرت فيه العلاقات بين الحاكمين والمحكومين وبين الناس عامة على الغيلة والنفاق والمداورة ومساوئ الأخلاق، فكان ابن الرومي مستغرقا في مزاجه الفني يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة؛ لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة، ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف من الدنانير ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا وكان خطيبا واسع الرواية، مشاركا في المنطق، والفلك، واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمانه، أو كما قال المسعودي:
كان الشعر أقل آلاته، وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا عليه إلا أن يعرف الناس أنه شاعر، وأنه كاتب، وأنه راوية، مطلع على الفلسفة والنجوم فتجيئه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟ وإذا لم تكن الوزارة، فلا أقل من الكتابة، أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهل ظلم أصعب على النفس من هذا الظلم؟! وهل تقصير من الزمان ألأم من هذا التقصير؟!
وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:
ما لي أسل من القراب وأغمد
لم لا أجرد والسيوف تجرد
لم لا أجرب في الضرائب مرة؟
يا للرجال! وإنني لمهند!
ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله؛ لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وأن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة والرواية والنجوم.
حسن! إذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة، ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟
لا؛ لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش، ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيثة تودي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان، واللعب بمغامز النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء وهؤلاء أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره، وغزارة علمه، وربما كان الوزير لا يثيبه إلا ليستصلحه، كما كانوا يقولون في لغة ذلك الزمان؛ أي ليتخذه نصيرا له عسى أن ينفعه يوما في مجالس الخلفاء والأمراء بكلمة يقضي بها مأربا، أو يكبت عدوا، أو بحيلة يقرب بها بعيدا أو يبعد قريبا، وأين يذهب ابن الرومي في هذا المجال؟ وماذا يرجو الممدوحون من تقريبه وهو رجل كما كانوا يقولون ممرور موسوس، أدبه أكبر من عقله، ولسانه أطول من صبره؟ لقد كان صاحبنا صفرا من هذه البضاعة، فلا جرم نراه يشكو تكبر الحجاب ودسائس الندماء والأصحاب، ويعطى القليل حين يجزل عطاء الآخرين، أو يثاب مرة ويحرم مرات، فقد بلغ من وكس حاله في هذا أنه كان يستجدي الكساء، فيمطلونه ويعود إلى الاستجداء فيعودون إلى المطل.
جعلت فداك لم أسأل
ك ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه
وروحي بعد في البدن
وبلغ من وكس حاله أن الممدوحين كانوا يقبلون شعره ولا يثيبونه، فإذا ألح في طلب المثوبة قالوا له خذ شعرك فامدح به غيرنا، كما فعل ابن المدبر حين قال فيه:
رددت علي مدحي بعد مطل
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت امدح به من شئت غيري!
ومن ذا يقبل المدح الرديدا؟
ولا سيما وقد أعبقت فيه
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعدما ملئت صديدا
وكان يصنع القصيدة ويتبعها خمس قصائد أو ستا؛ ليحصل جائزتها فلا يحصل بعد الجهد على شيء، ويعجب لذلك ويأخذه الشك في شعره فيقول:
عجبت لقوم يقبلون مدائحي
وينسون تثويبي وفي ذاك معجب
أشعري سفساف! فلم تجتبونه؟
وإن لا تكن هذي فلم لا أثوب؟
ولعله كان يتهم شعره أحيانا فيقول:
الشعر كالعيش فيه
مع الشبيبة شيب
فليصفح الناس عنه
فطعنهم فيه غيب
أو يقول:
قولا لمن عاب شعر مادحه
أما ترى كيف ركب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب اليا
بس والشوك بينه الثمر
وكان أولى بأن يهذب ما يخ
لق رب الأرباب لا البشر
ثم يعود إليه اعتداده بكلامه فيلقي الذنب على الناس؛ لجهلهم بمعاني الكلام:
ما خمدت ناري ولكنها
ألفت قلوبا نارها خامدة
أو يقول:
ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقردة
وما أنا المنطق البهائم والط
ير سليمان قاهر المردة
ويخطر له حينا أن الأمراء يحسدون شعره؛ لأنهم يقرضون الشعر فينفسون الجيد منه على الشعراء، ولا يبعد أن يكون ذلك صحيحا كما قال:
قد بلينا في دهرنا بملوك
أدباء علمتهم شعراء
إن أجدنا في مدحهم حسدونا
فحرمنا منهم ثواب الثناء
أو أسأنا في مدحهم أنبونا
وهجوا شعرنا أشد هجاء
قد أقاموا نفوسهم لذوي المد
ح مقام الأنداد والنظراء
وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله الذي قال فيه:
إخالك إذ جودت فيك مدائحي
منعت ثوابي حاسدا لي على شعري
أتحسدني تجويد ريط نسجته
لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر؟
تذكر هداك الله أني مادح
وأنك ممدوح فلا تعد بي قدري
ينافس في الشعر النظير نظيره
وجل ملوك الناس عن ذلك النجر
فإذا لج به الغيظ، واشتد عليه بلاء الحرمان من العمل والحرمان من المثوبة صرخ متعجبا:
أذو آلة؟ فاستخدموني لآلتي
بقوتي، وإلا فارزقوني مع الزمنى
أي ارزقوني مع العجزة، والسقماء، وهذه نهاية البؤش والخيبة ونهاية الحيرة التي لا يهتدي فيها المسكين إلى سبب مريح، فلم يبق له من عزاء إلا أن يوقن أن الدنيا هكذا طبعت على ظلم العارفين، ومحاباة الأغبياء:
رأيت الدهر يرفع كل وغد
ويخفض كل ذي زنة شريفه
كذاك البحر يرسب فيه در
ولا تنفك تطفو فيه جيفه
وكرر هذا المعنى في معارض شتى على قواف مختلفة؛ لأنه سكن إليه، ووجد فيه عزاءه ولو إلى حين.
وينبغي أن نذكر هنا شيئا لا بد من ذكره في هذا المقام؛ لأنه لازم لإدراك حقيقة الغضب الذي كان يستولي على نفس الشاعر المحروم إذا أجاد المديح ولم يظفر بالعطاء، فقد كان حق الشاعر في العطاء معترفا به يقبله الأمراء والوزراء، ويقره العرف وتجري عليه القدوة، فنحن لا نعرف اليوم ذلك الحق للشاعر، ولا نستطيع لهذا أن ندرك غضبه وأسفه إذا حرم وتوالى عليه الحرمان، أما في عهد ابن الرومي، فغضبه من المنع، وأسفه على فوات الربح من هذه المقاصد أمر لا غرابة فيه ولا اعتراض عليه، فالحكم عليه إنما يكون بمقياس أيامه لا بمقياس أيامنا التي لا يجب فيها البذل على ممدوح، ولا يجوز فيها الهجاء لشاعر محروم.
ومما ضاعف الاستخفاف بابن الرومي أنه كان متطيرا غريب الأطوار لا يأخذه الناس مأخذ الجد، ولا يزال المعربدون منهم يعتمدونه بالعبث، ويتماجنون عليه لشدة فرقه وانزعاجه من الفأل السيئ:
يضحك من كل ما بكيت له
كأن لذاته بآلامي
وكان بعضهم يصبحه بقرع بابه فإذا سأله: من الطارق؟ قال: مرة بن حنظلة، فيمكث في بيته لا يريم عنه سحابة يومه! وكانوا يسوقون إليه رجلا كريه الرؤية، يقابله بوجهه إذا خرج من منزله فيرتد على عقبيه! وكانوا يجورون عليه بالعبث فيتوعد فلا يحفلون فيهجو ولكن بعد مصابرة وإعتاب، وكم قال كما قال لابن عروس:
يا ليت شعري وليت شعرك إن
قلت وقلنا واستحكم القذع
ما ينفع الصارم اللسان إذا
غودر يوما وعرضه قطع
فارجع وبقيا أخيك باقية
واندم وفي الحلم فسحة تسع
أو كما قال لبني السمري:
يا بني السمري لا تجشموني
أن تثير القصيد كل دفين
قد تجاوزت ما تجاوزت عنكم
وتغاضت على قذاكم جفوني
لا يغرنكم بجهل حلمي
وارعوائي إلى حيائي وديني
إن لين المهز في السيف أمضى
بغراريه في صميم الشئون
أو كما قال لغيرهم ولغيرهم من العابثين والماطلين، الذين كانوا يضحكون مما يبكيه ويتفكهون بما يحز في قلبه ويدميه، فماذا أفاده العتاب وماذا دفعت عنه الشكاية؟! لا شيء! لأن الأعراض هانت على أصحابها في ذلك العصر، فلا يبالون المذمة إلا أن يكون فيها معنى الاجتراء على الجاه والقوة، وهم أحرى ألا يبالوها من شاعر كابن الرومي، ليس أسهل عليهم من أن يقولوا عنه: إنه هذيان ممرور! فيضيق ذرعا بهم، ويهجو كالمدفوع إلى غير ما يحب، ويظهر ذلك منه في بعض القصائد، كما يظهر في قوله:
لا يغضبن لعمرو من له خطر
فليس يرضى بظلمي من له خطر
كأنه يقول: لقد صبرت على عمرو فرضي الناس بظلمه إياي، فإذا هجوته أنا الآن فما يحق لذي خطر أن يغضب له، وهو منصف بيني وبينه.
وقد يعترف بالوسواس على نفسه ، ولكنه يرده إلى سوء حظه، وإجحاف الأيام به، كما قال حين رماه الناشئ بالوسواس:
أن أوسوس فحقيق
يسعد القرد وأنحس!
أصبح الناشئ ممن
يتغنى وهو أخرس
نافقا عند أناس
تعسوا والدهر أتعس
ته على الدنيا وقل ما
شئت واظلم وتغطرس
لم يقدس منك شيء
ولك الجد المقدس
كيف لا يشتد وسوا
سي وأشعارك تدرس
وضياء الشمس لا يقبس
والظلماء تقبس
فإذا عبث به العابثون، وتحدثوا بنحسه، لم يسره ذاك، وحق له ألا يسر به، وقال مناجزا:
زعمت بأنني نحس وأني
مجيبك معلنا لا أتقيكا
وانطلق يصخب ويثلب، وهو في رأيه معذور في ذلك الجرم الذي جنوه عليه، قبل أن يجنيه عليهم، ومعذور حتى من الحسد الذي كان لا يداريه ولا ينكره، ولكن يقول في التماس المعذرة له:
لا تلومن حاسدا، ألم النف
س من البخس يا أخي شديد
وزد على ذلك فجائعه في بنيه، وأحبابه، واحدا واحدا، وهو أحوج ما يكون إلى معونتهم وعطفهم بين قوم كأنه غريب فيهم لا يفهمهم ولا يفهمونه، وزد عليه طمع الناس فيه حتى كانت تسلبه ملكه الزهيد امرأة كما جاء في بعض شعره، ويغصبه منزله الذي يسكنه تاجر يستهين به وبما عسى أن يصنع:
وراغمني فيما أتى من ظلامتي
وقال لي اجهد في جهد احتيالكا
فما هو إلا نسجك الشعر سادرا
وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا
لهذا وأمثاله كثرت أهاجي ابن الرومي، واشتد إقذاعه، وكان الذين يمدحهم بالأمس هم الذين يسبهم بعد ذاك، ولو أننا نصبنا ميزان العدل لكان ابن الرومي ملوما على المدح أضعاف لومه على الهجاء، فقد كان يكذب حين يمدح ويتوسل، ولم يكن يكذب حين يهجو وينتقم، وراجع تراجم المهجوين في قصائده تجدهم كلهم أو أكثرهم لصوصا لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب والمسلوب من أرزاق الضعفاء، ثم لا تنقضي فترة أخرى حتى يغرى به لصوص أكبر منه فينكبوه، ويستصفوا أمواله كأنهم تغافلوا عنه ريثما يجمع لهم هذه الأموال.
وإن في كتب التاريخ لسوءات لهم غير هذه، وآثاما جساما لا يقال فيها إنها تخرص شاعر مغبون، أو افتراء خصم متهم الأقاويل، فإن كان الصدق عذرا للثالب الصادق، فعذر ابن الرومي في التشهير والتجريح أوجه من عذره في الإطراء والمديح، ولو كان الرجل أكثر شرا لكان الناس أكثر اتقاء له واجتنابا لكيده، فقلت حاجته إلى سوء المقال، وأعفى أعراضهم وأعفى لسانه فأراح واستراح.
صور وأخلاق1
مفاخر الأجناس هل الأوربيون أفضل بني الإنسان؟
الفخر بالأجناس قديم لم تخل منه أمة ولا قبيلة، فما من جيل من الناس إلا وله فضائل يدعيها ومناسب يرتفع بها أحيانا إلى آلهة السماء، وأحيانا إلى أعاظم القديسين، فضلا عن المناقب والصفات التي لا شريك له فيها من أجيال الأرض أجمعين، ولا غرابة في هذه الدعاوى إذا سوغتها ظواهر الأمة، وساندتها القوة والثروة والكلمة الغالبة، ولكن الغريب أن تشيع هذه الدعاوى بين أمم لا قوة لها ولا مال ولا غلبة، وأنها ربما كانت في هذه الأمم أكبر مزعما وأشد غرورا مما تكون في غيرها! كأنما هي عوض عما فقدته الأمة من دواعي الفخر الصحيح وعزاء عم تصبو إليه من العزة والكرامة، وهي على كل حال أنانية قومية تجري على وتيرة الأنانية الفردية في الظهور أو الضمور، فكل إنسان في نفسه سلطان كما يقول العامة وكل أمة سلطان في نفسها كذلك!
كان المصريون يرون أن المصري هو الإنسان الكامل ثم تتوالى الدرجات بعده إلى السادسة وهي درجة اليوناني عندهم في تاريخه القديم، وكان اليوناني يحمد الله على أن خلقه من ذلك الجنس ولم يخلقه من البرابرة، وكان البرابرة ينظرون إلى الرومان واليونان نظرة اشمئزاز واستهانة؛ لأنهم قوم مؤنثون مترفهون، وكان العرب هم صفوة الخلق كافة وكل من عداهم أعاجم غلف لا يفقهون الحديث، وكانت كل قبيلة من قبائل العرب لها من الفضل على سائر القبائل العربية مثل ما للعرب جميعا من الفضل على الأمم الأعجمية، ثم جاءت العصور الأخيرة فإذا كل أمة من أمم الحضارة الحديثة تزعم زعمها وتفتخر على الأمم الأخريات فخرها: الإنجليز سادة الأرض، والفرنسيون معدن الحضارة، والطليان يرثون دعوى اللاتين الأقدمين، ويرجمون أمم الشمال بتهمة البربرية والهمجية، والروس يقولون إنهم هم الشعب الذي اختاره الله ليجدد الحضارة الأوربية، ويحيي موات هذا العالم الذي تهالك من الجهد والإعياء، والتوتون هم ملح الأرض لا عظيم في الدنيا إلا وهو من سلالتهم، ولا حكيم ولا شاعر ولا مصور ينبغ في المغرب أو المشرق إلا وفيه عرق من عروقهم ونفحة من دمائهم، وغالى بهذا الوسواس فيهم رجلان من العجيب أنهما أجنبيان عن وطن الجرمان في هذا الزمان: أحدهما «جوبينو» الفرنسي والآخر «شمبرلين» الإنجليزي! وباعث الأول على تمجيد التوتون أنه كان من أشراف فرنسا فأراد أن ينقض مبادئ الثورة الفرنسية، وينكر حقوق الشعب فادعى أن السواد والعلية في فرنسا من عنصرين مختلفين، وأن السيادة للأشراف إنما جاءتهم بحق الإرث؛ لأنهم ذرية التوتون الذين سادوا البلاد قديما بما رزقوه من مزايا القدرة والشجاعة والعقل الراجح والخلق المكين، وباعث الثاني أنه انتمى إلى البلاد الألمانية، فأراد أن يرتقي إلى الجرثومة الأولى التي يجتمع لديها الألمان والإنجليز وأن يرجع إلى الأصل الذي يستوي فيه الألماني العريق والألماني الدخيل!
وأصبح الفخر بالأجناس علما!
نعم أصبح الفخر القديم الذي نشأ مع الخرافات القديمة علما جديدا له حرمة العلوم التي عليك وعلي وعلينا أن نقر بها مؤمنين، ولكن العلم الجديد لم يكن إلا صبغة حديثة لتلك الخرافة العتيقة، ولم تكن له من نتيجة إلا تلك التي كان الأوربيون يزعمونها قبل أن يكون لهم علم وقبل أن تكون للأجناس دراسة، وهي أنهم هم خير من في الوجود، وأن الحاكمين منهم اليوم هم أصلح الناس للحكم وهم أصلح الناس للدوام فيه! وأما الأمم الأخرى فلا نصيب لها إلا نصيب التبع الذي لن يجوز له أن يطمع في المساواة الآن ولا في أي زمن من الأزمان. هكذا قال العلم الحديث والعلم الحديث صادق شريف، فسواء قسمنا الأمم إلى آرية وسامية أو إلى شمالية وجنوبية أو إلى بيضاء وذات ألوان فالنتيجة واحدة في جميع هذه التقسيمات وهي أن الأوربيين هم أفضل من غبر وحضر، وأنهم هم السادة الأعلون الذين بينهم وبين المسودين الأدنين حاجز لا يعبر، وتفاوت لا تدارك له ما بقيت الأرض أرضا والسماء سماء.
لكن ما قول العلم الحديث إذا قال له قائل - باسم العلم الحديث - إنك أخطأت يا هذا؟ وإنك لم تعد أن تكرر لنا الخرافة البالية في ثوب جديد؟ أتظن أن العلم الحديث يغضب؟ وإذا غضب أتظن أن غضبه هذا يثني الذين معهم الحقيقة عن إبدائها، ويسمح للجهل القديم أن يرجع للناس في زي العلم الحديث بلا جواز ولا بحث ولا تفتيش؟
يغضب أو لا يغضب. لقد فعلها العالم النمسوي «فردريك هرتز» وقال ما قال وأجره على الذي خلقه! قال لعلماء الأجناس المتعصبين إنكم مخطئون جد مخطئين، وإن أصلا من أصول الأمم المختلفة لا يخلو من أوشاب كثيرة يدخل فيها غربيون وشرقيون، وإنه ما من محمدة تدعى لأوروبا إلا وللأجناس الأخرى مثيلاتها، وما من مذمة تدعى على الأجناس الأخرى إلا وفي أوربا قديمها وحديثها مثيلاتها، وأيد كل قول قاله ببرهان إن لم يكن دامغا نافذا فهو لا يقل في دمغه ونفاذه عن براهين جوبينو وشمبرلين.
فللزنوج أثر في أوربا تدل عليه الجماجم التي وجدت في ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، وكرواتيا، ومورافيا، ووجد ما يشابهها منذ ثماني سنوات في أفريقيا الجنوبية، وقد بقي أثر للأقزام السود في جبال الألب إلى عهد بليني الذي تكلم عن هؤلاء الأقزام، وعززت كلامه القصص والأساطير.
ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون في الشرق؛ لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلا في مدى سبعة وعشرين يوما من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات ، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور أخرى: منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير إذن من زوجته وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي، ثم من شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان.
ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين، فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون، ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين - كرشمر وكيسلنج وفك - أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسا واحدا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب، فيما يقول هيرودوت، والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سام وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه سام آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.
ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب، ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام، فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس، وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني، وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.
يقول هرتز: «لا ترى أحدا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر، أما في بني الإنسان فالفرق اليسير - بالغا ما بلغ من التفاهة - كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة، وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر، فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»
كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوربيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين، والكتاب بعد حقيق بالدرس والتأمل لما احتواه من العلم الغزير والبحث الكثير ولو لم يكن فيه ذلك الإنصاف.
قراءة القواميس1
المعروف أن المعاجم - أو القواميس - لا تقرأ إلا كلمة كلمة، وأنها ككل شيء ضخم عظيم الشأن لا يطال في مخاطبتها إلا بمقدار كلمة ورد غطائها كما يقولون! ثم ندعها وشأنها حتى تعيدنا إليها كلمة أخرى وقلما يزاد عليها، فهل هذا الذي نعنيه بالقراءة؟ أو للقواميس قراءة أخرى كتلك الكتب التي خلقها الله تقرأ من الجلدة إلى الجلدة، ومن السطر الأول إلى السطر الأخير؟
نعم للقواميس قراءة كهذه بل قراءتان، وما من تلميذ إلا يذكر في صباه كيف كان ينظر إلى هذه الكتب الضخام نظرة الإكبار والإعظام، وكيف كان يصور لنفسه أولئك العلماء الأجلاء الذين استبحروا في العلم، واستوعبوا كل ما في هذه الكتب من كلام أعجمي أو عربي كأنه الأعجمي في الغرابة وصعوبة الألفاظ! وهو لا يذهب بعيدا في التصور والتقدير، فأستاذه هذا - أستاذه الذي يراه أمام عينيه - يحفظ القاموس ولا يخرم منه كلمة! أليس يسأله عن كل ما في كتاب المطالعة من كلمات غريبة فيجيب على البديهة؟ فإذا ساء حظ ذلك الأستاذ يوما فاحتاج أمامه إلى القاموس يبحث فيه عن كلمة فالناظر إذن هو الذي يحفظ القاموس وحده دون جميع المعلمين في مدرسته! وإذا دار الفلك دورة النحس على هذا الناظر أيضا في بعض زياراته القليلة للفرق الصغيرة أو الكبيرة، فالمفتش إذن هو المختص بحفظ القواميس والقادر وحده على أن يحمل في عقله هذا الكتاب الذي تعيا بحمله اليدان! ومتي يجيء اليوم الذي يرتقي هو فيه إلى هذه المرتبة العالية من الحفظ والتحصيل؟ ألا يجرب قليلا؟ ألا يشرع من الآن؟
ويتفق أن يشرع في الصفحة الأولى يكررها كلمة بعد كلمة وحرفا حرفا من تلك المعاني التي لم يضعها مؤلف القاموس عبثا هناك حتى يستغني القارئ الصغير ببعضها عن البعض الآخر! بل يتفق أن يحفظ صفحتين أو ثلاثا أو أربعا وخمسا ثم لا بد أن يدركه السأم ويستكبر هذا الخطب الجسيم ويعزي نفسه بصغر السن وبعد اليوم الذي يحق له فيه أن يتصدى لهذه الأهوال.
ولكن لماذا تراه يحفظ القاموس؟
للترجمة بالبداهة!
فلو أنه حفظه كله لما غابت عنه كلمة في الترجمة من العربية إلى الإفرنجية أو من الإفرنجية إلى العربية، ولاستطاع أن يرطن مع أكبر كبير من الإنجليز أو الفرنسيين بلا توقف ولا تلعثم، وليس هذا بالأمر الصغير الذي يستكبر في جانبه العناء الأليم في حفظ ذلك الكتاب الجسيم.
ومن الحظ الحسن لصغار التلاميذ أن حفظ القاموس - مهما صغر - شيء عسير ومحاولة غير هينة على أي كان من المحاولين، وإلا فلو سهل عليهم ببعض العناء أن يحفظوا القواميس كلها من كلمتها الأولى إلى كلمتها الأخيرة لعلموا بعد قليل من الزمن أنه تعب غير نافع واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد، كما يقول أبو العلاء.
فأما أولا: فلأن المعول في الكتابة والترجمة إنما هو على استحضار الكلمة في موضعها وعند الحاجة إليها، وليس على حفظ الكلمات الكثيرة بالمئات والألوف. فالذي يحفظ ألفي كلمة من اللغة ويقدر على استحضار كل كلمة منها في موضعها وعند الحاجة إليها، هو ولا مراء أقدر على الكتابة والترجمة ممن يحفظ عشرة أمثالها ولا يقدر على استحضار الكلمات في حينها.
وأما ثانيا: فلأن ملكة الاستحضار لا تغني عن ملكة التعبير، فقد نحضر الكلمات في الذهن عند طلبها، ويظل التعبير بعد ذلك مختلا ضعيفا؛ لأن التصوير مختل ضعيف.
وملكة الاستحضار على لزومها ووجوب العناية بها شيء غير الحفظ، وغير الفهم، وغير التعبير، بل هي قد توجد في المرء على أقوى ما تكون وهو لا يفهم معاني الكلمات التي يخزنها في ذهنه، ويستثيرها من مخازنها عند طلبه، وقد عرفت رجلا كانت فيه هذه الملكة النفسية على قوة خارقة للمألوف في جماعة الحفاظ، وهو قليل العلم بغير ما يحفظ بل قليل العلم بمعاني ما يحفظ، فلا يذكره إلا بحروفه دون معانيه، وهذا أدعى إلى الدهشة في الحقيقة إذ كان المعروف أن فهم معاني الكلمات يعين على حفظها، ويكون كالمناسبة التي تساعد على التعليق والتفكير.
كان هذا الرجل في «أسوان»، وكان صاحب رأي في الدين يعد رأيا جريئا من مثله، لأنه كان ينكر الأئمة الأربعة، وينكر الفقهاء جميعا، ويكتفي بالقرآن على حسب ما يفهم هو بغير حاجة إلى تفسير مفسرين، وكانوا يسمونه الخامسي؛ لأنه يجيء بعد الأئمة الأربعة بمذهب في الدين يتبعه ويدعو إليه ، ولما ظهر في صباه بهذا المذهب قبل ستين سنة أو قرابتها قامت عليه القيامة، وحملوه إلى الوالي يستتيبه فأبى أن يتوب وثبت على رأيه إلى آخر حياته.
والمدهش في أمر هذا الرجل ليس هذا وإن كان فيه من دواعي الدهشة ما فيه، إنما المدهش في أمره حقا تلك القدرة العجيبة على استحضار الكلمات بحروفها وألفاظها دون المعاني التي قد تعين الحافظ على سرعة الإحضار، وكان يحفظ القرآن وكثير من الناس يحفظون القرآن، ولكن الذي يمتاز به هو أنك لا تذكر له كلمة إلا جاءك بما يشبه لفظها من القرآن، ولا عليه من معناها في اللغة ولا في كتب هؤلاء النحاة المذبذبين الذين أدخلوا في الدين ما ليس فيه! وكان لا يقر لك بالعجز أبدا؛ لأنه كان يعتقد أنه ما من شيء في الدنيا إلا وقد ورد في القرآن بحرفه ونصه، فإذا هو عجز عن إخراج كلمة من كتاب الله فقد شك في دينه أو ألقى يد السلم لمجادليه، وكلاهما عنده بلاء عظيم.
كنا نداعبه ونسأله: أفي القرآن يا عم فلان ذكر للمليم؟
فما هو إلا أن نفاجئه بالسؤال حتى يكر علينا بالجواب: أي نعم يا بني! قال الله تعالى:
فالتقمه الحوت وهو مليم .
فتقول له: والنكلة؟ أفي القرآن ذكر لها؟
فلا يلبث إلا ريثما يجيل السؤال في رأسه ثم يقول: أجل! أجل! فيه يا بني
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى .
ولقيناه مرة على شاطئ النيل وفيه باخرة راسية لشركة كوك، فقلنا له: الآن يا عم فلان يتبين الحق من الباطل، هل ورد في القرآن ذكر لكوك؟
فسكت قليلا، وقال: كيف لا؟ ورفع صوته وكان قوي الصوت جهيره طويل القامة مهيب الطلعة، وله لحية بيضاء صافية، فجعل يشير إلى الباخرة ويكرر الإشارة إليها كأنما يطعن الهواء بأصبعه وهو يقول: إن الله تعالى قال في كتابه المنزل على نبيه المرسل:
وتركوك قائما
ونطق لها كأنما يقول وهو يشير إلى الباخرة: «وترى كوك قائما.»
وسأله بعضهم مرة: أين الشكولاتة في القرآن يا عم فلان؟
فقال:
كل يعمل على شاكلته .
وهكذا من أمثال هذه الأمثلة وأمثال هذه الأجوبة لا يلقى عليه السؤال حتى يطرق هنيهة أو يجيب السائل توا: «أي نعم يا بني! أي نعم يا زنديق! أي نعم يا منافق! أي نعم يا عدو الله!» على حسب ما يتبينه في لهجة السائل من المناكرة أو المجاملة، ثم يردف ذلك بالآية وفيها الكلمة المسئول عنها أو ما يشبهها في لفظها، فإذا تعذر عليه استخراجها - وقلما يتعذر عليه - فهو يدخلها في طي غيرها، ويقول عن الدندرمة مثلا إنها داخلة في
طيبات ما رزقناكم ، وعن أي شيء كان مجهولا عند تنزيل القرآن إنه داخل في قوله تعالى:
ويخلق ما لا تعلمون .
ومر يوما بصديق له يجلس بين اثنين ممن شهدوا عليه بالكفر وبالغوا في تعذيره، فما هو إلا أن لمح هذين الاثنين وصديقه بينهما حتى وقف في مجتمع السوق، وركز عصاه وهو يشير إلى اليمين وإلى الشمال: فلان!
فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا
وجعل يدور على نفسه ويهز ذراعه ويصيح بصوته الجهير: كلا كلا كلا، والناس يضحكون ويعجبون من سرعة استذكاره لتلك الآية التي تناسب مقامها أقرب مناسبة، وكانت له من أمثال ذلك نوادر كثيرة لا ينقضي أسبوع على غير نادرة طريفة أو عدة نوادر، فكان موضع دراسة عقلية وفكاهة لا يفرغ منها الدارسون والمتفكهون.
هذه ملكة الاستحضار على أقواها، وعلى الحالة التي قد تكون بمعزل عن ملكة الفهم وملكة التعبير، فليس كل من يحفظ يستحضر، ولا كل من يستحضر يعبر، وقراءة القواميس على هذه الطريقة - طريقة الحفظ والاستظهار - لا تفيد كما رأيت بغير ملكة الاستحضار وملكة التعبير.
أما الطريقة الأخرى - وهي التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال - فهي طريقة الترويح عن النفس بتقليب القاموس أحيانا لتصفح الكلمات، واستذكار ما يصاحبها في الذهن من الحوادث والمناسبات. كأن تكون واردة في بيت شعر، أو مقترنة بخبر من الأخبار، أو لازمة معادة في كلام بعض الكتاب أو بعض الشعراء، أو مناسبات غير ذلك لا تزال تورد على بالك من الأسماء والأخبار معرضا حافلا مفرق المعروضات موزع الأغراض.
فتحت كتاب الإفصاح فصادفتني كلمة «ثوج» فذكرتني هذه الكلمة أختها «المثوج». والمناسبة التي سمعتها فيها لأول مرة، وكانت في خطاب كتبه تلميذ معي في المدرسة إلى عالم لغوي كبير هو المرحوم الشيخ حمزة فتح الله.
كان صديقي هذا تقيا صالحا من صباه، وكان يحب التقاة الصالحين والذين عليهم سمت الدين والورع والطيبة والاتكال على الله، فكان يحب الشيخ حمزة ويجله ويقلده أيضا تقليد المودة والإعجاب إذا دعت إلى ذلك ضرورة المزاح، وهي ضرورة في سن الصبا كثيرة الطروق لا تهاب التجلة ولا تعرف الأعذار! ولما انتهت دراسته لم ينس العالم الكبير ولم يزل يواليه بالهدايا الأسوانية كالخوص المنسوج بألوانه الفرعونية، أو التمر الجيد، أو الفاكهة التي يتقدم إبانها في أسوان لحرارة جوها وسرعة النضج فيها، فأرسل إليه يوما كيلتين من التمر الفاخر وتعب في انتقائه جدا وتعب في انتقاء الكلمات التي يكتبها إليه أضعاف تعبه في انتقاء الهدية.
ماذا يقول؟ أيقول أرسلت لك بلحا في مقطف أو قفة أو أشباه ذلك من الكلمات التي يكتبها كل إنسان لكل إنسان؟ حاشى العلم وحاشى العلماء وحاشاه هو أن يقترف هذه الكبيرة في حق الشيخ، وأن يبتذل مقام العلامة اللغوي هذا الابتذال! كيف؟ أيذكر له القفة والبلح والمقطف في خطاب وهو لو استطاع لبدل حروف الجر التي يفهمها عامة الناس؟
وما أدري أين عثر بكلمة المثوج هذه، وعلم أنها مرادفة لكلمة المقطف، فهلل لها وكبر وأخذ في كتابة الخطاب.
أرسلت؟ لا! أزجيت أولى، وأبلغ.
إذن يكون مستهل الخطاب هكذا: «أزجيت إليك بمثوج فيه ...»
فيه ماذا! فيه تمر كما يقول عامة خلق الله! معاذ الله! بل فيه بسر، فهي كذلك أولى هنا وأبلغ! وإذا كان القاموس يقول: إن البسر هو التمر لون ولم ينضج ... فلا بأس هنا بهذا التحريف المقصود. إنه لأشبه بالمألوف من تطفيف قيمة الهدية، وتصغير شأنها، فلا ضير أن يجري الكلام إذن على نحو هذه البلاغة النادرة:
مولاي الأستاذ الجليل: أزجيت إليك بمثوج فيه بسر، ثم يجري على هذا النمط إلى السلام والختام.
وقد كان، وذهب «البسر» وذهب الخطاب، وجاء الشيخ حمزة في موعده من العام فاستقبله صديقنا الصالح، وضحك الشيخ ولم يدر صديقنا مم يضحك، ثم سأله وهو يغالب نفسه: ما المثوج؟
قال: أوليس هو المقطف يا مولاي؟
قال: لا يا بني! المثوج هو زنبيل يوضع فيه الزبل والتراب! وقهقه الشيخ تلك القهقهة التي يذكرها عارفوه.
لا جرم ليس من المألوف أن يبلغ التطفيف بالهدية هذا المبلغ! وصدق مرة أخرى قول المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب
ع وعند التعمق الزلل
إذا قرئت القواميس على هذه الطريقة فقد تجد فيها أحيانا كلاما تقرؤه غير الحروف التي لا تدل على شيء، وغير الأفعال والأسماء التي تدل على شيء والزمن جزء منه، أو تدل على شيء وليس له من الزمن جزء ولا جزيء!
شيء عن أخلاق ابن الرومي1
من فصل عن «مزاجه وأخلاقه» في الكتاب الذي نضعه عنه ... آمن شيء في الحكم عن هذه الأمزجة وأشباهها ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وأن لا تزال مترقبا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة؛ فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول. وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتا ما وهو مستخف بالعظائم لا يبالي منها ما كان أو ما يكون.
كيف هذا؟ أفي تركيبهم تناقض؟ لك أن تقول نعم، فتصيب بعض الإصابة، ولك أن توسع النظر فتصيب الإصابة كلها، ويحق لك أن تقول: كلا! إن التناقض هنا هو في الظاهر دائما وليس في الحقيقة، أو هو في تقلبات الإحساس وليس في أسبابها الدخيلة، ومن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت منه حري ألا يبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه وظلت بعيدة منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه ويلامس أعصابه، لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه وأعفاه عن شبحه، فهو الدهر بين تبرم وفزع من توافه الأشياء وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.
وكثير من أصحاب هذه الأمزجة من يحسنون السخر والتهكم وينظرون إلى الحياة بعين العارف بما فيها من الكبائر والصغائر، والتناقض والاتفاق؛ لأن هذه الملكة - ملكة السخر - لا تحتاج بعد دقة الملاحظة إلى غير النقائض والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه وقد يستغني عن مراقبتها في غيره، وقد كان ابن الرومي ساخرا ولا جرم. كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله! ولا جرم يسخر وهو مهيأ، فيما عدا ذلك للسخر، بتعدد أصوله وتوزع أهوائه وعصبياته، فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك ولا يسعفه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها الناس موضع الجد والقداسة.
ههنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب، والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة، كالذي يختصم إليه بنوه، ويدعي كلهم من فضله وعيوب إخوته وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه ووشائج حبه وحنانه.
فقد اجتمع لابن الرومي من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره. اجتمعت له دقة الإحساس والملاحظة، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه، وسعة النظر إلى الفوارق، وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث حتى بصحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثيل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له بل صورا شتى لا يعوزها شيء من العناية وأمانة الصناعة!
فهل ترى هذا الوجه الذي فصل للصلاة والتعبد في الفلاة؟ هو وجه ابن الرومي فيما صوره لنا حيث يقول:
شغفت بالخرد الحسان وما يص
لح وجهي إلا الذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا يش
هد فيها مشاهد الجمع
وهل ترى هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح؟! أو ترى هذا الخائف المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ هو ابن الرومي أيضا حيث يقول عنه نفسه:
وكيف؟ ولو ألقيت فيه بصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على نفس راكب؟
وهل ترى ذلك المنهوم الذي يشره إلى الطعام حتى في الأحلام، ويأسف على أن يذاد عنه وهو في المنام؟ هو ابن الرومي بعينه، وهو القائل:
ولقد منعت من المرافق كلها
حتى منعت مرافق الأحلام
من ذاك أني ما أراني طاعما
في النوم أو متعرضا لطعام
إلا رأيت من الشقاء كأنني
أثني وأكبح دونه بلجام!
أما سخره من غيره فله في أفانينه الكثيرة، ومعانيه الغريبة، ما يقوم بديوان كامل، وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له أمام داره ليتطير منه:
فصرت أخادعه وطال قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها، فتجمعا
وله في معلم صبيان مغن:
أبو سليمان لا ترضى طريقته
لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاور الطنبور محتفلا
ضرب بمصر وصوت في خراسان
عواء كلب على أوتار مندفة
في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طحان!
وله في «جحظة» وكان مغنيا جاحظ العينين:
تخاله أبدا من قبح منظره
مجاذبا وترا أو بالعا حجرا
كأنه ضفدع في لجة هرم
إذا شدا نغما أو كرر النظرا
وله فيه:
نبئت «جحظة» يستعير جحوظه
من فيل شطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لمنادميه تحملوا
ألم العيون للذة الآذان
وله في مغن:
إنك لو تسمع ألحانه
تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
موسوسا يخنق معتوها
وله في مغنية:
تضغط الصوت الذي تشدو به
غصة في حلقها معترضه
فإذا غنت بدا في «جيدها»
كل عرق مثل بيت الأرضه
وله في صاحب لحية:
لو غاص في الماء بها غوصة
صاد بها حيتانه أجمعا
أو قابل الريح بها مرة
لم ينبعث في خطوه أصبعا
وله في أبي حفص:
إن أبا حفص وعثنونه
كلاهما أصبح لي ناصبا
قد أغريا بي يهجواني معا
وحدي! وكان الأكثر الغالبا
إن كان كفؤا لي في زعمه
فليعتزل لحيته جانبا!
وله في رجل له منظر ولا أدب عنده:
طول وعرض بلا عقل ولا أدب
فليس يحسن إلا وهو مصلوب
وله في أكول مضاغة:
لا تعطل رحاك يا ابن سليمان
فليس الثواب فيها بدون
قسما لو وقفتها للمساكين
لما مسهم غلاء الطحين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ما ظننت الإنسان يجتر حتى
كنت ذاك الإنسان عين اليقين
وله في قصير أعور أصلع:
أقصر وعور
وصلع في واحد
شواهد مقبولة
ناهيك من شواهد
تخبرنا عن رجل
مستعمل المقافد!
أقمأه القفد فأضحى
قائما كقاعد
وله فيمن هجاه:
رقادك لا تسهر لي الليل ضلة
ولا تتجشم في حوك القصائد
أبي وأبوك الشيخ آدم تلتقي
مناسبنا في منسب منه واحد
فلا تهجني حسبي من الذم أنني
وإياك ضمتنا ولادة والد
وله في بخيل:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
وله في أصلع:
فوجهه يأخذ من رأسه
أخذ نهار الصيف من ليله
وله من أمثال ذلك ما يطول بنا إحصاؤه، ولا نرى هنا فائدة من الإسهاب في تكراره.
وأبرع ما يكون سخره كما ترى إذا هو شبه لك صورة محسوسة أو خلق لك من خياله صورة معنوية، فإنه يحكم التشبيه، ويحكم خلق الصورة، فيضحك بالمقابلة بين الشيء وشبيهه، ويضحك بما تتخيله من المنظر الغريب حين يعمد إلى خلق الشكول المعنوية، فصورة الرجل الذي يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصفعة الثانية، هي صورة الأحدب بنصها وفصها، لا يعوزها الضبط الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة الزرية، وكان فضلا عن هذا لا تفوته من الأغراض فائتة في اللفظ، ولا في المعنى، ولا في التصوير.
ألق بالك مثلا إلى كلمة «جيدها» في هذا البيت:
فإذا غنت بدا في جيدها
كل عرق مثل بيت الأرضه
فلو أن ساخرا غير مطبوع على السخر أراد هذا المعنى، لاختار كلمة غير «جيدها» للمبالغة في التقبيح والتشويه، ولكنك تنظر فترى أن أصلح الكلمات في هذا الموضع هي الكلمة التي توهمك الحسن وتحضر لك المناقضة التامة بين الوهم والصورة المشهودة، فيستوي طرفا النكتة، ويبدو لنا الفرق المضحك بين «الجيد» وبيت الأرضة كما نضحك من الفرق الذي يبدو لنا إذا وقف القزم إلى جانب العملاق.
وتأمل كلمة «طحان» في هذا البيت:
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طحان
فليس تمام القافية وحدها بهذه الكلمة، بل الصورة المعنوية هي التي تمت بها أحسن تمام؛ لأن السخر لن يستوفى في هذا التشبيه إلا إذا تمثلنا بموقف الغناء بغلا من بغال الطحانين العجاف الجياع يتنغم ويستكبر بأنغامه استكبار هامان، ولو كان بغلا من البغال الفارهة المترفة لنقصت الصورة وفترت فيها قوة السخر وقوة التشبيه، وقس على ذلك سائر الأبيات والصور، وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة والحياة.
أريحية الأمم1
تحيا الأمم ما بقيت لها أريحية وإعجاب، وتموت أو تدخل في دور الشيخوخة الفانية إذا نضب في نفوسها معين الأريحية، وفترت فيها حرارة الإعجاب، فإن المعجب بإنسان يثق ويرجو ويحس ويقدر، ولا يعوز الحي شيء من الحياة إذا اجتمع له الثقة والرجاء والإحساس والتقدير.
وإنما يفتر الإعجاب في النفس حين تخلد إلى العجز والراحة وتيأس من النهوض والمجاراة في مضامير السعي والحركة، فهي إذن غريبة عن مطالب الحياة، ومطالب الحياة إذن غريبة عنها، وكل فوز لا تشترك فيه ولا ترجو أن تشترك فيه هو شيء لا يعنيها ولا يستدعي اهتمامها ولا يربطها إليه سبب، فيستوي عندها ما يستحق الإعجاب وما ليس يستحقه، وتنظر إلى ميدان المفاخر كما ينظر المقعد إلى ميدان الحرب لا يغشاه ولا مأرب له فيه، نظرة فتور هي إن لم تكن نظرة كراهة ونفور.
من البلاد الحية نسمع أصداء الإعجاب كل يوم ترتفع عالية مجلجلة في أنحاء العالم ببطل متفوق في باب من أبواب القدرة والمهارة، وما هو إلا أن يتفوق البطل في ذلك الباب حتى تشمله الدنيا عندهم بحياطتها، وتعفيه من صغائر همومها، وتقصر آماله كلها على تجويد فنه والاحتفاظ لأمته بسمعتها وسمعته، فهو ما عاش في يسرة وحفاوة وتكريم واطمئنان، وهو في كفالة أمته من الساعة التي يرفع فيها ذكرها بين الأمم، ويبوئها مكان الزعامة في فنه بين طلاب ذلك المكان.
والأمم هي الرابحة بهذا الجزاء، وهي الرابحة بما تعطيه فضلا عن ربحها الجزيل بما تأخذه وتحتويه، فهي لا تعطي إلا وهي جائشة النفس بالفخر والأمل، والشعور والإقبال على الحياة، وفي بعض ذلك الجيشان الذي يثيره فيها البطل بفوزه وغلبته جزاء لها وأعظم به من جزاء!
والحكومات تشارك الأمم في هذا، وتنعم بالأنواط والألقاب على السابقين بل على تابعي السابقين، أيا كان الميدان الذي فيه يسبقون - تنعم على سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، والبارع في كل مطلب - ووسامها ولا ريب أقل من الوسام الذي ينيلها إياه بطلبها بما يلبسها من فخار السبق، ويقيضه لها من مزية التفرد في العالم بصفة من الصفات المأثورة، فحسب الفرد من واجب يؤديه لأمته أن يجعلها الأولى بين مثيلاتها مرة واحدة، وأن يرفع علمها فوق الأعلام لحظة واحدة، وأن يجعل اسمها أرفع من سائر الأسماء في صيحة واحدة. حسبه أن يصنع لها ذلك ليكون قد استحق هو التنويه بين الأفراد، واستحق مع التنويه أن يعيش عمره المعيشة التي تليق بمن هو فخر وطني ومجد ملايين.
بل يقل العجب من تمجيد سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، وأمثالهم في مضامير الألعاب والجهود؛ لأن هؤلاء يفيدون ويصلحون وليس عملهم لهوا ولا تزجية فراغ وهناك سابقون في مضامير أخرى لا فائدة لها ولا مجد فيها للسابقين مثلا في لعب النرد أو لعب الشطرنج أو تجرع الشراب والتهام الطعام، فهؤلاء - على قلة شأنهم - لا يحرمون في الأمم الحية حظهم من الفخر أو حظهم من المال، ويعيشون بقية أعمارهم بما يجنون من أرباح الرهان في هذه المضامير.
لما سافر «شارلي شابلن» من أمريكا إلى أوربا خرجت لندن كلها لاستقباله في حشد قلما شهده ملك من كبار الملوك، وكتبت إحدى الصحف الفرنسية تعجب لذلك وتتساءل: ترى لو كان الطبيب فنسان - صاحب لقاح التيفوس - بين الجموع المهللة لشارلي شابلن أما كانوا ينحونه عن الطريق ليقبلوا على بطلهم العزيز؟
فلم تمض إلا أيام حتى زار شارلي شابلن باريس فكان استقباله فيها كاستقباله في لندن، وكانت عناية الفرنسيين والفرنسيات به كعناية الإنجليز والإنجليزيات. وكتبنا يومئذ نعقب على ما كتبته الصحيفة الفرنسية لنقرر هذا المعنى في أخلاد الذين يجهلونه من المصريين: هل من الظلم حقا أن يظفر شارلي شابلن بذلك الإعجاب، وأن يحرمه أمثال فنسان في حياتهم؟ لعمري إن الإنسان ليرى سمات العدل في هذه الأطوار التي تشاهد في الجماهير، فإن الممثل الهزلي لن يظفر بعد موته بكثير ولا قليل من الإعجاب الذي هو حقيق به، فمن الإنصاف أن يكافأ في حياته هذه المكافأة على إضحاك الناس، وتسرية همومهم، وتنشيط عقولهم، وقلوبهم، وما هو بالعمل الحقير ولا القليل الشأن في هذه الدنيا المفعمة بالشواغل والهموم. والأمر على خلاف ذلك مع فنسان وأمثاله، فإن ذكرهم لا ينسى بعد موتهم، والإعجاب بهم يبقى زمانا وهم تراب في لحودهم؛ وليس هذا الإعجاب بالعملة الزائفة، بل هو عملة صحيحة مقومة يقبلها كل إنسان جزاء لأعماله، وهنا ضرب من الاقتصاد «الشعوري» غير مقصود في حركات الجماهير من هذا القبيل، فإن الطبيب «فنسان» يفيد بعلمه ولو لم يلق هتافا وتهليلا! أما شارلي شابلن فهل تراه يسخو بمواهبه بغير الهتاف والتهليل؟ أو هل يمكن التفريق بين الوقت الذي يضحك الناس فيه والوقت الذي يهللون له فيه ويهتفون؟
والواقع أن العالم لن يستطيع أن يسرف في تمجيد بطل عالم ولو مجد ومجد ومجد! لأن فائدة العالم من البطل أكبر جدا من فائدة البطل من العالم كائنا ما كان نوع الفائدة، وبالغا ما بلغ شأو التمجيد. •••
دع هذا جانبا وانظر الآن إلى جانب آخر لا يشكو من الإسراف في تمجيد البطولة والسخاء عليها، ولا تكون الشكوى فيه - إن كانت - إلا من الإسراف في الإهمال، والتثبيط وبخس الحقوق.
قرأت في الصحف خبرا لم أدر كيف أصدقه؛ لأنه غير قابل للتصديق، قرأت فيها خبرا موجزه أن فتى مصريا أحرز لمصر بطولة الدنيا في مصارعة الهواة، ورفع علمها عاليا بين جميع الأعلام، ثم هو الآن فراش يقف بالباب في ديوان من دواوين الإسكندرية! نعم في ديوان من دواوين الإسكندرية التي يعيش فيها ألوف من «لا شيء»، والتي أرادوا يوما أن يجعلوها قبلة الشرق والغرب في المسابقات والألعاب.
فتى مصري هو من جهة فراش على باب، ومن جهة أخرى أقدر رجل من نوعه في كوكب الأرض كله! يا لها من كبيرة كبرى؟ ويا لها من خارقة تحسب في خوارق التاريخ، وستحسب لا محالة في خوارق التاريخ.
ذهلت عما أقرأ وأنا أقرؤه وأردد النظر فيه، ذهلت ولا أزال كلما رددته في فكري يستولي على ذهول لا أفيق منه على وجه مريح، كيف يصدق هذا؟ كيف يكون؟ لا يصدق ولا هو قابل للتصديق، إلا بأن تراه رأي عينك وتلمسه لمس يدك، أما أنه شيء يصح أن يصدق ويصح أن يكون فهذا من وراء ما نعقل، ومن وراء ما يجب أن نعقل من عجائب الأمور.
أتدري أيها القارئ؟ لو كنت في أمة غربية ودار فيها ذكر المفاخر والمساوئ لخزيت من هذا الخبر أضعاف خزيي من خبر يقال عن عالم أو فيلسوف أو شاعر مغبون، لو قيل لي إن أكبر العلماء أو أكبر الفلاسفة أو أكبر الشعراء ظهر في وطنك فبخسوه حقه، وضاق به رزقه لما أطرقت لذلك خجلا كما أطرق وهم يقولون إن بطلا من أبطال العالم كله في المصارعة لا يجد القوت في وطنك إلا من وظيفة فراش يقف على باب.
ذلك أن المفروض في بطولة العلم والفلسفة والشعر أنها فوق متناول الجماهير، وأنها قد تسبق موقعها من الزمان فلا تلقى ما هي أهل له من الحفاوة والتقدير، وكلما ارتفعت طبقة النابغة واحتاج تقديره إلى ارتفاع النظر وارتفاع الشعور، وضح العذر وقلت الملامة، وكان ذلك سببا لتخفيف الوزر الذي تؤخذ به الجماهير إذا هي قصرت في حقه وعجزت عن جزائه، أما بطولة العالم في المصارعة، فبطولة يعرفها بفطرته العالم والجاهل والذكي والغبي والقوي والضعيف، وهي بطولة لا يعتذر بجهلها أحد إلا إذا كان عذره أدل على ذنبه وأوجب لخزيه، فالتقصير في حقها لا معنى له إلا أنه هو التقصير، وأنه التقصير الخالع الكالح الذي لا يخجل من نفسه، ولا يلتمس الأعذار بقبحه؛ لأنه من الإيغال في الكنود بحيث لا يراه ولا يشعر أن أحدا يراه.
أنا لا أعرف الفتى «إبراهيم مصطفى» الذي أحرز لوطنه هذا الشرف بين أمم العالم، ولكني أعرف أنه مصري، وأن عمله لمصر شرف له ولها، ولكن عمل مصر له وصمة لا تليق بالمصريين ، وليست مما يصح عليه السكوت.
الغرور1
الغرور والأمل صنوان توأمان، يمد كلاهما صاحبه ويعينه ويجبر كسره، فلولا الغرور لما كان أمل، ولولا الأمل لما كان غرور، وقد يغر الإنسان بما يأمله أضعاف غروره بما هو مالكه وقابض عليه بيديه، وقد يأمل الإنسان؛ لأنه مغرور بنفسه مبالغ في تقدير ما يستحقه، فلا يرى لها القناعة بما هي فيه ولا يزال ينطلق مع الأمل إلى المقام الذي يرضيه.
ويختلف الغرور والأمل كما قد يختلف الأخوان الناشئان من دم واحد في بيئة واحدة، فقد يكون أحدهما وديعا رصينا، والآخر جامح ذو خيلاء، وقد يكون أحدهما في يسرة وسعادة والآخر في عسرة وشقاء، فهما في النسب والمولد سواء، ولكنهما في الحظوظ والأخلاق غير سواء.
أما الاختلاف بين الغرور والأمل فهو الاختلاف بين الطيش والرصانة، والجهل والعلم، والتبرج والاحتشام، والكذب والصدق، والغش والإخلاص، فالغرور طائش جاهل متبرج كاذب غشاش أو أقرب إلى ذاك، والأمل رصين عالم محتشم صادق مخلص أو أقرب إلى ذاك، فإذا اختلفت المفاخر يوما ورجعا إلى المناسب فلكل منهما أن يقول لأخيه: من أبوك؟ ومن أمك؟ فإذا هما سواء، وإذا الأب آدم والأم حواء، وإذا هما نتاج زوجين من الأثرة والهباء، وما أكثر ما تلد الأثرة إذا تزوجت الهباء!
وليس للغرور ولا للأمل من أصل إلا أن الإنسان يحب أن يكون له كل ما يحب! فالآمل يحب لنفسه ما يحبه المغرور لنفسه . غير أن الأمل يتوقف كثيرا على الدنيا والغرور يتوقف كثيرا على الإنسان، فالآمل يرجو أن تعطيه الدنيا ما يريد والمغرور يظن أن الدنيا أعطته ما أراد وفرغت من العطاء، ولم يبق لها إلا أن تقر وتعترف بذاك.
صاحب الغرور يختصر الطريق، وأما صاحب الأمل فلا يغالط نفسه في مقياس طريقه. صاحب الغرور حاجته الكبرى إلى نفسه، وصاحب الأمل حاجته الكبرى إلى العالم، وقد يوجد الغرور بمعزل عن جميع أسبابه في رأي الناس، ولكن الأمل لا يوجد بغير أسباب مقنعة، وإن تعددت أساليبها في الإقناع.
مضى لي ثلاثة أشهر أرى عمارة تبنى وأسمع في العمارة فاعلا مغرورا بغنائه! ماذا لديه من أسباب هذا الغرور؟ لا شيء! بل لديه كل أسباب الصمت العميق لو كان يعقل ويرجع إلى الأسباب، ولكنه لا يعقل ولا يرعوي ولا يزال ولن يزال يغني؛ لأنه مغرور بصوته وزملاؤه مغرورون بزمالته. أو لعلهم غير مغرورين به ذلك الغرور الذي نتوهمه، ولكنهم هللوا لأن العرف يقضي على من يسمع بأن يهلل، ثم هللوا لأنهم في حاجة إلى التهليل ونسيان ما هم فيه من التعب، ثم هللوا لأنهم تعودوا التهليل يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، ثم هللوا لأنهم نسوا أسباب تهليلهم الأولى فحسبوا أن الصوت حقيق بذلك التهليل، وإذا كان الصوت صوت زميل والفخر فخر الزمالة كلها فلا ضير من المساهمة فيه بهذا النصيب القليل، بل بهذا النصيب الذي يربحون فيه ولا يخسرون.
وأنا أقف في النافذة أستمع وأتعجب، ويقف غيري في النوافذ يستمعون ويتعجبون. فماذا تريد من المغني الظريف أن يفهم من هذا الوقوف والإصغاء؟ إنه يفهم أنهما تعزيز لرأي الزملاء الذين لعلهم لا يجزون هذه النعمة حق الجزاء؟ وماذا تريد من أولئك الزملاء إلا أن يغتبطوا بصاحبهم أيما اغتباط، وأن يرثوا للحظ الذي رمى به في هذه الصناعة بين الطين والحجارة! ثم أن يحمدوا الله على أن جعل في صناعتهم أناسا مستحقين للثراء والجلوس في مجالس الطرب والغناء!
وكم فتن مغني العمارة من عقائل وسبى من حسان أصائل! نعم فتن وسبى وجاء بهن إلى النوافذ كما جاء بنا فأقبلن يسمعن ويعجبن ويتضاحكن، وهو يمعن في الغناء والتطريب وهن يمعن في الضحك والطرب! وإلا فكيف يكون الحسان المفتونات والسبايا المأخوذات إن لم يكن مصغيات معجبات ضاحكات! فقل ما شئت أنت وافهم أن الناس لن يعجبوا بصوت متقطع ناشز، وإن رجفه صاحبه كل ترجيف وموته كل تمويت، وأنهم لن يعجبوا بكلام من جملة أدوار ولا غناء الفن ولا من غناء الفطرة، وإن كان فيه ذكر الليل، والعين، والبكاء، والهيام، وأنهم لن يعجبوا بنغمة كأنها رجل صاحبها بينما هي في طبقة الأرض إذا هي في الطبقة الثالثة، وبينما هي في الطبقة الثالثة إذا هي في معجنة الطين! قل أنت ما شئت وافهم أنت ما شئت فإن قولك وفهمك لا يضيران المغني شيئا ولا يسكتانه هنيهة، ولا يبرح هو يغني ويغتر هو بفنه، والعمارة تبنى ولا يوضع فيها حجر إلا على أساس ذلك الغرور، فلو نوديت حجارتها التي بنيت على هذا الأساس الوطيد من غرور الإنسان فأمرت أن تزول عن أماكنها لما بقي أمامك من العمارة إلا كومة تراب! •••
على أن غرور هذا الفاعل المغني من صنف جيد نفيس بين أصناف الغرور التي تروج في هذه السوق، فهو يغتر بالغناء وله زملاء يهللون ومتفرجون ومتفرجات يقفون في النوافذ ويستمعون! فله عذر واضح، وإن كان هذا العذر لا يقدم ولا يؤخر في خلق غروره ولا في إيمانه بذلك الغرور، أما الأصناف الأخرى فمنها ما يؤمن به صاحبه ولا عذر له من طراز هذه الأعذار، ومنها ما يخلق صاحبه الحوادث خلقا ويخترع الإعجاب اختراعا ثم يؤمن به إيمانه بالحوادث الواقعة والإعجاب المشهود، فإذا اغتر صاحبه بالغناء ولم يجد من يهلل له ولا من يقف له في النوافذ فهو يخلق في وهمه الجموع تزحم الجموع والأجواء تجلجل بالأصداء ثم يفرح بها فرحه بالجموع التي يراها بعينه والأصداء التي يسمعها بأذنه ويتيه بها شيئا فشيئا كما يتيه المرء بالحق الواقع الذي لا ريب فيه، والناس يحسبونه مجنونا معتوها؛ لأنه يصدق ما لا وجود له بل ما يعلم هو قبل غيره أنه محض اختراع وخلقة أوهام، ولكن الناس ينسون أن الحوادث المخترعة ليست هي سبب الغرور، وإنما الغرور هو سبب الحوادث المخترعة، فالرضا بالنفس حاصل قبل أن ينسجه الوهم حوادث وأشكالا، وقبل أن يصوره الذهن صورا تترجم عن ذلك الرضا القديم، فلا جنون ولاعته هنا، ولكنها ترجمة فنية وتمثيل شعري لما هو موجود في النفس قبل ذاك.
وكما يحب العشق فيود أن يصور عشقه رواية، ويتخذ لها مواقف وأبطالا، أو كما تمتلئ قريحة الفنان بالمعاني فيترجمها قصائد أو تماثيل يسر برؤيتها، ويستعرض فيها الخواطر محصورة في رموزها، كذلك يخلق المغرور الحوادث ويخترع المفاخر، فلا يصنع بذلك إلا أن يلبس غروره ثوبا ويبني له جسدا، ويترجم عنه تلك الترجمة الفنية التي تعجبنا جميعا في قصص الشعراء، ومتاحف الصور، وملاعب التمثيل.
وهل يصدق القارئ أن في الدنيا أناسا يرضيهم منه أن يسمح لهم بتمثيل غرورهم بين يديه وهو حر بعد ذلك في التصديق والتكذيب، وحر فيما يضمره لهم من الإعجاب أو الاستهزاء؟
هؤلاء أصحاب صنف رخيص جدا من الغرور، وهم لهذا كثيرون لا يدل التعجب من شأنهم إلا على أنهم كثيرون وأنهم من الكثرة بحيث لا يلحظون، فإذا لحظوا يوما كانوا من أجل ذلك مستغربين جد مستغربين!
أعرف واحدا من هؤلاء ينفق خمسة جنيهات ليمثل في القهوة التي يتردد عليها رواية الغني، ويقنع من الخدم والجالسين بالمشاهدة دون التصديق! يراه الخدم والجالسون عاما كاملا بكسوة واحدة وسمت واحد، بل يرونه أياما يستدين الشراب ويسوف في أداء الحساب القليل، ثم لا يمنعه ذلك إذا هو ظفر ببضعة جنيهات أن يستعير أبهة الغني، ويأمر وينهى، ويسقي الجالسين من ماله وينفح الخادم والمتسول وماسح الحذاء نفحات أهل اليسار المبذرين، ويذهب إلى البيت وهو راض مسرور بما بذل في شراء هذا الإعجاب البخس من مال هو في أشد الحاجة إليه، فهل تراه يحسب أن جماعة القهوة حسبوه من الأغنياء وأخرجوه من زمرة الفقراء؟ لا! ما هو بالساذج ولا الغائب عن صوابه فيخطر له هذا الخاطر، ولكن الغرور كامن في نفسه، فهو لا يريد إلا أن يترجم عنه بتلك الرواية الممثلة والغبطة الفنية، فلا فرق عنده بين إحراز الثروة في الخزانة، أو في باطن شعوره، وماذا يعنيه هو إلا باطن الشعور؟!
ورأى مرة متسولا معتوها وهو سكران لا يعي فقال: عجبا! أيطلب هذا نقدا؟ أتريد يا هذا نقدا! خذ خذ، وأفرغ له ما في جيب صداره، وطفق يتكلف الاستغراب لمن حوله كأنه لا يعرف في حياته إنسانا يفتقر إلى مال، وربما كان فيمن حوله من أقرضه هو قبل ذلك بساعات أو أيام.
سبحانك اللهم ما أقدرك على إرضاء عبادك! وما أكثر المغبونين في الدنيا وهم يحملون مكارهها الثقيلة بهذا الأجر القليل.
الأساطير1
عندما أكون في الريف لا يشغلني شأن من شئونه هو أمتع للنفس، وأولى بالدرس من تحصيل مواده التي أسميها «أدب الريف» وهي: (1)
الأمثال الموروثة. (2)
مراثي النواح النسائية. (3)
الأساطير المعبرة عن أحوالهم الاجتماعية والنفسية.
وآسف كثيرا لأن هذه المواد الغزيرة لم تدخل بعد في الأدب الفصيح، ولم تحسب من ثروتنا الفكرية والفنية، مع أنها ترتقي عند الاختيار والتمييز إلى طبقة تضارع المأثور من مثيلاتها في أرقى الأمم، وأبلغ الآداب، وفي بعضها - وهو مراثي النواح - باب للمقابلة بين الألحان المصرية الحاضرة، والألحان التي كانت شائعة في عهدي العرب والفراعنة، وباب آخر للمقابلة بين تعبيرات النفس المصرية قديما وحديثا في الحزن على من تفقده في مختلف الأعمال والأحوال، فالمرأة محافظة في عاداتها البيتية التي ترتبط بها مراسم الأسرة، وشعائر الحزن أبقى الشعائر وأدومها؛ لأنها لا تزال تكسب من الموت صبغة الدوام والتقديس والعصمة من التغيير، فإذا بحثت مراثي النساء لم يخل البحث من نتيجة تكشف لنا من الموسيقى المصرية القديمة، وتعبيرات النفس المصرية ما لم ينكشف لنا في غير هذا المجال.
أما الأساطير فحاجتنا إلى جمعها وتهذيبها أكبر من حاجتنا إلى جمع الأمثال ومراثي المآتم؛ لأننا جهلنا حتى صدقنا ما يقال عنا من أننا - نحن الشرقيين - أمم خالية من الأساطير المعبرة، وعلى هذا نكون أمما مقفرة الخيال عاجزة عن الابتكار والتعبير القصصي الذي اشتهر به اليونان خاصة في الشعوب الأوربية، بل جهلناها حتى لنستغربها حين نسمعها كأنما نستمع إلى كلام منقول أو كلام مترجم، مع أنها تعبر عن حياتنا الشعبية، ولا تعبر عن حياة الشعوب الأخرى، ومع أنها حين نلتفت إليها كثيرة جدا تفيض بها أحاديث الشيوخ والعجائز، ولا تحسب عندهم من خير ما يتحدثون به ولا من خير ما يحفظون.
والحقيقة أن الأساطير الشعبية التي تعبر عن الحالات الاجتماعية والنفسية كثيرة في بلاد الريف، وأن بعض هذه الأساطير من نوع يحتاج المؤلف في تأليفه إلى خيال وملاحظة وملكة فكاهية كالتي تظهر لنا في أحسن الأساطير، وهي مفصلة على حسب الأشخاص والطوائف، ففيها أساطير عن المرأة السليطة، وأخرى عن الورع الكاذب، وغيرها عن الحكام المدلسين، ومعظمها يعبر عن الأغراض التي وضع لها أظرف تعبير.
حدثني حلاق ريفي فيما يثرثر به من أحاديث البلدة، ومواضع الاعتبار فيها بالقصص والأمثال قال: كان تاجر من كبار التجار مبتلى بامرأة سليطة نغصت عيشه وأفقرته وبغضته في وطنه، فأزمع الفرار بنفسه من هذا البلاء، وعقد النية عليه وتحين الفرصة الأولى التي غفلت فيها عين امرأته عن مراقبته وتسخيره، فأبق من بيته وبلده، ولاذ بالعراء يخبط فيه على غير هداية ومضت على ذلك أيام وهو آمن مستريح من جور امرأته هانئ البال بهذه الراحة، وإن كان في قلق وخوف من الأشرار والوحوش وغيرها من الآفات التي تعترض المسافرين في العراء، وإنه لنائم في اليوم الرابع أو الخامس عند بئر منحرفة عن الطريق إذا بيد تلكزه وصوت امرأة يصيح في أذنه. فهب مذعورا من نومته، من المرأة؟ أهي امرأته! نعم هي بعينها ويدها ولسانها! وقد جاءت معها بكل ما ادخرته له في أيامه الطويلة من الصفعات، والنكايات، وقوارص الكلمات.
وبعد معاتبة على كره، ومصالحة على رغم، قدمت له طعاما فأكل واحتاجا إلى الماء فهم بالنزول في البئر ليستقي له ولها، فقالت: إلى أين! قال: إلى البئر يا أمة الله! قالت: وهل أدعك بعد اليوم تخطو خطوة وحدك، وألح الظمأ عليهما فلم يجد بدا من الماء، واستخار الله في إنزالها معه على ما في ذلك من الصعوبة والخطر، فألقاها على ظهره وهم بالنزول، وإذا بدخان لاذع يتعالى من البئر وصارخ يصيح: واغوثاه! في جاه رسول الله. ناشدتك الله يا هذا لا تهبط علي بهذه المصيبة ولك عندي كل ما تريد.
فخاف الرجل، وخافت المرأة، وأذنت له أن ينزل وحده إلى البئر فنزل وهو وجل لا يجرئه على هذه المخاطرة إلا حرقة الظمأ ، ووجل من امرأته أشد من جميع الأوجال.
وهبط الرجل إلى قرار البئر فألفى هناك جنيا ثائرا يتلاوذ بجوانبها من الرعب والحذر قال: ما بك يا هذا؟ قال: بي مثل ما بك، فاحمد الله أن ساقك إلي وساقني إليك، وإلا لقد كنت تعطب هنا ويلحق بك ما لا تطيق. إني جني أصابني من امرأتي مثل ما أصابك من امرأتك فتركتها ولجأت إلى هذه البئر، فلما رأيتك رثيت لك، ورعيتك في نومك، وحميتك من الوحش والهوام، ثم ما راعني إلا امرأتك تنزل بها إلي ونساء الإنس المتمردات أدهى يا صاحبي من موارد الجان، فنطقت بكلمة الإسلام والحمد لله على الهداية، وها نحن شريكان في الولاء، فهل لك في صداقة أغنيك بها، ونعيش في أمان من امرأتي وامرأتك إلى أن يشاء الله؟
قال محدثي: فاتفقا واحتالا على الهرب فهربا، وكان مدار الاتفاق بينهما أن يتعرض الجني للناس، وأن يصطنع الرجل تلاوة العزائم الواقية من الجان، فيجمع ما يجمع من الثراء ويشتهر بين الناس بالقدرة والكرامة، ثم وصلا إلى مدينة عامرة فتعرض الجني لبنت الملك واستقدموا لها الأطباء والزهاد من أطراف المملكة، فما غنموا شيئا وأقروا بالعجز عن هذا المارد الخبيث. حتى إذا يئسوا من شفائها أذاع الملك أن من يشفيها يتزوج بها، وله الملك بعده، فظهر الرجل وتم على يديه الشفاء، وبنى ببنت الملك، وأعلنت ولاية عهده في جميع الأقطار.
ثم أعجب الجني ببنت الوزير فتعرض لها، وتوسل أبوها إلى «ولي العهد» أن يشفيها كما شفي بنت الملك فلباه؛ وحسب أن الأمر بينه وبين الجني على ما جرت به العادة في سابق النوبات، ولكنه ما اقترب من بنت الوزير حتى ناداه صاحبه. ارجع عني فليس الحال بيننا على ما تعهد، لقد أغنيتك وأبلغتك كل ما تتمنى وفوق ما تتمنى، فلا حاجة بك بعد اليوم إلى هذه الصناعة، ارجع عني يا هذا خير لك وأبقى!
قال: فوجم ولي العهد وعز عليه أن يفشل، وزاده كربا على كرب أن زوجته حزنت على صديقتها واتهمته في نصحه، وما فتئت تلح عليه وتلحف حتى قنط، وأطلعها على جلية الخبر عسى أن يستريح من إلحاحها واتهامها، ففكرت هنيهة ثم ابتسمت، وقالت له: لقد كتب الشفاء لبنت الوزير، ثم علمته كلمة يقولها للجني إذا ذهب إليه من غده، فبات وهو موقن بالنجاح.
فلما عاد في اليوم التالي إلى الجني صاح به هذا: ما بالك تعود؟ إني لأحسبك تجازف بعمرك وما أراك راجعا عن لجاجك، أو أعطبك وأظهر الناس كافة على جلية أمرك.
قال له الرجل: ليس الخطب يا صديقي اليوم خطب علاج وشفاء. إن المصيبة يا أخي أجل وأعظم، امرأتي وامرأتك على باب المدينة وما أدري، والله ماذا أصنع ولا كيف يكون القرار؟
قال: فما سمعها الجني حتى طار صوابه وصاح به: ماذا تقول؟ امرأتي وامرأتك بباب المدينة، لا قرار لنا بعد اليوم بهذا المكان، وولى وهو لا يلوي على شيء، ولا يفكر في صديقه الذي اتفق معه على السراء والضراء.
لا تجد في أساطير العالم أظرف ولا أجمل خيالا من هذه القصة في تمثيل المرأة السليطة التي يهرب منها الجان، وتهون المخاوف في النجاء من بلائها، ولو راجعت ما اخترعه شعراء الأساطير أو نظموه لما وجدت فيه ما هو أدل على الملكة القيمة وأبين عن قدرة التعبير بالقصص والأساطير.
وسمعت قصة عن علماء السوء، لا تقل في هذه المعاني عن قصة المرأة السليطة.
قال محدثي: مات عالم معروف بين الناس بالتقوى والعبادة، فرأى ابنه فيما يرى النائم أنه على أبواب الجنة يسأل عن أبيه خازن الجنان.
قال الولد: هل جاز بك أبي من هذا الباب؟
قال رضوان: لا! لم يجز بي أحد.
قال الولد: إن أبي عالم كبير قضى حياته في التقوى والعبادة، فراجع ذاكرتك لعله جاز بك وأنت لا تذكره، وأخذ يصف له أباه، ويسهب في الوصف، ويكرر له أن أباه عالم وأنه كان مشهورا بالتقوى والصلاح.
فلما سئم رضوان قال له: متى خرج أبوك من الدنيا؟
قال: من أسبوع مضى؟
قال: من عام مضى أيها الفتى لم أفتح هذا الباب، فابحث عن أبيك في مكان غير هذا المكان.
وذهب الولد إلى باب النار وهو لا يصدق ما يسمع، وسأل مالكا خازنها، فقال له مالك: يا بني ما يدريني بأبيك بين هذه الألوف التي لا ينقطع سيلها ليل نهار، ادخل فاسأل عنه في هاوية علماء السوء.
فدخل الولد النار وتعب وهو يتنقل من هاوية إلى هاوية، ومن قرار إلى قرار. حتى قيل له: هذه هي الدركة التي ينزلها علماء السوء، ونظر فإذا أبوه غارق في لجة العذاب لا يظهر منه إلا وجهه، وقد اسود وتغير وأوشك أن يخفى عليه من شدة التنكر، فراعه ما شهد ونادى أباه: ماذا حل بك يا أبتاه! أهذا مصير العبادة وخاتمة العلم والزهادة؟
قال: فناداه أبوه من لجة العذاب أن هون عليك يا بني! أنا أرفه حالا من كثيرين. وإن تحت قدمي لألوفا من علماء السوء لا يحصيها الحساب. •••
إن السليقة المصرية تعبر عن نفسها في هذه الأساطير أحسن تعبير، وأملحه وأدله على الخيال والملاحظة والفكاهة، ولو جمعت هذه الأساطير لكان منها ثروة فنية تنفي الشبهة عن السليقة المصرية، ويرجع عنها في تصوير أحوالنا الاجتماعية والنفسية في الشعر والتمثيل.
لو1
«لو» في حياة الأفراد كثيرة، وهي في حياة الأمم أكثر.
فما من أحد إلا ويذكر في حياته حادثا خطيرا، كان من الجائز ألا يحدث لولا مصادفة صغيرة، أو عملا جليلا تم على يديه، وكان من الجائز ألا يتم لولا كلمة سمعها أو خبر وصل إليه من حيث لا ينتظر وصوله، وأكثر الناس يستطيع أن يرد أمر نجاحه أو إخفاقه وسعادته أو شقائه إلى أشياء لم تكن تخطر على باله قبل وقوعها، ولو أنها وقعت عرضا كما اتفق بها لتغير مجرى حياته.
ويتفق هذا للأمم كما يتفق للأفراد أو هو في تواريخ الأمم أكثر اتفاقا؛ لأنها أطول أعمارا وأحفل بالحوادث، وأوسع منافذ للصروف والغير، فهي كذلك أحفل بالمصادفات أو ما نسميه نحن بالمصادفات؛ لأننا نجهل ما وراءه من الأسباب ولا نسلسل حلقاتها إلى مبادئها الخفية وأصولها الحقيقية، وهذا هو موضع البحث الذي يكتب فيه الآن الأستاذ «هيرنشو» أستاذ التاريخ بكلية الملك في جامعة لندن، وينشر فصوله المتوالية في مجلة «الأوتلاين» الإنجليزية.
من الأقوال المشهورة أنه لو اختلف أنف كليوباترا في الطول بمقدار ثمن قيراط لاختلف معه تاريخ المسيحية وتاريخ العالم بأسره.
كيف ذلك!
قالوا: نعم. لو طال أنف كيلوباترا أو قصر بمقدار ثمن قيراط لشاه وجهها وذهبت فتنة جمالها وعز عليها أن توقع في شباكها رجلا كيوليوس قيصر، أو رجلا كمارك أنطونيوس؛ ومن ثم كانت معركة «أكتيوم» تختفي من التاريخ، وكانت دولة «أوغسطس» تنشأ في حدود غير حدودها، ومعالم غير معالمها، فلا بيلاطس يحكم في سورية، ولا هيرود يملك على اليهود، ولا الظروف التي أتاحت للقديس بولس أن يجوب الأقطار للتبشير بدعوته كانت تتهيأ له كما تهيأت أو تحدث كما حدثت، وكان من المحتمل أن تظل رومة بمعزل عن المسيحية بقية حياتها، إلى غير ذلك من التقديرات التي ليس لها اليوم ميزان توزن به، ولا يقف بها التخيل عند غاية.
ذلك مثل مما يصح أن يتغير في تاريخ الدنيا إذا تغير فيه أنف امرأة، وليس هذا التغيير بالأمر الحقير كما يقول الأستاذ، ولا سيما في رأي السيدة التي تحمل ذلك الأنف الذي يراد به أن يقصر أو يطول! ولكنه بالغا ما بلغ من الخطر وجلالة الشأن تغيير يعجب الكثيرون إذا قيل لهم إنه يتصرف بالدنيا والآخرة هذا التصرف وتتعلق به مقادير الأمم وآمال بني الإنسان في العالم المجهول.
ومثل آخر من الأمثلة التي ذكرها الأستاذ في فصول هذا البحث، عمر الإسكندر الكبير الذي مات بحمى «الملاريا» في الثالثة والثلاثين وهي سن صغيرة، يفتتح فيها كثير من الناس سجل الشهرة والخلود. أفما كان من الجائز ألا يصاب الإسكندر بالحمى، وألا يموت في هذه السن الصغيرة؟ وإذا تأخر به العمر حتى ناهز السبعين أو الثمانين، وأنجز ما في نفسه من المطالب والخطط أفكان يمضي تاريخ الشرق والغرب في مجراه الذي يمضي فيه أم كان لا بد له من تغير يظهر لنا أمورا لم تظهر، ويخفي أمورا لم تخف، ويترتب عليه أن أناسا منا لا يولدون، وأن أناسا آخرين يولدون، وهم الآن في عالم الوهم والاحتمال؟
قال الأستاذ: لو أن الإسكندر الكبير لم يحتضر في سنة 323 قبل الميلاد بل عاش حتى بلغ الكهولة على الأقل فنظم فتوحاته، ووطد أركان ملكه، وأتم برنامج فتوحه، وأنضج سياسته، لجاز أن يتحول كل ما أعقبه من الحوادث تحولا عظيما عن باقي الآثار، فقد كان في العهد الذي مات فيه ينوي أن يغزو بلاد العرب؛ ليضمها إلى دولته، وأن يسير على قرطاجنة أسطولا، ثم يغير بعد ذلك على «رومة» التي كان الاستيلاء عليها في ذلك الحين من أهون الأمور وأقلها كلفة.
فلو أنه ملك بلاد العرب لكان من المحتمل ألا يظهر النبي محمد!
ولو أنه ملك قرطاجنة لكان من المحتمل ألا يظهر هنيبال، ولا يتردد له اسم في الأسماع.
ولو أنه ملك رومة لما ظهر يوليوس قيصر من خموله في الريف، ولا كان هذا الشهر يوليو، كتب هذا الفصل في شهر يوليو الماضي.
بل أعظم من ذلك أن المسيحية التي كانت في عنصرها نحلة من نحل الإسكندرية ما كانت لتصبح يوما وهي كاثوليكية رومانية. •••
واحتمال آخر من هذه الاحتمالات العجيبة. أن فلسفة روسو كلها كانت على وشك الضياع في ساعة من الساعات، ثم كان من المحقق أن ضياعها يؤثر بعض التأثير في مجرى الثورة الفرنسية التي كان روسو من أبنائها المتبعين، وكانت كتبه بمثابة الوحي لبعض دعاتها المسموعين.
فلو استطاع روسو في مساء 14 مارس سنة 1728 أن يتقدم عشرين خطوة إلى باب جنيف لبقي حيث كان صبيا يتعلم الحفر، ويعول على النبوغ، وقلما يخطر له خاطر الكتابة والتأليف.
ولكن روسو تأخر عشرين خطوة عن باب المدينة في ساعة إقفاله، ففر من معلمه الصارم العسوف، الذي كان أنذره أشد إنذار إذا هو تأخر في المساء، وعرف روسو معنى هذا الإنذار من سابقتين سلفتا له في التأخير، فلوى وجهه عن باب المدينة، وأقدم على تلك الحياة الشاردة الهائمة التي ساقته إلى التأليف، وبثت في تصانيفه روح التذمر وحب التبديل.
وحدث كل ذلك اتفاقا على خلاف الحساب المعروف، فإن باب المدينة كان يقفل في الساعة الثامنة وروسو قد عاد من رحلته في الخلاء قبل الساعة الثامنة ببضع دقائق، فلماذا أقفل الباب يومئذ قبل موعده؟ ولماذا حدث بعد ذلك ما حدث من خطوب كبار في تاريخ السياسة وتاريخ الآداب؟ حدث ذلك كله لأن حارس الباب كان على موعد مع حبيبته تنتظره في ذلك المساء وكان شديد الشوق إلى لقائها فعجل بإقفال الباب قبل الساعة الثامنة، وكان روسو على مسافة عشرين خطوة منه فعدا إليه فلم يدركه، وضاع رجاؤه عبثا، وتركه الحارس يصرخ لمن لا يجيب ويتخبط ولا من سميع. •••
هذه أمثلة من احتمالات كثيرة أوردها الأستاذ وأورد غيرها، وفي وسعنا نحن أن نضيف إليها من تاريخ مصر الحديث ما يضارعها في الغرابة وفي حكم المصادفة، فماذا كان يطرأ على تاريخنا الحديث من التغيير لو أن محمد علي الكبير لم ينج من الماء في الشواطئ المصرية عند قدومه إلى مصر في المرة الأولى؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن خبر المذبحة التي دبرت في القلعة وصل إلى مسامع المماليك قبل ذلك من خائن أو جاسوس؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن «سعد زغلول» عمل في الفلاحة والزراعة، ولم يعمل في الفقه والقانون؟ فهذه احتمالات معلقة بالمصادفات التي قد تكون وقد لا تكون ولكنها خطيرة النتائج بعيدة الآثار.
لنا أن نخفف من غلواء هذه الاحتمالات، فلا نجعلها الحكم المطلق فيما يتعلق بها من التطور والتبديل. لنا أن نقول مثلا في أنف كليوبترا إنه كان يطول أو يقصر وإن ملاحتها كانت تشوه أو تحسن، ثم لا يغير ذلك من قلب «أنطونيوس» وحبه للنساء، واستعداده للوقوع في شرك امرأة غير كليوبترا في نسائها أو من نساء بعض البلاد.
ولنا أن نقول إن الشقاق كان وشيكا أن تنجم له أسباب كثيرة بين «أنطونيوس» و«أكتافيوس» فتؤدي إلى الحرب فالظفر لمن هو أهل للظفر والهزيمة لمن هو أهل للهزيمة.
ولنا أن نقول إن رومة كانت تطمع في ملك مصر، ولو لم ينشب فيها نزاع بين قائدين، ولم يقبض فيها على ناصية الأمر قائد مغوار عظيم الدهاء.
لنا أن نقول هذا في أنف كليوبترا، ولنا أن نقول مثله في عمر الإسكندر، وفي خطوات روسو، وفيما شابه ذلك من العوارض والمصادفات، ولكننا إذا قلنا هذا أو غيره، فإلى أين نريد أن نصل وبماذا نخرج من جميع هذه الفروض؟
هل نستطيع أن ننكر أن الكبائر تتعلق بالصغائر وأن هذه الصغائر إذا زالت أو لم تحدث خلفتها صغائر أخرى تعمل عملها، وتقوم في تصريف الكبائر مقامها؟ هل نستطيع أن نغتر بأنفسنا فنزعم أن كل جليلة علينا تكبر على المقادير، فلا تعترينا إلا كما نقدر لها من التقدير، ونفرض لها من الظواهر والأسباب؟
هذه هي العبرة من حيث «لو» وما تصرفه من تواريخ الأفراد والأمم، فقد يعظم علينا الخطب فيكبر علينا أن نعلقه بالصغائر، ثم لا ترى فيه الأقدار إلا أن تعلقه بأصغر صغيرة من العوارض والمصادفات، وقد نلتمس العلل الجسيمة للحوادث الجسيمة؛ لأننا نقيسها بمقياس لا تأخذ به نواميس الوجود، وعزيز علينا أن تتعلق مصائر الأمم بثمن قيراط ينقص في أنف كليوبترا أو يزيد، ولكن من أين لنا أن ما هو عزيز علينا عزيز كذلك على الأقدار أو على نواميس الوجود.
قال حكيم: إذا شئت أن تهون عليك خطوب بني الإنسان فارفع بصرك إلى السماء، وانظر أين تقع الأرض في ذلك الكون الفسيح الذي لا أول له ولا آخر، أفحق نحن في حاجة إلى نظرة من السماء الرفيعة، والكون الفسيح لنعلم كيف يهون علينا ما ليس يهون؟!
لا يا سيدي الحكيم! انظر إلى الخطوب نفسها، وانظر إلى أسبابها ومصادفاتها تعلم كيف تهون عليك تلك الخطوب.
تعارف الشعوب1
كثرت بعد الحرب العظمى ترجمة الكتب الجرمانية إلى الإنجليزية، وترجمة الكتب الإنجليزية إلى الجرمانية، فلا تطلع على سجل من سجلات الكتب الحديثة في إنجلترا إلا رأيت فيه أسماء مصنفات شتى مترجمة عن كتاب ألمانيا والنمسا والبلاد الشمالية على الجملة في أغراض مختلفة، تتناول الفلسفة والدين وعلم النفس، ولا تقتصر على المذكرات الحربية التي دونها القواد والسواس، وكان لها في فترة من الزمن النصيب الأول من إقبال الأمم المتكلمة باللغة الإنجليزية.
والألمان من جانبهم يفعلون مثل ذلك ويزيدون على الإنجليز في الجمع والاستقصاء مع كثرة الذين يعرفون منهم اللغة الإنجليزية، واستغنائهم عن الترجمة بالاطلاع على الكتب في لغتها الأصيلة، فهناك رغبة قوية من الجانبين في استطلاع آراء الآخرين، ووزن عقولهم وسبر أخلاقهم، ودخائل طباعهم، وهي رغبة بدأت في عهد ابتداء المنافسة بين الإنجليز والألمان، وتضاعفت بعد الحرب العظمى، ولا تزال تتضاعف كلما أخذت بنصيب من المعرفة التي تتوق إليها، وتطلعت بعده إلى المزيد.
مثل هذا قد حدث بين الفرنسيين والإنجليز من جهة، وبين الفرنسيين والألمان من جهة أخرى، حين اشتد التنافس بين فرنسا وجارتيها في أواخر القرن الثامن عشر وأواسط القرن الذي يليه، ولكنه لم يكن بهذا الشمول والسعة، لعظم الفارق بين عصرنا الحديث وتلك العصور في حركة الطباعة، وانتشار القراءة، وسرعة المواصلات. إلا أن العناية بالاستطلاع بلغت أقصى ما كان مستطاعا أن تبلغه في حينها، وكانت على العموم مقرونة بأساليب الاستطلاع الأخرى التي تشترك فيها البواعث الحربية والسياسية والمالية، وترمي إلى غرض واحد مقصود أو غير مقصود، وهو زيادة المعرفة بأحوال الآخرين.
ظاهرة مطردة ولكنها لا تدعو إلى العجب، ولا يصعب تعليلها بالمعهود في طبائع الناس فأول ما يعنى به المرء أن يستطلع أحوال منافسه ومن يتطلب الغلبة عليه، والمغلوب في المنافسة أشد عناية بهذا وأصدق رغبة في اختبار أسباب القوة التي انتصرت عليه؛ ومن ثم كانت المترجمات الإنجليزية في العصر الحاضر أكثر من المترجمات الألمانية، وكانت الأمم التي تشك في حقيقة انتصارها تجري على حكم الأمم المهزومة في استطلاع أحوال المنافسين لها؛ لأنها لا تشعر بطمأنينة المنتصر ولا تزال في حالة القلق والحذر التي تخامر مهزوما يعالج من نفسه موضع الهزيمة، فالفرنسيون الذي يشكون في قدرتهم على الاستقلال بالنصر يصنعون الآن ما يصنعه الألمان إذ يتحرون العلم بالشعوب الداخلة معهم في جانبي النصر والهزيمة، ويكثرون من ترجمة الكتب الألمانية، كما يكثرون من ترجمة الكتب الإنجليزية، والأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في النفوس، ويرسم لها الميول والوجهات.
وفي المسألة من حيث علاقتها بالإنجليز والألمان سبب آخر لا بد أن يلاحظ عند تعليل كثرة الترجمة عن الإنجليزية، وقلة الترجمة عن الألمانية بالقياس إلى ذلك. فهناك فضلا عن طمأنينة النصر وقلق الهزيمة سبب يصح أن يعلل به هذا الفرق بين الإنجليز والألمان في الإقبال على المترجمات والإكثار من التحصيل، وهو أن الإنجليز لا يعتمدون كثيرا على الأحكام التي تستخرج من الكتب، وتقتبس من تعميم النظريات، فميلهم إلى الاستطلاع من هذه الناحية محدود بهذه الخصلة فيهم، ومحصور في دائرة التجربة الملموسة التي لا تجنح إلى أحكام الكتب إلا من قبيل الاستئناس، وهم في هذه الخصلة على نقيض الألمان الذي يبحثون عن الأسرار ويعممون النظريات، ويعتمدون على معرفة الكتب جل الاعتماد، فإذا أربت مترجماتهم - لهذا السبب - على مترجمات الإنجليز فلا غرابة في ذلك؛ لأنهم قوم قراءون يبحثون عن كل سر ويدرسون كل أمة، ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة. •••
ما الرأي إذن؟
أهي المعرفة بنت العداوة، كما يبدو لنا من هذه الأمثلة التي يعززها المعهود من طبائع الناس ؟ أم هي المعرفة بنت المحبة، كما جاء في المثل القديم، وتقرر في الآداب الرفيعة، ومحاسن الأخلاق المأثورة عن الوعاظ والمرشدين.
أمامنا شعوب تنافست، فتعادت، فتقاتلت، فاجتهدت في التعارف وهو من أسباب التفاهم، فالتآلف والتعاطف على علم بما في النفوس من قوى الخير والشر، وجوانب البأس واللين.
ثم أمامنا المثل العليا التي ارتقى إليها أناس من نخبة بني الإنسان في عظمة الروح، وشمول العاطفة والنفاذ إلى أسرار النفوس، وما فيها من حق وباطل، وعلم وجهل، وفضائل دائمة، وعوارض زائلة؛ وهي - أي هذه المثل العليا - تقول لنا: إن المحبة هي المعرفة الحقيقية وهي النور الذي يكشف لنا دخائل الحياة، ويرينا ما في القبح الظاهر من جمال باطن وما في الأوزار من أعذار، وما في الأغراض من تحيز وضلال يحيد بنا عن صدق المعرفة، وسداد الحكم على أعمال الناس، وحوادث الأيام.
فأي هذين إذن هو الرأي الصحيح، وأيهما في الواقع هو سبيل العلم القويم؟
على أننا يجب أن نسأل قبل ذلك: هل بين القولين تناقض؟ وهل هما مفترقان لا يتفقان في الأساس ولا في النهاية؟ وجواب ذلك يغنينا عن الحيرة والإمعان في الموازنة بين الرأيين، لأنهما في الحقيقة غير متناقضين ولا مفترقين.
فإذا سألنا: ما هي أسباب المحبة؟ فقد نعلم أن من أسبابها الخلاف فالتفاهم فالتآلف، وعندئذ تلتقي الآراء على أن المحبة والمعرفة يتلقيان في النهاية، وأن طريق المحبة أو طريق المعرفة هو الذي يتشعب ويتفرق، ويبدو لنا كالتناقض في ظاهره، وهو في باطنه من التناقض براء.
إنك بالعداوة تسبر قوة غيرك الجائرة التي تدور على الأثرة وحصر الخير في النفس دون المنافسين والمزاحمين.
وإنك بالمحبة تسبر قوة غيرك العاطفة التي تتسع وتعلو على قيود الأثرة والحصر، وتنظر إلى الأشياء من غير الناحية التي تدور عليها المنافسات والمخاصمات، وكلا المسبارين لازم ضروري لعرفان الإنسان بالإنسان، وحكم الحي على طبيعة الحياة، فإذا صرفنا النظر عن الإنسان ونظرنا إلى الطبيعة رأينا فيها مصداق ذلك، وعلمنا أن معرفتنا بها مزيج من الحذر والحب والحيطة والاعتماد، فلولا الحذر لما نشأت جميع العلوم والصناعات التي مدارها على دفع الأخطار، وتذليل الصعوبات، ولولا الحب لما حسنت الدنيا في أعيننا ولا تعلقنا منها بأواصر الثقة والرجاء، ولا ننس أن المحبة هي المثل الأعلى، وأن المثل الأعلى هو نهاية الطريق أو هو على الأقل لا يكون في البداية التي يبلغها كل من شاء بغير محاولة منه ولا عناء، ثم لا ننس أن المحبة نعمة كبرى لمن يعطيها مستحقا لإعطائها، ولمن يأخذها مستحقا لأخذها، وإن النعم الكبرى لا تبذل لأبناء هذه الدنيا إلا بثمن كبير.
وبعد ...
فليتعارف الأفراد ولتتعارف الشعوب بكل وسيلة لديها للمعرفة، ومن كل فج ينتهي بها إلى تلك الغاية، فإنها إذا انتهت إلى بغيتها من المعرفة الكاملة، فهناك تعلم مواضع المحبة أين ينبغي أن تكون، وأين ينبغي ألا تكون.
الترجمة وتعارف الشعوب (1)1
في عدد مضى من «الجديد» كتبت كلمة عن الترجمة وعلاقتها بتعارف الشعوب، قلت فيها: إن الترجمة تكثر بعد الحروب بين الأمم المتحاربة؛ لعناية كل أمة منها باستطلاع أحوال الأمم الأخرى، واستقصاء ما عندها من بواعث النصر والهزيمة.
ولم أرد في تلك الكلمة أن أحصي أسباب الترجمة كلها، أو أردها كلها إلى المنافسة الحربية ورغبة الاستطلاع، وإنما أردت أن ألاحظ تلك الملاحظة من الوقائع التي صاحبت الحرب العظمى والحروب القريبة التي تقدمتها، ولم أجعل المنافسة أصل المعرفة في جميع أحوالها، بل قلت: إن «الأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في النفوس ويرسم لها الميول والوجهات» وقلت في موضع آخر: «ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، وهو صريح في أن المنافسة تحرض ولا توجد، وتكون سببا للرغبة في المعرفة، ولا تنحصر فيها جميع الأسباب.»
وقد عقب الدكتور طه حسين على ما كتبناه فقال بعد مناقشة وجيزة: «أما أنا فألاحظ قبل كل شيء أن العلة الحقيقية الأولى لكل ترجمة ونقل، إنما هي الطبيعة الإنسانية التي تجعل الإنسان حيوانا اجتماعيا كما يقول أرستطاليس في السياسة، وحيوانا مفكرا كما يقول أرستطاليس في المنطق، فطبيعته الاجتماعية تضطره إلى أن يتصل بغيره من الأفراد والجماعات، ويشاركهم فيما يفكرون ويشعرون ويتحدثون، وطبيعته المفكرة تضطره إلى أن يبحث ويستقصي ويتعرف حقائق الأشياء.»
كذلك رأى الدكتور طه حسين، ولا خلاف بين رأيه وقولنا: إن رغبة المعرفة مطبوعة في النفوس، وأنها لا تحتاج عند بعض الأمم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، فنحن في هذا متفقان ولا اختلاف إلا في الأمثلة التي يريد الأستاذ تطبيقها على غير الوجه الذي تنطبق عليه فيما أراه.
فالأستاذ يقول: «من المحقق أيضا أن العرب انتصروا على الفرس وعلى اليونان البيزنطيين بعد ظهور الإسلام، كما انتصروا على أمم أخرى، فنقل العرب عن الفرس واليونان كل شيء، ولم ينقل الفرس واليونان عن العرب شيئا.»
ونظن نحن أن تبادل الترجمة في هذا الجانب لم يكن منتظرا لسبب واضح، وهو أن التبادل يستلزم وجود المعرفة والحياة الفكرية عند الفريقين، ولم يكن هناك معرفة ولا حياة فكرية عند الفرس واليونان البيزنطيين الذين غلبهم العرب واستولوا على بلادهم. إنما كانت المعرفة لفرس ويونان آخرين هم الفرس واليونان السابقون، وكان أبناؤهم الذين غلبهم العرب غرباء أو كالغرباء عن تلك المعرفة الموروثة، يجهلونها ولا يعنون بها عناية قومية فضلا عن العناية بأخذ ما عند غيرهم وترجمة الكتب الأجنبية من عربية وغير عربية، فيصح أن يقال: إن العرب أخذوا علوم الفرس واليونان الذين عاشوا قبل ظهورهم ببضعة قرون، وإن الصلة بينهم وبين أولئك الفرس واليونان كانت منقطعة بينهم وبين الفرس واليونان المعاصرين لهم؛ لأنهم كانوا في مذاهب النهضة متفرقين.
من كلامنا في مقالنا الأول يفهم أن الفرق عظيم بين عصرنا الحاضر وعصر الحروب الفرنسية الألمانية، وأن تبادل المعرفة في عصر الحروب الفرنسية الألمانية «لم يكن بهذا الشمول والسعة لعظم الفارق بين عصرنا الحديث، وتلك العصور في حركة الطباعة وانتشار القراءة وسرعة المواصلات.» فالفرق بين عصرنا الحاضر وبين العصور الفارسية اليونانية أولى أن يكون أعظم اختلافا وأوسع أمدا، وإن كنا مع هذا نقول: إن الحروب كانت من أسباب الاستطلاع المتبادل حيثما وجدت المعرفة التي يتبادلها الفريقان في الزمن القديم، أو في الزمن الحديث.
ثم يقول الأستاذ: «من غريب الأمر أن هذه النهضة الفارسية التي ظهر فيها تأثر الفرس بالعرب لم تكن حين كان العرب غالبين والفرس مغلوبين، وإنما كانت حين تم الفوز للفرس على العرب، وظفروا بالسلطان السياسي كله في الشرق الإسلامي، فكيف يعلل الأستاذ العقاد هذه الترجمة، بالحب ثم بالبغض، أم بالتنافس والجهاد؟
فالذي نحب أن نذكره هنا أن العرب والفرس كانوا من جهة فريقا واحدا يجمعه الدين، وكانوا من جهة أخرى فريقين متنافسين تفرق بينهما العصبية والتراث القديم، فحكم العرب والفرس في الاقتباس والتنافس يختلف من هذه الناحية عن الأمم التي تستقل كل منها بثقافة، وتنظر إلى الأمة الأخرى نظرها إلى العدو الغريب عنها من جميع الوجوه، وحسبنا أن الفرس أخذوا دين العرب وأن العرب أخذوا حضارة الفرس ليكون ذلك دليلا على أن التغالب باب من أبواب التعارف والاستطلاع، ولا نحسب الأستاذ طه يستطيع أن يعلل الاقتباس الذي اقتبسه الفرس من العرب أو اقتبسه العرب من الفرس بعلة الرغبة في المعرفة التي ذكرها أرستطاليس وحدها دون أن تقترن بها محرضات التغالب بين الفريقين، وإلا فما بال الرغبة في المعرفة لم تظهر إلا في تلك الأوقات التي اقترنت بالتنافس بين الغالبين والمغلوبين.»
إن تقرير عامل من عوامل التعارف أو الاستطلاع لا يمنع ملاحظة الفروق بين العصور، ولا يمنع ظهور ذلك العامل بمظاهر مختلفة في الشرق والغرب، والزمان القديم والزمان الحديث، والفروق بين عصرنا هذا والعصور الغابرة كثيرة منها:
أولا:
أن الثقافة لم تكن عالمية في العصور الغابرة، حتى يتيسر التبادل فيها بين كل غالب وكل مغلوب، كما يتيسر ذلك بين أمم الثقافة الحديثة، أو أمم الثقافة الأوربية على الأقل، كالإنجليز والألمان والفرنسيين والطليان ومن إليهم، فعند كل أمة من هذه الأمم ثقافة مصبوغة بلونها ممزوجة بتاريخها وخصائص وطنها، يجوز أن يحصل فيها التبادل عند التنافس بينها وتنبيه الشوق إلى المعرف والاستطلاع في أبنائها فيها ، أما الأمم القديمة فقد كان توزيع الثقافة فيها جاريا على غير هذا الوضع الذي نراه في زماننا الحديث، فكانت الأمم المتحضرة عرضة لغارات الهمج الذين لا ثقافة عندهم ولا حضارة، وكانت الغلبة للهمج في بعض الأحيان فلا يلبثون أن يظفروا بالأمم المتحضرة حتى يأخذوا مما عندها ولا يستطيعون أن يعطوها مما عندهم؛ لأن ما عندهم هو العدد الكثير والصبر على المكاره والإقدام على المخاطر وليس هذا من الحضارة ولا هو مما يمنح ويعار.
ثانيا:
أن الغلبة في الزمن القديم كانت مرادفة للسيادة في كل حال، فمن غلب أمة فقد سادها واستولى على ملكها، فإما عاش معها عيشة المحتقر المترفع، الذي لا يتنزل إلى محاكاتها في شيء من الأشياء وإما تغلغل فيها واختلط بها مع الزمن لغة ودينا ونسبا فاستغرقته واحتوته، وبطلت بينهما المنافسة والنزاع، وفي كلتا الحالتين لا يجري تبادل المعرفة على النمط الحديث ولا بد من مظهر له غير المظهر الذي لاحظناه من آثار الحرب العظمى أو الحروب بين الفرنسيين والألمان من جهة، والفرنسيين والإنجليز من جهة أخرى.
ثالثا:
أن الدين كان عنصرا قويا من عناصر الثقافات التي نشأت بعد المسيحية والإسلام وأن الوطنية كانت كثيرا ما تختفي في أطواء الدين، فتتفق الأجناس المختلفة في عقيدة واحدة وينقلب النزاع على الوطن إلى التضامن في النحلة الدينية، ويمشي هذا إلى جنب ذاك فتزول الحدود بين الأجناس أو تختفي ما تيسر لها الخفاء.
رابعا:
أن المطبعة جعلت الرغبة في القراءة حاجة من حاجات الرجل العصري، فاهتمامه بأمة مقرون بالرغبة في القراءة عنها والقراءة لكتابها، ويزيد هذه الرغبة علمه بأن العلوم والحالات النفسية لها دخل عظيم في الغلبة والهزيمة، وهو ما لم يكن مطردا مقررا في الزمن القديم.
فهذه الفروق بين عصرنا والعصور الغابرة خليقة أن تتناول التعارف الذي تجر إليه الحروب بشيء من التعديل والتغيير، وإن كانت لا تلغيه ولا تبطل حقيقته التي تعمل عملها المستطاع من وراء جميع الفروق. •••
وقد استطرد الأستاذ طه حسين إلى السؤال عن الوسيلة التي تتكفل فيها الترجمة بتعارف الشعوب وتعاطفها، فقال: «على أن المسألة التي تستحق العناية ليست هي تعليل الترجمة وبيان ما يدعو إليها، فالترجمة ظاهرة اجتماعية قديمة باقية، وإنما هي مقدار ما تستطيع الترجمة أن تحققه من هذه الفكرة القيمة التي يسمو إليها أصحاب الأخلاق وعشاق المثل العليا، والتي جعلها الأستاذ العقاد عنوانا لفصله وهي «تعارف الشعوب». نعم، وهي التي يمكن أن تتخذ لتكون الترجمة سبيلا واخمة مأمونة تلتقي فيها الشعوب المختلفة، فتأتلف ويحب بعضها بعضا ويعطف بعضها على بعض، ويتحقق بينها التعاون الصحيح في جميع فروع الحياة. كم أحب أن أقرأ في هذا رأي الأستاذ العقاد.»
وإني لأحب كذلك أن أعرف رأي الدكتور طه في هذا، أما رأيي فيه، فسأفرد له المقال الآتي اتقاء الإطالة في هذا المقال.
الترجمة وتعارف الشعوب (2)
كنت أقرأ إحدى القصص اليابانية - وهي قصة الخيزراني الهرم - فكنت أشعر وأنا أقرؤها بما نشعر به حين يطالعنا وجه مألوف، نذكر أننا رأيناه من قبل ولا نذكر كيف رأيناه ولا أين كانت رؤيته أول مرة، ثم يعود شيئا فشيئا فنذكر ذلك، ونستوضحه، ونعجب كيف ترددنا فيه ونسيناه وهو قريب قريب لا يحتويه النسيان.
أين قرأت تلك القصة أو ما يشبهها أول مرة؟
أفي كتاب؟
لا ولا ريب، فإنني قبل أن أقرأها أو أقرأ ما يشبهها في أي كتاب، كنت أعرفها وأعرف كثيرا من أمثالها، وأحفظها حفظ من عاشها وعاصرها، وانطبعت في نفسه مواقعها ومحسوساتها، وقد يكون في كتب القصص التي اطلعت عليها في عهد الطفولة ما يشبه تلك القصة اليابانية من بعض نواحيها، ولكنني أذكرها كما أذكر حديثا سمعته ومجلسا حضرت فيه ذلك الحديث وأشياء شتى مما يعلق بذاكرة الطفولة، ولا يمحوه بعد ذلك تعاقب الأيام.
إذن أين سمعت القصة اليابانية - أو ما يشبهها - ومتى كان سماعي إياها قبل كل قراءة وكل سماع!
سمعتها في أسوان وأنا دون العاشرة حول نار الشتاء التي كنا نصطلي حولها كل مساء، وكان القاص - أو القاصة - شيخة من أقاربنا تزورنا من حين إلى حين ونفرح بزيارتها نحن صغار البيت؛ لأنها كانت تمتعنا بالقصص والأحاديث، وتخصنا بالسمر الذي نأنس به ونميل إليه من اليابان إلى أسوان؟!
ما أقرب المسافة بين الناس والناس، وما أعجب النقلة في الأفكار والأحاديث من آسيا الشرقية إلى أقصى صعيد مصر في القارة الإفريقية!
لعل يوم أمس قد ضم بين ليله ونهاره صبية يابانيين سمعوا تلك القصة كما سمعها في ذلك اليوم من قدر له سماعها من الصبية المصريين في بعض قرى الصعيد، أو بعض قرى الريف، فجمع الخيال بين اليابان ومصر في عهد الطفولة، قبل أن يجمع بينهما علم أو يقرب بينهما تاريخ، كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين قصص اليابان وقصص الصعيد!
ونقول التشابه لأن القصة اليابانية تختلف عن القصص المصرية التي من قبيلها في بعض التفصيلات، وإن كانت مثلها في جملة المعالم والأوضاع: مثلها في الفتاة السماوية الجمال التي يربيها أب غير أبيها وتنشأ في بيئة غير بيئة النعمة التي تظهر عليها، ومثلها في كثرة الخاطبين الذين ينافسون على خطبة تلك الفتاة من علية الأمراء والأثرياء وذوي المال والجمال، ومثلها في إعراض الفتاة عن جميع هؤلاء وزهدها في الزواج، ومغالاتها بالشروط التي تلجأ إليها آخر الأمر لتستريح من إلحاح الخاطبين في غير ظهور بالرفض، ولا تمييز لأحد منهم على الآخرين، فهذا يميزها بالجوهرة التي في رأس التنين، وذاك يمهرها بالشجرة التي جذورها من الفضة، وأغصانها من الذهب، وثمارها من خالص الجوهر، وذلك يمهرها بالثوب الذي لا تحرقه النار، وغيرهم يمدونها بغير هذه المهور التي تجاب من أجلها الأقطار، وتخاض البحار، ولا يظفر طالبها بغير اليأس والخسار، وكل ما يتخلل ذلك من تناشد الأشعار والتباصر بالأحاجي والألغاز، والمعاني المضمرة والكنايات المغلفة، يجري على نسق القصة التي نسمعها في مصر ونقرؤها في بعض كتب الأحاجي و«الأحاديث».
كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين القصص اليابانية وقصص الصعيد؟!
لست أظن أنا أنه توارد خواطر لا صلة فيه بين المصدرين، وإنما أرجح أن الترك هم ناقلو تلك القصص من أقصى الشرق في آسيا إلى أقصى الصعيد؛ لأننا لا نعرف بلدا من الصعيد خلا من رجال الترك ونسائهم، ولم تشتمل بيوته على أم تركية أو جدة أو عمة تحدث صغارها بتلك القصص التي توارثتها عن الأمهات والجدات في سمعتها و«الحريم» الخالد حيث تبقى الموروثات أجيالا بعد أجيال، أما كيف أتى الترك بالقصص من آسيا الشرقية فالعناء في أمره يسير والعلاقة فيه ظاهرة؛ لأن اختلاط الترك والصين واليابان قديم في الأقطار الآسيوية، ولا نزاع في اقتباس اليابان من أواسط آسيا واقتباس الآسيويين من أهل اليابان، وما كانت القصص بالشيء الوحيد الذي ترى فيه دلائل المشابهة والنقل بين شعوب الصين واليابان وقبائل الترك والمغول.
بين كل أمة وأمة على وجه الأرض علاقة ما من هذه العلاقات التي تسري مع أحلام الطفولة ومطالب المعيشة، وما من أمة هي غريبة كل الغرابة عن جميع الأمم التي تختلف اختلافها الواسع في الأصل واللغة، والدين والتاريخ.
وقد انصرفت العناية كلها قبل الآن إلى تجسيم الفروق بين الناس وتضخيم أسباب النفور والتنابذ، فالواجب الآن أن نكافئ ذلك بصرف العناية الكبرى إلى وجوه التشابه ومواضع التقارب، وهي أثبت في الحقيقة من الفروق والمباينات، وصدق من قال: إن طبيعة بني الإنسان واحدة في كل مكان.
بلغ من جهل الناس بالناس، أو بلغ من جهل الإنسان بنفسه فيما مضى، أنهم كانوا يصدقون أن يكون في بعض المجاهيل أناس رجالهم من الكلاب ونساؤهم من بنات آدم وحواء! وكانوا يصدقون أن يكون في بعض الجزر أقوام يتناسلون من الجان، أو ساكنات البحر، وما تحت أديم الأرض، وفوق سقف السماء! وكانوا يعجبون للتشابه بين أمة وأمة كأنه شيء يدابر الفطرة الإنسانية، ويجري على خلاف المعلوم والمنظور، وإن بقية هذه الجهالة لباقية في عالم الأوهام، وإن كنت لا ترى لها أثرا في عالم العلم الصحيح والاختبار، فإذا استطاعت الترجمة أن تعرض الأمم للأمم على وجه التشابه بينهما، وأن تصور حقائقها بحيث يشعر كل من يقرأ أخبارها وتواريخها وقصصها أنه يقرأ شيئا يألفه، ويشبه ما عند أمته يذكره بما في نفسه، فقد استطاعت الترجمة عملا جليلا في التقريب بين الإنسان ونفسه، ثم في التقريب بين الشعوب والشعوب.
والترجمة تستطيع ذلك ولا مراء، وتستطيعه فيما نعتقد على طريقتين: إحداهما قابلة للمراقبة والإشراف، والأخرى لا تراقب ولا يمكن الإشراف عليها، وربما كان إطلاقها من القيود أجدى من تقييدها برقابة رقيب وإشراف مشرف، أيا كان حظه من النزاهة وحسن النية.
فأما إحدى الطريقتين فهي كتب المطالعة في عهد التعليم الأول، وكتب التاريخ التي تدرس في إبان الحداثة، فإن هذه الكتب مما يسهل الإشراف عليه إذا عنيت عصبة الأمم بدرس موضوعها، وتفاهم المشتركون فيها على تمثيل الشعوب المختلفة في صورة يشعر القارئ الصغير وهو يقرؤها أن المسافة قريبة بينه وبين سائر النساء في الطباع والأهواء وعوامل المعيشة ودوافع الحياة، فلا يستغرب المماثلة بينه وبينهم إذا شب وكبر، ولا يرى فيها إلا أمرا مطردا مع الحقيقة ودخائل الشعور، ويتأتى ذلك كله على أهون سبيل إذا عهدت الأمم بتصنيف تلك الكتب إلى الخبراء المحنكين الذين يستشفون بواطن الطباع من ظواهر الأعمال، ولا يؤخذون بالفروق الكاذبة في العرضيات وسفساف الأمور.
أما الطريقة الأخرى التي لا تقبل الرقابة والإشراف، وربما كان الإطلاق فيها خيرا من التوجيه والتقيد، فهي طريقة الترجمة التي يعنى بها الآن جميع المترجمين في الأمم التي أصبحت القراءة فيها من حاجات الحياة؛ فإلى جانب الكتاب الذين يتوخون الإغراب في وصف أطوار الشعوب، ويعتمدون التشويق بالتهويل والتلوين، لا بد أن يظهر الكتاب الذين ينفذون إلى البواطن ويحسبون الحقيقة أدعى إلى الترغيب والتشويق، وإذا ضمنت صحة الترجمة فيكفي أن نذيع المترجمات؛ ليتسع بها أفق الحياة في نظر القراء، ويعلم الناس أن هذا الأفق الرحيب يتسع لأصناف شتى من الأحياء وقرابات حميمة من وراء الاختلاف الكثير، وإن هذا الاختلاف لأدعى إلى التسامح والتعارف؛ لأنه يوسع أفق النظر بتوسيعه أفق الحياة.
هذا قصارى ما تستطيع الترجمة من التعريف بين الشعوب، وهي إذا استطاعته فليس لنا أن نطالبها بعده بتبديل الطبائع، ومحو كل ما يؤدي بين الناس إلى تنافس ونزاع، فهذا بعيد جد البعد. بل هذا مستحيل كل الاستحالة، ونعتقد أن الدكتور طه يرى رأينا ولا ينتظر من الترجمة كل هذا الرجاء، ولا هو ينتظره من وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي يتذرع بها طلاب السلام وعشاق المثل العليا، ومحاسن الأخلاق.
بين العقاد وطه حسين: مناقشة1
سآخذ على عهدتي في هذا المقال أن أسند إلى الدكتور طه حسين رأيا لم أقرأه له، ولم أستأذنه في إسناده إليه، وإنما أقول: إنه هو رأيه لأنني لا أعرف كيف يكون له رأي آخر في الترجمة وعلاقتها بالتغالب بين الشعوب.
سأزعم أن الدكتور طه حسين يقول: إنه حيثما تغالبت أمتان أخذت كلتاهما من الأخرى ما يمكن أخذه من حضارة وعلم وثقافة، وإن رغبة المعرفة المركبة في الفطرة تحتاج إلى تحريض من التنافس، فتنشط بعد كسل، أو تتوجه إلى وجهتها بعد حيرة وشتات.
نعم إن الدكتور لم يقل شيئا من ذلك، ونعم إنه ينكره فضلا عن أنه يقوله، ونعم إنه يناقشني فيه حين قررته في مقالي الأول، ثم في مقالي الثاني، ولكني مع هذا أسنده إليه وأكرر إسناده لأنني لم أجد له منصرفا عنه، ولا حجة لإنكاره، وليس الإنكار وحده كافيا إذا كان كل ما يقوله الأستاذ الفاضل منتهيا إلى تقرير ما كتبته وناقشني فيه، فالدكتور يأبى أن يقول إن تبادل المعرفة يأتي من التغالب والتنافس، ونحن نزعم أنه يقوله وأنه لم ينفه، وأنه إذا اعترض عليه حينا فليس في اعتراضه ما ينفيه! وسنرى أن الدكتور كيف يقول ما أسندناه إليه، أو لا يرى بدا من قوله، وإن أحاطه بشيء من التشكك والسؤال.
سنرى ذلك لأن الأمثلة التي يوردها الدكتور تأتي إلينا في النهاية ولا تبقى عنده ولا ترجع إليه، فمن ذلك أنه يقول عن العلاقة بين الرومان واليونان: وشر آخر من المسألة أعرض عنه الأستاذ العقاد الإعراض كله، وكان من حقه أن يقف عنده بعض الشيء، وهو نقل الرومان عن اليونان، فقد نقل الرومان عن اليونان كل شيء ولم ينقل اليونان عن الرومان شيئا، وكان الرومان غالبين وكان اليونان عبيدا لهم، فما زالت المسألة محتاجة إلى التعليل والتفسير، والرأي عندي أنها لا تعلل إلا بحاجة الإنسان الاجتماعية والعقلية، فهو يترجم لأنه حيوان اجتماعي كما قال أرسططاليس في السياسة، ويترجم لأنه حيوان ناطق كما قال أرسططاليس في المنطق، ويعظم حظه من الترجمة أو يضعف، باعتبار الظروف المختلفة التي تحيط بحاجته الاجتماعية والعقلية فتقويها أو تضعفها.
فالحاجة الاجتماعية والعقلية لم تغن في رأي الدكتور عن الرجوع إلى الظروف التي منها - بل من أقواها - ظروف التنافس والتغالب بين الشعوب.
أما لماذا أخذ الرومان عن اليونان، ولم يأخذ اليونان عن الرومان، فنحسب أن تعليله يسير، وهو أن التبادل بينهما في بداية الأمر على الأقل كان غير مستطاع.
فالرومان وجدوا فلسفة وأدبا مستفيضا عند اليونان، فأخذوا ما وجدوه ولم يأخذوه إلا بعد أن نشبت بينهما نواشب التغالب والاحتكاك.
واليونان لم يجدوا عند الرومان إلا فنونهم التي امتازوا بها، وهي فنون الحرب والنظام والقوانين، وليست هذه الفنون من شأن الأمم المغلوبة؛ لأن مسألة الحكومة والجيش تظل في أيدي الغالبين لا ينزلون عنها لتلك الأمم مختارين. على أن اليونان أخذوا من الرومان ترفهم وحضارتهم، ثم أخذوا منهم بعد ذلك نظامهم وقوانينهم، حين أصبح لهم نوع من الاستقلال في الدولة البيزنطية، أو حين أصبحت بيزنطة دولة اسمها للرومان وحقيقتها لليونان.
وعلى ذكر بيزنطة نقول إننا - كما قال الدكتور - لن نخالفه «في أن البيزنطيين كانوا على حظ عظيم جدا من الابتكار في الناحية الفنية، حتى أصبح لهم فن خاص يمتاز أشد الامتياز من الفن اليوناني القديم.»
نقول: إننا لن نخالف الدكتور طه في هذا، ولكننا نذكر أن الناحية الفنية التي امتاز بها البيزنطيون ذلك الامتياز كانت هي الناحية التي تتصل بالترف وتنميق المعيشة، وما إليها من مظاهر الحضارة الحسية، ولم تكن الناحية التي تتصل بالبواعث النفسية والمطامح الفكرية التي هي قوام كل فن رفيع وكل معرفة صحيحة. وقد أخذ منهم العرب ما وجدوه، ولما وجد للعرب شيء يؤخذ عمد إليه البيزنطيون فنقلوه ومزجوه بما كان لهم من فن قديم، وبين يدي الساعة محاضرات الأستاذ «جوزيف سترز جفسكي» المتخصص الثقة في فلسفة البناء، يقرر فيها كيف نقل البيزنطيون قديما من فنون المزدية والشعوب الشرقية، ثم كيف نقلوا بعد ذلك من طرائق العرب في الزخرفة والتنميق، ثم أصبحت الكنائس المسيحية وفيها أثر من كل ذلك مفرق في تضاعيف البناء، لا يستدل على أصوله إلا الخبير.
والذي يعنينا هنا هو أن تبادل المعرفة بين العرب والبيزنطيين - أيا كانت ظروفه - لم يكن على أوسعه وأقواه إلا بعد التغالب بين الدولتين، وإن العرب لو هزموا البيزنطيين هزيمة تامة لأخذ منهم هؤلاء دينهم، كما أخذه الفرس المهزومون.
ولم يكن للعرب ثقافة جديدة في مبدأ الأمر غير ثقافة الدين، ولا يخفى أن حكم الدين في النقل غير حكم المعارف التي لا يقع فيها التعصب والعداء، فإن هذه المعارف تنقل دون صعوبة ولا ممانعة، وليس ينقل الدين في دولة كاملة بغير السيطرة من جانب الظافر والتسليم من جانب المهزوم. •••
وقد أردت في مقالي السابق أن أبين قرب الصلة بين الشعوب فذكرت تلك القصة اليابانية التي تشبه ما كنا نسمعه في أيام الطفولة من قصص الجدات والعمات في الصعيد، وقلت إنني أرجح أن القصة منقولة من أواسط آسيا حيث كان يعيش الترك على مقربة من الصين واليابان، فأشار الدكتور إلى ذلك فقال: «قد يكون هذا بعيدا، ولكني أكره للأستاذ أن يورط نفسه في تعليل ما يعرض له من هذا النوع من التشابه بين أساطير الشعوب، فإن هذا قد يضطره إلى ألوان من العناء والتكلف أضن عليها بوقت الأستاذ ومنطقه. ف «الفلكلور» يعطينا من هذه الأشياء عجائب لا تحصى، وليس إلى تعليلها الدقيق من سبيل إلا أن نردها إلى هذه العلة المعقولة وهي وحدة الطبيعة الإنسانية.»
ونحن نرى أن القول «بوحدة الطبيعة الإنسانية» لا يخالف ما ذهبنا إليه، بل هو أدل على تقارب الشعوب من صلة النقل الذي قصدنا به إلى إظهار هذا التقارب، وإنما رجحنا النقل على «توارد الخواطر» بين اليابانيين والمصريين؛ لأننا لم نقرأ في آداب الشعوب الأخرى قصة تشبه القصص المصرية مثل هذا الشبه؛ ففضلنا أن نرد هذا الشبه إلى النقل على أن نرده إلى وحدة الطبيعة الإنسانية، وساعدنا على هذا التفضيل أن دخول القصص التركية والآسيوية في ألف ليلة وما شاكلها ثابت ثبوتا لا ريب فيه، ولا حرج في الرجوع إلى الفلكلور لإظهار الصلة بين الشعوب؛ لأن الدكتور لا ينسى أن «الفلكلور المقارن» هو أقوى عماد لباحثي الآداب واللغات في درس أصول الشعوب، وتمحيص ما بينها من وشائج القرابات والجوار.
بقيت كلمة عن البحث العلمي والبحث الفلسفي اللذين عزا إليهما الدكتور ما بيننا من خلاف فقال: «ربما كان مصدر هذا الاختلاف أن الأستاذ العقاد ينظر إلى الأشياء الخاصة والظواهر العامة نظر الفيلسوف، وأنظر إليها أنا نظر المؤرخ، أو بعبارة أدق نظر المحقق الذي يتقيد بمناهج البحث العلمي، ولا يحلق في هذه السماء الجميلة المزدانة، سماء الفلسفة.»
والذي أعتقده أنا أن العلم لا يستطيع أن يستقل بالبحث في موضوعنا هذا؛ لأنه من مجال الرأي لا من مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء على أصول كأصول الدراسة الكيميائية والطبيعية وما إليها، فإذا تقدمنا في هذا الموضوع خطوة فلا بد لنا أن نتقدم فيه بمعونة الفلسفة والخيال معا؛ لأنه موضوع نفسيات في نطاق اجتماعي واسع شديد التباين كثير الملابسات، وعمل الخيال فيه هو عمله اللازم في تصور كل ما اختلف من الحالات، وتسهيل الخروج بالباحث من وضع واحد إلى جملة أوضاع. •••
وقد ختم الدكتور مقاله ببيان فضل الترجمة في تعرف الحياة والأحياء، وضرورتها لنا نحن المصريين على الخصوص؛ لأنها بالقياس إلينا «أداة للحياة لا للرقي» ثم تساءل: «لست أفهم كيف تعنى الحكومة بنشر التعليم على اختلاف درجاته، ولا تعنى بالشرط الأول ليصح هذا التعليم ويصلح، وهو الترجمة الصحيحة المنظمة التي لا تترك للمصادفة، وإنما تخضع لمنهج يلائم حاجات الناس في هذا العصر.»
وأقول: ليس الدكتور وحده هو الذي لا يفهم هذه الأعجوبة التي لا يعجبون لها في مصر إلا لأنها كلها بلاد أعاجيب، فهي شيء غير قابل للفهم إلا على سبيل التعليل لا التسويغ، وتعليلها «أن العقول الرسمية» لا تزال هي صاحبة الشأن في سياسة التعليم، ولن يرجى من هذه العقول خير، وإننا نتعلم لأن النظام والعرف يفرضان علينا ضريبة العلم، لا لأننا نشتهي العلم ونظمأ إليه.
انظر إلى من قال لا إلى ما قيل
على هذه السنة نشأت في تقدير كل كلام، فليس عندي أشد خطأ من القائلين: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» ولا أستطيع أن أفهم كلاما حق فهمه إلا إذا عرفت صاحبه، ووقفت على شيء من تاريخه وصفاته، وفي مذكرات جمعتها وطبعتها في سنة 1912 باسم «خلاصة اليومية» أقول: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» قاعدة لا يصلح إطلاقها في كل حال، فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري مثلا:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.
وكل ما رأيته بعد ذلك يؤيد هذا الرأي ويعزز هذه التجربة، فالكلمة الواحدة تختلف معانيها باختلاف قائليها، فيؤبه لها من قائل ولا يلتفت إليه من قائل غيره؛ لأن الكلام جزء من الإنسان وليس بحركات تتموج في الهواء وتقع في الآذان، فإذا أردت أن تعرف الجزء فلا محيص لك من الرجوع به إلى كله الذي تجزأ منه، وإذا أحببت أن تفهم الكلمة فافهم المتكلم؛ لأنها من معدنه أخذت وبميزانه تعتبر وتوزن.
أقول هذا وأكثر ما أقرؤه في العهد الأخير من كتب التراجم والسير، وما كتب التراجم والسير؟ هي ولا ريب الكتب التي تعلمنا أن ننظر إلى من قال لا إلى ما قيل وأن نحكم على ما فعل لا على من فعل، فنحن لولا أننا نفهم الكلام والعمل بالرجوع إلى متكلمه وعامله لما عنينا بالاطلاع على سيرة واحدة ولا وجدنا فرقا بين أن يكون هذا القول منسوبا إلى زيد أو إلى عمرو، ومنجما على حسب هذه الحوادث أو منجما على حسب الحوادث الأخرى في زمان آخر.
والتراجم تكثر بعد الحروب والثورات؛ لأن الحروب والثورات تبرز للعالم أفرادا يتحدث الناس بأخبارهم، ويتوقون إلى العلم بأسرارهم وأقدارهم، فيتجه اهتمام الكتاب والرواة إلى الكتابة عنهم والإفاضة في أحاديثهم، فتنشأ الترجمة ويكثر افتتان المترجمين في صناعتهم، وهذا الذي حدث بعد الحرب العظمى وزاد في انتشاره والإقبال عليه أننا في عصر التحليل والدراسات النفسية، والقصص التي تدار على حياة الأفراد وتخلق فيها الأبطال من الواقع أو من التصور، فامتدت الترجمة إلى الأقدمين واتخذ المترجمون من رجال التاريخ أبطالا للقصص والسير لهم شطر من الحقيقة، وشطر من الخيال.
بين أشهر المترجمين في العصر الحاضر ثلاثة هم «إميل لدفج» الألماني و«أندريه موروا» الفرنسي و«ليتون ستراشي» الإنجليزي. قلت في نفسي: ماذا جرى لو أننا حاسبنا هؤلاء السادة بحسابهم وطبقنا فن الترجمة على جماعة المترجمين؟ لقد قضى هؤلاء الثلاثة زمانا في الكشف عن الناس وراء الستار، فماذا يجري لو كشفنا الستار عنهم ونظرنا إلى واقع أقوالهم من حياتهم كما نظروا هم مرارا إلى مواقع الأقوال والأفعال من حياة الأبطال والعظماء؟ أليس هذا عدلا؟ أليس فيه فائدة؟
بلى، وقد كان!
أخذت في المقابلة بين كتابتهم وحياتهم، فظهر لي أنه ما من واحد منهم إلا وله آراء وأحكام تتغير جدا لو تغير القائل وتغيرت نشأته وهواه، وتغيرت الأسباب التي لا دخل له فيها ولا دخل فيها لإرادة مريد.
هذا مثلا «إميل لدفج» صاحب السير عن المسيح، ونابليون، وبسمارك، وجيتي، وولهلم الثاني، وغير هؤلاء من أصحاب السير الطوال أو القصار، حضر إلى مصر عام أول فلم تعجبه آثارها القديمة، وقال في كتابه «على شواطئ البحر الأبيض»:
أما أنا فلا أشعر بشيء من الإجلال في مدافن الفراعنة، ولا أستطيع إلا أن أضحك زاريا من عقل ذلك الملك الذي يخيل إليه في حياته أنه قادر على أن يخدع الموت بما يتأهب به من الأهبة النيرونية في ضريحه، ومن كان على خبرة بأمر الموت لا يسعه إلا أن يشيح بعطفه عن تلك العقيدة التي سولت لأصحابها أن يطمعوا بتحنيط أجسادهم في وراثة الخلود، وإن الزمن لذو انتقام، وإن عظام جمل نخرة مطروحة بالعراء لتبلغ من نفسي ما ليست تبلغه هذه الآثار العقيمة التي تخلفها لنا العظمة الملكية، آثار ملوك يلتمسون لأنفسهم الخلود المزيف بدلا من التفكير في خير الرعايا.
أتظن أننا نفهم هذا الكلام حق فهمه لو كنا لا نعلم قبل ذلك أن قائله اشتراكي جمهوري يعز عليه تسخير الرعايا في خدمة أهواء الملوك؟ فليس من يكلمنا هنا هو الناقد الفني ولا المؤرخ المستقل ولا السائح المتفرج، ولكنما المتكلم الذي نسمع رأيه في هذه السطور هو الاشتراكي وهو الجمهوري وهو كاره الأبهة الغاشمة، وكاره الذل في تسخير العمال، ويجب أن نعلم هذا لنقوم ذلك الرأي بقيمته ونلمس موقع البواعث التي حركته، بل يجب أن نعلم قبل ذلك لم كان «لدفج» الألماني اشتراكيا مطالبا بحقوق الفقراء وجمهوريا ساخطا على حكم القياصرة؟ فهل تراه يكون كذلك لولا أنه يهودي، وأن اليهود كانوا مظلومين في عهد ولهلم الثاني على الخصوص، وكان هذا الملك معروفا بكراهة الساميين أي بكراهة اليهود؟ بل نحن إذا علمنا هذا علمنا لماذا اشتهر لدفج في بلاد الإنجليز والأمريكيين، فإنه كتب عن ولهلم الثاني كتابة من ينحي عليه أشد الإنحاء، ويتهمه بالخطل الذي أفضى إلى الحرب العظمى! وليس أحب إلى الإنجليز ومعظم الأمريكيين من أن يضعوا وزر الحرب على كاهل القيصر الألماني، ولو لم يتهمه الكاتب، إلا بالخطل في السياسة دون التدبير الآثم والنية السيئة. •••
و«موروا» الفرنسي كتب عن دزرائيلي الوزير الإنجليزي، وعن شلي وبيرون الشاعرين الإنجليزيين، وكان في كتابته عنهم جميعا منصفا عاطفا ملما بالظواهر والبواطن على السواء، ولكتك تلاحظ عليه أنه شديد الرغبة في الاغتفار ، سريع العدو في المواضع التي يتريث فيها الناقد أو من لا حرص له على الغفران، وتكلم هو في محاضراته التي ألقاها بجامعة كمبردج على سبب التفاته إلى ترجمة شيلي مع غرابة هذا الالتفات من كاتب فرنسي فقال: «لما قرأت ترجمة شيلي الموجزة لأول مرة اختلج في نفسي شعور شديد، وسأقول لكم لم كان ذاك، فقد كنت حديث التخرج من المدرسة، وكنت مفعم القلب بالآراء الفلسفية والسياسية التي تشبه من بعض الوجوه تلك الآراء التي استحوذت على شلي وصاحبه هوج عندما نزل بلندن، ثم اضطرتني الدواعي إلى العمل فألفيت آرائي وخبرتي في الحياة تتنازعان، وذكرت أن شلي قد عالج هذه الصدمات التي خيل إلي أنها تشابه ما عالجته.»
وقال عن سبب التفاته إلى ترجمة دزرائيلي: «قرأت ذات يوم في بعض كتابات موريس باريس أن أمتع حياة كانت في القرن التاسع عشر هي حياة دزرائيلي، وكنت أعرف عنها بعض الشيء ولكنها معرفة غير وافية فقرأت سيرته بقلم مونيبني وبوكل ثم قرأت كثيرا من مذكرات عصره ثم رسائله ورواياته، وكلما أمعنت في القراءة بدا لي أنني أجد في دزرائيلي البطل الذي أشغف به، ورأيتني حيال «شخصية» طريفة هي شخصية الخيالي الذي هو مع هذا رجل عمل، وشخصية الرجل الذي نجح في عرف الدنيا، ولكنه أخفق في عرف الروح ولبث على سرير موته خياليا غير نادم على أحلامه وغير ظافر! وليس بي حب لدزرائيلي الفتى في سلاسله الذهبية وصدارته الموشاة، وطموحه وطمعه، ولكني شديد العطف على دزرائيلي الذي تكشفت له الدنيا عن عداوة وكفاح، وانهالت عليه الهجمات الغليظة من خصوم من الطبقة الثانية في المقدرة، وظل مناضلا مصرا على النضال لا يذعن للهزيمة.»
ونحن لا نعجب لهذه العاطفة في نفس «موروا» الإسرائيلي للوزير الإسرائيلي، فكل كاتب في مكانه لا يسعه إلا أن يغضب لذلك الوزير، الذي ظلمه خصومه وافتروا عليه كثيرا وحسبوا نقائصه على أبناء قومه وأبناء دينه، ولو أنصفوه لعلهم كانوا واجديه في كثير من الأحيان أصدق من مزاحمه غلادستون الذي لقبوه بالقديس ، ولقبوا دزرائيلي بالساحر هازلين أو حانقين.
كذلك لا يسع الكاتب الذي ينتمي إلى أمة مغبونة مبتلاة بأدواء العصبيات التي ما تبرح تنصب عليها من كل صوب إلا أن يميل بمودته إلى كل مطالب بالحرية الفكرية، وكل شهيد من شهداء العرف والعصبية، وقد كان «شلي» و«بيرون» من هؤلاء الشهداء في بعض مواقف الحياة؛ فعطف عليهما موروا، وعطف عليه من قبلهما بطله دزرائيلي، فجعل أحدهما بطلا لقصته الكبيرة، وأشرك معه صاحبه شلي في هذه البطولة. •••
أما استراشي الإنجليزي فرجل نشأ في مهد التربية الدينية فلا تخطئ أن ترى أثر ذلك فيمن يختارهم للكتابة عنهم من المطارنة، وأصحاب التقوى، والموسومين بالصلاح، أو الذين لحياتهم علاقة بالدين من قريب أو بعيد، وليس هذا كل ما يكتب فيه ولا هو خير ما يكتبه، ولكنه لو لم ينشأ في التربية الدينية لكان أكبر الظن أنه لا يلتفت إلى كثير من الذين ترجم لهم، وألم بأخبار حياتهم.
وكان بودنا أن نعرض لمواقع الهوى في كلامه على غردون، وكرومر، ومصر، والسودان، لولا أن لهذا الكلام مجالا غير هذا المجال. •••
إن تراجم العظماء وتراجم المترجمين كلها مصداق لرأي القائلين: «انظر إلى من قال لا إلى ما قيل» وليس فيها مصداق لرأي القائلين: «انظر إلى ما قيل لا إلى من قال.»
ربة الجمال بلا يدين!
كان هيني الشاعر الألماني يعبد الجمال، ويعشق كل جميل.
وكان من عبادته في جحيم، أو قل في نعيم:
خذا بطن «هرشي» أو قفاها فإنما
كلا جانبي «هرشي» لهن طريق
فإن الجحيم والنعيم في عبادة الجمال شيء واحد باسمين مختلفين، كما أن «هرشي» طريق واحد من حيثما أخذتها، وقد كان بدوي في حضرة الخليفة عمر بن عبد العزيز يتمثل بالقرآن فقال: والله رحيم غفور.
فقال الخليفة: بل قل غفور رحيم.
فأنشد البدوي البيت: خذا بطن هرشي أو قفاها، لأنه لم يكن يدري ما الفرق بين رحيم غفور وغفور رحيم.
وكذلك الأمر في عبادة الجمال، ولكن بغير تخطئة ولا تثريب؛ فأنت إذا وجدت من يخطئك ويثربك حين تقدم الرحمة على الغفران في قراءة بعض آيات القرآن، فكن على اطمئنان في قرآن الجمال، وثق أنك إذا قلت النعيم وأنت تعني الجحيم، أو قلت الجحيم وأنت تعني النعيم، فلا لوم عليك ولا مخالفة للحقيقة؛ لأن جحيم الجمال ونعيمه كما قلنا شيء واحد، ولأنهما داران موضوعتان على رسم واحد وفي سعة واحدة، لا فرق بينهما داخلا ولا خارجا إلا اللوحة التي على الباب.
وكان هيني الشاعر الألماني في جحيم من عبادة الجمال، فهجر وطنه ألمانيا، أو هجره وطنه، وعاش في فرنسا مشردا منغصا ينتظم عيشه تارة ويضطرب تارات، وتبسم له الدنيا ساعة وتعبس ساعات، فدب الخلل في جسمه، وسرت إليه مبادئ الشلل الذي أقعده بعد ذلك ثماني سنوات طريح فراشه، فأشفق أن يحرم الغدوة والروحة والطلاقة والحرية بعد أن حرم السعادة وحرم الأمل في السعادة، فذهب في ذات يوم إلى متحف «اللوفر» يودع أقانيم الجمال، وينظر - ولعلها النظرة الأخيرة - إلى الصور والتماثيل والنفائس والآثار التي كان لا يمل التردد بين محاسنها ومحاسن الحياة، وهناك وقف بين يدي الزهرة ربة الجمال يبتهل إليها بالصلاة ويطيل الدعاء ويكثر من التذكير والتفكير، ثم ناداها: «مدي إلي يديك يا ربة الجمال.» ولكنه أفاق من غشية صلاته، فإذا ربة الجمال لا تسمع، وإذا هي بغير يدين!
نعم بغير يدين، لأن ربة الجمال أو الزهرة المعروفة في متحف اللوفر ب «زهرة ميلو» مكسورة الذراعين لا تملك أن تمد يدا إلى متوسل، ولا هي ممن يسمع النداء فيلبيه.
ومن طرائف الشاعر هيني أنه يحسن اللعب بهذه المحسوسات كثيرا، ولكنه لا يضعها إلا حيث تكون لها دلالة معنوية مطابقة لما يظهر للحواس، فربة الجمال هنا مكسورة الذراعين حسا ومعنى، وليس لها بإنقاذ العابدين يدان، لا في التماثل المصور ولا في عالم التصورات والخيالات.
لم كانت ربة الجمال بغير يدين؟
أما سبب ذلك في التمثال فسيأتي بيانه، وأما سببه في الجمال - الذي نتمثله في ذلك التمثال - فالروحيون يقولون: إنه لغرابة الجمال في الدنيا وإنه هو كمال علوي من العالم السماوي هبط، وفي العالم السماوي تكون له العزة والسيادة، فهو لا يزال في هذه الأرض كالغريب الطريد لا حول له ولا قوة ولا طاقة له بمغالبة الشرور والشهوات التي تعيث فيها، حتى يئوب إلى وطنه، ويرتفع إلى سمائه فيعتز هناك وتمد له يدان!
وإذا ترجمت هذا المجاز إلى لغة الحقيقة صح لك أن تقول: إن الدولة إنما تكون بالكثرة وإن إدراك الجمال في هذه الدنيا من أندر الأشياء ندرة، وإن خيل إلى أناس أنه شائع مشترك بين جميع الناظرين، فكل من يستعصي عليه إدراك مسألة من مسائل العلم، قد يأتي عليه اليوم الذي يدركها فيه ويذلل عصيها بإصراره وتأنيه. أما الجمال ففيه أسرار تستعصي على قوم فلا يدركونها أبدا، ولو طالت بهم الأعمار أحقابا وأدهارا بدل الأيام والسنين، فهو قليل النصير، وإن خيل إلى الناس أنه أكثر ما يكون في هذه الأرض نصيرا أو مفديا بالأرواح والأموال.
وكأن الأقدار شاءت أن تصحح خطأ وقع فيه المثال الإغريقي المجهول، فأبت أن يقوم التمثال في متحف اللوفر إلا مكسور الذراعين إحداهما من الكتف، والأخرى مما فوق المرفق، وهم يبحثون الآن - مرة أخرى بعد مرات كثيرة - كيف كان ذلك وأين ذهبت الذراعان المفقودتان، ويظنون أنهم سيجدونهما في ميناء «ميلو» حيث وجد التمثال، وإليها ينسب وحيث تعمل السفن النزافة في حفر أعماق الميناء؛ على أمل الوصول إلى القرار الذي سقطتا فيه.
وبعد فهل كان للتمثال قط ذراعان؟ يقول بعض النقاد الفنيين إنه صنع هكذا بغير ذراعين، ويستبعد ذلك الأكثرون من النقاد؛ لأنه غير معقول وغير معروف النظير، فيما بقي من آثار الإغريق الأقدمين، والأصح أن التمثال كان كامل الخلقة عند استخراجه من الأنقاض في سنة 1820، وقال الضابط الفرنسي دومون درفيل، الذي عني بشرائه لفرنسا إنه رأى الذراعين بعينه وإن يمناهما كانت تحمل المئزر عند الخصر، واليسرى كانت ممدودة وفي كفها تفاحة، ويرجح أن «زهرة آرلس» الكاملة مصنوعة على نمط قريب من هذا، فلا يبعد أن يكون التمثالان على شكل واحد أو متشابه.
أما كيف وجدت هذه الزهرة المبتورة الذراعين، فقصتها كقصة الكثير من المستخرجات الفنية التي يتفق العثور عليها لغير الفنيين، فقد كان فلاح من فلاحي جزيرة «ميلو» يحرث أرضه فتعثر المحراث، وخطر له أنه متعثر في حجر يعوقه، وأن وراء الحجر كنزا من النضار، فذهب يزحزحه ولكنه رأى وراءه حجرة مطمورة، ورأى فيها التمثال فعلم أنها لقية تغنيه إذا هو أحسن المساومة عليها، واتفق أن لمحه الضابط الفرنسي دومون درفيل فأبلغ قصته إلى المركيز دي ريفيير السفير الفرنسي في العاصمة التركية، وزين له أن يبتاعه بما يرضي الفلاح الذي يحتفظ به، ففعل وأهداه إلى لويس الثامن عشر ملك فرنسا في ذلك الحين، ويقول الأستاذ فيليب كار في مجلة «نيويورك تيمس»:
إن الذراعين كسرتا في نزاع نشب على ميناء ميلو بين البحارة الفرنسيين والبحارة اليونانيين، وإن المسيو دي مارسلس الذي اشترى التمثال لم يحزه إلا عنوة، وإن كان قد بذل فيه الثمن المطلوب؛ لأنه حين وصل لتسلمه كان قد بيع بيعة ثانية، وأوشك أن يحمل إلى سفينة يونانية يركبها أمير مجهول الأمر، هو الذي اشترى التمثال للمرة الثانية على يد قسيس أمريكي يقيم في الجزيرة، وكان الجزء الأسفل منه قد نقل فعلا حين أدركه الجند الفرنسيون وهزموا البحارة الآخرين وهم مسلحون بالبنادق والسيوف، واصطلموا أذن أحدهم ثم نقلوا ذلك الجزء من السفينة اليونانية إلى السفينة الفرنسية.
ولخصت مجلة الأوتلاين الإنجليزية - التي ننقل عنها - ما بقي من الفصل المتقدم، فإذا الكاتب يذكر هذا التعليل ويذكر تعليلا آخر لفقد الذراعين، وهو أن القائمين على متحف اللوفر كسروهما عمدا، أو كسروا إحداهما بعد وصول التمثال إلى باريس، وقد كان للضابط الفرنسي رفيق اسمه «ماتريه» زعم أن التمثال وصل إلى فرنسا بذراعه اليسرى، وأن هذه الذراع لم تكسر إلا في العاصمة الفرنسية.
لكن ليس هذا كل ما يؤسف له من أمر هذا التمثال الأبتر من جهات كثيرة؛ فقد بترت ذراعاه وبترت تواريخه كلها، فلا يعلم له صانع ولا زمان صناعة، ولا يعلم عنه الآن إلا أنه تمثال الزهرة، وأنه وجد في جزيرة «ميلو» في شهر مارس سنة 1820.
إلا أن البقية الباقية منه كافية للدلالة على حقيقته الكبرى: وهي نظرة الفن الإغريقي إلى الجمال الأنثوي، والمقابلة بين هذه النظرة الإغريقية وبين أشباهها من النظرات في مختلف العصور والأمم، فلو أن مثالا مأخوذا بالمراسم التي قررتها التقاليد، وسجلتها تشبيهات العرف الذائع، عمد إلى نموذج الجمال الأنثوي ليصوره على أحسنه وأرشقه لكان الأغلب الأرجح أنه يدق من خصره، ويرفه من خلقته على الجملة؛ ليجيء على وفاق الصورة التي توهمها المترققون المتظرفون للمرأة الحسناء في حقيقتها، وإنما صور لنا الأجزاء كما يفهمون كل جزء منها على حدة، وجمع هذه الأجزاء فإذا هي امرأة يتخيلها المتخيل، ولا تنفعه في فهم جمال المرأة حق المنفعة؛ لأنه إذا قاس عليها الحسان قد ينكر منهن الجميلات اللواتي لا عيب فيهن إلا أنهن يخالفن ذلك الخيال.
أما النظرة الإغريقية فجمال المرأة فيها هو جمال الطبيعة وجمال الصحة، وهو الجمال الذي إذا نظرت إليه تمثلت لك المرأة في جميع حالاتها، أما مدبرة ومعشوقة ومدللة، ولم تتمثل لك زينة فحسب، تراها فتعجب أن تكون هذه أما مع ما فيها من الوهى، والرقة، والدلال الغالب على كل وسم وشارة.
بلاد الحياة والموت والأديان
القارة الآسيوية أرض حافلة بأسباب الحياة، حافلة بأسباب الموت، وهي لهذا كانت أرضا حافلة بالأرباب والشياطين، وكان سلطان الدين فيها أقوى ما عرف في نفوس بني الإنسان.
بلاد شاسعة الأطراف فيها من النبات صنوف ومن الحيوان صنوف، فيها البطاح تغمرها الغياض والآجام والكلأ الجميم والعشب المريع، وفيها الثمار من كل فاكهة ألوان، والأمواه تجري في السهول والجبال، والمعادن في جوف الأرض على مقربة من تناول الفحص اليسير والعلم القليل، وفيها الأقاليم الواسعات يجتمع لها ما تفرق في أقاليم الأرض من الزرع والحيوان، وتجوس خلالها أسراب الطير والأوابد على اختلاف في الأقدار والطبائع والأشكال، والدواب ميسرات لمن يخرج إلى العراء ويصيد ويروض، والطعام من فاكهة الأرض ومن لحوم الأطيار والأسماك والأنعام غير ممنوع ولا مضنون به على الطالبين، فها هنا البركة والرضوان والخير الموفور وأرباب الرحمة والرخاء التي تؤتي عبادها كل ما يشتهون.
وبين هذه الخيرات والنعم آفات لا حصر لها ولا علم لأحد هنالك بما يسوقها على الناس وما يدفعها، فالبطاح تضربها الشمس في الصيف فهي جهنم، ويثقلها الثلج في الشتاء فهي زمهرير، والبراكين تخسف الأرض وترفعها فتغيض البحار وترتفع الأطواد، ويندك ما كان شامخا ويشمخ ما كان في القرار الخفيض، والأمواه والأودية تخالطها السموم مما ينتشر فيها وعليها من الدواخين والمعاطب، فلا يعبرها حيوان إلا هلك، ولا تنبت فيها نابتة إلا ذوت، ولا يلم بها إنسان إلا على وجل يتلمس النجاة، والهوام ساعيات بالأذى، والأوابد ضاريات لا يحسبن لأبناء آدم حسابا، والوباء يشيع حيث يشيع فلا علاج له ولا وقاء منه، والمرء يتلفت حوله فلا يعلم من أين يجيئه الموت ومن أين ينشد السلامة، فكل مهلكة عنده شيطان مارد وكل مصيبة تعتريه دسيسة من عالم مجهول، ولا حيلة له في كل ذلك إلا الصلوات والتعاويذ والقرابين، وإلا أن يلوذ بمن هم على صلة بالأرباب والشياطين، ومعرفة بمواقع الغضب منهم والقبول؛ عسى أن يمشوا بينه وبينهم بالشفاعات والمعاذير.
إذا وبئت الأرض فمات من عليها من الحيوان قال لك العلم الحديث: إنه غاز الفحم ينتشر فويقها فيموت فيه كل متنفس، وإذا وبئ البحر فمات من فيه من الحيوان، قال لك العلم الحديث: إنه سلفيد الهيدروجين ينشأ من بعض الأملاح المتحللة، فيبعث ريح الموت في طباق الموت غورا بعد غور، وإذا لم يكن «علم حديث» فماذا يقول الإنسان صاحب الجهل القديم؟ لا يقول إلا أن الوادي استولى عليه روح الشر، ونزلت به لعنة الأرباب، ولا يعرف الخلاص إلا على يد كاهن أو ساحر هو في عرفه نصف شيطان ونصف إله، وإذا غبرت الدهور على ذلك مائة سنة بعد مائة أخرى بعد ألف سنة بعد ألف أخرى بعد آلاف وآلاف بلا أول لها معروف، فلا جرم يكون فن الكهانة قد بلغ الغاية من الإتقان، وقد أصبح أهله أساتذة مبرزين في اللعب بالحواس والعقول والسيطرة على الضمائر والأخلاد، بل لا جرم تكون لهم قدرة على ذلك يلعبون بها حتى بالعلم الحديث ورجال العلم الحديث! •••
الأستاذ «فرديناند أسندوسكي» عالم بولوني من علماء المعادن الذين أرسلتهم الحكومة الروسية قبل ثلاثين سنة إلى بلاد الروسيا الآسيوية للاشتراك في بعثة التنقيب عن المناجم ودرس ما يتصل بهذا الباب من شئون البحيرات والبقاع في تلك البلاد، ثم قضت عليه الشيوعية في سنة 1920 أن يعود إلى مواطن بحثه الأولى؛ هاربا بحياته متخفيا بين غدرات الطبيعة والناس، ملاقيا الموت في ألف طريق محتالا عليه بألف حيلة، حتى ليخيل إلى من يقرؤه أنه يقرأ قصة السندباد وهو ينجو من أخطار البحر ليقع في أخطار البر ويفلت من مخالب الرخاخ ليسقط بين براثن السباع، وإنما الفرق بين أعاجيب السندباد وأعاجيب الأستاذ أنك تقرأ في الأولى ما لا تصدقه، وتقرأ في الثانية ما هو خليق بالتصديق والأعاجيب التي تصدقها أعجب من تلك التي لا تصدقها وإن خيل إلى أناس أن الأمر على الخلاف، إذ لا غرابة ولا مشقة في تصورك ما لا يكون، ولكن الغرابة كلها في الشيء الكائن الذي يلقاه إنسان مثلك، وتلقاه أنت لو كنت في موضع ذلك الإنسان، فهذه هي الأعاجيب حق الأعاجيب، ومن أعجبها وأهولها قصة الأستاذ أسندوسكي، الذي عاش في مهربه كما تعيش الأوابد، بل عاش على قنص الأوابد من الأرض والماء والهواء، ولقي في جولاته قديمها وحديثها أناسا أكلوا زملاءهم في الطريق من سعار الجوع وضراوة التأبد في القفار، وأوى إلى الغيران بين الوحوش يتربص بها ليأكلها وتتربص به لتأكله ريثما يذوب الثلج المحيط به من كل مسلك، فلما أذن الثلج بالذوبان؛ إذا بالرعود القاصفة يجلجل بها الماء الذي كان محبوسا في القيعان فانطلق لا يلوي على شيء بما يجترف من الغابات والجثث والأنقاض، وإذا بالسجين الآدمي الذي أطلقه الربيع كما أطلق الماء الحبيس حائرا متحذرا يهاب من الآدميين ما لم يهبه من السباع والهوام، وإذا بالمآزق تنفرج له عن مثلها والمتالف تدفع به إلى شر منها، فلا يسلم من ريب أهل البلاد إلا لتقذف به الطريق إلى أعدائه الراصدين له بكل مرصد، ولا يجد الخيل للرحلة إلا ليفضي بها إلى أصقاع لا تطرقها الخيل، ثم لا يستعيض منها بالإبل حتى تخذله الإبل في بعض المصاعد والدروب، ثم لا يطمئن إلى المطايا حتى يحرن الدليل مخافة الشيطان الرابض في المفازة التي لا يجوزها من يسالم ذلك الشيطان، ولا يتصدى لحربه في عقر داره! وإذا نفعه العلم في مكان فهو وشيك أن يرديه في مكان آخر، فهو ها هنا ناصح خبير يمني الأماني ويتحدث بالكنوز والثروات، وهو ها هنا مطالب بأن يشفي المرضى ويصنع المعجزات لأنه عالم قدير، والعالم القدير لن يخفى عليه شيء ألا أن يكون بخيلا بعلمه أو مضمر السوء، وهكذا مما ليس يتخيله وليس يحيط به إلا من قرأ قصة الرجل في كتابيه اللذين كتبهما عن رحلته القديمة والحديثة، وتخللهما بالوصف الجميل لكل ما شهد من محاسن الطبيعة وأهوالها وعقائد الناس وتواريخهم، مما يندر مثله في نوادر الخيال وتلفيقات الأكاذيب. •••
كان لا بد للأستاذ أسندوسكي أن يغشى المعابد في تلك الرحلات المروعة، وأن يستجير بكهانها ومريديها، وأن ينفذ إلى بعض دخائلها ويطلع على بعض أسرارها، ولكنه مع كل علمه الحديث وخبرته الواسعة وشكوكه في الديانات لم يسلم من سلطان أولئك الكهان، ولم يكن شأنه معهم في إيرائه ما يريدون أن يراه، وإيهامه ما يريدون أن يتوهمه إلا كشأن أجهل الجهال من رحل البادية المنقطعين عن العمار، وخرج من آسيا حين خرج وهو نصف مؤمن بعقائدها الروحية بل بخرافاتها الموروثة التي كان يخشع لها وهو قد يعلم أسبابها ولا يخفى عليه تعليلها.
حدث عن أحد هؤلاء الكهان أو اللامات المعروف باسم «شجون لاما» فقال: «إنه كانت له الزعامة على جميع القبائل الرحالة في منغوليا الغربية وزنجاريا، وكان يبسط سلطانه حتى على القبائل المنغولية في تركستان، وله جاه لا يغالب بفضل ما له من الهيمنة على أسرار العلم الباطني كما يسميه، وسمعت أن جاهه هذا قائم كذلك على الفزع الذي يداخل المنغوليين منه؛ إذ لا يخالفه أحد إلا هلك، وكنت معه والريح تصفر وتزأر حول خيمته وترمي بالثلج عليها وأصداء الطبيعة تختلط بما يشبه الصريخ والإعوال والقهقهة من جميع الجوانب، فشعرت أنها بيئة لا يصعب فيها إرهاب البدوي الجوالة بالمعجزات، لأن الطبيعة نفسها قد هيأت لها دواعيها، وما كاد يسنح لي هذا الخاطر حتى رفع «شجون لاما» رأسه على حين فجأة ونظر إلي نظرة نافذة وهو يقول: «إن في الطبيعة لكثيرا من المجهول وإن البراعة في استخدام هذا المجهول هي التي تجيء بالمعجزة الخارقة، ولكنها قوة لا يمنحها إلا القليل وسأريكها الآن، ولك - بعد - أن تخبرني هل رأيت أنت شرواها أو لم تره قبل الآن.» ثم وثب وشمر عن ساعديه وقبض على مديته ودلف إلى الراعي وناداه آمرا «ميشيك! قف». فلما وقف الراعي أسرع اللاما بفك أزرار قميصه وعرى صدره، وإني لأسأل نفسي ماذا عسى أن يصنع اللاما إذ به يدفع مديته بكل ما أوتي من قوة في صدر الرجل، وإذا الرجل صريع يهوي على الأرض متخبطا في دمه فيطفو شؤبوب من الدم على رداء الحرير الأصفر الذي كان يلبسه اللاما، فصحت به: ماذا فعلت؟ فهمس قائلا: صه. لا تتحرك! وأدار لي وجهه ممتقعا شديد الامتقاع، ثم فتح صدر الراعي المنغولي ببضع ضربات فرأيت رئتيه تتنفسان نفسا هادئا، والقلب ينبض نبضه المعدود، ولمس اللاما هذه الأعضاء فانقطع تفجر الدم ولاح وجه الراعي على أتم هدوء، وأخذ اللاما بفتح بطنه فأغمضت عيني فزعا، ثم فتحتهما بعد هنيهة فكانت دهشتي أعظم وأدهى حين رأيت الراعي نائما وقميصه مفكوكا وصدره سليما وهو راقد على جنبه واللاما جالس ساكن الجأش إلى جانب الموقد يدخن بيبته في تفكير عميق.»
قال الدكتور أسندوسكي: فعلمت أنني أخذت بقدرة اللاما المغناطيسية، وآثرت ذلك على أن أرى المنغولي المسكين يموت؛ لأنني لم أكن لأصدق أن اللاما قادر على أن يعيد ضحاياه إلى الحياة بعد أن يمزق أبدانهم ذلك التمزيق. •••
وليس من الصعب على ما يظهر أن يؤخذ الأوربيون المتعلمون بقدرة اللامات المغناطيسية ويقعوا في أسر سلطانهم الروحي، فيؤمنوا بوحيهم أوثق الإيمان، فقد روى الدكتور «أسندوسكي» عن قائد روسي من أعداء الشيوعيين اسمه «يونجرن» مطلع على الفلسفة والأدب غريب الأطوار، كان في بلاد المغول وكان يستنبئ الحبر الأعظم عن كل شيء، ويعتقد أن خلاص العالم من بلائه سوف يكون على أيدي البوذيين.
وإلى هنا لا عجب أو العجب قليل، ولكن العجيب في الأمر أن يسأل هذا القائد الحبر الأعظم عن مصيره فينبئه أنه سينتهي بعد مائة وثلاثين خطوة، فيكون ما أنبأ به الحبر الأعظم، ويقول الأستاذ في ذاك: «بعد نحو مائة وثلاثين يوما وقع البارون «يونجرن» في أسر البلاشفة بخيانة ضابطه، فنفذ فيه حكم الموت في نهاية شهر سبتمبر.»
ولا يحسبن القارئ أن العالم الذكي الذي يكتب هذا مخدوع في قداسة الحبر الأعظم أو أنه لا يعرف عنه ما يضعف الإيمان بالقداسة، فهو يقص عليك أن هذا الحبر يلهو، ويسكر، ويقامر، وأنه عمي من فرط المعاقرة وهم أطباؤه أن يسموه كما يفعلون أحيانا حين تقضي مصلحة الديانة بتنصيب حبر جديد، ولكنها ملكة السحر على ما نرى قد بلغت تمامها بعدما توارثها الأحبار أجيالا بعد أجيال، وأحاطتها الطبيعة بالمهيئات الكثيرة، وسرت عدوى التصديق بها من الأهلين إلى الغرباء.
وماذا يصنع الأستاذ «أسندوسكي» في بلاد تغلبه عقائدها، بل تغلبه خرافاتها فيرجع عنها وهو بين ضاحك وناقم وهازئ من الخرافة وهازئ من نفسه في آن؟ لقد حدثوه عن قبر «إبك خان» ولعنته ونقمة صاحبه على الدنيا، وحدثوه عن المصورين الذين حاولوا أن يصوروه فولوا عنه فزعين، فتاقت نفسه إلى تصويره فلم يكن بأسعد حظا من أولئك المصورين المزعومين، أما في المرة الأولى فقد نظر إلى زجاج الآلة الشمسية فلم ينظر عليه من آثر، فعاود الكرة فإذا الزجاج خلو من كل أثر كما كان في المرة الأولى، فعلل ذلك باعتراض تلك الأشعة التي يتفق في بعض الفلتات النادرة أن تمنع موجات النور التي يسمونها بالميتة أن تترك أثرا على صفحات الزجاج، وأما في المرة الثانية فقد انكسرت به وبزميله المركبة وتهشمت الآلة الشمسية وقفل من جولته غير مصدق بالنجاة، وكل ذلك لأن صاحب القبر «إبك خان» كان أميرا على ذلك المكان فخانه بعض أوليائه، وأعان عليه «جنكيز خان» فخرب بلاده وقتله بعد أن قتل ابنه، فلعن الدنيا والناس، وقال وهو يساق إلى الموت: «إنني أمقت كل إنسان وأمقت كل موجود، وويل لمن يأخذ من ناحية قبري شيئا فإنني منتقم منه، وستبقى روحي حائمة ها هنا كأنها ضباب الخريف.»
تلك هي اللعنة التي حرمت على كل إنسان أن يأخذ شيئا من قبر الأمير المنكوب، وحرمت حتى على النور أن يلقي ظلا لذلك القبر على زجاج التصوير! •••
عاد أسندوسكي إلى وطنه واشتغل بالتدريس في جامعاته وبالكتابة في مواضيع شتى من العلم والأدب، وظهر له هذان الكتابان في موضوع رحلته هذه، وهما كتاب «البهم والناس والأرباب» وكتاب «الإنسان والأسرار في آسيا»، فترجما إلى لغات كثيرة وقرأنا أولهما فشاقنا إلى قراءة الثاني فخرجنا منهما معا بخلاصتين: إحداهما أن مخاوف الطبيعة قد خيمت على عقول الآسيويين وضاعفت اللامات والسحرة فعلها في تلك العقول، وأساءوا توجيهها عامدين أو غير عامدين، ولكنهم - أي الآسيويين - قد ظفروا من كل ذلك بقوة روحية لا يستهان بها إذا نهضت شعوبهم، واتخذوا من روحياتهم مددا للأخلاق والحوافز النفسية وعوامل الرجاء، ورب يوم يحمد فيه القوم تلك القوة الخفية، بعد أن كان منها ما يستوجب المذمة إلى هذا الزمان.
والخلاصة الأخرى أن معاشرة الطبيعة على كثب قد نبهت فطرة بعض الشعوب الآسيوية في بعض الأمور فتفوقت فيها على الغربيين المتحضرين لاضطرار أبنائها إلى مراقبة الأجواء ورياضة الأوابد والاحتيال على اصطيادها، ودراسة عاداتها وضبط النفس في محاربتها وغير ذلك من ضروب للفروسية أهملتها الحضارة الحديثة حتى كلت في أبنائها حواس الفطرة التي قد تعوضنا عنها العلوم معرفة وصناعة، ولكنها لن تعوضنا عنها من مادة الحياة، فإذا كان للحضارة ما تعلمنا إياه، فللبداوة أن تعلمنا كثيرا من علوم الفطرة الصادقة، والفراسة المتيقظة ، وما حاجتنا إليهما بأقل من حاجتنا إلى المعارف والصناعات.
مع بافلوفا حول الدنيا
لو كان للجسد نعيم! ولو كان للجسد سماء!
إذن لكان الراقصون والراقصات هم الأبرار المقربين في ذلك النعيم، وهم الملائكة الكروبيين في تلك السماء.
لأن الراقصين والراقصات يتقشفون كما يتقشف الزهاد والنساك، ويتعبدون كما يتعبد الصوامون القوامون، يتركون كثيرا من الطعام والشراب وكثيرا من الراحة والعيش الرغيد قياما بفرائض الجسد، وخوفا عليه من عوارض السمنة وصلابة الأوصال، ويسهرون ويتهجدون ويروضون أنفسهم رياضة لا يقوى عليها إلا الصابرون، فلهم شعائرهم التي يرعون أحكامها، ولهم تجاربهم التي يمتحنون بها ثم لا نراهم يحسبون في الناسكين ولا في المتقشفين!
ولكن أهو الجسد الذي يخدمه الراقصون والراقصات؟ أهي هذه المادة الكثيفة التي يدين بها هؤلاء الذين يروضون أجسامهم على مطاوعة أفكارهم وأرواحهم، وترجمة العميق الرشيق من أحلامهم وأذواقهم؟ ألأجل الجسد تسام البنية الخضوع والإذعان حتى يكاد يكون وجودها لاحقا لحركات الأفكار وأنغام الخواطر؟ ألأجل الجسد يصبح الجسد روحا هافيا ومعنى مترددا لولا أنه يبدو للعيون ويلمس بالأيدي لكان إدراكه بالبديهة أحجى وتصوره بالخيال أكمل وأولى؟ لا! لغير اللحم والعظام يصبح الجسد روحا ومعنى، وتصبح الحركة جمالا والأعضاء عنوانا للقريحة، نترجم عنها كما يترجم الموسيقي عن نفسه بالنغم، وكما يترجم الشاعر عن خياله بالكلمات والأوزان، فالرقص - ولا نعني هنا إلا الرقص الشريف - رياضة روحية ومغالبة للأرض والجاذبية، وهو إخضاع للمادة الكثيفة وليس مطاوعة لها ومجاراة لنزواتها، فهو انتصار للروح على البدن وتسخير للضروريات في سبيل الجمال، وهيمنة للحركة والنظام على الجمود والارتباك، وغير عجيب أن نرى الناس يعبرون عن هذا المعنى ببداهتهم الخفية حين يقولون عن الرجل الذي يترنح في العبادة إن روحا عاليا يملكه ويستولي على جوارحه، أو يقولون عنه إذا تخبط واضطرب في صرعاته إن روحا شريرا يعذبه ويستبد بأمره، فهم لا يرون الجسد هنا إلا مسوقا مغلوبا، ولا يتوهمون السلطان له فيما يفعل، وإنما يتوهمونه منقادا لسلطان غيره ويفرضون أن ذلك «الغير» هو روح من عالم الخير، أو من عالم الشر كما تكون الحركة إلى انتظام أو إلى اضطراب، وفي هذه البداهة ما في كل بداهة من النفاذ إلى الحقائق التي لا يحدها الفكر لأول وهلة، ولا تستجلي منها الحواس إلا الظواهر والأعراض.
كانت «أنا بافلوفا» الراقصة المشهورة ترقص في لندن فاستطارت ألباب النظارة بفنها البديع، وقدرتها الرائعة وخفة جسمها التي تسابق الضمائر، وتساجل القرائح، وتنسي الإنسان ركود الأبدان على أديم الأرض، بما ترسل من أحلامه في أجواء الحركة الحرة والنسق الطليق، ثم خرجت من المسرح فلقيتها امرأة تحمل طفلها، واندفعت إليها تقول لها في لهفة المأخوذ: «أتوسل إليك أن تلمسي طفلي!» فكان لهذه التحية في نفس بافلوفا أبلغ أثر تذكره بين أفخر ما لقيته من تحيات الأمم وشهادات الدول والعروش. كأنما ارتفع بها الفن إلى منزلة القداسة في قلب تلك المرأة الطيبة التي التمست عندها البركة لوليدها الصغير.
وكأنما وقع في وهم تلك المرأة أن الجسم الذي يبدع هذا الإبداع المعجز، لا يخلو من سر ولا تخلو ملامسته من كرامة، فهو سربال قدرة ميمونة تبتغى عندها المعجزات والأعاجيب، ولم لا يكون من تلك المعجزات والأعاجيب شفاء الأطفال الأبرياء إن كانوا في حاجة إلى الشفاء أو استجابة ما يرجى لهم من الرحمة إن كانوا في حاجة إلى مجاب الدعاء؟ منطق لا يروق أرسطو، ولكنه يروق الطبيعة الإنسانية وهي أصدق من جميع المناطقة الكبار والصغار! وكأنما تؤمن الراقصة العظيمة بهذه الخرافة ولا تستغربها، فهي تقول حين تكلمت عنها مع رئيس فرقتها الموسيقية: «إن الحياة لعجيبة، وإن دورات الزمن لأعجب، فكما كنت أنا أنتظر في برد الشتاء القارس على أبواب الملعب الكبير في بطرسبرج ريثما تخرج الراقصة «دوز» وأتوسل إليها أن تلمسني في طريقها، كذلك جاءتني هذه المرأة في كبة الزحام لألمس لها وليدها.» فليست الكاهنة العظمى إذن بأقل من سواد العباد إيمانا بذلك السر الذي جعلها أنا بافلوفا، وجعل لها تلك الكرامة وتلك البركة في قلوب المؤمنين والمؤمنات!
ومع هذا ألم يكن الرقص شعيرة من شعائر الأديان القديمة أكثرها إن لم نقل جميعها بغير استثناء؟ أليس له بقية باقية إلى اليوم في أذكار الدراويش وإخوان الطريق؟ ألا يشاهد في كنيسة إشبيلية الكبرى إلى اليوم في بعض الأعياد الدينية؟ فإذا نحن جمعنا بين الرقص والتقشف فالتهكم هنا غير كثير، والتناقض بين الأمرين لا يراه إلا الذين يقصرون فنون الرقص على اللهو والمجون واستثارة الشهوات التي لا ملاءمة بينها وبين الروحيات ومطالب الكمال، وما نظن أمثال هؤلاء هم الحكم في شئون العبادة أو في شئون الجمال، بل نراهم أحوج إلى تقويم فهمهم لحركات الأرواح والأجسام، وإقصاء ذكرى المراقص الشائنة من أذهانهم حين يسمعون عن الرقص كأنه رياضة نفسية تتلبس بها الأعضاء كما تتلبس الخيالات الرفيعة بالأشكال والتماثيل.
مع بافلوفا حول الدنيا عنوان هذا المقال، هو عنوان كتاب وضعه الأستاذ الموسيقي «تيوديور ستير» الذي صاحب الراقصة العظيمة في رحلاتها الطويلة بين الغرب والشرق والشمال والجنوب، وهو الكتاب الذي استدعى في خلدي هذه الخاطرة وأنا أقلب صفحاته وأتنقل فيه من طرفة إلى طرفة، ومن فكاهة إلى عبرة، ومن وصف اجتماعي ممتع إلى وصف فني أمتع، وناهيك بما يدونه رجل ألمعي من رحلات طوال تخللت أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، وجاس بها صاحبها بين جميع الطبقات، من قصور الملوك والعظماء إلى ملاعب النظارة المفتوحة لجميع الطراق، وعاشر في أثنائها نماذج من أبناء الفنون وبناتها، لا تنقضي غرائبها، ولا تشبه في جملة خصالها ما يعهده الناس في جملة الرجال والنساء، فهو كتاب لا تخطئ فيه الطلاوة قبل كل شيء، ثم لا تخطئ فيه الفائدة التي قل أن تجدها في الكتب المخصصة للفوائد من العنوان إلى الختام.
أول عبرة من عبر هذه الكتاب أن يتسع التأليف الغربي لكتابة سفر ليس بالصغير في رحلات موسيقي مع راقصة. يا للصبيانية! يا للإسراف! أهكذا يفرغ هؤلاء الغربيون لهذه الصغائر التي لا تليق بالسمت الوقور!
تمثلت وأنا أقرأ عنوان هذا الكتاب على رف المكتبة وجيها من وجهائنا، أو عالما من علمائنا يتصفح الرف ويقع على هذه العنوان، وتمثلت انقباض أساريره وهو يتأفف من هذا السفساف، ويطوى الكشح عن هذا الصغار. أوتكتب التراجم والسير لغير أصحاب الألقاب والشارات؟ إن هؤلاء الغربيين لحمقى لا يتوقرون، وإنهم لثراثرة والله لا يتورعون عن كلام! ما بافلوفا وما رحلاتها؟ وماذا يستفيد القارئ من رؤيتها أو من وصف من يرونها في آفاق الأرض وفي ملاعب المتبطلين؟
كذلك لا ريب يتحدث وجيهنا أو عالمنا إلى نفسه وهو يتصفح الرف ويطلع على عنوان الكتاب، وقد يستحق الكتاب الشراء والقراءة لإغاظة هذا الوقار المضحك إن لم يستحق الشراء والقراءة لغير ذلك! وهو يستحقهما لعدة أشياء.
أحسب أن التراجم والسير لا تكتب إلا لتوسيع أفق الحياة وتعديد جوانب الشعور، فأنت إذا وضعت أمامك عشرة آلاف إنسان في صف واحد، فكن على ثقة أن واحدا منهم لا يخلو من مزية معدومة في الآخرين، أو موجودة فيهم على اختلاف في خصلة من الخصال، وكن على ثقة أنك إذا استطعت أن تتخيل هذه المزايا بألوانها وتنويعاتها، فقد استطعت أن تستوعب لنفسك عشرة آلاف حياة، وأن تبسط عمرك على هذا النحو إلى آلاف السنين، فلأجل هذا تقرأ كتب التراجم والسير وتقرأ القصص والروايات، وتشاهد الشخوص في المسارح، وفي السياحات، وفي كل مكان.
وكلما كانت الترجمة أغرب كانت أتم للغرض المقصود بكتابة التراجم، وأعون على توسيع جوانب الحياة، فلو استطاع كاتب أن يصور لنا سيرة النبات - فضلا عن سيرة الأحياء وفضلا عن سيرة الناس، وفضلا عن سيرة العظماء والعظيمات من الناس - لكان هذا أبلغ في أداء غرض الترجمة من كتابة أخبار الفاتحين وذوي المظاهر؛ لأنه يمد الحياة الإنسانية حتى تشمل أبعد الكائنات الحية عن مشابهتها، وهي الأشجار والأغراس، فلا يخطئ الذي يكتب الأسفار عن امرأة قد أخذت من إعجاب الناس بأوفى نصيب، وعلمتهم أن للجسم مكانا يرتفع إلى سماء الروح، بل كثير أن نقول «لا يخطئ» عمن يكتب في هذا الباب وهو المصيب الذي لا غرابة في عمله في غير عرف الوقار البليد، وقار العجماوات، أكرم الله السامعين.
وقد نعود إلى اختيار نبذ من هذه الرحلة الممتعة في مقال آخر؛ ولكننا نجتزئ الآن نبذة عن مصر التي زارتها أنا بافلوفا مرتين؛ لأن في هذه النبذة استكشافا جديدا عند بعض الناس الذين يكشفون للأمة غطاء المجهول!
قال الأستاذ ستير: «كان معظم النظارة من المصريين، وكان النساء يجلسن في مقاصير معزولة عن الرجال يكاد يغمرهن اللباس الأسود، ولا يسفر من وراء براقعهن إلا العيون، ومن هذه العيون بدت لي عينان اثنتان على الأقل لم يكن لي معهما قرار. فقد لمحت في المقاصير القريبة مني امرأة لا أقول عن أثر عينيها الثاقبتين في روعي إلا أنه كان ضربا من التنويم والتخدير، ولا أعرف كيف كان هذا، ولا أذكر إلا أن النور الذي ينبهني إلى ابتداء العزف قد أومض أربع مرات واحدة بعد واحدة قبل أن أفيق لنفسي وأدري بما حولي. بل لقد نسيت حتى بعد هذه اليقظة فاتحة الدور الذي كانوا يحسبون أنني أديره!»
والأستاذ ستير الذي يقول هذا هو الرجل الذي رأى العيون في خمسين عاصمة من عواصم الحضارة أو تزيد، ففي كلامه ولا ريب كشف جديد للناظرين! نعم، في كلامه كشف جديد لحضرات الشعراء الذين يكشفون لهذه الأمة غطاء المجهول ولما يبصروا - وقد لا يبصرون أبدا - أن في مصر عيونا يتغزل بها المتغزلون وتغنيهم عن الرحلة إلى الرصافة وبوادي تهامة للتنقيب فيها عن المها والغزلان، ولا يشعرون - وهم الشعراء - بالعين الجميلة إلا إذا حملقت لهم في قصيدة بدوية من وراء ألف عام.
فورد الفيلسوف
هب أيها القارئ أن رجلا يملك مائة مليون جنيه أعلن الناس أنه افتتح مستشفى لعلاج المرضى، وأنه هو سيعالجهم فيه بعلمه وخبرته وكفاءته الطبية التي خلاصتها كلها أنه يملك مائة مليون!
أو هب أيها القارئ أنه افتتح مطعما وأعلن الناس أنه يبيعهم فيه ما يطهوه بيديه ويبتكره من صنوف الطعام بتلك الكفاءة المطبخية التي خلاصتها أيضا أنه يملك مائة مليون. هب أيها القارئ هذا أو ذاك فهل تظن أحدا يجازف بصحته أو بمعدته ليعلم كيف يداوي المريض أو يطعم الجائع من كان في حوزته مائة مليون من الجنيهات؟ هل ترى أحدا يسول له الفضول أن يجرب في نفسه كيف يشفيه أو كيف يغذيه من ليس له علم بأسباب الشفاء ولا علم بأصناف الغذاء؟
ربما ...
ولا ضرر من «ربما» على كل حال، ولكنك تستطيع أن تجزم جزما لا «ربما» فيه أن الذين يفعلون ذلك لن يكونوا إلا من أصحاب الأطوار الغريبة والأمزجة التي لا يقاس عليها بين سواد الناس، فهم من قبيل أولئك الذين يجربون النافع والضار في أنفسهم؛ لأنهم ينشدون الاستطلاع بأي ثمن من مال أو صحة أو حياة، وليس هؤلاء بين خلق الله بالعدد الكثير.
لكن هب أن صاحب الملايين أعلن الناس أنه ألف لهم كتابا في الفلسفة، سواء أكان في الفلسفة عامة أم في فلسفته هو خاصة، وأنه عرضه للبيع ونزل به مع المؤلفين في ميدان التأليف والنشر، فكم ألفا يبيع من هذا الكتاب وكم قارئا يقبل على مطالعته من طلاب الفلسفة وممن لا يطلبونها ولا يطيقون اسمها بالسماع؟
كم ألفا يقرءون ذلك الكتاب؟
لا أسألك الدقة في العدد ولا أنوي أن أجعل لك جائزة على إصابة العدد الصحيح، فلك أن تقول عشرون ألفا ولك أن تقول مائة ألف، ولكنك لن تنزل بالعدد عن هذا المقدار فيما أظن، ولا سيما إذا علمت أن المؤلف من الأمريكيين وأن مصنفه يكتب باللغة الإنجليزية.
فما سر هذا الاختلاف في نظر الناس بين معالجة الفلسفة ومعالجة المرضى وطهو الطعام؟ هل الفلسفة في نظرهم أسهل من الطب وأقرب منالا من الطبخ أو من كل صناعة يستعد لها بالفطرة والتدريب؟ وهل كل صاحب ثروة مستطيع أن يكون فيلسوفا لأنه ملك الملايين، ولكنه غير مستطيع أن يطبخ صنفا من الخضر ولو كان قد ملك تلك الملايين؟
لا! لا إخال أحدا من الناس يذهب إلى ذلك حين يضع يده في جيبه ليشتري الكتاب ويزيد بجملة أثمانه ثروة الغني الكبير، ولا هو يعنيه هل الكاتب فيلسوف أو غير فيلسوف؟ وهل هو ممن يحسنون الكتابة أو ممن لا يحسنون؟ ولكنه يشتري الكتاب راضيا ويقرؤه وهو لا يبالي أخرج منه بفلسفة أم بهراء لا طائل وراءه، بل لعله لو كان على يقين أنه سيظفر منه بالفلسفة الصحيحة لما جشم نفسه عناء الاطلاع عليه، فهو يقرؤه لأن المال ينقل أصحابه إلى عالم من السحر والفتنة يخيل إليه أنه مختلف عن هذا العالم الذي يعيش فيه، وهو يريد أن يستطلع ذلك العالم بكل ما فيه من كمال ونقص، ومن فهم وسخف، ومن حقيقة وباطل، بل يقرؤه وهو راض غير مستضيع لدراهمه لو خرج منه على أن مؤلفه أسخف السخفاء وأبطل المبطلين ، فإن تسخيف رجل عنده مائة مليون شيء يستحق في ذاته بضعة دراهم تدفع في ثمن كتاب! وربما كان تسخيفه أولى بالثمن من الإعجاب بفلسفته؛ لأن الدنيا لا تحتاج من صاحب الملايين أن يكون فيلسوفا ولا من الفيلسوف أن يكون صاحب ملايين.
وأحسب أن الناس على حق في التفريق بين علاج المرضى وطهو الطعام وكتابة الفلسفة على هذا الاعتبار، فالذي يبخل ببضعة دراهم على صحفة يطبخها «فورد» أو «روكفلر» ويشترط عليه أن يأكلها كما يأكل الطعام الشهي السائغ، لا نحسبه مخطئا في بخله بدراهمه القليلة، وكذلك الذي يبخل بمثل تلك الدراهم أو بضعفها أو ضعفيها على الطبيب فورد والطبيب روكفلر لا يكون من المخطئين في هذا التقتير، ولكن الذي يأبى شراء كتاب فلسفي يكتبه أحد هذين مخطئ ولا ريب في حق الفلسفة وفي حق الاستطلاع؛ لأنه يستفيد من الكتاب على الوجهين ويعرف منه ما يصح أن يعرف، سواء أكان علما أم جهلا، وكلاما يستحق الاطلاع أم كلاما لا يستحق الاطلاع، وماذا عليه أن يتفرج ببضعة دراهم على السخافة التي تشهرها في أرجاء الدنيا مائة مليون من الجنيهات؟
لا أقول ذلك تعزية لنفسي على شراء الكتاب، فقد يحسن أن أسرع فأنهي إلى القارئ أنني حمدت شراءه ووجدته أطيب وأصدق من بعض المؤلفات التي لا عمل لأصحابها غير التأليف، ولكنني أقوله لأنه هو الباعث لي على تصفح الكتاب حين لمحت عنوانه، ولو أنني قرأت في موضعه «فلسفة متسول» لا «فلسفة فورد في الصناعة» لشريته للسبب عينه، ووثقت أنني لا أضع الثمن في غير موضعه؛ لأن ما فيه لا محالة مادة قراءة ولو لم يكن كاتبه بالكاتب المجيد.
أما الكتاب فهو كما قد عرف القارئ كتاب «فلسفتي في الصناعة» لمؤلفه «هنري فورد» صاحب السيارات المشهورة، وأما موضوعه فظاهر، ولكني لا أحسب القارئ يتخيل أن الفيلسوف هنري فورد يمتد بأفق الصناعة إلى ذلك الشأو الذي مدها إليه، وأي شأو؟ إنه يريد أن يطبق الصناعة على حياة بني الإنسان!
قال: «إن مسألة الطعام من أخطر المسائل التي علينا أن نتوفر على علاجها، وكلما انقضى يوم ازددت إيمانا بأننا مكلفون أن نزيد الوقت الذي ننفقه في درس مسألة الطعام وكيف يؤكل، فأكثرنا يأكلون فوق ما يحتاجون إليه وكلنا يأكل غير الصنف الذي يصلح له في غير الوقت الذي يناسبه ثم ينتهي به الأمر إلى الألم والشكوى، نعم إن متوسط السن التي يعمرها الناس قد تضاعف في نصف القرن الأخير ولكني على يقين من أننا مهتدون يوما إلى وسيلة نرم بها جسم الإنسان حتى يطول أجله من الاستمتاع بالصحة والنشاط والذكاء. خذ مثلا «أديسون» فإنه الآن لعلى مثل ما كان عليه من يقظة الذهن في كل أوقات حياته، وكل ما لدينا من الأسباب خليق أن يؤكد لنا أننا سنقدر على تجديد أجسامنا على النمط الذي نجدد به عوار المراجل البخارية، فقبل زمن غير بعيد كنا نطرح مراجلنا جانبا لأن الصدأ يوهي سطوحها في بعض المواضع، فما هو إلا يسير من الدرس في هذه المسألة حتى اهتدينا إلى وسيلة لرمها ترد القديم منها كالجديد وتعيده إلى العمل أقوى مما كان أول مرة، والذي نريد أن نصل إليه هو أننا إذا وفينا التفكير حقه في هذه الوجهة فلا ندري لماذا لا نقدر على مثل ذلك في رم جسم الإنسان، فلا قانون يمنعه ولا حائل يحول دونه، وليست المسألة الكبرى هنا إلا أن تتوجه نية الناس إلى هذه الوجهة وأن تصحح الرغبة في الاستفادة من كل ما يؤدي إلى ذلك بعد علمه.»
هذه إحدى حكم الكتاب، فهل هي قليلة الغناء في حياة الفرد أو في حياة بني الإنسان كافة؟ إننا لعلى يقين من تقصير الناس في هذه الوجهة، وأنهم لا ينفقون من وقتهم ولا من علمهم وعملهم في تهذيب الطعام عشر ما يجب عليهم جميعا أن ينفقوه، ومن استخف بهذا الأمر وظن به السهولة والاستغناء عن الدرس والتجربة الطويلة، فليعلم أن تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من علماء الناس وجهلائهم يعيشون ويموتون وهم لا يعلمون ماذا يأكلون وكيف ومتى يأكلون، وأنه إذا استطاع إنسان باحث في هذا الموضوع أن يعرف في مدة عشرين سنة ماذا يأكل وكم يأكل وكيف يأكل وفي أي وقت يكون ذلك؟ فأحسبه من أسعد السعداء المدعو لهم بالتوفيق.
ومن حكم الفيلسوف فورد قوله: «لجمع المال وسيلتان: إحداهما على حساب الآخرين، والثانية بخدمة الآخرين، والأولى لا توجد المال ولا تخلق شيئا، وإنما هي تجلب المال ولا تفلح في كل حين، ثم لا يكون الرابح فيها إلا من الخاسرين، وأما الثانية فجزاؤها مضاعف والغنم فيها للآخذ والمعطي على السواء، وهي لا تأخذ شيئا إلا إذا خلفت شيئا ثم هي لا تأخذ مع هذا إلا بمقدار، إذ ما من أحد له الحق في كل شيء.»
وقد تسمع نغمة الاشتراكية من كلام هذا المليونير الكبير، إذ يقول: «ليس الذي يثير الحرب وطنية الوطنيين ولا استهانة بني الإنسان بالموت في الذود عمن يحبون، إنما يثيرها ذلك الوهم الذي وهمه القليلون وفهموا منه أن الحرب كلمة مرادفة للغنيمة. هذا هو الذي يثير الحرب ولا يتاح له من دعاة السلم العدد الكفيل بإظهاره وتصويب الحملة إليه، وحسبك أن ترى دعاة السلم سالمين وادعين؛ لتعلم أنهم لا يصوبون الحملة إلى الصميم؛ إذ لو كانوا ينطقون بالحقيقة لما دللوهم كما يدللونهم الآن ولا كان نصيبهم إلا نصيب شهداء الحق في كل زمان.»
وقس على ذلك سائر ما في هذا الكتاب الصغير مما يستكثر، والحق يقال على أدباء أمريكا «الرسميين» في هذه الأيام، إلا أن صاحبنا فورد - وهو من رجال العمل - يخطئ معظم الناس في فهم طبيعة النظريات ويحسب أن هناك نظريات تقال ولا يعمل بها في حال من الأحوال، ومن قوله في هذا: «لا يعلم أحد ماذا كنا بالغيه من سوء المنقلب لو أننا اتبعنا كل نظرية وكل داع من الدعاة يمنينا بالعصر السعيد.»
فهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت في هذه الدنيا ولم تتبع حقها من الاتباع؟ وهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت أو ستظهر بعد حين يحق لها أن يتبعها جميع الناس في جميع الأحوال؟ إن النظريات لا توجد لتتبع كلها، ويتبعها الناس كلهم وإلا ما كان اسمها النظريات، وهي كذلك لا توجد لتهمل كلها ويهملها الناس كلهم وإلا لما كان لها قط وجود، وإنما النظريات في الذهن كالطرائق والمسالك في المكان، فنحن لا نأخذ بنظرية واحدة ولا نسلك في شارع واحد، وإذا رسمنا الدنيا العقلية أو الدنيا المكانية فنحن لا نرسم تلك بأقرب النظريات وحدها ولا نرسم هذه بأقرب المسالك وحدها، ولكننا نرسم كل ما نراه قريبه وبعيده وسهله ووعره عسى أن نسلك فيه بعض الأيام، وإن كنا لا نلتفت إليه في أكثر الأيام، وما لي أسلك الطريق القريب وعندي فراغ من الوقت وبي حاجة إلى الطواف مثلا والتنزه في الخلاء؟ إن القريب في هذه الحالة لن يكون من طلبتي ولا سبب لذلك إلا أنه قريب!
فالنظريات لا تؤخذ جملة ولا ترفض جملة، ولا معنى لقسمتنا إياها إلى متبع في كل حال ومهجور في كل حال، فليس في طرقات الفكر، ولا في طرقات المكان ما يقسم هذا التقسيم، وهذه وتلك موجودة أبدا لا قديم في أصولها ولا حديث، ولكنها تسلك أو تترك على حسب الأوقات والغايات.
المطبعة والثقافة الشعبية
قد توجد الثقافة ولا مطبعة وقد توجد المطبعة ولا ثقافة.
هذا بعض الحقيقة، أما الحقيقة كلها فهي أن المطبعة قد تمنع الثقافة، فتكون في منعها أشد قسوة وأصعب مراسا وأطول أمدا من الغشمة الأغبياء الذين يظهرون في عصور الجهالة والركود وهم كارهون للعلم نافرون من الأدب، فيصدون الناس عنهما ويقيمون من جدران السجون سدودا بين الشعوب وضروب الثقافة.
فالغاشم المستبد يقول للناس لا تتعلموا فلا يتعلمون إلى حين، وربما أغراهم المنع بطلب العلم ومعالجة الخلاف أنفة من الطاعة العمياء.
أما المطبعة فلها طريقة أخرى في منع الثقافة الصحيحة وحرمان الشعوب من تداولها والإقبال عليها، وطريقتها هي أن تنشر الرديء الغث فيقل الإقبال على الجيد القيم، وهي تنشره باختيار الناس فلا يشعرون بغضاضة، ولا يتحفزون لمقاومة، ولعل الذي يمنع الجيد والرديء ويغريك بالخلاف أرحم من الذي يمنعك الجيد ويعطيك الرديء ولا يحرك من نفسك الرغبة في التبديل. •••
تقرأ في كتب الأمم القديمة وأنت تخيل إلى نفسك أنك تقرأ أخبار أمم مسكينة محرومة سبق بها سوء الحظ فلم تدرك عصرنا هذا الموفق السعيد: عصر المطبعة والكتب والصحف والمقروءات التي تصدر من المطبعة للناس بالألوف وألوف الألوف، وماذا عسى أن يبلغ إليه علم أناس حرموا هذه الآلة السحرية، أو حرموا حتى الكتابة، فلا يعرفها منهم إلا فئة محدودة وعدد قليل! قصاراهم أن يتعلم أفرادهم بعض العلم هنا وهناك، ثم يبقى جلهم في غيابة من الظلام يجهلون العلم، والعلم أشد بهم جهلا. ويخرجون من المهد إلى اللحد، وما سمعوا بغير الطعام والشراب!
تخيل إلى نفسك ذلك وأنت تفتح كتب الأمم القديمة، ولكنك لا تلبث أن تقرأ فيها حتى ترى أن هناك شعوبا مثقفة مشتركة في الأدب والمعرفة لا أفرادا معدودين هنا وهناك ينحصر فيهم العلم ولا يتجاوزهم إلى الآخرين، شعوبا تروي الشعر، وتضرب الأمثال، وتحفظ النوادر وأخبار الأيام ويعم فيها التثقف، فتلمح مخايله وعلاماته في النساء والرجال والجنود المقاتلة والفقراء الساعين في أرزاقهم، مع أريحية فيهم قل أن يقابلها عندنا إلا سماجة البلادة وقناعة الغرور.
وربما كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم مثقفون قريبو الأذهان والسلائق من فهم ما ينبغي فهمه والشعور بما يحسن الشعور به، وإذا كانت الثقافة غير الطباعة، فهي كذلك غير الكتابة وغير القراءة: هي تأهب النفس للمعرفة، والإحساس بالسماع والملاحظة والاعتبار، والأخذ بأسباب التهذيب واستكمال المروءة، وما الكتابة والقراءة إلا بعض هذه الأسباب، نعم! وما الطباعة إلا أداة النشر والإذاعة، ولكنها لا تضمن لك جودة المنشور المذاع.
من تلك الأخبار العجيبة في كتب الآداب العربية ما رواه صاحب الأغاني في ترجمة جرير بعد العنعنة التي لا بد منها حيث يقول: ... بينا المهلب ذات يوم بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحا، فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك في شيء، فأذن لهم. فقالوا: إنا اختلفنا في جرير والفرزدق، فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير.
فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقان جلدتي! لا أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سؤال جرير وسؤال الفرزدق، عليكم بالأزارقة؛ فإنهم قوم عرب يبصرون الشعر ويقولون فيه الحق.
فلما كان الغد خرج عبيدة بين خلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا، فقال: يا عبيدة! سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه.
قال: سل.
قال: أوتخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه.
قال: أجرير أشعر أم الفرزدق؟
قال: قبحك الله! أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر؟
قال: إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك، فقال: من الذي يقول:
وطوى الطراد بطونهن كأنها
طي التجار بحضرموت برودا
فقال: جرير! قال: هذا أشعر الرجلين.
إن الذين يعجبون حين يقرءون في كتب التاريخ الحديث أن الجنود الألمان كانوا يتناقشون في جمهورية أفلاطون وهم ذاهبون إلى حرب السبعين لا يجدون مناقشتهم تلك إلا دون هذه القصة في العجب، وأدنى منها إلى ما لا يجوز حدوثه، فإن جنودا تخرج بعضهم في الجامعات وعاشوا في عصر المطبعة وفي السنة السبعين من القرن الثامن عشر: قرن الثقافة والنهضة كما نقول، هم عسيون أن يتكلموا فيما بينهم في جمهورية أفلاطون. ليس ذلك بعجيب أو هو إذا أسأنا الظن بذلك الزمان غير مفرط في العجب، أما العجيب حقا فهو أن يتحاكم الجند إلى أميرهم في الموازنة بين الشعراء وأن يبلغ بهم الشغف بعلم ذلك أن يسألوا أعداءهم عنه في ميدان المبارزة! وأعجب منه أن يستروح رجل من الأزارقة الخوارج لسؤال عدوهم في الموازنة بين شاعرين وهم قوم من الجفاة الغالين في التدين، المعرضين عن كل ما عدا القرآن والتفقه في أحكامه.
قال نيكلسون وهو يروي هذه القصة: «إن فيها لدليلا عجيبا على أن هوى الشعر كان هوى الشعب كله، ولم يكن ذوقا خاصا بطائفة الأدباء والمتأدبين، وأنهم كانوا يشتغلون به وهم بين متاعب الحرب وأخطار القتال ، وأنت تجد نظائر من هذه القصص في تاريخ الأثينيين أخصب شعوب الغرب، ولعلهم أخصب الشعوب فيه وفي غيره، ولكن مثل لنفسك الجنود البريطانية تتجاذب الحديث في تنيسون وبروننج على نيران المعسكرات!»
والجواب على تساؤل نيكلسون - الأستاذ الإنجليزي - موجود في سيرة شوبنهور الفيلسوف الألماني المشهور.
كان شوبنهور يقيم في فرنكفورت ويتغدى كل يوم في المطعم الإنجليزي المعروف بتلك المدينة، فلاحظ عليه الخدم والذين يترددون على ذلك المطعم أنه كان يخرج من جيبه في بداية الأكل قطعة ذهبية يضعها على المائدة ثم يعيدها إلى جيبه عند الفراغ من الطعام، يصنع ذلك في كل يوم وفي كل أكلة ولا يدري أحد ما سر ذاك! حتى ضجر الخادم يوما وجازف بسؤال الفيلسوف الغضوب الذي لا يرى الخدم ولا غير الخدم في وجهه المتجهم ما يشجع على المزاح، فقال له: أيسمح السيد بأن أسأله عن معنى وضع هذه القطعة الذهبية على المائدة وردها إلى الجيب كل يوم؟
فلم يبخل عليه شوبنهور بالجواب وقال له: إنني نذرت بيني وبين نفسي لأضعن هذه القطعة في صندوق الصدقة في اليوم الذي أسمع فيه هؤلاء الضباط الإنجليز يتحدثون بشيء غير الخيل والنساء والكلاب! ولا يزال النذر معطلا لا يستحق الوفاء.
ولا شك أن خارقة من الخوارق التي يضيق لها الصدر نزعت هذه الفكاهة الصامتة من ذلك الفيلسوف المتشائم الذي عاش طول حياته متفردا، والذي كان لا ينام إلا مسلحا لسوء ظنه بالناس! وأي شيء هو أحجى بضيق الصدر من طبقة من الطبقات تعد في طليعة الناس يمضي عليها اليوم بعد اليوم والشهر بعد الشهر، وهي في حديثها لا يفتح عليها بشيء غير الخيل والنساء والكلاب!
هؤلاء جنود، وأولئك جنود، وهؤلاء أبناء القرن التاسع عشر، ثم هم أبناء أمة ظهر فيها كبار الشعراء في تاريخها كله، وفي ذلك القرن على التخصيص، ثم هم أبناء العصر الذي راجت فيه الطباعة، وامتلأ بالفلاسفة، والدعاة، والشعراء، والكتاب، والأدباء، ولكنهم مع ذا لا يعرفون من الثقافة الشعبية ما يشغلون به ساعة من ساعات في يوم من أيام بحديث غير ذلك الحديث.
أما أولئك الجنود الغزاة - في عصر لك أن تقول فيه إنه عصر الأمية - فكانوا يعرفون جريرا والفرزدق، ويستأذنون على الأمير ليسألوه فيهما سؤال من لا يشك في علمه بهذه الفتاوى، ثم لا تهدأ نفوسهم حتى يجعلوا هذه المسألة حديثهم في موقف الجلاد الذي لعله لا يرجع منه السائل أو المسئول إلا وهو مجروح أو مقتول. •••
علينا أن نكفكف قليلا - أو كثيرا - من غرورنا بالمطبعة، فإننا إذا أشعرنا قلوبنا النقص من هذه الجهة وشيكون أن نسعى في طلب الكمال.
الثقافة في العصور الحديثة
... ربما كان الاهتمام بالخيل والكلاب والنساء خيرا من الاهتمام بتناشد الأشعار؛ لأنه يدل على الصحة والحيوية، ولكن شوبنهور الذي عاب كثرة الكلام في هذه الأشياء على الضباط الإنجليز الذين كان يراهم في المطعم لا يستطيع لتشاؤمه وكراهته للحياة أن يشعر بالسرور الذي يشعرون به وهم يتكلمون في الخيل والكلاب والنساء، ونحن في عصر الرياضة البدنية، فهل ننظر إلى كل ذلك بالعين التي ينظر بها فيلسوف متشائم عاش قبل سبعين أو ثمانين سنة؟ ثم هل مذهب التقدم والارتقاء يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة المتأخرين.
إبراهيم نصر
هذه نبذة من خطاب فيه بعض التطويل عن المقال الذي كتبته منذ أسبوعين ونقلت فيه القصة التي تروى عن «شوبنهور» والنذر الذي نذره على نفسه ليضعن دينارا في صندوق الإحسان أول يوم يسمع فيه الضباط الإنجليز يتحدثون بغير الخيل والنساء والكلاب.
وظاهر أن صاحب الخطاب يحب الكلام في الخيل والنساء والكلاب! ولا يحب الكلام في الأشعار وما شابه الأشعار؛ لأن الكلام في الخيل والنساء والكلاب يدل على الصحة والحيوية، أما الكلام في تناشد الأشعار فيدل على ماذا؟ على هذا القياس ربما كان الكلام في الشعر يدل على المرض والموت!
إن رأي الأديب صورة للآراء العامة التي تؤدي إليها الموازنة بين عصرين أحدهما نراه في النور كله وهو العصر الذي نعيش فيه، والآخر لا نراه إلا في الظل البعيد أو لا نراه إلا في غياهب الظلام، وفي العصر الذي نتخيله من عصور القدم، ونظن أن كلمة «نتخيله» ليست بالكلمة الصحيحة التي تقال في هذا الصدد؛ لأننا لو كنا نتخيل العصور القديمة ونستعين بالخيال الصادق على تصويرها لرأيناها حق رؤيتها ولم نبخسها شيئا من فضلها إن كان لها فضل يذكر في معرض المقابلة، وإنما نحن نستصغر العصور النائية عنا في مسافات التاريخ كما نستصغر الرجل الذي نراه على مسافة فراسخ حين نوازن بينه وبين من يمشي على مدى خطوتين منا، وربما كان الرجل الذي على مسافة فرسخ أكبر من هذا الذي نراه على مدى خطوتين، فلا ذنب له إلا أننا نحن المقصرون في التخيل والرؤية وليس هو المقصر في أن نتخيله وأن نراه.
هل مذهب التقدم والارتقاء يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة المتأخرين؟
نعم يتفق، بل يتفق كل الاتفاق، فإذا فرضنا أن مذهب التقدم صحيح مسلم من جميع جهته فمن الذي قال إن طريق التقدم طريقة مستقيمة لا تكون المرحلة الأخيرة منها إلا آخر المراحل وأرقاها على السواء؟ من الذي قال إن سكة التقدم كالسكة الحديدية المفردة لا يكون الكيلو رقم 90 فيها إلا وراء الكيلو 91 و92 و93 وهكذا بلا اختلاف إلى نهاية الطريق؟ نعم من الذي يقول من أنصار مذهب التقدم أو خصومه إن كل رجل في القرن العشرين لا بد أن يكون خيرا من أرسطو وابن سينا في الفضل والعبقرية؛ لأنه يعيش بعدهما بألف سنة أو ألفين ؟ فإذا لم يوجد من يقول بهذا القول؛ فلماذا يوجد من يقول إن كل أمة في القرن العشرين لا بد أن تكون خيرا من كل أمة في القرن العاشر مثلا في روح الثقافة وفي معالم الحضارة، وفي صفات الأخلاق والألباب؟ إن مذهب التقدم لا يمنع أن يكون الذين يتناشدون الأشعار في حرب الأزارقة خيرا من الذين يتحدثون بالخيل والنساء والكلاب في المطعم الإنجليزي بفرنكفورت، ولو كان بين هؤلاء وأولئك ما بينهما من مراحل التاريخ.
نعم لا يمنعه مذهب التقدم، ولا سيما حين نتخيل الخيال الصحيح ونذكر أن الجنود العرب التي كانت تقاتل الأزارقة قد كانت تعرف أيضا مزايا الخيل والنساء والكلاب، وقد كان لها أيضا نصيب من الصحة والحيوية كالنصيب الذي غنمناه نحن في عصر الرياضة البدنية! ومن ذا يعرف الخيل كما يعرفها البدوي الذي يحفظ من أنسابها وأعراقها ما قلما نحفظه نحن من أنساب عظماء الرجال؟ وفي أي لغة من اللغات نقرأ من نعوت الكلاب وحركات الطراد مثل ما نقرؤه في أشعار أولئك البدو الذين لا يعرفون الرياضة البدنية على الأسلوب الحديث؟ أما النساء فقل في التحدث بجمالهن ما شئت، ولكنك لا تستطيع أن تقول إن ذوق الضابط الإنجليزي في اختيار الجمال النسائي هو الذوق الذي لا مزيد عليه بين المعاصرين، أو بين البدو الغابرين!
وبعد فهل كان شوبنهور - الفيلسوف المتشائم - يجهل قدر الكلاب والنساء؛ لأنه يكره الحياة ولا يشعر بالسرور؟ لا! لقد ظلمته أيها الأديب وبخست حق الكلاب والنساء عنده! فهو صاحب الكلب الذي سماه «أتما» باسم روح الوجود عند البراهمة! وهو صاحب ذلك الكلب الذي سماه أطفال المدينة «شوبنهور الصغير»؛ لأنه كان لا يشاهد إلا مع شوبنهور الكبير كالولد مع أبيه! وناهيك بخبرة الفيلسوف بالنساء! إنها لخبرة تنم عليها فلسفته وسيرة حياته ولا يضارعه فيها ضابط عاش حياته كلها في ميادين اللهو والمجون، ولكن الشعور بالكلب والمرأة شيء وعدم الشعور بغيرهما شيء آخر، وما دامت الدنيا لم تخلق كلها كلابا وخيلا ونساء؛ فالخطأ إذن خطأ الجند الذين لا يرون في الدنيا غير الكلاب والخيل والنساء، وليس بخطأ الفيلسوف الذي يرى هذه جميعها، ويرى معها كل ما كان يراه من الحق والباطل في هذه الحياة.
وقد يسأل بعض السائلين في هذا العصر الذي أصبح فيه السؤال هو كل الفلسفة وكل الجواب: ولماذا نقرأ؟ ولماذا نتثقف؟ ولماذا نطلع على الأشعار أو على غير الأشعار؟
لماذا؟
أي والله لماذا!
إن أحدا في الدنيا لا يترك أكل الطعام وشرب الماء، وينتظر ريثما يقول له القائلون لماذا يأكل؟ ولماذا يشرب؟ فهو يأكل ويشرب لأنه يحس في جسمه الجوع والعطش، لا لأن أحدا فسر له علة الأكل وعلة الشراب، ولو أن الذي يسأل لماذا يقرأ، لماذا يتثقف، كانت له نفس تجوع كما يجوع جسمه لاستغنى عن سؤاله، وأقبل على موائد الثقافة غير منتظر جواب ذلك السؤال، فمن كان يسأل الناس على هذا النحو فخير له وللناس ألا يجاب؛ لأنه لا يستفيد مما يسمع ولا يستحق مئونة الجواب. •••
المصيبة في العصور الحديث أنها أخذت بفتنة التسهيل والتقريب في كل شيء بعد هذه المسهلات والمقربات التي أشاعتها فيها الكهرباء، والبخار، ووسائل الانتقال. فنحن كأنما نحتاج اليوم إلى كهرباء عقلية تصل بنا إلى فهم الحقائق في غمضة عين، ولا تكلفنا في هذا العصر ما كانوا يتكلفونه من الجهد والتفكير قبل عهد الكهرباء والبخار، وأين هذه الكهرباء العقلية التي تزيد في سرعة أفهامنا بمقدار الزيادة في سرعة الكهرباء على سرعة الدواب والأقدام؟ أتراها وجدت في هذا العصر، أو يرجى أن توجد في عصر بعده؟ كلا! إنها لم توجد ولن يكون لها أبدا وجود، ولو ضوعفت سرعة الكهرباء الصناعية أضعاف ما بلغت إلى الآن. •••
وليس أكثر من أن تسمع في هذا العصر من المتبطلين المتحذلقين من يقول لك: ما الغرض من القراءة؟ أليس هو اللذة العقلية؟ فكل ما ليس بلذيذ فليس هو بمقروء!
سبحان الله! فعلى هذا يجب أن تكون روايات شكسبير مفهومة لاذة لمن لا يحسن الإنجليزية، ولا يعرف التواريخ، ولا أسرار الخلائق، والمعاني التي تدور عليها تلك الروايات! فإذا أعياه أن يظفر منها باللذة التي توهمها، فليس الذنب ذنب الجهل بالإنجليزية، ولا هو ذنب الجهل بالتواريخ والخلائق والمعاني، ولا هو ذنب القارئ على وجه من الوجوه، كلا ولكنه ذنب شكسبير المسكين؛ لأنه لم يستطع أن يلذ القارئ الذي يبلغ به الغباء أن يفرض في نفسه غاية الكمال.
إن الغرض من القراءة هو اللذة!
ليكن!
وإن الغرض من الغذاء هو اللذة! ليكن أيضا.
ولكن ما بال من لا أسنان له ولا قوة على الهضم يعيب الطعام الذي لا عيب فيه، ولا يزال أصحاب الأسنان والمعدات يلتذونه أحست التذاذ؟ فهاتوا الإسنان وهاتوا المعدات قبل العيب على الطعام، وإلا فليس في العالم كله طعام واحد لذيذ.
تلك مصيبة! والمصيبة الأخرى هو «البداجوجيا» قاتلها الله بما أدخلت في العقول من وهم ليس أضر منه بالعقول، أدخلت في العقول أن التفهيم صنعة المدرس التي يجب أن يتكفل بها وحده، وما على التلميذ إلا أن يصغي قليلا، فإذا الفهم حاصل له بطبيعة الحال كأنه نتيجة محتومة لدخول الصوت في الآذان.
نعم إن البداجوجيا تحذر المدرس من الإفراط في التشويق والترغيب لئلا يتعود التلميذ أن يدع الجهد في فهم ما لا يشوقه ولا يرغب فيه، ولكن الواقع أن البداجوجيا على الرغم من هذا التحذير هي التي خلقت هذا الوهم، وألهجت المعلمين والمتعلمين ببدعة التشويق والترغيب حتى فشا الغرور في بعض الناشئة، ووقر في أخلادهم أن كل ما لا يفهمونه بغير مشقة فهو غير مفهوم، ومن هنا لا نستبعد أن يحور زمام الفكر غدا إلى أيدي الأزهريين والذين نشئوا على الطرائق الأزهرية؛ لأنهم درجوا على أن العلم صعوبة ومشقة وليس بالمائدة الشهية المهيأة للتناول السهل اليسير؛ فندر أن ترى أزهريا يستعصي عليه فهم معنى من المعاني إلا عالجه وثابر على فض مغلقه وحل عقدته، وندر أن ترى طالبا من الذين أفسدتهم البداجوجيا يستعصي عليه فهم شيء إلا ترك البحث فيه واتهم المدرس أو اتهم الكتاب.
إن شر ما ابتليت به الثقافة أن يقال إنها لذة ليس إلا، وأن ينسى مع هذا أن اللذة لا تكون إلا باستعداد، وأن الاستعداد لا يتم بغير الصبر والمراس، وصدق أبو تمام حيث قال:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب
في الثقافة الإسلامية
أوفى الكتب العربية قاطبة لمن أراد الاطلاع على ثقافة الدولة الإسلامية، هو كتاب «إخوان الصفاء».
فليس في كتب هذه اللغة جميعا كتاب واحد يجمع من مادة الثقافة العربية ما جمعه هذا الكتاب من علوم زمانه ومعلوماته، وأساطيره وفروضه التي ورثت عن حضارات الأمم السابقة واللاحقة، من الكلدان، والفرس، والهند، واليونان، والعرب الأولين، وسائر الأمم القديمة منقولا بعضه عن لغات هذه الأمم نصا أو منقولا عن أمة بعد أمة، حتى نسيت مصادره الأولى، ولم تبق في الذاكرة إلا مصادره الأخيرة، وفائدة هذا الكتاب من هذه الوجهة لا تقدر، ولكنها ليست بفائدته الفريدة؛ لأنه يفيد القارئ الذي يترجم عن اللغات الإفرنجية في هذا العصر عند المضاهاة بين الكلمات التي ننقلها الآن، والكلمات التي نقلها المترجمون في عهد الدولة العربية، ويفيد المشتغل بأطوار المذاهب والأفكار في الحضارات الإنسانية جميعا، فيرى المسافة التي عبرتها الإنسانية من القول بمذهب الشوق بين الأجسام والأرواح إلى القول بمذهب الجاذبية، ومن القول بأن حب البقاء هو أساس الأخلاق إلى القول بأن تنازع البقاء هو قانون الحياة؛ ومن القول بأن المخلوقات ترقى على سلمها جمادا فمعدنا فنباتا فحيوانا فإنسانا فملكا إلى القول بالنشوء والتطور على الرأي الحديث، وهكذا مما لا يقع تحت الحصر في هذا المقام، ولا بد فيه من المراجعة والاستقصاء.
وقد يفيد الاطلاع على هذا الكتاب غير هذه الفوائد أن القارئ يجد فيه مثالا نادرا لاختلاط الثقافات والحضارات في عصر واحد على نمط واحد لا نعرفه في هذا العصر ولا نعرف له نظيرا مذكورا في العصور الماضية، فمع كثرة الأمم التي انتقلت معارفها إلى الأمة الإسلامية، لم تتمازج هذه المنقولات، ولم يزل كل منها محتفظا بطابعه: الهندي للهند، والفارسي للفرس، واليوناني لليونان، والكلداني للكلدان، كأنها عناصر غريبة لا تقبل المزج الكيمي، ولا يزال كل منها مفروزا على حدة مستعدا للرجعة إلى أصله، وليس كذلك امتزاج الأفكار في عصرنا الحاضر، ولا امتزاجها في عصر اليونان والرومان، فأما في العصر الحاضر فالعلم الحديث له قاعدة واحدة هي قاعدة التجريب والاستقلال، فكل ما جرى على هذه القاعدة دخل في بنية العلم كله، وخرج من كونه معلومات تقول بها هذه الأمة أو تلك، إلى كونه علما عاما يقول به جميع بني الإنسان، وأما في عصر اليونان أو الرومان فلم يكن هناك حائل من العقيدة الدينية بين آراء أمة وآراء أمة أخرى؛ ولم يكن الاقتباس الحر ممنوعا في الفنون والآداب، ولا في الأساطير والأديان، فكان الامتزاج بين الثقافات أسرع كثيرا من الامتزاج بينها في عهد الدولة الإسلامية، واتفق لهذا أن العالم بأسره في الشرق والغرب أخذ بأقوال البابليين الأقدمين في الكواكب وطوالع الأيام، وبقيت هذه الأقوال ملحوظة إلى اليوم في أسماء الأيام عند الأوربيين المعاصرين. •••
لماذا يسمي الإنجليز المعاصرون يوم الأحد
Sunday
أو يوم الشمس؟ لأن البابليين الأقدمين جعلوه أول أيام الأسبوع، وجعلوه لذلك يوم الشمس، إذ كانت هي أكبر الأجرام السماوية عندهم، وبها يكون الابتداء، وكان البابليون يرتبون الأيام ترتيبا عدديا يبدأ باليوم الأحد وينتهي بالسبعة ففعل العرب الأقدمون مثل ذلك، وصارت الأيام عندهم هي عندنا الآن: الأحد فالاثنين فالثلاثاء فالأربعاء فالخميس فالجمعة - يوم الاجتماع والسوق عند البابليين - فالسبت أو السبعة منطوقة فيها التاء كما كان ينطقها البابليون والفينيقيون، وكما ينطقها اليوم السوريون خلفاء البابليين والفينيقيين، وكان اليوم السابع من أيام الأسبوع هو اليوم الأخير وهو يوم زحل أبعد السيارات وأنحسها، فكان الأقدمون يتشاءمون من العمل فيه ويخلدون إلى الراحة فرارا من نحسه وفشله، ثم ما زال هذا التشاؤم حتى جعله الإسرائيليون فريضة دينية، وأوجبوا الراحة في يوم السبت بعد الفترة التي قضوها في أسر البابليين.
اقرأ في كتاب إخوان الصفا فصلا في «معرفة أرباب الساعات» تجد فيه: «أن رب يوم الأحد الشمس، ورب يوم الاثنين القمر، ورب يوم الثلاثاء المريخ، ورب يوم الأربعاء عطارد، ورب يوم الخميس المشتري، ورب يوم الجمعة الزهرة، والسبت زحل.»
وراجع أسماء الأيام في اللغات الإفرنجية يظهر لك أن تلك الأسماء إن هي إلا ترجمة هذا الكلام، وأن الأوربيين من أمم الشمال إلى أمم الجنوب كانوا يأخذون عقائدهم من الشرقيين منذ آلاف السنين.
فيوم الأحد
Sunday
معناه بالإنجليزية يوم الشمس كما تقدم.
ويوم الاثنين
Munday
أو
Moonday
معناه يوم القمر، وهو أكبر الكواكب بعد الشمس في رأي الأقدمين.
ويوم الثلاثاء
Tuesday
معناه يوم تيو، وهو المريخ عند أبناء أوربا الشمالية، وترجمته بالفرنسية
Mardi
أي يوم مارس وهو المريخ باللغتين الفرنسية والإنجليزية.
ويوم الأربعاء
Wednesday
معناه بالإنجليزية يوم أودين وهو يوم عطارد عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية
Mereredi
أو يوم مركيور
Mercure
وهو عطارد في اللغات الإفرنجية الحديثة.
ويوم الخميس
Thursday
معناه يوم ثور إله الرعد والصواعق عند أمم الشمال، وإله الرعد والصواعق عند اليونان والرومان هو جوبتيير أو المشتري، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية
Jeudi
أو يوم المشتري.
ويوم الجمعة
Friday
معناه يوم فراي زوجة أودين، وربة الحب عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز كما تقدم، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية
Wenderdi
أي يوم الزهرة.
ويوم السبت
Saturday
معناه يوم زحل
The day of Saturn
كما كان معناه ومعنى الأيام الأخرى عند البابليين.
فالعقائد الشرقية والآراء الفلكية الشرقية قد شملت أوربا شمالا وجنوبا، ودخلت في أديان الغربيين وفنونهم وأشعارهم توتون ويونان ولاتين وغيرهم من شعوب الشمال والجنوب، قبل أن شملتهم المسيحية - الشرقية أيضا - بألفي سنة أو أكثر من ذاك، وقد بقيت آثارها في أسماء أيامهم إلى اليوم بعد أن نسيت هذه العقائد في بلاد الكلدان والعرب ولم تبق لها هذه المعاني في أسماء الأيام عندنا نحن الشرقيين.
لا بل أنت تقرأ في الجزء الرابع من إخوان الصفاء فترى فصولا في روحانيات الكواكب يقولون فيها: إن «دائرة زحل تنبت منها روحانيات تسري في جميع العالم من الأفلاك والأمهات، ومن أفعال هذه الروحانيات الموت وسكون الحركة، وأن دائرة المشتري تنحط منها قوى روحانيات تسري في جميع العالم يكون بها اعتدال البائع، وتأليف القوى المتنافرات، وروحانيته مستولية على مواليد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأصحاب النواميس ومواضع الملائكة المنبثة من دائرته النازلين من فلكه الخارجين من بابه مواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأن دائرة المريخ تنبث منها قوى روحانية تسري في العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع والنهوض، وفعلها المختص بالحيوان ما يظهر فيه من الغضب والتعدي والشر، وكذلك في عالم الإنسان ما يكون من الحروب والفتن ومن بقاع الأرض مواضع النيران وعمل الحديد، وأن دائرة الزهرة تنبث منها قوى روحانية تسري في جميع جسم العالم وأجزائه، وبها يكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره ورونق أزهاره، وزخرف الكائنات وحسن الموجودات واعتدال النبات والشوق إلى الزينة ومحبة الجمال وطلب الكمال، كما ينبث من دم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس، وأفعال روحانيتها في العالم العشق والمحبة والتزين بالزينة الحسنة، وأن دائرة عطارد تنبث منها قوى روحانيات تسري في جسم العالم وأجزائه، وبها تكون المعارف والعلوم والخطوط والإلهام والرؤيا والوحي والنبوة، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية وما يتبعها من الذهن والتخيل والفكر والروية والتمييز والفراسة، ولها من الكلام الشعر والخط والنظم وغير ذلك ...» إلخ إلخ.
فإذا قرأت هذا وعرضته على الأساطير التي يسمونها الآن الأساطير اليونانية أو الرومانية وجدتهم يقولون: إن عطارد رب الشعر والفنون، وإن الزهرة ربة الحب والجمال، وإن المريخ رب الفتن والحروب، وإن زحل رب الخراب والشقاء، إلى آخر ما يعرفه من اطلعوا على تلك الأساطير، وما كان اليونان على علم بشيء من رصد الأفلاك وخواصها المزعومة إلا ما نقلوه عن البابليين. حتى إن اسم الفلك عندهم «الأسترنومي» مأخوذ من كلمة «أستر» اسم الزهرة عند البابليين، وهي عندهم ربة الحب وزوجة مروداخ أو المشتري كبير الأرباب، وأستر عند البابليين كذلك هي البرج السادس أو برج العذراء، واسمها في لغتهم «بنوث» أي البنت باللغة العربية، وهذا هو أصل كلمة «فينوس» إلهة الجمال والحب عند الرومان واليونان، فقد كانوا يكتبونها بالباء قديما ولا تزال الكلمات التي وردت فيها بالباء محفوظة في اللغات الأوربية، والتصحيف يسير جدا بين بنوس وبنوث بمعنى البنت في اللغة البابلية.
فكل ما جاء في أساطير اليونان عن الأفلاك وما رتبوه عليها من العقول العشرة المتصرفة في مقادير الكون إن هو إلا تصحيف لآراء الشرقيين القديمة في الفلك والنجوم، وكل ما أضيف إلى الفلك من الرياضيات والهندسيات إنما اقتبسه طاليس، وفيثاغوراس، وإقليدس، من المصريين والبابليين والهنود كما هو محقق في التاريخ. وما كان اليونان يبنون ولا يعرفون الهندسة والعلوم حين كانت للمصريين والبابليين الصروح والمراصد والمدارس والثقافات والسجلات التي أثبتت فيها أرصاد الفلك منذ آلاف السنين، فإذا امتاز اليونان بعد ذلك بشيء من تمحيص العلم فما استطاعوا ذلك؛ إلا لأنهم ضعفاء لم تكن لهم دولة موطدة ولا كهانة عظيمة السلطان تستأثر بالعلم وتدخله في نطاق الدين فيختلط فيه التمحيص والاعتقاد.
ولم يخف لب هذه الحقيقة على إخوان الصفاء، فقالوا في الرسالة الحادية عشرة من العلوم الناموسية والشرعية: «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه أن علماء الهند هم العارفون بصناعة النجوم المخصصون باسم الكهانة، ويلحق بهم في العلم بذلك حكماء الفرس ومن بعدهما اليونانيون.» ولو كان لإخوان الصفاء سبيل تحري التاريخ كما نتحراه اليوم لعلموا أن هناك حضارة أخرى انقطع ما بينهم وبينها كان أهلها على علم كبير بالفلك، والرياضة، والكهانة، وهي الحضارة المصرية الهيروغليفية، ومع هذا لم يسلم إخوان الصفاء من الخطأ حين أسندوا إلى اليونان كثيرا مما ليس لهم؛ لأن اللغة اليونانية كانت قد أصبحت لغة رسمية في دولة الروم الشرقية فترجمت إليها كتب كثيرة ليتدارسها القسوس في الأديرة ولم يكن مصدرها من علماء الإغريق، فلما ترجم العرب ما ترجموه من آثار الحضارات القديمة جاءهم معظم ذاك من الكتب اليونانية فأسندوه إلى اليونان. •••
فيما تقدم مثل وجيز من المقابلات التي يوجبها الاطلاع على كتاب إخوان الصفاء، وفي الكتاب أمثلة شتى لاستخراج المقابلات في كل باب من الأبواب، نرجو أن يتفرغ لاستقصائها الباحثون.
معرض
في كل كتاب من كتب السياحة العالمية معرض يلذ ويفيد، ولا سيما إذا كان مؤلفه على خبرة بالدنيا، ومعرفة بالناس، وعلم ببعض الفنون كالأستاذ «ستير» صاحب كتاب «مع بافلوفا حول الدنيا» الذي وعدنا بعودة إليه، ونحن عائدون.
من الشمال أو من الجنوب نبدأ؟ وبأخبار الأمم أو بأخبار الأفراد المشهورين؟ بهذا وذاك وهذه وتلك، لا نتقيد بقيد ولا نلتزم خطة في السياحة، فكل صفحة تنتقل بنا إلى أمة أو أمم، وكل علامة تقف بنا عند شيء يستوقف النظر، وأصابع المتصفح أسرع من سفن البخار في جوب الأقطار وطي الأرضين والبحار، فما بين الشرق والغرب إلا «فركة» بالإصبع أهون من «فركة» الشعرة التي كانوا يستحضرون بها المردة في الزمان القديم، ثم يتقارب الغرب والشرق، ويتلاقى الشمال والجنوب، وها نحن مقلعون على بركة الله. - أين؟ - في ستكهولم!
وقبل ذلك نسألك أيها القارئ: أكان يخطر ببالك أن أمم الشمال - أمم الثلج والغمام - تعرف الحماسة للفنون، وتجمح بها ثورة الإعجاب أفرادا وجماعات؟ لعلك كنت تستبعد هذا أو لعلك كنت تقيس الأمر إلى أمم الجنوب التي جثم بها كسل النفس فلا يستخفها شيء، ولا يستثيرها شغف أو إعجاب، فكنت تقول: لا الثلج بثلج ولا النار بنار، نعم لا الثلج في السماء بثلج في القلوب ولا النار في الهواء بنار في نفوس مستنشقيه، ففي الجنوب أمم حل بها الوخم فهي كالنائم في قيظ الظهيرة، وفي الشمال أمم لا تسكن ولا تركد فهي كمن يغالب القر بالرياضة، فلا عجب أن تصبح الحركة فريضة عند أبناء الشمال، وأن تصبح السكينة زينة عند أبناء الجنوب! ومن ثم لا عجب أن يكون أهل السويد ممن يعرفون الحماسة في بعض الأحيان، وأن يكون أهل أفريقيا ممن لا يعرفون الحماسة في كثير من الأحيان!
رقصت «أنا بافلوفا» في ستوكهولم فما هي إلا أن أتمت ليلتها الأولى، وخرجت من الملعب إلى المركبة حتى وجدت الخيل محلولة والناس يتهيئون لجرها، والجماهير يتبعونها ألوفا إلى الفندق وهم يرعدون بالهتاف والتهليل، وجاءها في صباح اليوم التالي رسول من قصر الملك ومعه مركبة ملكية يدعوها إلى مقابلة رسمية يقلدها فيها صاحب الجلالة النوط الذهبي للفنون والعلوم بيديه الكريمتين، ولقيت في أمم أخرى من أوربا الشمالية مثل ما لقيته في السويد ولكن على درجات، كأنها كانت تبتعد من مظاهر الحماسة كلما ابتعدت من بلاد الشمال، إلا في إسبانيا فقد التقى النقيضان هناك كما يقول الغربيون في أمثالهم، وتشابهت بعض المشابهة أقطار الثلوج وأقطار الرياحين.
هذه الحماسة من أهل السويد لا تدهشني لأن الحماسة قد تجيء من قوة العاطفة العميقة كما تجيء من خفة الأعصاب والألباب، فإذا رحبت النفس وعمقت وامتلأت فهي خليقة أن تعرف من ثورة الشعور ما قل أن يعرفه السطحيون المستخفون، وأهل السويد أناس تعودوا العزلة في جوهم الصارم المكفهر، وتعودوا اكتظاظ النفس بالشعور في تلك العزلة، فلا تكون ثورات الشعور عندهم بالشيء المتناقض المستغرب، ولعل البرد الذي يخاله الناس مناقضا للحماسة هو الذي جعل السويديين أمة الرياضة البدنية، وهو الذي جعلهم يعجبون بالقص الجميل ذلك الإعجاب. •••
ها هنا مسرح كبير، لا كراسي فيه، ولا مقاصير.
كيف؟ وأين يجلس الناس؟
على الأرض! أو على مقعد لا يرتفع على الأرض أكثر من أربعة قراريط، وفي ركن من أركان ذلك المقعد علبة فيها رمل وتحت الرمل جذوات موقدات، لماذا؟ لإشعال السجائر التي يدخنها المتفرجون! وثق أيها القارئ أنك في غير بلاد الهمج المتبربرين، بل ثق أنك في بلاد دولة من دول العالم الكبار! ثق أنك في اليابان، لأنهم في اليابان لا يصنعون معاهد التمثيل على النظام الأوربي، إلا معهدا واحدا في العاصمة وهو معهد الإمبراطور.
أذكر فيما قرأت من أخبار الصحف أن قائدا تركيا في بلاد الحجاز صدرت إليه الأوامر من رؤسائه بتسليم المدينة التي كان يحرسها والاتفاق مع العرب المحاصرين لها على شروط التسليم، فغضب القائد وأخذته العزة وقال لمن حوله: ما هذا؟ أيريدون مني أن أصافح أناسا يأكلون طعامهم بأصابعهم؟
مثل هذا القائد «المتمدن» في حاجة إلى سياحة يابانية، أو إلى مسرح من تلك المسارح التي لا حيلة له فيها إلا أن يجلس القرفصاء على كراسي كمزالق الجليد. فقد تصلح هذه السياحات لعلاج الذين أصيبوا في عقولهم بعمى العرف، فلا يتصورون الدنيا إلا على صورة واحدة، ولا يحكمون على الناس إلا بما ألفوه، فإن الإنسان إذا عرف أن الجلوس على الأرض في معاهد التمثيل لا يمنع الأمة أن تعد بين دول العالم القوية لم تحبسه العادة في سجنها الضيق المسدود، ولم يجعل عرفه شرطا من شروط الآدمية التي لا يخالفها الإنسان، وله نصيب في الاحترام.
أغرب من هذا في بلاد الشمس المشرقة هذه القصة التالية:
قال الأستاذ ستير يصف فندقا في بعض حواضر اليابان : «سألنا عن الحمام فوجدناه على أكمل اتساع لا مثيل له فيما رأيناه، ولم يكن معدا لفرد واجد بل لخمسة عشر أو لعشرين ولكلا الجنسين معا من رجال ونساء، ولما ألقينا نظرة فيه ألفيناه غاصا بالمستحمين والمستحمات حتى لا مزيد، ولا يخطرن بالبال أن هذا الاختلاط دليل على سوء خلق عند القوم، فإن الياباني لا ينظر إلى اختلاط النساء والرجال في الحمام، إلا كما ننظر نحن إلى اجتماع النساء والرجال على مائدة واحدة، فهم لا يتلفتون إلى حالة العري هذه أقل التفات.»
مدهش هذا، أليس كذلك؟ نعم! ولكننا نعود فنقول إن العادة تهون كل شيء حتى اختلاط الرجال والنساء في الحمام عارين وعاريات، فعلى شاطئ البحر لا تلفتك المرأة التي تلبس قميص الحمام وهي لو سارت بهذا الزي في الطريق لاجتمع عليها زحام، أي زحام، ومن الحق أن نقول إن بعض العري أستر وأدنى إلى الحشمة من بعض اللباس، فالطفل العاري لا ينتهك الحياء بعريه ولا يزال مألوفا حتى في بلاد الحجاب، ولكن أي حياء لا تنهكه المرأة الماجنة بتلك الثياب التي تدل الناظر وتغريه، وتلك الحركة التي تفهمها المرأة حين تتحرك ويفهمها الناظر حين ينظر، ويفهمها الخائط حين يصنع الثوب على ذلك الطراز، ولا يتغابى عن فهمها إلا مراء أو حمار، وكثيرا ما كان المنع من دواعي الإغراء، ولا سيما في العلاقات بين الجنسين، فهل جاءك أيها القارئ نبأ الكتاب الذي حجزت عليه الحكومة حديثا في بلاد الإنجليز؟ إنها لم تحظر بيعه وطبعه حتى بلغ ثمنه خمسة أضعاف أضعافه، وبودر إلى طبعه في باريس باللغة الإنجليزية، وليس فيه مع هذا شيء مما لم تطرقه كتب الطب والمباحث النفسية بأوفى بيان وتفصيل، إلا أنه وضع ذلك في قالب الرواية، ولم يقصره على الدرس العلمي الذي يعنى به الباحثون والمتعلمون، فلا كل المنع منعا، ولا كل السماح ابتذالا، وليس العري في اليابان إذن لازمة من لوازم الإباحة، ولا الثياب على إطلاقها هي قوام العصمة والصيانة، ووجه العبرة من كل ذلك أن الأدب يناط بالطبائع والأفكار، ولا يناط بالثياب والأزياء، وستكمل دهشتك أيها القارئ إذا علمت بعد هذا أن المراقص العامة في بعض جهات اليابان يكتب عليها هذا التنبيه: «الرقص خدا لخد ممنوع، وغير مسموح بالاختلاج والاهتزاز.» وعلمت أيضا أن نساءهم قلما يلبسن إلا الفضفاض من اللباس! فهم يعرفون الخجل والحياء، ونحن لا نعرفهما حين نسمح للمرأة بتلك الأزياء التي لا فرق فيها بين المصونة والهلوك. •••
وبعد، فهل يعلم القارئ من المسئول عن الحرب العظمى، ستقول الساسة من الحلفاء أو من الجرمان، وستقول أصحاب الأموال أو رجال الحروب، فقل ما بدا لك واعلم أنك على خطأ إذا كانت «بافلوفا» على صواب، فهي صاحبة اليد الأولى في هذه النكبة العالمية إذا صدقت الخرافة، ومن كان في ريب من هذا فيقرأ ما يلي ولا لوم على الراوي إذا ازداد به الريب بعد القراءة.
كانت بافلوفا في برلين، وكانت ترقص في دار الأوبرا الإمبراطورية والنظارة كلهم من العلية والنابهين وذوي الأخطار، وكانت آداب تلك الدار تأبى الهتاف في حضرة الإمبراطور، بالغا ما بلغ إحساس النظارة من الطرب والاستحسان، ولكن الإمبراطور كان أول المخالفين لنظام تشريفاته وأول من صاح في تلك السكينة الشاملة بصوت مسموع في جميع جوانب الدار «بديع بديع!» فما هو إلا أن قالها حتى ارتج ذلك الرفيق الأعلى بالتصفيق والتصدية، وتسابق الأمراء والكبراء في الصياح والتهليل. ثم ذهب الأمين الأول إلى «بافلوفا» يدعوها إلى المقصورة الملكية، فلقيت كل حفاوة، وقبلت يد الإمبراطورة وعادت إلى حجرتها، ولكن على غير ما تنتظر وينتظر الصحاب والزملاء، وعادت كئيبة واجمة وكان المنتظر أن تعود راضية محبورة بعد هذه التحية التي تلقاها بها عاهل الألمان ورجال دولته الفخام.
ولم الكآبة؟ ولم الوجوم؟
لأن أثرا من شفتيها المصبوغتين قد علق بقفاز الإمبراطورة الناصع حين قبلت يدها، وفي ذلك نذير الشؤم وسفك الدماء في أساطير البروسيين، أو في أساطير البروسيات، وما انقضى على تلك الليلة ثلاثة أشهر أو دون الثلاثة الأشهر حتى نشبت الحرب العظمى وجنتها على الدنيا تانك الشفتان المصبوغتان ، لا شفاه العواهل والقياصرة من جانب الحلفاء، أو من جانب الجرمان.
فلينصف الجاهلون! وليصحح التاريخ! •••
ومن الخرافة إلى الشعوذة لا تطول مسافة الطريق، ولا سيما إذا كانت النقلة من بلاط إلى بلاط، ومن بلاط برلين إلى بلاط لندن!
كان أحد المشعوذين النابغين يلعب في البلاط الملكي بلندن فقصد الفكاهة مع ولي العهد وهو يومئذ «جورج» الخامس ملك الإنجليز السابق، وكانت اللعبة أن يلقي على مشهد من الجميع بيضة في كيس، ثم يقلب الكيس فإذا هو فارغ لا بيضة فيه.
فلما أدى المشعوذ هذه اللعبة خيل إلى ولي العهد أنه فطن إلى سرها، واستعاده إياها فأظهر المشعوذ ترددا ثم أطاع الأمر كأنه مكره عليه، فلما هم بأن يلقي البيضة في الكيس بدرت من يده حركة إلى جيبه كأنها هفوة الحريص المتعجل، فاستوقفه ولي العهد وأسرع إلى إعلان هذه الحيلة، واضطرب المشعوذ أو بدا عليه الاضطراب، ولكنه ما لبث أن استأذن بعد هنيهة في خلع ردائه وأسلمه إلى ولي العهد ليستخرج البيضة منه، ولا بيضة هناك!
قلب الأمير الجيب ظهرا لبطن وبطنا لظهر بين الاستغراب والضحك، وأشده ضحك أبيه الملك «إدوارد»، ثم اعترف بأن الجيب فارغ، وأن البيضة ليست هناك!
عندئذ راح المشعوذ يقول وهو يشير إلى اللورد لانسدون: لعل هذا السيد يكون أكثر توفيقا في البحث عنها، وقد كان هذا السيد حقا أكثر توفيقا كما قال المشعوذ؛ لأنه وجد البيضة في الجيب حينما حملوا الرداء إليه ليبحث فيه! ولكن اللعبة لم تنته بهذا، بل قال المشعوذ للورد لانسدون: أتأذن في رد البيضة إلى مكانها وتسليم الرداء إلى صاحب السمو الأمير؟ ففعل اللورد أمام الحضور، وطلب المشعوذ إلى ولي العهد أن يستخرج البيضة من حيث ألقاها اللورد، فلم يجدها الأمير!
كان أشد النظارة ضحكا من هذه الدعابة الملك إدوارد والد الأمير جورج، وظاهر أن اللعبة من بدايتها إلى نهايتها إنما هي حيلة واحدة مقصودة، وظاهر كذلك أن ضحك الملك إدوارد في تلك الليلة لم يكن يخلو من عطف الأب على ابنه الطيب السريرة ومن منافسة الملك لولي العهد الذي يرث الملك بعده! •••
ولقد طال بنا اختيار القارئ في علم هذه الأشياء فلا نسأله بعد الآن إلا سؤالا واحدا هو الامتحان الأخير:
هل يعلم القارئ أن شارلي شابلن الذي تعود أن يضحك منه ومن بلاهته على الستار الأبيض هو فيما عدا قدرته على التمثيل فيلسوف، وموسيقار، وخبير بالفنون؟ إن لم يكن يعلم فليعلم أنه هو كذلك، وأن الأستاذ ستير يقول عنه فيما قال وهو كثير: «إن معارف هذا الرجل تحير، فهو واسع الاطلاع جدا، وله علم بالفلسفة يقيم لآرائه وزنا في أي مجمع من مجامع الأدباء في العالم كله، وأقل من هذا اشتهارا عنه كفاءته الموسيقية، فإن له خبرة عجيبة بالعزف على القيثار، وأعجب من قدرته هذه أن يعزف عليها بيسراه، أما علمه بالأوبرا والسيمفوني فقلما توجد واحدة منها لا يوقعها بصفير شفتيه على البديهة.»
ولنا أن نقول: إذا كان غريبا أن يكون هذا المضحك فيلسوفا، فليس بالغريب أن يكون كثير من الفلاسفة مضحكين!
على هامش السيرة
قصة ممتعة موحية، يتابعها القارئ بشوق، وينتهي منها إلى فائدة.
وهي ممتعة لأنها تنقل الشخوص والأسماء من عالم التاريخ والخبر، إلى عالم الحياة والشعور، فالشخوص فيها آباء وأمهات وأزواج وأحباب، وليسوا بعناوين مسطورة كعناوين المعالم المدثورة في الصحائف المهجورة، والعلاقة بينهم علاقة حب ورحمة، أو بغض ونقمة، أو إخلاص وغيرة، أو طمع وخديعة، وليست علاقة كلام بكلام أو أشياء بأشياء.
وتزيدنا البساطة فيها شغفا بها، وعطفا عليها، فهي قد نقلت إلينا الحياة الجاهلية والحياة في أوائل ظهور الإسلام، كما كان يألفها أصحابها لا كما نألفها نحن، أو كما فهموها بالبداهة والفطرة لا كما نفهمها نحن بالتحليل والتعليل. فأسباب انتشار اليهودية في اليمن - مثلا - هي أسباب المعجزة والكهانة والأسرار الغيبية، وليست هي الأسباب التي نعقلها نحن بعد أن نعرضها على الفكر، ونقابل بينها وبين النظائر والأشباه، وإنكار الكاهن اليوناني لأساطير الوثنية هو إنكار الإلهام والرؤيا، وليس بإنكار التمحيص والتنفيذ، وكذلك كل ما في القصة من أسباب ومن إيمان ومن إنكار، قال قائل من اللاغطين بالنقد على غير بصيرة: ما أحسب إلا أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين فهو يتصدى هنا لإغضاب المحدثين، وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير! فمرة تقع النوبة على أهل الجمود، ومرة أخرى تقع النوبة على أهل التجديد!
قلت: بل أنا أحسب غير ذلك ولا أرى في الأمر شيئا من قصد الإثارة والإغضاب. أحسب أن الدكتور طه قد ملئ إعجابا بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال وأنباء العصور، فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر البليغ، وعالم التاريخ الصادق، وتجري حوادثها في آفاق الزمان الغابر الذي لا حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة، فنحن نفهم الإلياذة ولا نجهلها أو ننكرها لأنها قد أفرغت في ذلك القالب وانتظمت على ذلك الأسلوب، ثم نحن نفهم «هامش السيرة» ولا نجهله أو ننكره؛ لأنه نقل إلينا الجاهليين كما كانوا في حياتهم، وعقائدهم، وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا كما نكون نحن لو أننا انتقلنا بزماننا إلى زمانهم، فهل أصاب الدكتور أو أخطأ؟ وهل أحسن من ناحية القصص أو لم يحسن؟ أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزداد شيئا كثيرا لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين، ولكن أسلوب القصص يخسر كثيرا من البساطة والتخيل، لو أننا سردنا القصة معللين محللين.
وأقل ما يقال في هذا المعرض أن شفاعة الدكتور فيما اختار من أسلوب ليست بالشفاعة الضعيفة ولا المردودة، وأن حجة الناقدين عليه ليست بأقوى من حجته عليهم. بل لا حجة عليه للناقدين ولا وجه هنا للقوة والضعف في الاحتجاج. إنما كانوا يزنون كتاب الدكتور بميزان العلم العصري لو أنه كان يقصد إلى العلم العصري فيما كتب ثم أخطأ في التطبيق أو أساء في التفسير، فأما وهو لم يقصد إلى ذلك ولم يحاوله ولم يرنا قط أنه حاوله فأي معنى للاعتراض عليه غير حب الاعتراض؟ ذاك كمن يحمل إليك الآنية الأثرية فتقول له: إن آنيتك ليست من طراز الأواني التي نراها اليوم على الموائد. نعم، ومن قال لك إنها كذاك. إنما جمالها في وضعها الأثري ومعانيها الأثرية، فإن قبلتها فقد فهمتها، وإن لم تفهمها فليس الذنب على الأثريين!
لكننا لا نريد بما تقدم أن قارئ «الهامش» لن يفهم الوقائع الجاهلية، ولا البيئة التي ظهر فيها النبي - عليه السلام - على الوجه الصحيح والوضع المعقول المستقيم.
كلا! بل هو يفهمها صحيحة مستقيمة من موضعين اثنين بدلا من موضع واحد.
يفهمها كما كانت في أعين الجاهليين، ثم يفهمها إذا شاء واستطاع كما تبدو في أعين المحدثين، فيجمع بين زمانين، ويرى الصورة المرسومة في نورين مختلفين.
ولا تظن أن قارئا مستنيرا يطلع على «هامش السيرة» حق الاطلاع إلا وهو مستطيع أن يعرف المقدمات والبشائر التي هيأت البيئة لظهور النبي وظهور الإسلام.
فهاهنا قبيلة نبيلة قد استأثرت بمناسك البيت الحرام، واستقلت بأعباء السدانة.
وها هنا رجل من تلك القبيلة يعرف الهواتف الغيبية، ويبلغ من تقواه أن يعرض عن كنوز الذهب والسلاح وهو فقير أعزل، وأن ينذر ابنا من أبنائه للآلهة فلا يعدل عن التضحية به إلا أن تحله الآلهة أو يحله الكهان.
ذلك الرجل هو عبد المطلب جد النبي عليه السلام.
ها هنا فتى وسيم وضيء محبوب، يتقدم إلى الموت راضيا إذا دعاه إليه أبوه، وكان في الموت إيفاء بنذر البيت الحرام.
ذلك الفتى هو عبد الله أبو النبي عليه السلام.
وها هنا طفل يولد، فكأنما لم تخلق قبيلته، ولا آباؤه، إلا لتكون وسيلة إلى ظهوره.
يحمل به فيتم أجل أبيه.
ويدرج ويترعرع فيتم أجل أمه.
ويشب قليلا فيتم أجل جده وكفيله.
فكل شيء يهيئ له المكان ويمهد له الطريق، وكل ما عدا هذه التهيئة، وذلك التمهيد فضول.
واقرأ خلائق آبائه وآله، وتعلم كيف استحقوا أن يورثوه ما ورث من فطرة، وقنوت، وفطنة، وكيف كان أعلاهم كعبا، وأوفاهم نصيبا، وأعظمهم شأنا، ولكنه كان سليل ذلك الشرف ووريث ذلك البيت لا مراء.
وفي خلال ذلك أي رحمة، وأي مروءة، وأي خليقة إنسانية أطهر وأبر وأدنى إلى القلب مما اشتملت عليه السيرة في مختلف الأعمار والأطوار؟
يتيم يعطف على اليتامى، وربيب أمة ضعيفة يحض على بر الإماء الضعاف، وفقير يوطئ أكناف العيش للفقراء، وتقي من معشر أتقياء يغض من كبرياء السروات، وهو في الذروة بين السروات، وصاحب دين لا تأخذه في الدين هوادة ولا ينحرف عنه إلى رحم أو قرابة، وكل أولئك في صورة إنسانية محببة قريبة إلى الفكر والبداهة، فهي صورة ممتعة وموحية، وهي خليقة من أجل ذلك أن تشوق وأن تفيد. •••
قرأت «هامش السيرة» فلم أنكر سياقها في موضع من المواضع، ولم أتمن لها قط أن تكون على غير ما اختار المؤلف أن تكون.
وغاية ما عندي من النقد لها أنني وددت لو ضمت من الصور الشخصية التي لازمت طفولة النبي فوق ما ضمت؛ لأن صورة الخلق الجاهلي أو صورة البعثة النبوية لن تتم بغير مثال من جحود الجاهلية، وسودة العصبية، وهل كان تمثيل أبي لهب هنا بعيدا من الموضع أو بعيدا من الزمان؟ لقد كان لزاما أن نعرف الجاهلية التي لقيت النبي بالغطرسة والعرام، وكانت صورة أبي لهب من ألزم الصور إلى جانب عبد الله في هذا المقام، ولا سيما بعد أن ساومته خديجة على شراء «ثويبة» التي أرضعت النبي لكي تعتقها، وترفه عنها بأمره، فأبى أبو لهب واستكبر، وهل يكمل تصوير الجاهلية بغير مثل جاف هذا الجفاء، غليظ هذه الغلظة، عتل لا يعي شيئا غير الصلف والتجبر على الضعفاء والفخر الجهول والكبرياء بالأجداد والآباء ووفرة الثراء؟ وهل من صورة أقرب إلى هذا المقام وأشبه بتمثيل الجانب الخشن فيه من أبي لهب؟ إن مكانه لمفقود في هامش السيرة، وإن الجاهلية لن تبدو لنا في جانبها الذي استوجب ظهور الإسلام، وشقي به المسلمون أول الأمر، إلا على صورة من هذا الغرار. •••
وبعد ففي «الهامش» عبارات يقف عندها القارئ؛ لأنه يجزم بنبوها في كلام أهل الزمان.
مثال ذلك ما أجراه المؤلف على لسان الأمة «ناصعة»، وهي تخاطب سيدتها فتقول: «مهلا يا سيدتي، ارفقي بنفسك، ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب.»
ولم يكن الإماء، ولا غير الإماء، يفهمن الخيال بالمعنى الذي نفهمه الآن.
ومن أمثلته أيضا قول فاطمة الخثعمية لعبد الله: «إن خير ما في الأمكنة والدور أنها ثابتة باقية، لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا يعرف الهدوء ولا الاستقرار» وهذا الكلام عن الزمان والمكان أدنى إلى كلام المتفلسفة في القرن الثالث والرابع منه إلى كلام النساء فيما قبل البعثة النبوية.
وإنها لهفوات لا يتجاوز عنها في نقد «هامش السيرة» إذ كانت شفاعته الكبرى أنه يحكي زمانه أبسط الحكاية في العقيدة، والإدراك، والتعبير.
لكنها طابع العصر أبى إلا أن يتراءى في كتاب أوشك أن ينقلها إلى عصره كل شيء، ولم يكد يذكرنا المؤلف فيه بنفسه إلا مرة أو مرتين.
مع المتنبي
الشاعر الذي لا نعرفه بشعره، لا يستحق أن يعرف.
لأن كلام الشاعر هو الصلة الكبرى بيننا وبينه، فإن لم يكن هذا الكلام معبرا عن نفسه واصفا لها، ممثلا لشعورها فليس هو بطائل، وإن كان معبرا عن النفس مستجمعا لصفاتها وأطوارها فهو حسبنا من معرفة بالشاعر وترجمة لحياته، لا يزيد عليها التاريخ إلا ما هو من قبيل التفصيل والتفسير، أو من قبيل الحشو والفضول.
لهذا نعتقد أن صديقنا الدكتور طه حسين، قد اعتمد على خير معتمد حين شرع في الكتابة على المتنبي وليس معه غير ديوانه، فإننا إذا عرفنا المتنبي كما هو ماثل أمامنا في قصائده وأقواله لم يبق وراء ذلك من حقيقة الرجل، إلا ما يتشابه بينه وبين سائر الناس، وقد يجوز أن يقيم أناس في حلب كما أقام فيها أبو الطيب، وأن يرحلوا إلى مصر كما رحل إليها، وأن تتوارى أنسابهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم، كما توارى كل ذلك في ترجمة حياته، ولكن الذي لا يجوز أن يتشابه فيه صاحبنا وغيره من الناس قديما وحديثا هو هذا الديوان أو هو أجزاء هذا الديوان متفرقات أو مجتمعات.
قال الدكتور في ختام الكتاب: «وأكثر من هذا أني أخذت أرى رأيا ما أظن إلا أن كثيرا من الناس سيضيقون به ولعلهم أن ينكروه علي، وقد ضقت به أنا وأنكرته على نفسي، ولكني لم أزدد إلا إمعانا فيه واطمئنانا إليه وتعجبا من أني قد انتظرت هذه السن وهذا الطور من أطوار الحياة قبل أن أفطن له، أو أطيل التفكير فيه، وهو أن شعر المتنبي لا يصور المتنبي، وأن شعر الشعراء لا يصور الشعراء تصويرا كاملا صادقا يمكننا من أن نأخذهم منه أخذا مهما نبحث ومهما نجد في التحقيق. وما أريد أن أطيل الاستدلال على ذلك، ولا أسلك إلى هذا الاستدلال هذه الطرق الملتوية التي يسلكها الفلاسفة والعلماء والأدباء أيضا، وإنما أريد أن ألفتك إلى شيء يسير، وهو إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياة المتنبي، كما أن هذا الكتاب الذين بين يديك إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياتي أنا لا أكثر ولا أقل.»
وهذا كله صحيح!
ولكنه ينتهي إلى نتيجة غير التي انتهى إليها الدكتور.
ديوان المتنبي وديوان من شئنا من الشعراء لا يصور إلا لحظات من حياتهم، نعم، ولكنها اللحظات التي تعنينا، واللحظات التي نعرفهم بها، واللحظات التي لا شأن لنا بغيرها.
كذلك وجه الإنسان لا يمثل لنا إلا جزءا يسيرا منه لا يبلغ نصف معشاره، ولكنه هو الجزء الذي نعرفه به بين عشرات الملايين ممن عاشوا أو يعيشون على هذه الغبراء، ولحظات الحياة التي يمثلها شعر الشاعر إنما هي اللحظات التي تعرفنا به أكمل تعريف مستطاع، فإن هي لم تفلح في تعريفنا به فليس شيء غيرها بمفلح على الإطلاق، ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك يعرفه الإنسان عن الإنسان.
وعلى هذا يحق للدكتور أن يطمئن إلى رأيه فلا يضيق به ولا يخشى أن يضيق به الناس، فنحن لا نبغي من المتنبي ولا من غيره إلا هذه اللحظات المعدودات، ولو أننا عرفنا لحظات حياته منذ استهل مولودا إلى أن لفظ النفس الأخير مقضيا عليه، لما زادتنا كثيرا عن هذا الجزء المحدود الذي حصره لنا الديوان، ولوجدنا بعد أن جمعنا ملايين الملايين من اللحظات أننا لم نعرف بها المتنبي كما نريد أن نعرفه، بل عرفناه تارة حيوانا يهضم الطعام كما يهضمه سائر الحيوان، وتارة أخرى عروقا تنبض كما تنبض سائر العروق، وتارة غير هذه وتلك رئتين تتنفسان كما تتنفس سائر الرئات، وقس على ذلك جميع التارات وجميع اللحظات، أما المتنبي الذي نبغيه فسيظل هو المتنبي المعروف في ديوانه بلا زيادة ولا نقصان، أو بزيادة عرضية ونقصان ليس بذي بال.
نعم، إن الشاعر قد يغالط في بعض كلامه، بل قد يغالط في جميع كلامه، ولكن المغالطة تكشفه ولا تخفيه، وتعين على معرفته أضعاف ما تعين على جهله: تكشفه على الأقل إنسانا مغالطا، وتكشف لنا بعد ذلك طريقته في المغالطة وفي حيلها وأساليبها وأغراضها؛ وتبدي لنا منه صورة يتميز بها بين الصور جهد ما يستطاع التمييز.
فصحيح إذن أن شعر المتنبي إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياته، ولكن صحيح كذلك أنه إذا صور لنا هذه اللحظات فقد صور لنا كل ما نبغيه، وأوفى ما يبلغه التصوير.
ويقول الدكتور طه في صدر الكتاب: «لا أريد أن أدرس المتنبي، إذن فالذين يقرءون هذه الفصول لا ينبغي أن يقرءوها على أنها علم ولا على أنها نقد؛ ولا ينبغي أن ينتظروا منها ما ينتظرون من كتب العلم والنقد، وإنما هي خواطر مرسلة، تثيرها في نفسي قراءة المتنبي في قرية من قرى الألب في فرنسا قراءة في غير نظام ولا مواظبة، وعلى غير نسق منسجم. إنما هي قراءة متقطعة متفرقة.»
والذي أعتقده أن الدكتور لو تعمد «العلم والنقد» واصطحب المطولات والحواشي والتعليقات لما أضاف في دراسة المتنبي شيئا هو خير من هذه الخواطر المتفرقة والفروض المحتملة، وأرى أنه قد رجع إلى بعض الكتب المفصلة بعد أن شرع في كتابه على نية غير نية الدراسة العلمية والنقد الممحص الدقيق، ولكنه أحسن بفروضه أكثر من إحسانه بمنقولاته ومروياته، وألمع في هذه الفروض إلى آراء شتى خليقة بالتأمل والمتابعة إلى أقصى وجوهها، ولا سيما كلامه في صلة المتنبي بالقرامطة، وحقيقة الدعوة الدينية والاجتماعية التي كان يدعو إليها، فهذه وأمثالها فروض لم يرسلها الدكتور على أنها وقائع ولا على أنها ترجيحات ولم يعطها من القيمة في معرض الدرس أكثر مما تعطاه الخواطر المحتملة، إلا أنها مع هذا خواطر هادية وليست بالخواطر المضللة، أو هي ظنون في الطريق المؤدي إلى الغاية، وليست ظنونا في الطريق المنقطع عن تلك الغاية، وهذه هي الإضافة المشكورة إلى ذخيرة الفهم، والأدب، والتفكير، وهي بهذه المثابة أنفس من إحصاء المعلومات، واستعراض الآراء من هنا وهناك. •••
ويطول بي القول إن أنا سردت في هذا المقال ما نتفق فيه بعض الاتفاق أو كل الاتفاق، فالرأي إذن أن ألم بمواضع الخلاف، وهي غير قليلة في الكتاب، وأكتفي بالإشارة إلى نماذج منها معظمها في الحكم على صناعة المتنبي، أو في الحكم على ذوقه وطبعه، فهي من ثم بمعزل عن جانب الفرض والتاريخ.
روى الدكتور هذين البيتين من شعر المتنبي في صباه:
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا
كان تسليمه علي وداعا
ثم قال: «أعجب الفتى بهذا المعنى، فأراد أن ينظمه وأن يصل إليه، فتكلف لذلك بيتا ونصف بيت، وأنت ترى مظهر التكلف في قوله: «بأبي من وددته فافترقنا»، فكلمة وددته هنا نابية قلقة مكرهة على الاستقرار في مكانها الذي هي فيه. أراد الصبي أن يقول أحببته فلم يستقم له الوزن، فالتمس كلمة تؤدي له هذا المعنى، وتلائم هذا الوزن فلم يجد إلا وددته هذه.»
والخلاف بيننا وبين الدكتور في طريقة النقد هنا جد بعيد، فنحن نرى من جهة أن أبا الطيب لو أراد أن يقول: «أحببته» بدلا من «وددته» لاستقام له الوزن مع بعض التجوز الكثير في الشعر المقبول في العروض، ونرى من جهة ثانية أن أبا الطيب كان مستطيعا أن يستخدم هنا «حببته» الثلاثية بدلا من أحببته الرباعية، كما استخدمها في قوله وهو شاعر كبير:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
فلا ضرورة في الوزن ولا استكراه، وفضلا عن هذا لا نظن كثيرين يحسبون مع الدكتور أن «وددته» في موضعها من البيتين لا تعبر عن معناها الصحيح، الذي لا تعبر عنه كلمة غيرها، فالمودة هي الكلمة العربية التي تقابل كلمة
Tendresse
في الفرنسية، وتطابق معناها تمام المطابقة، وهو ذلك الحب الرفيق الذي فيه حنو وشوق وليس فيه عنف ولا اعتلاج، وليست في اللغة العربية كلمة هي أصلح لهذا المعنى من «وددته» التي اختارها الشاعر، وليجرب الدكتور أن يغيرها في كلام منثور فسيعلم أن هذه الكلمة في نظم المتنبي الصبي هي أشبه الكلام بنظم المتنبي الكبير.
ومن المحقق أن «المودة» ومشتقاتها ليست من الكلمات التي يلجأ إليها شاعرنا اضطرارا، أو لعجز في الوزن والصياغة، فهي مألوفة في قصائده العديدة، وتكاد تكون لازمة له في التعبير عن الحب بشتى معانيه، ونذكر أمثلة على ذلك منها قوله:
وما الخل إلا من أود بقلبه
وأرى بطرف لا يرى بسوائه
وقوله:
وكل وداد لا يدوم على الأذى
دوام ودادي للحسين ضعيف
وقوله:
وإن بليت بود مثل ودكم
فإنني بفراق مثله قمن
وقوله:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وقوله:
إذا لم تجزهم دار قوم مودة
أجاز القنا، والخوف خير من الود
وقوله:
ولقد منحت أبا الحسين مودة
جودي بها لعدوه تبذير
وقوله:
ما لي لا أمدح الحسين ولا
أبذل مثل الود الذي بذله
وقوله:
ولا تطمعن من حاسد في مودة
وإن كنت تبديها له وتنيل
وقوله:
منع الود والرعاية والسؤد
د أن تبلغا إلى الأحقاد
وقوله:
أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
وقوله:
هو الوفي ولكني ذكرت له
مودة فهو يبلوها ويمتحن
وقوله:
سقاني الخمر قولك لي بحقي
وود لم تشبه لي بمذق
وقوله:
أقصر فلست بزائدي ودا
بلغ المدى وتجاوز الحدا
وقوله:
صار ما أوضع المخبون فيه
من عتاب زيادة في الوداد
وقوله:
فما تركوا الأمارة لاختيار
ولا انتحلوا ودادك من وداد
ومثل هذا التكرير لهذه الكلمة جدير بالتسجيل؛ لأنه ذو دلالة نفسية فوق دلالته الصناعية أو اللغوية، فهو يدل على افتقار الشاعر طول حياته إلى الود والأوداء، حتى قنع بالتزييف والطلاء كما قال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيى، أو عدوا مداجيا
وهي ظاهرة لا نظير لها في عامة الشعراء.
وعاب الدكتور هذه الشطرة: «أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني» فقال: «إن أسفا هنا كلمة لم تأت إلا لتقيم الوزن، ونبوها عن موضعها أظهر من أن يدل عليه.»
وعندنا أن الطريقة المثلى لتحقيق الكلام الذي تجيء به ضرورة الوزن أن نحذف الكلمة وننثر البيت وننظر بعد ذلك إلى قوة المعنى وقوة الأثر، فإن بقيت للمعنى قوته وبقي له أثره؛ فالكلمة المحذوفة حشو لا موجب له غير إقامة العروض، فهل «أسفا» في الشطرة التي عابها الدكتور من الكلمات التي يصدق عليها هذا القياس؟ لا نظن، بل هي كلمة تتعلق بها كل قوة البيت كما تتعلق بها نغمته الموسيقية ودلالته في الشعور؛ بسبب البلى يوم النوى وهو الأسف والحسرة.
وأنكر الدكتور على المتنبي قوله:
حاشى لمثلك أن تكون بخيلة
ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعا
ولمثل نيلك أن يكون خسيسا
فقال: «ولست أدري بأي امرأة أراد المتنبي أن يشبب في هذين البيتين؟ وما أرى إلا أنه كان يشبب بمن لا يحسن التشبيب بها من النساء، فالمرأة التي ترتفع عن البخل، ويرتفع وصلها عن التمنع، ليست خليقة بالشعر إلا حين يقصد إلى هجائها.»
وأنا لا أبرئ المتنبي من «قلة الذوق» في كثير من شعره، ولكنني لا أحسب هذين البيتين بين الشواهد على قلة ذوقه؛ لأنه قد بين فيهما أن نيل صاحبته غير خسيس، فهو إذن ليس بالنيل المبذول لجميع الناس، ومتى كان كذلك وكان نيلا موقوفا على صاحبها فأي ضير على هذا الصاحب أن يلومها على البخل ويطمع منها في المزيد؟
والدكتور يعتقد أن المتنبي دخل في طور جديد من نظمه بقصيدته التي أولها:
أزائر يا خيال أم عائد
أم عند مولاك أنني راقد
لأنه كما قال: «يصرع في القصيدة الواحدة مرة أو مرتين، أما في هذه القصيدة فهو يصطنع التصريع مرات.»
ولو رجع الدكتور إلى البائية التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
لوجد فيها غير المطلع خمسة أبيات مصرعة، وهي مما نظم في عهد الشباب.
والدكتور يرى أن المتنبي كان يشير إلى اعتقال كافور إياه في مصر، حين قال يمدح أبا شجاع:
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني
ظهور جري فلي فيهن تصهال
فهو كما قال الدكتور: «لم يستطع أن يخفي تأذيه بهذا السجن الذي يمسكه في الفسطاط» وهذا هو «الشكل المحكم» الذي عناه في البيت المتقدم.
وعندنا أن التفسير الشائع لذلك البيت أصح وأدل على ما عناه الشاعر: وهو أنه لم يستطع من جزاء أبي شجاع إلا أن يمدحه بالكلام، إذ لم يكن لديه جزاء المال والحطام، وكأنه في هذه الحالة جواد مقيد لا يملك غير الصهيل ولو أنه يقصد حبس كافور إياه لكان معنى البيت أنه يصهل ويمدح أبا شجاع؛ لأنه لم يستطع الجري من سجن كافور! وليس المدح بمستقيم على هذا المعنى. •••
أما أخلاق الشاعر فموضع الخلاف عليها بيني وبين الدكتور أنني أقرب إلى جانب العذر وأن الدكتور أقرب إلى جانب الملام، فهو لم يتهم الرجل بخلق ليس فيه، ولكنه لم يطلب له العذر حيث تتضح معاذيره، ولم يزل يشتد في تفنيده، ويجتهد في اتهامه حيث يكون الاضطرار أغلب على الرجل من الاختيار.
وما من شك في تهور المتنبي وطمعه فهما خليقتان من خلائقه المشهورة. بيد أن الشك كل الشك في استحقاقه اللوم؛ لأنه ترك سيف الدولة ورحل إلى كافور، وما أنصفه الدكتور ولا استوضح عذره حين قال: «إن الذين يقرءون شعر المتنبي وهذه الحكم البالغة والأمثال السائرة التي يرسلها إرسالا، ويكيلها كيلا يخدعون عن الشاعر، فيظنون به الفطنة والحكمة والذكاء، ولكن الذين يتدبرون سيرته، ويقرءون فخره ومدحه وهجاءه، يعرفون طبيعة الشاعر ويردونه إلى مكانه الحقيقي من خصال الرجل الذكي اللبق، وإلا فكيف نفهم أن ينفق المتنبي تسعة أعوام يمدح فيها الأمير الحمداني، ويعيب فيها خصومه من أهل مصر والعراق، ثم يظن بعد ذلك أن المصريين يعدونه صادقا ويبذلون له الآمال والأماني، وهم يأخذون أنفسهم بالوفاء له والاطمئنان إليه. مهما يكن من شيء قد انخدع المتنبي لكافور، وأقبل مستسلما له متهالكا عليه واثقا به.»
ولو شاء الدكتور لما حار في فهم هذا أقل حيرة، ولفهم أن صاحبنا مكره لا حيلة له فيما صنع، وأنه لم يكن له بد من قصد كافور، بعد أن هموا بقتله في جوار سيف الدولة مرة، وبعد أن رخص سيف الدولة في قتله مرة أخرى، وبعد أن شجوا رأسه بمحضر الأمير مرة ثالثة، وبعد أن علم أن ذهابه إلى بغداد أو الكوفة غير مأمون ولا مأمول، فليكن بعد ذلك كله أحكم الحكماء وأصدق الطامعين، فما هو إلا مدفوع على الرغم منه كما قال «ومدفوع إلى السقم السقيم.»
وما من شك كذلك في بخل الرجل وحرصه الشديد على المال، ولكننا نجور عليه ولا شك إذا زعمنا أنه بلغ بالبخل حد الإجرام والاستهانة بالنفس البشرية، وأن الشيء الخطير حقا كما قال الدكتور: «هو إقدام المتنبي على القتل في سبيل ما كان يسرق هذا العبد من متاعه، فذلك لا يصور بخله وحرصه على المال فحسب، وإنما يصور ما هو شر من هذا. يصور استهانته بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني في سبيل متاع يقوم بالدراهم والدنانير، وأقل ما يوصف به هذا الإثم أنه لا يصور نفسا شاعرة متحضرة رقيقة الحس متأثرة بالفلسفة، فضلا عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس في مثل هذه الصغائر، ولو أن حياة المتنبي كلها خلت من النقائص والعيب لكانت هذه الحادثة وحدها خليقة أن تسبغ عليها لونا أحمر قانيا يبغضها ويبغض صاحبها إلى الناس.»
كلا! إن المتنبي لا يستحق كل هذا، وإنه لم يقتل ذلك العبد بخلا وحرصا على دراهم ودنانير، وإنما قتله خوفا على حياته، وخشية من تمادي الشر ، واجتراء عبيده على اغتياله بعد اجترائهم على سرقة ماله، وأي مناص للمتنبي من هذه الفعلة، وهو هارب من السلطان متفرد في البوادي متعرض للانتقاض، ولا حارس له ولا مطالب بدمه غير أولئك العبيد الذين بدءوا يطمعون في ماله، واحتاجوا أسرع الحاجة إلى الزجر والصرامة والتخويف؟! إنما الوجه أن نلتمس حادثا آخر أقدم فيه المتنبي على القتل، وهو آمن مستقر في سربه خشية على الدراهم والدنانير. أما فعلته هذه فهي فعلة الناجي بنفسه الخائف من سطوة لصوصه، ولا ملامة على من يفعلها مكرها في شرع القانون ولا في شرع الأخلاق.
ولقد أطلنا ولا حد للكلام في نقائض المتنبي، ونقائض الآراء في شعره وطباعه. فلنقل موجزين إنه رجل ذو فضائل وذو عيوب، وأنه شقي بفضائله في ذلك الزمن الموبوء أكثر من شقائه بعيوبه، وما من أحد يسمع قوله بل صرخته:
أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم
تشابهت البهائم والعبدى
علينا والموالي والصميم
وما أدري أذا داء حديث
أصاب الناس أم داء قديم
إلا رأى من ورائها بليته بالناس أعظم من بليتهم به، وظلمه للناس دون ظلمهم إياه، واستحقاقه للعذر أكبر من استحقاقه للملام.
كناشة الأسبوع
اقترحت على نفسي، واقترح علي بعض صحبي، أن أجعل للكتابة الأدبية يوما من أيام الأسبوع على هذه الصفحة التي أشغلها بأحاديث السياسة سائر أيامه، فأجبت مقترحي، ومقترح صحبي، ولم يبق إلا اختيار الموضوع الصالح للتكرار والاستمرار، فما عسى أن يكون ذلك الموضوع؟
وأحسب الشرط الأول أن نختاره موائما لقراءة الصحف اليومية، حيث يتناول الكتاب المسائل العامة تناولا عاما يقل فيه التخصص، ويكثر فيه التعميم، ولا يحتاج قارئه اليوم أو غدا إلى مراجعة ما سبق من فصول.
فمع التزام هذا الشرط الذي لا بد منه في الآونة الحاضرة ماذا نختار من أبواب الكتابة؟ وماذا يلائمني ويلائم القارئ من عنوان شامل لكل ما يكتب في هذا الباب؟
خطرت لي الكتابة عن المطبوعات الحديثة من مصنفات الآداب وما إليها، فقلت: هو موضوع صالح للتناول في كل صفحة أدبية، داخل في كل باب يقع عليه الخاطر، بل هو أدخل في جميع الأبواب من كل موضوع، وإذا صح تعريف أناتول فرانس للنقد «إنه هو سياحة روح متطلعة - أو عظيمة - بين آيات الآداب والفنون.» فأحاديث السياحة أمتع الأحاديث، وأقمنها بالتجديد والاتصال مع قراءة الصحافة اليومية، وهي أشبه بالرياضة السريعة والانتقال من بلد في الذهن إلى بلد، أو من كتاب إلى كتاب.
لكن أين هي الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور من المطابع كل أسبوع.
وإذا رجعنا إلى القيمة دون العدد فهل نخطئ إذا حورنا السؤال وسألنا: بل أين هي الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور كل شهر، بل كل عام؟
إن هذه الكتب لجد نادرة، وقد يمنع الناقد مانع آخر أن يغشى هذا الباب، وهو ضيق الصدور بنقد الناقدين، فهبنا أغضينا عن هذا المانع، وقلنا مع القائلين: إن السائح الأدبي خليق أن يقتحم من المضايق كل محرجة حتى ضيق الصدور، فهل نظفر بخمسين كتابا يتسع للنقد والتعقيب، ويجدي نقده والتعقيب عليه كل عام، وهل يتسنى للناقد الأمين أن يدرس الكتاب من هذه الكتب النادرة في مدى أسبوع واحد؟
فهمس في خلدي وأنا أسائل نفسي هذه الأسئلة هامس يقول وهو يتردد: «وما الرأي في الكتب الأوربية»؟
ولقد حق للهامس أن يتردد وهو يناجيني بهذا الإيماء، وإلا فما الرأي في ملاحقة الطوفان؟ وما الرأي في عالم فسيح شامل للغرب كله ، لا تنقضي منه ساعة واحدة على غير كتاب نفيس في مسألة تمت إلى الأدب والتفكير الأدبي من قريب أو بعيد؟
أمامي أربعة ثبوت يرسلها إلي الطابعون الإنجليز مدونا فيها ما يعتزمون إصداره في مستهل الخريف، وتحت كل اسم من أسماء هذه الكتب صفحة كاملة، تتجاوز تلخيص فكرة الكتاب واقتباس بعض الفهرس للدلالة على ما فيه.
أمامي هذه الثبوت الأربعة، وأنا أعوم فيها بنظري عوما عسى أن أقف عند جزيرة تغنيني في هذه السياحة عن سائر الجزر فلا أجد منها إلا كل جزيرة خضراء زاهية يطول عندها الوقوف بل المكوث، وهذا في ثبوت الأسماء فكيف بالكتب وألوف الصفحات؟ وهذا في مستهل الخريف فكيف بأواسطه وأخرياته وما يليه من ثبوت الشتاء؟ وهذا في أربعة بيوت فكيف بأربعين؟ وهذا في إنجلترا فكيف بالأقطار كافة؟
ليكاد الإنسان يعول هنا على القرعة والمصادفة دون التمحيص والتدقيق في الاختيار.
أو يكاد الإنسان ينطوي على الجوع؛ لأنه لا يدري في هذا الخوان الحافل أين يكون الابتداء؟ وكيف يطيب الانتهاء؟
وهبنا اجتزأنا بقضمة من ذلك الخوان كل أسبوع، فمن الواجب قبل هذا ولا جدال أن تكون هذه الكتب من العموم والشيوع في مصر، بحيث يصح التخاطب فيها والتعقيب عليها بين الناقد وكثرة القراء، أو بحيث يوقن الناقد أنه سيضع يده على ما شاء من الكتب، فإذا هو مصادف ذلك المبحث الشائع الذي لا مناص منه لخلق «الجو الفكري» حول كل كتاب منقود.
فكيف يتأتى نقل أوربا إلى مصر، أو نقل مصر إلى أوربا لتوحيد جو ليس توحيده بأيسر من توحيد أجزاء الشمس والهواء؟ إنما نحن بصدد السياحة لا بصدد الخوارق والمعجزات!
نعم، إن بعض الكتب قد يغنيك تلخيصه عن اتساع أفق المطلعين عليه، ولكنك لا تضمن الاطراد في هذه المزية، ولا يزال فيها بعض الاعتساف والاصطناع، بعد كل محاولة وتقريب، كالذي يحكي لك طعم ما أكل لتشركه في لذة الأكل، وفي هضمه، واستمرائه، وقلما تغني حقيقة الحكاية عن حقيقة الطعام.
فماذا إذن نختار إذا عز الاطراد في الكتابة عن المصنفات العربية والمصنفات الأوربية على نحو ما يستراح إليه في صحافة مصرية؟
خطر لي موضوع طريف طالما فكرت فيه.
خطر لي موضوع «الشخصيات» ودراستها من الوجهة النفسية.
وخطر لي أن هذا الموضوع قد يصح للكاتب أن يتناوله على أسلوبين:
أسلوب أشبه بالكتب منه بالصحف، وذاك أن يخلق الكاتب «شخصية واحدة» تطوف بالناس وبأحوال الحياة، ونستعرضها على مختلف وجوهها فتتجلى في ملاحظتها وملابستها أسرار تلك الشخصية وما جبلت عليه من الغرابة والشذوذ، أو من الألفة التي نهملها وننساها لفرط ما نراها بيننا كل يوم .
هذا أو أسلوب آخر أشبه بالتجدد الصحفي والانتقال الأسبوعي، وذاك أن نرسم في كل أسبوع شخصية من الشخصيات التي نعرفها، ويستطيع القراء أن يعرفوها بالمشاهدة أو بالقياس.
ونحن بحمد الله قد وصلنا إلى طبقة من الارتقاء الاجتماعي يسمح بالإكثار - إن لم نقل بالإفراط - من الشخصيات المنوعة، والنماذج المفرقة، والعناصر الآدمية التي لولا انتماؤها إلى آدم لقلت إنها تنتمي إلى مئات العناصر الحيوانية.
وعلماء الاجتماع يزعمون أن هذا علامة من علامات الارتقاء؛ لأن تشابه الأفراد على نسق واحد خلة تكثر في القبائل الأولية التي يشبه فيها كل إنسان كل إنسان؛ لقلة الملكات الإنسانية، والصناعات الحضرية، والشواغل النفسية التي يتم بها تنوع الأفراد.
فإن صح ما زعموا فنحن بحمد الله في ارتقاء، فقد كثرت بيننا «الشخصيات» حتى لا تجلس في مكان فيه خمسة أو ستة أو سبعة إلا أيقنت أنك واجد بينهم «شخصيات» خمسا أو ستا أو سبعا تتسابق في لفت الأنظار، وجذب الملاحظات: كل منهم له بدواته وعاداته، وكل منهم له حقائقه ودعاواه، وكل منهم لهم علانيته ونجواه، وكل منهم يستغرب من غيره بعض ما هو فيه، وينحى على صاحبه بما هو خليق أن ينحى به على نفسه، فلو جردته نقائض وألوانا لرأيت حربا مستعرة في نفس واحدة، ولكنها حرب بين خصوم تفرقهم النقائض والألوان، وتجمعهم الأنانية والغرور.
فما لنا لا نرسم في كل أسبوع شخصية واحدة من هذه الشخصيات وعندنا منهم ألوف؟ رأي جميل، ولكنه من وحي شيطان خبيث، وإن كان شيطان آداب وفنون!
أفترسم كل أسبوع شخصية مختلفة، ولا تجمع في العام كل من تعرف من الأصدقاء والإخوان؟
لو كنت رساما بالريشة وقلم الرصاص لنجوت بجريرة ما تصنع؛ لأن المغالطة في دلالة الخطوط غير المغالطة في دلالة الكلمات.
فأما وأنت ترسم بالكلمات والعبارات فأنى لك النجاة من التعريف والتسمية ولو بالكنايات؟ وأنى لك بمن يقبل كل ما فيه؟ وأنى لك بمن يحمد لك الأمانة في رسمه، أو الخيانة في رسم غيره؟
قد يعرف بعض القراء أننا نجمع في مجالسنا حديقة للحيوانات الآدمية يحمل فيها كل أديب أو مصور أو ممثل أو معلم أو مغن عنوان حيوان يماثله في الخلقة أو الأخلاق، فما قول القراء إذ يعلمون أن التسمية إنما تكون دائما بإجماع الآراء إلا رأيا واحدا هو رأي صاحب الاسم في كل دور؟
فالناس على استعداد لحمد الأمانة الفنية في وصف الآخرين، وحمد الخيانة الفنية فيما يخصهم من الأوصاف، ومن عالج الرسم الكتابي للشخصيات بغير الطريقة الديموقراطية التي اتبعناها في حديقتنا فهو ضامن أن يغضب طلاب الأمانة، وطلاب الخيانة على السواء.
قال قائل جرى في خلدي بعد طول الأخوذ والردود: ولم الحيرة وفي وسعك أن تؤلف بين جميع هذه الموضوعات؟
إن اتفق كتاب عربي يستحق النقد فكتاب عربي، وإن اتفق كتاب أجنبي ميسر التلخيص فكتاب أجنبي، وإن اتفقت شخصية تستعرض الأحوال في مقالة واحدة فشخصية تتولى الاستعراض، وإن اتفقت شخصية مأمونة العواقب في رسمها وتمثيلها فلتكن هي معرض الفرجة في ذلك الأسبوع.
قلت: رأي جميل من شيطان سليم، وما العنوان؟
العنوان لا يضل مختاره بعد تنويع الموضوعات، وتشتيتها على تلك الأنماط.
العنوان «كناشة الأسبوع».
والكناشة تحتمل السطر والسطرين إن كانت في جيب فرد واحد، فأما إن كانت في جيب جمهرة القراء فهي تحتمل السطور والصفحات كهذه الكناشة، وموعدنا بها صباح الاثنين من كل أسبوع.
مصطفى كمال
1
أحق شخصية بأن يكتب عنها هذا الأسبوع هي شخصية الرجل العظيم، والشرقي العظيم الذي فارق الدنيا منذ أيام، ونعني بها شخصية مصطفى كمال منشئ «تركيا الحديثة»، ونافخ روح الحياة في بنية تلك الدولة التي اشتهرت زمانا باسم الرجل المريض.
ولا ينتظر من كاتب في صفحة أدبية أن يترجم لمصطفى كمال بسرد حوادثه السياسية، وتفصيلات أخباره العامة أو الخصوصية، فهذه على مباينتها لأغراضنا من الكتابة في هذه الصفحة قد ذاعت وتواترت، وعرضت المناسبات المختلفة للكتابة عنها، والعودة إليها عند ثورة مصطفى كمال وعند انتصاره في ميدان الحرب على خصومه، وعند إعلانه الجمهورية وإلغائه الخلافة، وأشباه ذلك من المناسبات الكثيرة حتى لم يبق قارئ صحيفة لم يسمع عن الرجل ما يسمع عن عظيم من أشهر عظماء المصريين، فلا حاجة بنا إلى ترديد هذه الحوادث والتفصيلات، ولا هي مما يتصل بموضوعات كناشة الأسبوع بسبيل.
إنما يعنينا تقدير مكانته، وتحليل مزاياه، والتعقيب على أهم صفاته وأعماله بالملاحظات النفسية التي تعن لنا وتزيدنا عرفانا به وبأمثاله، كما يعنى المصور بلمحة في العين، أو بعصب في الوجه، أو بلفتة في الرأس أشد من عنايته بوزن الجسم أو بطوله وعرضه.
مكانته
وفي اعتقادنا أن مصطفى كمال أعظم الحاكمين بأمرهم شخصية في عصرنا الحديث، ونفسر ذلك فنقول: إن فضل قدرته الشخصية في إنجاز أعماله الجليلة أعظم من كل فضل يعزى إلى قدرة رجال مثل موسوليني وهتلر ولينين.
فموسوليني انتفع بمساعدة الملك، ومساعدة الكنيسة، ومساعدة الجيش، ومساعدة أصحاب الأموال، ساعده الملك؛ لأنه نقم من الاشتراكيين إهانتهم إياه، وتشهيرهم بالنظم الملكية، وساعدته الكنيسة؛ لأنها خشيت من إلحاد الاشتراكيين، ومجاهرتهم بهدم الأديان وإبطال العبادات، وساعده الجيش؛ لأن قواده أشفقوا من جرائر التحقيق في مسائل التموين، وضباطه غضبوا للمثالب والشتائم التي كان يلقاهم بها أعداء الحرب والعصبية الوطنية في قوارع الطرقات، وساعده أصحاب الأموال حذرا على متاجرهم من جماعات التعاون التي شاعت بين العمال، بل ساعدته الدول الأجنبية التي شكرت له جهاده في حض الإيطاليين على مناصرة الحلفاء، أما هتلر فلولا أصحاب معامل الحديد، وكبار الملاك للضياع والقلاع، ورؤساء القادة في الجيش، ولولا أناس سبقوه ومهدوا الطريق من قبله لإلغاء الشروط المجحفة بالألمان في معاهدات الصلح، لما وصل إلى شيء مما وصل إليه بفضل هذا التمهيد، وبفضل تلك المعونة.
وأما لينين فهو مدين لمذهب شائع له مؤتمرات ولجان وأنصار يعدون بالملايين، ولهم في البلاد الروسية خاصة مكامن قوية نشأت منذ سنين، وأعيت على الجواسيس والمطاردين.
لكن مصطفى كمال لم ينتفع بمعونة من أشباه هذه المعونات، فقد كان السلطان ينكره ويأمر بالقبض عليه، وكان رجال الدين يفتون بكفره، ويستبيحون دمه ويستثيرون الدهماء لنضاله، وكان رجال تركيا الفتاة يعادونه ولا يستريحون لنجاحه، وكان نواب المجلس يتركونه في الأناضول ويذهبون إلى الآستانة اغترارا بوعود الحلفاء، ولم يكن له معين من الدول الأجنبية، بل كان له منها أعداء ألداء ومحاربون أشداء، يحاربون بالمال والسلاح والسياسة ونشر الدعوة وكل وسيلة يملكها الأقوياء.
وأفلح مع هذا كله مصطفى كمال.
لا نقول إنه أفلح وحده، فإنه كان يعتمد على أعوان وعلى أتباع مخلصين، وكانت له أسباب لتأليب الأصدقاء والمؤيدين، واهتبال الفرص ليس في وسع زعيم أن يغفلها، أو ينجح بغيرها، ولكنا نقول: إن ما عمله الرجل لتذليل المصاعب وجمع القوى لم يعمله رجل آخر من الذين يوضعون معه موضع المقارنة والمفاضلة، وإنه لذلك أعظم الحاكمين بأمرهم «شخصية» في العهد الحديث.
طبيعة الترك
وليس يقدح في هذا الفضل الجسيم أن طبيعة الأمة التركية وافقت مطلبه، وهيأت له أسباب التقدم في أغراضه، فعاونته إيجابا بالكفاح معه، والانضواء تحت لوائه، وعاونته سلبا بالطاعة والتسليم، وقلة المقاومة لمساعيه، حتى ما كان منها مخالفا للعرف المكين، أو خليقا في رأي الناس أن يثير الثورات ويجمح بالنفوس.
ليس يقدح في قدرته أن مهاجمته للعرف الديني مثلا لم تكن تفلح في أمة غير الترك مطبوعين على طاعة القادة الظافرين، فإن القائد الظافر مطالب - قبل أن يظفر بهذه الطاعة - أن يغلب العرف القديم، وأن يصبح هو عرفا يطاع في مكان ذلك العرف المغلوب، وليست هذه الغلبة بالشيء الهين، فهي وحدها نجاح ل «قوة الشخصية» ليس بعده نجاح.
جاء في مبحث لخالدة أديب في تعليل هذا النجاح «أن العقل العربي ينظر إلى الكون نظرته إلى ما وراء الطبيعة، ويرى أن السلطة التشريعية صادرة من الله، وأن السلطة التنفيذية موكولة إلى الخليفة، وأن العلماء هم الوسطاء بين الله وخليفته في الأرض يراقبون سلطته التنفيذية ويتحققون من اتباعه للقوانين الإلهية. فإذا خالفها نقصوا بيعته، واختاروا خليفة غيره يرضي المسلمين! أما الترك فالأمر معهم مختلف منذ كانوا في بداوتهم قبل الإسلام معودين طاعة القوانين التي يشرعها الإنسان، وهم بفطرتهم أميل من سائر الشعوب الإسلامية إلى الفصل بين الدين وشواغل المعيشة اليومية.»
وقد يكون هذا التعليل صحيحا كل الصحة أو بعض الصحة، ولكنه لا يفيد - إذا صح - أن كل زعيم في الترك قادر على أن يروضهم في حياته على ما راضهم به مصطفى كمال في أمد وجيز، فبعد كل تعليل وتفسير تبقى هنالك القدرة الشخصية التي تفوق قدرة الآخرين.
أصله التركي
والعجيب أن الرجل الملقب أبا الترك، والذي غلا في العصبية التركية حتى أبى أن تبقى في لغته كلمة دخيلة، والذي دانت له الطبيعة التركية هذه الدينونة، ذلك الرجل لا يسلم نسبه التركي من المساءلة والمراجعة، ولا يزال بين الكتاب الأوربيين من يقول: إنه مزيج من الدم التركي والدم المقدوني، وأبعد الأستاذ توينبي
Tonbee
مرماه فظن أنه ينتمي إلى شعبة الدونماي، أي الإسرائيليين الذين استقروا في سالونيك ودانوا بالإسلام، ويقول بعضهم: إن بياض لونه وزرقة عينيه تشيران إلى جنس غير الترك وغير الإسرائيليين، ويكاد الكاتبون عنه في أوربا يجمعون على أنه لم يكن تركيا قحا على كل حال.
ولاحظ أكثر من كاتب أنه لا ينفرد بهذه الخصلة بين الحاكمين بأمرهم وعظماء الغلاة من الوطنيين. ف «دي فاليرا» لم يولد في أيرلنده ويرجع في نسبه إلى الإسبان، وهتلر نمسوي وليس بالألماني، و«بيلسودسكي» لتواني وليس من البولونيين، وستالين شركسي وليس من الروس، وشوشنج ولد في ريغا الإيطالية، وكان زعيم الاستقلال الوطني بين النمسويين.
ونعتقد نحن أن ملامح الرجل التركية أظهر من أن تخفى على أحد، ولا نستبعد امتزاج نسبه بسلالة مقدونية أو إسرائيلية ، لأن مسلمي الترك في سالونيك كانوا يتزوجون المقدونيات والإسرائيليات، ولا سيما من دان منهم بالإسلام، ولكنه يظل بعد ذلك تركيا في ملامحه الظاهرة، ومزاجه الغالب، وبيئته النفسية، وينتمي إلى قومه كما ينتمي كل مصري أو عربي أو إنجليزي أو فرنسي تدخل في نسبه سلالة أجنبية من قريب أو بعيد.
ولكن هل عجيب حقا أن يغلو صاحب النسب المزيج في العصبية أو في العقيدة إن كان الأمر أمر اعتقاد لا أمر انتساب؟
يبدو لنا أن الغلو هو الخصلة الراجحة إن لم نقل هو القاعدة الأصيلة في هذه الحالة، ومن شواهد ذلك أن الداعيين الكبيرين إلى تقديس العصبية الجرمانية لم يكونا من الألمان، بل كان أحدهما سلالة إنجليزية وهو هوستون تشمبرلين، والآخر سلالة فرنسية وهو الكونت دي جوبينو، وأن دعاة الآرية في العصر الحاضر لا تصدق فيهم الصفات المنسوبة إلى الآريين، وهي البياض، والطول، والنحافة، واستطالة الجمجمة؛ فهتلر أسمر، وجوبلز قصير، وجورنج سمين، وروزنبرج مستدير الرأس، وكل من هؤلاء لا تنطبق عليه الصفات الأخرى على نمط ملحوظ.
ونحن نعلم في البلاد الشرقية الإسلامية أن شيعة آل النبي كانوا من الفرس لا من العرب، وأن المنتصرين لأبناء علي والعباس كانوا من الموالي لا من أبناء القبائل البدوية، ولعل السر فيما يلاحظ من هذه الخصلة أن مسألة الجنس تكون أبدا حاضرة في أذهان الطارئين على العصبية أو على العقيدة، وأن الامتزاج يضيف إلى الجنس القديم دما جديدا من دماء الحياة والحركة، فيظهر فيه النشاط والتعصب، ويبرز بهذه الصفة بين شركائه في النسب والاعتقاد، ويقرب هذا من حال أبناء السواحل والحدود، الذين يعيشون بين الوطن الأصيل والأوطان الغريبة، فهم على الأغلب الأعم شداد العصبية والحمية الوطنية، ولا تنقص عصبيتهم وحميتهم؛ لأنهم يعيشون على مقربة من الأجانب، بل تزيدان.
قال لي صديقي الفاضل الدكتور حسين همت: إنه كان كثيرا ما يلقى الصدر الأعظم طلعت باشا في إبان الحرب العظمى، فإذا هو آسف يقول له المرة بعد المرة: عجبي لكم أنت وفريد وفلان وفلان وأنتم أبناؤنا كيف تنادون بمصر للمصريين، وقد علمتهم أن أناسا من صميم المصريين يقبلون السيادة العثمانية ويدعون إلى الجامعة الإسلامية!
ولا عجب في هذا الذي تعجب منه الصدر الأعظم عند الرجوع إلى الحقيقة؛ لأن المصري من السلالة التركية يشعر بشعورين حين يطلب الاستقلال الكامل لوطنه: شعور الوطنية المصرية وشعور المساواة للترك في دعوى الحكم والسيادة، وما كان هذا ولا ذاك بالذي يرضيهم بمكان التابعين من المتبوعين.
ملامحه
وعلى ذكر ميسم مصطفى كمال وطبيعته وتكوينه، لا يفوت القارئ أن يلاحظ الشبه القريب بين ملامحه وملامح أمه في جميع الصور التي نشرت لهما في الصحف المصرية، والكتب الشائعة.
وقد تواترت هذه الملاحظة في تراجم شتى، ولوحظ مثلها على ملامح موسوليني وهتلر ودي فاليرا، وأحسها غالبة بين الرجال الأقوياء، على خلاف القياس الظاهر الذي يوحي إلى الخاطر أن الأبناء الأقوياء أحرى بشبه الآباء منهم بشبه الأمهات.
ولا أدري أين قرأت تعليل السيطرة «الدكتاتورية» بأن الزعماء المستبدين يدرجون مدللين مستجابي الرغبات في حجور أمهاتهم، وإن هؤلاء الأمهات يفرحن بما يلمحنه من الشبه بينهن وبين الأبناء الذكور، فيعودنهم الأمر والطاعة في الصغر، ثم يكبر الصغار بعد ذلك وهم لا يطيقون الحياة إلا أن يجدوا أمامهم أتباعا خاضعين، ولعل الدكتور ولهلم ستيكل العالم النفساني النمسوي هو صاحب هذا التعليل فيما ذهب إليه من العلاقة بين التمرد على الآباء في سن الطفولة، والتمرد على الحاكمين في سن الرجولة، وهو أوسع الباحثين كلاما في هذا الباب.
ومما لا شك فيه أن الولد المدلل يحب الطاعة من أقرانه، ولكنه لا يحصل عليها إلا أن تكون فيه قوة مطبوعة، وأن تكون له مزية على أقرانه غير مجرد التدليل وتعود الأمر والطاعة، فمن لم يكن من الأبناء المدللين ذا قوة أو مزية، فالأغلب فيه أن ينشأ هزيلا فاشلا تابعا للحياة العامة غير متبوع.
والتعليل الصحيح في رأينا للشبه بين الرجال الأقوياء وأمهاتهم أنهم يجمعون بين مناقب الجنسين، فهم أكمل من غيرهم في الصفات الإنسانية التي لا تنحصر في الرجال دون النساء أو في النساء دون الرجال، فهناك مناقب الرجل وهناك مناقب المرأة، وهناك مناقب الإنسانية التي يشترك فيها الرجل والمرأة، ومن كان أوفى إنسانية وأجمع للمناقب الآدمية عامة فهو قمن بالسيادة على الرجال والنساء؛ لأنه أكثر من رجل وأكثر من امرأة، وإنما هو إنسان لا ينحصر في مناقب جنس من الجنسين.
والرجل يسود بالعقل والإرادة، والمرأة تسود بالدأب والغريزة، أو يصح أن يقال: إن الرجل يسود بالفكر والعزم، والمرأة تسود بالدهاء الحيواني والمثابرة الفطرية؟ فإذا خاض الإنسان معترك الحياة بجميع هذه الصفات، فهو مضاعف السلاح في معترك الحياة ، الذي لا يخوضه الخائضون إلا بسلاح فريد.
وقد لوحظ الشبه بين النابغين وأمهاتهم في غير رجال الحكم والقتال: لوحظ في الأدباء، والمصورين، والموسيقيين، والشعراء، وسائر ذوي الملكات النابهين، ولا اختلاف هنا في التعليل إلا الاختلاف في الملكات التي يحتاج إليها الرجل النابغ، فالمرأة تتصف بالفطنة ولطف الشعور، كما تتصف بالدأب والدهاء، فإذا كان النابغ رجل قتال أخذ منها ما يعينه في ميدانه، وإذا كان رجل فنون ودراسات، أخذ منها غير ما يأخذه ذاك، ولكنه في كلتا الحالتين أكثر من رجل بين عامة الرجال؛ لأن مناقبه لا تنحصر في جنس واحد من الجنسين.
قرأت منذ زمن بعيد قصة صغيرة للكاتب الفرنسي الموهوب جي دي موبسان عن رجل اشتهر بغزو قلوب النساء وكثرة الخليلات.
قال على لسان راوي القصة ما فحواه: إنني أعلم أن الرجل يغزو قلب المرأة بالجمال والشباب والقوة والمال والوجاهة وسحر الحديث، وسمعت بهذا الرجل المظفر في حرب الغرام فاشتقت أن أراه وسعيت إلى التعرف به حتى عرفته وجلست إليه مرات، فأما الجمال فليس بجميل وإن لم يكن بالشائه المرذول، وأما الشباب فقد جاوزه إلى الكهولة، وأما المال والوجاهة فهو مستور الحال، خامل الذكر، لا يسمع به إلا جيرة الحي ومن يلقونه في الطريق، وأما الحديث فليس هو بساحر ولا بمسترسل طريف، فازداد عجبي من شأنه، وما زلت في هذا العجب حتى دعاني يوما إلى منزله وأدخلني إلى مكتبه، فرأيت على جدار من جدرانه صورة امرأة مفردة لا تشاركها هذه الحفاوة صورة امرأة أخرى، فأسرعت إلى مداعبته سائلا: ألعلها صورة العزيزة صاحبة الحظوة بين عشيقات الشباب؟ فقال: كلا ما هي بعشيقة، هي أمي!
قال راوي القصة، فتأملتها فإذا الشبه بينها وبين ابنها قريب جد قريب يكاد يتجاوز المشابهة إلى المحاكاة؛ فقلت في نفسي: الآن عرفت السر، فلن يغلب الرجل النساء في ميدانهن إلا بمدد من المرأة موروث.
والحقيقة هي ما قاله جي دي موبسان في مغزاه المقصود من تلك القصة: إن المرأة تساس بشعور دخيل موروث، يقل فيه نصيب القصد والتفسير، ويعظم فيه نصيب البداهة والإيحاء، وكذلك الجمهور.
وإذا صدق هذا في سياسة المرأة فهو كما أسلفنا يصدق في سياسة الجمهور، ويصدق في دراسة النفوس، ويصدق في خلق شخوص الرجال والنساء من أبطال الروايات، فلا يفوز الرجل في ميدان الزعامة إلا لأنه إنسان كامل، وليس برجل كامل وحسب، ولا يقدر شاعر كشكسبير على خلق هاتيك العشرات من شخوص النساء، إلا لأنه كذلك إنسان كامل وليس برجل كامل وحسب، فهو يفهم المرأة ولا يفهم الرجل وحده، وهو يحسن المجاوبة بين الخليقتين حين تتساجلان وتتباريان، وما من رجل ممتاز قط كانت أمه مهملة صفرا من المزايا، أو كانت وراثته منها قسطا مهملا لا معول عليه.
ذلك هو أصوب تعليل نراه للشبه القريب بين الزعماء وأمهاتهم عامة، وبين مصطفى كمال وأمه خاصة، وهو ما يعلم الناس من رجل ساد ملايين الرجال.
2
العزم والمداورة
خصلتان لا غنى عنهما للنجاح في أعمال السياسة العظيمة، ولا سيما عند افتتاح العهود وتقرير السلطان الجديد: وهما الدأب على غرض محصور، والقدرة على مواجهة الوقائع ومداورة الأحوال.
وقد يتناقضان إذا كان الدأب على غرض محصور ناشئا من ضيق ذهن، أو غيبوبة تعزل صاحبها عن تحول الأحوال، وتبدل الأبدال، أما إذا صدر هذا الدأب عن عزيمة ماضية تعرف عشرين طريقا، ولكنها مع هذا تستطيع المثابرة على اختيار غاية واحدة من وراء تلك الطرق جميعا، فالخصلتان إذن لا تتناقضان بل تتعاونان، وتكون العزيمة إذن رديفا خير رديف لمواجهة الواقع، ومداورة الأيام، واختيار الأوفق الأنجح من كل مجهود.
ومصطفى كمال كان على أوفى نصيب من العزيمة، والأخذ بالواقع النافع، وكما كان دءوب الرجل عن عزيمة ماضية، لا عن ذهن ضيق أو نفس شاردة عما حولها، كذلك كانت مداورته للواقع عن دهاء وتبصر لا عن دجل ومراوغة رخيصة من مراوغات النفاق.
أراد أن يحيي تركيا والدنيا كلها تريد لها الموت، فلم يصرفه صارف ولم تقعده عقبة، ولم يزل حتى ردها إلى الحياة، وأقامها على الأساس الذي جعلت في الحقيقة لتقوم عليه فلا تصلح للقيام على أساس غيره، وذلك أن تكون تركية للترك لا دولة ذات أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة روحية، فما في ذلك خير لها ولا لرعاياها المغصوبين.
ولم يتقيد بطريقة واحدة لإقامة الحكومة التركية الجديدة، فغير هذا العقل هو العقل الذي يستغرق جهاته كلها في مذهب واحد، لا يحيد عنه إلى سواه، وغير هذا العقل هو الذي يدين بالاشتراكية وكفى أو بالديمقراطية ولا زيادة، أو بالدكتاتورية ولا شأن له باشتراكية ولا ديمقراطية، ولكنه هو يدين بالاشتراكية الحكومية فيستولي على المصانع العامة والمرافق القومية، ولا يضن بملك فرد ولا جمهرة من الأفراد على حماية الأمة بحذافيرها. ثم أكثر الله خيرك أيتها الاشتراكية ففارقينا عند هذا الملتقى بسلام!
وهو يدين بالديمقراطية فيوجب الانتخاب والصلة الدائمة بالشعب في الخطب والمقالات، ثم أكثر الله خيرك أيتها الديمقراطية فلا أحزاب ولا خصومات في المجلس الوطني الكبير، بل حزب واحد هو حزب الشعب الذي لا يسمح لغيره بوجود! وهو يدين بالديكتاتورية فيقبض وحده على أعنة الحكومة الكبرى، ثم أكثر الله خيرك أيتها الدكتاتورية فنحن نتلقى السلطان من الأمة، وننوب عنها في الإفضاء به إلى الوكلاء، أو الوزراء.
ويوما يستورد من ألمانيا، ويوما يستورد من روسيا أو الولايات المتحدة، وإنه ليعقد القرض في إنجلترا كما يعقده في إيطاليا حسبما تهديه مصلحة الأمة التركية دون غيرها من المصالح، فهو رابح أبدا؛ لأنه يأخذ الكثير ولا يعطي إلا القليل، ويحسب حسابه من البداية على أن يكون إعطاؤه هذا القليل إلى حين.
وتجديده للحياة القومية على أسلوب تجديده للحياة السياسية بلا اختلاف في البواعث والموجبات، فهو لا يلغي ما يلغي من عادة، ولا يفرض ما يفرض من نظام حياة؛ لأنه يتبع هذا الفيلسوف أو ينغمس في ذلك الكتاب، بل يلغي ما يلغي ويفرض ما يفرض على حكم القوة الحيوية المفرطة التي توحي إليه دين الإيمان بالحياة، والمتعة بالدنيا، والشبع من المائدة التي يسوغها عنده أنه يستطيع هضمها واستمراءها، ولا حاجة بعد ذلك إلى مسوغات.
القوة الحيوية
فمصطفى كمال لا يلغي الحجاب مثلا؛ لأنه قرأ كتابا في المساواة بين الرجل والمرأة، ولا نخاله كان يبقي الحجاب لو قرأ ألف كتاب في تسويغه وتفضيله، وإنما يلغيه لأن حياة السفور والرياضة والرقص والمرح أقرب إلى وثبات القوة الحيوية من قيود العادات والموروثات.
أو لك أن تقول: إن مصطفى كمال كان ينكر الأشياء بطبعه ودمه، قبل أن ينكرها بتفكيره وتمحيصه، وهذا هو سر اتباعه للسياسة الدنيوية، والشرائع المدنية، وإيثاره للآداب الأوربية العصرية على الآداب الشرقية العثمانية، وقلة صبره على الأمور التي يعافها، ويستطيع أن يمنعها، فلم القيود الموروثة إذن وهو لا يعجز عن كسرها ولا يفقه لها علة؟
ومن المحقق أن ملكات مصطفى كمال على تعددها وجلالها ما كانت لتجديه شيئا في جهاده الطويل لولا ما رزق من ذلك البنيان الركين، وذلك التركيب المكين، وتلك الحيوية الطاغية التي أتاحت له أن يناهز الستين في مشقات ومرهقات ما كان أناس آخرون ليتخطوا بها حدود الثلاثين، فقد قيل: إنه كان لا ينام في الأسبوع إلا ليلة واحدة، ثم يسهر بقية الأسبوع إلى مطلع الفجر ليشرع في أعمال الصباح بعد تهويم وجيز، وقيل: إن أطباء كثيرين أنذروه بالموت قبل انقضاء العام إن لم يقلع عن هذه المعيشة، فمات الأطباء وعاش هو بعدهم عدة أعوام، وقيل إنه أهمل أمراضا شتى تهد الجسوم، فقضى على جراثيمها في دمه الغلاب، ولم يلجأ في مغالبتها إلى دواء، فمهما يكن للرجل من عيب أو خطأ أو جماح فعلته هذه القوة العصية على كل عنان، وما الحيلة وهي أيضا علة ما له من مزايا ومآثر وحسنات؟
وينبغي أن نفرق بين القوة البدنية التي تتصل بالقوة النفسية في الزعماء وبين القوة البدنية التي لا تتجاوز حدود البدن، ولا ترجح صاحبها في موازين النفوس ومعايير السيادة فلو كان الأمر أمر قوة بدنية في العضل والألواح لكان في البلاد التركية ألوف يصرعون الغازي في ميدان المصارعة، ومعترك المضاربة والمقارعة، ولكن هذه القوة شيء والقوة التي تتصل بسطوة النفس وسيطرتها شيء آخر، تلك لو ترجمت إلى لغة المجاز والتشبيه لكانت حجرا يستقر ولا يتزحزح، فهي راسخة في انتظار الانقياد، وهذه لو ترجمت إلى لغة المجاز والتشبيه لكانت تيارا جارفا من الكهرباء والمغناطيس يصرع ويصعق ولا يقف له الواقف في سبيل.
تلك مقرها الغالب في العضل والألواح، وهذه مقرها الغالب في الدماغ والأعصاب.
تلك خزانة من المادة المنقادة، وهذه خزانة من الإرادة القائدة؟ تلك قوة الجمل الصبور، وهذه قوة الأسد الهصور.
والفرق عظيم بين القوتين، فمن أصحاب القوة الأولى لألوف كانوا يغلبون مصطفى كمال لو غالبوه، أما من أصحاب القوة الثانية فلا يوجد إلا رجل واحد في تركيا من هذا الطراز، إذ لو وجد الرجل الآخر لظهر، ولم يمنعه الظهور كل ما في دولة الترك من حديد ونار.
الصرامة
ويندر أن يملك الرجل نصيبا عظيما من هذه القوة الخارقة، دون أن يتصف معها بكثير من الصرامة التي تبلغ مبلغ القسوة في مصارع الخصام.
وهكذا كان مصطفى كمال.
كان صارما قاسيا بطاشا لا يحفل بأرواح الأعداء ولا الأصدقاء إذا ثار وأصر على اللدد والنقمة، وزاده صرامة أنهم غمطوا حقه في أوائل عهده، وتجاهلوا كفاءته واقتداره، فانطوى على الغضب، وقلة الإيمان بالإنصاف.
ولعل هذه الصرامة كانت لازمة في تقرير مكان الدولة الجديدة، وتثبيت أركان النظام الجديد، بل لعل كثيرا من الناقدين والمؤرخين سيحمدون هذه الصرامة، ويحسبونها من مظاهر البأس فيه.
وعندنا على كل حال أن بعض الذين قتلوا كان يمكن ألا يقتلوا وتبقى الدولة الجديدة على منعتها واستقرارها، وأن بعض الذين أسيء إليهم كان يمكن ألا يساء إليهم، ثم لا يتغير مجرى الأمور، ولكن الناس إذا اختلفوا في عدد الضحايا لمصلحة الأمة التركية هل هم أكثر من الواجب أو أقل من الواجب فلن يختلفوا في المبدأ والأساس، وهو أن الزعماء من بناة الدول يستبيحون ما استباحه مصطفى كمال في مثل المآزق التي كان فيها، وأن الرجل الذي لا تستطيع أن تستغني عن عمله كله يجب عليك أن تقبل عمله كله، إذا لم يكن عن هذا القول محيص.
ومصطفى كمال كان رجلا لا تستغني تركيا عن كل عمله، فقبلته جملة واحدة، وأصابت في هذا القبول.
إلا أننا نتوجه بالنقد إلى خلة فيه لم تكن لها ضرورة قط لتوطيد النظام، وتدعيم الدولة، وهي اغتباطه وفرحه بمصير من قضت عليهم محاكم الاستقلال بالموت المعجل.
فإذا كان لازما لمصلحة الأمة التركية أن يموت جاويد، وعارف، وبقية الأحد عشر صريعا الذين شنقوا في أنقرة، فلم يكن من اللازم قط أن يحيي مصطفى كمال تلك الليلة في محفل راقص يدعو إليه السفراء، والكبراء، والرجال، والنساء، ويلبث فيه حتى يسمع بنبأ التنفيذ في مطلع الفجر، وإن من أولئك المشنوقين لمن كان يساهره بين جدران تلك الحجرة التي جلس يتلقى فيها نبأ التنفيذ. كلا! لم يكن ذلك لازما على أي وجه من الوجوه؛ وكل ما سيرويه التاريخ من قسوة الرجل سيكون له مسوغون ومغتفرون، إلا مثل هذا المحفل فلا تسويغ له ولا اغتفار، وإنما تسوغه في نظر علم النفس - لا في نظر علم الأخلاق - مرارة لصقت بطباع الرجل من الكظم الطويل، والترات القديمة بينه وبين أعدائه المتعمدين لإنكاره المستخفين بفضله واقتداره، كما تسوغه فيما رواه بعض الكتاب تلك الآفة التي أصيب بها في شبابه ومن شأنها إذا أهملت أن تضاعف القسوة والمرارة وتدخل السرور على صاحبها بالتنكيل والإيذاء.
رأي قديم
قلنا: إن مصطفى كمال قد أقام الدولة التركية «على الأساس الذي جعلت في الحقيقة لتقوم عليه، وذاك أن تكون تركية للترك لا دولة ذات أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة تركية.»
وقد أتهم نفسي بشيء من الغرض إذا أنا أغرقت في الإعجاب بمصطفى كمال؛ لأنه أقام دولته على هذا الأساس، فقد كان ذلك رأيي الذي كتبته منذ ربع قرن وزيادة في «مجلة البيان» سنة 1912 حين سئلت أن أبدي رأيا في إصلاح الدولة العثمانية وتوجيه مصيرها، فكتبت فصلا مسهبا في هذا الصدد قد يحسن أن أنقل نبذة منه هنا، وأن أختم به هذا المقال.
قلت يومئذ: «... وقل أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة الكبرى، وآن لهذا الهلال أن يمحى، ثم يقول: إنما نحن نشهد اليوم في شرق أوربا ما شهده الناس من قبل في غربها، لو كانت الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربا لحق لهم أن ييأسوا من ثمرها بعد الآن، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها عنها، وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء ويتسع لهم من آسيا ملك بعيد الآناء منيع الأرجاء، فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضي الأمر فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخر دومات الفلك، وإذا استحال ذلك كما قد يرى القانطون فإنما هو محال في أوربا وآسيا على السواء.»
وفضيلة مصطفى كمال الكبرى أنه أدرك يوم أنشأ دولة الأناضول، أن الأملاك أعباء وتكاليف، وليست مغانم ووجاهة، فعول على الاستقلال بدولة الترك، وأعفى أمته من الطمع في استقلال الآخرين، إلا ما كان ضروريا من الأجزاء القليلة لحماية حدود البلاد.
عهد الشيطان
كان إلى جانبي مدرس أديب ساعة وصلت إلى المكتبة ثلاثة كتب جديدة في يوم واحد للكاتب الفنان توفيق الحكيم.
فقال المدرس مازحا: إن الأستاذ توفيق يغرق السوق على الطريقة اليابانية .
قلت: بل على نقيض الطريقة اليابانية؛ لأن أبناء الشمس المشرقة يبيعون بضاعة تشبه الجيدة، ويتشفعون لها برخص الأثمان، أما صاحب هذه البضاعة فهو يبيع الصنف الجيد ولا يتوخى الرخص في أثمانه، فهو مذهب جديد في سوق الأدب غير مذهب القوم في سائر أسواق التجارة.
تلك الكتب الثلاثة هي: عهد الشيطان، وتاريخ حياة معدة، وتحت شمس الفكر، و«تاريخ حياة معدة» موضوع متصل في كتاب لطيف، أما الكتابان الآخران فهما مجموعتان لقصص ومقالات تتصل حينا اتصال الحلقات، وحينا اتصال السمط الدقيق.
ولا تخطئ في ناحية من نواحي هذه الكتب الثلاثة تلك اللباقة الفنية التي يجيدها الأستاذ توفيق الحكيم: لباقة ليست بالسطحية العرضية؛ لأنها في جوهر الموضوع، وليست بالضائعة كأولئك الخطاطين الذين يضيعون لباقتهم ودقتهم في نقش رسالة على حبة أرز أو بيضة يمام؛ لأن النقش هنا مزية فطرية وليس بمهارة صناعية.
أتممت قراءة عهد الشيطان من هذه الكتب الثلاثة: قرأت العهد الذي اتفق عليه المؤلف والشيطان مناقضا به العهد الذي اتفق عليه فوست وشيطانه القديم، فالعالم فوست ترك علمه وأعطى الشيطان نفسه ليأخذ منه الشباب، والمؤلف هنا يعطي الشيطان شبابه ليأخذ منه العلم، ويجري بينهما هذا الحوار: - ماذا تعطيني أنت في مقابل هذا؟ - كل ما تطلب. - الشباب. - هو لك.
ثم يمضي الحوار إلى أن يقول المؤلف: ألا تكتب عقدا؟ - لا ضرورة معك للعقود والعهود. إني واثق بشرفك. - ولكني أنا، معذرة، إني لا أثق بشرفك. - جربني هذه المرة.
وينتهي المؤلف من القصة على ما يوهمك أنه أضاع الشباب ولم يأخذ المعرفة، وأنه مغبون في صفقة لم يشهد عليها مسجل العقود، وذلك الحوار الأخير الذي مر بك هو الباب اللبق الذي يتسلل منه المؤلف سلفا لكي لا تأخذ عليه ادعاءه المعرفة في صراحة «غير فنية» فالشيطان في بداية الأمر قد أجمع النية على الروغان، يأخذ الشباب ولا يكتب موثقا بإعطاء شيء.
نقول: لو كتب الشيطان تتمة لهذه القصة لكانت بقيتها - أنه على خبرته بالتحف الثمينة - قد رجع إلى وكره، وعجم الثمن المقبوض بمسباره الدقيق فإذا هو مدخول، من ذا الذي يعطي الشباب ثمنا للمعرفة إلا وهو قد فقد الشباب؟ أو زيف الشباب؟ •••
ومن أجمل قصص الكتاب قصة الأميرة الغضبى، وهي الأميرة بريسكا «بطلة» المؤلف في رواية أهل الكهف، وكان قد أولعها بالشاب مشلينيا ثم أماته، فلما خطر للمؤلف أن يجول في رحلة بين أبطال رواياته لقي الفتاة وروى لنا هذه الرواية:
ذهبت إلى الأميرة بريسكا فوجدتها تتألق في حسنها المعهود، ولكنه حسن عليه غيمة حزن، فما هي إلا أن رأتني وعرفتني حتى هبت إلي صائحة: إني أبغضك ! من أعماق قلبي. - أستغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟ - وأحتقرك كما أحتقر غالياس. - لاحظي يا سيدتي قبل كل شيء أن ليست لي لحية غالياس. - قل أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟ لو أن قلمك تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن! ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كافية لإنقاذ الفتى، لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم. - لست قاسيا يا سيدتي، ولا ظلوما، ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته عن طيب خاطر. - لو كنت تملك! ومن غيرك يملك! - لا تحمليني سيدتي هذه التبعة!
جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل.
آه! ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود. - نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع! - إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من هذه الصفات فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضا، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها، ولو أصغوا لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص، وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي ، إني لم أرد موت مشلينيا، ولم أرد بقاءه، ولم أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل؛ إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: التناسق.
وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها، ولا مشكلة الفن وحده بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسرارا كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار الوجود.
واقتراحي على الأستاذ توفيق - في الطبعة التالية - أن يجعل بريسكا تقول له: هات لي هذا التناسق الذي جنى علي هذه الجناية. - ماذا تصنعين به يا سيدتي؟ - أنتقم منه . - أنك تندمين. - كلا. ليس هذا من شأنك. هاته هنا إن كنت صادقا في إلقاء التبعة عليه، ولم تكن أنت صاحب الجناية علي وعلى مشلينيا. - ها هو.
ثم يحضر التناسق ماثلا بين يديها، فلا تلمسه بلمسة واحدة إلا أصابها من ذلك مصاب في جمالها وسحرها وقدرتها على فتنة حبيبها.
ويأتي الأستاذ توفيق بعد ذلك بصاحبها مشلينيا، فإذا هو يعافها ويعرض عنها ولا يستمع لندائها.
وإني لأعطي الأستاذ عهدا - مكتوبا - أنه لن يختم القصة يومئذ كما ختمها قائلا: «سبحان الله! أقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.» بل يختمها وهو يقول: «إن المرأة لتفهم الحكمة جيدا. إن كان عدم الفهم يصيبها في جمال أو غرام.» •••
وبين أظرف الشياطين في الكتاب، ذلك الشيطان الأمريكي أو الإنجليزي غريب الأطوار «إذ سجل خطبة له في أسطوانة فونوغراف، وأوصى المشيعين أن يطلقوها على قبره تنطق بصوته، وأنفاسه، وضحكاته، وكلماته.»
قال الأستاذ الحكيم: «وماذا يمنعني من أن أصنع مثله، وأن أقوم في الناس خطيبا بعد موتي أقول فيهم!»
ثم سرد الأستاذ خطبة فيها من الاستهزاء بالمشيعين ما يكافئ إشفاق الأصدقاء، وشمات الأعداء، لا أدري لم تعجبني أمثال هذه المواقف، فإني لأذكرها حيثما قرأتها أو رأيتها، ومن ذاك أبيات الشاعر الألماني الخبيث، التي ترجمها صديقنا الأستاذ المازني في هذين البيتين:
أيها الزائر قبري
اتل ما خط أمامك
هاهنا فاعلم عظامي
ليتها كانت عظامك
ومن ذاك شعار السياسي الإيطالي «إمندولا» الذي أصابه جماعة من الفاشيين فمات في الغربة، وأوصى بأن تكتب له على قبره هذه الكلمة: «هنا يعيش إمندولا، منتظرا.»
ولعل في هذه الكلمات من كبرياء التحدي - حتى في أعماق التراب - ما يبعث الإعجاب ويخيل إليك أن ذلك الميت الذي جئت لترثي له أو تشمت به، ناهض أمامك يناجزك ويتحداك. •••
وذات يوم من أيام الربيع هب فيه على وجه الأستاذ نسيم لطيف، ووقعت عيناه على أغصان تتمايل، وأزهار مفتحة تتضاحك، فصاح: «أيها الشيطان، يا شيطان الفن، يا سجاني وجلادي، أطلقني من أغلالك قليلا إني أريد الحب، إني أريد المرأة.»
فابتسم شيطانه، ولم يزد على أن قال ساخرا: المرأة مخلوق تافه. - كلا. - بلى إنها ليست جديرة بك أيها الفنان الخلاق. إنها مخلوق تافه، صنعت من ضلع تافه من أضلاع آدم، وخرجت من الجنة وأخرجته بسبب تافه.
وانتهى الحوار بأن ختم الشيطان كلامه قائلا: «الآدميين! ومن قال إنك منهم أيها الفنان! عندما كتب عليك أن تضع على منكبيك رداء العبقرية والخلق خلع عنك في الحال بعض خصائص الآدميين.»
يا أستاذ!
أنذرك أن شيطاني حاضر هذا اليوم!
إن هذا الشيطان ليسألك: ولم لم تخرج عن شيطانك في تلك الساعة امرأة شيطانية بحكم الطبيعة والبداهة لا بحكم الفن والصناعة؟ ألا يشوقك أن يتجاذباك فترى كيف تميل تارة هنا وتميل تارة هناك؟ ألا يشوقك أن تسمع وسواس الدهاء والذكاء يفسده وسواسي كلمة بلهاء من تلك المرأة الحسناء؟
بلى يشوقك ولا ريب، أو ينبغي أن يشوقك بحكم «التناسق» أيضا لا بحكمك وحكم شيطانك، فجرب ولا تكتم نتيجة التجربة عن القراء، إلا أن يكون فيها ما «يخدش الناموس» ويصبغ وجه الحياء! •••
شياطين، شياطين، شياطين!
شياطين السحر، وشياطين الشعر، وشياطين الفنون، وشياطين الأساطير!
ما كل هذا العالم الزاخر بالشياطين لولا أن الإنسان ضعيف الثقة بقدرته سيء الظن بنفسه بين عناصر هذا الوجود وأسراره؟
إن وقع على كلمة جميلة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: هيهات ما هي لك ولا من وحي عقلك، ولكنها مسروقة من شيطان.
وإن سخر قوة من قوى الطبيعة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: ما هذا البهتان؟ أأنت تصنع ذلك لولا معونة شيطان؟!
وإن أصيب فشيطان أصابه، وإن برئ وشفي فشيطان أبرأه وشفاه، وهذا الإنسان الذي لا يؤمن بقدره ولا بقدرته في عمل من هذه الأعمال قد آمن قديما وحديثا أنه هو المقصود والمنشود من خلق هذه الأكوان، وإطلاق هذه الآباد والأزمان.
فهو بالواقع والحس ضعيف، وهو بالأمل والإيمان قوي، وهو يستكثر على نفسه العجائب فيخلق أشباح الأساطير لتفسيرها، وإن أعجب منها لخلق تلك الأساطير.
وأين اليوم هذه الجمهرة الحافلة من الشياطين ؟
قضى عليها العلم وبددها النور، وخطر لي وأنا أجيل هذا الخاطر في ذهني أن أشيعها جميعا برواية كبيرة أسميها مجزرة الشياطين، وأفصلها فيما بعد أن نظمتها شعرا أو سردتها شرا في هذا المقال فحسبي أن أشير إلى خلاصات منها تبدأ برسول علم النفس، وهو ينحي على شياطين الأهواء والشهوات والخوف والحسد والكيد والوسواس، فيمعن فيها تجريحا وتقتيلا حتى لا تبقى منها غير أشلاء ورءوس، ويتلوه رسول الطب فيبيد جميع الشياطين التي حسبها الناس قديما علة للأمراض والأدواء، ثم عرفوا اليوم ما علتها من جراثيم الطعام، والشراب، والماء، والهواء، ويتلوه رسول الحكمة فيجهز على فريق ويبقي على فريق، وهكذا حتى تبلغ المجزرة أجلها، وتنتهي الفصول إلى ختامها، وليس في العالم شيطان من هذه الشياطين.
وفي خلال ذلك مواقف يتنادى فيها الشياطين مستغيثين مستجيرين، فلا يغيث أحد منهم أحدا؛ لأنهم في شاغل جميعا بما يعانون ويكافحون، أو لأن الإغاثة ليست من طبع الشياطين.
ثم يخطر لشيطان منهم داهية أريب أن يستعيذ بصرعاه وصرعى زملائه الأقدمين والمحدثين، وليس صرعى تلك الشياطين إلا الجهلاء والمنكوبين الذين يحبون بقاءها ولا يتصورون وجود العالم بغير وجودها، فيهب هؤلاء الجهلاء لصوت النفير، ويجيبون نداء المستغيث والمستجير، لولا أن تشرق شمس الحقيقة في تلك اللحظة، فتنهزم الجموع، ولكنها ترجع أو لا تزال تهم بالرجوع.
ثم يهمس الخيال في أذن الحقيقة همسة ترضاها، فيعم السلام، ويشيع الوئام، اتفقا على شيء فيه الرضا لمن يحب فناء تلك الشياطين، ومن يحب لها البقاء، وهو متحف يغمره الخيال بالصور والتماثيل لمن بادوا وتفرقوا من صرعى العلم والنور، فمن طاف بها للعبرة والذكرى فهو مقبول، ومن زارها لغير ذلك فعليه وزر ما جناه.
وعلى فصل من هذه الفصول يهبط الستار، وتتلاقى على المسرح أناشيد العرائس الأبكار من ربات الفنون والأفكار.
رجعة أبي العلاء
كتب صديقنا العلامة طه حسين مقالا في مجلة «الثقافة» الغراء نقدا لكتابنا رجعة أبي العلاء.
وجاء في المقال ثناء جميل يطيب لنا أن نرجع به إلى أبي العلاء؛ لأنه هو سببه وهو موحيه، فموضوع الكتاب والنقد أبو العلاء، وصاحب الكتاب والناقد كتبا ويكتبان كثيرا عن أبي العلاء، وإني مع هذا لأشكر جميل الشكر ذلك الثناء الذي جاءني من طريق أبي العلاء.
وفي مقال الدكتور طه ملاحظات انتقادية لو كان قصاراها أن تتجه إلى كاتب هذا السطور لأمسكت عن المناقشة فيها، ولكنها تتجه إلى آراء وحقائق تطالبنا جميعا بحق التمحيص والتوضيح، ولهذا أعود إليها بالمناقشة والتصحيح، وأبدأ منها بجانب اللفظ والمبنى؛ لأنه الجانب الذي نقيسه بمقياس القواعد المتفق عليها، فلا موضع فيها للتفاوت البعيد بين الآراء.
قال الدكتور: «وقد جرى على لسان التلميذ وعلى لسان الشيخ كلام أهمل فيه النحو بعض الإهمال، وما أظن أن أبا العلاء كان ينصب أو يجر حيث يجب الرفع، وما أظن أنه كان يقبل من تلميذه أن يضع «من» مكان «ما»، وما أشك في أن هذا من خطأ المطبعة، ولكنه خليق أن ينبه إليه، وفي الكتاب ذكر لحيرة المنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وما أعرف أن المنبت حائر، وإنما المنبت مشرف في الإسراع يعرض ناقته للعطب، فلا يغني عنه إسرافه في السرعة شيئا، فلا حيرة هناك ولا حائر.»
ورجعنا إلى الصفحة ال 189 التي أشار إليها الدكتور، فلم نجد فيها منصوبا يجب رفعه وإنما وجدنا المعري يسأل: «والمساكين المستضعفين؟» دون أن يسبق الكلمتين عامل مذكور.
والقاعدة النحوية في هذه الحالة أن يرجع إلى التقدير كقول الشاعر في البيت المشهور الذي يعرفه النحاة:
أخاك أخاك إن من لا أخا له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
فالشاعر هنا لم يقل «أخوك أخوك»؛ لأن الكلمة واقعة في الابتداء، ولكنه قال أخاك أخاك؛ لأن التقدير «اذكر أخاك» أو «استعن أخاك» أو ما شابه هذه التقديرات.
وكذلك كلمتا «المساكين المستضعفين» تجران لأن التقدير: «ما شأن المستضعفين» أو ما بال المستضعفين أو أنني أسأل عن المستضعفين، وليس هناك ما يوجب الرفع على الإطلاق.
أما «من» في موضع «ما» فقد رجعنا إلى الصفحة ال 233 التي أشار إليها الدكتور فإذا هو يشير إلى قولنا: «لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق، ويسلم منها من يسلم، ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت، ولا تعرف ما هو لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان.»
وأبو العلاء ولا ريب يقبل من تلميذه أن يضع «من» في هذا الموضع لأن «من» تستعمل للعاقل ولغير العاقل في أفصح الكلام، ومنه:
أسرب القطا هل «من» يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير؟
ومنه في شعر امرئ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن «من» كان أقرب عهده
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
ومنه في القرآن الكريم، والكلام عن الأصنام:
ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة .
وفي القرآن الكريم أيضا:
فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع
وهذا عدا الشواهد التي لا تحصى لخطاب غير العاقل بضمير العاقل، في القرآن وفي كتب النحو والأدب وفي دواوين الشعراء.
أما المنبت فلماذا لا يحار وقد أتلف دابته وانقطع عن صحبه ولم يصل إلى غايته؟ ومن الذي يحار إن كان مثل هذا لا يحار؟ ما أظن أن الحيرة مشروطة في كتب اللغة أو كتب الأمثال بأسباب لا تعدوها، وما أظن أحدا ينفرد ويعدم المركب، ولا يبلغ نهاية الطريق إلا وهو حائر فيما يصنع وإن لم يسمح له الدكتور طه حسين بالحيرة! فإذا حرم الدكتور عليه الحيرة فهو وحده الذي يحرمها عليه، لا علم اللغة، ولا علم النفس، ولا قوانين العرف، ولا قوانين التشريع! •••
وعرض الدكتور طه لمسائل في الكتاب من جانب المعنى، يلوح لنا أن القواعد فيها أظهر من قواعد اللغة، وأقرب إلى التفاهم عليها من النصوص المقررة.
ومن ذلك أنه قال: «... إن الأستاذ العقاد أراد أن يرتحل بأبي العلاء بعد أن بعثه بعثا جديدا، وأن يطوف به في أقطار الأرض فلم يصنع شيئا، وإنما ارتحل به في طائفة من الكتب التي قرأها، وفي ألوان من العلم الذي أحاط به، وفي فنون من الآراء التي أتقنها واستقصاها، ذلك لأن الأستاذ العقاد نفسه لم يرتحل ولم يطوف في أقطار الأرض، وإنما ارتحل وهو مقيم وطوف وهو مستقر، وعرف الدنيا وهو لم يتجاوز حدود مصر، وهذه مزية من مزايا الأستاذ وفضيلة من فضائله. وبائعة السجائر مهما تكن جميلة لا تستطيع أن تعطيك إلا ما عندها كما يقول الفرنسيون، وعند الأستاذ العقاد أدب وعلم وفلسفة، فقد ملأ يديك أدبا وعلما وفلسفة، ولكنه لم يرحل إلى أوربا ولا أمريكا، فلا يستطيع أن يرحل بك ولا بأبي العلاء إلى أوربا ولا إلى أمريكا، ينزل بك وبأبي العلاء في ألمانيا وفي الروسيا وفي السويد والنرويج والدانمارك، وفي بلاد الإنجليز وفي إسبانيا وفي أمريكا، ولكنه لا يريك من هذه البلاد شيئا ولا يظهرك ولا يظهر أبا العلاء إلا على بعض ما عنده من آراء أصحابها وبعض سيرهم، وينتهي بك إلى مصر فيظهرك منها على طبيعتها الرائعة ونهرها الجميل، ذلك لأنه يعرف مصر وقد رآها رأي العين فهو قادر على أن يعطيك منها شيئا، وهو أمين كل الأمانة ولا يستطيع أن يعطيك من أوربا ولا من أمريكا؛ لأنه لا يعرفهما، أستغفر الله وأستغفر الأستاذ العقاد، بل لأنه لم يرهما رأي العين، ولم يلمم بهما إلا من طريق الكتب.»
ذلك رأي الدكتور طه في الكتابة عن البلاد التي لم ينتقل إليها الكاتب.
والعجيب الظريف أنه يسوق هذا الرأي في معرض الكلام عن أبي العلاء، أي عن الرجل الذي كتب عن الجنة، والجحيم، والعالم الآخر، وهو قابع في محبسيه!
فماذا يقول المعري للدكتور طه لو أنه ألزمه هذا الحكم، وأبى عليه أن يكتب عن بلد غير المعرة وبغداد وما إليهما؟
إنه لا يقبل منه هذا وهو الذي يحدثنا عما يقبله أبو العلاء وما يأباه.
بل إنه لا يقبل منه أن يقيده بالمشرق والمغرب، بل بالدنيا كلها، بل بالأرضين والسموات؛ لأنه كتب عن العالم الآخر قبل أن ينتقل إليه! وخالف بذلك دستور الكتابة عن الأماكن البعيدة، كما يشرعه لنا الدكتور طه حسين.
ومن المتفق عليه بيننا، فيما أحسب، أن أبا العلاء المعري لو كان حيا وساح اليوم في الأرض لما كان غرضه من السياحة أن يكتب لنا دليلا من أدلة بادكر
Baedeker ، أو أدلة كوك
Cook ، أو غيرهما من كتب السياحة التي تذكر لنا ما يراه المشاهد إذا انتقل إلى بعض البلدان.
وإنما تعنيه مشكلات العقائد والأخلاق، التي كان يعنى بمثلها في الحياة، وليست هذه المشكلات والعقائد مقصورة على المسافرين دون المقيمين، وإن كان عرضها للنقد في صورة من صور السياحة أقرب إلى الخيال وحسن السياق من عرضها على المعري في كتاب، وليس هناك كتاب واحد يجمعها كلها بين دفتيه.
على أننا نعود فنسأل: أين هي المشاهد التي لا يراها الإنسان إلا بالانتقال إليها في هذا الزمان؟
الصور المتحركة ترينا وتسمعنا كل يوم ما يراه ويسمعه الباريسيون، واللندنيون، وسائر الغربيين، والشرقيين، والمطابع تنقل إلينا ما يقولون وما يعتقدون، والأصوات الحاكية تحكي لنا ما ينشدون ويعزفون، والعالم كله معروض لنا عرضا ينقله إلينا وإن كنا لا ننتقل إليه، وليس كل من في باريس، أو في لندن، أو في رومة، أو في برلين، بقادر على محادثة المعري فيما يعنيه من مشكلات تلك البلاد. فلا موضع ل «القاعدة النقدية» التي وضعها الدكتور طه حسين في هذا الصدد؛ لأنها لن تخلص بنا إلى نتيجة يقبلها أبو العلاء، أو يقبلها النقاد، أو يقبلها التاريخ.
أو هي لا يقبلها التاريخ، ولو قبلها النقاد، وقبلها أبو العلاء، إذ نحن قد نقول: إن ذهابي إلى أوربا وأمريكا وآسيا واجب قبل الكتابة عنها؛ لأن ذهابي إليها مستطاع.
وقد نقول: إن الذهاب إلى الدار الآخرة التي وصفها أبو العلاء مستطاع قبل الخروج من هذه الدنيا، وإن كانت الكتابة عنها بعد ذلك لا تستطاع.
وقد نقول أشباه ذلك في أشباه ذلك، فماذا نقول في بابل، ونينوى، وطيبة، ومنف، والمدائن، التي يلزمنا التاريخ أن نكتب عنها ، وقد استحالت الرحلة إليها اليوم، إلا أن تعود كما كانت قبل التقوض والخراب؟
فعدول الدكتور طه عن رأيه هذا خير للنقد - فيما نحسب - من إبقائه بغير نتيجة مجدية، أو بالنتيجة التي معناها الحجر على رحلات الأفكار، ومسالك الحكماء، في فجاج الواقع والخيال. •••
ويقول الدكتور: «أراد أن يعطينا صورة من أبي العلاء لو عاش في هذا العصر فأعطانا صورة من الأستاذ العقاد الذي يعيش في هذا العصر، وما أحسبنا قد خسرنا شيئا بل أعتقد أننا قد ربحنا كثيرا، فمن أعسر الأشياء وأبعدها عن متناول الأدب مهما يكن ذكي القلب، نافذ البصيرة، أن يبلغ الغاية من تصور الحقيقة التاريخية، فكيف باختراع الصورة لشيء لم يكن وليس من الممكن أن يكون؟ وأقل الناس علما بالتاريخ الأدبي وممارسة لصناعته يعرفون أن كثيرا من المؤرخين ربما خيل إليهم أنهم يصورون هذا الكاتب أو ذاك، وهذا المفكر أو ذاك، ولكنهم في حقيقة الأمر لا يصورون إلا أنفسهم حين يصفون رجال التاريخ.»
وأنا أوافق الدكتور على صعوبة تصوير الحقيقة التاريخية والشخوص التاريخيين، ولكن الوجه الصواب من وجوه النقد في رأيي يخالف الوجه الذي يراه الدكتور طه في عرضه لهذا الموضوع.
إنني اجتهدت ألا أسند إلى أبي العلاء فكرة من الفكر، أو كلمة من الكلمات، إلا شفعتها ببيت أو أبيات قالها في مسألة قديمة تقرب من مسائلنا الحديثة، وهذه هي حجتي في إسناد تلك الفكرة، أو تلك الكلمة إلى أبي العلاء.
أزعم أنا أن أبا العلاء لو عاد إلى الدنيا، وشاهد هذه المسألة، لقال فيها كيت وكيت؛ لأنه قد قال كيت وكيت في مسألة مثلها، أو قريبة منها.
فالوجه الصواب في النقد، أن يقول لنا الدكتور: «كلا. إن أبا العلاء لا يمكن أن يقول ذلك؛ لأن كلامه السابق، أو رأيه السابق، أو قياسه السابق يأباه، ولا يوافقه في نصه أو في مرماه، وأن المتكلم إذن هو العقاد، وليس هو أبا العلاء؛ لأن هذا الكلام لا يتأتى أن يصدر في هذا المقام إلا من العقاد.»
ذلك هو الوجه الصواب فيما أحسب، وأزيد عليه أن آرائي في مسائل من كتاب «رجعة أبي العلاء» تختلف أحيانا عن الرأي المبسوط في ذلك الكتاب، وأنني لا أذكر رأيا واحدا فيه يمكن الجزم باستبعاد صدوره من أبي العلاء، قياسا على المعروف من كلامه، أو من مزاجه، أو من قياس تفكيره، وذلك حسبي فيما توخيت من إسناد الآراء إليه. •••
وأعود فأشكر لصديقنا الدكتور ما أثنى، ولا أنوب عن أبي العلاء في الشكر، لكي لا أجور على حق الدكتور فيه.
अज्ञात पृष्ठ