250

किताबों के बीच घंटे

ساعات بين الكتب

शैलियों

في عدد مضى من «الجديد» كتبت كلمة عن الترجمة وعلاقتها بتعارف الشعوب، قلت فيها: إن الترجمة تكثر بعد الحروب بين الأمم المتحاربة؛ لعناية كل أمة منها باستطلاع أحوال الأمم الأخرى، واستقصاء ما عندها من بواعث النصر والهزيمة.

ولم أرد في تلك الكلمة أن أحصي أسباب الترجمة كلها، أو أردها كلها إلى المنافسة الحربية ورغبة الاستطلاع، وإنما أردت أن ألاحظ تلك الملاحظة من الوقائع التي صاحبت الحرب العظمى والحروب القريبة التي تقدمتها، ولم أجعل المنافسة أصل المعرفة في جميع أحوالها، بل قلت: إن «الأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في النفوس ويرسم لها الميول والوجهات» وقلت في موضع آخر: «ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، وهو صريح في أن المنافسة تحرض ولا توجد، وتكون سببا للرغبة في المعرفة، ولا تنحصر فيها جميع الأسباب.»

وقد عقب الدكتور طه حسين على ما كتبناه فقال بعد مناقشة وجيزة: «أما أنا فألاحظ قبل كل شيء أن العلة الحقيقية الأولى لكل ترجمة ونقل، إنما هي الطبيعة الإنسانية التي تجعل الإنسان حيوانا اجتماعيا كما يقول أرستطاليس في السياسة، وحيوانا مفكرا كما يقول أرستطاليس في المنطق، فطبيعته الاجتماعية تضطره إلى أن يتصل بغيره من الأفراد والجماعات، ويشاركهم فيما يفكرون ويشعرون ويتحدثون، وطبيعته المفكرة تضطره إلى أن يبحث ويستقصي ويتعرف حقائق الأشياء.»

كذلك رأى الدكتور طه حسين، ولا خلاف بين رأيه وقولنا: إن رغبة المعرفة مطبوعة في النفوس، وأنها لا تحتاج عند بعض الأمم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، فنحن في هذا متفقان ولا اختلاف إلا في الأمثلة التي يريد الأستاذ تطبيقها على غير الوجه الذي تنطبق عليه فيما أراه.

فالأستاذ يقول: «من المحقق أيضا أن العرب انتصروا على الفرس وعلى اليونان البيزنطيين بعد ظهور الإسلام، كما انتصروا على أمم أخرى، فنقل العرب عن الفرس واليونان كل شيء، ولم ينقل الفرس واليونان عن العرب شيئا.»

ونظن نحن أن تبادل الترجمة في هذا الجانب لم يكن منتظرا لسبب واضح، وهو أن التبادل يستلزم وجود المعرفة والحياة الفكرية عند الفريقين، ولم يكن هناك معرفة ولا حياة فكرية عند الفرس واليونان البيزنطيين الذين غلبهم العرب واستولوا على بلادهم. إنما كانت المعرفة لفرس ويونان آخرين هم الفرس واليونان السابقون، وكان أبناؤهم الذين غلبهم العرب غرباء أو كالغرباء عن تلك المعرفة الموروثة، يجهلونها ولا يعنون بها عناية قومية فضلا عن العناية بأخذ ما عند غيرهم وترجمة الكتب الأجنبية من عربية وغير عربية، فيصح أن يقال: إن العرب أخذوا علوم الفرس واليونان الذين عاشوا قبل ظهورهم ببضعة قرون، وإن الصلة بينهم وبين أولئك الفرس واليونان كانت منقطعة بينهم وبين الفرس واليونان المعاصرين لهم؛ لأنهم كانوا في مذاهب النهضة متفرقين.

من كلامنا في مقالنا الأول يفهم أن الفرق عظيم بين عصرنا الحاضر وعصر الحروب الفرنسية الألمانية، وأن تبادل المعرفة في عصر الحروب الفرنسية الألمانية «لم يكن بهذا الشمول والسعة لعظم الفارق بين عصرنا الحديث، وتلك العصور في حركة الطباعة وانتشار القراءة وسرعة المواصلات.» فالفرق بين عصرنا الحاضر وبين العصور الفارسية اليونانية أولى أن يكون أعظم اختلافا وأوسع أمدا، وإن كنا مع هذا نقول: إن الحروب كانت من أسباب الاستطلاع المتبادل حيثما وجدت المعرفة التي يتبادلها الفريقان في الزمن القديم، أو في الزمن الحديث.

ثم يقول الأستاذ: «من غريب الأمر أن هذه النهضة الفارسية التي ظهر فيها تأثر الفرس بالعرب لم تكن حين كان العرب غالبين والفرس مغلوبين، وإنما كانت حين تم الفوز للفرس على العرب، وظفروا بالسلطان السياسي كله في الشرق الإسلامي، فكيف يعلل الأستاذ العقاد هذه الترجمة، بالحب ثم بالبغض، أم بالتنافس والجهاد؟

فالذي نحب أن نذكره هنا أن العرب والفرس كانوا من جهة فريقا واحدا يجمعه الدين، وكانوا من جهة أخرى فريقين متنافسين تفرق بينهما العصبية والتراث القديم، فحكم العرب والفرس في الاقتباس والتنافس يختلف من هذه الناحية عن الأمم التي تستقل كل منها بثقافة، وتنظر إلى الأمة الأخرى نظرها إلى العدو الغريب عنها من جميع الوجوه، وحسبنا أن الفرس أخذوا دين العرب وأن العرب أخذوا حضارة الفرس ليكون ذلك دليلا على أن التغالب باب من أبواب التعارف والاستطلاع، ولا نحسب الأستاذ طه يستطيع أن يعلل الاقتباس الذي اقتبسه الفرس من العرب أو اقتبسه العرب من الفرس بعلة الرغبة في المعرفة التي ذكرها أرستطاليس وحدها دون أن تقترن بها محرضات التغالب بين الفريقين، وإلا فما بال الرغبة في المعرفة لم تظهر إلا في تلك الأوقات التي اقترنت بالتنافس بين الغالبين والمغلوبين.»

إن تقرير عامل من عوامل التعارف أو الاستطلاع لا يمنع ملاحظة الفروق بين العصور، ولا يمنع ظهور ذلك العامل بمظاهر مختلفة في الشرق والغرب، والزمان القديم والزمان الحديث، والفروق بين عصرنا هذا والعصور الغابرة كثيرة منها:

अज्ञात पृष्ठ