فقلت يا قرة العين الساهرة وقرار القلوب النافرة شفيت نفسا أشفت على التلف، ونعشت قلبا أودى به وارد الأسف، وكفكفت دمعا ما نهنهته إلا وكف، ورفعت أملا كان في الحضيض فنال الشرف، وأحييت روحا أماتها الجفاء، ولازمها الهم فعليها العفاء، فاستدركت ما بقي من ذمائها، وبقيت عليها فضل مائها، وسقيتها فعادت مخضرة الأوراق، وأعديتها على دواعي الوجد وعوادي الفراق، من السريع
رأيت أن الوجد قد شفني ... وخانني في بعدك الصبر
فعدت بالحسنى على مغرم ... ذاب اشتياقا فلك الأجر
فقالت خلنا من هذه الأقوال، فلك المنة في كل الأحوال، وعد إلى الدار.
وانتظرنا وقت الاصفرار فأنا الليلة لك ضيوف، وعليك عكوف، وخل هذا الغلام الذي بين يديك، ليكون مع عوانا إليك دليلنا عليك، وحظنا في هذا أوفر ونصيبنا منه أكثر، فاستعد لوصالنا، فنعم البدل نحن من خيالنا فتوثقت منها بالعهود وراجعتها في الوفاء بالوعود، وأذكرتها تلك الخدعة، وأن لا تعيدها جذعة فتبسمت عن واضحات كالدرر، ونظرت عن طرف وسنان ذي حور، وقالت تلك حال وهذه حال، ولم يبق إلا اللقاء والوصال، ولقد ندمت على تلك الليلة التي ذهبت ضياعا، فقد كان الصواب أن نأتيك فيها سراعا ولكن لا حيلة فيما مضى، ومن الذي أعطاه دهره الرضى، وقد أصحب الدهر الشامس وابتسم الحظ العابس، وحضر الحبيب، وغاب الرقيب، وضحك العيش بعد القطوب، ولم تبق حاجة في نفس يعقوب، فعدت إلى الدار، أخذا في الاستعداد، جازما بحصول المراد فسألني بعض الأخوان، إذ رأى مسرعة العهود مع قرب المسير، وشاهد الطلاقة على الأسارير، فأنشدته الأبيات النوادر، التي أقر بحسنها كل ناظم وناثر.
من الوافر
أجل عينيك في عينها تجدها ... مشربة جنى ورد الخدود
وصافحني تجد عبقا بكفي ... يضوع إليك من ردع النهود
وها سمعي إليك فإن فيه ... بقايا من حديث كالعقود
وعد عن الفؤاد ففيه سر ... أضن به على الوجود
وقلت هذه جملة يطول شرحها، وليلة قد أسفر صبحها، واستدعيت المشروب والمشموم وهيأت الظاهر والمكتوم، وأعددت المنثور والمنظوم، وأحضرت أنواع الرياحين، وتفاءلت بالجمع بين الورد والياسمين، ونضدت مجلسا للشراب، ومجمعا للأوطار والأطراب، وروقت سلافا أرق من الماء وأجرى من الهواء، أحسن من الذهب، وأنور من اللهب، وأسلس من النسيم وأصفى من النسيم، وأشد إشراقا من الشم، كأنما أفرغت في الزجاج من القلب، فحببت إلى النفس: من الخفيف
أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس
وقال آخر: من مخلع البسيط
لا ينزل الليل حيث حلت ... فدهر شرابها نهار
وقال آخر: من الطويل
ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
وقد أجاد الشعراء في وصف المدامة والنديم، وأبدعوا في نعت مجالس الشراب، فجاءوا بالفظ الرائع، والمعنى السليم، وأنا أجري على عادتي في ذكر ما يخطر من ذلك بالبال، وأعود إلى شرح ما يتم لنا في ليلة الوصال، لأبي نؤاس في نعت الشراب، الفضيلة على الأواخر والأوائل، وهو الذي إذا قال سكت كل قائل، وقد اشتمل ديوانه من ذلك على الغرر. البدائع، والمعاني التي هي أعذب من جنا النحل. ممزوجا بماء الوقائع والألفاظ التي اصحب له أبيها، وأطاعه عصيها، وانثالت عليه انثيالا، وثنت أعناقها إليه إرسالا، فحكم فيها حكم العارف الخبير وأبرزها بحسن نظمه كالروض النضير، وأنا أذكر من أشعاره ما حضر، ومن أراد الزيادة فعليه بديوانه يستخرج منه الدرر، قال: من البسيط
قامت تريني، وأمر الليل مجتمع ... صبحا تولد بين الماء والعنب
كان صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على ارض من ذهب
هذا التشبيه في غاية الحسن، وقد أخذ عليه في صغرى وكبرى، ما هو معلوم عند من رغب في جداله، وما هذه الرسالة مما تحتمل الخوض في هذا أو أمثاله، وقال: من الكامل
قال أبغني المصباح قلت له اتئد ... حسبي وحسبك ضوءها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة ... كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاج وشاحا
عمرت يكاتمك الزمان حديثها ... حتى إذا بلغ السئامة باحا
وقال: من البسيط
1 / 16