وزعمت أنه كان يعظم " مكة " ولا يقول في " الطائف " إلا خيرًا ويأمر بضرب المدينة إذا عصت. وأي معصية تخشى من " يثرب " وقد دعا لها رسول الله ﷺ؟ وهل تألم لضرب لو عصت أو تعلم به إذا عوقبت؟ أفأرضها كانت تعتمد بالضرب أم جدرها المشيدة؟ أما الأرض فقد قال النبي ﷺ: " تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة " فأحسب من ضربها بعد ذلك متعديًا غير مصيب. وأما الجدر فما الذي جنين حتى يضربن؟ إنما هي حجارة وطين. ولعلك تذهب إلى أن السارق إذا نقب وأخذ متاع البيت وجبت على الحائط عقوبة. ولم يقل ذلك أحد من المسلمين. فإن عنيت بقولك إنه كان يأمر بضرب المدينة إذا عصبت، أهل المدينة، كما قال " تعالى ": " واسأل القرية التي كنا فيها "، فما الفائدة في إفرادك مكانًا دون مكان؟ لو قلت كان يأمر بضرب مكة إذا عصبت، لكنت قد ذهبت في ذلك مذهبًا.
وأما ادعاؤك أن الصعدة كانت تلد في زمانه، فليت شعري ما أولادها في زعمك؟ ومن زوجها فيما يحضرك؟ لو قلت إن الجعبة كانت تلد، لسوغ لك ذلك لأنها قد سميت أما وقد جعل السهام لها أولادًا.
قال الشاعر - ويقال إنها لتأبط شرًا:
هي ابنةُ حَوْبِ أمُّ آزَرَتْ ... أَخا ثِقَةٍ تَمْرِى جَباها ذوائبُهْ
أفتجيز عليها أن تحدث فتجلد أو ترجم؟ ما الذي أوجب زعمك أن الصعدة كان لها أبناء شهدوا " يوم الجمل، وصفين " ونفيت ذلك عن الرمح والسيف؟ لو ولدت الصعدة لولدت القوس. ولو سألت عن الحلال والحرام لم يعجز السيف المهند عن السؤال في مثل ذلك، لأنه أولى بالمعرفة وأحق. وروى أن رسول الله ﷺ قال: " الخير في السيف والخير بالسيف والخير مع السيف ".
وزعمت أن أصحابه، ﵇، كانوا يتبايعون الصمم بينهم ولا يتبايعون العرج ولا الحول. وأي قيمة للصمم فيباع؟ فإن كنت عنيت أن الرجل يضرب الرجل فيذهب سمعه بالضربة فتجب عليه الدية، فلا يمتنع مثل ذلك. ولكن منع من هذا التأول أنهم كانوا لا يتبايعون العرج ولا العمى. فليت شعري عن " همدان " - وكان فيما يقال يصحب " عليًا " منهم خل كثير بآذانهم الصمم - هل كانوا يشترون ذلك بنقد أو نسيئة؟ وقد كان " الكميت بن زيد " يوصف بالصمم وكان من الشيعة إلا أنه لم يدرك أيام " علي "، أفتراه اشترى الصمم أم أهدى له أو ورثه أم أخذه جائزة على قصيدة؟ والذي يخبر به المعقول أن " الكميت " ود أنه يبتاع فقد الصمم بمال كثير.
وزعمت أن النساء في أيام " علي " كن يتابيعن الزرق بينهن ولا يتبايعن الكحل ولا الدعج. وكذبت، ما في الأرض امرأة كحلاء تود أن عينها من الزرق. ومن ل " زرقاء اليمامة " أن تكون كحلاء وأن يذهب لها سوام ونخيل؟ وكذلك " الزرقاء أم عمرو بن الزرقاء " الذي تروى له أحاديث مع " تأبط شرًا " ويقال إنه المعنى بقول القائل:
حَمَلَتْ به في ليلةٍ مَزْءَودةٍ ... كَرْهًا وعَقدُ نِطاقِها لم يُحْلَل
والزرق من عيوب العيون ولا سيما في العرب، لأن زرقة العيون ليست غريزة تكثر فيهم، وإنما تكون في الرجل بعد الرجل.
وكأني بك يسق إلى ظنك الاحتجاج بقول الشاعر:
لا عَيْبَ فيها غير زُرقةِ عَيْنِها ... كذاكَ مُلوكُ الطيرِ زُرْقٌ عيونُها
فإنما ذكر الشاعر هذا محتالًا يحتج به، ولعله يضمر غيره.
وزعمت أنه كان لا يكره الصلاة فوق العنز إذا اتفق ذلك له. والعنز ليست مما يركبه بنو آدم فيصلوا فوق. لو قلت: غنه يصلي فوق الناقة والجمل والفرس وغيرها من المركوبات، لجوز لك ذلك لأن النوافل تصلي على أكوار الإبل وسروج الخيل، وقد يسمح بصلاة الفريضة على ظهر الراحلة والفرس عند شدة الخوف والمسايفة.
وزعمت أنه كان يأمر بقتل الهلال أين طلع. وأي ذنب أذنب إليه الهلال؟ ومن يقدر عليه من بني آدم؟ لو جاز قتله لجاز قتل القمر والشمس، ولم استحق الهلال أن يؤمر بقتله. وفي الكتاب الكريم: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ".
ولعلك تذهب إلى أنه غم ليلة في أول شهر رمضان أو في آخره فصام الناس يوم فطرهم أو أفطروا يومًا من صومهم. وأي ذنب له في ذلك؟ لو استوجب القتل بذلك لاستوجبته الشمس التي تطلع بأوار ولهيب فتشتد على زوار " البيت الحرام " حتى يهلكوا من العطش.
1 / 41