ولقد يقال إن هذه هي النظرية الموضوعية العلمية غير المتحيزة، فنجيب: هذا صحيح، ولكن حكم العلم قاس جامد بارد، ولكن حكم العقلية الروسية الأدبية دافئ حنون إنساني.
الأهمية الثالثة للأدب الروسي نتيجة لما سبق، معنى ذلك أنك ما دمت لا تستطيع أن تحكم حكما منطقيا على العدل المطلق، فلا يجب عليك أن تدين أو تعاقب.
الإنسان منا لا يحب أن يدين أو يعاقب، ومن هنا التسامح والغفران والتحمل، هذه الصفات الكبيرة الواضحة في الأدب الروسي.
لا نستطيع أن نحكم، ولا نستطيع أن ندين، إذن من الذي يدين ويحكم ويثيب ويعاقب؟ الذي يدرك الحقيقة. أين هو؟ موجود، فعلينا بالبحث. إننا تحت أيد جبرية مخفية تحت أستار كثيفة.
هلم نكشف هذه الأستار أو بعضها، إن المسيحيين يقولون: إن الله هو الحق، والمسيح هو الخلق، وهذا قول جميل، وقد كان جميع الكتاب الروس مسيحيين يدينون بهذا القول.
ولكن بصورة تأملية فلسفية جعلتهم يعترفون بأن إكبارهم للمسيح - أي للحق - «صير المسيحية عندهم أضيق من أن تتسع لهم».
ولكن ما دام الخير والشر سران في ضمير المطلق، فقد تميز الأدب الروسي بهذا الظمأ للمطلق، والهيام بالمجهول، والانطلاق وراءه انطلاقا عنيفا. وهذا الانطلاق الحر قد صير النفس الروسية كعالم متموج فيه احتمالات كثيرة، وفيه مجال للغفران، ومجال للتسامح، وهذه المجالات الرحبة خلقت شيئا من الفوضى جعلت القلب الروسي حائرا يبحث عن مستقر فلا يستطيع، فهو شارد ضائع يضرب في فيافي الأرض. ولقد قال دوستويفسكي: «إن الروسي الشريد محتاج لكل سعادات البشر لكي يعرف مستقرا أو هدوءا»، ومعنى ذلك أن الذي يعلق سعادته بجميع سعادات البشر لن يجد السعادة.
هذا التسامح العجيب هو سر سحر الأدب الروسي، فإن ذلك الأدب يأخذ الدنيا على أنها «كل» لا على أنها أجزاء ينظر لكل منها نظرة خاصة.
وهو على ذلك لا يعترف بوجود «فواصل»، وعندما تنمحي هذه الفواصل يقرب الخير من الشر، والصعلوك من الملك، والنجاح من الفشل، فلا يعود الإنسان حاقدا على الشر، ولا حاسدا للملك، ولا يائسا من الفشل، ولا فرحا بالنجاح.
وإذن فهناك «أعماق» يمكننا أن نصل إليها عندما نتسامح ونضحي ونتجاوز الحدود الفاصلة، عندما نعترف بالانسجام التام بين البشر وبعضهم وبين البشر والكائنات. على أن الإنسان حين يبدأ بالاطمئنان لهذا السر، التناسي، ويأخذ في الهدوء والتآسي، يأخذ الشك في ذات الوقت بخناقه، فيقول: «أيمكن أن يكون ذلك صحيحا؟» ولقد كان «تولستوي» يخرج وحده في الظلام، بعد أن محا الفواصل التي بينه وبين الناس؛ ليقابل العناصر مفردا، وليسأل: «هل ممكن أن يكون ذلك؟ ولماذا يا رب شئته أن يكون كذلك؟» •••
अज्ञात पृष्ठ