الإهداء
رسالة الحياة
رسالة الأدب
رسالة الفلسفة
رسالة الحضارة
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
رسالة العقل
رسالة الشباب
رسالة النقد
رسالة السياسة
अज्ञात पृष्ठ
رسالة القصة
رسالة الأدب الأوروبي الحديث
رسالة الأخلاق
رسالة الأدب الروسي
رسالة الفن الحديث
رسالة الآباء
رسالة السعادة
خاتمة
الإهداء
رسالة الحياة
अज्ञात पृष्ठ
رسالة الأدب
رسالة الفلسفة
رسالة الحضارة
رسالة علم النفس أو الشخصية وتكوينها
رسالة العقل
رسالة الشباب
رسالة النقد
رسالة السياسة
رسالة القصة
رسالة الأدب الأوروبي الحديث
अज्ञात पृष्ठ
رسالة الأخلاق
رسالة الأدب الروسي
رسالة الفن الحديث
رسالة الآباء
رسالة السعادة
خاتمة
رسالة الحياة
رسالة الحياة
تأليف
إبراهيم ناجي
अज्ञात पृष्ठ
الإهداء
إلى الصديق الحبيب ع. م
أيها الصديق الكريم، كيف أؤدي لك بعض فضلك علي؟ أتذكر كيف كتبت هذه الرسائل؟ كتبت بوحيك، وتمت في ظلال صحبتك، فمنك إليك مرجع هذه الكلمات.
أيها الصديق، لقد رضيت أن يتوج حرفان من اسمك كتابي هذا، وحسبي شرفا، وحسبي مدى العمر سعادة وهناء.
إبراهيم ناجي
رسالة الحياة
هل نتحدث عن الحياة ورسالتها أم عن الحياة ورسالة أبنائها؟
إن كان الأول فنحن أمام حديث بيولوجي هام.
نحن أمام الوجود وأسراره، أمام ميلاده ونهايته.
أمام السؤال المحير؛ كيف جاءت الحياة ولم؟
अज्ञात पृष्ठ
وأمام سؤال محير آخر: هل الحياة جاءت صدفة أم هي من عمل عاقل مبصر مدبر؟
وسؤال آخر: هل الحياة على هذه الأرض حياة خاصة بأهل هذه الأرض أم هي جزء من نظام عام، وبعض من كل؟
نتحدث عن القسم الأول من موضوعنا؛ أي الحياة وطبيعتها ومنشئها، فلا شك أننا إذا فهمنا شيئا ولو قليلا من ذلك اللغز الكبير الخفي، أمكننا أن نجيب في شيء من اليقين عن رسالة أبنائها.
إذا أقررنا نظرية داروين من حيث آليتها وميكانيكيتها اعتقدنا أن الحياة «ترس» ساعة أدارتها يد، ثم تركتها بشأنها دائرة أبدا، وتتلخص هذه النظرية في أن الحياة أسباب ومسببات وضرورات.
ولكن برجسون الفيلسوف الفرنسي الشهير، تتلمذ أولا على داروين، ثم ثار على عرشه وزعزعه. وكانت ثورته بالأخص على هذه الآلية التي بنيت عليها الحياة، وأخذ يدلل في قوة ومنطق وبيان قويم على أن وراء الحياة «وثبة» تدفعها لهدف بعينه وهو الكمال، فمن هنا يلتقي هدف داروين وهدف برجسون، ألا وهو «الكمال»؛ فالحياة تنتخب الأصلح وتدفع الأنسب إلى الأمام، وتطوي الضعيف وتهدم المتخاذل المزعزع، ولكن كلمة «انتخاب» إذا تدبرناها، عرفنا أن هذا لا يمكن أن يحدث جزافا، وإلا فأي قوة آلية يمكنها أن تميز بين الأصلح وغير الأصلح، وبين الأحسن والأسوأ، وبين الأقوى والأضعف؟
فهذه القوة العاقلة المنتخبة، إذن تعنى بالحياة لأنها تسير بها من حسن لأحسن، وتتخطى بها عقبة بعد عقبة، وتساعدها على النمو باطراد.
فهي إذن قد كفلت لها أسباب البقاء، وإلا فما معنى المحافظة على شيء زائل؟
فالمسألة ليست إذن مجرد خلق، ولا مجرد شعلة لمعت اعتباطا! وإلا انهار «المخلوق» ابن الصدفة وخبت الشعلة وليدة الأقدار! ولكن الذهن المدبر الذي خلق هذه الحياة، تفنن في الطرق التي تكفل استمرار الحياة، والتي تضمن لها البقاء.
فرسالة الحياة إذن استمرار الحياة.
وقد ضمن للحياة أن تستمر شيئان: (1)
अज्ञात पृष्ठ
قطبها ومحورها، وهو الجنس. (2)
ضدها ومفنيها، وهو الموت.
أما أن يكون الجنس محورها وعمادها وضامن استمرارها، فليس بعجيب، فقد تفننت الطبيعة في ذلك تفننا ما عليه من زيد، والمطلع على كتب علم الحياة يرى كيف تتهافت المخلوقات البدائية على التناسل تهافتا جنونيا، ونحن اليوم وإن تغيرت صور الحياة وأوضاعها، لا نزال نؤمن أن الحياة تقوم على نوعين من الحاجة، الحاجة إلى الطعام، والحاجة إلى الجنس.
أما تحصين الحياة بضدها، وهو الموت، فهذا هو المعجزة التي ما بعدها معجزة، للتدليل على أن هذا الخلق وليد قوة خارقة؛ فإن الموت يمنع الحياة من التكاثر المطلق الذي يؤدي إلى إفنائها بتطاحن أبنائها وتقاتلهم على الحطام، وبذلك يصونها.
والثاني أن تحديد دورة الحياة بحتمية الموت، هو السبب في الاختراعات بأنواعها، وفي الإتيان بأروع الأعمال في تلك الحقبة الصغيرة من عمر الزمن، وفي الجري وراء الرزق، وفي طلب النسل؛ أي في كل ما هو قيم ونافع وجميل، يمكننا من هذا أن نستشف رسالة أبناء الحياة، فالحياة تسعى إلى البقاء، وتهدف للكمال، فرسالة أبنائها أن يتعاونوا على البقاء والكمال.
وحين أقول: «أن يتعاونوا» أعني كلمة التعاون بأوسع معانيها، رسالة الحياة الكبرى هي في هذا التعاضد والتكاتف لبلوغ الغاية.
إن المجهود الفردي مهما عظم لا يقيم إلا حجرا واحدا في البناء الضخم، ولكن أبناء الحياة متكاتفين يمكن أن يبنوا كل يوم هرما خالدا.
إن العمل من جانب واحد يخل الميزان، ويهوي بكفة منه على حساب الأخرى، فاستقرار هذا «الميزان» هو الغاية التي يجب أن ننشدها حيثما التفتنا.
فإذا نظرنا إلى علاقة الفرد بباقي الأفراد علمنا قيمة هذا التوازن في العلاقات الآدمية.
وإذا نظرنا لداخل النفس وجدنا أن سكينة النفس وصلاحيتها تتوقفان على توازن القوى الداخلية، وفي المجموع، يتضح لنا أهمية التوازن الاقتصادي، فهذا هو أساس الرخاء وأصل الأمن، ومنشأ الحضارات الزاهية، ولا سبيل إليه إلا بتكاتف الأفراد معا على استقرار الميزان.
अज्ञात पृष्ठ
تلك رسالة الحياة.
رسالة الأدب
إذا رجعنا إلى اللغات القديمة، وجدنا أن كلمة أدب مشتقة من أدب المحرفة إلى آدم أي الإنسان، فتكون رسالة الأدب رسالة الإنسان، وهذا معنى في منتهى الطرافة، فإنه يحدد في الحال رسالة الأدب حين يجعلها مسألة إنسانية محضة.
فإذا رجعنا إلى هذه الكلمة في الإسلام وجدناها ترد بمعنيين؛ الأول: بمعنى التهذيب: «أدبني ربي فأحسن تهذيبي.» والثاني: بمعنى الدعوة: «هذا القرآن مأدبة الناس في الأرض.» والأصح أن هذه الدعوة، دعوة الناس إلى التلاقي، إما على مأدبة الطعام، وإما إلى غرض خلقي نبيل، وهذا ما يدعو إليه الحديث الآخر بلا جدال. أي إن القرآن يجمع الناس على مأدبة الخلق والحق.
على أن هذه الدعوة امتد ظلها ففقدت التركيز والتحديد، فصارت دعوة إلى المعارف عامة، بصفتها وسيلة من وسائل التهذيب، حتى صارت المعلومات الطبية أدبا، والمعلومات الفقهية أدبا
Literature ، ولكن العرب قد سبقوا غيرهم في هذا؛ سارعوا فحددوا موقفهم من كلمة الأدب، فقسموه إلى أدب النفس «التهذيب» وأدب الدرس «المعرفة»، فإذا تركنا أدب النفس جانبا، والتفتنا إلى أدب الدرس الذي أخذ بتطور العلوم والمعارف والثقافات يطغى على النصف الأول لمعنى كلمة الأدب حتى كاد أن يمحوها من الأذهان، وجدنا سؤالا واحدا يصاحب هذا الظل الممتد، وهو هذا؛ هل النثر والشعر والتاريخ جميعا تستحق أن تسمى أدبا؟ بالطبع كلا. يجب أن يقتصر الأدب على لون خاص، ذلك هو المأثور منه، بعبارة أخرى: الذي له طابع البقاء
permanence
وماذا نسمي ذلك الأدب الخالد؟ نسميه الأدب الرفيع، ويمكن أن ينضم تحت لواء ذلك الأدب الرفيع الآثار الباقية من الموسيقى والغناء والعمارة، ما دامت هذه كلها من أصول واحدة، لا تختلف عن الأدب البياني إلا في كيفية التعبير، وهذا «الأدب الرفيع» هو هو بعينه ما أسماه أهل الغرب «الفن»، وهي كلمة حديثة جدا في اللغة العربية، وهي في القاموس تعني الأسلوب أو الطريقة أو الإتقان أو التنويع، والفنان هو حمار الوحش لأنه يجيد فنون العدو، والمفن هو البارع الكثير الحيل.
وهنا يتناول أهل الغرب مسألة الأدب من حيث كونها «فنا» فيقولون: إن رسالة الأدب كرسالة الفن «البحث عن الجمال».
فالأدب على ذلك هو الفرع من الفن الذي يصل بنا عبر قنطرة الكلمة إلى حيث نرى ونؤمن بالجمال، ومن هنا يحسن أن نعرف الأدب تعريفا قويا ذا شعبتين:
अज्ञात पृष्ठ
فهو من ناحية صلة بين الواقع والخيال، ويمكن للاثنين أن يلتقيا في المعنى إذا اعتبرنا الطبيعة في نفسها حقيقة جافة تحتاج إلى مترجم وشارح ومتخيل هو الإنسان.
ولكن؛ هل كل إنسان يستطيع أن يكون صلة بين الطرفين؟ أين هو الذي يحسن الوساطة ويجيد النقل والترجمة والشرح والتفسير والإخراج؟ وأين هو الذي يجيد التوصيل، مضافا إليه شعوره الذاتي، وانفعاله أمام التجربة، وإحساسه بالجمال المنطوي كما هو بعصبه ولحمه ودمه؟ يا عجبا! وهل هذه الطبيعة محتاجة إلى شرح؟ الجبل، السماء، الصحراء! أجل! إن الأديب هو الذي يخلع على هذه وتلك الحركة والحيوية ويلبسها رداء الخيال، ويغمرها بالعاطفة، فلو كان الكلام جميلا بذاته ما كنا في حاجة إلى الغناء، ولو كان المشي جميلا بذاته ما كنا في حاجة إلى الرقص، ولو كانت الطبيعة جميلة بذاتها لاكتفينا بنقلها بالفوتوغرافيا!
ولو كان في تساقط المطر لحون كاملة، ولو كان في همس النسيم نغم تام، لما احتجنا إلى الموسيقى! أكرر فأقول: إن الفنان يشيع في هذه العناصر الطبيعية العاطفة والخيال والحركة والحيوية ويغمرها بالألوان، أو يسبغ عليها عطورا خاصة، وكل الفنون مشتركة الأصول في هذا؛ فنحن نقول: بيت الشعر، وألوان الموسيقى، وموسيقى الألوان، ثم نحن في نفس الوقت نجمع الشعر إلى الموسيقى إلى الرقص لنجمع العاطفة إلى الفكرة إلى الحركة إلى الخيال إلى الحياة.
أما العاطفة فهي الوقود الذي يغمر العمل بالضوء، فهي الإشراق المنبعث من الفن، أما الفكرة فهي عمل العقل أو الصنعة، وأما الحركة والخيال فهما صفتان من صفات الحياة، ومنها يمكن أن يعرف الأدب بأنه: «التصوير الخيالي لحقائق الحياة»، «أو المحاكاة الخيالية لحقائق الحياة».
ولما كان من آيات الحياة التكرار والعودة؛ فإن القلب يكرر نبضاته، والقدم تكرر خطوها، والمواسم تتعاقب، والطيور تهجر ثم تعود، فإننا نجد في طبيعة الفن - مهما اختلفت أنواعه - الخطوات المعادة، والنماذج المتكررة، واللحن المتجدد، والخطوط المتساوقة، هذا «الإيقاع»
rythm
هو المخدر الأول الذي نامت عليه أعصابنا ونحن في المهد إذ تغنينا أمهاتنا.
وهو هو بنفسه الذي يأسرنا ونحن كبار، فيخدر حواسنا فنستسلم للشاعر أو الموسيقي أو الرسام لنتركه يتصرف بنا كما يشاء بعد هذا المخدر الطبيعي الأصيل.
ومن هنا ندرك لماذا قد نتأثر بالشعر حين يلقى، في غير لغتنا، وبالموسيقى ونحن لا نلم بأصولها!
الوظيفة الأولى للأدب أن يكون مصورا حقيقيا خياليا؛ أي بعبارة أن يعبر عن الواقع، بالمجنح الطائر بواسطة العاطفة والفكر.
अज्ञात पृष्ठ
أما الوظيفة الثانية فهي أن يمد الأديب يده إلى دولاب الحياة الدائر، فيوقفه، بخيالاته وتأملاته إذا شئت، ليقتطع منه منظرا أو فكرة أو حادثة، يستخلصها ليختزنها في عقله الباطن ليخرجها يوما ما إلى العالم مضيفا بذلك للكواكب كوكبا جديدا إلى سماء الخلود
au ciel de fixes . ولكن من هذا الأديب الذي يستطيع أن يمد يده إلى الزمن الدائر فيقتطع من عجلته شيئا ثابتا خالدا؟ ثم من هو ذلك الذي يستطيع أن يميز في الفلك الدائر السريع ما هو جدير بالاستبقاء؟
الصفة الأولى في ذلك الأديب هو ما نسميه تجاوزا شدة الحساسية، ويسميه علماء النفس التماس الواعي مع الحياة والأحياء، والتماس الواعي معناه أن مهمازا يشك قلبه ويفتح عينه ويلهب حسه ويوقظ روحه، فإذا كانت الحياة هي «الوادي الذي تنضج فيه الأرواح» على رأي «كيتس» فإنها إنما تنضج عن طريق الألم وعن طريق الدموع، عن طريق الشوك، عن طريق التماس الواعي الذي أشرت إليه. على أن الأديب الذي أشير إليه يمتاز بالبصر، بل بالبصيرة، ويسمى بالفرنسية
un visionaire
أي صاحب رؤيا، وهي كلمة ملائمة جدا، ومعناها أنه رجل يبصر وراء الأشياء حقائقها البعيدة، أو يراها مكبرة، أو يراها مغمورة بأضواء خاصة، أو بعبارة أخرى: ذات رموز ومعان وإيماءات وأخيلة تهيب به وتدعوه، هذه الدعوة هي التي أشرت إليها في أول الحديث، والتي هي العنصر الأول في الأدب لفظا ومعنى.
أما استجابة الأديب على هذه الدعوى فكيف تكون، تكون بصرخة ذات لون من ثلاثة: دهشة أو دمعة أو ضحكة.
فنحن نرى إذن أن هناك بصيرة، فتماس واع، فنداء، فصرخة، فاستجابة. وهذه الاستجابة هي ما نسميه «اللفتة الذهبية» وهي كلمة ملائمة جدا، ولو حللناها لوجدناها تعني أن العاطفة تلجأ إلى الفكر مستعينة به على كيفية الاستجابة. كيفية الاستجابة أو بعبارة أخرى: «عملية الأدب» مسألة جديرة بالنظر؛ لأنها نهاية المرحلة وثمرة المجهود، ومما هو واضح أن هاته الرواية من بصيرة إلى صرخة إلى التفاتة ذهنية، والتي يمكن أن نطلق عليها اللحظة الانفعالية، هي في الواقع مشروع رواية تتطلب الإخراج والظهور على المسرح، رواية غايتها الوضوح، لتجد سبيلا إلى الإقناع والمشاركة والتمتع بالتلاقي مع الآخرين في صعيد وجداني واحد.
فمن ثم يتضح لنا أن عملية الأدب هي: «التأثر بتجربة ما، تأثرا خاصا والامتلاء بها امتلاءا عنيفا، يلح إلحاحا باطنيا في إبراز هذه التجربة مغمورة بالضوء الذي أبصرته فيه، جالسة على عرش من الشعور الذي اكتشفها، متكلمة بلغة خاصة تحمل تفسيرا خاصا، وشرحا خاصا وسبيلا للإقناع خاصا يجعل المشارك في التجربة يرى ويفهم ويؤمن بالجمال الكامن خلف كل شيء في الوجود من الصغير إلى الكبير.»
فالأدب إذن ومضة من ومضات البصيرة تدعو إلى التعبير، ورسالته السمو بالنفس عن طريق الجمال.
فجوهر الأدب إذن في التعبير، فكيف تعبر تعبيرا تكون آيته تأدية رسالة الجمال؟
अज्ञात पृष्ठ
يمكن أن نلخص السلسلة وحلقاتها كالآتي؛ تجربة - بصر - بصيرة - صرخة - استجابة - اختزان في العقل الباطن - ترجمة - تفسير - ترتيب - إخراج - توصيل، ويمكن اختصارها في تجربة - تعبير - توصيل.
فلننظر الآن في التجربة الأدبية؛ التجربة إما أن تكون حادثة أو فكرة أو منظرا، ولكنها على كل حال، تجربة غنية بالأضواء والصور والرموز، تجربة متعددة الأجزاء، كل جزء له قيمته من حيث إنه وحدة في كل متناسق، وزيادة على ذلك فعاطفته التي تثير التجربة عاطفة من لون خاص، فالعاطفة تتميز بالصدق الذي هو اقتناع قلبي مرتفع على قاعدة من الحماسة القوية، فليست العاطفة الصادقة إذن انفعالا متصنعا ولا نواحا ولا ندبا ولا عويلا، بل هي نوع من الانفعال المكظوم، نوع من الألم الجبار الذي أمكن للنفس القوية مهادنته وحبسه في جو من الهدوء، ومن ثم تكون نوعا لا يستثير الألم والعذاب، وإنما تكون ضربا من العزاء والشقاء، ولقد قال «كينس» معاتبا نفسه وموضحا معنى العاطفة العبقرية: من أنت؟ أنت حالم تعيش في حمى، إنك تثير آلام الناس وسخطهم، ولكنك ليس لديك البلسم الذي تلقيه فوق متاعبهم وآلامهم. ما أضيعك!
هذه العاطفة العميقة هي بمثابة اللهب الذي يضفي على التجربة الظلال والأضواء والأصباغ، وهو الذي يخلع على التجربة النبض والحياة، وقد تقول بالأصح: إن العاطفة العميقة تثير الخيال الذي هو في الواقع اليد الساحرة التي تقوم بكل هذا.
أما الشرح السيكولوجي لهذا، فهو أدق وأكثر توضيحا، وخلاصته أنا نعيش في ثلاثة عوالم؛ العالم الخارجي، والعالم الشعوري، والعالم اللاشعوري؛ أي عالم الحقيقة وعالم العاطفة وعالم الخيال، وهذه العوالم في دنيانا العملية تكاد تكون منفصلة تماما، أو على الأقل بينها اتصال غير كامل، أما العالم الخارجي فمنه المادة التي تعطينا التجربة، ففي لحظة الانفعال تنزاح الفواصل بين عالم المادة، وعالم العاطفة؛ أي يزول ما بين الوعي وغير الوعي، ففي هذه اللحظة المتاحة تستوعب التجربة صورة موحدة، وأنموذجا كاملا، ولا تلتقط مهلهلة الأجزاء مبعثرة الأشلاء، ولا مبتورة التفاصيل، فإذا انزاحت الفواصل بين الشعور واللاشعور، فإن اللحظة الانفعالية تصير حالة انفعالية ممتدة الزمن، وزيادة على ذلك فإن الانفعال يستوعب التجربة كخليط معقد الجوانب، وهذا ما يجعله مثيرا أو مشتعلا، ويجعل الأديب متوثبا لاستيعاب الانفعال والسيطرة عليه، فهنا يختلط الواعي بالباطن، فيطفو الأخير بأحلامه وضبابه وخيالاته في الشعور، وفي هاته اللحظة نحس بالحاجة إلى التعبير، ولكن الشعور تحليلي في نزعته، بعكس اللاشعور فهو تركيبي، فعلى ذلك يحيل الأول التجربة إلى الثاني الذي يعيد تركيبها، على أن الثاني إذ يعيدها، إنما يعيدها ومعها فروق وتدرجات وألوان وأصباغ وأضواء وظلال كالآفاق التي تبدو في الحلم سواء بسواء، وذلك لأن الباطن طبقات وإمكانيات، وهو يعطى بالتدريج ويغري باقتحامات جديدة، فالتجسد الأول للتجربة - أي التجسد الشعوري - تضخم متعب قد يؤدي إلى الانتحار أو الجنون.
أما التجسد الثاني فهو مخفف تدريجي يطفو في وسط الألوان والأضواء، وفيه شعور كذلك بالتحرر من قيود العرف، ولذلك يكون عمله في الأغلب في هدوء الليل وبعيدا عن الناس. على أن هذا التحرر - أو بالأصح اختلاط الواعي بالباطن واتفاقهما على كيفية التعبير - يصاحبه امتزاج المدركات الحسية جميعها، من حس إلى فكرة إلى عاطفة، ففي عالم الأدب يمتزج البصر بالوجدان بالفكرة، فنقول: عينان فرحتان، امتزاج حس ووجدان! والنحت حسي لمسي فقط، والموسيقى سمعي عاطفي، ولا يستثار الإحساس بالجمال إلا بالتئام الوجدان مع المدركات الأخرى.
يتضح من هذا أن العمل الفني مدين في جزء كبير منه للوعي والشعور، ولذلك يتبين أن العبقرية والقول بالسليقة وحدها لإنتاج العمل العبقري، قول على غير أساس.
ويتضح من هذا التحرر السيكولوجي أن المسألة محاولة إزالة فواصل، فمن الباطن الواعي إلى الخارج وبالعكس، معنى ذلك أنها عملية «إفضاء»؛ أي توصيل، وبعبارة أخرى: الخروج عما هو شخصي إلى ما هو إنساني وهذا هو غرض الأديب ورسالته ، ولكن ما دام اللفظ هو الوسيلة لهذا الإفضاء فما مركزه في هذه الحلقة «اللفظ» عليه أن يؤدي الصورة مستعينا بالخيال والرمز والموسيقى.
أما الموسيقى فقد سبق أن قلنا: إنها العصا السحرية، والوسيلة للإقناع القلبي الذي تحدثت عنه.
وليس أبدع من لغتنا العربية في التحدث عن اللفظ الفني: فيقال مثلا: إن المجاز «هو تجاوز اللفظ إلى ما لم يقصد به القاموس.»
ثم تقول كتب البلاغة: إن الكناية لون من ألوان التشبيه المركز، منه التلويح والإيماء والرمز، حسب ظهور العلاقة أو النسبة أو اختفائهما.
अज्ञात पृष्ठ
أي إن العرب أوصوا - للوصول إلى قمة البلاغة - باستعمال روح اللفظ لا ذات اللفظ، فسبقوا المدارس جميعها، من رمزية وغير رمزية مما سمعنا عنه في كتب الغرب. هنا أقف لأتحدث عن «روح اللفظ»: إن اللفظ المباشر قد يكون جميلا فاتنا، رائع الجرس متسق الرنين، كما نرى هذا على أحسنه عند «البحتري» في أدبنا وفي «سوبنبرن» عند الإنجليز، فتكون الموسيقى رائعة وآسرة، ولكني أحذركم من هذه الموسيقى التي تعتمد على اللفظة المباشرة، فإنها خداعة، تستولي علينا كأننا عدنا أطفالا في المهد.
أما استعمال «روح اللفظ» أو استعمال اللفظ بموجباته وظلاله وتأثيراته، فهذا هو الذي يحدث ما يسمى الموسيقى الباطنية، هذه الموسيقى - هذا الهمس الداخلي - هذا الإيحاء البليغ، هو سر الرمزية وقوتها وثباتها، والأمل في أن تصير المدرسة الوحيدة الباقية في المستقبل.
إني أتحدث عن الأدب عامة بقسميه من نثر ونظم، ولكني أقول: إن هذه الصفات التي شرحتها تنطبق بالأكثر على الشعر: الذي هو أعظم الكلام في أعظم مواضعه.
أما النثر فقد يبلغ مبلغا كبيرا من الإجادة، ولكنه سيظل دائما معتمدا على المنطق، والقياس، والوضوح والهدوء، والاتزان، وسيخلو من مميزات الشعر كالعاطفة المحضة، والغموض الجميل، والحماسة المركزة، والإيقاع المرقص، واللفظ المجنح الموحي.
رسالة الفلسفة
ساعة مع سقراط
لم يعن سقراط بتدوين آثاره الفكرية بين دفتي كتاب؛ لأن عصره لم يكن عصر كتب بل عصر مسرحيات؛ ولأن انشغال العباقرة بالقيام برسالتهم قد يصرفهم عن تدوين ما في سجل حياتهم من أعمال ، ولأن للعباقرة شخصيات قد تفوق كل ما يكتب عنها، بل إن القلم ليخجل عندما يجد نفسه عاجزا عن وصفها قاصرا عن الإحاطة بذلك الشيء المجهول الذي يكون الشخصية العبقرية، ولكننا لحسن الحظ نجد في كل زمان من المؤمنين بهذه العبقريات من يلذ لهم أن يعيشوا في ظلالها ليسجلوا كل كبيرة وصغيرة فيها، ولقد ذكر المؤرخون شبها كبيرا بين «سقراط» الأثيني و«جونسون» الإنجليزي، فقد وجد «سقراط» في تلميذه «أفلاطون» شارحا أمينا ومريدا ذكيا، كما وجد «جونسون» في صديقه «بوزويل» ظلا مخلصا حريصا كل الحرص على تدوين كل شاردة وواردة في حياة صاحبه وأستاذه، ولولا ذلك اندثرت معالم سير العظماء، وضاعت التفاصيل الدقيقة التي تدل أبلغ الدلالة على عبقرياتهم، والواقع أن هذه التفاصيل اليومية لأساليب العيش قد تكون رائقة فاتنة في أصالتها أو شذوذها.
ولقد يكون من الطريف أن يتناول أكثر من واحد حياة العبقري، فيصورونه من زوايا مختلفة، وهذا بالضبط ما حدث لسقراط؛ فقد تناوله «أفلاطون» تناولا أدبيا وفلسفيا، وقد تناوله «أرستوفان» في كوميدية السحب تناولا يدور حول شخصيته التعليمية، وتناوله «زينوفون» في مذكراته تناول المحامي الذي يدافع عن موكله، أما «أفلاطون» فقد جعل من محاوراته التي تدور حول «سقراط» جدلا مثاليا، يرفع سقراط إلى الذروة من الحكمة والتفكير، حتى اتهم «أفلاطون» بأنه يلبس قناع «سقراط»، وأن هذه الروائع التي تتسلسل في المحاورات إنما هي أفكار «أفلاطون» لا أفكار «سقراط»، أما كوميدية السحب عند «أرستوفان» فقد حضرها «سقراط» بنفسه، وكان قد قارب سن الخمسين، فلم يضايقه أن يتندر به «أرستوفان» وتعمد أن يقف في مقصورته ليلة التمثيل، ليرى الناس حقيقة ذلك الذي تندر به «أرستوفان» على المسرح، ولقد ظل صديقا لأرستوفان وكانا يشاهدان معا في ألفة ووئام.
على أن هذه المسرحية كان لها أثر بالغ في أيام «سقراط» الأخيرة، فقد رسب في الأذهان عامة وفي عقول المحكمين خاصة فكرة خاطئة مشوهة عن «سقراط» وتعاليمه أساسها هذه المسرحية التي لم يقصد بها «أرستوفان» غير التندر والفكاهة.
أما «زينوفون» فقد كانت رسالته التي يدافع بها عن سقراط دفاعا يجرده به من كل عبقرية وأصالة ويضعه في مصاف الرجال العاديين الطيبين الذين يعيشون ويموتون وهم لم يأتوا، ولم يحاولوا أن يجيئوا بجديد. فيتعين إذن على الباحث أن يقرأ كل هذا معا: محاورات «أفلاطون»، ومذكرات «زينوفون»، ومسرحية السحب لأرستوفان؛ وذلك لأن «أفلاطون» وصاحبه لم يعاشرا سقراط إلا في المرحلة الأخيرة من حياته، بينما كانت معرفة «أرستوفان» به معرفة تتناول شطرا من حياته لم يره الأولان وإنما سمعا به.
अज्ञात पृष्ठ
على أننا لا نشك في أن محاورات «أفلاطون» هي أهم مراجعنا عن «سقراط»، واتهام «أفلاطون» بأنه هو كاتبها إذ تخيلها غير قائم على حقيقته، فإن الأجزاء الأولى من المحاورات يتوسطها سقراط، والتي تليها لا نراه - أي سقراط - وإنما نسمع عنه، وفي الأخيرة لا نسمع أفلاطون يتكلم، فأفلاطون إذن لم يكن في حاجة إلى التخفي وراء قناع غيره.
نحن لا نعرف بالضبط متى ولد سقراط، ولكننا نعرف تاريخ المحاكمة الشهيرة، ونعرف من ذلك أن سقراط كان إذ ذاك في السبعين من عمره تقريبا. فنستطيع أن نستنتج أنه ولد في أثينا سنة 469 قبل الميلاد، ويمكن تقسيم حياته إلى مراحل ثلاث: من ميلاده حتى الحرب بين أثينا واسبارطة، وفترة الحرب، ثم أخيرا بعد هذه الحرب حتى محاكمته ووفاته. ويمكن أن نسمي المرحلة الأولى مرحلة التعلم، والثانية مرحلة الوحي، والثالثة مرحلة الرسالة، ولما كانت حياة العظيم وثيقة الصلة بما جرى في وطنه، فإن المرحلة الأخيرة أهم المراحل في رأينا؛ لأن «سقراط» اشترك أثناءها اشتراكا فعليا في شئون الشعب اليوناني وحكومته وسياسته، وهذه هي المرحلة التي لازمه فيها «أفلاطون»، وعنها وعنه كتب بيقين ووضوح وإيمان، في هاته المرحلة اختلط سقراط بالشعب وانتقد الحكومة حينا، وانتصر لها حينا، وخالفها حينا، وتعرض لسخطها أخيرا، ثم في الحرب هو جندي من جنودها، وهو في السلم أول المدافعين عن قوانينها، ولو كان فيها ما يمسه هو بسوء. ولقد عاش «سقراط» في عهد «بركليز» العظيم حين كانت أثينا ملتقى الثقافات، وحين كانت ملتقى المعارك العلمية والفلسفية بين الشرق والغرب، وحين كانت الحكومة ديمقراطية تمثل الشعب تمثيلا صادقا، وحين دارت الأيام بعد موت «بركليز» وانتهى الصراع بين اسبارطة وأثينا بانهيار أثينا، ثم أخيرا شهد «سقراط» عودة الديمقراطية لتحاكمه وتحكم عليه بالموت! في كل عهد من هذه العهود كان لسقراط أثر، ومما لا يقبل الجدل أنه كان وثيق الصلة بالدوائر المختلفة ومعروفا من جميع الطبقات، ولا جدال أنه أصاب شهرة واسعة من سن باكر إذ ليس من المعقول أن يجعله مؤلف مشهور مثل «أرستوفان» محورا لمسرحية من مسرحياته إذا لم يكن معروفا لأهل أثينا جميعا. ولقد دافع عن نفسه بأن ذكر أسماء شيوخ من شيوخ أثينا - عظماء وأثرياء - بينهم وبينه صلة وثيقة ومودة متينة، منهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«كريتو» الثري المشهور. على أن أهم صلاته بالشباب، التي أثرت في محاكمته فيما بعد هي صلته التاريخية ب «السبياديس». كان هذا الشاب من أجمل وأنبل وأشجع شباب أثينا، ولا شك أن قراء التاريخ يذكرون كيف اتهم «السبياديس» بالكفر والتندر بالديانة اليونانية، وكيف قدم للمحاكمة فهرب إلى اسبارطة وانضم إلى جيوشها، وكان السبب في هزيمة أثينا، ودارت الأيام فرجع إلى وطنه ولكن وطنه جازاه أقسى الجزاء، فختم أيامه في النفي والتشريد. كانت الإشاعة التي تدور حول اسمي «سقراط» و«السبياديس» توحي بأن العلاقة بينهما أكثر من علاقة أستاذ بتلميذ وأن ما بينهما تطور إلى مسألة جنسية بحتة، فإذا ما سمع بهذه الإشاعة أجاب ساخرا: «حقيقة، إني أستاذ في فن الحب»! ولكن الذين يعرفون استقامته الصارمة يدركون بعده التام عن الشهوات والصغائر.
ولد سقراط من عائلة طيبة، ويستدلون على ذلك من اسم أمه وأبيه؛ فقد كانت للأسماء في تلك العهود دلالة على المنبت والأرومة، ولم يكن سقراط فقيرا ولا صعلوكا، ولكنه اختار لنفسه التقشف والحرمان؛ لأنه وجدهما سبيله الحقيقي إلى الثراء النفسي، وكان اسم سقراط مقيدا ضمن جنود الجيش، ويجري عليه كما للجنود دخل ثابت، أما في آخر أيامه فقد أدركه الفقر حقيقة، ويظهر أن ذلك من الفقر العام الذي ضرب أطنابه في أثينا، في المرحلتين، مرحلة الشباب والكهولة، وعلينا أن نتحدث عن: (1) شكله وزيه. (2) طباعه. (3) مدرسته. (4) ثقافات أثينا وموقفه منها. (5) ديانته وديانة أثينا. (6) المعجزات والعلامات الخفية التي نسبت إليه.
كان «سقراط» كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، وكان في مشيته مشية البطة. أما عن طباعه فأول ما يذكر أنه كان دائب السخرية، لا من الناس فقط بل من نفسه، إذ كان يؤمن بأنه جاهل كباقي الناس، ولكن الفرق بينه وبينهم أنه يبحث عن الحقيقة ولكنهم لا يبحثون، وكان دأبه أن يعلم الناس كيف يعامل الواحد منهم غيره وكيف يعيش في الوسط الذي يحيا به، ولم تكن له مدرسة خاصة، فقد كان يسمي تلاميذه «الرفاق» ولا يتناول أجرا، وكان على زهده وتقشفه، متين البناء قوي العضلات، يجاري أصحابه أحيانا في الشراب، ولكن الخمر لم تكن لتؤثر به مطلقا، ويمكن أن نلخصه في بضع كلمات: لقد كان طاغي العاطفة، طاغي التفكير، متصوفا، ساخرا. أما عن التصوف، فقد كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها هواتف، وكانت لهذه العلامات صفات الإنذار والتحذير، أما الغيبوبة فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرقت إحدى نوباتها أربعا وعشرين ساعة، على أن هذه العلامات كانت تبدو له على غير انتظار فيقف مصغيا إلى صوت بعيد، وقد كان معتادا أن يطيع نواهي تلك الهواتف، ولم يعصها إلا مرة واحدة كانت السبب في الكوارث التي مرت به في أواخر أيامه؛ فقد حذرته هاته الهواتف من الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام فلم يصغ إليها، وكانت العاقبة وبالا.
هل كانت لسقراط «ديانة»؟ فمن الواضح أن عقلا كعقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة - دينية أو غير دينية - بدون مناقشة، فكان عليه أن يناقش كل شيء، فلم تخل ديانة أثينا من نقاشه العنيف، وقد كانت المعتقدات السائدة في أيامه ثلاثة: (1) الأورفية: وهذه مبنية على الاعتقاد بأن النفس ألوهة منفية، ومشتق من ألوهة كبرى، وأن هذه الروح أو الألوهة الصغرى منفية في أجسادنا، وعلينا أن نتعهدها بالتطهير والابتهال حتى تعود إلى الأصل مطهرة صافية، ولكن كلمة «الروح» لم ترد على لسان الأوروفيين، وإنما كان الأوروفيون يسمونها
psyche
أو النفس، ولم يكن لها صفة غير أنها ألوهة مشتقة من ألوهة أعلى، وتتسم بالإدراك والوعي بصفة عامة إدراكا واعيا مشتركا في جميع الناس على السواء. على أن سقراط - على قبوله بمبادئ هذه الديانة - لم يعتنقها كما هي، وخاصة لأنه أبصرها تضمحل وتستحيل إلى حلقات «ذكر» وابتهالات، أما الديانة الثانية السائدة في أثينا فقد كانت قائمة على الأساطير وأقوال الشعراء، ويظهر أن سقراط أبدى رأيه علنا في قيمة هذه الأساطير، ومن المهم أن نذكر أن من بين أسباب محاكمته «الكفر بهذه الديانة وبحثه عن أرباب جديدة»، فلما ووجه بهذه التهمة لم يزد على أن يسأل بدوره «ومن هم أربابكم»؟ فلم يردوا على سؤاله!
أما الديانة الثانية: فالديانة العلمية الفلسفية، وليس خافيا أن أول من بحث في طبيعة الكون ووجود الخالق وفي علاقة المخلوق بالكون وخالقه هم فلاسفة اليونان من قبل سقراط، وقد انقسموا مدرستين: شرقية على سواحل آسيا الصغرى، وغربية في جنوب إيطاليا، وقد كانت أثينا ميدان الصراع بينهما.
قرر الفلاسفة مبدئيا وبلا جدال أن للكون خالقا، فخرجت هذه النقطة من دائرة النقاش، ولكن بقي أن يبحث الفلاسفة في كنه هذا الخالق، ثم عن علاقة المخلوق به، ثم عن علاقة الكون بالاثنين؛ أما المدرسة الشرقية فكانت مدرسة موحدين، غير أنهم قالوا: إن النفس نفس أو هواء مشتق من هواء عام يعود بالموت إلى أصله، وزادوا على ذلك أن الكون أسطوانة مسطحة محمولة على الهواء. وكان في الغرب مدرستان: مدرسة «فيثاغورث» التي بنت بحثها على الرياضة، وابتدعت أهمية الأرقام، واكتشفت كروية الأرض، وأنكرت أن تطفو على هواء؛ لأنها معلقة في الفضاء، وأما المدرسة الثانية فمدرسة أخرى تقول: إن الخالق من نار وهواء وماء، وهذه مدرسة «أمبودكليس».
كل هذه المذاهب لم تقنع سقراط، وإن كانت قفزت بالعلم من الناحية الإسترولوجية إلى الناحية البيولوجية ثم إلى الناحية الرياضية، غير أن اثنين فقط هما: «بارمينيدس» و«زيتون» هاجما هذه الترهات حول صفة الخالق، إن هذا التقلب والتغير ليسا من صفات الخالق وإن الخالق يجب أن يكون «مفردا ثابتا مطلقا لا يتغير».
अज्ञात पृष्ठ
ساعة مع أفلاطون
قبل أن نتحدث عن «أفلاطون» نود أن نعود بالقارئ مرة أخرى إلى «سقراط» حتى يمكن لنا أن نلقي ضوءا جديدا على «أفلاطون».
يمكننا أن نقسم حياة «سقراط» إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى:
من مولده حتى قامت الحرب بين أثينا واسبارطة وجند فيها «سقراط».
والمرحلة الثانية:
فترة الحرب التي أنهكت أثينا وعصفت بقوتها وجرتها إلى الاضمحلال.
ثم المرحلة الأخيرة:
وهي مرحلة الرسالة، أو المرحلة التي اشترك فيها اشتراكا فعليا في أمور مواطنيه، وهي ولا شك أهم هذه المراحل شأنا.
المرحلة الأولى: يهمنا في هذه المرحلة أن نتكلم عن شكله وزيه، طباعه، وأخلاقه، العلامات الخفية، مدرسته، ثقافات أثينا وموقفه منها، ديانته وديانة أثينا.
अज्ञात पृष्ठ
أما شكله، فقد كان كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، كما كان متين البناء قوي العضلات.
أما طباعه في هذا العهد، فتلخص في أنه كان يشعر بجهل الناس، وبما في نفوسهم من نقص، ولذلك كان دأبه السخرية من جهلهم، كما كان يسخر من نفسه، ولم يكن في هذا كاذبا، بل كان يؤمن بأنه هو أيضا يبحث عن الحقيقة، فهو إذن لا يفضلهم في شيء غير في أنه يبحث وهم لا يبحثون، وهذه تبين لنا أنه كان رجلا.
كان يعلم الناس كيف يعامل الفرد غيره، وكيف يعيش في الوسط الذي يحتويه، ولذلك نتساءل: هل كانت له مدرسة؟
لقد كانت له مدرسة من طراز خاص، فقد كان يسمي تلاميذه رفاقا
associates
وكان لا يتقاضى أجرا، وفي هذا تميز عن السوفسطائيين.
ولقد اتهم في محاكمته بأنه كان مفسدا للشباب، ولكنه دافع عن نفسه بأن ذكر شيوخا من شيوخ أثينا بين عظماء وأثرياء، كانت بينه وبينهم صلة وثيقة، على أن أهم صلاته بالشباب، والتي أثرت في محاكمته وأدت إلى الحكم عليه؛ هي صلته بالسبياديس وكان من أجمل شباب أثينا وألمعهم وأشجعهم، وكانت الإشاعة التي تدور حول علاقته بسقراط أكثر من أن تكون علاقة بين أستاذ وتلميذ؛ بل تخطتها إلى مسألة جنسية بحتة. وكان «سقراط» إذا ما سئل عن ذلك أجاب ساخرا على طريقته: إنني حقيقة أستاذ في فن الحب، ولكن الذين عرفوا استقامته الصارمة كانوا يوقنون ببعده التام عن الشهوات والصغائر.
ويمكننا إذن أن نلخص شخصيته إذ ذاك، بأنه كان رجلا طاغي العاطفة، طاغي التفكير، ساخرا، متقشفا، متصوفا.
وماذا نعني بالتصوف؟
نعني بالتصوف، أنه كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها «هواتف»، ولم تكن هذه الهواتف إيجابية ولا موجهة لناحية ما، وإنما كانت علامات مانعة تنهاه عن المضي في سبيل بدأ السير فيه، أما الغيبوبة، فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرق فيها مرة أربعا وعشرين ساعة، ولكن العلامات الخفية كانت تعرض له على غير انتظار، فيقف، كأنه يصغي أو يستمع إلى صوت غامض ولكنه واضح له. وكان يلبي نواهيها، والمرة الوحيدة التي خالف فيها أمرها حدثت في أواخر أيامه، وقد كان مندفعا إلى الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام، وكانت عاقبته وبالا كما سنرى.
अज्ञात पृष्ठ
والكلام عن التصوف؛ يدعونا إلى أن نتكلم عن ديانته؟
من الواضح أن عقلا كبيرا مثل عقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة - دينية أو غير دينية - بغير مناقشة. ولهذا فقد كان عليه بالطبع أن يناقش الديانات التي كانت شائعة في أثينا في ذلك الوقت ليتخير الأصلح منها.
ولقد كانت الديانات السائدة في أثينا في أيامه ثلاثا: الديانة الأورفية، والديانة العلمية الفلسفية، ثم الديانة القائمة على الأساطير، وهذه كانت أكثرها انتشارا، غير أنه يمكننا القول، أن هذه الديانات بمذاهبها المختلفة لم تقنع سقراط فهجرها برما بها، وشق طريقا جديدا هو «أن يعلم الناس كيف يمارسون حياتهم وكيف يعاملون غيرهم»، ووجد أن هذه أفضل ديانة «مؤقتا».
ويمكننا أن نقرر كذلك أن «سقراط» أول من اعتنق مبدأ «خلود الروح»، وأنه أول من ذكر كلمة الروح
soul ، وأنه أول من جعل لها معنى بأنها الشيء الذي يحتوي صفاتنا الذهنية والخلقية، ولذلك سميت فلسفته بحق «الفلسفة الأخلاقية».
وقبل أن ننتقل إلى المرحلتين الثانية والثالثة من حياته، يجدر بنا أن نقول: إن وقت هذه المرحلة الأولى قد يتفق مع الوقت الذي حدثت فيه معجزة دلف قبل حرب البلوبونيز بين أثينا واسبارطة، فقد اجتمع أهل اليونان في معبد دلف لتحية الأرباب وسؤالهم عما يهمهم، والاستعانة بهم في قضاء حوائجهم، وأخذت الكاهنات يجبن على هاته الأسئلة، وحدث أن وجه «سيروفون» سؤالا إلى الإله «أبولو» عمن هو أحكم الحكماء؟ فأجاب على لسان إحدى الكاهنات: «سقراط».
أما «سقراط»، فقد اعترته أزمة نفسية عنيفة؛ إذ استغرب أمر هذه المعجزة، ومضى يبحث عن دليل صدقها، فأخذ يبحث عن الحكمة بين جميع الطبقات حتى تأكد لديه صدق هذه النبوءة.
ثم حدثت له أزمة أشد إذ أخذ يسأل نفسه أسئلة ليجيب عنها: - لماذا نطقت الكاهنة بهذا الحديث؟ - عليه رسالة يجب أن يؤديها. - أي رسالة بالضبط؟ - أن يتعهد الإنسان روحه ويسهر عليها وينظفها.
إذن فهو مكلف برسالة، فاندفع يؤديها بأمانة حتى وفاته.
والمرحلة الثانية: هي - كما سبق القول - المرحلة التي قامت فيها الحرب بين أثينا واسبارطة، ولقد كان سقراط جنديا في هذه الحرب، وتاريخه العسكري رائع مشرف، ولما عاد أخذ يسأل كل شخص: ما حال الفلسفة في أثينا؟ وما حال شباب هذا البلد؟ •••
अज्ञात पृष्ठ
أما المرحلة الثالثة: فهي التي اشترك فيها اشتراكا فعليا في أمور مواطنيه، وهي المرحلة التي أخذ ينفذ فيها رسالته بقوة، وقد كلفه ذلك غاليا، إذ أدى به إلى المحاكمة فالموت، وكل نفس أبية لا تطرق أي باب للخلاص ما دام يتنافى مع مبادئ الرسالة التي يعتنقها.
عندما هرمت الديمقراطية، حكمت أثينا لجنة مكونة من 30 رجلا كان من بينهم صديقه الحميم «كريثياس» فاستبدت وطغت، وأخذت تصادر الأموال وتخالف القوانين، وتحاكم القواد، فثار سقراط على ذلك، وأبى أن يشترك في هذه الأعمال مع أنه كان عضوا في اللجنة التي تولت محاكمة القواد، وأبى كذلك أن يستمر في أعمال المصادرة والقتل بغير جريرة مع تكليفه بذلك؛ كل هذا زيادة على انتقاده علنا لهذه التصرفات حتى زجره صديقه كريثياس وثار في وجهه غاضبا.
ولقد كان انتقاده للديمقراطية أن هؤلاء فيهم الفضلاء، وهؤلاء منهم السادة الأكفاء، ولكن ما فائدة ذلك إن لم ينقل هؤلاء فضلهم وأهليتهم للشعب، لقد كان «بركليز» عظيما ولكن أين مثار عظمته؟ وكان «أرستبد» عادلا، ولكن أين عدوى عدله؟!
كان يصيح بهذا النقد علنا؛ فأحفظ قلوب الحكام عليه، وطلبوا تقديمه للمحاكمة أربع سنوات؛ أي بعدما عادت الديمقراطية وانتظمت دوائر المحاكمة من جديد، وكان في مقدوره أن يهرب، وأن ينفي نفسه بنفسه، ولكنه انتظر المحاكمة هادئا، وكانت أسباب المحاكمة هي: (1)
إفساد ديانة اليونانيين. (2)
إفساد أخلاق الشباب. (3)
أنه مسئول عن هرب «السبياديس» إلى صفوف الاسبارطيين مما أدى إلى هزيمة أثينا. (4)
أن كل ما جاء في مسرحية «أرستوفان» حقيقي وينطبق عليه، وأنها لم تكن مجرد سخرية، ومعنى هذا أنه كان صاحب مدرسة يتقاضى منها أجرا، وأنه اخترع دينا جديدا مبنيا على الهواء والأشباح
ghosts
وعلى تقاليع أخرى منها أنه اخترع آلة يتماوج بها فكره خوفا من التصاقه بالأرض.
अज्ञात पृष्ठ
لم يحاول سقراط في دفاعه أن يبرئ نفسه، وقد كان في مقدوره أن يشيد بتاريخه العسكري، ولكنه حاجهم فيما يتعلق بالدين وأحرجهم حتى لم يستطيعوا الكلام، ثم أقنعهم بأنه ليس له مدرسة ولم يتناول أجرا ما، وبعد ذلك أفاض في وصف المعجزة وآثارها وانتهى إلى شرح رسالته، وأخيرا قال: «إن الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولكن هذا البحث أثناء الحياة يرى من خلال ثقوب، أما بعد الموت فهو يستكمله بلا ستار وحجاب»، وبعد ذلك أخذ يمتدح الموت كباب من أبواب الخلاص والمعرفة الحقيقية.
وكان المحكمون خمسمائة وحكموا عليه بالإعدام بأغلبية قليلة.
ولدواع مقدسة، تأجل التنفيذ شهرا، فأخذ يقضيه في تعليم أصدقائه وتلاميذه حتى اليوم الأخير؛ وحتى في صباح ذلك اليوم أخذ يحدثهم عن عظمة الموت، فلما حان ميعاد التنفيذ قدم له السجان الكأس وهو يبكي، فقال للسجان: لماذا تبكي؟ إنك تأخذ جسدي فقط.
وأخذ محبوه يبكون، فزجرهم، وتناول الكأس سرورا راضيا ، ثم وسد نفسه، ومات بهدوء تام. •••
إن ساعة مع «أفلاطون» العظيم، أقل من أن تطلعنا على جزء من ألف من تفكير ذلك الذهن الجبار، والواقع أني لا أشبه في هذا الزمن القصير أكثر من سائح أو دليل أو مقدم مسارد أتى أمام أفلاطون، أراني قبل موسوعة فخمة، وعظمة هذه الموسوعة قائمة في أنها أساس كل تفكير حديث، فنحن نجد بها ما ننشده من الحديث عن الفن والأدب، وما نتطلبه من البحث في نظم الحكم، وما نتخيله عن العالم الكامل، وما نريد أن نعرفه من أصول علم النفس، وما نود أن نلم به من مناهج التعليم، وفي الحق إن الإنسان ليحار في كنه ذلك الفكر الجبار الذي استوعب كل ذلك وفصله ذلك التفصيل الخارق المعجز، والمدهش أنه لم يكتب بأسلوب فلسفي غامض أو قلق، بل كتب بأسلوب شعري واضح جميل، حتى إن الإنسان ما يكاد يبدأ القراءة حتى يجد نفسه مسوقا إلى النهاية على الرغم منه، كأنه يقرأ رواية رائعة، ويكفي متعة أن نعود إلى المحاورات من وقت لآخر، وأن نخوض في «الجمهورية» كما نخوض عباب يم زاخر، يكفي هذان على الأقل ولا نتحدث عن الباقي من مؤلفاته.
على أن الذي يريد أن يقرأ «أفلاطون» عليه أن يلم بعصره، وأن يلم بحالة بلاده في ذلك العصر من حيث الحكم والاقتصاد والحرب والسياسة، وعليه كذلك أن يلم بسيرته هو من حيث إقامته وظعنه، ومن حيث أن بدأ تلميذا إلى أن انتهى معلما وفيلسوفا تام النضج.
نبدأ الآن بوصف صغير لليونان، في عهد «أفلاطون»، فقد ولد «أفلاطون» في أثينا سنة 427ق.م، واليونان في الخريطة تشبه يد هيكل عظمي تمتد في البحر الأبيض المتوسط وتشير إلى كيت، كأنما تشير إلى المنبع الذي سرت منه الحضارة إليها وإلى غيرها، إلى شرق اليونان نجد آسيا الصغرى، وهي في تاريخنا الحاضر هادئة وادعة، ولكنها في عصر «أفلاطون» كانت تموج بالفلسفة، وتزخر بمختلف ضروب النشاط الفكري والتجاري؛ وإلى الغرب نجد إيطاليا وصقلية قد كانتا تابعتين لليونان وفيهما مدارس لامعة للفكر والثقافة والعلم، وإذا اتجهنا إلى الشمال فثم مقدونيا وتساليا وأبيروس وقد كانت هذه الأبواب التي دخل منها الهمج الذين عمروا اليونان، ومن مزاجهم العنيف القوي انحدرت إلى التاريخ عقول جبارة مثل نهومير وبركليز وغيرهما.
كانت اليونان في عهد «أفلاطون» مكونة من مدن مستقلة تسمى الواحدة منها المدينة الدولة، وساعد على استقلال كل منها ما يحيط بها من المرتفعات ويفصل بينها من الخلجان ويحيط بها من التضاريس، فمذ كانت المواصلات بين المدينة والأخرى من الصعوبة بمكان، استقلت كل منها بنفسها. ومن أشهر هذه المدن اسبارطة، التي كانت تنافس أثينا كما كانت ألمانيا تنافس إنجلترا في العصر الحاضر، ولقد كانت اسبارطة قوية في البر كما كانت أثينا قوية في البحر، فكانتا تتحدان ضد العدو المهاجم، حتى إذا انصرف العدو، عادتا للتنافس الحار، ولقد كشف «برتراند رسل» في كتابه عن الفلسفة الغربية سر المصدر الذي منه استقى «أفلاطون» معلوماته عن المجتمع والحكم، فقد سرد «برتراند رسل» في كتابه المذكور تفاصيل النظم والقوانين في اسبارطة، فإذا هي هي تعليم «أفلاطون» مع تغيير قليل، غير أن أهل اسبارطة كانوا يهدفون إلى بناء أجسام قوية جميلة رشيقة، حتى إنه كان يتحتم على البطل إذا مات في الحرب أن يموت «برشاقة» أي يموت كما ينام، بلا أنين ولا دمامة ولا اضطراب، أي يمهد قبره كما يمهد فراشه! ولكن «أفلاطون» عاب على المربين أن ينصرفوا هذا الانصراف الكلي لتنشئة الأجسام، وأشار بأن يتجهوا إلى نواح أخرى سنفصلها فيما بعد.
على أنه في التنافس المذكور، كانت أثينا هي الغانمة، فإن ميناءها بيريه وأسطولها الذي كان في الحرب محاربا وفي السلم تاجرا، جلبا إلى أثينا التجار من مختلف الملل والنحل، وكان جوب البحار سببا في أن يدرس اليونانيون الفلك، كما كانت المبادلات التجارية سببا في أن يدرسوا الأرقام الرياضية، وكان الرخاء سببا في توفير الوقت الذي هو العنصر الأول في البحث والاختراع والتفكير الحر، فأخذ الإنسان يفكر في طرق طبيعية يفسر بها الحوادث الكونية، وانصرف عن تفسيرها بواسطة الخرافة والسحر، فمن ثم بدأت الفلسفة، على أن الفلسفة بدأت طبيعية؛ أي بدأت تتفهم «طبيعة الأشياء» وقد انتهى ذلك العهد بالفيلسوف «ديمقريطس» الذي كان يعتقد أن الكون «ذرات وفراغ»، وكان من مؤيديه «أبيقور» ثم «لوكريتس» في قصيدته الخالدة. غير أن مجيء السوفسطائيين بدل اتجاه ذلك التيار؛ فإن هؤلاء نقلوا التفكير من محيط الأشياء إلى محيط الإنسان، ومهما يوجه إليهم من النقد من حيث اعتمادهم على البيان المدوي واللفظ المزخرف المجلجل، فقد ظهر من بينهم رجال ذوو عمق وفهم وأصالة مثل «بروتاجوراس» و«هيبياس»، على أن السفسطائيين هم الذين ابتدعوا طريقة الحوار والجدل والتساؤل، وقد كانوا شجعانا، يقفون مدافعين عن آرائهم مهما كان وراء هذا الدفاع من المسئولية والخطر. وكانت آراؤهم السياسية تنقسم إلى فريقين، فمنهم من كان - مثل «روسو» فيما بعد - يدعو إلى الرجوع إلى الطبيعة على زعم أن الناس يتساوون دائما أمام الطبيعة، والفريق الثاني - مثل «نيتشه» فيما بعد - يدعو إلى القوة، ويقول: إن القوانين إنما أرادها الضعيف لتحد من مطامع القوي، مع أن القوة هي كل شيء.
فلما ظهر «سقراط» سار على طريقة السوفسطائيين، غير أنه أول من دعا نفسه بالفيلسوف، أي عاشق الحكمة، بخلاف كلمة سوفسطائي التي معناها «غارق في الحكمة»، وكان يقول عن نفسه: «إني على يقين من شيء واحد هو أني لا أعرف شيئا ...» ويشبه في العصر الحديث فيلسوفا كبيرا - «برناردشو» على الأرجح - في قوله: «في الأربعين اكتشفت اكتشافا هاما: اكتشفت علمي بجهلي.»
अज्ञात पृष्ठ
إن «سقراط» كان يدعي الجهل عمدا لكي يصل إلى الحقيقة، وقد كان صارما عنيفا في الوسيلة التي تصل به إليها، يتضح ذلك من محاورات «أفلاطون»، فقد كان يعتصر محاوره في الجذل اعتصارا حتى يجعله يثور ويجبن، على أنه لا يلبث أن يهدأ حين يقوده «سقراط» بيده إلى الطريق الذي يكشف له الحقيقة.
وقد كان «سقراط» كذلك عنيفا في آرائه السياسية، فقد كان لا يؤمن بالديمقراطية، إذ كان يعتقد أن الذكاء هو الذي يجب أن يحكم، وله رأي في الديمقراطية عجيب، هو أن الجماهير أبواق نحاسية تظل تدوي حتى يأتي من يسكتها بيده، ولا ندري أكان «سقراط» يتنبأ بما ستصنعه الديمقراطية يوما من الأيام، هل كان يدري أنه على يديها سيتناول كأس السم ذات يوم؟
على أن ديمقراطية أثينا كانت تامة بقدر ما كانت شاذة خرقاء، فقد كان عدد سكان أثينا 300000 منهم 20000 عبيد والباقي أحرار، يؤخذ صوتهم جميعا فيما يهم الدولة من الشئون.
على أن الديمقراطية أسلمت زمامها فيما بعد إلى أوليجارشية - أي جماعة من الأثرياء - يحكمون أثينا، ولكن الحرب بين أثينا واسبارطة أدت إلى نفي هؤلاء، وعلى رأسهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، ولكنهم صدر عنهم عفو فما لبثوا أن عادوا من المنفى وأعلنوا الثورة على الديمقراطية، غير أنهم هزموا وقتل «كريتياس» وقبض على «سقراط» بتهمة أنه أفسد أخلاق الجيل، ونشر الكفر والزندقة، بينما السبب الحقيقي المستتر وراء كل هذا، هو مبدؤه السياسي، وتندره بالديمقراطية، وخلاصته كل ما سبق، وأهميته من حيث موضوعنا أن «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«سقراط» أستاذه.
كان لقاء «أفلاطون» بسقراط شيئا هاما جدا في حياته؛ فلقد ولد أفلاطون في الثراء والمجد والنعمة والسعة، وكان رياضيا أوتي بسطة في الجسم ووسامة في الوجه، وحتى اسمه
معناه «عريض الألواح» ومن الواضح أنه ليس من السهل أن ينشأ الفلاسفة من هذا الوسط، ولكن التلميذ ما لبث أن تأثر بأستاذه، حتى لقد قال: «أحمد الله على أني ولدت إغريقيا، وولدت حرا غير عبد، ورجلا لا امرأة، وأني ولدت في عصر سقراط.»
كان «أفلاطون» في الثامنة والعشرين حين مات أستاذه، ولعل موت أستاذه بالسم، بعد المحاكمة الشهيرة ملأه حقدا على الجماهير حتى أساء الظن بهم، وفكر في طريقة جديدة لتهذيبهم، وأخذت الفكرة تتطور حتى صارت مشغلة حياته. ومما يذكر أن أفلاطون صنع ما يستطاع لكي ينقذ «سقراط» فلم يستطع، وعرض نفسه للشبهات والتهم والأقاويل، فنصحه أصدقاؤه بالهرب، فأخذ يستعد للرحيل والتجوال فرحل إلى مصر سنة 399 قبل الميلاد، ففوجئ بما رآه وشاهده بمصر مما لم يكن يتوقعه، إذ قال له الكهنة المصريون: إن اليونان مدينة طفلة لا عراقة لها في التقاليد والثقافة، ولقد راعته مصر بسبقها في العلم وإتقان الزراعة، وبقي هذا في ذهنه حتى رسم صورة للمدينة الفاضلة، ولقد رحل عن مصر كأنما صدم في غروره، فقصد صقلية فألفى هناك أتباع «فيثاغورث» الذين كأنما وجدوا أمامه ليتموا صورة المدينة الفاضلة في ذهنه، فقد ألفى نفرا من الحكماء الزاهدين الفلاسفة، قد انقطعوا للتفكير والفلسفة والحكم، ثم لبث اثني عشر عاما بعد ذلك يضرب في الآفاق من بلد إلى بلد حتى لقد ذكر بعض المؤلفين أنه وصل إلى حدود الهند، ثم عاد إلى أثينا 387ق.م وعمره إذ ذاك أربعون سنة، وقد أنضجه السفر وهذبه التجوال وثقفه، فاختلط عنده العلم بالفلسفة بالحكمة بالشعر في امتزاج عجيب، ولقد اتخذ لنفسه أسلوبا في التعليم والكتابة اجتمع فيه الجمال بالصدق، والدقة بالبيان الناصع، والواقع أن الصعوبة في فهم أفلاطون ترجع أحيانا إلى ذلك الأسلوب الشعري الذي تخلله السخرية أحيانا، فإن الإنسان حينما يقرؤه يحار أهو يجد أو يمزح! وأحيانا يجد الإنسان نفسه سابحا في جو غامض لذيذ يحمله على جناحين مسحورين يلهيانه عن التساؤل عن معنى كل ذلك.
والعجيب أن «أفلاطون» يجمع في أسلوبه المتناقضات التي عابها على الآخرين؛ فهو لا يحب الشعراء، ومع ذلك له أسلوب الشاعر، وهو لا يحب الكهنة والوعاظ، ومع ذلك فهو يعظ، ويدعو إلى الدين في أكثر من موضع، وينعي على السفسطائيين بيانهم وثرثرتهم وهو لم يخل من الثرثرة والاسترسال في البيان المجلجل في أكثر من موضع واحد.
على أنه مهما يكن من ذلك فإن «أفلاطون الفلسفة والفلسفة أفلاطون» كما قال «أمرسون».
هذه هي النواحي التي تتناولها فلسفته، ولن نتصدى لها بأكثر من إلمامة خاطفة، فإني كما قلت سابقا: لست في هذا الخضم المتلاطم أكثر من سائح أو دليل. (1)
अज्ञात पृष्ठ
نظرية المثل. (2)
النظرية الأخلاقية. (3)
النظرية السيكولوجية. (4)
النظرية التربوية.
نظرية المثل أو الصور
forme
نظرية رائعة حقا؛ فهي تبدأ من المنطق البسيط حتى تصل في تطبيقها إلى أكثر نواحي الحياة تعقيدا وغموضا، وقد بدأها أفلاطون بالتفكير في طبيعة الأشياء العادية المألوفة، مائدة مثلا: المائدة شيء له صفات؛ حجم، صلابة، لون، فإذا تناولنا هذه الصفات وجدناها نسبية محضة؛ أي إنها ليست لها حقائق مطلقة، إنها صفات تتوقف على العلاقة بينها وبين أشياء أخرى؛ فالحجم مثلا يتوقف على المسافة التي بين الشيء والمشاهد له، واللون يتوقف على الضوء المتساقط ولونه، والصلابة تتوقف على قبضة الضارب وكنهه، فالمائدة صلبة بالنسبة لليد البشرية ولكن ليست صلبة لمطرقة حديدية، على أن هذه الصفات لمادة ما، فإذا كانت هذه الصفات وهمية فلنجرب تجريد المادة من هذه الصفات، ماذا يبقى؟ لا شيء؛ لأنه لا يمكن تصور مادة بغير صفات. ولكن ما حكم علم الطبيعة الذي يقوم كله على «الأشياء» الواقع أننا في هذا العلم كغيره إنما نتناول نسبا وعلاقات، ولكنا لا نعرف كنه الأشياء بالذات، فإذا كان الشيء مجهول الكنه والصفة وهمية؛ أي إن الأبيض مثلا وهمي، فلننظر في صفة «البياض» لنرى هل هذه أيضا وهمية. هذه الصفة مشتركة في اللبن والقشدة وملاءة الفراش، وليس اللبن هو ملاءة الفراش، معنى ذلك أن هذه الصفة خارجة عن كنه الشيء بالذات، فهل يمكن أن يكون البياض صفة ذهنية نصطنعها لأنفسنا؟ أفلاطون يقول: إن هذا مستحيل، وإلا فإذا «فقد الإنسان وعيه فقد البياض صفته! وإذا كانت المسألة صفة ذهنية، يكون لكل ذهن بياضه الخاص، وهذا مستحيل.»
النتيجة أن البياض صفة يعرفها العقل حين يراها؛ أي إنها صفة أولية مشتركة إذا رآها العقل البشري عرفها كأنما يتذكرها؛ أي إن هناك «شكلا» أو مثلا أزليا أبيض هو الذي يعطي للأشياء صفة البياض إذا حل بها. إذن فلكل صفة ناقصة لدينا صفة كاملة هي صفتها الحقيقية التامة، فإننا لا نتخيل شيئا ساخنا مثلا إلا وجد ما هو أسخن منه. وحتى المثلث الذي نعرفه لا يكون إلا صورة ناقصة لمثلث كامل، فإن المثلث الذي نعرفه ليس مثلثا حقيقيا؛ لأن خطوطه في الواقع لها طول وعرض ثم إن هذه الخطوط ليست مستقيمة تماما. وبناءا على ذلك هذه الصور أو المثل باقية خالدة ، وما لدينا نحن غير ظلال لعالم آخر هو الباقي الدائم السرمدي الذي لا يمحى.
الآن، هل يمكن تطبيق هذه النظرية على الفن؟
ما هو الذي يجعلنا نحب الشعر ونطرب للموسيقى؟
अज्ञात पृष्ठ