فعندنا من ناحية تجربة شعورية ومن ناحية أخرى «توصيل
Communication »، وفي الوسط مكان العملية، ونحن نعلم أن أغلبها يتم في العقل الباطن بين الفكرة والعاطفة والظلال والإيقاع، كل هذا تعميم، وقد تناوله كل الكتاب المحدثين، ولكن بالرغم من ذلك قد بدت في الحقل الأدبي ظواهر غريبة، أولها إبهام في القيم، وغموض في المقاييس. وثانيها وهو المهم اختفاء النقد بالذات من عالم الأدب، هناك إنتاج أدبي ضخم بدون شك، ولكن هذا «الترف من الفوضى» على حد تعبير «جوفري ويست»، أو بعبارة أخرى: هذه البضائع المكدسة في أسواق الأدب بلا ضابط ولا صيرفي يبين صحيحها من زائفها يدل على أننا في عصر متسم بخاصية من عدم المبالاة، وعدم الإلحاح في إيجاد روابط وضوابط.
هذا الوعي بالضبط هو الذي يجب تشريحه وتفهمه والتغلغل في طواياه، لنفهم كيف حدث وهل يرجى له علاج في المستقبل؟ كلما فكرت في الوعي الجديد يخيل لي أن هناك متكأ أفلت منا، وسندا قد أضعناه بإهمالنا، هذا هو التراث الأدبي
Tradition
أعني بهذا ذلك الحبل المتصل بيننا وبين ماضينا الأدبي، ذلك الحبل الذي تنسج خيوطه أجيال وأجيال من التجارب الأدبية الثابتة. نحن الآن ننظر نظرة نصف ساخرة إلى سفر قيم كديوان الحماسة، وأكثرنا ينظرون إلى الشعر العاطفي بنفس السخرية التي ينظر بها الآخرون إلى العقل المهيمن على ديوان الحماسة في التربية.
فنحن إذن في مزيج من الثورة والسخرية وعدم الرضا، وبين هذه الانفعالات المتضاربة لا نعرف أين نقف بالضبط، ولا ندري لنا طريقا خلال ضباب المستقبل، ونحن في هذه الحيرة نتساءل هل أفادتنا مجهودات المؤلفين الممتازين أمثال «السحرتي» و«مندور» و«الشايب» و«سيد قطب»؟ لا أعتقد أنها أعطتنا فرصا للمقارنة وأعطتنا فرصا للفهم والتحليل، ولكننا لم نزل بعد في ظلماتنا؛ لأن هذه المناهج المضطربة بين الكلاسيكية والرومانتيكية لا تؤدي إلى خطوط ثابتة يمكن السير وراءها، وليت اضطرابها فقط في التردد بين هذين المذهبين؛ الموضوعية والذاتية، بين المنطق والعاطفة، بين اللفظ والمعنى.
إلى آخر ما هنالك من هذه الدروس الملتوية بلا انتهاء ولا غاية.
ولقد يلتفت الباحث نحو الماضي فيجد عهدا من العهود، عهد قديما في الواقع كان النقد فيه مبنيا على الفطرة، ولكنه على كل حال كان سليما ومعقولا ومحترما، وكانت هذه الفطرة تشبه الإيمان الديني في الاقتناع والقوة، ولذلك جرى النقاد المحدثون على مذهب جديد، هو أن يقارنوا عندما يستعرضون تطور المجتمع، بين تطور الوعي وتطور الاعتقاد الديني، ففي العصر الذي تشير إليه كان الإنسان يستمد وعيه كما يستمد قواه الدينية من مصدر خارجي، وكان هذا المصدر الخارجي من القوة والسلطان والإقناع بحيث يجعل الوعي الأدبي والوعي الديني متماسكين في ظل النظم والقوانين والتقاليد التي شرعها ذلك المصدر الخارجي، لم يكن هناك انقسام في الوحدة النفسية، لم يكن هناك عقل وعاطفة، بل هناك عقل محض تختبئ في ظله العاطفة وتستدفئ الروح، وكان هذا العقل يستمد جبروته من عقل شامل محيط يملي ولا يناقش، في حماية هذا العقل كان النظام موطدا والاستقرار سائدا والدروب مشتركة والمسالك موحدة.
سار هذا النظام في القرون الوسطى حينما كان أرباب الديانات يستعينون بقوة الفلسفة - أي بقوة المنطق والعقل - في إجبار الناس على قبول المناهج الدينية أو الأدبية، أما في عهد النهضة وبعدها فقد استيقظت «الروح» الإنسانية واستيقظت الذاتية الفردية، واستيقظ الوعي الداخلي في النفس البشرية، كل هذا لتحد الروح من سلطان العقل، ولتثبت أنها جديرة عن طريق البصيرة
Insight
अज्ञात पृष्ठ