على أننا لا نشك في أن محاورات «أفلاطون» هي أهم مراجعنا عن «سقراط»، واتهام «أفلاطون» بأنه هو كاتبها إذ تخيلها غير قائم على حقيقته، فإن الأجزاء الأولى من المحاورات يتوسطها سقراط، والتي تليها لا نراه - أي سقراط - وإنما نسمع عنه، وفي الأخيرة لا نسمع أفلاطون يتكلم، فأفلاطون إذن لم يكن في حاجة إلى التخفي وراء قناع غيره.
نحن لا نعرف بالضبط متى ولد سقراط، ولكننا نعرف تاريخ المحاكمة الشهيرة، ونعرف من ذلك أن سقراط كان إذ ذاك في السبعين من عمره تقريبا. فنستطيع أن نستنتج أنه ولد في أثينا سنة 469 قبل الميلاد، ويمكن تقسيم حياته إلى مراحل ثلاث: من ميلاده حتى الحرب بين أثينا واسبارطة، وفترة الحرب، ثم أخيرا بعد هذه الحرب حتى محاكمته ووفاته. ويمكن أن نسمي المرحلة الأولى مرحلة التعلم، والثانية مرحلة الوحي، والثالثة مرحلة الرسالة، ولما كانت حياة العظيم وثيقة الصلة بما جرى في وطنه، فإن المرحلة الأخيرة أهم المراحل في رأينا؛ لأن «سقراط» اشترك أثناءها اشتراكا فعليا في شئون الشعب اليوناني وحكومته وسياسته، وهذه هي المرحلة التي لازمه فيها «أفلاطون»، وعنها وعنه كتب بيقين ووضوح وإيمان، في هاته المرحلة اختلط سقراط بالشعب وانتقد الحكومة حينا، وانتصر لها حينا، وخالفها حينا، وتعرض لسخطها أخيرا، ثم في الحرب هو جندي من جنودها، وهو في السلم أول المدافعين عن قوانينها، ولو كان فيها ما يمسه هو بسوء. ولقد عاش «سقراط» في عهد «بركليز» العظيم حين كانت أثينا ملتقى الثقافات، وحين كانت ملتقى المعارك العلمية والفلسفية بين الشرق والغرب، وحين كانت الحكومة ديمقراطية تمثل الشعب تمثيلا صادقا، وحين دارت الأيام بعد موت «بركليز» وانتهى الصراع بين اسبارطة وأثينا بانهيار أثينا، ثم أخيرا شهد «سقراط» عودة الديمقراطية لتحاكمه وتحكم عليه بالموت! في كل عهد من هذه العهود كان لسقراط أثر، ومما لا يقبل الجدل أنه كان وثيق الصلة بالدوائر المختلفة ومعروفا من جميع الطبقات، ولا جدال أنه أصاب شهرة واسعة من سن باكر إذ ليس من المعقول أن يجعله مؤلف مشهور مثل «أرستوفان» محورا لمسرحية من مسرحياته إذا لم يكن معروفا لأهل أثينا جميعا. ولقد دافع عن نفسه بأن ذكر أسماء شيوخ من شيوخ أثينا - عظماء وأثرياء - بينهم وبينه صلة وثيقة ومودة متينة، منهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«كريتو» الثري المشهور. على أن أهم صلاته بالشباب، التي أثرت في محاكمته فيما بعد هي صلته التاريخية ب «السبياديس». كان هذا الشاب من أجمل وأنبل وأشجع شباب أثينا، ولا شك أن قراء التاريخ يذكرون كيف اتهم «السبياديس» بالكفر والتندر بالديانة اليونانية، وكيف قدم للمحاكمة فهرب إلى اسبارطة وانضم إلى جيوشها، وكان السبب في هزيمة أثينا، ودارت الأيام فرجع إلى وطنه ولكن وطنه جازاه أقسى الجزاء، فختم أيامه في النفي والتشريد. كانت الإشاعة التي تدور حول اسمي «سقراط» و«السبياديس» توحي بأن العلاقة بينهما أكثر من علاقة أستاذ بتلميذ وأن ما بينهما تطور إلى مسألة جنسية بحتة، فإذا ما سمع بهذه الإشاعة أجاب ساخرا: «حقيقة، إني أستاذ في فن الحب»! ولكن الذين يعرفون استقامته الصارمة يدركون بعده التام عن الشهوات والصغائر.
ولد سقراط من عائلة طيبة، ويستدلون على ذلك من اسم أمه وأبيه؛ فقد كانت للأسماء في تلك العهود دلالة على المنبت والأرومة، ولم يكن سقراط فقيرا ولا صعلوكا، ولكنه اختار لنفسه التقشف والحرمان؛ لأنه وجدهما سبيله الحقيقي إلى الثراء النفسي، وكان اسم سقراط مقيدا ضمن جنود الجيش، ويجري عليه كما للجنود دخل ثابت، أما في آخر أيامه فقد أدركه الفقر حقيقة، ويظهر أن ذلك من الفقر العام الذي ضرب أطنابه في أثينا، في المرحلتين، مرحلة الشباب والكهولة، وعلينا أن نتحدث عن: (1) شكله وزيه. (2) طباعه. (3) مدرسته. (4) ثقافات أثينا وموقفه منها. (5) ديانته وديانة أثينا. (6) المعجزات والعلامات الخفية التي نسبت إليه.
كان «سقراط» كبير الرأس، كبير الأنف، تترجرج مقلتاه ترجرج الزئبق، وكان في مشيته مشية البطة. أما عن طباعه فأول ما يذكر أنه كان دائب السخرية، لا من الناس فقط بل من نفسه، إذ كان يؤمن بأنه جاهل كباقي الناس، ولكن الفرق بينه وبينهم أنه يبحث عن الحقيقة ولكنهم لا يبحثون، وكان دأبه أن يعلم الناس كيف يعامل الواحد منهم غيره وكيف يعيش في الوسط الذي يحيا به، ولم تكن له مدرسة خاصة، فقد كان يسمي تلاميذه «الرفاق» ولا يتناول أجرا، وكان على زهده وتقشفه، متين البناء قوي العضلات، يجاري أصحابه أحيانا في الشراب، ولكن الخمر لم تكن لتؤثر به مطلقا، ويمكن أن نلخصه في بضع كلمات: لقد كان طاغي العاطفة، طاغي التفكير، متصوفا، ساخرا. أما عن التصوف، فقد كانت تعتريه نوبات ذهول وغيبوبة، وكانت تظهر له علامات خفية نكاد نسميها هواتف، وكانت لهذه العلامات صفات الإنذار والتحذير، أما الغيبوبة فكانت تقصر أو تطول، وقد استغرقت إحدى نوباتها أربعا وعشرين ساعة، على أن هذه العلامات كانت تبدو له على غير انتظار فيقف مصغيا إلى صوت بعيد، وقد كان معتادا أن يطيع نواهي تلك الهواتف، ولم يعصها إلا مرة واحدة كانت السبب في الكوارث التي مرت به في أواخر أيامه؛ فقد حذرته هاته الهواتف من الاندماج في السياسة، والاشتراك في أعمال الحكام فلم يصغ إليها، وكانت العاقبة وبالا.
هل كانت لسقراط «ديانة»؟ فمن الواضح أن عقلا كعقل سقراط لا يمكن أن يستسلم لأي عقيدة - دينية أو غير دينية - بدون مناقشة، فكان عليه أن يناقش كل شيء، فلم تخل ديانة أثينا من نقاشه العنيف، وقد كانت المعتقدات السائدة في أيامه ثلاثة: (1) الأورفية: وهذه مبنية على الاعتقاد بأن النفس ألوهة منفية، ومشتق من ألوهة كبرى، وأن هذه الروح أو الألوهة الصغرى منفية في أجسادنا، وعلينا أن نتعهدها بالتطهير والابتهال حتى تعود إلى الأصل مطهرة صافية، ولكن كلمة «الروح» لم ترد على لسان الأوروفيين، وإنما كان الأوروفيون يسمونها
psyche
أو النفس، ولم يكن لها صفة غير أنها ألوهة مشتقة من ألوهة أعلى، وتتسم بالإدراك والوعي بصفة عامة إدراكا واعيا مشتركا في جميع الناس على السواء. على أن سقراط - على قبوله بمبادئ هذه الديانة - لم يعتنقها كما هي، وخاصة لأنه أبصرها تضمحل وتستحيل إلى حلقات «ذكر» وابتهالات، أما الديانة الثانية السائدة في أثينا فقد كانت قائمة على الأساطير وأقوال الشعراء، ويظهر أن سقراط أبدى رأيه علنا في قيمة هذه الأساطير، ومن المهم أن نذكر أن من بين أسباب محاكمته «الكفر بهذه الديانة وبحثه عن أرباب جديدة»، فلما ووجه بهذه التهمة لم يزد على أن يسأل بدوره «ومن هم أربابكم»؟ فلم يردوا على سؤاله!
أما الديانة الثانية: فالديانة العلمية الفلسفية، وليس خافيا أن أول من بحث في طبيعة الكون ووجود الخالق وفي علاقة المخلوق بالكون وخالقه هم فلاسفة اليونان من قبل سقراط، وقد انقسموا مدرستين: شرقية على سواحل آسيا الصغرى، وغربية في جنوب إيطاليا، وقد كانت أثينا ميدان الصراع بينهما.
قرر الفلاسفة مبدئيا وبلا جدال أن للكون خالقا، فخرجت هذه النقطة من دائرة النقاش، ولكن بقي أن يبحث الفلاسفة في كنه هذا الخالق، ثم عن علاقة المخلوق به، ثم عن علاقة الكون بالاثنين؛ أما المدرسة الشرقية فكانت مدرسة موحدين، غير أنهم قالوا: إن النفس نفس أو هواء مشتق من هواء عام يعود بالموت إلى أصله، وزادوا على ذلك أن الكون أسطوانة مسطحة محمولة على الهواء. وكان في الغرب مدرستان: مدرسة «فيثاغورث» التي بنت بحثها على الرياضة، وابتدعت أهمية الأرقام، واكتشفت كروية الأرض، وأنكرت أن تطفو على هواء؛ لأنها معلقة في الفضاء، وأما المدرسة الثانية فمدرسة أخرى تقول: إن الخالق من نار وهواء وماء، وهذه مدرسة «أمبودكليس».
كل هذه المذاهب لم تقنع سقراط، وإن كانت قفزت بالعلم من الناحية الإسترولوجية إلى الناحية البيولوجية ثم إلى الناحية الرياضية، غير أن اثنين فقط هما: «بارمينيدس» و«زيتون» هاجما هذه الترهات حول صفة الخالق، إن هذا التقلب والتغير ليسا من صفات الخالق وإن الخالق يجب أن يكون «مفردا ثابتا مطلقا لا يتغير».
अज्ञात पृष्ठ