على نجوة من الطريق ينتابها الناس من مكة عند الغروب ، فيبيتون فيها ، ويغدون عند الصباح إلى أشغالهم بمكة ، ويكون مبيتهم على مقاعد مستطيلة في الخلاء ، فلا يضع الواحد منهم رأسه على مخدته إلا ثقلت أجفانه من لطف الهواء ، فينام إلى الفجر مستريحا ، ويقوم إلى صلاة الصبح أشد من الحديد.
وفي الزاهر مكان صغير لصديقنا الشيخ الشيبي الكبير ، سادن البيت المعظم ، الذي بسلامة ذوقه له في كل واد من الحجاز منتجع ، وفي كل جبل مصيف أو مرتبع.
ولما ودعت الحجاز بعد إيابي من الطائف ، تلطف الشهم الكريم الشيخ عبد الله سليمان ناظر المالية ، فأدب لي في الزاهر مأدبة ، ودعا الجم الغفير من كل ما في البلد الأمين من سيادة تجرر أذيالها ، ومجادة تضرب بعروضها أطوالها ، وبلاغة تضرب أمثالها ، وفصاحة إذا نطقت يقال من ذا قالها ، فكانت ليلة ندر أن يعرف مثالها ، وقال فيها أحد الإخوان : إنها ليلة من قبيل قصص ألف ليلة وليلة ، لكثرة ما كان فيها من نمارق مصفوفة ، وزاربي مبثوثة ، ومصابيح منورة ، وأعلام منشرة ، ومقاعد مجللة ، وجفان من الشيزى (1) مكللة ، وناهيك بالعربي القح ، الذي لا يعرف إلا من القاموس معنى الشح ، وبمن جمع بين الحجاز ونجد ، إذا ما ارتفعت راية المجد.
ومن بعد ذلك بقيت في أواخر مقامي بمكة أتردد إلى الزاهر عصر النهار ، وأتندم على فوتي إياه قبل الحج ، وكان ينشرح صدري في كل مرة أفيض فيها من وراء تلك الآكام إلى بسيط الزاهر.
وإذا وصلت إلى المقصف الملوكي ، جلست طويلا على حرف ذلك الصهريج الذي يخر مزرابه ، ويكاد يتلاطم عبابه ، وقد يشتد الحر ، فلا
पृष्ठ 154