* بسم الله الرحمن الرحيم
* مقدمة
الحمد لله الواحد الخلاق ، وسبحان الله وبحمده في العشي والإشراق ، ونشهد أن لا إله إلا الله شهادة الإخلاص ، التي نرجو بها الخلاص يوم التلاق ، وتهون بها سكرات الموت إذا حشرجت الأنفس في التراق.
ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أشرف الخلق على الإطلاق ، المبعوث لإقامة الحق والعدل وإتمام مكارم الأخلاق ؛ بكتاب باهر المحجة ، وسنة واضحة الحجة ، وبراهين كالصبح في الإنفلاق ، والشمس في الائتلاق.
صلى الله عليه وعلى آله الغطاريف ، وعلى أصحابه الصناديد ، وعلى أنصاره الكرام العتاق ، الذين نشروا التوحيد المحض في الآفاق ، وجمعوا كرم الأفعال إلى كرم الأعراق ما هبت نسائم الأسحار ، وتفتقت كمائم الأزهار ، وسجعت الورق على الأوراق وسلم تسليما كثيرا.
وبعد : فقد مضت علي حجح كثيرة ، وأنا أهم بأداء فريضة الحج ، والعوائق تعوق ، والموانع من حول إلى حول تحول ، إلى أن يسر الله بلطفه وحسن توفيقه لي أداء هذا الفرض في سنة (1348) ه أي منذ
पृष्ठ 35
سنتين كاملتين ، فكان قصدي إلى الحجاز من لوزان بسويسرة ، عن طريق نابولي بإيطالية ، إذ ركبت منها البحر على باخرة إنكليزية إلى بور سعيد ، حيث نزلت ، وفي اليوم التالي ذهبت إلى السويس ، ومنها أبحرت إلى الحجاز ، في باخرة مكتظة بالحجاج ، فأحرمنا ولبينا من بحر رابغ ، ووصلنا إلى جدة من السويس في اليوم الرابع ، على ما وصفت في رحلتي الحجازية التي سيقرؤها المطالع.
وفي مساء يوم وصولي إلى جدة يسر الله دخولي إلى البلد الأمين ، مبادرا إلى البيت العتيق بالطواف ، وإلى المروة والصفا بالسعي ، وبعد ذلك بيومين ، صعدنا إلى منى فعرفة ، ثم أفضنا منها إلى المزدلفة ، حيث بتنا ليلة ، ثم عدنا إلى منى ، حيث لبثنا ثلاث ليال ، وعدنا إلى البيت الحرام ، وتممنا مناسك الحج ، والله يتقبل منا ، ويتوب علينا ، إنه قابل التوب ، غافر الذنب ، العلي الكبير ، لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ويعفو عن كثير.
ولقد وجدت مناسبا أن أنشر ما ارتسم في مخيلتي من هذه المشاهد ، وما انطبع في لوح دماغي من مناظر تلك المشاعر المباركة والمعاهد ، مقرونا بما يعن لي من الآراء ، مشتملا على ما عندي من الملاحظات التي أحب أن يطلع عليها القراء ، فأرسلت إلى جريدة «الشورى» بمقالات كنت نشرتها فيها الفينة بعد الفينة. ذاكرا فيه مكة وعرفة ، ومنى والمزدلفة ، وتلك البقاع المعظمة المشرفة.
ولما كنت بعد ذلك قد صعدت إلى الطائف مستشفيا من سقم أصابني في أثناء أداء الفريضة ، كتبت أيضا عن الطائف وجبالها ومرابعها ومنازهها ، وجنانها وكرومها وفواكهها ، ولم أقتصر في الوصف على جنانها الناضرة ، وأحوالها الحاضرة ، بل كررت النظر إلى الوراء من أمور تاريخية ماضية ، ومددته إلى الأمام في أمور اجتماعية مستقبلة ، بحيث جمعت في هذه الرسائل بين مباحث جغرافية وتاريخية ، ومواقف
पृष्ठ 36
سياسية واجتماعية ، ومسائل عمرانية واقتصادية ، ودقائق لغوية وأدبية ، متناولا من القديم والحديث ، ومتنقلا بين التالد والطريف.
ومن حيث أني كنت أصدرها من وقت إلى آخر في جريدة سيارة كانت هيئتها أقرب إلى أسلوب الجرائد منها إلى أسلوب الكتب ، لأن الكاتب إذا كتب بين أسبوع وآخر متأثرا بالعوامل المختلفة ، ملاحظا المتجددات اليومية ، مراعيا حالة قرائه الروحية ذهب به الاستطراد كل مذهب ، وشردت به شجون القول فشرق وغرب ، ولهذا جاء في هذا الكتاب استطراد ليس بيسير من فصل إلى فصل ، وإن كان جميعه مرتبطا بالموضوع ، ومردودا إلى الأصل.
ثم رأيت أن إكمال هذا التأليف على الخطة التي انتهجتها أولا من نشره رسائل متفرقة على الأسابيع قد يأخذ وقتا طويلا ، ولا ينتهي بأقل من سنتين أو ثلاث ، على أني صرت مشغولا مستغرقا برحلتي الأندلسية ، التي قد تأخذ مجلدات عدة (1)، ولا يتأتى لي الاشتغال بغيرها هذه المدة ، فعدلت مؤخرا عن الطريقة الأولى ، وقطعت رسائل هذه الارتسامات عن «الشورى» ، وانصرفت إلى إكمال هذا التصنيف توا ، حاثا مطية القلم إلى غايته ، ماضيا به بلا توقف إلى آخره ، فكان ما نشر منه «الشورى» نحو الثلث ، وما لم ينشر في «الشورى» ولا في جريدة غيرها نحو الثلثين.
هذا ، ولما تسنى إكماله ، وبلغ الإبدار هلاله ، رأيت أن أتوجه باسم جلالة الملك الهمام ، الذي هو غرة في جبين الأيام :
* «عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود»
* ملك الحجاز ونجد وملحقاتها
تذكارا لجميل الأمن الذي مد على هذه البلدان سرادقه ، وعرفانا لقدر العدل الذي وطد فيه دعائمه ، وناط بالإجراء مواثقه ، وابتهاجا
पृष्ठ 37
بالملك العربي الصميم ، الذي صان للعروبة حقها ، وللإسلام حقائقه ، أدام الله تأييده ، وأطلع في بروج الإقبال سعوده ، وخلد شمسه الشارقة ، ووفقه للاتفاق مع سائر ملوك العرب وأمرائها ، والعمل مع رجالاتها العاملين لرقيها وعلائها ، ولا سيما الملكين الهمامين ، الفاضلين الكاملين ، الماهدين المجاهدين ، المتوكل على الله «الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين» صاحب اليمن ، و «الملك فيصل بن الحسين» صاحب العراق والرافدين ، أدام الله توفيقهم جميعا لما به حفظ تراث الأمة العربية ، وإبلاغها المقام الذي تسمو إليه نفوس العرب الأبية ، وحياطتها بوحدة الكلمة من سطوات الغدر ، وغوائل المكر ، التي لا تفارق حركات الدول الأجنبية ، والله تعالى سميع الدعاء ، كفيل بتحقيق الرجاء : آمين.
पृष्ठ 38
* من السويس إلى جدة ووصف الإحرام والتلبية
فصلنا من ميناء السويس في (8) مايو أيار على باخرة تقل نحوا من (1300) حاج من إخواننا المصريين ، وفيهم بعض المغاربة ، فسارت بنا الباخرة رهوا ورخاء ، لم نشعر فيها إلى جدة بأدنى حركة للبحر تزعج الراكب ، وإنما كان المزعج هو اكتظاظ السفينة بالراكبين ، حتى لا يقدر أحد أن يمر من شدة الزحام.
وفي اليوم الثالث من مسيرنا ، ناوحنا (1) ميناء رابغ ، ولما كان الحجيج الوارد من الشمال في البحر الأحمر عليه أن يحرم من رابغ ، فقد أحرم جميع الحجاج الذين في الباخرة ، وارتفعت الأصوات من كل جهة : «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك» فاستشعر الناس من الخشوع في أثناء ضجيج الحجيج هذا ما اتصل بأعماق القلوب ، وتغلغل في سرائر النفوس ، وأحس الجميع أن البيت الذي يخلع الناس تعظيما له أثوابهم قبل الوقوف بعتبته بمسيرة يومين ، ويشتملون في القصد إليه ما ليس فيه شيء من المخيط لبيت مقدس ، لا يؤمه الناس كما يؤمون سائر البيوت ، وإنه فوق بيوت الملوك ، وفوق مقاصير القياصرة ، وأواوين الأكاسرة ، التي لا يحرم في الطريق إليها أحد ، لا من بعيد ولا من قريب.
पृष्ठ 39
وما زال الناس مستشعرين الخشوع تلك الليلة ، مواظبين على التلبية ، مترقبين طلوع الفجر ، الذي يدنيهم من جدة ، ميناء البيت العظيم الذي يؤمونه ، إلى أن انفلق الصبح ، وأخذت تبدو جبال الحجاز للعين المجردة ، فارتفعت الأصوات بالتهليل والتسبيح والتكبير ، وازداد ضجيج التلبية للعلي الكبير ، وخالط الهيبة والخشوع بالقدوم على البيت الحرام الفرح والابتهاج بالوصول إلى أطهر بقعة وأقدس مرام ، ولم تكن ترى إلا عيونا شاخصة ، ولا تحس إلا قلوبا راقصة ، والجميع متطلعون إلى سواحل الحجاز ، منتظرون بذاهب الصبر أن يقبلوا على جدة.
فلما كان ضحى اليوم الرابع من ذي الحجة دخلت الباخرة مرسى جدة ، لكن بتؤدة عظيمة ، لما في هذا المرسى من الجبال والصخور ، التي تكاد رؤوسها تبرز من تحت لجج البحر ، وإذا بخمس عشرة باخرة راسيات في ذلك الميناء على أبعاد متفاوتة من البر.
* وصف جدة ، وغرابة ألوان بحرها
ولقد طاب لي من ميناء جدة منظران ، لا يزالان إلى الآن منقوشين في لوح خاطري :
أحدهما :
** رؤية هذه البواخر
لا تستحق أن ترفأ إليها البوارج ولا السفن ، فإن وراءها من المعنوي أمرا عظيما ، ومقصدا كريما ، هذه البواخر الكثيرة ماثلة أمام جدة من أجله ، ولقد قيل لي في جدة : ماذا رأيت!!؟ فمن العادة أن تجتمع في مياه جدة ثلاثون باخرة وأربعون باخرة ، وقد يبلغ عدد الراسي فيها إلى خمسين باخرة ، حتى يعود البحر هناك غابا أشبى (1)، وتظن نفسك في هامبورغ أو نيويورك.
पृष्ठ 40
وأما المنظر الثاني : فهو منظر مياه هذا الميناء ، فلقد طفت كثيرا من البحار ، وعرفت أكثر البحر المتوسط ، والبحر الأسود ، وبحر البلطيق وبحر المانش ، والأوقيانوس الأطلانتيك (1)، ولم يقع بصري على شىء يشبه مياه بحر جدة في البهاء واللمعان ، كنت كيفما نظرت يمنة أو يسرة أشاهد خطوطا طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدد الألوان ، وتألق الأنوار ، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنابي وبرتقالي وأخضر إلخ. ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أن هذه الخطوط مستقيمة ، وأن قسي قزح مقوسة ، وأن هذه في السماء ، وهاتيك في الماء ، وقد تشبه هذه الخطوط ذيول الطواويس ، لا فرق بينهما إلا في كون هذه الذيول المنسحبة على وجه البحر عظيمة جدا ، تمتد مئات من الأمتار وبعرض عشرات منها ، ولكن في تعدد الألوان وموازاة بعضها لبعض ، وشدة تألقها الآخذ بالأبصار لا تجد بينهما بونا. فكأن في كل جهة من بحر جدة مسرح طواويس سابحة في اللجج الخضر ، وظهورها إلى سطح الماء الواحد منها بقدر ألف طاووس مما نعهد.
قضيت العجب من هذا المنظر ، وقلت : إن مثل هذا الميناء لا تمله النواظر ، ولا تشبهه المناظر ، مهما كانت نواضر.
ثم سألت ربان الباخرة وهي من البواخر الهندية ربانها إنكليزي عما إذا كان رأى هذا المنظر في بحر آخر ، وقلت له : إني جلت كثيرا في الدنيا ، ورأيت أبحرا وبحيرات وأنهارا لا تحصى ، ولم أعهد مسرح لمحة على سطح ماء يحاكي في البهاء هذا الميناء ، فما قولك أنت؟
قال لي : مهما يكن من سيرك في الأرض ومعرفتك للبحار ، فلا
पृष्ठ 41
تعرف منها جزءا مما أعرف ، وأنا أقول لك : إني لا أعهد هذه المناظر البديعة إلا لهذا الميناء وحده.
فسألته عن السبب في تشكل هذه الألوان.
فقال : إن قعر البحر هنا ليس ببعيد ، وإن فيه أضلاعا مكسوة نباتا بحريا متنوع الألوان والأشكال ، وإن هذه الأضلاع ناتئة قريبة من سطح الماء ، فتنعكس مناظرها إلى الخارج ، ويزيدها نور الشمس رونقا وإشعاعا.
وقيل لي فيما بعد : إن ملوحة البحر الأحمر زائدة ، وإن هذه الملوحة هي السبب في تكون هذه الشعاب ، التي تكثر في هذا البحر ، وتجعل مسالكه خطرة ، وإن هذه الشعاب تنمو وتعلو حتى تقارب سطح الماء ، ومنها ما يبرز عن سطح الماء ، فيكون جزيرة.
وإن هذه الشعاب متكونة من أعشاب وحيوانات بحرية من طبقة الإسفنج ، وهي ذوات ألوان شتى ، كلها ناصع ، ومنها ما هو أحمر ساطع ، ومنها ما هو أخضر ناضر ، ومنها ما هو أصفر فاقع ، ومنها ما هو دون ذلك.
وقد يقتلع الملاحة والغواصة منها أشجارا تسمى بشجر المرجان ، وهي في غاية الجمال ، ومن أبهى ما يوضع في أبهاء القصور للزينة.
فهذه الشعاب هي التي تنعكس ألوانها على سطح الماء ، فتكون أشبه بذيول الطواويس ، أو بقسي السحاب ، وهي في الوقت نفسه الأخطار الدائمة على السفن ، والغيلان المتحفزة لابتلاعها ، فسبحان الذي أودع فيها الحسن ، ولكنه أنزل فيها البأس ، وجعلها غائلة للمراكب. ولقد صدق المثل : «إن من الحسن لشقوة».
قالوا : وإن آمن مرسى في الحجاز مرسى رابغ ، ذلك لعمق غوره ، وقلة شعابه ، وعللوا ندور الشعاب فيه بكون ملوحة بحر رابغ أقل من ملوحة سائر المراسي ، وهذا من كثرة السيول المنصبة على رابغ ، فالماء
पृष्ठ 42
الحلو قد نقص من ملوحة ميناء رابغ ، وعافاه من تلك الشعاب ، التي هي آفة الموانىء الأخرى في البحر الأحمر.
وحبذا لو قامت هيئة جيولوجية بالفحص اللازم لأحوال البحر الأحمر الطبيعية ، وأعطت حكمها في أسباب تكون هذه الشعاب ، وكثرتها في هذه الموانىء ، وفي منشأ هذه المناظر الجميلة ، التي تلوح للرائي إذا أقبل عليها ، فإن الأسباب التي ذكرناها لم نتوكأ فيها على تقرير فني ، بل على الكلام الذي يدور على ألسنة الناس.
هذا ما كان من تأثير بحر جدة في خاطري.
فأما بر جدة ، فالبلدة لا بأس بها ، ولا يوحش الداخل منظرها. نعم إن بناءها لا يزال كأنه من القرون الوسطى ، ولكن بناء القرون الوسطى ليس كله منبوذا. وقد بدأ المهندسون يقلدونه ، ويرجعون إلى كثير منه.
ولعمري لست ممن يحب الجدة لجدة في طرز البناء ، ولكني أتمناها لها في استعمال الآلات الميكانيكية الحديثة ، والطرق العصرية في مرافق الحياة ، وفي الصناعة ، والتجارة ، وسائر أركان العمران.
وأما أسلوب البناء فليس فيه ما يستهجن ، بل أرى نجارة الأبنية فيها راقية ، وهذه الرواشن الكثيرة اللطيفة التي قد أعجبت الكولونيل لورانس الإنكليزي يوم جاء جدة في الحرب الكبرى قد أعجبتني أنا أيضا.
وقد أخنت الحرب الكبرى على معظم عمران جدة فيما أخنت عليه من عمران هذا العالم ، وازداد جزرها في الحصار الأخير قبل أن استولى عليها الملك ابن سعود ، فلما ألقت بمقاليدها إلى جلالته ، بدأ يرجع إليها العمران ، واستؤنف النشوء ، ولا تمضي سنوات معدودات حتى تسترجع درجة عمرانها السابقة.
पृष्ठ 43
* شعوري القومي في جدة والحجاز
يلذ الإنسان عند دخوله إلى جدة تذكره أنها باب مكة المشرفة ، وأن المزار أصبح قريبا ، وقد لذني أنا يوم دخولي إليها زيادة على ذلك ما شعرت به من أني هنا لست تحت سيطرة أوربية ... نعم شعرت منذ وطئت قدمي رصيف جدة أني عربي حر ، في بلاد عربية حرة ، شعرت أني تملصت من حكم الأجنبي الثقيل ، الملقي بكلكله على جميع البلاد العربية ويا للاسف حاشا مملكتي الإمامين عبد العزيز ابن سعود ، ويحيى بن محمد حميد الدين.
شعرت أني حر في بلادي ، وبين أبناء جلدتي ، لا يتحكم في رقبتي المسيو فلان ، ولا المستر فلان إلخ بحجة انتداب أو احتلال ، أو سيطرة أو حماية أو وصاية ، أو غير ذلك من الأسماء المخترعة ، التي يراد بها تنعيم مس الفتوحات ، وتخفيف مرارتها في الأذواق.
شعرت أني إن كنت خاضعا هنا لحكومة ، فكخضوع لويد جورج لحكومة إنكلترة ، وكخضوع كليمنصو لحكومة فرنسة ، أي أني خاضع لحكومة عربية بحتة ، رأسها وأعضاؤها مني وإلي ، وأنا منها وإليها ، وبعبارة أخرى إني هنا خاضع لنفسي ، وإن كل من أراه من رعاياها إنما هو خاضع لنفسه ، وأن الأمر في هذه الديار مع العرب هو على حد ما قال الصوفية : المكلف هو المكلف ، وإن تعداد الوجودات هو تعداد ألوان ، لا تعداد أنواع.
पृष्ठ 44
شعرت أن رئيسي هنا هو ابن جلدتي ، الذي يغار علي كما أغار على نفسي ، وأن الجند الذي يحيط بي ، ويحفظ الأمنة علي وعلى غيري هم ممن أجتمع وإياهم في أرومة واحدة ، وممن أرمي وإياهم إلى هدف واحد ، فلا تثقل علي سلطتهم ، ولا يتكاءدني (1) الخضوع لنظامهم ، لأني أرى فيه نظام أمتي ، وانتظام شملي.
وليس هنا ذلك الرئيس الغاشم ، الثقيل الوطأة ، السيء النية ، المتكبر المتجبر المتغطرس ، الغريب عني ، الذي لست منه ولا هو مني ، الآتي إلى بلادي ليتحكم في أمورها ، ويستغل خيراتها ، ويضرب على سكانها الذل والمسكنة ، لأنه لا يقدر أن يعتز إلا بذلهم ، ولا أن يثري إلا بفقرهم ، ولا أن يقوى إلى بضعفهم ، ولا أن ينصع وجهه إلا بفقر دمهم ، وسيأتي يوم نقول فيه : ولا يحيا إلا بموتهم.
لم أكن هنا في البلاد التي مع أنها وطني ووطن آبائي وأجدادي ، ووطن قومي وأمتي ، وجني سواعدهم ، وثمرة دمائهم ، التي سالت فيها أنهارا ، لا يؤذن لي أن ألقي عليها نظرة بعد غربة متطاولة ، ونبوة متمادية ، ولا أن أدوس على ترابها بقدم خفيفة ، ولو ساعة من الزمن ، وذلك لأن غريبا غلب عليها ، فقبض على أعنتها ، وتصرف بها كيف شاء ، يدخل من يشاء ، ويخرج من يشاء ، فأصبح هو صاحب البيت ، وأصبح أصحاب البيت هم الغرباء ...
شعرت في الحجاز أني تظلني راية عربية محضة حقيقية ، لا راية مشوبة بشعار أجنبي ، ولا راية ليس يسير من تحتها جند عربي ، إلا ما كان من قبيل مرتزقة أو مستأجرين تحت قيادة من لا يرقب في هذه الأمة إلا ولا ذمة ، وإنما ينظرون إليها كطعام للأمم ، التي تدعي عليها الوصاية ، وكمتمم لأسباب رفاهيتها أو نعيمها.
पृष्ठ 45
لقد صدقت الجريدة الدمشقية التي قالت : إنه لم يبق في البلاد العربية بلاد أقدر أن أدخلها إلا الحجاز ، والحقيقة أني أدخل أية بقعة أردت دخولها من جزيرة العرب حامدا الله على بقاء هذه الجزيرة تحت سلطان أهلها دون سواهم ، وعلى أن حكومتي الحجاز ونجد واليمن لا تعرف شيئا من الامتيازات الأجنبية ، التي تكاد تغرق في لججها الأمم التي تحت الوصاية ، والتي لا يزال منها رسيس حتى في تركية ، فالإفرنجي سواء في مملكة ابن سعود أو في مملكة الإمام يحيى خاضع للشريعة الإسلامية بجميع أحكامها.
* الملك ابن السعود
** ثم شاهدت جلالة ملك هذه الديار وخادم الحرمين الشريفين «عبد
العزيز بن عبد الرحمن بن سعود» وكان في جدة ذلك اليوم ، فوجدت فيه الملك الأشم الأصيد ، الذي تلوح سيماء البطولة على وجهه ، والعاهل الصنديد الأنجد ، الذي كأنما قد ثوب استقلال العرب الحقيقي على قده ، فحمدت الله على أن عيني رأت فوق ما أذني سمعت ، وتفاءلت خيرا في مستقبل هذه الأمة.
لا أقصد في إعجابي هذا بشخصية الملك ابن سعود تنقص أحد من ملوك العرب الآخرين ، ولا التعريض بأي ملك أو أمير ينطق بالضاد ، بل نحن نتمنى تأييد الجميع ، وتسديد الجميع ، كما نتمنى تأييد ابن سعود وتسديده بدون فرق ، وحبا بمصلحة الأمة العربية التي استقلالها مربوط باستقلالهم ، فأما إذا كانوا يشترطون على المحب لهم والمتواجد على خيرهم أن يكره لهم ابن سعود ، أو أن يسكت عن الإشادة بحسناته ، والإعجاب بما آتاه الله من المواهب ، فإن شرطا كهذا ليس من الانصاف في شيء ، ويكون من البديهي أننا لا نقبله.
पृष्ठ 46
ركبت بدعوة جلالة الملك ابن سعود إلى يساره في السيارة (1) وسرنا بمعيته مساء يوم وصولي ، وذلك إلى البلد الأمين ، حماه رب العالمين.
ولم أجد الحرارة في جدة فوق ما تتحمله النفس ، حتى نفس الذي لم يتعود الحر ، نظير هذا العاجز ، بل هواء البحر يرطب جو جدة ، ويخفف من سموم الصحراء ، وذلك بخلاف مكة التي حرها شديد.
* الطريق من جدة إلى مكة
فأما الطريق من جدة إلى مكة في هذا الفصل ، فليس فيها ما يسرح به النظر في مونق أو ناضر ، فلا ترى من أولها إلى ما يقارب آخرها غصنا أخضر يلوح ، ولا رقعة بقدر الكف خضراء ، ولا يكاد يقع بصرك من الجانبين إلا على رمال محرقة ، تدخل العشايا ، ويجن الليل ، وهي حافظة لحرارة النهار ، وعلى آكام وأهاضيب أكثرها من الحجارة السود ، كأنها من بقايا البراكين.
ولما وصلنا إلى بحرة ظننت أني أرى فيها قرية أشبه بالقرى ، فإذا بمجموع عشاش وأخصاص وبيوت لا ترضي ناظرا ، وهناك أماكن استعاروا لها اسم المقاهي ، وهي في الحقيقة أخصاص ، تشتمل على مقاعد من خوص ، يجلس عليها المسافرون ، الذين بلغ بهم الجهد ، فيشربون شيئا من الشاي ، أو ينقعون غلتهم بماء لا غناء فيه ، وكان الأولى بأهل مكة وجدة أن يجعلوا من بحرة منزلا تقر به عين المسافر ، ويجد فيه خضرة ونعيما بعد تلك الرمال المحرقة ، والآكام الجرداء ، والأمل أن حكومة الملك ابن سعود تنظر إلى هذه العلة فتزيلها.
पृष्ठ 47
وقد قيل لي : إن طريق جدة إلى مكة ليست طول السنة في هذه القسوة التي رأيتها فيها ، بل هي في الربيع غيرها في الصيف ، إذ يرى منها المسافر في الربيع كلأ كثيرا ، وخصبا نضيرا ، وقتادا وطلحا ، وشجرا وسرحا.
كانت قوافل الحجاج من جدة إلى مكة خيطا غير منقطع ، والجمال تتهادى تحت الشقادف ، وكثيرا ما تضيق بها السبيل على رحبها ، وكان الملك أيده الله من شدة إشفاقه على الحاج ، وعلى الرعية ، لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ، ولا يفتأ ينتهر سائق السيارة ، كلما ساقها بعجلة ، قائلا له : «تريد أن تذبح الناس». وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته شقدفا ، أو تؤذي جملا أو جمالا ، وهكذا شأن الراعي البر ، الرؤوف برعيته ، الذي وجد أنه مأمور بمعرفة واجباته.
وما زلنا نسير حتى دخلنا حدود مكة ، التي يحرم فيها الصيد ، فالمسافة بالسيارة لا تتجاوز أربع ساعات ، وبعد ذلك وصلنا إلى الثكنة العسكرية ، وصرنا بين البيوت ، فعلمنا أننا تشرفنا بدخول البلدة التي تشرفت بمولد محمد صلى الله عليه وسلم سيد الوجود ، وبالبيت الذي طهره إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فقصدنا توا إلى البيت الحرام ، حيث طفنا وسعينا ، وجأرنا ودعونا ، والله يتقبل الدعاء ، ويغفر الذنوب في ذلك المقام الكريم ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) [الزمر : 53].
* * *
पृष्ठ 48
* الكلام على مكة المكرمة
* صفتها الحسية ومكانتها المعنوية وكعبتها البهية
* وهوي القلوب إليها من جميع البرية
* ورزقها من جميع الأغذية والثمرات استجابة لدعاء إبراهيم صلى الله عليه وسلم
** .
جعل الله مكة مكانا لعبادتة تعالى لا غير ، وكأنه سبحانه وتعالى لما قضى بأن تكون محلا للعبادة ومثابة للناس وأمنا قضى أيضا بتجريدها من كل زخارف الطبيعة ، ولم يشأ أن يطرزها بشيء من وشي النبات ، ولا أن يخصها بشيء من مسارح النظر المونقة ،
** حتى لا يلهو فيها العابد عن ذكر الله بخضرة ولا غدير ، ولا
بنضرة ولا نمير ، ولا بهديل على الأغصان ولا هدير ، وحتى يكون قصده إلى مكة خالصا لوجه ربه الكريم ، لا يشوبه تطلع إلى جنان أو رياض ، ولا حنين إلى حياض أو غياض. وحتى يبتلي الله عباده المخلصين ، الذين لا وجهة لهم سوى التسبيح له ، والتأمل في عظمته تعالى ، فكانت مكة أجرد بلدة عرفها الإنسان ، وأقحل بقعة وقعت عليها العينان.
** مكة هذه البلدة المقدسة ، التي هي فردوس العبادة في الأرض ،
وجنة الدنيا المعنوية
صماء ، لا عشب [فيها] ولا ماء ، قاتمة اللون ، كأنها بقايا البراكين ، إذا مر عليها الإنسان يوما من أيام الصيف
पृष्ठ 49
في هاجرة ظن نفسه يدوس بلاط فرن ، أو يضطجع في حمام ، وإن ترك على تلك الصخور لحما كاد يشتوي بلا نار ، أو ماء كاد يغلي بلا وقود ، وليس في تلك الشعاب أشجار ولا أنهار ، ولا مروج ولا عيون تلطف من حرارة تلك الحجارة السود في حمارة القيظ ، وكأن القاصد إلى هذا الوادي إنما يزداد بهذه القسوة الجغرافية أجرا وثوابا وارتفاع درجات ، فبقدر ما أفاض الله على هذا المكان من الشعاع المعنوي قضى بحرمانه من الحلية المادية.
وقد وصف الله تعالى هذه الحالة فقال عن لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ) [إبراهيم : 37] وظاهر من هذا أنه واد مجرد للعبادة دون غيرها ، وأنه غير ذي زرع ولا ضرع ، ليزداد أجر الناس بالقصد إليه ، والعكوف فيه.
ولما كان شد الرحال إلى واد كهذا خال من جميع أسباب الحياة تقريبا ليس مما يرغب فيه الناس ، الذين من عادتهم أن يقصدوا الأماكن الرغيدة والمتنزهات ، وأن يعولوا على البقاع المريعة التي يأتيها رزقها رخاء ورغدا ، دعا إبراهيم ربه فقال : ( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [إبراهيم : 37].
فبدعوة إبراهيم هذه هوت إلى هذا المكان وإلى المتمكنين فيه أفئدة ، ورفرفت عليهم جوانح من جميع فجاج الأرض ، ترى الناس منذ ألوف من السنين يحجون هذا البيت المحرم ، ويحرمون قبل الوصول إليه بمراحل ، ويوفضون إليه كأنما يوفضون إلى أنزه بقاع البسيطة ، وأطيبها نجعة ، وأكثرها خيرا وميرا ، وتجد قلوبهم في الرحلة إليه ملأى بالفرح ، لا يكادون يصدقون أنهم مشاهدوه من شدة الوجد ، وغلبة الهيام ، حتى إذا شاهدوه ، فاضت العبرات ، وخفقت الجوانح ،
पृष्ठ 50
وتمايلت الأعطاف ، وانتقل الناس إلى عالم تكاد تقول : إنه غير هذا العالم ، قال ابن دريد (1):
يحملن كل شاحب محقوقف
من طول تدآب الغدو والسرى
وهم إذا وصلوا إلى مكة وجدوا عندها من الثمرات والخيرات ما لا يجدونه في البقاع التي تشقها الأنهار ، وتظلها الأشجار ، وذلك أن المجلوب إلى مكة من أصناف الحبوب ، والخضراوات ، والفواكه ، والمحمول إليها من البضائع ، والمتاجر ، واللباس ، والفراش ، والرياش ، والطيب ، وغير ذلك يفوق ما يجلب إلى عشر مدن من أمثالها في عدد السكان ، وربما أكثر.
لا يكاد الحاج يشتهي شيئا إلا ويجده في هذه البلدة القاحلة ، فحول مكة من المزارع ، والمباقل ، والمباطخ ، والمقاثي ، وفي جبال الطائف من الجنان والبساتين والكروم ما لا يأخذه العد ، ولا يدرك منه شيء في فصل من الفصول إلا انحدر به أهله إلى مكة ، فالثمرات التي دعا إبراهيم ربه من أجلها ، تفيض على البلد الأمين كالسيل المتدفق ، أو العارض المغدق.
* مياه مكة في الجاهلية والإسلام
وأما الماء ، فقد كان في أم القرى من أيام الجاهلية آبار نبع ومصانع ، مما يجتمع من مياه المطر ، ومن هذه الآبار اليسيرة ، التي حفرها لؤي بن غالب ، والروي ، التي حفرها مرة بن كعب ، وخم ورم ، هما من حفر كلاب بن مرة ، والجفر والعجول وبذر ، التي حفرها
पृष्ठ 51
هاشم بن عبد مناف ، وسجلة وخم ورم أخريان ، حفرهما عبد شمس بن عبد مناف ، وأم أحراد ، والسنبلة ، وهي حفر بني جمح ، والغمر لبني سهم ، والحفير لبني عدي ، والسقيا لبني مخزوم ، والثريا لبني تيم ، والنقع لبني عامر بن لؤي ، وبئر حويطب لحويطب بن عبد العزى من بني عامر بن لؤي ، وبئر أبي موسى الأشعري بالمعلاة ، وبئر شوذب ، وبئر بكار ، وبئر وردان ، وسقاية سراج ، وبئر الأسود للأسود بن سفيان من مخزوم ، وغيرها.
ومن هذه الآبار ما هو معروف إلى اليوم باسمه ومكانه ، ومنها ما قد طوي اسمه ، أو ردم مكانه ، فإذا سألت علماء مكة لم يعرفوه ، والظاهر أن جميع هذه الآبار لم تكن لتكفي مكة في الجاهلية ، إلى أن وسع عبد المطلب بئر زمزم ، فكثر الماء ، وارتوى الحجيج.
* عين زبيدة رحمها الله
أما بعد الإسلام فكثر الحجاج أضعافا مضاعفة عن ذي قبل ، واشتدت أزمة الماء ، لا سيما في عرفة ومنى أيام الحج ، فانتدبت زبيدة امرأة الخليفة هارون الرشيد رحمها الله لهذا الأمر ، وأسالت العين المسماة عين زبيدة من مسافة نحو أربعين كيلو مترا ، وهو عمل عظيم جدا ، يستنطق الألسن بالترحم عليها كلما ذكرت ، أو كلما روى حاج ظمأه ، أو أسبغ وضوءه ، منذ نحو (1100) سنة إلى اليوم وإلى ما شاء الله.
ولقد جرت زبيدة رحمها الله هذا الماء من وادي نعمان الشهير في قناة ، كانت تنتهي قبل الوصول إلى مكة بمسافة ثلاثة أرباع الساعة ، وهذه القناة أكثرها تحت الأرض ، وفي بعض الأماكن تظهر على وجه الأرض تابعة لخطتها الهندسية ، وأما علو سقف القناة ، ففي بعض الأماكن يقدر أن يمر فيها الفارس راكبا ، وفي غيرها لا يقدر أن يمشي
पृष्ठ 52
إلا الراجل ، وليس خطها مستقيما على اطراد ، بل فيه تعاريج كثيرة ، قد تكون اقتضتها طبيعة الأرض ، أو يكون مهندسو القناة مروا بعيون أرادوا أخذها في طريقهم ، فعرجوا عليها ، وحيطان القناة من الجانبين غير مطلية بالجير ، ولا مجصصة ، بل مبنية بالحجر البسيط ، وذلك حتى يرشح الماء من خلال الحيطان ، لأن الجص من شأنه أن يمنعه كما لا يخفى ، ومن دقائق هندسة هذه القناة أنهم جعلوا انحدار الماء في المجرى خفيفا ، وذلك خشية من أن يحفر في الأرض فيما لو كان شديدا ، فتصير أرض المجرى مع توالي القرون أسفل كثيرا من الحيطان ، فتصبح هذه على شفا جرف هار.
ولهذه القناة خرزات مفتوحة من سطحها ، على مسافة كل (20) أو (30) ذراعا واحدة ، وذلك لأجل سهولة التعزيل.
قالوا : إن زبيدة أنفقت على هذه العين مليون دينار ، وأنها لما انتهت من العمل جيء إليها بدفاتر الحسابات لمراجعتها ، فأمرت بطيها ، وقالت : إنما عملنا ما عملناه في سبيل الله ، فلا فرق بين أن تكون النفقة أكثر أو أقل.
وكان في الماضي موكلا بهذه القناة ثلاثمئة رجل من بيشة ، وكانوا يحرسونها ليلا ونهارا ، ومنهم أناس عند كل خرزة ، فأما الآن فإن الحكومة جاعلة لها دركا خاصا ومفتشين ، لا يزالون يتعهدونها من رأس نبعها إلى مكة.
وقيل لي : إنه لا يزال في وادي نعمان عيون من الممكن شراؤها ، وإضافتها إلى عين زبيدة.
ثم إنه يوجد عين أخرى اسمها عين الزعفران ، جددتها ملكة أخرى اسمها زعفران ، قيل لي : إنها من إحدى الأسر المالكة كانت بمصر ، ولم أجد ذلك في كتاب ، فهذه العين مجرورة من وادي حنين ، من
पृष्ठ 53
مسافة لا تقل عن مسافة قناة عين زبيدة ، إلا أن ماء عين زبيدة أغزر وأعذب.
وتتصل قناة الزعفران بقناة عين زبيدة في محلة المعابدة ، في أول مكة من جهة الداخل من منى.
وكان [سليمان القانوني] أحد سلاطين بني عثمان قد أوصل هذه المياه إلى مكة سنة (979) ه ، فأكمل ذلك العمل العظيم ، الذي قامت به زبيدة ، واقتدت بها الزعفران فيما قالوا.
وبعد ذلك منذ نحو أربعين سنة جاء أحد الهنود المسلمين ، وتبرع بمبلغ من المال ، وجمع من مسلمي الهند مبلغا آخر ، وبنى بهذه الأموال بضعة عشر خزانا للماء ، في كل حارة من حارات مكة خزان ، فكان بذلك للناس مرفق عظيم ، وهذا الخزان يقال له اليوم بمكة بازان ، وهي لفظة إنكليزية ، جاءتهم من الهند ، معناها بركة أو صهريج ، ومع هذا فقد بقي الماء عزيزا في موسم الحج ، فربما بيعت قربة الماء بأربعين قرشا.
ولما تولى الحجاز الملك «عبد العزيز بن سعود» زاد سبل الماء في مكة ومنى ، فأزاح جانبا كبيرا من العلة ، وفي أيامه تأسس في مكة معملان للجمد (الثلج) فكان في هذين المعملين من إزاحة العلة ، وشفاء الغلة ، ما لا يخفى على من يعلم حر مكة في أيام السرطان والأسد والسنبلة (1)، فقد أصبح أكثر الحجاج والسكان يشفون أوامهم (2) بالماء المثلوج ، ولعمري لا أجد مؤنسا في حر كهذا الحر كألواح الجمد ، التي ترتاح النفس إلى مجرد النظر إليها ، قبل النهل والعل (3) منها ، وكأنها في فصل كهذا حصون منيعة يتقي بها الإنسان لفحات السموم.
पृष्ठ 54