والحكومة الروسية تخشى تولستوي وتهابه أيضا، ولماذا؟ إن تولستوي إلا رجل فقير بالنسبة إلى المياسير في العالم، ولا ديون له على الحكومة. تولستوي لا يحتكر ولا صنفا واحدا من لوازم الحياة، تولستوي لا يرشي القضاة والحكام، تولستوي لا يشتري نفوذه بالمال، تولستوي لا يعزز قوته الأدبية وسلطته الروحية بالجند والسلاح ولا بالجهل والخرافة. لماذا إذا تهابه حكومته وتعامله كما تعامل حكومة أوروبية أخرى؟
نعم إن الحكومة وتولستوي متساويان، لا بل الفيلسوف الشهير هو أعظم من حكومته وأقوى؛ فهو يكتب إليها طالبا منها أن تقاصه وتضطهده إذا كان ما يقوله ويعمله شرا، ولكن الحكومة الجبانة الحكومة المسحوقة بزواجر النفس وقوارع الضمير تغض الطرف عن تولستوي وتضطهد الضعفاء والفقراء الذين ينتحلون مذهبه ويقرءون كتبه وينصرون مبادئه.
فلماذا لا تضطهد من كان مصدر هذا الشر إذا كانت تعتقده شرا - كما قال في كتاب بعث به إليها؟ لماذا لا تنفي تولستوي، لماذا لا تحبسه، لماذا لا تقتله، لماذا ترتعد من نفوذه وتخشى صولته؟ لأنه يا صديقي ممثل قوة الخير دون تصنع وتكبر وأنانية؛ لأنه مسلح بالحق ومحصن بقلوب مريديه الملتهبة حماسة؛ لأن نفوذه الروحي لا يقاس ولا يحد، لا مثيل له في جميع القوات المادية القائمة بالسلاح والمدرعات ولا في السلطات الروحية الكاذبة المؤسسة على الجهل والطاعة والخرافات؛ لأن أعماله تنطبق على أقواله؛ لأنه مخلص متواضع مهتضم لنفسه لا كأكثر المصلحين متصنع أناني دجال.
إن لتولستوي أعمالا تثبت - كما قلت - أقواله، وله أقوال هي هي أقرب إلى ما سيأتي من رد الفعل على التمدن الأوروبي مما هي إلى التعاليم التي قامت عليها معاقل هذه الحضارة. فهو يكثر من ذكر بعض آيات الإنجيل ويتوسع توسعا عجيبا في بعض أقوال المسيح، ويحث الناس على العمل جملة واحدة بهذه الأقوال وفي الحال، ولكن فاته بأن المسيح أتى ليكمل فكمل ولا حاجة الآن إلى من يحمل رسالته ليكملها، بل الحاجة ماسة إلى أناس ينبهون المسيحيين تنبيها ويبشرون حبا بالحقيقة لا حبا بالمال.
ولكن ما لنا وللتبشير الآن؟ فقد ثبت عند المفكرين بعد أن ظهرت نتائج الرسالة المسيحية بأن أغلب ما فيها لا يقوم مقام الفلسفة الوثنية، وما لنا إلا أن ننتظر رد الفعل ونتائجه التي يشير إليها تولستوي في بعض كتاباته ويحرض الشعب إلى ما يؤدي إليها عاجلا أو آجلا. إن في رد الفعل هذا سحق قوة الأفراد المطلقة وتعزيز قوة الفرد على الإطلاق، فقد تقرر في الجمهوريات أن قوة الأكثرية لا تقوم دائما المعوج ولا تصلح الفاسد، ولا تكون - إلا نادرا - في جانب الحق والعدل والحقيقة.
فلا بد من رد الفعل إذا ولا مناص منه وكل ما هنالك من التعاليم الحديثة والشرائع المدنية الجديدة تنحو هذا النحو، وما زال الشر هذا - أي: تسلط الأفراد ملوكا كانوا أو متمولين على الأكثرية بقوة المال والسلاح - ما زال السلم الذي يبشر به تولستوي في كتبه الأولى بعيدا جدا، ومقاومة الشر بالخير لا يكون الخير دائما فيها، فما الثورات في الأمم إلا نوع من العدل البشري الذي يحده من جهة عدل الإنسان ومن الجهة الأخرى عدل الله.
وأما الأعمال التي تثبت أقوال تولستوي وتعزز تعاليمه فوافرة، ويكفي أن أذكر أنه ولد في ظل دولة ظالمة مستبدة وشب وعاش دمقراطيا حرا، بل اشتراكيا عاملا، بل فوضويا مسالما. ولد حيثما الشرع يعتبر منزلا وذا خاصية إلهية وما رشد حتى نبذ كل سلطة مدنية ودينية. تربى في حضن الترف والبذخ والنعيم، وعاش بين الأشراف والأعيان، ونراه الآن نابذا لقبه ومجردا نفسه من كل زخارف الحياة ولذاتها. ولد ليأمر ويستأثر ويستبد فأخذ يبشر بالحب الشامل والحقوق المتساوية والسلام العام.
ولد لتكون الخدم حافة من حوله أبدا فصار أخا للفلاح وخادما للإنسانية التي تتألم من الظلم والاستعباد. ولد ليتمتع ببذخ الأشراف وجمال منازل الأعيان فترك ما هو ملكه من البيوت وقسم أرزاقه بين فلاحيه أو «شركائه» وهو يسكن الآن في دار قوراء مع امرأته وأولاده، وليس له في البيت بين كل هؤلاء إلا ابنة واحدة تشاركه في اعتقاده وتعيش عيشته، وأما امرأته الكنتس فتهز كتفيها ساخرة وتسير في طريق الأشراف مكابرة. هي تحافظ على لقبها ومركزها وتؤدب المآدب في بيتها لأترابها وهو يعيش وابنته عيشة بسيطة فتقرأ على مسمعه في ساعات الفراغ الكتب التي يحبها بينما هو يعمل الأحذية. امرأته تترفع عن الشعب وتسعى في ازدياد ثروتها وتوسيع أملاكها، وهو يقول قول الاشتراكيين ويعمل به.
وأظن أن الفيلسوف يلبس ثوب الفلاحين ويمشي أحيانا حافيا؛ لأن امرأته تلبس المشد والأحذية العالية الكعاب؛ التطرف يولد التطرف، وهذه بعض الأسباب التي حملته في أيامه الأولى على تأليف روايته المشهورة «لحن كروتسر» وأما الآن فقد بعد عن ذلك الاعتقاد في الزواج وتسامى فوق تلك المبادئ، وهو يعيش وزوجته - مع ما بينهما من الاختلاف والتناقض - يعيش الاثنان في بيت واحد منفردين بعضهما عن بعض وتقدم الكنتس إلى الفيلسوف الزاهد يوما بعد يوم باقة من الزهور، فيا ما أحيلا مثل هذا الاختلاف والائتلاف!
وهنا أقف عند هذا الحد لأسأل سؤالا، ما الذي يجعل تولستوي عظيما؟ بأي شيء تقوم شهرته الكتابية ويتعزز، فما هو في كتاباته فصيحا ولا هو في تعاليمه مبتكرا ولا في رواياته ممتازا. فأسلوبه دائما بسيط ناشف وغالبا مقعر ممل، والذي يقرأ روايات هوغو أو بلزاك ثم يقرأ روايات تولستوي يتبين له التفاوت بينهم فالحماسة وسمو التصور والدقة في الوصف، واختراع الحوادث والإبداع في التنويع والإيهام، والجمع بين المتناقضات والتفنن في أساليب الكتابة، والذكاء والرقة والمجون؛ كلها مزايا تفتقر إليها روايات الروسي الشهير، وهو غير مبدع في تعاليمه؛ لأن مبادئه الاجتماعية وأقواله بالرجوع عن التصنع المدني الفاسد إلى البساطة الأصلية النقية؛ مأخوذة عن روسو، وآراءه السياسية والعمرانية والاشتراكية مستعارة من كارل مكس وهنري جورج الأميركي، وتعاليمه الدينية هي تعاليم المسيح بالذات. ومع هذا وذاك فإنه رجل كبير عظيم.
अज्ञात पृष्ठ