اعلموا أيها الناس بأن الكلمة التي أقولها أعنيها بالذات ولا أحاول ولا أراوغ ولا أجامل في قولي، لا ولا أسحب كلامي ولا أعتذر عن شيء أنشره أجاهد وأثبت وأجد، وسيكون صوتي مسموعا بينكم.» وإن هذه الكلمات لتذكرني بما جاء في سفر أيوب! «لأتكلمن فيفرج عني، أفتح شفتي فأجيب، لا أحابي إنسانا ولا أطرئ بشرا .» وهذي هي الخطة التي وضعها الشاب لنفسه ولجريدته، وثبت عليها ثبوت القمر في دورانه.
شاب فقير لا يعرفه أحد يعيش بالخبز والماء والزبدة وينام على الأرض في مطبعته، شاب وحيد في مذهبه لا شريك له ولا نصير ولا مشجع، فرجال الدين والحكومة والهيئة الاجتماعية وأرباب التجارة كلهم أخذوا يناصبونه العداء ويرسلون عليه البلاء. فعلوا كلهم ذلك لأن ضمير الأمة كان لم يزل خامدا جامدا، وكانت الشهامة لم تزل بعيدة عن قلب الشعب والوطنية بعيدة عن السياسيين، أطهد من أمة حرة وشعب حر؛ لأنه جاهر بالعداء للعبودية والنخاسة، ومع كل ما رمي به من التقبيح والشتائم واللعنات فهو لم يخل مرة واحدة بقاعدته الأساسية التي نشرها في أول عدد من جريدته، فجد وجاهد وثبت وقال قوله بجرأة وحرية وإخلاص.
كان فؤاد الصحافي هذا يلتهب غيرة وحنوا على شعب إفريقي راسفا في سلاسل العبودية في بلاد تدعي الحرية، فصرخ في وجوه مستعبديه صرخة ارتجت لها البلاد الأميركية من أقاصي الغرب إلى أقاصي الجنوب، وبدأت إذ ذاك تظهر أنصاره وتزداد أصحابه فتلبدت الغيوم على آفاق التجارة وفي جوها وأنذرت الأمة بإعصار هائل، فأخذت صواعق المتمولين تتساقط على رأس الشاب ولكنها لم تزعزعه، ضرب مرات ضربا عنيفا وجر في شوارع بوسطن مشتوما ذليلا وندد به الكبير والصغير وأشار إليه أرباب العلم والأدب بأصابع الازدراء والسخرية ومنحت حكومة ولاية جورجيا جائزة لا تقل عن الخمسة آلاف دولار لمن يجيئها به حيا أو ميتا. ولكن الصحافي الحر ظل في مركزه كجبل من جبال الألب راسخة قواعده في أرض الحرية التي لا يموت فيها الفكر ولا يسخر القلب والضمير، ظل متمسكا بعقيدته واشتدت صرخته على أولئك الذين استعبدوا قسما كبيرا من الناس.
ولم يحلم أحد من أعدائه بأن البذور التي زرعها سنة 1830 تثمر في خلال ثلاثين سنة، نعم إن المبدأ الذي بشر به وليم غاريسون الأميركي وهو رجل فقير حقير لا يملك إلا قلبه وعقله وقلمه عم في ثلاثين سنة نصف الأمة الأميركية وأنتج أخيرا تلك الحرب الأهلية الهائلة التي أبطلت النخاسة وحررت العبيد ومحت عن جبين العالم الجديد وصمة العار.
عقيدة بسيطة ولدت في شارع صغير في بوسطن لشاب مكروه منبوذ فقير، وانتشرت في وقت قصير في أنحاء الجمهورية كافة، وتكللت أخيرا بمنشور الحرية الذي أصدره إبرهيم لنكلن من عاصمة البلاد. هذا هو تاريخ النهضة على العبودية، وهو غير التاريخ الذي نقرؤه في المدارس، نعم إن النهضة هذه تبتدئ بوليم غاريسون أحد سكان دهاليز التاريخ والأدب المنسية وتنتهي برئيس الجمهورية، تنتهي بالرجل الذي لا تخلو مدينة كبيرة من تمثاله، فكلنا نسمع بإبرهيم لنكلن محرر العبيد ومبطل النخاسة، ولكن من منا يعرف صاحب جريدة «محرر الرقيق» الذي زرع البذور التي حصدتها الأمة في عهد الرئيس الشهير، أفلا يجدر بنا إذا أن نذكر هذا الرجل مرة بالإجلال والإكرام مثلما تذكر الأمة الأميركية رئيسها محتفلة بعيده كل عام؟
تولستوي
وقبل أن أقول كلمتي في من هو أشهر كتاب هذا العصر أحب أن أقابل بينه وبين مرغن المثري الأميركي الشهير وإن كان لا يتبادر للذهن أن هناك ما يوجب ذكر الواحد مع الآخر، فالأول نقيض الثاني على خط مستقيم. الأول يمثل القوة الروحية في عالم الأدب، والثاني يمثل القوة المادية المالية في عالم التجارة. الأول جاءنا من فوق، من الطبقة العليا في الهيئة الاجتماعية، والثاني نهض من ظلمات الخمول، من بين الجموع البائسة.
ولد الأول أميرا فجعل نفسه فلاحا وولد الثاني فلاحا فجعل نفسه أميرا. يعيش الأول ويجاهد من أجل الإنسانية، وتكد وتعرق الملايين من الناس من أجل الثاني وهو جالس على ظهر يخته يشرب الشمبانيا ويدخن منشرح الصدر مطمئن البال. الأول تمثال الحرية والإخاء والمحبة ونصير المبدأ الذي يقول بملكية الفرد (أي: أن كل فرد هو ملك بذاته) والثاني تمثال القساوة والاستعباد والتجبر والاستبداد.
فالرجلان - إذن - يمثلان الخير والشر في أشد حالتيهما، وبينهما على الرغم من ذلك وجه شبه - كما تقدم - الاثنان جباران تشعر بنفوذهما الأمم والشعوب، الأول عظيم في الروحيات والثاني عظيم في الماديات. الأول جبار في الحكمة والأدب والثاني جبار في التجارة والمال. ووجه الشبه بين الاثنين هو أن حكومتيهما تخشاهما وتعاملهما معاملة حكومة مستقلة، أي: أن كليهما حكومة ضمن حكومة.
وقد رأينا مؤخرا كيف تفاوض رئيس الولايات المتحدة مع مرغن فيما يختص بمسألة المعدنين وأصحاب المعادن، فبعث إليه ناظر الحربية مستعطفا فجاء هذا صغيرا وتوجه إلى يخت المثري الشهير فرآه جالسا هناك جلوس القياصرة والأكاسرة وواجهه كأنه عاهل الألمان، ورجاه باسم الرئيس وتوسل إليه طالبا منه الإسعاف في فض هذا المشكل الخطير، وعاد كما جاء صغيرا حقيرا حاملا إلى الرئيس جواب المستر مرغن المؤلف من تين الكلمتين: سأبذل جهدي. فالحكومة والشعب يخشيان هذا الرجل كما لو كان قوة من الجحيم، أما الحكومة فتخشى مرغن؛ لأن الحزب الحاكم يحتاج إلى ماله ومناصرته وقت الانتخاب، وأما الشعب فيخشاه؛ لأنه يستطيع أن يقطع عن الملايين من الفقراء والمتوسطين لوازم الحياة.
अज्ञात पृष्ठ