فعاودتها موجة المجون والسخرية، وأرادت أن تداعب الفيلسوف، فقالت بلهجة جدية متصنعة: أحقا أني قليلة التجارب؟ .. إنك لم تر مما رأيت شيئا. - وماذا رأيت مما لم أر؟
فأشارت ببنانها إلى القوم اللاهين وقالت ضاحكة: رأيت هؤلاء الرجال المبرزين، وصفوة مصر سيدة الدنيا، يسجدون عند قدمي، وقد ردوا إلى الوحشية، ونسوا حكمتهم ووقارهم، كأنهم كلاب أو كأنهم قردة!
ثم ضحكت ضحكة رقيقة، وجرت في خفة الغزلان إلى وسط البهو، وأشارت إلى العازفات فلعبت أناملهن بالأوتار، ورقصت الغانية رقصة من رقصاتها المختارة التي يبدع فيها جسمها اللدن، ويأتي بالمعجز من الخفة والتثني، وغلب الطرب القوم على أنفسهم، فاشتركوا بكفهم مع الدفوف، واتقدت في الأعين أنوار خاطفة، وختمت رقصتها، ثم طارت كالحمامة إلى عرشها، وجالت بعينيها في أوجه القوم الجشعة، فرأت ما أضحكها قهرا، وقالت: لكأني بين الذئاب.
وأعجب عانن الثمل بالتشبيه، وتمنى لو كان ذئبا ليقتنص الشاة الجميلة، وحققت له الخمر ما تمنى، وظن نفسه ذئبا حقا، فعوى بصوت عال ضج له السادة ضحكا، ولكنه ثابر على العواء، وانكب على أربع وزحف صوب الغانية بين ضحك القوم العاصف، حتى صار منها على قيد شبر، ثم قال لها: اجعلي هذه الليلة من نصيبي.
ولكنها لم ترد عليه، والتفتت إلى الحاكم آني، وقد جاء يحييها تحية الوداع، فأعطته يدها، ثم تلاه الفيلسوف هوف، وقد سألته ضاحكة: ألا ترغب في أن أجعل هذه الليلة من نصيبك؟
فهز رأسه ضاحكا وقال: أيسر علي أن أسخر مع الأسرى في مناجم قفط!
ورجا كل أن تكون الليلة له، وألحف في الرجاء، وتنافسوا في ذلك تنافسا شديدا حتى حرج الأمر. وانبرى هنفر لإيجاد حل له فقال: ليكتب كل منكم اسمه في ورقة، ولنضع الأسماء جميعا في صندوق عانن العاجي، ثم تمد رادوبيس يدها فتأخذ اسم السعيد الحظ.
واضطر الجميع إلى الموافقة وبادروا إلى كتابة أسمائهم، إلا عانن خشي أن تفلت الليلة من بين يديه فقال بتضرع: مولاتي .. أنا رجل سفر، اليوم بين يديك، وغدا في بلد بعيد لا أبلغه إلا بشق الأنفس، وإن فاتتني الليلة فقد أخسرها إلى الأبد.
ولكن أثار دفاعه ثائرة القوم، وردوا عليه هازئين، وكانت رادوبيس صامتة، تشاهد عشاقها بعينين جامدتين، وقد عاودها القلق الغريب، فأحست برغبة في الفرار والانفراد، وضجرت من الصراخ، فأشارت لهم بيدها فكفوا وهم بين الأمل والخوف، فقالت: لا تتعبوا أنفسكم أيها السادة، فلن أكون الليلة لإنسان!
وجمدت أفواههم ونظروا إليها منكرين، لا يصدقون آذانهم، ثم لم يلبثوا أن ضجوا بالاحتجاج، وجأروا بالشكوى، فوجدت ألا فائدة ترجى من توجيه الكلام إليهم، فقامت واقفة، وقد بدا على وجهها التصميم والعزم وقالت: إني تعبة .. دعوني أستريح!
अज्ञात पृष्ठ