عيد النيل
الصندل
قصر بيجة
طاهو
فرعون
الحب
ظل الحب
بنامون
خنوم حتب
نيتوقريس
अज्ञात पृष्ठ
الرئيس الجديد
الملكتان
قبس من نور
الرسول
الرسالة
طاهو يهذي
فترة الانتظار
الاجتماع
الهتاف
الأمل والسم
अज्ञात पृष्ठ
سهم الشعب
الوداع
نهاية طاهو
النهاية
عيد النيل
الصندل
قصر بيجة
طاهو
فرعون
الحب
अज्ञात पृष्ठ
ظل الحب
بنامون
خنوم حتب
نيتوقريس
الرئيس الجديد
الملكتان
قبس من نور
الرسول
الرسالة
طاهو يهذي
अज्ञात पृष्ठ
فترة الانتظار
الاجتماع
الهتاف
الأمل والسم
سهم الشعب
الوداع
نهاية طاهو
النهاية
رادوبيس
رادوبيس
अज्ञात पृष्ठ
تأليف
نجيب محفوظ
عيد النيل
لاحت في الأفق الشرقي تباشير ذلك اليوم من شهر بشنس، المنطوي في أثناء الزمان منذ أربعة آلاف سنة. وكان الكاهن الأكبر لمعبد الرب سوتيس يتطلع إلى صفحة السماء بعينين ذابلتين، أضناهما التعب طوال الليل.
وإنه لفي تطلعه إذ عثر بصره بالشعرى اليمانية، يتألق نورها في كبد السماء، فتهلل وجهه بالبشر، وخفق قلبه بالفرح، وسجد على أرض المعبد الطاهرة شكرا وزلفى، وصاح بأعلى صوته أن قد بدت صورة الرب سوتيس في أفق السماء، تحمل إلى الوادي بشرى فيضان النيل المعبود، وتسير بين يدي رحمته. وأيقظ صوته الجميل النيام، فهبوا من نومهم فرحين، وقلبوا وجوههم في السماء، حتى قرت أعينهم على النجم المعبود، فرددوا ترتيلة الكاهن، وأفعمت قلوبهم غبطة وامتنانا، ثم تركوا ديارهم مهطعين صوب شاطئ النيل، يشهدون أول موجة حاملة للخير والبركة. وردد جو مصر الهادئ صوت كاهن الرب سوتيس، وأذاع البشرى إلى الجنوب، للاحتفال بعيد النيل المقدس، فحزموا أمتعتهم، ونشطوا خفافا وثقالا من طيبة ومنف وهرمونت وسوت وخمونو، يولون وجوههم شطر آبو العاصمة، فنهبت العجلات الوادي، ومخرت السفن عباب الماء.
كانت آبو عاصمة مصر، يقوم بنيانها الشامخ على دعائم من الصوان، تؤلف بينها الكثبان الرملية، وقد غشاها النيل بطبقات من طميه الساحر، بثت فيها الخصب والخير العميم، وأنبتت أرضها السنط والتوت والنخيل والدوم، وكست سطحها البقول والخضروات والبرسيم. ونشرت فيه الكروم والمراعي، والجنان تجري من تحتها الأنهار، وترعاها القطعان، يطير في سمائها الحمام والطير، ويتضوع نسيمها بشذا العطر والأزهار، وتتجاوب في جوها أغاريد البلابل والأطيار.
فما هي إلا أيام معدودات، حتى ضاقت آبو وجزيرتاها؛ بيجة وبيلاق، بالنازحين، فامتلأت البيوت بالنازلين، وازدحمت الميادين بالخيام، وغصت الطرق بالغادين والرائحين، وانتشرت حلقات اللاعبين والمغنين والراقصين، وزخرت الأسواق بالعارضين والبائعين، وازدانت واجهات البيوت بالأعلام وأغصان الزيتون، وبهرت الأنظار جماعات من حرس جزيرة بيلاق بثيابها المزركشة وسيوفها الطويلة، وهرعت جموع القانتين المؤمنين إلى معبدي سوتيس والنيل، يوفون بالنذر، ويقدمون القرابين، واختلط غناء المنشدين بصياح السكارى الثملين .. وشاع في جو آبو الرزين فرح راقص، وطرب حار بهيج.
وجاء يوم العيد الموعود، وقصدت هاتيك الخلائق جميعا إلى هدف واحد، هو الطريق الطويل الممتد ما بين القصر الفرعوني والهضبة القائم عليها معبد النيل، فسخن الهواء بأنفاسهم الحارة، وناءت الأرض بحملهم، ويئس قوم لا عداد لهم من الأرض، فهبطوا إلى السفن، وأطلقوا الشرع، وطافوا بهضبة المعبد ينشدون أغاني النيل على أنغام المزمار والقيثار، ويرقصون على توقيع الدفوف.
ووقف الجنود صفين على جانبي الطريق العظيم شاهري الرماح، وقد نصبت على مسافات متباعدة تماثيل بالحجم الطبيعي لملوك الأسرة السادسة، آباء فرعون وأجداده، فرأى الأقربون تماثيل الفراعين؛ أسر كري، وتيتي الأول، وبيبي الأول، ومحتمساوف الأول، وبيبي الثاني.
وكان الجو يضج بأصوات القوم المختلفة، فيضيع تمييزها كما تضيع الأمواج في المحيط المصطخب، ولا يبقى منها إلا دوي هائل شامل، ولكن كانت تعلو أحيانا أصوات جهيرة، تخترق الضوضاء، وتبلغ الآذان، يهتف بعضها قائلا: «مجدوا الرب سوتيس الذي بشرنا بالخير.» ويصيح صوت آخر: «مجدوا النيل الرب المقدس الذي يجلب إلى أرضنا الحياة والخصب.» وبين هذا وذاك، ترتفع أصوات منادية على خمر مريوط، وأنبذة آبو، داعية إلى السرور والنسيان.
अज्ञात पृष्ठ
وكان جماعة من المشاهدين يتجاورون ويخلصون نجيا، تبدو على وجوههم آي النبل والنعيم، فقال أحدهم وهو يرفع حاجبيه متأملا متعجبا: كم من فرعون اطلع على هذه الجموع الحاشدة، وشاهد هذا اليوم العظيم! .. ثم ذهبوا جميعا كأنهم لم يكونوا ملء الصدور، ملء الأبصار والأفئدة!
فقال آخر: نعم ذهبوا ليحكموا عالما أجل من هذا العالم، كما سنذهب جميعا .. انظر إلى هذا المكان الذي أشغل .. كم من البشر سوف يشغله في الأجيال المقبلة، ويجدد الآمال والأفراح التي تخفق في صدورنا الآن .. ترى هل يذكروننا كما نذكرهم؟ - إننا أكثر من أن يذكرنا مذكر .. ألا ليت الموت لم يكن. - وهل كان يمكن أن يسع الوادي تلك الأجيال التي ذهبت؟ إن الموت طبيعي كالحياة .. وما قيمة الخلود ما دمنا نشبع بعد الجوع، ونشيخ بعد الشباب، ونسأم بعد المسرة؟ - فكيف يعيشون في عالم أوزوريس؟ - انتظر، ستعلم ذلك بعد حين.
وقال آخر باهتمام: هذه أول مرة يسعدني الرب برؤية فرعون.
فقال له صاحبه: أما أنا فقد رأيته يوم التتويج العظيم منذ أشهر في نفس المكان. - انظر إلى تماثيل أجداده الأماجد. - سترى أنه قريب الشبه بجده محتمساوف الأول. - ما أجمل هذا! - أجل .. أجل .. إن فرعون شاب جميل، لا نظير له في طوله الفارع، وحسنه الجاهر!
وتساءل أحد المتحدثين قائلا: ترى ماذا يخلف حكمه؟ .. أمسلات ومعابد، أم ذكريات غزو في الشمال والجنوب؟ - إن صدق حدسي فهي الثانية. - ولمه؟ - إنه شاب عظيم البأس.
فهز الآخر رأسه بحذر وقال: يقال إن شبابه من نوع جامح، وإن جلالته ذو أهواء عنيفة، يغرم بالحب، ويهوى الإسراف والبذخ، ويندفع في سبيله كالريح العاصفة!
فضحك المستمع ضحكة خافتة، وهمس قائلا: وهل في ذاك ما يدعو إلى العجب؟ ما أكثر المصريين الذين يغرمون بالحب ويهوون الإسراف والبذخ! .. فما بالك بفرعون؟ - صه .. صه .. أنت لا تدري من الأمر شيئا، ألم تعلم بأنه اصطدم برجال الكهنوت منذ اليوم الأول لتوليته العرش؟ إنه يريد المال لينفقه في تشييد القصور، وغرس البساتين، والكهنة يطالبون بنصيب الآلهة والمعابد كاملا. لقد منحهم آباء الملك نفوذا وثراء، والملك الشاب ينظر إلى هذا بعين الطمع. - حقا إنه محزن أن يبدأ الملك حكمه بالاصطدام. - أجل .. ولا تنس أن خنوم حتب، رئيس الوزراء والكاهن الأكبر، رجل حديدي الإرادة، شديد المراس. وهناك أيضا كاهن منف، تلك المدينة المجيدة التي لحقها الأفول على عهد هذه الأسرة الجليلة.
فارتاع الرجل لهذه الأخبار التي تصك أذنيه لأول مرة، وقال : إذن فلندع الأرباب جميعا أن تلهم الرجال الحكمة والأناة والرأي السديد.
فقال الآخرون بإخلاص صادر من الأعماق: آمين .. آمين.
ولاحت من أحد الواقفين التفاتة إلى النيل، فلكز صاحبه بمرفقه قائلا: انظر أيها الصديق إلى النهر .. لمن يا ترى هذه السفينة الجميلة الآتية من جزيرة بيجة، كأنها الشمس صاعدة من الأفق الشرقي؟
अज्ञात पृष्ठ
فعطف صاحبه رأسه نحو النهر، فرأى سفينة عجيبة، لا بالكبيرة ولا بالصغيرة، خضراء اللون كأنها جزيرة معشوشبة تطفو على سطح الماء، تبدو مقصورتها على البعد متعالية، وإن قصرت العين عن رؤية ما بداخلها، ولاح في أعلى صاريها شراع متموج عظيم، وانتظمت جانبيها حركة مجاديف بديعة تنبعث من مئات الأيدي .. فاستولت الحيرة على الرجل، وقال: عسى أن تكون لموسر من أهل بيجة.
وأصغى إلى حوارهما رجل قريب، فحدجهما بنظرة إنكار، وقال لهما: أراهن أيها السيدان أنكما ضيفان.
فضحك الرجلان معا. وقال ثانيهما: صدقت يا سيدي المحترم؛ فنحن من طيبة واثنان من الآلاف التي ناداها العيد المجيد فلبت هارعة إلى العاصمة من جميع البلدان .. هل تكون هذه السفينة الجميلة لكبير من رجالكم البارزين؟
فابتسم الرجل ابتسامة غامضة، وقال وهو يشير لهما بإصبعه محذرا: طبتما نفسا أيها السيدان الكريمان، ليست هذه السفينة لرجل من رجالنا، ولكنها امرأة .. أجل هي سفينة غانية حسناء يعرفها حق المعرفة جميع أهل آبو وجزيرتيها بيجة وبيلاق. - ومن عسى أن تكون هذه الحسناء؟ - رادوبيس .. رادوبيس الفاتنة، ملكة النفوس والأهواء جميعا.
وأشار الرجل بيده نحو جزيرة بيجة، واستدرك: وهي تقيم هناك في قصرها الأبيض الساحر .. هدف العشاق والمعجبين، حيث يستبقون إلى نيل عطفها، واستدرار رحمتها .. وعسى أن يسعفكم الحظ برؤيتها، صانت الأرباب قلبيكما عن التلف.
واتجهت أنظار الرجلين وسواهما من الواقفين إلى السفينة مرة أخرى، وقد بدا على الوجوه الاهتمام الشديد. وكانت السفينة تدنو من الشاطئ، رويدا رويدا، والزوارق توسع لها طريقها على عجل، وكلما عبرت ذراعا اختفت شيئا فشيئا وراء الهضبة المقام عليها معبد النيل، ومضى يغيب عن الأبصار مقدمها ثم مقصورتها، فلما أن اطمأنت إلى المرفأ لم يكن يرى منها سوى أعلى صاريها وقمة شراعها المتموج، كأنه علم الحب يظل القلوب والنفوس.
ومضت فترة وجيزة، ثم رئي أربعة من النوبيين قادمين من الشاطئ يوسعون في البحر المتلاطم طريقا، يسير في أثرهم أربعة آخرون يحملون على الأكتاف هودجا جميلا فاخرا، لا يحوزه إلا الأمراء والنبلاء، جلست فيه غادة حسناء، تستند في طراءة إلى وسادة، وتتكئ على نمرقة، بساعد بض، وتمسك في يمناها بمروحة من ريش النعام، تلوح في عينيها الجميلتين نظرة ناعسة حالمة، تصوبها إلى الأفق البعيد في كبرياء سامية، تقتحم الخلق أجمعين.
وكان الركب الصغير يسير على مهل، ترمقه العيون من كل صوب، حتى بلغ الصف الأول من المشاهدين، وهناك مالت المرأة إلى الأمام قليلا بجيد كالغزال، ونثرت من فمها الوردي كلمات تاقت نفوس إلى سماعها، فتوقف العبيد عن السير، ولزموا أماكنهم كأنهم تماثيل من البرنز، وارتدت المرأة إلى جلستها الأولى، واستغرقت فيما كانت فيه من الأحلام، ولبثت تنتظر الموكب الفرعوني الذي لا شك جاءت لمشاهدته.
وكان ما يرى منها نصفها الأعلى، فاستطاع المجدودون أن يشاهدوا شعرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاك من الحرير اللامع، ويهبط على كتفيها في هالة من الليل كأنه تاج إلهي، ينبلج في وسطه وجه مشرق مستدير، عانقت فيه أشعة خدين كالورد اليانع، وفما رقيقا مفترا كأنه زهرة من الياسمين في الشمس في خاتم من القرنفل، وعينين دعجاوين صافيتين ناعستين، تلوح فيهما نظرة يعرفها الحب معرفة المخلوق لخالقه، فما رئي وجه قبل هذا اختاره الجمال سكنا ومسقرا.
وقد فتن الناس منظرها كافة، وحرك قلوب الشيوخ الفانية، فصوبت إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثرت في طريقها بصوان لأذابته، ورمقتها أعين النساء شزرا ومقتا، وسرى الهمس بين المحيطين بها، وانتقل الحوار من فم إلى فم. - يا لها من امرأة فاتنة! - رادوبيس .. يسمونها ربة الجزيرة! - هذا جمال قهار، لا يمكن أن يعصاه قلب. - هو اليأس لمن يرى. - صدقت، فما وقعت عليها عيناي حتى قامت في نفسي ثورة جامحة، ونؤت بأعباء ظلم فادح، وأحسست بتمرد شيطاني، وصدت نفسي عما بين يدي، وغلبني على أمري الخذلان والخزي الأبدي. - هذا أمر محزن .. لكأني بها صورة للسعادة حقيقة بالعبادة. - هي شر وبيل! - نحن أضعف من أن نحتمل مثل هذا الحسن القاهر. - ألا رحمة للعاشقين! - ألا تعلم أن عشاقها هم صفوة رجال المملكة؟ - حقا؟ - إن حبها فرض على علية القوم، كأنه واجب وطني. - لقد شيد المعمار النابغة هني قصرها الأبيض. - وأثثه بآيات منف وطيبة آني حاكم جزيرة بيجة. - مرحى .. مرحى! - وصنع تماثيله، ونحت جدرانه، المثال النابغة هنفر. - نعم، وأهدى تحفه الثمينة القائد طاهو، رئيس الحرس الفرعوني. - إذا كان جميع هؤلاء يتنافسون في حبها فمن السعيد الذي تستخلصه لنفسها؟ - سل عن السعيد في هذه المدينة الشقية. - لا أظن أن هذه المرأة تعشق أبدا. - من أدراك؟ .. عسى أن تعشق عبدا أو حيوانا. - كلا .. إن جمالها هو القوة الجبارة .. وما حاجة القوة إلى الحب؟ - انظر إلى نظرة عينيها الرفيعة القاسية .. إنها لم تذق الحب بعد.
अज्ञात पृष्ठ
وكانت امرأة تصغي إلى هذا الحديث، فضاق صدرها.
وقالت بجفاء: ما هي إلا راقصة .. تربت في بؤر الفساد والمجون، ووهبت نفسها منذ الطفولة للخلاعة والغواية، وأجادت فن المساحيق، فتبدت في هذا المظهر الخلاب الكاذب.
فكبر هذا الكلام على أحد الرجال المفتونين فقال: معاذ الرب يا سيدتي، ألم تعلمي بعد أن جمالها الرائع ليس كل ما وهبتها الآلهة من ثراء؟ .. وأن توت لم تبخل عليها بنور الحكمة والعرفان؟ - بخ .. بخ .. من أين لها بالحكمة والعرفان، وهي تنفق عمرها في إغواء الرجال؟ - قصرها يستقبل كل مساء جماعة ممتازة من الساسة والحكماء والفنانين، فلا عجب أن تكون كما يشاع عنها من أعمق الناس فهما للحكمة، وأدراهم بالسياسة وأذوقهم للفن.
وسأل سائل: كم عمرها؟ - يقولون إنها بنت ثلاثين. - لا يمكن أن تجاوز الخامسة والعشرين. - ليكن عمرها ما تشاء، فهذا الحسن يانع قاهر، يقسم أن لن يلحقه الذبول أبدا!
وعاد السائل يسأل باهتمام: ما منشؤها، وما أصلها؟ - علم هذا عند الأرباب .. وكأني بها وجدت منذ الأزل في قصرها الأبيض بجزيرة بيجة! •••
وشقت الصفوف المتراصة بغتة امرأة غريبة، كانت منحنية الظهر كالقوس، تتوكأ على عصا غليظة، منفوشة الشعر بيضاءه، طويلة الأنياب صفراءها، مقوسة الأنف، حادة البصر، يشع من عينيها نور مخيف يرسل من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، وكانت ترتدي جلبابا واسعا طويلا، يضيق عند وسطها بمنطقة من الكتان .. وصاح الذين رأوها: ضام .. الساحرة ضام!
فلم تبالهم، وسارت بقدميها الهزيلتين. كانت تدعي الاطلاع على الغيب، وكشف الستار عن المستقبل، وكانت تسخر قوتها الخارقة لقاء قطعة من الفضة، وكان المحيطون بها بين خائف منها ومتهكم بها. والتقت الساحرة في طريقها بشاب حدث، فعرضت عليه أن تقرأ له صفحة الغيب، ولم يمانع الشاب، وكان في الحقيقة ثملا يترنح في سيره، لا تكاد تحمله ساقاه، فدفع لها بقطعة من الفضة، وهو يرنو إليها بعينين نصف نائمتين، وسألته بصوتها الأجش: كم عمرك يا غلام؟
فأجابها وهو لا يعي ما يقول: اثنتا عشرة كأسا.
وعلا ضحك الساخرين، فاهتاجت المرأة غضبا ورمته بالقطعة التي نفحها بها، واستأنفت مسيرها الذي لا ينتهي. واعترض سبيلها شاب آخر ساخر وسألها بقحة: ماذا ينتظرني من الحادثات يا امرأة؟
فنظرت إليه مليا وهي مغيظة محنقة، ثم قالت له: أبشر .. ستخونك امرأتك للمرة الثالثة.
अज्ञात पृष्ठ
وضحك الناس وصفقوا لها، وانزوى الشاب خجلا، وقد رد السهم إلى صدره. وسارت الساحرة حتى بلغت هودج الغانية، وطمعت في سخائها فتوقفت بإزائه، وصاحت تحدث صاحبته وهي تبتسم ابتسامة كريهة: أيتها السيدة المحروسة بالعناية! هل أقرأ لك الطالع؟
ولم يبد على الغانية أنها سمعت صوت الساحرة، فصرخت العجوز: مولاتي!
وانتبهت إليها رادوبيس فيما يشبه الذعر، ثم عطفت عنها رأسها سريعا وقد لمسها الغضب، وقالت لها العجوز: صدقيني ما من إنسان في هذا الجمع الحاشد يحتاج إلي اليوم حاجتك!
فتقدم منها أحد العبيد، وحال بينها وبين الهودج، وكاد الحادث على تفاهته يثير اهتمام القريبين، ولكن سمع صوت بوق شديد يخترق الفضاء، ووضع على أثره الجند المصطفون على جانبي الطريق الأبواق في أفواههم، ونفخوا فيها نفخا طويلا متصلا، فعلم الناس جميعا أن الركب الفرعوني بدأ تحركه، وأنه عما قليل يغادر فرعون القصر في طريقه إلى معبد النيل، فنسي الجميع ما كانوا فيه وشخصوا إلى الطريق بأعناق مشرئبة، وحواس مرهفة.
ومضت دقائق طويلة ثم بدأت طلائع الجيش تسير صفوفا متراصة على أنغام الموسيقى الحربية تتقدمها حامية بيلاق بعددها المتنوعة، تسير وراء علمها المتوج بصورة الباز، فكانت الجنود تقابل في كل مكان بالهتاف والتصفيق.
وقفتها بعد حين قليل فرقة المشاة حاملي الرماح والتروس، تتأثر موسيقاها، وعلمها المزدان بصورة الرب حورس، وقد استقامت الرماح في صورة هندسية دقيقة، فرسمت في الهواء خطوطا متوازية طولا وعرضا.
وجاءت فرقة الرماة الكبرى حاملي القسي والسهام، واستغرق مسيرها فترة طويلة من الزمن، يتقدمها علمها الموسوم بصولجان العرش.
ثم سمع من بعيد دوي وصلصلة وصهيل خيل، ولاحت للأنظار فرقة العجلات تنطلق عشرة عشرة في صفوف متوازية دقيقة كأنما رسمت بالقلم، يجر العجلة جوادان مطهمان، ويقوم على ظهرها فارسان؛ سائق مزود بالسيف والمزراق، ورام مدرع يمسك قوسه بيد ويحمل جعبته بيد، فذكر المشاهدون لمرآها غزو النوبة وطور سيناء، وخالوا أنهم يرونها تنتشر في السهول والوديان كالنسور المنقضة، والعدو يتشتت أمامها، وقد أذهله الرعب، وأحاط به الهلاك، فاشتعل الحماس في عروقهم نارا، وشق هتافهم السماوات.
وبدا للناظرين الموكب الفرعوني المهيب، تتقدمه العجلة الفرعونية، وتتبعها مباشرة أهلة من العجلات خماس خماس، تحمل الأمراء والوزراء وكبار رجال الكهنوت والقضاة الثلاثين وقواد الجيش وحكام الأقاليم، واختتم الموكب بذيل من الحرس الفرعوني على رأسه القائد طاهو.
ووقف فرعون في عجلته منتصب القامة، مهيب الطلعة كأنه تمثال من الجرانيت لا يميل يمنة ولا يسرة، ويصوب بصره إلى الأفق البعيد غير ملتفت إلى الخلق جميعا، ولا إلى هتافهم الصاعد من أعماق القلوب.
अज्ञात पृष्ठ
وكان يضع على رأسه تاج مصر المزدوج، ويقبض بيد على السوط الملكي، وبالأخرى على العصا المعقوفة، وقد ارتدى فوق لباسه الملكي كساء من جلد النمر احتفالا بالعيد الديني.
وأفعمت القلوب حماسة وسعادة، فتعالى الهتاف، فكاد لشدته أن يفزع الطير المحلق في السماء. وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبت بها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان.
وأفلت من بين الأصوات الهاتفة صوت يصيح على عجل: «ليحي صاحب القداسة خنوم حتب.» فردد هتافه عشرات الأصوات، وأحدث هتافه انزعاجا وأهاج ضجة شديدة، وتلفت الناس يبحثون عن الجسور الذي هتف باسم رئيس الوزراء على مسمع من فرعون الشاب، والجماعة التي ناصرت هذا التحدي العجيب!
ولم يترك الهتاف أثرا ظاهرا، ولم يبد على أحد من حاشية الملك أدنى تأثر، وتابع الموكب سيره حتى بلغ هضبة المعبد، فتوقفت العجلات جميعا، وتقدم إلى عجلة فرعون أميران يحملان وسادة من ريش النعام مكللة بغطاء من نسيج ذهبي، فترجل الملك عليها. ونفخ في الصور، فأدى الجند التحية العسكرية، وصدحت موسيقى الحرس بنشيد النيل المعبود، وصعد فرعون درجات الهضبة في تؤدة وجلال، يتبعه وجوه مملكته من الأمراء والوزراء والحكام، ولدى باب المعبد العظيم وجد الكهنة في استقباله سجدا. ولما أعلن كبير الحجاب سوفخاتب وصول الملك، وقف رئيس كهنة المعبد وأحنى ظهره، وأخفى عينيه بيديه، وقال في صوت خافت: يتشرف خادم الرب المعبود النيل، بإزجاء تحية العبودية والإخلاص إلى مولاي سيد القطرين، ابن رع ورب المشرقين.
فأعطاه فرعون العصا المعقوفة، فقبلها الكاهن في إجلال عميق، وقام الكهنة واصطفوا صفين موسعين لفرعون، فسار تتبعه حاشيته إلى ساحة المذبح المحاطة بالأعمدة الشاهقة من كل جانب، وطافوا بالمذبح، وكان الكهنة يحرقون البخور، فينتشر أريجه في جو المعبد، وتتنفسه الرءوس المنعكسة إجلالا وقنوتا. وأحضر بعض الحجاب ثورا ذبيحا، ووضعوه على المذبح قربانا وزلفى، ثم تلا فرعون هذه الكلمات التقليدية: «مثلت في رحابك أيها الإله المقدس بعد أن طهرت نفسي. وقدمت القربان زلفى إليك، فامنن بالخير على أرض هذا الوادي الطيب، وأهله الآمنين.»
ورددت الكهنة الدعاء في صوت عال مؤثر، يفيض بالإيمان والتقوى، رافعين رءوسهم إلى السماء، باسطين أيديهم في الهواء. وردد الحاضرون جميعا الدعاء، وسرى الصوت إلى خارج المعبد، فسارع الناس في ترديده، وما هي إلا هنيهة حتى لم يبق لسان لم يلهج بدعاء النيل المقدس، ثم سار الملك وفي معيته كاهن المعبد، ويتبعهما رجال المملكة إلى بهو الأعمدة ذي الصحون الثلاثة المتوازية، ووقفوا صفين بينهما الملك وخادم الرب، ثم رتلوا نشيد النيل المعبود بأصوات متهدجة، تختلج بخفقات القلوب، فيرن صداها في جو المكان القاتم المهيب.
وصعد الكاهن الدرجات المؤدية إلى البهو الخالد، واقترب من باب قدس الأقداس، وأبرز المفتاح المقدس، وفتح الباب العظيم وانتحى جانبا، وركع ساجدا يصلي. وتبعه الملك ودخل الحجرة المقدسة حيث يرقد تمثال النيل في السفينة الإلهية، وأغلق الباب، وكان المكان واسعا، شاهق السقف، شديد الظلمة، قوي الأثر، وعلى مقربة من الستار المسدل على تمثال الآلهة أقيدت الشموع على مناضد من الذهب الوهاج. ونفذت هيبة المكان إلى قلب الملك الكبير، فوهنت حواسه، وتقدم في إجلال إلى الستار المقدس وأزاحه بيده، وأحنى ظهره الذي لا ينحني أبدا، وسجد على ركبته اليمنى ولثم قدم التمثال، وكان ما يزال مهيبا، ولكن غابت عن وجهه آي مجد الدنيا وكبريائها، واكتست صفحته بلون باهت من الخشوع والتقوى .. وصلى فرعون صلاة طويلة، واستغرق في العبادة ناسيا مجده التالد وعظمته الدنيوية.
ولما بلغ النهاية لثم القدم المقدسة مرة أخرى، وقام واقفا وأسدل الستار الكريم، وانسحب إلى الباب ووجهه إلى الرب، حتى تنفس هواء البهو الخارجي ثم أغلق الباب.
وحيا القوم فرعون بالدعاء، وساروا وراءه إلى بهو المذبح، وتبعوه إلى خارج المعبد، وعرجوا جميعا إلى حافة الهضبة المطلة على النيل. ورآهم الأهلون المتجمعون فوق أسطح السفن، فتعالت أصواتهم بالهتاف، ولوحوا بالأعلام والغصون.
ودعي رئيس الكهنة إلى إلقاء الخطبة التقليدية، فنشر بين يديه ورقة طويلة من أوراق البردي، وتلا بصوت قوي النبرات: «السلام عليك أيها النيل، يا من يعم فيضه الوادي مبشرا بالحياة والسعادة. إنك لتسكن الغياهب أشهرا، فإذا أصخت إلى توسلات عبادك، ولان قلبك الكبير رحمة بهم، خرجت من الظلمات إلى النور، وانسبت في بطن الوادي زاخرا، فتبعث في الأرض الحياة، وسرعان ما تهتز النباتات طربا، وتفض الصحراء تحت بساط سندسي، وتزدهر البساتين، وتغني المغارس، وتصدح الطير، وتهتف القلوب بنشوة الفرح ، فيكسى العاري، ويطعم الجائع، ويروى الصديان، ويتزوج الأعزب، وتتلفع أرض مصر بالسعادة والمجد .. تعاليت والمجد لك .. تعاليت والمجد لك.»
अज्ञात पृष्ठ
ورتل كهنة المعبد أنشودة النيل على نغم القيثارة والمزمار والناي، وعلى توقيع الدفوف في ألحان عذبة وأنغام شجية.
ولما أن ضاعت الأنغام في تضاعيف الفضاء، تقدم الأمير ناي من فرعون وأسلم إليه قرطاسا مختوما من البردي، يشتمل على دعاء النيل المعبود، فأخذه الملك ورفعه إلى جبينه، ثم تركه يهوي إلى النيل فحملته أمواجه المتدافعة في صخب صوب الشمال.
وهبط فرعون أدراج الهضبة، وركب عجلته، ورجع الموكب كما أتى تحف به العظمة ويحوطه المجد، وتهتف له قلوب الملايين من الرعايا المخلصين، وقد أهاجهم الحماس، وأسكرتهم نشوة الطرب.
الصندل
عاد الموكب الملكي إلى السراي الفرعونية، وظل الملك يحافظ على جلاله وهدوئه، إلى أن خلا إلى نفسه، فتبدى الغضب على وجهه الجميل بصورة وحشية، وجبت لها قلوب الجواري اللائي يخلعن ثيابه، فانتفخت أوداجه وتصلبت عضلات جسمه، وكان سريع الانفعال شديد الغضب، لا تطمئن نفسه حتى تنزل العقاب الصارم بمن أثارها، وكان يدوي في أذنيه الهتاف الأخرق، فيظنه إنذارا جريئا موجها إلى رغباته، فيشتد به الغضب وينذر بالويل والثبور.
وكان عليه أن ينتظر ساعة كاملة، قبل أن يستقبل رجال مملكته الرسميين، الذين جاءوا من أقصى البلاد للاشتراك في عيد النيل، ولكنه لم يستطع صبرا، فهرع كالريح الهوج إلى جناح الملكة، واقتحم بابها بعنف. وكانت الملكة نيتوقريس جالسة بين وصيفاتها، تلوح في عينيها الصافيتين آي السلام والطمأنينة، فلما رأى الوصيفات الملك، وشاهدن الغضب يصرخ في وجهه، وقفن مرتبكات مضطربات، وانحنين له وللمملكة، وانسحبن مسرعات لا يلوين على شيء .. ولبثت الملكة جالسة هنيهة، ترمقه بعينين هادئتين، ثم قامت في جلال، ودنت منه، ثم شبت على أطراف قدميها وقبلت كتفه وقالت: أغاضب أنت يا مولاي؟
كان يحس بالحاجة القصوى إلى إنسان يطلعه على النار الموقدة في دمائه، فارتاح إلى سؤالها وقال بشدة: كما ترين يا نيتوقريس!
وكانت الملكة تشعر شعورا قويا بعد درايتها بأخلاقه، بأن واجبها الأول هو أن تذهب عنه حدة الغضب إذا أهاجه، فقالت بهدوء وهي تبتسم إليه: الحلم أحرى بالملك.
ولكنه هز كتفيه العريضين استخفافا وقال: أتوصينني بالحلم أيتها الملكة؟ إنه لثوب زائف يتقنع به الضعفاء.
فقالت الملكة في تألم ظاهر: مولاي .. لماذا تضيق بالفضائل ذرعا؟ - أحقا أنا فرعون؟ .. وهل حقا أتمتع بشبابي وقوتي؟ .. فكيف إذن أريد، ولا أستطيع نيل ما أريد؟ .. كيف تنظر عيناي إلى أراضي مملكتي فيتصدى لي عبد ويقول: لن يكون هذا لك؟
अज्ञात पृष्ठ
فوضعت يدها على ذراعه، وأرادت أن تجذبه إلى الديوان، ولكنه تخلص منها، ومضى يذرع الحجرة جيئة وذهابا، غاضبا ساخطا، فقالت بلهجة تنم على الأسف العميق: لا تصور الأمور لنفسك على هذا النحو .. واذكر دائما أن الكهنة رعاياك المخلصون، وأن أراضي المعابد كانت منحا تنازل عنها أجدادنا ولكنها اكتسبت صفة الحقوق الكاملة، وأنت تريد يا مولاي أن تستردها، فمن الطبيعي أن يقلقوا.
قال الملك الشاب بحدة: أريد أن أشيد قصورا ومقابر، وأن أتمتع بحياة سعيدة عالية، ولا يقف في سبيل رغباتي إلا أن نصف أراضي المملكة في أيدي أولئك الكهنة .. أيجوز أن تعذبني رغباتي كالفقراء؟ ألا سحقا لهذه الحكمة الفارغة، أوتعلمين ماذا حدث اليوم؟ .. لقد هتف نفر منهم في أثناء سير الموكب باسم ذلك الرجل خنوم حتب، أرأيت أيتها الملكة؟ .. إنهم يتحدون فرعون عينا لعين!
فاستولت الدهشة على الملكة، واصفر وجهها الوديع، وتمتمت بكلمات غير مسموعة، فقال الملك بلهجة ساخرة مريرة: ماذا دهاك أيتها الملكة؟
أحست بلا شك بانزعاج واستياء، ولولا أن الملك غاضب إلى حد الثورة لما حاولت أن تخفي غضبها، ولكنها تسلطت على انفعالاتها بإرادة من حديد، وقالت بهدوء: دع هذا الحديث إلى وقت آخر؛ فإنك على وشك استقبال رجال مملكتك وعلى رأسهم خنوم حتب، وينبغي أن تقابلهم المقابلة الرسمية الكاملة.
فنظر فرعون إليها نظرة غامضة، وقال بسكينة مخيفة: إني أعرف ما أريد، وما ينبغي أن أفعل.
وفي الوقت المحدد، استقبل الملك رجال مملكته في البهو الرسمي العظيم، واستمع إلى خطب الكهنة، وآراء حكام الأقاليم، ولاحظ كثيرون أن الملك «لم يكن راضيا»، وحين تفرق الجمع استبقى الملك رئيس وزرائه وحده واختلى به زمنا غير يسير، وملكت الحيرة النفوس، ولكن لم يجرؤ أحد على التساؤل، ثم ظهر رئيس الوزراء، وحاول كثيرون أن يقرءوا صفحة وجهه، لعلهم يعثرون على بينة، ولكن وجهه كان جامدا كالصخر لا يبين.
وأمر الملك مستشاريه المقربين، سوفخاتب كبير الحجاب وطاهو رئيس الحرس، أن يسبقاه إلى موضع سمرهم على شاطئ بركة الحديقة، ودار في الممرات المعشوشبة، يبدو على وجهه الأسمر ارتياح، كأنه أرضى الغضب العنيف الذي طالبه بالثأر منذ حين قليل، فمشى الهوينى يستروح الشذا الطيب الذي تبعث إليه به الأشجار تحية وسلاما، وينقل ناظريه بين الأزهار والثمار، ثم اتخذ سبيله إلى البركة الغناء، فوجد رجليه في انتظاره؛ سوفخاتب بجسمه النحيل الطويل، ورأسه الأشيب، وطاهو بجسمه القوي الفولاذي الذي تربى على متون الخيل والعجلات.
وحاول كلا الرجلين أن يقرأ صفحة وجه الملك بإمعان ليستكنه باطنه ويطمئن على السياسة التي يشير باتباعها نحو الكهنة، وكانا سمعا الهتاف الجريء الذي عد في جميع الدوائر تحديا لسلطة فرعون، وكانا يتوقعان له رجعا شديدا في نفس الملك الشاب، وعلما بعد ذلك باستبقاء فرعون لرئيس وزرائه بعد انتهاء التشريفات، فخفق قلباهما، وأشفق سوفخاتب من عواقب غضبة الملك؛ لأنه كان ينصح دائما بالتؤدة والأناة والصبر، وبمعالجة مشكلة الأراضي بمنتهى الاعتدال، أما طاهو فكان يرجو أن يدفع غضب الملك إلى الانضمام إلى رأيه، فيصدر أمره بنزع أملاك المعابد وينذر الكهنة إنذارا نهائيا.
وجعل الرجلان المخلصان ينظران إلى وجه مولاهما، يرجوان، ويكابدان قلقا أليما، ولكن فرعون كتم عواطفه، وطالعهما بوجه كأبي الهول. وكان يعلم بما تضطرم به نفساهما، وكأنه رغب في أن يمد لهما حبل الوساوس، فجلس على أريكة في هدوء، وأمرهما بالجلوس، وسرعان ما عاودت وجهه هيئة الجد والاهتمام، فقال: يحق لي اليوم أن أغضب وأن أتألم.
وفهم الرجلان ما يعني، ورن في أذنيهما الهتاف الجريء مرة أخرى، فرفع سوفخاتب يديه تألما وإشفاقا، وقال بصوت متهدج: تعالى مولاي عن دواعي الألم والغضب!
अज्ञात पृष्ठ
وقال طاهو بقوة: لا يجوز أن يألم مولاي وفي المملكة سلاح لا ينثلم، ورجال يفتدونه بالأرواح، حقا إن هؤلاء الكهنة على علمهم وخبرتهم يتنكبون سبيل الرشاد، ويركبون رءوسهم، ويعرضون أنفسهم إلى تهلكة لا قبل لهم بها.
فأحنى الملك رأسه ناظرا إلى ما تحت قدميه، وقال: إني أتساءل: هل قوبل أحد من آبائي وأجدادي طوال عهد حكمه بمثل ما قوبلت به اليوم من هتاف، وما مضى على جلوسي سوى بضعة أشهر؟
فالتمعت عينا طاهو بنور خاطف مخيف، وقال بيقين: القوة يا مولاي .. القوة يا مولاي .. كان أجدادك المقدسون أقوياء، يحققون إرادتهم بعزيمة كالجبال، وسيف كالقضاء، كن مثلهم يا مولاي، لا تتردد ولا تركن إلى الحلم، واضرب إذا ضربت ضربة شديدة لا تعرف الرحمة، تذهل الجبار عن نفسه، وتخنق في صدره أوهى الأمل.
ولم يرق هذا الكلام في عيني الشيخ الحكيم سوفخاتب، وذعر من حماس قائله، وأشفق من عواقبه، فقال: مولاي .. إن الكهنة منبثون في أقطار المملكة كالدم في الجسم، منهم الولاة والقضاة والكتاب والمربون، وسلطانهم على القلوب مبارك بيد الأرباب منذ القدم، وليس لدينا من قوة حربية سوى الحرس الفرعوني وحامية بيلاق، فالضربة القاسية قد تأتي بعواقب غير محمودة.
ولم يكن طاهو يؤمن بغير القوة، فقال: وما عسى أن نفعل أيها المشير الحكيم؟ .. أنستوصي بالصبر حتى يقتحمنا عدونا، ونرد في عينيه إلى الهوان؟ - ليس الكهنة بأعداء لفرعون، ومعاذ الرب أن يوجد لفرعون من شعبه عدو، فالكهنة طائفة مخلصة أمينة، وما نأخذ عليهم إلا أن امتيازاتهم أكثر مما يقتضي الحال، وأقسم إني ما يئست يوما من إيجاد الحل الموفق الذي يحقق رغبة مولاي، ويحفظ للكهنة حقوقهم.
وكان الملك يستمع إليهما في هدوء، وعلى فمه العريض ابتسامة غامضة، فلما أتم سوفخاتب كلامه، قال بهدوء وهو يرمقهما بعينين ساخرتين: أريحا نفسيكما أيها الرجلان المخلصان؛ فقد أطلقت سهمي.
واستولت الدهشة على الرجلين، ونظرا إلى الملك في إشفاق وأمل وخوف. وكان طاهو أدنى إلى الأمل، أما سوفخاتب فامتقع وجهه وعض على شفتيه، وانتظر صامتا سماع الكلمة الفاصلة . وقال الملك بلهجة نمت عن الزهو والتشفي: تعلمان أني استبقيت الرجل بعد انصراف الناس جميعا، ولما أن خلا المكان ابتدرته قائلا: إن الهتاف باسمه تحت سمعي وبصري عمل حقير خئون. وأكدت له أني لا أعدم الهاتفين من شعبي النبيل الأمين، فرأيته يضطرب ويبهت، ويحني رأسه الكبير على صدره الضيق، وفتح فمه ليتكلم، ولعله كان يريد أن يعتذر بصوته الهادئ البارد.
وقطب الملك جبينه، وصمت لحظة، ثم استطرد قائلا بعنف: ولم أتركه يعتذر، فقطعت عليه بإشارة من يدي، وصارحته بكلام صارم، مؤكدا له أنه من تفاهة العقل أن يظن مثل ذاك الهتاف يردني عن رأي اعتزمته، ثم أخبرته بأن نيتي انتهت إلى ضم أملاك المعابد إلى أراضي التاج، وأنه لن يترك للمعابد منذ اليوم إلا ما يقوم بحاجتها من الأراضي والنذور.
وكان الرجلان يصغيان بكل حواسهما إلى حديث الملك، أما سوفخاتب فكان ممتقع اللون، منكفئ الوجه، يعاني مرارة الخيبة، وأما طاهو فكان متهللا فرحا، كأنه يستمع إلى لحن جميل، يتغنى بمجده وعظمته، واستدرك الملك قائلا: لا شك أن قراري أذهل خنوم حتب، وأخرجه عن طوره، فبدا عليه الجزع، وتوسل إلي قائلا: إن أراضي المعابد هي أراضي الأرباب، وإن خيراتها تعود في الغالب إلى الشعب والفقراء، وينفق في وجوه التعليم والتربية الخلقية، وحاول أن يفيض، ولكني أوقفته بإشارة من يدي، وقلت له: إن هذه هي إرادتي، وإن عليه تنفيذها دون إبطاء، وآذنته بانتهاء المقابلة.
فلم يتمالك طاهو أن صاح فرحا: باركتك الأرباب جميعا يا مولاي!
अज्ञात पृष्ठ
فابتسم الملك ارتياحا، ولاحت منه نظرة إلى وجه سوفخاتب في ساعة خذلانه، فأحس نحوه بعطف وقال: أنت رجل مخلص يا سوفخاتب، ومشير نصوح .. فلا يحزنك أن خولف رأيك.
فقال الرجل: لست يا مولاي من قوم مغرورين، يغضبون أشد الغضب إذا خولفت نصيحتهم، لا خوفا من العواقب، ولكن ذودا عن كرامتهم، حتى ليبلغ الغرور بأحدهم أن يتمنى لو يقع شر كان أنذر به، ليعرف من لا يعرف قدره .. أعوذ بالرب من شر الغرور، فما يدفعني إلى محض النصيحة سوى الإخلاص وما يحزنني حين مخالفتها سوى الإشفاق من صدق حدسي، وما أتمنى على الرب من شيء إلا أن يكذب رأيي، ليطمئن قلبي.
وكأن فرعون أراد أن يطمئنه، فقال: لقد نلت بغيتي، ولن ينالوا شيئا مني؛ فمصر تعبد فرعون، ولا ترضى عنه بدلا.
فأمن الرجلان على قول مولاهما بإخلاص، ولكن كان سوفخاتب مضطربا، يحاول عبثا أن يقلل من خطورة الأمر الذي أصدره فرعون، ويذكر في ضيق صدر أن الكهنة سيتلقون الأمر الشديد وهم مجتمعون في آبو، فيتسع لهم المقام لتبادل الرأي، وتباث الشكوى، فيعودون إلى ولاياتهم وقد أطبقت أفواههم على التذمر والحزن، وإنه ليعلم علم اليقين من هم الكهنة وما هو نفوذهم على القلوب والعقول .. ولكنه لم يبن عن آرائه؛ لأنه وجد الملك فرحا راضيا ضاحك الثغر، فأشفق من تعكير صفوه، وبسط صفحة وجهه، ورسم على شفتيه ابتسامة راضية.
وقال الملك بسرور: لم أشعر بمثل نشوة الظفر هذه منذ اليوم الذي انتصرت فيه على قبائل المعصايو جنوب النوبة في حياة أبي، فلنشرب نخب هذا الفوز السعيد.
وجاءت الجواري بإبريق من خمر مريوط وكئوس ذهبية، وصببن الخمر، وقدمن كئوسا مترعات إلى الملك والرجلين المخلصين، فشربوا في صفاء وهناء وعلوا في نشوة، وجعل سوفخاتب يذب عن قلبه الخواطر المقلقة، ليركز حواسه في رحيق مريوط، ويشارك الملك والقائد سعادتهما، وكانوا جلوسا صامتين تتبادل أعينهم المودة والصفاء، والبركة من تحتهم يستحم في مائها الطرب شعاع الشمس المائل، والأشجار من حولهم ترقص أغصانها على شدو الأغاريد، وتنبثق الأزهار من بين أوراقها انبثاق الخواطر السعيدة من غيابات النفوس .. واستسلموا إلى يقظة ناعسة زمنا غير يسير حتى انتبهوا على حادثة غريبة انتزعتهم من أحلامهم بعنف؛ إذ سقط شيء في حجر الملك من عل، فانتفض واقفا، وتبعه الرجلان، فسقط الشيء عند قدميه، وإذا به صندل ذهبي، ونظروا إلى أعلى دهشين، فرأوا نسرا هائلا يحلق في سماء الحديقة فوق رءوسهم ويبعث في الفضاء صرصرة مخيفة، ويصليهم نظرات ملتهبة من عينين متقدتين، ثم ضرب بجناحيه الهواء ضربة عنيفة حلق بها في آفاق بعيدة.
وعادوا بالنظر إلى الصندل، والتقطه الملك بيده، وجلس يتأمله بعينين مبتسمتين تلوح فيهما آي الدهشة. ونظر الرجلان إلى الصندل بغرابة، وتبادلا نظرات الإنكار والدهشة والارتياب.
ومضى الملك في تأمله، ثم غمغم قائلا: هذا صندل امرأة، بلا ريب، ما أجمله وما أثمنه!
وتساءل طاهو وعيناه تلتهمان الصندل: ترى هل خطفه النسر؟
فابتسم الملك قائلا: لا يوجد في حديقتي شجر يتساقط منه نبت طيب كهذا.
अज्ञात पृष्ठ
وقال سوفخاتب: يعتقد العامة يا مولاي أن النسر يتعشق الحسان، وأنه يخطف من العذارى من تهوي إليها نفسه، ويطير بها إلى قمم الجبال، فلعل هذا النسر عاشق هبط منف وابتاع الصندل لحبيبته، ثم خانه الحظ فأفلت من بين مخالبه، وسقط عند قدمي مولاي.
وجعل الملك يتأمله مسرورا منفعلا، ويقول: ترى كيف خطفه؟ .. أخشى أن يكون لإحدى ساكنات السماء.
فعاد سوفخاتب يقول باهتمام: أو لإحدى ساكنات الأرض يا مولاي، خلعته مع ثيابها على شاطئ بركة، وتعرت تستحم، فجاء النسر وخطفه. - ورمى به إلى حجري .. يا للعجب، لكأني به يعلم بحبي للحسان!
فابتسم سوفخاتب ابتسامة ذات معنى، وقال: أسعدت الآلهة أيامك يا مولاي.
وتبدت الأحلام في عيني الملك، وابتسمت أساريره، ولان جبينه، وتوردت وجنتاه، وكان ينظر إلى الصندل لا تفارقه عيناه، ويسائل نفسه: ترى من صاحبته؟ وما صورتها؟ وهل هي جميلة كصندلها؟ وكيف لا تدري أن صندلها سقط في حجر الملك؟ وما شأن الأقدار التي نصبته هدفا له؟ وعثر بصره بصورة منقوشة على باطنه، فقال وهو يشير إليها: ما أجمل هذه الصورة! .. إنه فارس وسيم، يقدم قلبه هدية على يده المبسوطة.
ووقعت هذه العبارة من قلب الرجلين موقع الانتباه الشديد فالتمعت أعينهما بنور خاطف، وتطلعا إلى الصندل باهتمام عظيم، وقال سوفخاتب: هل يتنازل مولاي عن الصندل لحظة؟
فأعطاهه، ونظر إليه كبير الحجاب، كما نظر إليه طاهو، ثم رده الرجل إلى الملك وهو يقول: صدق حدسي يا مولاي .. هذا صندل رادوبيس غانية بيجة الشهيرة.
فتساءل الملك قائلا: رادوبيس .. يا له من اسم جميل! .. من عسى أن تكون صاحبته؟!
وساور القلق قلب طاهو واختلجت عيناه فقال: هي راقصة يا مولاي يعرفها أهل الجنوب جميعا.
فابتسم فرعون وقال: ألسنا من أهل الجنوب؟ حقا إن الملوك قد تخترق أعينها سجف الأفق القصي، وتعمى عما يقع عليه ظلها.
अज्ञात पृष्ठ
واشتد القلق بطاهو، فقال وقد امتقع لونه: إنها امرأة يا مولاي قد طرق بابها رجال آبو وبيجة وبيلاق.
وكان سوفخاتب يعلم بما يساور قلب صاحبه من المخاوف، فقال وهو يبتسم ابتسامة غامضة ماكرة: على أية حال هي صورة أنثوية يا مولاي، جعلتها الآلهة آية على قدرتها وإعجازها.
فردد الملك ناظريه بين الرجلين وقال مبتسما: وحق الرب سوتيس إنكما لأخبر أهل الجنوب بها.
فقال سوفخاتب بهدوء: إن بهو استقبالها يا مولاي ملتقى أهل الرأي والفن والسياسة. - حقا إن الجمال عالم ساحر، يطالعنا كل يوم بالمعجزات، هل هي أجمل من رأيت؟
فقال سوفخاتب باطمئنان: هي الجمال عينه يا مولاي، هي فتنة قهارة، وعاطفة لا تقاوم. لقد صدق الفيلسوف هوف وهو من أصدقائها المقربين إذ قال يوما: إنه من أخطر الأمور في حياة الرجل أن تقع عيناه على وجه رادوبيس.
وتنهد طاهو يائسا، وحدج كبير الحجاب بنظرة خاطفة فهم معناها، ثم قال: إن جمالها يا مولاي جمال شيطاني رخيص، لا تضن به على طالب!
فضحك الملك بصوت عال، وقال: كلاكما يغريني وصفه.
فقال سوفخاتب: ألا فلتروك سماء مصر بأجمل ما تظل من السعادة يا مولاي.
ونزع خيال الملك به إلى النسر، فتولاه عجب ساحر، أضفى عليه ما سمعه نسيجا رقيقا من الفتنة والأحلام، فتساءل وكأنه يحادث نفسه: ترى أأحسن النسر في اختيارنا هدفا له أم أساء؟
واختلس طاهو نظرة عاجلة من وجه مولاه المكب على ما بين يديه، وقال في حيرة: ما هي إلا مصادفة يا مولاي. وما يؤسفني إلا أن أرى هذا الصندل الملوث بين يدي مولاي المعبودتين.
अज्ञात पृष्ठ
ولحظ سوفخاتب صاحبه بنظرة ساخرة متشفية، وقال بهدوء: مصادفة؟ .. إن هذه الكلمة يا مولاي مهضومة الحق، يظن بها التخبط والعمى، ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات وأجل الكوارث؛ فلم يبق للآلهة إلا القليل النادر من حادثات المنطق، كلا يا مولاي، إن كل حادثة في هذا العالم لا شك موكلة بإرادة رب من الأرباب، ولا يجوز أن تخلق الآلهة الحادثات - جلت أو تفهت - عبثا أو لهوا.
فجن جنون طاهو، وكظم بقوة تيار غضب جنوني كاد أن يجرف هدوءه في حضرة الملك، وقال لسوفخاتب بلهجة تنم عن اللوم والتعنيف: أتريد أيها المعظم سوفخاتب أن تشغل بال مولاي، في هذه الساعة الجليلة، بأمثال هذه الأوهام؟
فقال سوفخاتب بهدوء: إن الحياة جد ولهو، كما إن اليوم نهار وليل، والرجل الحكيم من لا يذكر في أوقات جده أسباب لهوه، ولا يعكر صفو لهوه بأمور جده، فمن أدراك أيها القائد؟ فلعل الآلهة لسابق علمها بحب مولانا الجمال، أرسلت إليه هذا الصندل على يد النسر العجيب.
وقلب الملك عينيه في وجهيهما واستضحك قائلا: أدائما على اختلاف أيها الرجلان؟ كما تشاءان، ولكن كان ينبغي أن أجد في طاهو الرجل مغريا بالهوى، وفي سوفخاتب الشيخ زاجرا عنه، وعلى أية حال لا مندوحة لي من الميل مع رأي سوفخاتب في الحب، كما ملت إلى رأي طاهو في السياسة.
وقام الملك واقفا، فقام الرجلان، وألقى نظرة على الحديقة الواسعة وهي تودع الشمس المائلة نحو الأفق الغربي، وقال وهو يهم بالمسير: أمامنا ليلة عمل شاقة، فإلى الغد، ولسوف نرى.
وذهب فرعون والصندل في يده، فانحنى الرجلان في إجلال.
ووجدا نفسيهما منفردين مرة أخرى، فوقف كل منهما بإزاء صاحبه؛ طاهو بجسمه الطويل وصدره العريض وعضلاته الفولاذية، وسوفخاتب بجسمه الدقيق النحيل وعينيه الصافيتين العميقتين وابتسامته الجميلة العظيمة.
وكان كل منهما يحس بما اختلج في صدر صاحبه، فيبتسم سوفخاتب، ويقطب طاهو جبينه. ولم يستطع القائد أن يودع الحاجب بغير قول ينفس به عن صدره الكظيم، فقال: غدرت بي أيها الصديق سوفخاتب، بعد أن لم تطق منازلتي وجها لوجه.
فرفع سوفخاتب حاجبيه إنكارا، وقال: يا له من كلام بعيد عن الحق أيها القائد! ما لي أنا والحب؟ ألم تعلم بأني شيخ فان ، وأن حفيدي سنب طالب في جامعة أون؟ - ما أسهل تزوير الكلام عليك أيها الصديق! ولكن الحقيقة تهزأ بلسانك اللبق الحكيم .. ألم يمل قلبك الفتي يوما إلى رادوبيس؟ ألم يسؤك أن تهبني عطفا لم تظفر به أنت؟
فرفع الشيخ يديه يستعيد من كلام القائد، وقال: إن خيالك لا يقل عن عضلات ساعدك الأيمن، والحق أنه إذا كان قلبي مال إلى هذه الغانية يوما، فعلى طريقة الحكماء المبرأة من الطمع! - أما كان يجمل بك ألا تفتن خيال مولانا بحسنها إكراما لي؟
अज्ञात पृष्ठ
فبدت الدهشة على سوفخاتب، وقال باهتمام وأسف صادق: أحقا أنك تجد في الأمر جدا؟ .. أم أنك ضقت بدعابتي ذرعا؟
فقال طاهو بسرعة: لا هذا ولا ذاك أيها المعظم، ولكن يسوءني فقط أن نختلف دائما.
فابتسم كبير الحجاب، وقال بهدوئه الطبيعي: لن يزال يجمعنا رباط وثيق هو الإخلاص لصاحب العرش!
قصر بيجة
غاب الموكب الفرعوني عن الأنظار، ورفعت تماثيل ملوك الأسرة السادسة، فاندفع الناس من جانبي الطريق، فتلاطمت أمواجهم، واختلطت أنفاسهم، كأنهم بحر موسى الذي انشق له طوعا، وانقض على أعدائه كاسرا، فأمرت رادوبيس عبيدها بالعودة إلى السفينة. وكانت نشوة الحماس التي انبعثت في قلبها لدى ظهور فرعون ما تزال تلتهب في قلبها نارا وتندفع إلى أطرافها دما حارا. وكانت صورته لا تفارق مخيلتها، لشبابه الغض، ونظراته المتعالية، وقده الرشيق، وعضلاته المفتولة.
وكانت رأته قبل ذلك في يوم التتويج العظيم منذ شهور قلائل، وكان يقف في عجلته كما وقف اليوم فارع الطول جاهر الجمال، مرسلا بناظريه إلى الأفق البعيد، وقد تمنت يوم ذاك كما تمنت اليوم لو عطف إليها عينيه.
ترى لماذا؟ .. ألأنها تطمع في أن يفوز جمالها بما هو أهله من التكريم؟ أم لأنها تود في أعماقها لو تراه في هيئة البشر بعد أن رأته في قداسة الأرباب المعبودة؟ كيف السبيل إلى فهم هذا التمني؟ .. على أنه مهما كانت حقيقته، فقد تمنت صادقة، وتمنت مخلصة مشوقة.
لبثت الغانية مستغرقة في غمرات أحلامها، فلم تعن بالالتفات إلى الطريق المزدحم الذي يجتازه ركبها الصغير بشق الأنفس، ولم تلق أدنى انتباه إلى الآلاف من الخلق الذين يكادون أن يلتهموها، بنهم وشراهة. وصعد بها إلى السفينة ونزلت من الهودج في المقصورة، واطمأنت إلى عرشها الصغير، وهي في شبه غيبوبة تسمع ولا تعي، وتنظر ولا ترى .. وانسابت بها تشق وجه النيل الرزين، حتى رست إلى سلم حديقة قصرها الأبيض، عروس جزيرة بيجة. وكان القصر يرى عن بعد في نهاية الحديقة اليانعة التي تنتهي معارجها إلى سيف النيل، تحوط به أشجار الجميز، ويحنو عليه النخيل، كأنه زهرة بيضاء نبتت في أحضان تلك الجنة الوارفة. فهبطت أدراج السفينة، ووضعت قدمها على أولى درجات الحديقة، وصعدت سلما من المرمر المصقول، يمتد بين سورين من الجرانيت، تنتصب على الجانبين مسلات عالية نقشت عليها أشعار رقيقة لرامون حتب، إلى أن بلغت أرض الحديقة السندسية.
واجتازت بوابة من الحجر الجيري نقش اسمها على واجهتها باللغة المقدسة، وقام في وسطها تمثال لها بالحجم الطبيعي، نحته هنفر، وأفنى فيه دهرا جميلا من أسعد أيام حياته، يمثلها جالسة على عرشها الجميل الذي تستقبل عليه المقربين، ويكشف في روعة فنية رائعة عن جمال الوجه، وتكعب الثديين، ورشاقة القدمين. ثم خلصت إلى ممر وسيط اصطفت على جانبيه الأشجار تعانقت أعالي أغصانها، فظللت عليه سقفا من الأزهار والأوراق الخضراء، وفرشت أرضه بالحشائش والأعشاب، وكانت توازيه عرضا من اليمين والشمال ممرات جانبية قدت على نفس الصورة، تنتهي ذات اليمين إلى سور الحديقة الجنوبي، وذات الشمال إلى سورها الشمالي. وكان هذا الممر ينتهي إلى الكرمة المتفرعة المتسلقة على أعراش من عمد رخامية، تنبسط إلى يمينها غابة من الجميز، وتمتد إلى يسارها غابة من النخيل أقيمت فيها هنا وهناك بيوت القردة والغزال، وانتشرت في جنباتها المترامية التماثيل والمسلات.
وانتهت بها قدماها إلى بركة واسعة من ماء غير آسن، ينطلق على شطآنها نبات اللوتس، ويسبح في سطحها الإوز والبط وتغني في جوها الأطيار، وقد انتشر شذا العطر وأريج الزهر وغردت البلابل.
अज्ञात पृष्ठ
ودارت حول البركة نصف دورة كاملة، فصارت أمام الحجرة الصيفية، ووجدت في استقبالها جماعة من الجواري انحنين لها إجلالا، ثم وقفن ينتظرن أوامرها، وأسلمت الغانية نفسها إلى أريكة مظللة تستريح .. ولم يطل بها المقام فانتفضت واقفة، وقالت لجواريها: كم ضايقتني أنفاس القوم الحارة .. وكم أرهقني الحر .. اخلعن ثيابي؛ فقد تقت إلى مياه البركة الباردة.
فدنت الجارية الأولى من سيدتها، ورفعت بخفة خمارها الموشى بالذهب نسيج منف الخالدة.
ثم تقدمت اثنتان فخلعتا العباءة الحريرية، فكشفتا عن قميص شفاف انحسر عما فوق النهدين وما تحت الركبتين، ثم تبعتهما جاريتان فسحبتا بيدين رقيقتين القميص السعيد، وروعتا الدنيا بجسد طليق، خلقته الآلهة جميعا، وادعاه كل لقدرته وفنه!
واقتربت جارية أخرى وحلت عقدة شعرها الفاحم، فانساب على جسدها، وغشاه من الجيد إلى الرسغين، وانحنت على قدميها وخلعت صندلها الذهبي ووضعته على حافة البركة. ومشت الغانية تتهادى، وهبطت درجات البركة المرمرية على مهل، ومضى الماء يغمر القدمين، فالساقين، فالفخذين، ثم ألقت بجسمها في الماء الهادئ يأخذ منه عطرا ويعطيه بردا وسلاما. واستسلمت لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبت فيه ما شاء لها الهوى والمرح، وسبحت طويلا تارة على بطنها، وتارة على ظهرها، وثالثة على أحد جانبيها.
وما كانت لتعير شيئا اهتماما لولا أن صك أذنيها صراخ فزع يرسله جواريها، فتوقفت عن السباحة، والتفتت إليهن، فراعها أن رأت نسرا هائلا يحلق من علو قريب من شاطئ البركة، ويرف بجناحيه، ففرت من بين شفتيها صرخة فزع، وغاصت في الماء تنتفض فزعا ورعبا، وتصبرت بجهد جهيد، وحبست أنفاسها طويلا حتى أحست بالاختناق، ونفدت قدرتها فرفعت رأسها في خوف وحذر، ونظرت فيما حولها وهي تخشى، فلم تر شيئا، فنظرت إلى السماء فوجدت النسر يولي بعيدا يوشك أن يلج باب الأفق، فسبحت إلى الشاطئ على عجل، وصعدت الأدراج مسرعة مضطربة، ووضعت قدمها في إحدى زوجي صندلها، ولكنها لم تجد الأخرى، وبحثت عنها طويلا ثم سألت: أين الأخرى؟
فأجابها الجواري في قلق: خطفها النسر!
وتبدى الأسف على وجهها، ولكنها لم تجد متسعا من الوقت لإعلان سخطها، فدلفت إلى الحجرة الصيفية، والجواري من حولها وبين يديها يجففن جسدها الغض، تنحدر عليه نقط الماء كأنها لؤلؤ ينتشر على أديم عاج. •••
ولدى الغروب تأهبت لاستقبال الضيوف، وما أكثرهم في أيام العيد التي تجذب الناس إلى الجنوب من كل صوب! فارتدت أجمل ثيابها، وازينت بأفخر حليها، ثم تركت المرآة إلى بهو الاستقبال، تنتظر القادمين وقد آن موعدهم.
وكان البهو آية من آيات الفن والعمارة، بناه المعمار هني، وجعل صورته على هيئة بيضاوية، وشيد جدرانه من الجرانيت كبيوت الأرباب، وكساه بطبقة من الصوان ذات ألوان تسر الناظرين، وكان سقفه مقببا تزينه الصور والتهاويل، وتتدلى منه المصابيح المكفتة بالذهب والفضة.
وزخرف الجدران المثال هنفر، وتنافس العشاق في تأثيثه بإهداء المقاعد الوثيرة والدواوين الفاخرة، والرياش الجميلة. وكان عرش الغانية أبدع هذه التحف جميعا؛ فهو من العاج الثمين على قوائم من سن الفيل، وقاعدته من الذهب الخالص المحلى بالزمرد والياقوت، وقد أهداه إياها حاكم جزيرة بيجة.
अज्ञात पृष्ठ