وكان الفيلسوف هوف يصغي بانتباه إلى كلام عانن، وكانت له خبرة ببلاد النوبة، وكان على علم واف بقضية المعصايو، فسأل التاجر قائلا: لماذا يصر المعصايو دائما على العصيان؟! .. إن البلاد المشمولة بحكم مصر تتمتع في ظله بالطمأنينة والرفاهية، ونحن لا نتعرض لعقائد غيرنا، فلماذا يناصبوننا العداوة؟
ولم يكن عانن يعنى بمعرفة الأسباب، وظن أن نفاسة التجارة هي التي تغري القوم بالانقضاض عليها، ولكن الحاكم آني كان متبحرا في هذه المسائل، فقال للفيلسوف: الحق يا سيدي الأستاذ أن المعصايو لا يرجع إلى أسباب سياسية أو دينية. وحقيقة المسألة أن القوم قبائل رحالة، يعيشون في أرض جدباء، ويهددهم الجوع في كل حين، وبين أيديهم كنوز من الذهب والفضة لا تغني ولا تشبع من جوع، فإذا انبرى المصريون لاستثمارها، هاجموهم ونهبوا قوافلهم.
فقال هوف: إذا كان الأمر كذلك، فالحملات التأديبية عديمة الجدوى، وإني أذكر يا سيدي الحاكم أن الوزير أونا - تقدست روحه في عالم أوزوريس - منى نفسه يوما بعقد معاهدة معهم على أساس المنفعة المتبادلة، فيمدهم بالغذاء في مقابل أن يؤمنوا له طرق القوافل .. هي فكرة ثاقبة أليس كذلك؟
فهز الحاكم رأسه دلالة على الموافقة، وقال: لقد أحيا رئيس الوزراء خنوم حتب مشروع الوزير أونا، وعقد المعاهدة قبل عيد النيل بأيام، ولن نعرف نتيجة سياسته قبل زمن طويل، والمتفائلون كثيرون.
وكان الحاضرون ملوا سريعا حديث السياسة، فانقسموا حلقات، ومنهم عانن، وشتتهم شجون الحديث، وحاولت كل حلقة أن تجذب رادوبيس إليها، ولكن الغانية جذبها اسم خنوم حتب، وذكر الهتاف الذي دوى باسمه في أثناء سير الركب الفرعوني، فعاودها استياء غمرها وقتذاك وأحست بلفحة غضب، فدلفت إلى حيث يجلس آني، وهوف، وهنفر، وهني، ورامون حتب، وقالت بصوت خافت: ألم تسمعوا ذلك الهتاف العجيب؟
وكان زوار القصر الأبيض إخوة، لا تقوم بينهم كلفة، ولا يعقل ألسنتهم خوف، وكانت أحاديثهم تتناول كل شيء في حرية مطلقة، وطمأنينة كاملة. وقد سمع هوف مرات ينتقد سياسة الوزراء، كما سمع رامون حتب وهو يبدي شكوكه ومخاوفه من تعاليم اللاهوت، ويعلن عن إيمانه باللذة ويدعو إلى متاع الدنيا.
وتناول المعمار هني جرعة من كأسه، وقال وهو ينظر إلى وجه رادوبيس الجميل: إنه هتاف جريء لم يسمع بمثله من قبل في وادي النيل.
فقال هنفر: نعم، ولا شك في أنه كان مفاجأة محزنة لفرعون الشاب في أول عهده بالحكم.
وقال هوف بهدوء: لم تجر العادة قط بأن يهتف باسم إنسان ما مهما كانت مكانته، في حضرة فرعون !
فقالت رادوبيس بلهجة دلت نبراتها على الغضب: ولكنهم خرقوا هذه العادة بمنتهى الوقاحة .. لماذا أقدموا على ذلك أيها السيد آني؟
अज्ञात पृष्ठ