وضحك الناس وصفقوا لها، وانزوى الشاب خجلا، وقد رد السهم إلى صدره. وسارت الساحرة حتى بلغت هودج الغانية، وطمعت في سخائها فتوقفت بإزائه، وصاحت تحدث صاحبته وهي تبتسم ابتسامة كريهة: أيتها السيدة المحروسة بالعناية! هل أقرأ لك الطالع؟
ولم يبد على الغانية أنها سمعت صوت الساحرة، فصرخت العجوز: مولاتي!
وانتبهت إليها رادوبيس فيما يشبه الذعر، ثم عطفت عنها رأسها سريعا وقد لمسها الغضب، وقالت لها العجوز: صدقيني ما من إنسان في هذا الجمع الحاشد يحتاج إلي اليوم حاجتك!
فتقدم منها أحد العبيد، وحال بينها وبين الهودج، وكاد الحادث على تفاهته يثير اهتمام القريبين، ولكن سمع صوت بوق شديد يخترق الفضاء، ووضع على أثره الجند المصطفون على جانبي الطريق الأبواق في أفواههم، ونفخوا فيها نفخا طويلا متصلا، فعلم الناس جميعا أن الركب الفرعوني بدأ تحركه، وأنه عما قليل يغادر فرعون القصر في طريقه إلى معبد النيل، فنسي الجميع ما كانوا فيه وشخصوا إلى الطريق بأعناق مشرئبة، وحواس مرهفة.
ومضت دقائق طويلة ثم بدأت طلائع الجيش تسير صفوفا متراصة على أنغام الموسيقى الحربية تتقدمها حامية بيلاق بعددها المتنوعة، تسير وراء علمها المتوج بصورة الباز، فكانت الجنود تقابل في كل مكان بالهتاف والتصفيق.
وقفتها بعد حين قليل فرقة المشاة حاملي الرماح والتروس، تتأثر موسيقاها، وعلمها المزدان بصورة الرب حورس، وقد استقامت الرماح في صورة هندسية دقيقة، فرسمت في الهواء خطوطا متوازية طولا وعرضا.
وجاءت فرقة الرماة الكبرى حاملي القسي والسهام، واستغرق مسيرها فترة طويلة من الزمن، يتقدمها علمها الموسوم بصولجان العرش.
ثم سمع من بعيد دوي وصلصلة وصهيل خيل، ولاحت للأنظار فرقة العجلات تنطلق عشرة عشرة في صفوف متوازية دقيقة كأنما رسمت بالقلم، يجر العجلة جوادان مطهمان، ويقوم على ظهرها فارسان؛ سائق مزود بالسيف والمزراق، ورام مدرع يمسك قوسه بيد ويحمل جعبته بيد، فذكر المشاهدون لمرآها غزو النوبة وطور سيناء، وخالوا أنهم يرونها تنتشر في السهول والوديان كالنسور المنقضة، والعدو يتشتت أمامها، وقد أذهله الرعب، وأحاط به الهلاك، فاشتعل الحماس في عروقهم نارا، وشق هتافهم السماوات.
وبدا للناظرين الموكب الفرعوني المهيب، تتقدمه العجلة الفرعونية، وتتبعها مباشرة أهلة من العجلات خماس خماس، تحمل الأمراء والوزراء وكبار رجال الكهنوت والقضاة الثلاثين وقواد الجيش وحكام الأقاليم، واختتم الموكب بذيل من الحرس الفرعوني على رأسه القائد طاهو.
ووقف فرعون في عجلته منتصب القامة، مهيب الطلعة كأنه تمثال من الجرانيت لا يميل يمنة ولا يسرة، ويصوب بصره إلى الأفق البعيد غير ملتفت إلى الخلق جميعا، ولا إلى هتافهم الصاعد من أعماق القلوب.
अज्ञात पृष्ठ