ولست بحاجة إلى من يقول لك: إن جميع مدن المملكة المصرية، لا فرق بين كبيرها وصغيرها، دانيها وقاصيها أصبحت تزخر بفنون الإعلانات، فهذه الصحف السيارة والمجلات الدورية وغير الدورية، تسيل أنهارها بالإعلان وهذه جدران المباني العامة والخاصة لا يكاد يعرى متر مربع فيها من الإعلان، بين مطبوع على الأوراق أو مكتوب على الحائط، أو متألق في أعلى المباني بنور الكهرباء، دع آلاف الإعلانات التي يلقاك بها الموزعون في كل سبيلها، والإعلانات الصوتية - الميكرفون - التي تجول بها السيارات في الطرق والأسواق ... إلخ.
ومن أظرف ما يذكر في هذا المقام أن للحكومة معهدا كبيرا يقع على شارع من الشوارع الرئيسية في قلب القاهرة، وسور هذا المعهد يمتد إلى مسافة كبيرة من جانب الشارع، وقد بدا للقائمين على تكليسه - بياضه - أن يبالغوا في تزيينه وتبهيجه بتقسيمه إلى مربعات متساوية المساحة، ولم يمض على هذا التزيين والتبهيج بضعة أسابيع بل بضعة أيام، حتى كانت جميع هذه المربعات محلاة بالإعلانات المختلفة، ما خلا مربعا واحدا لا أدري لماذا ترك المسكين عريان، لا أثر للنقش ولا للكتابة فيه!
فهناك المهلك، والمبيد، والبط، وورنيش العمدة، وطربوش النسر ... إلخ. ومن العجيب أنها كلها مكتوبة بالحبر الأسود وبأردأ الخطوط، حتى يخيل إليك أنها منضوحة بوعاء الحبر نضحا لم تجر بها أنامل، أستغفر الله بل أكف الكاتبين!
وطال الزمن على هذا ثم طال، وأخيرا يظهر أن القائمين على شأن هذا المعهد الحكومي قد عز عليهم أن يبقى ذلك المربع فذا بين سائر المربعات، فاستخاروا الله وكتبوا فيه: «ممنوع لصق الإعلانات.»
ولقد زعمت لك أن مصر قد برعت أمريكا فضلا عن أوروبا في فن الإعلان، واستنظرتك الدليل فهاكه الآن.
لعلك تعرف ولعلك لا تعرف أن الأطباء لا يعلنون عن شأنهم بأية وسيلة من الوسائل في بعض البلاد الأوروبية، ولا شك في أن هذا من الجهل بفن الإعلان الناشئ عن الجهل بفوائد الإعلان، فإذا أحلت الأمر على أن القانون في تلك البلاد يحظر الإعلان على الأطباء، فما كان عسيرا عليهم لو أرادوا السعي إلى إلغاء هذا القانون؛ ليفيدوا ما شاء الله من طيبات الإعلان.
أما عندنا ففوق إعلانات الأطباء والمحامين في الصحف السائرة وغير السائرة، فلقد ترى «اليافطة» الطويلة العريضة مرفوعة على ساريتين تطاولان السحاب، وهذه على جانب الشارع الرئيسي، ثم أخرى على مدخل الشارع الفرعي، ثم ثالثة على ناصية المنعطف، ثم رابعة على صدغ العمارة، وكلما انعطف بك السلم رفعت لبصرك «يافطة»، وهكذا حتى تبلغ باب العيادة أو المكتب، فإذا هو مرصع بجمهرة من «اليافطات»، المختلفة الأشكال والخطوط والأحجام.
ولا يبعد أن يتقدم فن الإعلان في بلادنا حتى يخترع شباكا سحرية تصطاد الزبائن، وتسحبهم في لطف ودعة، حتى نصل بهم إلى العيادة أو المكتب في أمان، وما شاء الله كان!
وأبدع من هذا وأبرع أن يعلن الطبيب أنه إذا لم يكشف عن المرض في 48 ساعة فقط، فإنه يرد إلى العليل ما دفع من النقود.
أرأيت مثلا أبلغ من ذلك في الكفاية والثقة بالنفس، والتمكن من الفن والقدرة المستيقنة على شفاء العلل، مهما تعاصت في 48 ساعة لا تزيد ولو دقيقة واحدة من الزمان؟
अज्ञात पृष्ठ