ولقد رأيت هذا بعيني وسمعته بأذني، وإنما خصصت هذا المكان؛ لأن حي السيدة هو الحي الذي نشأت فيه، ولا بد أن الأمر كان كذلك في سائر الأحياء.
بالحلال خمسة وبالحرام ستة! ولست بحاجة إلى أن أبين أن المراد بالحرام الوزن الناقص، ومعنى هذا أن إخسار الميزان مما يجوز أن يقع عليه التعاقد بين البائعين والمشترين! وأحسب أن هذا ما لا يقع له شبيه في أي بلد آخر من بلاد الله.
وأغلب الظن أن إمساك الباعة الآن عن عرض التصافق على الحرام، إنما مرجعه إلى خوف العقوبة القانونية التي تغلظ عليهم هذه السنين في النقص من الموازين.
ولقد أبرزت في هذا الحديث جماعات البياعين؛ لأنهم يطالعون الناس في كل ساعة ويعترضونهم بكل سبيل، على أننا لو بسطنا في آفاق النظر لراعنا أن نرى ما نرى من أكثر جماعات الصناع ومن يعالجون ألوان الحرف في هذه البلاد، أما خلف المواعيد فهذا قدر مشترك بين الجميع.
وأما استبدال مادة رديئة بأخرى جيدة - وهي المتفق عليها في عقد الصفقة - وأما قلة العناية بتجويد صنعة، وعدم التأنق فيها طوعا لمطالب الفن، فهذه الخلال يقع فيها الاختلاف بين جماعات الصانعين.
وهذا الاختلاف يرجع في الغالب إلى يقظة المستصنع من جهة، وإلى كفاية القائم على شأن الصناع ومبلغ حرصه على السمعة من جهة أخرى، أما الضمير، الضمير وحده فلا غرو عليك إذا أسقطته من الحساب!
وبعد، فإن العلة الحقيقة لمعظم ما نشكو من التدهور الخلقي هي شيوع الكذب، وإن شئت الدقة قلت: هي أننا على الجملة لا ننزل الكذب المنزلة الحقيقة به من الإنكار والاستفظاع، ولا نحتفل للنهي عنه فضلا عن المبادرة بالعقوبة عليه.
وشيوع الكذب - مع الأسف العظيم - ليس مقصورا على الطبقة الدنيا من الناس؛ بل لقد عدا على الكثير ممن أخذوا بحظ من العلم والتهذيب حتى لقد ترى الرجل أو الفتى يكذب في غير حاجة ملجئة إلى الكذب، أو لدفع ما إن دفعه بالصدق والصراحة لم يمسه من غوائله شر كبير ولا صغير!
ولو أننا ننزل الكذب منزلته التي مهدتها له قواعد الأخلاق ما أسفناه في هذا اليسر العظيم!
وأثر الكذب وعدم الاكتراث بالإقدام عليه يختلف باختلاف الناس، وحظ كل منهم من التربية والتفكير والنظر إلى عواقب الأمور، ولهذا تراه في بعضهم يسهل ارتكاب أفظع الجرائم إذ هو لا يعدو في سواها إلا على التافه من المخالفة لقواعد الأخلاق، وبين هذين الحدين مراتب تتفاوت طوعا لتلك الخلال في الناس.
अज्ञात पृष्ठ