لا أدري إن كنت تدري أو لا تدري أن ألقاب التشريف كانت تجري صعدا على النحو الآتي: حميتلو «بتشديد الياء»، وهذه لأصغر طبقات الموظفين. فرفعتلو، فعزتلو، فسعادتلو، فعطوفتلو، فدولتلو. وترجمتها على التوالي: صاحب الحمية، صاحب الرفعة، صاحب العزة ... إلخ.
فترى أن هذه الرقعة قد طارت من هذا المكان، وحلقت حتى أمست أعظم تشريف لرئيس الحكومة ولرئيس الديوان!
آمنت أن من الألقاب ما يهبط ومنها ما يصعد، ومنها ما يشقي ومنها ما يسعد، «وكذلك الدهر حالا بعد حال» ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الضمير العام
يعتريك البياع من هؤلاء البياعين المضطربين في الطرق بسلعهم فيطرحها لنظرك، وقد تجيلها يده بين ذقنك وفخذك إن كنت جالسا حتى يحك بالوعاء: صندوقا أو عدلا أو سلة، صدرك. وقد تنازعك نفسك إلى أن تشتري، فتسأله الثمن فتراه يحلف لك مبتدئا مرتجلا متبرعا محتسبا، ولم تكن قد باديته بشك في قوله أو جرح في ذمته، يحلف لك بكل مؤثمة من الأيمان أنه إنما اشترى بعشرة قروش، ولا يطمع في أكثر من قرش واحد أو نصفه ربما لا يقوم بشيء من طول سعيه وكده، وإنه لا يتحرج من أن يدخل في يمينه الطلاق وفقد الولد، وذهاب البصر، وبطلان الشق بضربة الفالج ... إلخ! وتعرض عليه ثلاثة قروش مثلا أو ما دونها، فيتأبى ويعتذر، وقد يتركك ويمضي مهرولا مغذا، ليدخل في وهمك أنه لم يكن غاليا في عرضه ولا متأربا فإن راجعته وإلا ظل في هرولته حتى يغيب عن نظرك، ثم لا يلبث أن ينقلب إليك، فيحط الثمن إلى ثمانية، فإلى ستة، وهكذا لا يزال يتدلى حتى يصل إلى ما عرضت عليه أول الأمر، وكذلك تعقد الصفقة في سراح ورواح!
إن ما يستدعي البحث حقا، بل إن ما يشير الفزع حقا أن يحاول هذا الرجل أن يغشك ثم لا يلبث أن تنكشف محاولته، وأن يحلف بكل ما يحلف به، وسرعان ما يظهر كذبه ومينه وحنثه، ومع هذا وهذا لا يبض جبينه بقطرة واحدة من خجل أو حياء؛ بل إنه ليقاومك في ألوان من الحديث كأن لم يحمل وزرا ولم يقترف إثما، ولم يأت أي شيء مما يعاب به الناس!
وإن مما يستدعي العجب الأعجب، بل إن مما يثير الفزع الأفزع أن أكثر الناس حتى المتعلمين المثقفين منهم، لا ينكرون هذا على أولئك الباعة ولا يزجرونهم، ولا يظهرون الاشمئزاز منهم، ولا ينهونهم عن العودة لمثله!
وإن اطراد ذلك من جمهرة الباعة، واطراد هذا من جمهرة المشترين ليبعث على الحكم، مع الخجل الشديد بأن الغش والكذب والحنث بأغلظ الأيمان، هو من العرف المعروف في هذه البلاد.
ومن الحق الذي لا يعتريه شك الحق المؤلم الموجع، أن هذه الطبقة الدنيا في بلادنا - على وجه عام - لا تشعر البتة بشيء يدعى الضمير؛ يغشك البائع في السلعة، وإذا استطاع طفف الكيل أو أخسر الميزان، ثم تراه يكذب في القول ويحنث في اليمن، ما يجد لشيء من ذلك ألما، ولا يحس له خجلا ولا ندما، إنه لا يحس شيئا من ذلك البتة، بل إن نجاحه في غشه وزيفه واستراحة الناس إلى كواذب أيمانه لمما يبعث فيه عجبا وأريحيه، حتى إذا خلا إلى أمثاله وأكفائه جعل يباهي بذلك ويكاثر كما يتبارون هم أيضا في التباهي والتكاثر بما وقع لكل منهم من مثله!
هذا هو الخطر الأعظم، يجرم المجرم ولا يرى أنه أتى شيئا، ولو قد شعر حتى أضعف الشعور بأن في الجرم إثما، وأنه أمر مكروه لا يليق بالإنسان أن يقارفه، فإنه ولا ريب مما ييسر السبل إلى إصلاح هذه النفوس، فإن بعث الضمائر من الرقود أهون على الداعين من خلقها من العدم، قلت: إن غش الباعة وحنثهم بأغلظ الأيمان هو من العرف المعروف في هذه البلاد، وأذكر أن من قرابة ثلاثين سنة، إذا كان موسم الخيار وأقبل الليل، صف باعته عرباتهم بجوار مسجد السيدة زينب - رضي الله عنها - وعلى كل منها مصباح كبير وجعل كل منهم يصيح ملء لهاته بسمع مأمور القسم ومن قبله من رجال الشحنة: «بالحلال خمسة وبالحرام ستة، يا جمع العصاري يا لوبية.»
अज्ञात पृष्ठ