ولكن الحظوظ تتقلب في الحروب، وكما تكون الأيام لك تكون عليك؛ فقد هزم المرابطون جنود السيد في النهاية، فمات حزنا وغما في يوليه سنة 1099م/493ه وحين مات حنطوا جثته وأقاموا بجانبها حراسا، ثم أنفذوا ما أوصى به - كما تقول الأشعار القصصية - فأقعدوه على جواده الكريم بابيكا، وأحكموا شدة السرج، فجلس عليه معتدل القامة، لم يظهر بوجهه أثر الموت، وقد أبرقت عيناه الشهلاوان، وأرسلت لحيته إلى صدره، وقبضت يده على سيفه الأمين «تيزونة» فبدا كأنه حي لا يتطرق في ذلك شك لرائيه، ثم أخذوا بلجام فرسه وخرجوا من المدينة يتقدمهم بيرو برميودز وهو يحمل علم السيد ومعه خمسمائة فارس لحراسته، وسارت خلفه شيمانة في صويحباتها وحاشيتها، فأخذوا طريقهم بين العرب المحاصرين للمدينة، ويمموا شطر قشتالة، وتركوا العرب في دهشة وعجب من هذا الرحيل الغريب؛ لأنه لم يخطر لهم ببال أن السيد ميت لا يرجى.
ولما وصلوا إلى دير سانت بدور، أجلسوا السيد على كرسي من العاج إلى جانب المذبح تحت ظلة وضعوا فوقها رنوك قشتالة، وليون، ونافار، وأراغون، ورنك الكمبيدور نفسه، وبقي السيد نفسه جالسا إلى جانب المذبح عشر سنين، كان وجهه في أثنائها هادئا نبيلا، حتى إذا تغلبت آثار الموت على الصناعة والتحنيط دفنوه أمام المذبح، وأبقوه في قبره جالسا كما كان على الكرسي العاجي، مرتديا ملابسه الملكية وسيفه تيزونة في يده، ولا تزال درقة السيد المحفورة بالزخارف وعلم انتصاره معلقين على قبره يفيضان أسى وحزنا.
هوامش
مملكة غرناطة
أصبحت عودة إسبانيا إلى حكم المسيحيين وفيهم من الجنود أمثال السيد، ومن الملوك أشباه فرديناند وألفونسو - أمرا متوقعا بين يدي الزمان.
ومن الجلي أن لكل أمة ميقاتا، وأن لكل دولة عهد نمو ثم عهد ازدهار، يتبعهما الذبول والهرم والانحلال، وكما سقطت دولة الإغريق، وكما سقطت رومة، وكما سقطت كل مملكة قديمة شهدت الدنيا نهوضها وقوتها - سقط العرب في إسبانيا وشالت نعامتهم بعد أن دنا أجلهم وحان حينهم، فقد ذهبت ريحهم، وتفاقم الخلاف وزادت الجفوة بين أمرائهم قبل أن يتملكهم المرابطون، ثم إنهم لم يكونوا أحسن حالا حينما دالت دولة المرابطين، فما كاد هؤلاء يغادرون الأندلس حتى ظهر في الميدان عدو جديد، ذلك أن الموحدين الذين تلوا عرش المرابطين بإفريقية راق لهم أن يحاكوهم في ضم الأندلس إلى ملكهم، وذلل أمامهم السبيل ما شجر من النزاع بين أمراء هذه المملكة المنكودة التي طال على تمزقها الأمد ، فأخذ الموحدون الجزيرة الخضراء سنة 1145م/541ه، وفي سنة 1146م/542ه نزلوا بإشبيلية ومالقة، وبعد أربع سنوات أصبحت قرطبة وبقية القسم الجنوبي من إسبانيا تحت رايتهم، وامتنع عليهم بعض الأمراء أول الأمر، ولكن الموحدين كانوا أعظم قوة وأشد بأسا من أن يقف في وجوههم أمير أو زعيم.
ولم يفكر الموحدون في أن يجعلوا من الأندلس قاعدة لملكهم، بل لبثوا بإفريقية وأرسلوا من حضرتهم نوابا يقومون بالأمر فيها، وكان من أثر ذلك أن ضعفت قبضتهم على الأندلس، وزلزلت أقدامهم فيها، فإن من الصعب العسير أن تضبط ولايات مضطربة متنازعة كولايات الأندلس بنواب يرسلون من مراكش، أو ببعوث الجند ترسل بين الحين والحين لصد كرات الأعداء، نعم، إن الموحدين قويت شوكتهم أول الأمر حينما قدموا إلى الأندلس بعدتهم وعديدهم، فانتصروا انتصارا مؤزرا في سنة 1195م/591ه بموقعة الأرك بالقرب من بطليوس، وقتلوا آلافا من أعدائهم، وظفروا بغنائم يخطئها العد، ولكن الحظ وهو متقلب ملول، لوى عنهم وجهه في موقعة العقاب المشئومة سنة 1212م/609ه التي قضت على ملكهم بالأندلس، فقد كان جيشهم ستمائة ألف مقاتل، لم ينج منهم إلا عدد قليل فر لينبئ بهزيمتهم ودحرهم، وسقطت مدينة إثر مدينة في أيدي المسيحيين، وضاعف كارثة الموحدين ما كان من الشغب بين قبائل البربر بإفريقية، وما توالى من وثبات المنافسين لهم فيها، فتبددت قوتهم، وطمع فيهم أمراء الأندلس الذين سئموا حكمهم المتزمت العنيف، فأزاحوهم عن الأندلس في سنة 1235م/633ه وأعلن ابن هود نفسه حاكما لأكثر بلاد الجنوب، وتملك سبتة بإفريقية، وحين قضى نحبه في سنة 1238م/636ه تحول حكم الأندلس إلى بني نصر أمراء غرناطة.
وكانت مملكة غرناطة بقية ما ملك العرب بإسبانيا بعد أن تمزقت أشلاء مملكتهم، ووقع أكثر المدن بأيدي المسيحيين، فبين سنة 1238م/636ه و1260م/658ه فتح فرديناند الثالث ملك قشتالة وجايم الأول ملك أراغون مدن: بلنسية،
1
وقرطبة، وإشبيلية، ومرسية، وأصبح حكم العرب محصورا في مقاطعة غرناطة، وهي الرقعة بين جبال نيفادا
अज्ञात पृष्ठ