ثم أخذت في ذلك الفصل الذي بدأته بتوضيح العلاقة بين الفلسفة والشعر - أي بين العقل الخالص والوجدان الخالص - وهو الفصل الذي أردت به استخلاص وقفة العقاد الفلسفية من شعره، فكان مما أوردته في سياق البحث: «إن وقفات الفلاسفة من الوجود صفان: فوقفة يرى بها صاحبها الوجود وكأنه روح تفرعت عنها مادة تجسدت في الكائنات التي تراها من حولك، ووقفة أخرى يرى بها صاحبها الوجود وكأنه مادة تفرعت عنها روح تتمثل في الموجودات اللامادية التي نعرفها من عقل وحياة وغيرهما، والعقاد ينتمي إلى الصنف الأول، لكن هذا الصنف الأول يتشعب فروعا مختلفة باختلاف الصفة الجوهرية التي توصف بها الروح: أهي في جوهرها «عقل» أم هي «إرادة»؟ أم هي شعور ووجدان؟ والعقاد - كما يبدو لي من تتبع شعره - مؤمن بأن الأصل الروحاني الأول قوامه وجدان وعاطفة؛ لأن جوهره الحب، ومن الحب تنشأ الحياة ...» وشيء كهذا هو ما قصدت إليه حين قلت: إن الثقافة العربية قوامها عقل ووجدان معا، يتآلفان فينتجان العلم حينا والشعر والتصوف حينا آخر، غير أن الأولوية بينهما للوجدان؛ لأن الأولوية عند العربي للروح.
6
وفيما أسميته «ثنائية السماء والأرض» (راجع هذا الفصل في كتابي «تجديد الفكر العربي») وضعت فكرة التآلف بين العقل والوجدان في بنائنا الثقافي في صورة أخرى، فقلت: «... لقد نشأت لنا في عصرنا صراعات فكرية جديدة، تولدت عن ظروف العصر ومناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي - وما نزال نعانيها في حدة - هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين علوم حديثة، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزاما علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل؛ أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول: إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها - منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث - هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى ... ولو وضعنا المشكلة في عبارة مبسطة، قلنا: إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل؛ فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان (قاصدا بذلك: بين العقل والوجدان).
لقد فشل الغرب نفسه - وهو واضع العلم الحديث - أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم - والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه - لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحيرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلو إلى نفسه ويصغي إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علم يحصله أو مال يكسبه، أو قوة يستبد بها ويطغى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يضاف إليها شيء آخر هو القيم الخلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانا بالعمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانا بالطول والعرض.
وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين - بين مقتضيات العلم ومقومات الإنسان - والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم ...»
ثم حاولت المحاولة نفسها - محاولة أن أبين ما تكتمل به الشخصية العربية - فعرضت الأمر في صورة أخرى، نظرت فيها نظرة مستقبلية أكثر مما نظرت فيها إلى تاريخنا الماضي، وذلك في فصل بعنوان «ثنائية الطبيعة والفن» (راجع الفصل في كتاب «تجديد الفكر العربي») فبدأت فيه الحديث قائلا: «نريد للمواطن العربي أن يولد من جديد ولادة تتقاطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة - لو استقام لها الطبع - هي حدث جديد، يضمن البقاء للأبوين ثم يضيف إليهما جديدا يتميز به، فردا بغير شبيه، ولو جاء الولد صورة لأبويه لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها؛ فعجلات المطبعة تخرج لك من الأصل الواحد ألوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرا وسياقا. إنها كثرة عددية لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها؛ فالواحدة منها تغني عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، ولكن أبت لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها وقد تميزت من أخواتها في شيء قل أو كثر ...»
وبعد هذه الفاتحة التي بدأت بها الحديث، ملحا على أن يجيء مستقبلنا مختلفا عن ماضينا اختلافا يعلو به نحو الأفضل؛ شريطة أن تظل الروابط موصولة بيننا وبين آبائنا، ولكن كيف؟ يكون ذلك إذا نحن حافظنا على الهيكل العام الذي بنيت عليه ثقافتنا الأصلية، لكن لنا أن نملأ الإطار بمضمون حيوي جديد، فكما أن علوم الطبيعة وإبداعات الفنون تسيران معا في خطين متوازيين: ففي علوم الطبيعة «عقل» يعمل، ويسوي بين البشر أجمعين، وأما في بدائع الفن فلكل فنان طابعه الفردي الخاص يستمده من حياته الباطنية التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، فكذلك يكون موقعنا: نشارك العالم الراهن في علومه، ونتفرد بما هو وجدان قومي خاص، وأهم ما في هذا الجانب الوجداني الخاص المميز؛ عقيدتنا الدينية، وبعض تقاليدنا الأسرية، وملامح ذوقنا في مجال الأدب والفن.
7
إن هذه العلاقات المتداخلة المتشابكة بيننا اليوم وبين حاضرنا وماضينا لتبلغ من التعقيد أحيانا ذلك الحد الذي لا ندري معه ماذا ندع وماذا نختار، بل ولا ندري كيف نختار ما نختاره ولا كيف نهمل ما نهمله؛ وذلك لأن مواقف حياتنا كثيرة ومنوعة، وما يصلح لأحدها لا يصلح للآخر، فلا جدوى من أن نرسل المبادئ والقواعد إرسالا مطلقا من القيود، ثم نظن أننا قد حللنا المشكلة حلا صحيحا، فإذا كنا - مثلا - في موقف ننشئ فيه مصانع للحديد والصلب، فلا محل للسؤال: ماذا نأخذ من ماضينا؟ وإذا كنا في موقف ندرس فيه بعض معالم العمارة الإسلامية، فلا محل لسؤالنا عن العصر وعمارته. على أن الكثرة الغالبة من المواقف فيها ما يستدعي الاهتداء بماضينا - القريب أو البعيد - وفيها ما يستوجب النظر فيما يقرره عصرنا الحاضر بشأنه.
والسؤال الذي أحصر الحديث فيه الآن هو عن الحالات التي ننقل فيها عن ماضينا لحاضرنا، كيف يكون هذا النقل؟ إنه لا يعقل أن يجيء هذا النقل حرفا بحرف، فمحال أن تتشابه الظروف مدى قرون تعد بالعشرات.
अज्ञात पृष्ठ