مقدمة‏

1 - عقل يلتمس الطريق‏

2 - مرحلة الانتقال‏

3 - دعوة إلى ثقافة العصر‏

4 - التجريبية العلمية‏

5 - دفاع عن العقل‏

6 - نظرية في النقد‏

7 - عقل ووجدان معا‏

8 - رحلة في دنيا التراث‏

9 - أصالة ومعاصرة‏

10 - مصري يكتب عن مصر‏

مقدمة‏

1 - عقل يلتمس الطريق‏

2 - مرحلة الانتقال‏

3 - دعوة إلى ثقافة العصر‏

4 - التجريبية العلمية‏

5 - دفاع عن العقل‏

6 - نظرية في النقد‏

7 - عقل ووجدان معا‏

8 - رحلة في دنيا التراث‏

9 - أصالة ومعاصرة‏

10 - مصري يكتب عن مصر‏

قصة عقل

قصة عقل

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

في سنة 1965م أصدرت كتاب «قصة نفس»، الذي أردت به أن يكون ترجمة ذاتية من الباطن لا من الظاهر، بمعنى ألا تجيء تلك الترجمة سردا للأحداث البارزة التي صنعت لي مجرى حياتي؛ لأن تلك الأحداث الخارجية وحدها إن هي في الحقيقة إلا سطح يخفي وراءه ما يخفي، وهي - بعد ذلك - أحداث في مستطاع الباحث المتعقب - إذا أراد - أن يلتمسها في مظانها ويرويها مسلسلة في صورة مترابطة الأطراف، لكنني أردت لنفسي شيئا آخر حين كتبت «قصة نفس»، فرب حادثة تبدو لأعين الآخرين تافهة لا تستحق الوقوف عندها، فإذا هي عندي نقطة تحول في طريق الحياة بأسرها؛ لما كان لها في نفسي من آثار عميقة، فأين هو ذلك الباحث الخارجي الذي يستطيع أن يتعقب النتائج التي أحدثتها في حياتي كلمة سمعتها تقال عني، وأنا في نحو الرابعة عشرة - فيما أذكر - تنصح أبي بأن يكف عن تعليمي بسبب قصر في البصر، من شأنه حتما أن يحول بيني وبين وظائف الحكومة؛ أقول: أين هو ذلك الباحث الذي يستطيع إذا ما وجد في الوثائق ما يدله على أن هذه الكلمة قد قيلت ذات يوم، فيستدل منها أنها كانت هي إحدى نقاط التحول الرئيسية في مجرى حياتي؛ إذ هي بدل أن تكون عندي عامل تثبيط وإحباط، كانت حافزا على مضاعفة القراءة لأثير الغيظ في نفس قائلها، وما إن ضوعفت القراءة منذ تلك اللحظة، حتى أصبحت من حياتي بمثابة الروح من الجسد، أو كادت! إن مثل هذه الهزة الداخلية المؤثرة، كائنا ما كان المحدث لها، لا يدرك حقيقة حجمها إلا من يرى نفسه من الداخل.

إذن فقد أردت بكتاب «قصة نفس» حين أنشأته، أن أصور حياتي كما سارت بها عوامل الباطن، وكان حتما أن ألجأ إلى الرمز؛ لأن ثمة من حقائق الحياة الباطنية عند كل إنسان ما لا قبل لأحد بردها، ومع ذلك فهي مما لا يجوز الإفصاح عنه بحكم موازين المجتمع. وكان أول ما لحظته في نفسي حين بدأت العمل - وأظنه كذلك مما لا بد أن يلحظه كل إنسان في نفسه لو أمعن النظر - هو أنني بمثابة عدة أشخاص في جلد واحد، فهنالك من تجرفه العاطفة ولا يقوى على إلجامها، ولكن هناك إلى جانبه من يوجه إليه اللوم ويحاول أن يشكمه حتى يقيد فيه الحركة التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس، بين عاطفة تشتعل وعقل يخمد اشتعالها، لا يمنع أن ينعم الإنسان بلحظات هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معا في اتجاه واحد.

وعلى هذا الإطار الثلاثي أقمت «قصة نفس»، فلما أن صدر الكتاب وقرأته مطبوعا؛ أحسست إحساسا شديدا بأوجه نقص في بنائه؛ مما دعاني إلى التفكير في إعادة كتابته إذا هممت له بطبعة ثانية، لكني فوق ذلك أحسست بما هو أهم؛ وهو أن صورة نفسي كما قدمتها إلى القراء قد أسقطت من حياتي جانبا هو بغير شك أبرز جوانبها وأكثرها إيجابية، وأوفرها نفعا للناس، إذا كان فيما أنجزته ما ينفع. وأعني بذلك الجانب الذي سقط من الحساب في «قصة نفس»، لا عن تقصير فيها، بل عما تقتضيه طبيعة قصة أرادت أن تغوص في باطن النفس؛ أقول: إن الجانب الذي أعنيه هو سيرة «العقل» في حياتي، فهو الذي كان أداة الدرس والتحصيل، وهو الذي طفق طوال سنوات النضج يتصيد «الأفكار» من عند الآخرين حينا، وحينا يعمل على توليدها في ذهني، وهو الذي تولى الكتابة فيما كتبته، حتى لو كان المكتوب أدبا خالصا، فلقد كان الأدب الذي أنتجته من النوع الذي يستبطن «أفكارا» في أطر يقيمها لتصلح حاملا لها .

ومنذ أن أحسست بغياب الحياة العقلية من «قصة نفس»، نشأت عندي الرغبة في أن أعقب على «قصة نفس» بتوءم لها أسميه «قصة عقل»، ولبثت تلك الرغبة حائرة، تظهر لحظة لتعود فتختفي، حتى أراد لي الله توفيقا فأخرجتها إلى دنيا الناس.

ولعل من أهم العوامل التي كانت تضعف عزيمتي دون تحقيق تلك الرغبة ما يقرب من عشرين عاما؛ أن الشطر الأعظم من الأفكار، التي هي أفكاري وليست مستعارة من أحد، جاء مفرقا في عدد ضخم من «المقالات»، فمن هذه الناحية يمكن اعتبار كل مقالة منها كتابا صغيرا يحمل فكرة محددة، لم يكن ينقصها إلا الإسهاب في عرضها لتكون كتابا له حجم الكتب كما يألفها الناس، فإذا أردت أن أقدم صورة لإنتاجي العقلي، كان لا بد من جمع تلك الأفكار المفرقة وتصنيفها تحت رءوسها التي تحتويها، فربما كنت أنا أوضح رؤية لما أنتجته من غيري إذا أراد أن يضطلع بعمل كهذا، فقد كنت على يقين من أنني - خلال أربعين سنة على الأقل من (من 1940 إلى 1980م) - سرت على خطوط فكرية محددة واضحة، برغم ظهورها في أشكال مختلفة بين كتب ومقالات، ومن تصوير أدبي إلى كتابة تحليلية علمية. لكن الرءوس الفكرية واضحة؛ فأنا أدعو بكل قوتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغة تصون لنا هويتنا دون أن يضيع منا العيش في عصرنا ... هي خطوط واضحة أدرت عليها كل ما بذلته من جهود.

لكنني كلما هممت بالكتابة في «قصة عقل»، ترددت في منهج السير كيف يكون؛ فقد فكرت مرة في أن أجعل طريق السير على مراحل، كل مرحلة منها عشر سنوات، منذ بدأت نشاطي العقلي (1930م) بصورة جادة وإلى الساعة التي هممت بالكتابة فيها؛ وذلك لأني - بالفعل - أجد لكل عقد من السنين في حياتي العقلية سمة بارزة تميزه من سواه؛ ففي العقد الأول (1930-1940م) كنت أقتصر على عرض أفكار أنقلها عن أصحابها في كتاب أو في مقالة؛ وفي العقد الثاني (1940-1950م) ركزت طاقتي في نقد الحياة المصرية في مقالات روعي في معظمها أن تلتزم «أدب المقالة»، ذلك فضلا عن أن ذلك العقد من السنين هو الذي قضيت جزءه الأوسط دارسا في إنجلترا، ومحصلا للدكتوراه من جامعة لندن، ومبلورا لنفسي وقفة فلسفية لازمتني إلى اليوم؛ وفي العقد الثالث (1950-1960م) اتجهت بمعظم جهدي نحو التأليف الجامعي، وهو تأليف دار كله على محور الوقفة الفلسفية التي انتهجتها؛ وفي العقد الرابع (1960-1970م) صببت اهتمامي على طائفة من الأفكار شاعت يومئذ في حياتنا الثقافية شيوعا كان طابعه الغموض الشديد، فتناولتها بالتحليل الذي يبين حقائقها؛ لتكون على وعي بمضمونها قبل أن نجعلها موضع قبول أو رفض؛ وأما العقد الخامس (1970-1980م) فقد انصرفت خلاله إلى محاولات لم تهدأ للبحث عن نقاط يلتقي فيها جوهر تراثنا بجوهر العصر الحاضر، لعلنا نجد الصيغة التي تجمع الطرفين في وعاء ثقافي واحد.

أقول إني فكرت ذات يوم في أن أجعل هذا التقسيم التاريخي أساسا للكتاب، لكنني عدت فخشيت أن يضيع علي وعلى القارئ ما حرصت على ألا يضيع، وهو إبراز «الأفكار» الأساسية التي صنعتها بنفسي، أو اصطنعتها لنفسي، ونسجت منها موقفا عقليا متسقا موحدا، فلقد لحظت في مناسبات كثيرة أنه حتى أخص الخاصة ليس على دراية بأنني صدرت فيما كتبته عن «موقف»، بحيث ظن أنني إنما كتبت ثم كتبت ثم كتبت، ولكنها كتابات جاءت كما اتفق كأنها ذرات الهباء لم تجتمع منها ذرة إلى ذرة عن قصد وتدبير وغاية موحدة.

لهذا آثرت آخر الأمر أن أسير على طريق يحقق التسلسل التاريخي إلى حد ما، ولكنه في الوقت نفسه يبرز أهم الرءوس التي أدرت فكري على منوالها.

كان الفرق كبيرا بين صورة حياتي كما رأيتها في «قصة نفس»، وصورة حياتي كما رأيتها وأنا أكتب «قصة عقل»: في الحالة الأولى رأيت نفسا صنعها آخرون فتلقيتها راضيا بها أو مرغما عليها، وفي الحالة الثانية رأيت «عقلا» صنع نفسه بنفسه، وهو راض كل الرضا عما صنع، ويحمل تبعته أمام الله وأمام الناس، ومع ذلك فإنني لشديد الرغبة في أن يقف التوءمان معا جنبا إلى جنب أمام القراء؛ ولهذا فقد صحت عزيمتي - بإذن الله - أن أدفع بقصة نفس إلى الحياة من جديد، بعد شيء من المراجعة أتجنب به بعض ما لحظته من أوجه النقص في تكوينها الأدبي.

أسأل الله الهدى والتوفيق.

الجيزة، في 8 يونيو 1982م

زكي نجيب محمود

الفصل الأول

عقل يلتمس الطريق

1

العقل الذي نؤرخ له في هذه الصفحات، ونحاول الترجمة لمراحل تطوره منذ ظهوره وحتى أوشك على نهاية رحلته، ليس هو «العقل» بمعناه العام الذي تندرج فيه الإدراكات بشتى صورها من مرئي ومسموع، ومن مشاعر الرضا والغضب والحب والكراهية، بل هو العقل بمعناه المنطقي المحدود فيما يسمى ب «الأفكار» - على صعوبة تحديد «الفكرة» ماذا تكون - ولكن الذي نريده هنا بهذه الكلمة ليس هو مجرد التصورات التي ترتسم في ذهن صاحبها عن الأشياء، بل هو ربط تلك التصورات في أحكام عن تلك الأشياء، فإذا ما نسجت تلك الأحكام المتفرقة بعضها مع بعض في منسوجة واحدة، كان لصاحبها موقف معين من الكون، ومن الحياة، ومن الإنسان.

فمتى وكيف استقام لي موقف فكري؟ لقد دفعت بالذاكرة دفعا إلى الماضي حتى أوصلتها إلى أول ما تستطيع استعادته من ذلك الماضي؛ فقدمت لي، أول ما قدمت، طفولة مترددة بين الفزع والطمأنينة، بين الخوف والجرأة، فترتاع من مواقف الحياة لحظة، وتتقحم تلك المواقف في شجاعة لحظة أخرى. فقلت للذاكرة: لا، ليس هذا هو ما أنشده؛ فالذي تقدمينه هو «حالات» وجدانية وسلوكية، وأما ما أنشده فهو «أفكار» أو هو ضرب من «الأحكام» على الكائنات والمواقف، سواء اتسقت تلك الأحكام بعضها مع بعض في رؤية واحدة وشاملة، أم كانت ما تزال فرادى لم تنخرط بعد في عقد واحد.

فقدمت الذاكرة بعدئذ صورا من مرحلة المراهقة، فرأيت غلاما تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل، فماذا يكون شأنه مع غلام لم يبلغ من عمره الخامسة عشرة؟ فقلت للذاكرة مرة أخرى: لا، ولا هذا هو ما أنشده؛ لأنك ما تزالين تقدمين لي «حالات» وجدانية لا أفكارا ذهنية تربط التصورات العقلية بعضها مع بعض في إحكام، يمكن الاستدلال منها، أو يمكن قبولها ورفضها على ضوء الخبرة.

فراحت الذاكرة بعد ذلك تبحث في طوايا الماضي حتى وقفت بي عند سنة 1925م، وكان لي من العمر عامئذ عشرون عاما، وهناك أوقفتني عند «عقل» يأخذ ولا يعطي؛ فهو يأخذ أشتاتا من الأفكار يعرضها كاتبوها في الكتب والصحف والمجلات، ولم يكن هؤلاء العارضون جميعا من لون واحد؛ وعندئذ رأيت أمامي شابا نهما لا يريد لفكرة واحدة مما يكتبه الكاتبون تفلت منه، فأخذ يتعقب كل ما تجري به الأقلام في ذلك المضمار على كثرته وغزارته وتنوعه.

لكن الذي يستوقف النظر في ذلك الشاب وهو يتصيد أفكار الكاتبين، أنه مع إفساح صدره لكل ما يصادفه في الطريق - حتى ولو كانت أفكارا ينقض بعضها بعضا - إلا أنه كان أشد اغتباطا للفكرة التي تنطوي على ثورة تهدم المألوف، فإذا صادف - مثلا - فكرتين عن شعر أحمد شوقي، تقول إحداهما إنه شعر يسلك صاحبه مع فحول الشعر، وتقول الأخرى إن شوقي لا هو شاعر ولا هو شبه شاعر (وهي عبارة قيلت بنصها هذا)؛ أسرع صاحبنا الشاب إلى هذا الحكم الثاني يجعل له من نفسه مكانة أعلى من مكانة الحكم الأول في نفسه. وكذلك إذا صادف صاحبنا فكرتين عن امرئ القيس، تقول إحداهما عن الرجل ما تقوله دون أن ترتاب في وجوده أصلا، وأما الأخرى فلا تقول ما تقوله عن امرئ القيس إلا بعد أن تتحوط بالشك: هل كان هنالك حقا رجل بهذا الاسم؟ وهل كان هو نفسه الشاعر الذي ينسب إليه ما ينسب من شعر؟ أقول: إن صاحبنا إزاء هاتين الفكرتين لم يكن ليتردد لحظة في اختيار الثانية ليتمثلها ويدافع عنها وكأنها كانت فكرته.

ولقد كان صاحبنا - في نهمه الفكري من جهة، وفي اختياره للأفكار الثائرة على المألوف من جهة أخرى - ذا حظ حسن؛ لأنه اجتاز بشبابه ذاك فترة غنية غاية الغنى، ثائرة أعنف الثورة، فما أكثرهم أولئك الأعلام خلال العشرينيات، الذين ما انفكوا يوما بعد يوم يهزون العقول هزا بما يعرضونه من أفكار يأتون بها من هناك ومن هنا، وقلما كانت من إفراز عقولهم، حتى لقد أخذت الصورة كلها تتغير أمام صاحبنا عما كان يألف سماعه في مراهقته المبكرة والمتأخرة معا.

فلأول مرة يسمع عن معيار «الوحدة العضوية» في نقد الأدب، والشعر منه بصفة خاصة، فيطبق هذا المعيار - جهد طاقته - على معظم ما حفظه من قصائد الشعر، فإذا هي تتبدى أمامه وقد فقدت كثيرا من سحرها الذي كانت قد فتنته بها وهو في أعوام ما قبل العشرين، وكان صاحبنا منذ تلك السن الباكرة مفتونا بقراءة الشعر وحفظه، ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «العقل الباطن»، وبرجل اسمه «فرويد»؛ وإذن فلم يعد الإنسان هو الإنسان الذي قيل له عنه قبل ذلك إنه يحيا مهتديا بنور العقل؛ إذ أصبح الإنسان في صورته الجديدة كائنا تسيره غريزته ورواسب طفولته. ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «التطور»، وبرجل اسمه «دارون»، وإذن فلم يعد الإنسان - مرة أخرى - مخلوقا فريدا ذا تاريخ خاص به منذ بدايته؛ إذ هو سليل أصل يختلف به عن أصول سائر الحيوان، بل هو حلقة - حتى وإن تكن هي الحلقة الأخيرة والأكثر تقدما - من سلسلة تعاقبت فيها حلقات الحياة الحيوانية كلها.

لأول مرة قرأ صاحبنا عن السؤال الذي يسأل عن القرآن الكريم: أهو أزلي قديم، أم هو حادث نشأ عند نزوله وحيا على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهي المشكلة التي كانت أدت بابن حنبل إلى محنته لقوله عن القرآن إنه أزلي قديم؛ لأنه كلام الله، وكلام الله يكون أزليا مع الله؛ فاشتدت الرغبة بصاحبنا أن يزداد علما بهذه المشكلة العجيبة، ولم يدر أين يجد ما يقرؤه عنها، فانتهز أول فرصة سنحت وسأل أستاذ التاريخ الإسلامي لعله يهديه، وإذا بالأستاذ يتوهم أن الطالب يتحداه بسؤاله ذاك ليكشف مدى إلمامه وعلمه، وقرر أن يحرم ذلك الطالب من نعمة الحضور في محاضراته.

ولأول مرة يقرأ صاحبنا عن «الجمال» بما يفسره ويعلله، وكان قبل ذلك لا يعرف عن الجمال إلا أنه شيء يثير النشوة في الحس، بصرا كان أو سمعا، أما السؤال وراء ذلك، الذي يسأل: لماذا يثير ما يثيره من نشوة؟ فلم يكن يطرأ له ببال. ولأول مرة يقرأ عن موقف الإسلام من الخلافة، فيعلم أن الإسلام لم يحدد للحكم صورة معينة، خلافة كانت أم غير خلافة، مع أن صاحبنا لم يقرأ في تاريخ المسلمين عن عهد لم يكن الحكم فيه لخليفة.

وفكرة «المنهج» تعرض على صاحبنا لأول مرة، فهو قبل ذلك كان يقرأ ما يقرؤه من فلسفة وتاريخ ونقد أدبي وغير ذلك؛ ليعجب بما يقرؤه أو لا يعجب، أما أن يكون الكاتب ذا منهج معين فيما كتبه، وأن ذلك المنهج يمكن تحديده وتقنينه، فلم يكن يعلم من أمر ذلك شيئا، حتى قرأ - أول ما قرأ في ذلك الباب - تفصيلا لمنهج «تين» في كتابة التاريخ، والتاريخ الأدبي بنوع خاص؛ وهو أن الرجل يصنعه التقاء خطوط ثلاثة: البيئة المكانية، واللحظة التاريخية، وشخصيته ونسبه الأسري. وإنني لأقلب في أكداس المقالات التي كتبتها على طول فترة امتدت حتى اقتربت من ستين عاما، وأعني المقالات التي لم تنشر بعد ذلك مع غيرها في كتاب، فأجد بين الأكداس مقالة طويلة صدرت في شهر مارس سنة 1927م عن الخليفة أبي بكر الصديق، وأقرأ صفحاتها الأولى فأرى أن صاحبنا الشاب، وهو في سن الثانية والعشرين، يبدأ بحثه بتفصيل منهج «تين» الذي يعتزم الكتابة عن أبي بكر على أسس قواعده.

كثيرة هي الأفكار التي صادفت صاحبنا إبان النصف الثاني من عقد العشرينيات، وكثيرون هم أعلام الفكر الذين سمع عنهم لأول مرة. نعم، إنه كان بالطبع قد عرف أشخاص الفلاسفة وأسماء مذاهبهم، وذلك بحكم دراسته، ولكن العجب هو أنه لم يكن يتأثر بما يتلقاه في قاعات الدرس تأثره بما يحصله من كتابات المفكرين الأحياء، الذين يلتقي بهم في كتبهم وصحفهم وكأنه يلتقي بأشخاصهم يتحدثون إليه حديثا حيا نافذا إلى عقله.

وإنه لمما يلفت نظري الآن ، أن ذاكرتي وهي تعرض أمامي من المؤثرات في تلك المرحلة من العمر ما تعرض، فإنها لا تذكر كلمة واحدة عن أدب القصة وأدب المسرح؛ فلماذا لم أقرأ يومئذ قصة ولا مسرحية؟ كانت أول مسرحية قرأتها هي «أهل الكهف» للحكيم في أوائل الثلاثينيات، وكانت أول قصة قرأتها هي قصة «سارة» للعقاد، وأما كل ما عرفته عن القصة والمسرحية فقد جاءني من الأدب الإنجليزي بصفة مباشرة، ومن الأدب الفرنسي أو الألماني بصفة غير مباشرة عن طريق الترجمات العربية، وأبرز مثل في هذا المجال هما: ترجمة الزيات لقصة «آلام فرتر» لجوته الألماني (ترجمها الزيات عن الفرنسية فيما أظن)، وقصة «رفائيل» للامارتين الفرنسي. على أنني هنا أبحث عن «الأفكار» التي هي بضاعة «العقل» ومكوناته، وأما شأن الأدب الخالص في تكوين العقل فأمر آخر يحتاج إلى توضيح وتحليل.

2

أسدلت العشرينيات أبوابها، وبدأ عقد الثلاثينيات، وفي أول أعوامه (1930م) تخرج صاحبنا في مدرسة المعلمين العليا، وبدأ حياة التدريس ليجعلها أحد خطين متوازيين سار عليهما، أما الخط الثاني فهو الإقبال الشديد على متابعة الحياة الثقافية متابعة كادت ألا تترك كتابا أو مقالة مما كان يكتبه أعلام الحركة الفكرية والأدبية في مصر، ومعها متابعة أخرى - لم تكن شاملة - لما يصدر في أوروبا، وإنجلترا بصفة خاصة، من نتاج ثقافي. ولنا أن نضيف خطا ثالثا كان له أعمق الأثر في سيرة حياته بعد ذلك بأعوام، وذلك هو أن صاحبنا لم يكد يضع قدميه على طريق الحياة العملية حتى أدرك أنه إنما يمشي في طريق مسدود؛ فمهنة التدريس لم تكن تؤدي إلى منزلة مرموقة في دنيا الفكر والأدب، ولم يكن من سبيل إلى مثل ذلك المركز المرموق إلا أستاذية جامعية. فأما وباب البعثات العلمية إلى أوروبا مغلق في وجه صاحبنا يومئذ لسببين: أولهما ضائقة اقتصادية شملت العالم كله في بداية الثلاثينيات، وثانيهما هو أنه حتى لو لم تكن تلك الضائقة قائمة، فقصر البصر لم يكن ليأذن بنجاح في «الكشف الطبي» الذي كان في تلك الأعوام شرطا مفروضا على كل من تتولى الدولة إرساله في بعثة علمية؛ فلم يبق أمام صاحبنا إلا مخرج واحد ، وهو أن ينتسب إلى جامعة لندن؛ فلقد سمع عن جواز ذلك الانتساب وألم بشروطه، وجمع عزيمته وأخذ في إعداد نفسه، لكنه كان بهذه الإضافة إلى حياته العملية والثقافية أمام عبء دونه زحزحة الجبل، فكان كلما اصطدمت الأهداف بعضها ببعض، أرجأ نشاطه في التحصيل العلمي المطلوب في انتسابه لجامعة لندن.

كانت الثلاثينيات - وما بعدها بقليل - مرحلة لم يشهد الشاب مثلها في حياته، لا من قبل ولا من بعد، من حيث تضارب الميول والاتجاهات العقلية، فلم يكن طوال تلك الفترة على لون ثقافي واحد، وإن تكن «الفلسفة» أبرز من سواها وجودا وأوضح ظهورا، لكننا شهدناه إبان تلك الفترة - إلى جانب نشاطه الفلسفي - صوفيا على الطريقة الهندية مرة، متحمسا للعلم مرة، متشككا في حضارة عصرنا العلمية مرة، باحثا عن صورة جديدة للحياة الاجتماعية مرة ... وهكذا أخذت تقذف به الأمواج هنا وهناك كأنما هو مفقود الإرادة معدوم الهدف، حتى لنراه في آخر تلك المرحلة، وقبيل سفره مبعوثا إلى إنجلترا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، كما سنروي فيما بعد؛ حتى لنراه يثور على نفسه في مقالة كان عنوانها: «هجرة الروح»، وسنعرض مضمونها بعد حين.

كانت أولى لفتاته الفكرية في أول أعوام الثلاثينيات متجهة نحو صوفية ترى في الوجود كله وحدة لا تعدد فيها ولا تمايز بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع، وهو المظهر الذي تدركه الحواس بصرا وسمعا ولمسا، فلقد كان ذات يوم من ربيع عام 1931م يسير وحده بين الحقول في الريف، ووقف طويلا أمام ماشية ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صور متلاحقة: نبات يتغذى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذى من النبات، وإنسان يتغذى من لحم الحيوان تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يخرج غذاءه ذاك علما وفلسفة وشعرا ... ملأته هذه الفكرة، فكر راجعا إلى داره ليكتب مقالا مستفيضا فيها بعنوان «وحدة الوجود»، ويرسلها فتنشر في مجلة كان يصدرها سلامة موسى، وربما كان اسمها «المجلة الجديدة» أو ما يقرب من هذا المعنى.

وسارت به الأيام بعد ذلك متقلبة به بين سبل الفكر، لكن فكرة وحدة الوجود كانت تعاوده، وقد يكون أجمل ما كتبه فيها مقالة بعنوان: «درس في التصوف»، نشرت في عدد خاص من مجلة الرسالة (في 3 مارس 1941م)؛ إذ كان صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات يصدر أعدادا خاصة في أعياد الهجرة، عاما بعد عام.

المقالة حوار بين أستاذ متصوف مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي كان في أول الدرس عابسا نافرا مما يقوله الأستاذ؛ إذ يقول ما معناه أن لا فرق في الأعماق بين إنسان ونبات وحيوان، لا بل لا فرق بينه وبين الجماد نفسه. فلما رأى الأستاذ عبوس تلميذه ونفوره، قال له: انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطلق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح، أفينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق، أو ذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار، أو ذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها، أو أن تكون هذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟

فقال التلميذ الشاب: وما لي ولهؤلاء يا أبتاه؟ إنني إنسان، وهي جماد ونبات وحيوان.

فقال له الأستاذ: أنت يا بني كل هؤلاء، وكل هؤلاء هو أنت، أنت الكون العظيم بكل ما فيه من قوة وفتوة وجلال وجمال.

قال التلميذ: ولكن أراني - يا أبت - فردا واحدا محدودا، وها هي ذي حدودي، أراها بعيني وأحسها بأصابعي.

فقال له الأستاذ: ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل: إنها لغة الأبصار والأيدي ... دعني أحدثك بلغة تفهمها، ائتني بثمرة من تلك الشجرة. - ها هي ذي. - ماذا ترى في جوفها؟ - أرى في جوفها بذورا صغيرة. - اقطع بذرة منها نصفين. - ها أنا ذا قد فعلت. - ماذا ترى فيها؟ - لا أرى شيئا. - إن الجوهر الدقيق الذي عجزت عينك أن تراه هو الذي تنبت منه تلك الشجرة الباسقة، ومن مثل ذلك الجوهر الذي لا تراه الأعين جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت.

تلك إذن كانت لمحة صوفية نزع إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذت تعاوده حينا بعد حين، وامتدت معه أعواما جاوزت في عددها عشرة، ولكنه خلال تلك الأعوام نفسها كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة التي لم تكن تريد له ألا يأذن لشيء في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نسميه بالمثل العليا؛ فالحرية مثلا، أو المغامرة أو ما شئت من معنى، يمكن رده إلى سبب من البيئة التي نشأ فيها هذا الإنسان أو ذاك، ففي أواسط الثلاثينيات كان قد لحظ أن الأوروبي أشد تمسكا بحريته وفرديته من الشرقي، فطرح صاحبنا سؤالا على نفسه يريد به العلة الحقيقية التي أنشأت مثل هذا الفارق بين الأوروبي والشرقي، أو إن شئت فقل بين أهل الشمال وأهل الجنوب.

وطفق يبحث عن العلة التي اشترط على نفسه أن تكون علمية بأضيق معاني هذه الكلمة، حتى هداه البحث إلى حقيقة في طبيعة التنفس في الهواء البارد والتنفس في الهواء الدافئ أو الحار؛ وبالتالي فهي حقيقة تمس نوع الطعام الضروري في كلتا الحالتين، وأخذ يسلسل الحلقات حتى انتهى إلى أن «الحرية» والتشبث بها بين سكان الجهات الباردة أكثر مما يتشبث بها أهل الجهات الحارة.

قال في ذلك البحث العلمي ما يأتي: «لما كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس من الأكسجين أكثر من زميله ساكن الجهات الدافئة؛ أولا: لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة، فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكثر مما لو كان الهواء مخلخلا خفيفا، وثانيا: لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مرات أكثر عددا في الفترة الزمنية المعينة مما يحدث لساكن الجهات الدافئة، ومن شأن هذا التنفس السريع من هواء كثيف أن يضاعف كمية الأكسجين الداخل في الجسم؛ فينتج عن ذلك ضرورة أن يزود ساكن الجهات الباردة جسمه بمقدار من الكربون في طعامه أكثر جدا مما تطلبه ساكن الجهات الدافئة، ومعنى ذلك أن ساكن الجهات الباردة لا بد له في طعامه من لحوم بمقدار أكبر من زميله في الجنوب الدافئ أو الحار، بل إن هذا الأخير يستطيع أن يعيش على نبات صرف ... ثم يمضي المقال فيبين كيف أن الحصول على لحوم الحيوان أشق من الحصول على النبات؛ وبالتالي لا بد بحكم الضرورة أن تقل نسبة الزيادة في سكان الشمال عنها في سكان الجنوب، والنتيجة هي ندرة الأيدي العاملة في الشمال وكثرتها في الجنوب، فتعلو قيمة العامل في الحالة الأولى وترخص في الحالة الثانية؛ فينتهي الأمر في الحالة الثانية بفروق شاسعة بين الأغنياء من أصحاب الأعمال والفقراء من العمال المأجورين، على خلاف ما يحدث في الشمال، فيكون استعباد الغني القوي للفقير الضعيف أيسر في الجنوب منه في الشمال، فلا تكون أمام الإنسان في الجنوب فرصة يتمسك فيها بحريته وكرامته كالتي يجدها إنسان الشمال ...»

مثل هذا التصور للتفكير العلمي نراه قد استبد بصاحبنا في كثير جدا من محاولاته خلال الثلاثينيات، لولا أنه كان في لحظات ليست بالقليلة يتعرض للقلق، فيرد على نفسه بمقال يثبت فيه أن هذا النظر الضيق للتفكير العلمي - النظر الذي يحصر العلمية في الروابط المادية - لا تطمئن له نفس الإنسان آخر الأمر.

ومن أمثلة حوار الكاتب مع نفسه على هذا النحو ما كتبه ذات مرة خلال الثلاثينيات، تحت عنوان: «بين المعجزة والعلم»، وذلك أنه كان قد قرأ من فلسفة إسبينوزا ما أقنعه بأن قدرة الخالق - جل وعلا - إنما تتمثل في أن تطرد قوانين الكون اطرادا لا يقف في سبيله شيء، وليست قدرته في أن يوقف الشمس كما يقول رواة المعجزات إنها وقفت ليوشع، أو أن يشق البحر كما يقولون إنه انشق لموسى، ولا أن يبرئ الأكمه والأبرص بلمسة كما يقولون عن عيسى (عليهم جميعا السلام). وكان صاحبنا عندئذ يرى أنه لا بد من «تأويل» هذه «المعجزات» تأويلا يبقي على الإيمان بما ورد في الكتب المنزلة، ويتفق - في الوقت نفسه - مع ما يتفق ومنطق العقل. أقول: إن صاحبنا كان قد اقتنع بأن قدرة الله سبحانه وتعالى إنما تتجلى في اطراد قوانين الكون لا في إيقافها.

لكنه لم يلبث في إحدى لحظات فكره أن أقام حوارا مع نفسه، وأثبت ذلك الحوار في المقالة المذكورة، والتي خلاصتها هي أن المعجزة لا تبطل القانون العلمي، بل هي تحول دون سريانه بفعل إرادي يتدخل في الطريق، مثال ذلك: أن نرى تفاحة تسقط من فرعها فتهوي نحو الأرض بفعل قانون الجاذبية، لكنك تسرع فتمد يدك لتلقفها وهي في طريق سقوطها، فلا تقول عندئذ إنك أبطلت القانون، بل إن القانون الطبيعي لم يزل قائما كما كان، وكل ما حدث هو فعل إرادي منك تدخل ولم يدع التفاحة تكمل طريقها إلى الأرض. وهاك فقرة من ذلك الحوار الباطني بيني وبين نفسي: «... سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرا ولا تبديلا عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وأنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يدا امتدت إلى التفاحة وهي في طريقها إلى الأرض فلقفتها، فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسرا للقانون؟ كلا؛ فالقانون لا يزال قائما قويا سليما، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل ... أئذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة على أرض غرفتك، ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفا منظمة؟ أفتقول: إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى، بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصا ما قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينا، فأمكن للأقلام والكتب بذلك أن تفلت من يده، لكن القانون ما يزال قائما لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟ ... إنك متفق معي - ولا شك - أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وتطبيقه، فتعطله دون أن تبطله، حتى إذا ما حورت لك العبارة قليلا، سائرا بها نحو الأقوم والأصح، غضبت للعلم وكرامة العلم! لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حينا قد يقصر أو يطول، ولكن القانون يظل قائما ومعمولا به، كان هذا الزعم مني في رأيك جهلا وحماقة! يرعاك الله! هلا أنبأتني لماذا يكون للإنسان ما ليس لله؟»

3

أصدر أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة في أول سنة 1933م، فكأنما كان صاحبنا يترقب ظهور مجلة تناسبه؛ إذ لم تكد الرسالة تصدر حتى أخذ يرسل إليها مقالات متلاحقة عن الفلاسفة، والفلاسفة المحدثين على وجه الخصوص؛ فكتب عن ديكارت، واسبينوزا، ولينبتنر، وهيجل، وسبنسر، وبرجسون، ورسل وغيرهم، كل ذلك ولم يكن قد ذهب إلى مكتب المجلة ليقابل صاحبها ورئيس تحريرها، لكنه بعد أن نشرت له مقالات تبلغ العشرين أو نحوها، تغلب على خجله وانطوائه وقصد إلى صاحب الرسالة في مقره، وإذا ذلك المقر هو غرفة مستعارة من الشقة التي كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر تتخذها مكانا لها، وعندما وصل صاحبنا إلى مكتب المجلة وجد أحمد أمين هناك، ولم يكن قد رآه قط من قبل، وأحمد أمين هو رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ نشأت سنة 1914م وحتى وافاه الأجل سنة 1954م، فما إن عرف أن القادم عليهما هو فلان؛ رحب به ترحيبا لم يكن صاحبنا الشاب يتوقعه أو يتصوره، وكذلك فعل الزيات، وأثنى كلاهما ثناء طيبا على مجموعة المقالات التي نشرت لصاحبنا في الرسالة، ثم ما هو إلا أن اصطحبه الأستاذ أحمد أمين إلى ردهة المكان، وجلسا معا ليعرض الأستاذ على صاحبه أولا أن يقترح ضمه عضوا في لجنة التأليف، وثانيا أن يتعاونا معا على إخراج سلسلة من كتب تعرض الفلسفة في أسلوب سهل واضح يناسب أوساط المثقفين، فكادت استجابة الكاتب الشاب تسبق العرض، وفي أشهر قليلة - لا أظنها جاوزت أربعة أو خمسة - كان كتاب «قصة الفلسفة اليونانية» معدا للمطبعة 1935م، وبعده بما لا يزيد عن عام وبعض عام، كان الكتاب الثاني بجزأيه «قصة الفلسفة الحديثة» تدور به عجلات المطبعة.

كانت خطة العمل في هذين الكتابين - كما هو مذكور في مقدمتيهما - هي أن يختار لكل منهما مرجع إنجليزي جيد؛ ليتخذ أساسا، ثم يضاف إليه هنا وهناك ما يظن أنها جوانب لم يذكرها الكتاب المختار، مع ضرورة ذكرها في رأيهما؛ ولهذا وجد «المؤلفان» أن الكتب التي أخرجاها بهذه الطريقة ليست «تأليفا» بالمعنى الأكاديمي الصحيح، فأطلقا على العمل كلمة «تصنيف»، ووضعا هذه الصفة فوق الغلاف.

وها هنا أريد أن أنقل الحديث من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وبدل أن أتحدث عن صاحبنا، أجعل الحديث منسوبا إلى شخصي الراهن، فأقول: إنني كنت في كتاب «قصة الفلسفة الحديثة» صاحب فضل على المصطلح الفلسفي لم يذكره لي دارس واحد من دارسي الفلسفية، وأبى علي خيالي أن أذكره بنفسي عن نفسي، وإذا لم أغلب هذا الحياء الآن قبل أن تفلت هذه الفرصة الأخيرة، فربما ماتت الحقيقة مع موتي؛ وذلك أنه كانت الفلسفة اليونانية قد سبق إلى نقلها العرب الأقدمون إلى اللغة العربية، فصاغوا لها مصطلحها، فإن الفلسفة الحديثة لم تظهر متكاملة في كتاب عربي قبل كتابنا «قصة الفلسفة الحديثة»، فكان لا بد من خلق المصطلحات العربية لأول مرة، ولست أفتري على الحق إذا زعمت بأن عددا كبيرا مما شاع بعد ذلك واستقر في مصطلح الفلسفة الحديثة هو من صناعتي، ذلك هو الحق، ولعن الله الساكت عن الحق، فهو - كما يقال - شيطان أخرس.

كان توفيقنا في عرض الفلسفة بهذين الكتابين: «قصة الفلسفة اليونانية»، و«قصة الفلسفة الحديثة»، في بيان عربي واضح وجذاب، سببا في انتشارهما على نطاق واسع؛ فلقد مرت خمسون عاما تقريبا منذ ظهورهما إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه الآن (1982م)، ومع ذلك ما زالت تتوالى فيهما الصعاب، وما زالا يؤديان الرسالة التي أريدت لهما حين كتبا أول مرة، وهي أن يعرضا تاريخ الفلسفة في صورة مشرقة ينجذب إليها القارئ العابر والطالب الدارس على حد سواء.

وأعود إلى الحديث عن صاحبنا الشاب خلال الثلاثينيات عندما كان متوهج الشعلة، لا يكل ولا يمل ولا يفتر، يواصل العمل كل ساعات النهار وشطرا كبيرا من ساعات الليل، لا يريد لنفسه راحة أو متعة كأنه كان مسخرا من إرادة خفية تحفزه إلى النشاط الدائب، ولا تدعه ليستريح ساعة إذا أمكن أن يملأ تلك الساعة بالعمل والدرس والتحصيل والكتابة.

ففي الفترة الزمنية القصيرة نفسها، التي كتب فيها قصتي الفلسفة - اليونانية والحديثة - ترجم عن الإنجليزية أربع محاورات لأفلاطون، وهي المحاورات الأربع التي توصف أحيانا بأنها المحاورات السقراطية؛ بمعنى أن ما يتحدث به سقراط فيها هو حقيقة تاريخية عن شخص سقراط، وليس هو فيها مجرد شخصية يستخدمها أفلاطون ليجري على لسانه ما يريد أفلاطون أن يقوله، شأن سقراط في ذلك كشأن سائر الشخصيات التي نراها في الأدب المسرحي. وأما تلك المحاورات السقراطية الأربع التي نقلها صاحبنا إلى العربية في تلك المرحلة من حياته العقلية فهي: الدفاع، وأقريطون، وأوطيفرون، وفيدون. والحمد لله؛ فقد كان نصيب تلك الترجمة من النجاح مماثلا لنصيب قصتي الفلسفة، فما تزال تطبع مرة بعد مرة كل عام، لم ينقص طلب الدارسين لها حتى بعد أن مرت على ظهورها نحو خمسين عاما.

4

منذ حمل صاحبنا القلم لأول مرة وإلى هذه الساعة التي أكتب عنه هذه الصفحات، وهو يؤمن إيمانا جازما بحرية الأفراد، لا يريد لتلك الحرية أن تنتهك لأي سبب من الأسباب، شريطة أن نحدد للفردية معناها بحرص شديد حتى لا يساء فهمها، وينقلب تعاون الأفراد داخل الأمة الواحدة - بل داخل الأسرة الواحدة - حربا يعلنها فرد على فرد كلما تعارضت بينهما الرغبات والأهداف؛ لأننا لو قبلنا مثل هذا الصراع لما بقي للفردية نفسها وجود، فهي تفنى بفناء الأفراد على طول المدى، وإن منطق العقل من جهة والفطرة السليمة من جهة أخرى ليقضيان بأن الفكرة المعينة إذا كانت بحكم مفهومها ذاته، تفنى بالوسائل نفسها التي تثبت بها وجودها، فإنما هي فكرة باطلة بموجب كيانها، وفكرة الفردية الحرة لا يدوم لها وجود إلا إذا تجدد معناها بما يصون لجميع الأفراد أن يصان وجودهم.

وكان صاحبنا إبان الثلاثينيات وما بعدها بقليل يحس خطرا داهما على حرية الأفراد، في نظم قامت واشتد عودها، وكان الخوف هو أن تنتشر عدواها لتشمل الدنيا بأسرها، وأعني بها - بصفة خاصة - النازية في ألمانية والفاشية في إيطاليا. وعلى الرغم من أن صاحبنا لم يمل بهواه نحو السياسة قط، إلا أنه من الناحية العقلية الصرف لم يجد في نفسه نازعا يستهويه تجاه الدكتاتورية كائنة ما كانت صورها وأهدافها؛ فالوسيلة هنا أهم من الهدف، وماذا تكون الوسيلة التي أرادوا التضحية بها في سبيل أهداف القوة والمجد، إلا حرية الأفراد، يجهزون عليها لتصبح الحرية مقصورة على فرد واحد هو الدكتاتور.

والدكتاتور لا يسمي نفسه ولا يسميه أتباعه «دكتاتورا»، بل يسمي نفسه ويسمونه «زعيما»؛ ومن هنا تتوالى الكوارث. كتب صاحبنا (الثقافة، 8 أكتوبر 1940م) يقول في ذلك: وفي هذا الزعيم تجتمع السلطة التنفيذية والتمثيل النيابي معا، فهو الذي ينطق برغبات الشعب، وهو الذي ينفذ هذه الرغبات. وليته يقف عند هذا الظن بأنه هو الذي يمثل أمته في زمانه وحده، بل تراه يتوهم أنه إنما يمثلها على طول تاريخها؛ ففيه جوهرها لا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل، فكأنه لم يعد شخصا واحدا ذا أجل محدود ببداية ونهاية، بل هو أقرب إلى الفكرة المجردة التي تجاوز حدود المكان والزمان! إذا نطق الزعيم فكلماته قانون، وإذا سلك الزعيم على صورة معينة فسلوكه ذاك سنة على الناس أن يحتذوها، وهل الزعيم من أمته إلا رأسها الذي يفكر ويدها التي تدبر؟ فأين هي أعضاء الجسد التي يجوز لها أن تعصي ما يفكر لها الرأس وما تدبر اليدان؟! الزعيم في أمته أب يرعى أسرته؛ لا لأن أفراد الأسرة انتخبوه أبا لهم، بل هو الأب بحكم طبائع الأمور التي لا اختلاف عليها ولا نزاع، والعجب هو أن الزعيم وأتباعه يطلقون على هذه الصورة اسم ديمقراطية! ولكنها ديمقراطية من نوع جديد.

ولم تكن مصادفة من صاحبنا أن يقرأ في تلك الأيام نماذج من المدن الفاضلة لما تصورها الفلاسفة على اختلاف عصورهم ليخلص لنفسه منها بصورة مثلى. لقد كان بالطبع على علم تام بتفصيلات «الجمهورية» لأفلاطون، فقرأ «أطلنطس الجديدة» لفرنسيس بيكون و«يوتوبيا» لتومس مور، و«إريوون» (أو الأرض التي لا وجود لها) لصموئيل بتلر، و«يوتوبيا حديثة» تأليف ه. ج. ولز، وغيرها، وجمعها في كتاب وقدم له بمقدمة تدل على موقفه إذ ذاك، جاء فيها: «عندما يضيق الإنسان ذرعا بالظروف المحيطة به ثم يعجز عن تغييرها على النحو الذي يرتضيه فإنه يسترسل في أحلامه ليظفر في دنيا الخيال بما استحال عليه أن يظفر به في عالم الواقع ...»

كان عقلا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات، إنه لم يكف يوما عن القراءة، ولم يكف يوما عن الكتابة، لكنه كان حائرا لا يجد ما يستريح إليه، أو قل: إنه كان يستريح للفكرة المعينة مرة ولنقيضها مرة أخرى، لقد رأيناه متعلقا بالصوفية يوما، وبالعلم في صرامة منهجه يوما آخر، لكنه من خلال ذلك كله كان يحس في طوية نفسه إحساسا فيه قوة وفيه غموض في آن معا بأفكار واتجاهات أحب إلى نفسه من أفكار أخرى واتجاهات أخرى، وكأنما كان في صدره سؤال يتردد وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة من سبيل يجمع مادة إلى روح ويجمع عقلا إلى غريزة؟ ...

وفي 17 من يناير سنة 1944م كتب - في عيد الهجرة - مقالا بعنوان: «هجرة الروح» (مجلة الرسالة)، فكان بمثابة الإعلان عن بداية عهد جديد؛ عهد لا يترك نفسه فيه نهبا لما يقوله الآخرون، بل يتابع الآخرين تحصيلا وفهما ونقدا ومناقشة، حتى يرسو لنفسه على رأي يكون رأيه هو، وإلى موقف يكون موقفه هو، وذلك ما حدث بالفعل، وسنرى في الفصول التالية من هذا الكتاب كيف أن صاحبنا قد بدأ طريقا عن اقتناع ودراية، والتزمه حتى هذه الساعة.

جاء في مقاله «هجرة الروح»: كم قرأت وقرأت، فكنت أتلون بما أقرأ، كأني دودة ضعيفة تتلون بلون الأرض التي تدب عليها وتسعى؛ فهي تصفر إن كانت تحبو فوق الرمال، وهي تخضر إذا كانت تزحف في المروج. كنت أقرأ للشكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا الساخط الناقم على حياتي ودنياي؛ وذلك كتاب متفائل أطالعه، فإذا أن الهاش الباش المرح الطروب، ولكن أراد لي الله خيرا، أفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة يعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.

نعم، كانت تلك الصرخة بداية عهد جديد، أكون فيه نفسي لا لنفس غيري، وحتى إذا أخذت عن الآخرين فكرا فلا يكون ذلك إلا عن اقتناع.

وكأنما أراد الله تثبيتا لعهدي فنقلني من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد؛ إذ سافرت بعدها فورا في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وهناك عشت بعقلي مرحلة الانتقال.

فوداعا يا صاحبي الشاب، الذي كنت أروي عنه كأنه شخص آخر، وسأتحدث بعد الآن عن نفسي بضمير المتكلم؛ لأنني ولدت ولادة جديدة، وسلكت طريقا فكرية جديدة هي طريق إلى يومي هذا.

الفصل الثاني

مرحلة الانتقال

1

في طليعة الأربعينيات كنا - الأستاذ أحمد أمين وأنا - قد اتفقنا على المشاركة في مشروع جديد وهو أن نخرج قصة للأدب في أهم أقطار العالم وعلى تعاقب العصور، على غرار ما صنعناه في قصة الفلسفة، وكنت قد فرغت من الجزء الأول من هذه القصة الجديدة «قصة الأدب في العالم» سنة 1942م، ثم فرغت من إعداد الجزء الثاني - مخطوطا - وتركته بين يدي الأستاذ أحمد أمين قبيل سفري إلى إنجلترا في سبتمبر من سنة 1944م. ولم يكن ما تركته قبيل سفري هو مخطوط الجزء الثاني من قصة الأدب فقط، بل تركت كذلك مخطوطا آخر لكتاب «فنون الأدب»؛ وهو تعريب لكتاب إنجليزي من تأليف ه. ب. تشارلتن. وأقصد بالتعريب هنا أن عملي في هذا الكتاب لم يكن «ترجمة» تساير الأصل كلمة كلمة، بل كان عرضا لمادته، حتى إنني لم أتقيد بالأمثلة التي أوردها المؤلف في سياق كتابه؛ لأن تلك الأمثلة لا تصلح شواهد على ما سبق لتوضيحه إلا إذا بقيت في لغتها الأصلية؛ ولذلك حاولت أن أستبدل بها شواهد من الأدب العربي لتكمل الفائدة.

لم يكن قد بقي على سفري إلا أسابيع لا أظنها تزيد على الثلاثة عندما أردت أن أضطلع بتعريف «فنون الأدب»، ولم تطمئن نفسي للتخلي عن أداء ذلك الواجب الأدبي؛ لأن الكتاب لم يكن وحدة مستقلة بذاتها، بل كان حلقة في سلسلة خططت لجنة التأليف والترجمة والنشر لإخراجها تحت عنوان «سلسلة الفكر الحديث»؛ فلو تخليت عن نصيبي في المشروع لبقيت الحلقة الخاصة به خالية، فواصلت نهاري بليلي في الأسابيع الثلاثة الباقية حتى فرغت من الكتاب في آخر لحظة متاحة، ولم أجد نصف الساعة الذي أكتب فيه مقدمة تشرح لقارئ الكتاب منهجي في العمل، فلما كنت في طريقي إلى إنجلترا أعلنت إدارة الباخرة التي كنت على متنها - وكانت الحرب العالمية الثانية ما زالت ناشبة - أنها على استعداد لأخذ الرسائل التي يريد المسافرون أن يبعثوا بها إلى ذويهم؛ لتطبع على أفلام صغيرة (ميكروفيلم) ثم ترسل ليعاد إخراجها على الورق ثم تسليمها لأصحابها، فكتبت رسالتين: إحداهما خطاب إلى أسرتي، وأما الأخرى فكانت مقدمة لكتاب «فنون الأدب» الذي تركته في لجنة التأليف بلا مقدمة.

و«فنون الأدب» كتاب صغير يشرح أصول النقد الأدبي للشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالة، شرحا لم أصادف في كل ما قرأته في هذا الباب أوضح منه ولا أنفع منه؛ إذ يستحيل على قارئه أن يخرج من صفحاته إلا وقد عرف معرفة دقيقة ناصعة بطبيعة الأجناس الأدبية، ما يجوز لها وما لا يجوز، وبالتالي يتكون عنده ذوق نقدي لا أظنه إلا مقيما معه بعد ذلك ما بقي له اهتمام بالأدب والنقد.

2

وصلت إلى لندن والتحقت بجامعتها، ولكن جامعة لندن هي بمثابة عدة جامعات في جامعة؛ فإذا كانت تلك الفروع تسمى «كليات»: الكلية الجامعة، وكلية الملك، وكلية بيركبك، وكلية بدفورد، إلخ، فما هي بكليات بالمعنى المألوف عندنا لهذه الكلمة، فكل واحدة من تلك الكليات هي جامعة بأسرها، وكان التحاقي أول الأمر بالكلية الجامعية في قسم الفلسفة.

كنت خلال الأعوام السابقة على ذلك، وأنا في مصر قد انتسبت إلى جامعة لندن، وأضفت تلك الدراسة إلى سائر أوجه نشاطي، واستطعت الحصول على إجازتين: إحداهما هي ما يؤهل الدارس للمضي في الدراسة، والثانية إجازة وسطى يجتازها الدارس فيما بين الالتحاق والبكالوريوس. فلما أن شاء لي الله أن أسافر إلى هناك مبعوثا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة سجلت من فوري لامتحان البكالوريوس، وشرحت لرئيس قسم الفلسفة موقفي - وكان هو الدكتور س. ف. كيلنج الذي عرف بكتابه المشهور عن ديكارت - فأجاب بأن عشرة أشهر (وهي المدة الباقية على موعد البكالوريوس) لا تكفيه هو استعدادا لذلك الامتحان لو كان ليتقدم إليه؛ فالكتب المقرر دراستها من أعمال الفلاسفة أربعة عشر كتابا، يدرسها الطالب دراسة تفصيلية ولا يترك فيها سطرا واحدا؛ لكنني أصررت على خطتي؛ فلم أكن يومئذ في سن الطلاب، بل كنت قد اقتربت من الأربعين، ولقد جاءتني هذه البعثة الدراسية وكأنما هي معجزة من السماء جاءت لتفتح أمامي طريقا يئست من أن يفتح، وها هي ذي فرصة سنحت، فهل أترك منها دقيقة واحدة لتمضي في حياة مسترخية؟!

وكان أن سجلت لأتقدم بعد عشرة أشهر إلى امتحان البكالوريوس الشرفية في الفلسفة؛ ومهما اتسع خيال القارئ ليتصور كم بذلت من جهد إبان تلك الشهور العشرة، كم ساعة كانت للعمل من ساعات اليوم وكم منها للنوم، فلن يستطيع أن يبلغ بخياله ما عشته إبان تلك المرحلة من عمل لا يعرف الراحة، فلكل دقيقة عندي قيمتها وحسابها، وقد تسأل: وفيم هذا كله؟ وأجيب: قد لا يكون لهذا كله داع عند الطالب الذي يسير في حياته سيرة طبيعية مألوفة، أما عندي أنا يومئذ - أنا المحروم من اقتطاف الثمرة بعد كل ما زرعت - فكان الأمر عندي أمر حياة وموت؛ فماذا لو مضت الأشهر العشرة ولم أحقق غايتي؟ ألا يجوز أن يئول أمري إلى عودة بغير ما جئت من أجله ، فأعود مرة أخرى إلى السير في طريق مسدود؟

والحمد لله حمدا لا ينقضي؛ فقد وفقني توفيقا استطعت به أن أظفر بالبكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى، وهي عندهم درجة لا يظفر بها إلا أقل من القليلين؛ ولذلك تجعلها جامعة لندن بمثابة ماجستير، ويصبح من حق صاحبها أن يسجل لإجازة الدكتوراه مباشرة، وهذا ما كان: طلبت من الجامعة تحويلي إلى كلية الملك؛ لغياب أستاذ الفلسفة في الكلية الجامعة التي كنت ملتحقا بها، ومرة أخرى شرحت لأصحاب الأمر هناك كيف لا تسمح لي ظروفي بالإرجاء يوما واحدا، فوافقوا على التحويل، ووضعت تحت إشراف الدكتور ه. ف. هالبت في موضوع «الجبر الذاتي»؛ ومعناه أن الإنسان لا تسيره إلا ذاته. وهو قول من السهل أن يطلق على عواهنه، ولكنه ليس بهذه السهولة كلها إذا أخضعه الباحث للمنهج الفلسفي الدقيق.

3

لم تكن ظروف الحياة في إنجلترا يومئذ هي ما يعهده الناس في السلم، بل كانت الحرب قد تسربت بآثارها حتى تغلغلت في كل شيء، حتى الدراسة في الجامعات لم تكن ميسرة كل التيسير؛ فعدد كبير من أساتذتها مجندون في القتال، وكان لا بد من إحالة الطلاب إلى الموجود من الأساتذة الذين نسق بينهم العمل تنسيقا يجعل الطالب الواحد ينتقل بين مختلف الكليات؛ فقد تكون إحدى مواده الدراسية في الكلية الجامعة، والمادة الدراسية الأخرى في كلية الملك أو في كلية بدفورد؛ لأن أستاذ تلك المادة هناك ولم يعد موجودا في الجامعة كلها سواه.

كانت الحياة اليومية نفسها عسيرة وشاقة، فكل ضروراتها من طعام وثياب مقنن ببطاقات تموينية، بحيث لا يستطيع الفرد أن ينال أكثر من نصيبه حتى لو كان في خزائنه مال قارون، وكان من الصعب أن تقضي حاجاتك التي تحتاج في قضائها إلى أيد عاملة؛ فمثلا: كانت ساعتي قد أصابها سوء في طريق السفر، ولما أردت إصلاحها لم يكن ميسورا أن أجد محلا واحدا فيه عامل يقوم بالإصلاح المطلوب؛ فقد أغلقت محال الساعات إلا قليلا جدا منها، وهذا القليل نفسه كاد يخلو من العمال ؛ فالجميع هناك في ساحات القتال. ولما عثرت على من يصلح لي ساعتي، قيل لي: عد إلينا بعد ستة أشهر. وحدث لي شيء كهذا عندما كسرت نظارتي، وهكذا قل في كثير جدا من ضرورات الحياة.

كنت قد سافرت إلى إنجلترا قبل ذلك في بعثة صيفية (سنة 1936م)، فكنت على دراية بكثير من أوضاع الحياة فيها، فحدث في أول يوم وصلت فيه إلى لندن هذه المرة أن خرجت من الفندق بعد العشاء، وجعلت غايتي مكانا معينا ألفته في بعثتي الأولى، وأردت إلقاء نظرة إليه لأجدد العهد به، فلما نزلت إلى محطة «المترو» (القطار الذي يشق طريقه تحت سطح الأرض) ذعرت لما رأيته على أرصفة المحطة؛ إذ رأيته أسرة مصفوفة على طول الرصيف ومن طابقين، والرجال والنساء والأطفال - ممن هدمت منازلهم بقنابل العدو - يأوون إلى مخادعهم أو يتناولون طعام العشاء على صورة ينخلع لها القلب؛ لأنها - على الأقل - صورة لم تألفها عين ولا توقعها خيال، فعدت إلى الفندق مسرعا في طرق تملأ السائر رعبا بظلامها.

لا، لم تكن الحياة أول الأمر ميسرة ولا هينة، كانت طائرات الألمان تفاجئ الناس بضرب من القنابل يسمونه ف2، لم يكن يجدي معه صفارات الإنذار والركون إلى المخابئ؛ ففي أية لحظة من لحظات النهار أو الليل تفاجأ بصوت القنبلة يدوي، فلا تدري أسقطت على المنزل المجاور لمنزلك أم سقطت على محطة القطار القريبة، وإذا سمع الدوي ونحن جلوس في قاعة المحاضرة، أو سمع وأنا في مطعم أو في دكان، رأيت كيف يكون رد الفعل لأمثال هذه الأهوال عند هؤلاء الناس الذين خلقهم الله ليتحدثوا همسا وليعملوا صامتين؛ فقد كان الوجوم الذي يرتسم على الوجوه عند صوت القنبلة لا يوقف حركة المتحرك أو حديث المتحدث إلا بضع ثوان، ثم يستأنف كل ما كان في سبيله دون التعليق عما حدث بلفظة واحدة من الشفاه أو لحظة واحدة من العين، كأن شيئا لم يحدث، وكأن جدران المبنى لم يرجها الدوي القوي الفظيع.

ولكنني حتى في تلك الحياة العسيرة الشاقة لم ألبث طويلا حتى أذهلتني فروق شاسعة بين ما رأيتهم عليه وما عهدته في قومي؛ فالفرق شاسع شاسع - كما رأيته يومئذ - بين فكرتهم عن المساواة وفكرتنا عنها ، فماذا أصنع سوى أن أكتب مقالات أسجل فيها انطباعاتي تلك، وأبعث بها لتنشر في مجلة الثقافة في مصر؟ ولكن أي مقالات؟ هي مقالات من نوع فريد؛ فيها رمز، وفيها سخرية، وفيها أدب المقالة على نحو لم يألفه كثيرون من كتابنا فضلا عن القارئين، ثم فيها - فوق الرمز الساخر والشكل الأدبي - شواظ من نار تتأجج في ألفاظها. وكنت صادقا في كل جملة مما كتبت به، وكانت مجموعة تلك المقالات هي التي أخرجتها فيما بعد (سنة 1947م) في كتاب «جنة العبيط».

وكان هذا العنوان «جنة العبيط» هو نفسه عنوان المقالة الأولى في ترتيب الكتابة، وقصدت به أن حياتنا في مصر عندئذ كثيرا ما توصف عندنا بين عامة المتكلمين وكأنها حياة في الجنة، مع أنها في حقيقتها - بالقياس إلى حياة الناس كما رأيتها عند الآخرين - لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط». ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت «القيم» الخلقية وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه.

بدأت المقالة قائلا: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب فيها النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أن الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو؛ لينعم في غفوته بحلاوة غفلته.»

وأخذت أرسم صورا من حياتنا، هي في حقيقتها من أبشع الصور طمسا لحقوق الإنسان، دون أن نرى فيها شيئا يعاب، وكانت صورة الختام ما يأتي، مما كان يحدث في مجتمعنا بين مخدومة وخادمة: «... أرادت زوجتي - في جنتي - أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟ - بثينة يا سيدتي.

لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم ومخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين من اليوم زينب ، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.

بثينة - بالطبع - لماذا تكون منذ اليوم زينب ... كان يأخذني الذهول عندما كنت أرى الخادمة في المنزل الذي سكنت فيه، تجلس على المقاعد نفسها التي يجلس عليها أفراد الأسرة، وقل ما شئت في دهشتي حين رأيت تلك الخادمة جالسة على المنضدة المجاورة للمنضدة التي جلست إليها ذات مساء لأتناول العشاء، فكذلك هي قد جلست هناك لعشائها ... صور مستحيلة الحدوث في مصر كما تركتها في تلكم الأعوام، حيث مقعد الخادمة هو الأرض، وحيث الخادمة لا تعرف لنفسها مكانا مما يرتاده «السادة».»

أعود فأكرر القول بأن ما أثار ثورتي يومئذ على قومي وأهلي ليس هو أن يكون أو لا يكون فارق بين الناس في ضروب العمل وفي مقادير المال المكسوب، كلا؛ فذلك شيء لا مفر منه في أي بلد من بلاد الدنيا، بل الذي أثار ثورتي هو طريقة التعامل بين الإنسان والإنسان، حتى لقد خيل إلي يومها أننا وإن أطلقنا باللسان كلمات المساواة والحرية وما إليها، فنحن إنما ندس في طوايا نفوسنا أخلاق النظم التي تقسم الناس سادة وعبيدا، فأعط من شئت منا شيئا من السلطان، ثم انظر يومئذ كيف تكون صلاته مع من هم دونه سلطانا، إنه إذا ما تحدث إلى أحدهم جعل لذلك نبرة خاصة، ونظرة خاصة بعينيه، ووضعا خاصا يتوتر فيه جسده كله، حتى يجيء كل شيء فيه صارخا بأنه من طينة أخرى غير طينة الذي يتحدث إليه ... وقارنت ذلك كله بما رأيته هناك؛ حين رأيت بعيني مدير الجامعة وهو يتحدث إلى أحد العاملين في رعاية غرفته، وحين رأيت صفا من الرجال ساعة العصر قد اصطف ليأخذ كل دوره في قدح الشاي، فرأيت وزيرا (هو نويل بيكر) قد وقف وأمامه أحد السعاة، فلا هو أخذه ضجر من ذلك، ولا الساعي فزع إذ وجد نفسه أمام الوزير.

كان بين المقالات الملتهبة التي كتبتها انعكاسا للثورة الداخلية التي تأجج أوارها في نفسي كلما رأيت وقارنت سلوكا بسلوك وأخلاقا بأخلاق، مقالة عنوانها «تجويع النمر» أدرتها على تصور تخيلت به أننا إذا حللنا أي فرد منا وجدنا في جوفه نمرا رابضا ينتظر فرصة الظهور، فإذا ما صعد صاعد إلى مقاعد الرئاسة، لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين. ورأيت أن قوانين الدنيا بأسرها لا تفلح في تعديل العوج؛ وإنما العلاج السريع يكفله لنا شيء واحد؛ هو تجويع ذلك النمر، بأن يبعد الآخرون عن نطاق سلطانه، فينعدم الغذاء، فيذوى ويموت.

لكن ما حيلتنا والأمر في بلدنا كان أعجب من العجب! وهو أن من تنشب فيه مخالب النمر وأنيابه ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا. وفي هذه الابتسامة البلهاء كتبت مقالة عنوانها «الكبش الجريح» أصور فيها المعنى نفسه في صورة أخرى، هي صورة الكبش تحز رقبته سكين الجزار فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة القبول.

هكذا وعلى هذا النحو أخذت خلال الأعوام التي أقمتها في إنجلترا في الأربعينيات أنظر إلى الأفراد كيف يتعاملون، وكيف تصان لكل فرد كرامته، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أدنى الأثر في أن يتعالى أحد على أحد، ثم أقارن ذلك بما أعهده في مجتمعنا نحن، حيث المأساة الحقيقية ليست في أن «يتنمر» صاحب السلطان لمن لا سلطان له، بل المأساة هي في طمأنينة الرضا التي يتقبل بها القتيل أنياب القاتل ومخالبه، فماذا يصنع الكاتب إزاء ذلك إلا أن يستميت بقلمه حتى يتغير سلم القيم، ولو بعض التغير، فلا يظل أعلى تلك القيم في واقع حياتنا هو أعلاها (وأعلاها عندنا هو السلطة)، وأحسب أنني لو أنصفت نفسي ولو أنصفني النقد الأدبي لقلت، ويقال ذلك النقد المنصف: إن من أبرز السمات في كتابتي - اتخذت تلك الكتابة صورة أدبية أم اتخذت صورة التحليل الفلسفي - إنما هو محاولة تعديل القيم في حياتنا؛ لأنها في وضعها الراهن يستحيل ألا تؤدي إلى ما يشبه القسمة إلى سادة وعبيد.

4

ولم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبد، وتجيز لذليل النفس أن يذل، مما يذكرني ببيت من الشعر للعقاد يقول فيه:

أنصفت مظلوما فأنصف ظالما

في ذلة المظلوم عذر الظالم

أقول: إنه لم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمة في بلادنا، إلا ثورتي على حياتنا العلمية السائدة مضمونا ومنهجا؛ فقد كانت تلك الحياة العلمية حتى ذلك الحين - أعني أعوام الأربعينيات - منقسمة قسمين: أحدهما يحاول أن يتشبه بالحياة العلمية الحديثة، لكنه يكتفي من ذلك بالشكل الخارجي دون الجوهر الذي هو منهج النظر والفكر؛ لأنه إذا لم تتغير طريقة النظر، فقد يحدث - وهو بالفعل كثيرا جدا ما يحدث - أن يكون العالم عالما بما «يحفظه» من مادة تخصصه، وأما فيما هو خارج حدود التخصص من مواقف الحياة وشئونها، فيظل على النظرة نفسها التي ينظر بها من لم يتعلم أحرف الهجاء، والقسم الثاني من حياتنا العلمية عندئذ وقف وقفة رافضة للتحديث مضمونا ومنهجا، إنه لم يحاول حتى أن يتظاهر بالشكل العلمي الحديث في مواد البحث ومنهج البحث، بل تمسك بالقديم مظهرا ومخبرا.

وليأذن لي القارئ أن أعيد هنا مقالة كتبتها في تلك المرحلة، ساخرا مر السخرية من إصرارنا على ضروب من العبث الذي يتخذ عند أصحابه اسم «العلم» وهو من العلم الصحيح بعيد بعد الأرض عن السماء، كان ذلك العبث اللفظي ما زال قائما عندنا حين كان الغرب قد وصل إلى الذرة وتحطيمها واستخراج قواها الجبارة في قنابل وغير قنابل.

وهاك المقالة الساخرة، الضاحكة الباكية، التي أرسلتها من لندن لتنشر في مجلة الثقافة، ونشرتها المجلة، فلم أسمع لها صدى، فهل بلغت يومئذ أفهام قراءها؟ كان عنوانها «بيضة الفيل» وهذا نصها: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلها هي هذه: لو كانت الفيلة لتبيض، فماذا يكون لون بيضتها؟ في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء، يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدل على صحة قوله بدليل القياس ودليل من اللغة ؛ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونا آخر غير البياض، فإذا اختلف الفيل عن غيره من الحيوان فذلك في حجمه وقوته ونابه، وهذه صفات كلها لا تستلزم في البيضة لونا آخر غير البياض؛ فقد يكون الحيوان صغيرا كالذبابة أو كبيرا كالنعامة، قويا كالعقاب أو ضعيفا كالحمامة، بناب كالتمساح أو بغيره كالدجاجة، والبيضة هي هي في لونها، بيضاء لا تتغير؛ ومما يزيد في هذه الحجة وزنا ورجحانا أن الخلائق تجري على اطراد وتشابه؛ فالكواكب متشابهة، والبحار متشابهة، والطير متشابه، والحيوان متشابه، فلو قيل - مثلا: إن حيوانا جديدا سيولد بعد ألف عام، جاز لنا أن نحكم في ترجيح يقرب من اليقين بأنه سيكون ذا أذنين وأنف واحد وعينين، وعلى هذا القياس نفسه نحكم بالبياض على بيضة الفيل لو باض.

أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقة من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرع عنه، ولا يعقل أن يتفرع عن البياض خضرة أو زرقة؛ لأن الفرع شبيه دائما بأصله؛ ولذلك قيل: هذا الشبل من ذاك الأسد.

ثم استطرد «عمارة» فتساءل عن حجم بيضة الفيل، وأجاب بأنها تكون قدر بيضة النعامة عشرين مرة، لا لأن الفيل يكبر النعامة حجما بهذا القدر كله، بل لأنه في قوته يوازي عشرين نعامة، والأساس في حجم البيضة هو قوة الحيوان البائض لا حجمه، فتكبر بيضة الحيوان أو تصغر بمقدار ما هو قوي أو ضعيف، لا بمقدار ما هو صغير أو كبير، على خلاف الرأي الشائع بين الناس، وقد أيد «عمارة» رأيه هذا بأمثلة ساقها تدل على أن الحيوان ربما كان كبيرا وباض بيضا صغيرا، أو كان صغيرا وباض بيضا كبيرا.

ثم تساءل «عمارة» أيضا: هل كانت طبيعة الفيل لتتغير لو باض؟ فيكون ذا جناحين ليتخذ طبيعة الطير؟ وأجاب بأنه ليس في نواميس الكون ما يستلزم هذا الانقلاب في طبيعته؛ فالسمك يخرج من البيض وليس له أجنحة، بل له زعانف تساعده على السبح ولا تساعده على الطيران، وبيض الفراش وبيض الذباب وما إلى ذلك يخرج منه الدود ولا يخرج منه ذوات الجناح، وإذن فقد يخرج من بيضة الفيل فيل ذو أربع قوائم وليس له جناح.

وأخيرا تساءل «عمارة»: ما حكم الشرع في بيضة الفيل؟ أيحل أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا كذلك أجاب بدقته المعهودة: إن بيضة الفيل حلال أكلها بشرط حرام بشرط؛ فهي حلال إذا كانت لا تكسب الإنسان الآكل صفة الافتراس، وهي حرام إذا خيف أن تكسبه هذه الصفة، وإنما يكون الآكل بمنجى من عدوى الافتراس لو كان الفيل البائض هو الجيل العاشر من سلسلة أجيال استأنسها الإنسان.

بمثل هذه الدقة العقلية والبراعة الذهنية أثار عمارة بن الحارث هذه المسائل عن بيضة الفيل وأجاب عنها، ولا عجب؛ فهو الفقيه العالم الذي سارت بفتاواه الركبان فيما تعذر حله على غيره من العلماء.

وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة بأن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ ولذلك فبيضة الفيل لا بد أن تكون بيضاء اطرادا مع القاعدة، إنه دليل لا يقوم على سند من الواقع؛ فليس صحيحا أن كافة الحيوان الذي يبيض بيضه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرة خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق، وأما دليل اللغة الذي ينبني على أن البيضة مشتقة من البياض؛ ولذلك وجب أن تكون بيضاء، فهو استنتاج معكوس ومغلوط في آن معا؛ معكوس لأننا حتى لو فرضنا أن البيضة مشتقة من البياض، فليس هذا دليلا على أن البيضة بيضاء لأنها بيضة، بل هو دليل على أنها بيضة لأنها بيضاء. ولتوضيح المعنى المراد، ضرب معسرة مثال الدقيق والخبز؛ فالدقيق أصل والخبز فرع، فإن جاز لنا أن نقول: إنه خبز لأنه من دقيق، فلا يجوز أن نقول: إنه من دقيق لأنه خبز. والدليل مغلوط؛ لأننا حتى إن رتبنا مراحل الاستنتاج ترتيبا صحيحا، وقلنا: إن البيضة بيضة لأنها بيضاء كانت النتيجة خطأ؛ لأنه لا يكفي أن يكون الشيء أبيض لنحكم عليه بأنه بيضة، وإلا لجاز لنا أن نقول : إن هذا الجدار بيضة لأنه أبيض، وهذا الدقيق بيضة لأنه أبيض، وهلم جرا.

وبعد أن فند معسرة أقوال عمارة بسط رأيه في لون بيضة الفيل، فقال: إن الفيل حيوان فيه شذوذ عن مستوى الحيوان، والشذوذ في البيض أن يكون أسود؛ ولذلك فإن كان الفيل ليبيض وجب أن تكون بيضته سوداء؛ إذ لو باض بيضة بيضاء كنا بمثابة من يقول: إن الحيوان الشاذ تتفرع عنه نتيجة لا شذوذ فيها، وهو قول فيه تناقض بين الصدر والعجز.

وكان بين تلاميذ ابن الحارث تلميذ نجيب؛ فتصدى للرد على نقد معسرة، فقال: إن معسرة - وهو شيخ المناطقة في زمانه - قد زل زلة ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجل مثله؛ فبينا هو ينكر أن يكون للبيض لون خاص، ويزعم أن من البيض ما هو أزرق أو أرقط، تراه في الوقت نفسه يقول: إنه ما دام الفيل حيوانا شاذا؛ واجب أن يكون بيضه شاذا في لونه كذلك، والشذوذ في البيض أن يكون أسود، فكيف يكون الشذوذ سوادا إذا لم تكن القاعدة بياضا؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نحن نسأل هذا العالم المنطقي: أصحيح أن الشاذ لا ينتج إلا شاذا؟ أيظن معسرة أنه ما دامت الحية لا تلد إلا الحية فالأعرج لا يلد إلا الأعرج، والأعمى لا يلد إلا الأعمى؟ فإن كان الأعرج ينسل من يمشي على قدميه، ولما نسل الأعمى من يبصر بعينيه، فلماذا لا يبيض الحيوان الشاذ بيضة تجري مع الإلف والعادة؟

قال الشيخ: هكذا جرى النقاش بين العلماء ...

وهنا زلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ: ما لها؟ فقيل: إنها يا مولانا قنبلة ذرية، في لمحة تقضي على الأصل والذرية. قيل: فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه.»

فإذا أمعن القارئ فيما ترمز إليه مقالة «بيضة الفيل» - وقد أثبتناها هنا كاملة لنقدم بها نموذجا لسلسلة المقالات التي كتبتها أثناء دراستي في إنجلترا أواسط الأربعينيات - وجدها تنديدا سافرا بجزء كبير من حياتنا العلمية في مصر إذا ما قيست إلى الحياة العلمية كما رأيتها هناك؛ فأولا: لم تكن حياتنا العلمية، أو قل حياتنا الثقافية بصفة عامة، تتصدى لمشكلات الحياة الحية الجادة، بل يشد اهتمامها مسائل افتراضية تؤخذ من بطون الكتب، وثانيا: (وهذه هي النقطة الهامة والخطيرة) كان المنهج الفكري الغالب على المفكرين والباحثين هو المنهج الاستنباطي لا المنهج الاستقرائي، ونقصد بالأول منهجا يقيم الاستدلال على قضايا يفرض فيها الصواب، وكثيرا ما تستقى تلك القضايا مما قاله الأقدمون، وواضح أن النتائج التي تبنى على مقدمات ظنية تكون بدورها نتائج ظنية، ونقصد بالمنهج الاستقرائي منهجا يستقرئ وقائع التجربة كما تشاهدها الحواس مشاهدة علمية، فبالرغم من كونها نتائج احتمالية الصدق لا تبلغ حد اليقين الرياضي (وهذا شأن قوانين العلوم الطبيعية كلها) إلا أنها تجيء نتائج مستقاة من الواقع ومنصبة على الواقع، وليست كنتائج الحالة الأولى تجيء من «كلام» وتنصب على «كلام»، ويحسن بالقارئ أن يعيد قراءة مقالتنا «بيضة الفيل» - وهي الصورة الخيالية الساخرة التي رسمناها لحياتنا في تلك المرحلة من سيرة العقل - ليرى كيف أن حلقة البحث إنما دارت حول افتراض أن الفيلة تبيض، وإذا كانت لتبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ وسيرى ثانيا أن العلماء الذين استشهد بهم (وهم علماء وهميون من صنع خيال الكاتب) استخدموا «القياس» منهاجا لاستخراج النتائج. وسيرى ثالثا أنه لانقطاع الصلة بين البحث العلمي المزعوم والواقع الفعلي، أصبح في الإمكان أن يعرض الرأي ونقيضه دون أن يكون هناك ما يحسم بين النقيضين لاختيار أحدهما على أنه الصدق العلمي ورفض الآخر على أنه مؤكد البطلان، وسيرى رابعا - في آخر المقالة - أن شيخ الحلقة الدراسية كان غارقا في أوهام، بينما الدنيا من حوله تعج بعلم جديد.

لقد أدركت في تلك الحقبة من السنين سر النهضة العلمية التي نشأت في أوروبا إبان القرن السادس عشر، فتولد عنها العلم الحديث والحضارة الحديثة بأسرها، وهو نفسه السر الذي لم ينكشف لنا حتى اليوم انكشافا كاملا، فتلكأت بنا النهضة ولبثنا نواصل شيئا من عصورنا الوسطى في عصرنا الحديث، وما ذلك السر العظيم إلا منهج جديد يحل محل منهج قديم، فبدل أن نقيم حلول مشكلاتنا على أقوال نستخرجها من الكتب القديمة، نقيمها على تحليلات دقيقة لعناصر المشكلات المرد حلها؛ لكي نصل إلى الطريقة الفعالة التي تحلها. بعبارة أخرى: بدل الاكتفاء بقراءة الكتب القديمة على أنها مشتملة على الحق كله، يجب أن نضيف إليها قراءة «الطبيعة»؛ أي قراءة الموقف الواقعي الذي يتصدى لدراسته، فمحور النهضة العلمية في أوروبا هو استبدالها بالمنهج القياسي الذي وضع أرسطو تفصيلاته منهجا استقرائيا جديدا كان فرنسيس بيكون أول من وضع له المبادئ والقواعد.

5

كانت أواسط الأربعينيات التي قضيتها في إنجلترا دارسا مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادا قويا في عدة اتجاهات. لا أقول: إنها نشأت لي من عدم، وإلا فهي اتجاهات أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيء من الفتور والتردد، وأما الآن - وأنا دارس في إنجلترا - فقد وجدت ما استبدل بفتورها قوة وبترددها عزيمة ماضية. وكان أول تلك الاتجاهات - كما أسلفت القول في الفقرة السابقة - قيمة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فلكل فرد من الناس كرامته، بل كدت أقول: «قداسته». بغض النظر عن أي شيء آخر مما يحيط به سوى أنه إنسان، لا شأن لهذه الكرامة - أو قل القداسة - بدرجة الفقر والغنى، أو بنوع العمل الذي يؤديه، أو بجنسه ذكرا هو أم أنثى، أو بظروفه الأسرية من أي أصل جاء، لا، لا شأن لهذه الأمور كلها بأن يكون لكل فرد من الناس إنسانيته الكاملة.

مثل هذا القول يسهل جريانه على الألسنة، وأما أن ينتقل من دنيا الكلام إلى دنيا التنفيذ فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة التي تعلي من قيمة الإنسان، فلما أن رأيت تلك القيمة مجسدة في كل موقف بشري صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض أثناء دراستي بإنجلترا؛ فقد تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الاجتماعي في مصر، حيث كان من المسلمات التي لم يكن يجادل فيها إلا مكابر يعرض نفسه للخطر، وأن يستعلي بعضنا على بعض بناء على أوضاع معينة من منصب أو مال أو تعليم، إلخ.

وكذلك كان من الاتجاهات التي التفت إليها بقوة ووعي إدراكي أن سر تخلفنا العلمي كامن في «المنهج»، فبينما يتميز العالم المتقدم باصطناعه للمنهج التجريبي في كشفه للجديد أولا، وفي معالجته لما يعترض حياته من مشكلات ثانيا، كنا نحن في مصر - وما نزال حتى اليوم إلى حد كبير - نصطنع منهج القرون الوسطى الذي هو الارتكاز على ما ورد في الكتب القديمة في استخراج أحكامنا على الأشخاص والأشياء والمواقف، وفي طريقة معالجتنا لمشكلاتنا أو في معالجة كثير منها، وهو - كما نرى - فرق كبير في المنهج، يؤدي إلى تقدم من تقدم وتخلف من تخلف، وحسبنا أن نعلم بأنه إذا اختلف الرأي في موضوع معين كان الاحتكام - في حالة المنهج التجريبي - إلى دنيا الواقع والتطبيق الفعلي وهناك يتبين الصواب والخطأ، وأما إذا اختلف الرأي - في حالة المنهج العباسي - كان الاحتكام إلى أقوال وردت في كتبه منسوبة إلى قدماء، وفي مثل هذه الحالة لا يتعذر على كل صاحب رأي أن يجد في بطون الكتب قولا يؤيده تجاه خصومه.

وكان مما تضمنته الاتجاهات الجديدة في وجهات النظر اعتقادي اعتقادا لا مكان فيه لذرة من التردد أو الشك في حرية الإنسان، لكنها الحرية المحكومة بالروابط السببية التي لا تنقلها إلى حالة من الفوضى، وأعني بذلك أن يكون الإنسان حرا حرية «إيجابية» تظهر في أفعال منتجة وفي أقوال يقام البرهان العقلي على صوابها؛ إذ لاحظت - منذ ذلك الحين وما أزال ألاحظ حتى اليوم - أن معظم من يرددون بيننا كلمة «الحرية» لا يقصدون بها أكثر من جوانبها «السلبية»، بمعنى أن تكون تحررا من قيود، سواء أكانت قيودا مفروضة على الإنسان من خارج نفسه أم كانت قيودا منبثقة من داخل نفسه.

ولقد بلغ اهتمامي يومئذ بفكرة «الحرية» الإيجابية أن جعلتها موضوعا لرسالتي في الدكتوراه، فموضوع رسالتي هو «الجبر الذاتي » (هذه هي الترجمة العربية للعنوان في الأصل الإنجليزي، ولقد نقلها إلى العربية الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام)، والمقصود بعبارة «الجبر الذاتي» هو أن الإنسان في «حرية» إرادته مقيد بماضيه هو نفسه على الأقل، كما هو مقيد بعوامل أخرى تشكل له الإطار العام الذي يتحرك «حرا» بين حدوده، ولكنه داخل تلك الحدود نفسها - إذا ما فعل فعلا أو قال قولا - في مستطاعه دائما أن يبدع ما هو جديد غير مسبوق إليه؛ أي إن علوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه اليقين بما أنا فاعله أو قائله في اللحظة الزمنية القادمة، فهو فعل جديد، أو هو قول جديد، لكنها في كلتا الحالتين جدة تضيف إلى حصيلة البشرية من أفعال أو أقوال، وليست هي مجرد الجدة كالتي نراها - مثلا - في تخليط المجانين أو في «شخبطة» الأطفال إذا ما وجدوا ورقا وأقلاما.

بعبارة أخرى موجزة، أقول: إن حرية الإنسان كما تصورتها هي حرية من خلال الظروف الخارجية بما فيها العوامل التي شكلت حياته الماضية؛ فهذه الظروف والعوامل كلها هي بمثابة علة ضرورية للفعل الذي يؤديه الإنسان الحر أو القول الذي يصدر عنه معبرا به عن نفسه، لكنها علة وإن كانت «ضرورية» لحدوث ما يحدث، إلا أنها علة «غير كافية»؛ لأنها وحدها لا تضمن أن يفعل الإنسان الحر ما يفعله أو أن يقول ما يقوله؛ إذ لا بد أن يضاف إليها جانب آخر من طبيعة الإنسان نفسه، وهو إرادته الحرة.

كان الدكتور هاليت الذي أشرف على رسالتي لإجازة الدكتوراه مختصا في فلسفة اسبنيوزا، وإذا علمنا عنه ذلك عرفنا أنه في مسألة الإرادة الإنسانية على نقيض ما ذهبت أنا إليه في رسالتي؛ إذ إن الإنسان في رأي اسبنيوزا جزء من الكون، لا يفعل إلا ما رسم له أن يفعله في الخطة الشاملة للكون كله، فإذا ظن الإنسان أنه إنما فعل كذا وكذا بمحض إرادته الحرة كان ذلك شبيها بالحجر الملقى بقوة دفع معينة، ويمكن حساب سرعته وموضع سقوطه على الأرض، غير أنه لو كان لينطق فربما قال: إنه إنما سقط حيث سقط على الأرض بمحض إرادته، وأنه كان هو الذي اختار طريق مساره ومقدار سرعته.

فهذا الاختلاف البعيد بين نظرة أستاذي التي استقاها من مجال تخصصه، وبين النظرة التي أخذت أتجه إليها خلال البحث العلمي الذي اضطلعت به، ولقد كان هذا الخلاف بين النظريتين مصدر خير لي لا تحد حدوده؛ لأن الأستاذ كلما اجتمعنا لمناقشة فصل من فصول الرسالة كان يجمع قوته الناقدة كلها؛ لينظر بها إلى كل كلمة مما قدمته إليه، وكان علي أن أكون على أقصى درجات الاستعداد من حيث دقة الصياغة ووضوح المعنى وقوة الحجة؛ مما أخرجني بعد إتمام الرسالة وكأني إنسان آخر.

من كل ما أسلفته عن المؤثرات والدراسات التي مارستها وتأثرت بها أثناء إقامتي في إنجلترا، يمكن القول بأنني خرجت بنظرة ذات شعبتين هي التي عدت بها إلى مصر في أواخر 1947م، معتزما أن أتجه بنشاطي كله نحو العمل بما تمليه علي تلك النظرة بشعبيتها، فمن جهة خرجت يملؤني الإيمان بضرورة الأخذ بأهم أركان الثقافة الأوروبية التي كان من نتائجها في حياة الأوروبيين ما رأيته من قيم تعلي من شأن الإنسان الفرد إعلاء يجعل منه كائنا ذا قداسة، ومن جهة أخرى خرجت على إدراك واضح بأن نهوضنا مما نحن فيه من تخلف في ركب الحضارة العصرية مرهون بتغيير المنهج؛ لتكون الكلمة الأولى والأخيرة للتجربة العلمية في كل ما هو متصل بحقائق العالم الذي نعيش فيه، على أن هذا العالم المحيط بنا ليس هو كل شيء، بل يوازيه عالم باطني في ذواتنا قوامه إيمان ووجدان؛ ففي هذا العالم الخاص معياره الخاص كذلك، وعلى ذلك يكون لعلمنا بالعالم المادي ميزان، وللتعبير الصادق عن عالمنا الوجداني ميزان آخر، ولا يجوز الخلط بينهما كما نخلط عادة، كما لا يجوز اعتداء أحدهما على الآخر كما يحدث عند كثيرين.

6

كانت المكتبة العامة لجامعة لندن هي مكاني المختار أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه، فكنت في معظم الحالات أول زائر لها في الصباح وآخر من يغادرها في المساء، ولم أكن أترك مكاني طيلة يومي إلا ساعة للغداء وسويعة للشاي، وكلاهما في مطعم في البناء نفسه، لكن ساعات العمل لم تكن كلها مخصصة للرسالة، بل تتخللها ساعتان أكسر بهما ملل الرتابة بشيء خارج مادة الرسالة، وفي هذه الفترة اليومية قرأت كثيرا وأنجزت كثيرا.

فكان من أهم ما أنجزته: الجزءان الثالث والرابع من «قصة الأدب في العالم»، الذي اتفقت مع الأستاذ أحمد أمين منذ سنة 1940م على القيام به، وكما أسلفت القول في الفصل الأول من هذا الكتاب كان الجزءان الأول والثاني قد صدر أولهما وأنا في القاهرة، وتركت مخطوط الثاني قبل سفري، وها أنا ذا قد بلغت بالثالث والرابع تاريخ الأدب حتى نهاية القرن التاسع عشر.

كان نصيب الأستاذ أحمد أمين من العمل - فوق المراجعة الشاملة - كتابة الفصل الخاص بالأدب العربي من كل جزء، وكان الدكتور عبد الوهاب عزام هو الذي تولى كتابة الفصل الخاص بالأدب الفارسي في الأجزاء الثلاثة الأولى، وتولى الدكتور يحيى الخشاب كتابة هذا الفصل من الجزء الرابع، وأما بقية الفصول فهي بقلمي.

وكانت خطة العمل - كما ذكرت في موضع سابق - هي اختيار كتاب جيد لكل مرحلة من تاريخ الأدب في أقطاره الهامة؛ ليتخذ عمودا يستند إليه، مع إضافة هنا وحذف هناك كلما اقتضت الحاجة مثل تلك الإضافة وهذا الحذف، وإلى هنا قد يقال - وكثيرا ما قيل - ما أهونه من عمل! فحسبك أن تجيد الإنجليزية قراءة وفهما، لتمثل ما تقرؤه في الكتاب المختار، ثم تعيد المادة المقروءة في لغة عربية، وكان الله يحب المحسنين ... لكن قائل هذا يفوته جانب هام، وهو الأمثلة التي اختيرت للترجمة شعرا ونثرا، فما كل قصيدة وما كل أسطر من النثر الفني في لغته الأصلية يصلح أن يترجم إلى العربية مع الحفاظ على الرونق الخاص الذي يجعل الكتابة أدبا، نعم إن أي كتاب مختار للاعتماد عليه كان معدا بالأمثلة شعرا ونثرا، لكن نسبة لم تكن بالقليلة من تلك الأمثلة كان صالحا للترجمة، وعندئذ كان علي أن أنقب في دواوين الشعراء وفي نصوص الأدباء؛ لأقع على نماذج لا تفسدها الترجمة إلا بالحد الأدنى؛ وذلك لأن كل ترجمة للأدب من لغته الأصلية إلى لغة أخرى تفقده شيئا من جماله. ولك بعد هذا التوضيح لطبيعة العمل الذي أنجزته في «قصة الأدب في العالم» أن تقدر بنفسك كم عانيت في جمع عشرات من النماذج الأدبية وترجمتها على طول أربعة أجزاء.

وكنت قبل مغادرتي لإنجلترا عائدا إلى مصر، قد أعددت شطرا كبيرا من أدب القرن العشرين؛ ليكون الجزء الخامس، لكنني لأمر ما ضاقت نفسي على مدى سبعة أعوام من عمل لم أكن فيه إلا تابعا لتابع، كنت أشعر أنني بمثابة ظل للظل إذا أمكن أن يكون للظل نفسه ظل، لكنني رجل من هؤلاء الناس الذين يرتبطون بالعهود، ولقد تعهدت أن أؤدي هذا العمل فأديته، أتممت منه الأجزاء الأربعة التي بدأت منذ بدايات الأدب هنا وهناك من مراكز الحضارات، وبلغت بها آخر القرن التاسع عشر، ثم أعددت - كما ذكرت - معظم مادة القرن العشرين لتكون جزءا خامسا، لكنني عند ذلك الحد لم أستطع مغالبة نفسي الساخطة، فأبيت للجزء الخامس أن يشهد النور، ولا بد أن يكون مخطوطة «مدشوتا» إلى الآن في أكداس المخلفات الورقية عندي، والتي لم أعد أعرف لها أولا من آخر.

7

انتهت الحرب العالمية الثانية في صيف 1945م، ولم تمض إلا بضعة أشهر بعد انتهائها حتى أقيمت الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة في لندن (أصبح مقرها منذ الدورة الثانية مدينة نيويورك)، واضطر بلد عربي إلى الاستعانة بالسفارة المصرية في لندن؛ لتعيره ثلاثة من المصريين المقيمين هناك حينئذ، يصلحون أن يكونوا أعضاء في وفده الرسمي إلى تلك الدورة الأولى لهيئة الأمم المتحدة، وكنت أحد الثلاثة الذين اختارتهم السفارة، فأتيح لي - للمرة الأولى وربما للمرة الأخيرة أيضا - أن أمضي نحو ستة أسابيع على مقربة قريبة من كبار الساسة في العالم إبان تلك الفترة الهامة التي أعقبت الحرب مباشرة، والتي ظن هؤلاء الساسة الكبار أنهم إنما جاءوا ليضعوا فيها أسسا للسلام الذي لا تستطيع بعدئذ أن تهزه نازية أو فاشية أو ما شاكلها من نظم.

كانت فرصة نادرة لأرى ليوث السياسة في عرينهم، فأرى كيف يعتركون بالحيلة الناعمة والخدعة المغلفة بالحلوى، فخرجت آخر الأمر، من كل ما رأت عيناي وسمعت أذناي، كافرا بتلك اللعبة الصبيانية التي يسمونها «سياسة»، وكم من مرة همست لنفسي ما نسب قوله إلى الإمام محمد عبده: لعن الله السياسة، وساس، ويسوس، وسائسا، ومسوسا. لماذا؟ لأنني ما وجدت في ألاعيب الساسة بعضهم على بعض إلا مهارة تشبه مهارة الحواة، تخرج الأرانب من قبعات خالية، فهم - مثلا - يضعون صيغة معينة يحلون بها مشكلة معينة ويوافقون عليها بالإجماع، ثم ما هي إلا أن يحتدم الخلاف على تأويلها، وينهض من هنا خطيب ومن هناك خطيب، ومن هذا البلد فقيه ومن ذلك البلد فقيه، يبذلون كل ما في مواهبهم من ذكاء؛ لتأويل الصيغة المتفق عليها تأويلا يخدم وجهة نظره الوطنية.

قلت لنفسي إزاء هذه الألاعيب: لو كانت «السياسة» علما كسائر العلوم الدقيقة المضبوطة؛ لما كان هنالك مجال لهؤلاء الحواة، ولانكشف الغطاء عن مهاراتهم المزعومة؛ لأنها لو كانت في دقة العلم لما تعددت التفسيرات والتأويلات، وإذا كانت الصيغة التي وافقوا عليها محلا لاختلاف التفسير والتأويل، فلماذا لا يضعون لأنفسهم صيغة أدق وأوضح وأشد حسما؟ وهكذا خرجت من تلك الخبرة بدرس تعلمته عن السياسة ما يزال إلى هذه الساعة هو الدرس الذي يشكل وجهة نظري؛ وهو أن العمل السياسي - بهذه الصورة الشائعة - لا يصلح له إلا عقول تنقصها الرغبة في دقة التفكير العلمي.

ثم سنحت لي بانتهاء الحرب فرصة أخرى من نوع آخر، وهي فرصة أتاحت لي ترجمة ما يقرب من ثلاثمائة بيت من شعر العقاد إلى الإنجليزية شعرا ... كيف؟ أرادت جامعة لندن أن تقيم لقاء ثقافيا على مدى أسبوع (أو أكثر من أسبوع، لا أذكر) للإنجليز الذين هم في سبيلهم إلى مزاولة أعمالهم في ربوع الشرق العربي، فوضعت خطة لبرنامج ثقافي وإعلامي، يزود الحاضرين بزاد فكري عن العرب.

وأرسلت جامعة لندن إلى السفارات العربية؛ لتوزع الموضوعات المقترحة على علماء العرب وأدبائهم ممن تصادف وجودهم في إنجلترا، وكان أن تلقينا - أنا وصديقي المرحوم الدكتور محمد النويهي - ما يشبه التكليف من سفارتنا المصرية بأن نتقاسم الحديث عن حياتنا الأدبية، فأما الدكتور النويهي فيتولى الأدب العربي القديم، وأما أنا فأتولى الأدب العربي المعاصر، وكانت جامعة لندن قد اقترحت في خطابها أن يدار حديث المتحدث على رجل واحد، يتخذ منه المتحدث نموذجا للتعبير عن المناخ الوجداني والفكري السائد في الفترة التي يدار عليها الحديث، فوقع اختياري على «العقاد الشاعر».

لقد كنت أرى في العقاد الشاعر - وما زلت أرى - تعبيرا قويا وصادقا عن أهم ملامح مناخنا الفكري والشعوري فيما بين الحربين العالميتين؛ لأنه رفع لواء الحرية بكل معانيها. ولا خلاف على أن مطلب الحرية في حياتنا الثقافية كلها - منذ الاحتلال البريطاني - إنما كانت تدور عجلتها حول محور رئيسي هو فكرة «الحرية»، لكن للحرية وجوها كثيرة: أحدها الحرية السياسية، وحين أقول عن شعر العقاد: إنه جاء تعبيرا قويا وصادقا عن تطلعنا للحرية، فإنما قصدت شيئا أكثر جدا من مجرد التحرر من مستعمر خارجي أو من مستبد داخلي؛ إذ قصدت إلى حرية الإنسان من حيث هو فرد مستقل يصنع لنفسه قرار حياته، ليكون مسئولا بعد ذلك عن قراره ذاك أمام الله وأمام الناس وأمام نفسه؛ فتلك الحرية الفردية - كما أراها - هي الأساس لكي تتحقق كل حرية أخرى. وأحسب أن العقاد في حياته الفردية - منعكسة في شعره - نموذج حي ناطق لما أردت عرضه على الحاضرين.

وعندما بدأت إعداد المحاضرة لم أكن أحلم بأن الأمر سينتهي بي إلى جهد من نوع نادر؛ وذلك أني رأيت - بعد أن سرت في إعداد المحاضرة شوطا - أن الصورة التي سوف أقدمها للناس ستظل كالدخان العالق بالهواء ما لم أقدم نماذج من شعر العقاد، وهل تكون ترجمة الشعر إلى لغة أخرى - إذا أريد لها أن تترك في السامع أقوى أثر ممكن - إلا شعرا؟ إذن فلأجرب قدرتي في هذا السبيل، وإذا عجزت فلأقنع عندئذ بترجمة نثرية لمعاني الأبيات المترجمة. ووفقني الله - بعد جهد ذهني مركز لعدة أيام - توفيقا يشهد عليه أن مجلات الشعر هناك (وفي أمريكا) نشرت ما أرسلته إليها من تلك النماذج.

8

كنت لم أزل ماضيا في إعداد رسالتي للدكتوراه، وموضوعها - كما ذكرت - هو «الجبر الذاتي» وهو موضوع - كما ترى - يمس حرية الإرادة بصفة أساسية وجوهرية، ودون أن أتعمد في البداية أن أتجه في بحثي مع هذا المذهب أو ذاك من مذاهب الفلسفة؛ فقد جاءت الأفكار منساقة نحو شيء يشبه مذهب برجسون في فكرته عن التطور الخلاق، وعن طبيعة الحياة كيف تبدع ما هو جديد، كما انساقت الأفكار كذلك نحو شيء يشبه حرية الإنسان عند بعض فلاسفة الوجودية.

وبينما أنا ماض في طريقي ذاك، أعلن عن تعيين الدكتور ألفرد آير (وكان إلى ذلك الحين أستاذا في جامعة أكسفورد) رئيسا لقسم الفلسفة في الكلية الجامعة بجامعة لندن، وجريا على العرف المألوف كان على الأستاذ الجديد أن يفتتح عمله بمحاضرة عامة، وأعلن بالفعل عن موعد تلك المحاضرة، لم أكن قرأت شيئا للدكتور آير، فرأيت ضرورة أن أعرف عن الرجل شيئا قبل استماعي لمحاضرته العامة، فكان أول ما قرأته من كتبه، كتابه الذي يلخص به اتجاها فلسفيا ظهر أولا في فينا خلال العشرينيات من هذا القرن، ثم أخذت دائرته تتسع، وهو اتجاه أطلق عليه أصحابه اسم «الوضعية المنطقية»، ثم شاع له بعد ذلك اسم آخر لعله أنسب وهو «التجريبية العلمية»، فما إن تلقيت الفكرة الأساسية في هذا الاتجاه؛ حتى أحسست بقوة أنني خلقت لهذه الوجهة من النظر.

ليس هنا المكان المناسب لذكر شيء من تفصيلات الفكرة، مما دعاني إلى تبينها والدفاع عنها ومحاولة نشرها في العالم العربي - فذلك كله سيرد مكانه في فصل تال من هذا الكتاب - لكن حسبي هنا أن أقول عن هذا الاتجاه شيئا واحدا؛ وهو أنه يقصر الفكر الفلسفي على تحليل ما تقدمه لنا العلوم من قضايا أساسية تحليلا يكشف عن الجذور الأولية التي منها تنبت هذه الفكرة العلمية أو تلك، مما هو متضمن في مجالات العلوم المختلفة، وبهذا نعفي الفلسفة من أن يكون لها هي نفسها قضاياها الخاصة بها عن أي شيء خاص بالكون أو بالإنسان، لماذا؟ لأننا في عصر العلم هذا نسلم زمام الكشف عن حقائق الأشياء إلى رجال العلم ولهم مناهجهم وأجهزتهم التي تمكنهم من الوصول إلى نتائج صحيحة، لكن العلم إنما يبدأ بحوثه في أي مجال من نقطة بعينها، ثم لا يسأل ماذا يسبق تلك النقطة مما يشبه جذور الشجرة الدفينة تحت التراب؟ فيكون هذا «التأصيل» مهمة الفلسفة.

وسأترك الحديث في هذا إلى حينه، مكتفيا بالقول بأنني حين عدت إلى مصر (في خريف سنة 1947م) كان قد تبلور فكري في شعبتين: إحداهما وجوب الأخذ بروح الثقافة الأوروبية المعاصرة، لعلها تنتهي بنا إلى مثل ما انتهت بأصحابها إليه من وضع الإنسان الفرد في مكانة تشبه التقديس، والثاني هي وجوب الدعوة إلى التجريبية العلمية؛ لأنها إذا كانت مجرد اتجاه فلسفي هناك، فهي بالنسبة للأمة العربية ضرورة؛ إذ من شأنها أن تضبط اللفظ في مجال التفكير العلمي ضبطا صارما، وهو ما أظننا في أشد الحاجة إليه، وسوف أورد ذلك فيما بعد بشيء من التوضيح.

9

وعدت إلى مصر، ونقلت إلى جامعة القاهرة (وكان اسمها يومئذ جامعة فؤاد الأول) مدرسا بقسم الفلسفة في كلية الآداب، وما كدت أشمر عن ساعد العمل الجاد في سبيل الهدفين المذكورين حتى عوقتني معوقات سرعان ما تغلبت عليها بوقفة إرادية حازمة وحاسمة.

فلم تكن قد مضت بعد عودتي أشهر قليلة حتى دعاني وزير التعليم، ودعا معي المرحوم محمد بدران، وقال لنا: إن «أمرا» صدر إليه من القصر الملكي بأن يترجم إلى العربية كتاب «آثرت الحرية» لكرافتشنكو، الروسي الذي أفلت من استبداد الحكم في بلاده، وأخرج للناس هذا الكتاب ليوضح لهم حقيقة الحياة في الروسيا. وأضاف الوزير لنا بأن القصر يريد للترجمة أن تنجز في ثلاثة أشهر، ولما كان يعلم عنا قدرة حاجته في هذا المجال، فهو بدوره يكلفنا بأداء هذا الواجب خلال الأشهر الثلاثة، ومن ناحيتي حاولت التخلص، فلم يدع لي الوزير مجالا للحديث، ولقد أخجلني بما كان يعرفه عني من تقدير له.

اتفق معي الأستاذ بدران على أن يتولى هو الربع الأول والربع الأخير من الكتاب، وأن أتولى أنا الربعين الثاني والثالث في سياقهما المتصل، ولم يفتني بالطبع ما كان يخفيه في نفسه من غرض في هذا التقسيم، وهو أن يوضح اسمه على الغلاف قبل اسمي، لكنني مع ذلك وافقت مبتسما في إشفاق؛ لأن العمل كله صخرة ألقيت على كاهلنا بصورة لا تجوز إلا في بلد يسوده الطغيان، ولا يخفف من وقع السخرة أن يجيء الاسم أولا أو أن يجيء ثانيا.

ومع ذلك فلا بد لي أن أذكر هنا كيف كنت أرتعد فزعا أثناء عملية الترجمة كلما ورد وصف من تلك الأوصاف المخيفة للطريقة التي كان يحكم بها الشعب الروسي كما رآها كرافتشنكو، ولقد أنجزت نصيبي في أقل من شهرين، وظننت أنني بعد ذلك سأفرغ إلى عملي، وأذكر أني لكي أخرج ترجمة ذلك الكتاب من حياتي خصصت له ساعتين بعد أذان الفجر من كل صباح، ثم أبدأ يومي وكأن شيئا لم يكن.

لكنني إذ فرغت من «آثرت الحرية» وقعت في حفرة أخرى، برغم أن الأمر هذه المرة لم يصدر من «جهات عليا» - على حد العبارة المألوفة - بل صدر من أستاذ أكن له الحب والتقدير، هو الأستاذ أحمد أمين؛ وذلك أن الجامعة العربية (وكان الأستاذ أحمد أمين عندئذ مديرا للإدارة الثقافية بها) قررت ترجمة «قصة الحضارة» تأليف ولديورانت، ومرة أخرى طلب إلى الأستاذ محمد بدران وإلي أن نضطلع بهذا العمل، فبدأنا معا بالمجلد الأول، وهو يحتوي على خمسة أقسام (صدر كل قسم منها كتاب مستقل في ترجمته العربية) فكان نصيب الأستاذ بدران «مصر» و«الصين»، وكان نصيبي «نشأة الحضارة» و«الهند وجيرانها» و«اليابان»، لكنني بعد هذا المجلد الأول نفضت يدي من هذا المشروع الضخم، ويكفي أن يعلم القارئ أن الترجمة ما زالت مستمرة في أجزائه، برغم أن ما صدر منه حتى الآن بلغ الجزء الثلاثين أو ما يقرب من ذلك، فهو موسوعة ضخمة، تعرض أطوار الحضارة عرضا خلابا، ولو كنت طاوعت النصح بأن أمضي في ذلك المشروع؛ لما كتبت ورقة واحدة في تخصصي العلمي، ولا في بسط وجهة نظري الثقافية.

ومع ذلك فما نفضت يدي من «قصة الحضارة» إلا لأتورط مرة ثالثة، لكن العمل هذه المرة كان متصلا بالدراسة الفلسفية على وجه من الوجوه، إلا أنني مع ذلك لم أكن أريد التورط فيه في ذلك الحين لأنصرف إلى عملي، سواء ما اتصل منه بالتدريس في الجامعة، أو ما اتصل منه بالحياة الثقافية العامة التي ما تركت المشاركة فيها يوما واحدا منذ بدأت حياتي العملية. أما العمل الذي اعترضني هذه المرة فهو ترجمة كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية» لبرتراند رسل، والكتاب ضخم، ويقع في ثلاثة أقسام: الفلسفة اليونانية والفلسفة الوسيطة والفلسفة الحديثة، وكان هذا الكتاب قد صدر أثناء وجودي بإنجلترا، وقرأته هناك أول صدوره، ووجدت فيه عرضا جديدا مبتكرا لتاريخ الفلسفة؛ لأنه يربط علاقات وثيقة بين الفكر الفلسفي من جهة، والظروف الاجتماعية السائدة في العصر المعين من جهة أخرى، مما يبين بيانا جليا أن ذلك الفكر الفلسفي هو انعكاس مباشر للحياة كما يجري في دنيا الواقع.

ترجمت الجزأين الأول والثاني، ولأمر ما رفضت رفضا جازما أن أكمل الجزء الثالث ليكتمل العمل، والخير في أن أمسك عن ذكر الظروف التي حملتني على ذلك الرفض. وعلى أية حال فقد أسدلت بهذا ستارا على ما أسميته بمرحلة الانتقال من سيرتي العقلية، لأبدأ مرحلتي الجديدة التي دعوت خلالها إلى هدفين: الأخذ بروح ثقافة العصر، وأن تكون التجريبية العلمية ضابطا للفكر في مجالاته العلمية.

وكأنما أراد لي الله أن تكون بين يدي الأداة التي أستطيع بها أن أعبر ما بقي أمامي من مرحلة التحول إلى المرحلة التي تليها، والتي استقر عليها الفكر عشرين عاما (1950-1970م) وهي التي أشرت إليها فيما أسلفته، قائلا: إنني سرت خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار. أقول: بإذن مشيئة الله كأنما أرادت أن تضع بين يدي الأداة التي أستعين بها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ وذلك أن لجنة التأليف والترجمة والنشر قد أوكلت إلي - باعتباري عضوا فيها - الإشراف على مجلة الثقافة التي كانت تصدرها، فكانت لي فرصة الكتابة الأسبوعية؛ لأفتتح كل عدد منها بمقالة، فماذا كنت أكتب أسبوعا بعد أسبوع؟ كنت أكتب ما يصح أن أطلق عليه اسم القنابل المتفجرة، لعلها تنسف جزءا من ألف جزء في الإطار الثقافي العتيق الذي كنا ما نزال نعيش فيه، برغم فترة من الاتصال بحضارة الغرب امتدت بنا - حتى ذلك الحين - مائة وخمسين عاما، وبرغم زيادة أعداد المتعلمين إلى أعلى مستويات التعليم، فذلك كله لم يزحزح إلا قليلا مجموعة من القيم ذهب زمانها، وأبشعها قيمة السلطة لمن يتولاها. ولقد جمعت مجموعة المقالات التي كتبتها على مدى ثلاثة أعوام أو ما يقرب منها في كتابين: أولهما كتاب «شروق من الغرب» واسمه هذا دال على روح محتواه، والثاني كتاب أسميته (في طبعته الأولى) «والثورة على الأبواب»، وقصدت بذلك أن تلك الأفكار الغاضبة الساخرة الثائرة إنما نشرت كلها قبيل قيام الثورة في يوليو 1952م، لكنني لحظت فيما بعد أن حرف الواو الذي يبدأ به العنوان، كثيرا ما يسقط عند المتكلم أو الكاتب، فيصبح العنوان دالا على شيء آخر غير مقصود، فجعلت عنوان الكتاب في الطبعة الثانية «الكوميديا الأرضية»، وربما جاء هذا العنوان أكثر دلالة على روح مضمونه الفكري.

الفصل الثالث

دعوة إلى ثقافة العصر

1

أبدأ حديثي عن هذه المرحلة في مسيرة العقل الذي أروي قصة تطوره باعتراف أعترف به عن نفسي في ذلك الحين - أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات - بأنني حين دعوت إلى الأخذ بثقافة الغرب - والغرب هو «العصر» لأنه هو صانع حضارة عصرنا - كنت في تلك الدعوة على كثير من التطرف؛ لأنني عندئذ نظرت إلى الأمر من جانب واحد، هو جانب «العصرية» التي لا بد منها في إنسان اليوم، لكنني أهملت الجانب الآخر الذي لا بد منه كذلك حفاظا من أي إنسان معاصر على هويته الخاصة التي صنعها تاريخه، فجاءت نظرتي إلى «الثقافة» المنشودة نظرة مبتورة تثبت جانبا وتهمل جانبا آخر، ولم أصحح هذا الخطأ إلا في أول السبعينيات، كما سأروي في المكان المناسب من هذا الكتاب.

لكنني الآن مقيد بتصور المرحلة الفكرية التي اجتزتها في الفترة المشار إليها ، وهي أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، أو قل: إلى آخر الخمسينيات، فعندئذ تصورت أمامي صورتين: إحداهما الصورة الحضارية التي رأيتها في أوروبا، وأوروبا - كما قلت - هي في عيني إذ ذاك هي «العصر»، وأما الصورة الأخرى فهي ما عرفته عن بني وطني، فكما يتمنى الوالد لولده الكمال، ويؤذيه غاية الإيذاء أن يلمح فيه شيئا من النقص حتى ولو كان تافها يسيرا، وربما ضربه وأغلظ له في التأنيب بسبب حبه له، فكذلك أقول عن نفسي فيما تصورته وصورته عن مصر في ذلك الحين، والحق أني في تصوير النقص الذي تخيلت وجوده في حياتنا ورأيت ضرورة التخلص منه لم أعمد في ذلك إلى تحليل علمي، بل كنت في أكثر الحالات ألجأ إلى التصوير الأدبي، ولا بد لي هنا من لفت الأنظار إلى الفارق الكبير بين الطريقتين في الكتابة عن موضوع بذاته: الطريقة التي يجوز لنا تسميتها بالطريقة العلمية، والتي تتناول الموضوع تناولا مباشرا بالتحليل والمعالجة، وأما الأخرى فهي طريقة التصوير الأدبي، والشرط الذي لا بد من توافره هنا هو أن تعرض الفكرة المقصودة عرضا غير مباشر، وذلك بأن يقيم الكاتب شكلا ما يجسد به فكرته تجسيدا من شأنه أن يجعلها أرسخ أثرا في نفس القارئ.

لجأت فيما كتبته عن الحالة كما تصورتها في مصر إلى الضرب الثاني؛ أعني إلى التصوير الأدبي، فليس أمامي الآن إلا أن أعرض على القارئ نماذج من ذلك التصوير.

لقد رأيت في حياتنا كثيرا من الظلم والقهر والاستبداد والتسلط والتنافر والكراهية، مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته وحريته واستقلاله، فصورت ذلك بقلم المؤمن بأنه لا أمل في خلق مجتمع جديد إلا إذا سلمت وحداته البشرية أولا وقوي بنيانها، ففي مقالة عنوانها «الكوميديا الأرضية» قلت:

يحكى أن شاعرا كان اسمه «دانتي»، عاش في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قد كتب قصيدة طويلة عظيمة، أسماها له الناس من بعده «الكوميديا الإلهية»، طاف فيها بصحبة أستاذ له قديم من الشعراء الأولين هو «فيرجيل»، طاف بالجحيم فوصف من شهده فيها من الآثمين، وما شهده منصبا عليهم هناك من عذاب أليم.

ثم شاء الله - ولا راد لمشيئة الله إذا شاء - أن يبعث «دانتي» حيا شاعرا كما كان، وأن يبعث معه «فيرجيل» دليلا هاديا كما كان أيضا، وعادت لدانتي شهرته القديمة في وصف الأهوال، فكان أن زار بلدا يقال عنه إنه بلد العجائب، حتى إذا ما رجع إلى بلاده عمد توا إلى ما كان قد كتبه في حياته الأولى، وأدخل عليه تغييرا وتحويرا يناسب العصر الحديث، مستفيدا مما علمته التجربة في بلد العجائب، وإدراكا منه بأن الشاعر الحق لا مندوحة له عن مسايرة الزمن، لكنه هذه المرة أطلق العنوان بنفسه على قصيدته، ولم يترك ذلك للأجيال القادمة كما قد فعل أول مرة، فاختار عبارة «الكوميديا الأرضية» عنوانا لقصيدته الجديدة.

وهاك خلاصة وافية لوصف الجحيم في «الكوميديا الأرضية» كما كتبها الشاعر القديم الحديث.

يقص علينا «دانتي» كيف سار في صحبة دليله «فيرجيل» حتى بلغا باب الجحيم الأرضي، فقرآ على قمة الباب هذه الأسطر الآتية مكتوبة بماء الذهب: «ادخلوا إلى مدينة الأحزان، ادخلوا إلى أرض العذاب، ادخلوا بين من ضلت بهم السبيل، فيا أيها الداخلون، انفضوا عن أنفسكم عند مدخلي كل رجاء.»

ويدخل الرجلان، فإذا بالجحيم هوة سحيقة، في هيئة واد طويل مديد، رأسه عند مركز الأرض، وقدمه عند حافة البحر، وجوانبه متدرجة درجات عراضا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون ...

وتأخذ المقالة بعد ذلك في وصف رحلة الشاعرين في حلقات الجحيم ليشهدا في كل حلقة من حلقاتها العشر فريقا من الآثمين يلقى من العذاب ما يتناسب مع إثمه في الدنيا، على منوال ما صنع دانتي في الكوميديا الإلهية، لكن مقالتي استخدمت السخرية إلى أقصى مرارتها؛ إذ جعلت الآثمين المعذبين أناسا فعلوا الخير وقالوا الصدق وبذلوا الجهد وأرادوا الإصلاح، فكان هذا كله محسوبا عليهم لا محسوبا لهم، ومن أجله حشروا في الجحيم لينالوا العقاب جزاء ما اقترفوا من حسنات حسبت عند قومهم سيئات.

ففي الحلقة الأولى من حلقات الجحيم شهد الشاعران أولئك الذين تمسكوا بمبادئهم في حياتهم الدنيا، فكان جزاؤهم هنا أن تلدغهم الزنابير في وجوههم وأعناقهم. وفي الحلقة الثانية شهد الشاعران أولئك الذين بلغت بهم الغفلة في دنياهم أن يهتدوا بعقولهم، وألا يلتفتوا إلى أجسادهم ليشبعوا شهواتها، فكان جزاؤهم هنا أن عصفت بهم ريح قوية، حتى أخذتهم راجفة كأنهم الكراكي في العاصفة.

وكان في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم، أولئك الذين أخذتهم في حياتهم العفة، فلم يضرعوا لأصحاب السلطان كي ينعموا عليهم بحقوقهم، فكان عقابهم هنا أن يتمرغوا في حمأة من طين تحت وابل من المطر، وأما في الحلقة الرابعة فقد شهد الشاعران أولئك الذين ضجوا في دنياهم طلبا للإصلاح، فأفسدوا على النيام نعاسهم وأحلامهم، فكان جزاؤهم هنا أن يتشعبوا فريقين، كل فريق منهما يدحرج جلاميد الصخر في اتجاه مضاد للفريق الآخرين، حتى يصطدم الفريقان في الطريق، فتعود جلاميد الصخر إلى حيث كانت أول الأمر، وهكذا دواليك.

وحشر في الحلقة الخامسة أولئك الذين أخذتهم في حياتهم دقة الحساب، فلم يتهاونوا في شيء، ولم يؤخروا موعدا عن زمنه المحدد، ولا أرجئوا عمل يومهم إلى غد، فهؤلاء أغرقوا إلى قاع بحيرة من الطين السائل، وكانت أنفاسهم المعذبة تظهر على سطح البحيرة فقاقيع تنتفخ لتنفجر، وحدث لأحدهم أن طفا على السطح لحظة، وكان الشاعران على مسمع منه، فقال لهما: إن جريمتنا هي أننا في حياتنا كنا نحارب الفوضى التي ضربت بجذورها في أرجاء البلاد.

فلما بلغ الشاعران حدود الحلقة السادسة، أبصرا خلال الضباب الكثيف أبراجا وقبابا متوهجة بألسنة اللهب، وقيل لهما: إن ذلك مدخل إلى مدينة الشيطان، ودخل الشاعران فرأيا سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يسترها غطاء، وفي كل منها ألسنة النار تموج لتحيله إلى رماد، ثم يعود جسدا من جديد لتعود إليه ألسنة النار؛ وذلك لأن هؤلاء الآثمين قد خولت لهم أنفسهم الشريرة أن يشجعوا في الرأي ليكونوا أحرار العقول، فحقت عليهم هذه الفضيحة المنكرة.

وفي الحلقة السابعة رأى الشاعران جماعة غرقى في نهر من دماء، وقيل لهما: إنها جماعة نأت بنفسها عن معارك السياسة لتحيا حياة التفكير الهادئ، على أن هذه الحلقة السابعة كانت ذات شعبتين، وكانت الشعبة الثانية مخصصة لمن كانت أخذتهم في حياتهم غيرة على الضعفاء والمرضى والمعوذين، فهؤلاء انقلبوا هنا أشجارا جافة قصيرة، وإذا انكسر من تلك الأشجار اليابسة فرع؛ سالت منه دماء كدرة، وحتى إذا ما أثمرت الأشجار جاءت ثمارها مسمومة.

وخصصت الحلقة الثامنة لمن كانوا في حياتهم لا يراءون ولا ينافقون، فغمسوا هنا في حفرة مليئة بقار يغلي، وقد يحدث الفينة بعد الفينة أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم، ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف! فكما تقف الضفادع من بركة الماء عند حافتها لا يبدو فوق الماء منها إلا خياشيمها، كذلك وقف هؤلاء الآثمون في لجة القار، ولكن سرعان ما يأتيهم الحارس فيغوص الجناة تحت لجة الموج.

وفي الحلقة التاسعة حشر أولئك المجانين البلهاء الذين استنصحوا في حياتهم فنصحوا بالحق، فألبسوا كل واحد منهم في الجحيم قلنسوة ثقيلة من الرصاص، وكلما ثقلت القلنسوة على رأس المذنب حتى مال عنقه إلى صدره؛ ألهبه الحارس بسوطه على ظهره، قائلا له: اعتدل كما اعتدلت في دنياك صدقا في القول وإخلاصا في العمل.

وفي الحلقة العاشرة والأخيرة كان أولئك الذين لم يتشفعوا في حياتهم بشفيع ولا توسطوا بوسيط وأخذوا يعملون في صمت، مع أن الله قد أراد لهم أن يملئوا الدنيا صخبا وضجيجا كلما أدوا عملا أو نطقوا بكلمة، فكان جزاء هؤلاء في جهنم أن ينزلوا في قاع الجحيم، وهو بحر من ثلوج يبدو فيه أشباح المعذبين، كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وكتب عليهم هناك أن يقرض بعضهم عظام بعض من الجوع، كما تفعل الكلاب الجائعة ...

تلك هي إحدى الصور الأدبية التي صورت بها - في أوائل الخمسينيات - ما انطبعت به نفسي حينئذ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت، أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفت في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكب عن جادة الطريق.

وسأورد هنا صورة أخرى مما كتبته في ذلك الحين، وكان ما كتبته منها يعد بالعشرات، كلها يدور حول المعايير المجحفة التي سادت حياتنا، مما يستحيل معه أن تتحمل نصيبها من تبعات العصر الذي نعيش فيه. والصورة الأدبية الأخرى التي سوف أوردها الآن هي انعكاس لما أحسسته بالظلم الذي اسودت له سماؤنا، ولست أقصد الظلم والعدل بمعناهما في ساحات القضاء، بل أقصد بهما المعنى الذي أراده أفلاطون حين تناول معنى «العدل» في الأقسام الأربعة الأولى من محاورة «الجمهورية»، وانتهى به إلى أن العدل الاجتماعي إن هو إلا وضع الأفراد في مواقع تتناسب مع قدراتهم.

فتحت عنوان «الظلم» كتبت ما يأتي:

كان الفتى في عامه الثاني عشر، أو الثالث عشر، طويلا نحيلا، في عينه اليمنى حول ظاهر، ولا يفارق عينيه منظار التوت ذراعاه فمال على أنفه، وكانت تبدو على الفتى علامات البلاهة التي لا يخطئها النظر.

سأل أباه ذات يوم إذ هما على مائدة الغداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟ - وأين سمعتها؟ - سمعت رجلا يصيح بها في الطريق، يصيح بها وهو يدفع عربة صغيرة عليها بطيخ وشمام، كان الشرطي من ورائه يصفعه ويركله. - الظلم هو أن يوضع الإنسان في غير موضعه اللائق به؛ فإذا جلست الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظلم، وإذا أسندت الرياسة إلى من لا يستحقها فذلك ظلم، وإذا أخذ العامل أجرا على غير عمل فذلك ظلم، وإذا ظفر بالراحة من لم يعمل فذلك ظلم، كذلك من الظلم أن يفلت من العقاب من هو حقيق به، وهكذا، كل هذه أمثلة لناس وضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.

سمع الفتى هذه الإجابة من أبيه في إنصات ظاهر، وكأنما أعجبه رنين الكلمة، فراح يرددها وهو بعد على مائدة الغداء، وبلغ إعجابه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغمات مختلفة، ثم يضحك ضحكاته البلهاء.

ولما أصبح صباح اليوم التالي؛ ارتاعت أم الفتى لما رأته في كل ركن من أركان الدار؛ إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتب بقطعة من الطباشير كلمة «ظلم»، كتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجد مكانا يصلح للطباشير أن يخط عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القاتم ...

ونودي الغلام وسئل عما فعل، فلم يزد على أن ضحك ضحكة بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهره أبوه، وتهدده بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبث، ثم طفقت الأم من فورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقة بالية!

ومضى يوم واحد جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبويه؛ فقد ظفر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلا من دورهم، وأخذ يخط كلمة «ظلم» على الأشياء فيفسدها، حتى أتلف للجيران أبوابهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.

فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلا: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها في كل مكان، تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم؟

وأجاب الغلام بعينين دامعتين: لست أدري يا أبت! اعف عني هذه المرة ولن أعود. لكن لم يكد يمضي يوم آخر حتى جاء أصحاب الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالديه؛ فقد ظفر هذه المرة بما ليست تمحى آثاره في يسر، كما محيت آثار الفحم والطباشير؛ ظفر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يقام بناؤها، وراح يغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم على الطوار: «الظلم» «ظلم»؛ فشوه الطريق بخطه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحية أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يكتب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السيئ والشكل الرديء.

وها هنا بلغ الغيظ من الوالد أبلغ مداه، وجاء بغلامه أمام الشاكين يضربه ضربا مبرحا هذه المرة، حتى مست الرحمة قلوبهم وهم الغرباء قبل أن تمس قلبه وهو الوالد.

وسأله أبوه من جديد: ما الذي يغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير وللجيران بالفحم ولهؤلاء الناس بالطلاء؟ فأجابه الغلام بصوت مخنوق بالبكاء: لست أدري يا أبت! اتركني هذه المرة ولن أعود إلى مثل ذلك أبدا.

لكن الغلام لم يكن عند وعده هذه المرة أيضا، فمضت ثلاثة أيام لم يعكر صفوها «ظلم» لم يصب أحدا من الناس، وفي اليوم الرابع تأخر الغلام عن موعد عودته من المدرسة، وشغل الأبوان وبحثا عنه في مظانه كلها، فلم يعثر له على أثر حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها من الليل، دق الجرس وأسرع الأبوان في لهفة إلى الباب، فإذا ابنهما في صحبة رجل من رجال الشرطة.

قال الشرطي: هذا ابنكم، وجدناه ينقر بابا لدار من دور الحكومة بمبراة: فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرا»، لكننا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدا، ورأينا أن نسوقه إلى داره ليمضي ليله مع والديه حتى لا يشغلان عليه بالا.

ونظر الغلام إلى أبيه نظرة يطلب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء وبات محزونا.

حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلام بابها بمبراته، وجد ابنه قد حفر على الباب كلمة «ظلم»، حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليدهش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كله في ظلمة الليل، وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقها الفتى في حفر ذلك كله على باب من الخشب الصلب المتين؟

واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يخلوا له سبيل الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشاره الوالد في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحب الوالدان ابنهما إلى مكان من الريف لتهدأ أعصابه؛ لأنه مريض.

وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن يسمعا عجلاته تفرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره! «ظلم» «ظلم» «ظلم».

كانت هذه - أيضا - صورة أدبية أخرى من عشرات الصور التي كتبتها لأعري بها حقيقة القيم السائدة بالفعل في حياة الناس العملية، وليس فيما يجرونه على ألسنتهم، ولقد عرضت مقالة «ظلم» بنصها؛ لأنها مع سائر أخواتها لا سبيل إلى تخليصها، والمعول في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ، وكما هو واضح من المقالة سيجد القارئ نفسه أمام كابوس الظلم وهو يتعاظم حجما من الطباشير فصاعدا إلى الفحم فالطلاء فالحفر على الخشب بمبراة ، ثم هو الظلم داخل الأسرة وعند الجيران وفي دنيا التجارة وفي دواوين الحكومة.

وأحيل القارئ على مجموعتي المقالات! «شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية»؛ ليجد حياة الناس كما كانت على حقيقتها، وكما انطبع بها الكاتب، على أني ألفت النظر بصفة خاصة إلى «خيوط العنكبوت»؛ ليرى فيها صورة مجسدة للتنافس القاسي، الذي لا يتورع فيه المنافس أن يدوس منافسه بالأقدام إذا استطاع، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن يكون على مقربة أقرب من أصحاب السلطان. كما ألفت النظر مرة أخرى إلى «عروس المولد» ليرى القارئ صورة الحرمان المقرون ببطش الطغاة، وإلى «عند سفح الجبل» ليرى كم هم بعيدون عن الشعب أولئك الساسة الذين يتوهمون بأنهم خدام الشعب.

2

كان منطقي - منذ الأربعينيات فصاعدا - في وجوب الأخذ عن ثقافة الغرب منطقا مبسطا لا تعقيد فيه ولا التواء، فما دمت قد رأيت البون شاسعا بيننا وبينهم في الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته، وفي تقدم العلوم والفنون، وفي درجة الثراء والرخاء ونظافة العيش وغزارة الإحساس بالحياة، فلماذا لا ننقل إلى أرضنا مثل هذه الشجرة الفينانة المورقة المثمرة؛ لعلنا نفيء إلى ظلها ونأكل من ثمارها. ولم أكن في تلك الأعوام أفرق بين ما يجوز نقله عن الغرب وثقافته وما لا يجوز؛ فكل ما عندهم واجب النقل إلينا ما دمنا في حاجة إلى نتائجه، وأسرفت في هذه الدعوة حتى تمنيت - كما قلت في مقدمتي لكتاب «شروق من الغرب» - أن نأكل كما يأكلون، ونكتب من الشمال إلى اليمين كما يكتبون، وأن نرتدي من الثياب ما يرتدون.

والحق أني في تلك الدعوة إلى ثقافة الغرب يومئذ لم أكن مستندا إلى بريق سطحي وكفى، بل ضربت في حقائق الأشياء إلى جذورها. ألم يكن الإمام محمد عبده هو الذي قال، تعليقا على مشاهداته في إنجلترا، إنه رأى هناك إسلاما بغير مسلمين، وإن الذي رآه في مصر مسلمين بغير إسلام؟ نعم؛ فشيء كهذا هو ما وجدته في أخلاق الناس وهم يتعاملون هناك بعضهم مع بعض. ولما كنت دارسا للفلسفة، وأعلم أن الفلسفة - في أي بلد وفي أي عصر - هي التي تستقطب الثقافة القائمة استقطابا يستخرج منها المبادئ الأولى التي عليها ارتكز البناء الثقافي كله، فلقد عنيت يومئذ بتحليل التيارات الفلسفية المعاصرة على اختلافها الظاهر؛ لأرى إن كانت تلك التيارات تلتقي عند نقطة رئيسية واحدة، فإذا كان أمرها كذلك كانت تلك النقطة المشتركة هي المعبرة عن روح العصر.

وإذا أنت أمعنت النظر في الاتجاهات الفلسفية المعاصرة - ويمكن بلورتها في أربعة - وجدت جذرها المشترك هو اتخاذ «الإنسان» في حياته الدنيوية هو محور الاهتمام، وانظر - على هذا الضوء - إلى تلك الاتجاهات الأربعة: أحدها هو اتجاه الفلسفة التحليلية التي تعنى أكثر ما تعنى بفلسفة العلوم، والتي هي الفلسفة السائدة في بريطانيا، فما دامت تصب اهتمامها على التفكير العلمي، فهي بالتالي تقصر ذلك الاهتمام على ما هو ذو صلة بحياة الإنسان هنا على هذه الأرض. وثانيها هو اتجاه الفلسفة البراجماتية الذي له السيادة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأساسه هو أن الفكرة تعد صحيحة إذا كانت نتائجها نافعة للإنسان؛ فليس المهم هو «أصل» الفكرة من أين جاءت وكيف جاءت؟ بل المهم هو ماذا عساها أن تثمر للإنسان من نتائج تنفعه في حياته. وثالثها هو اتجاه الفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، ومدار تلك الفلسفة حرية الإنسان في القرار الذي يتخذه لنفسه ليكون بعد ذلك مسئولا عنه مسئولية خلقية. ورابعها هو اتجاه الفلسفة المادية الجدلية السائدة في شرق أوروبا: ومحورها هو أن الحياة الثقافية كلها - بما فيها القيم الأخلاقية والجمالية - إنما تولدت عن الحياة الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة، فإذا غيرت من أسس الحياة الاقتصادية المادية تغيرت بالتالي دنيا الثقافة، وإذن ففي مقدورنا أن نشكل العلاقات الاقتصادية تشكيلا ينتهي بنا إلى إقامة حياة إنسانية تصون للإنسان حقوقه.

فإذا كان هذا هو اتجاه الفكر في الغرب، وهو اتجاه همه الأول هو صون الإنسان من العوامل التي كانت تطحنه طحنا وتقهره قهرا، أفيكون غريبا أن نعمل على نشر مثل ذلك الفكر في بلادنا؛ ليفرز لنا مثل الذي أفرزه في حياة الغرب من توفير وتقديس لمكانة الإنسان وكرامته؟ وإذا كنا نقبل جذور الفكر الغربي التماسا لما يثمره في نهاية الأمر من حياة إنسانية كريمة، فلا مندوحة لنا عن قبول النتائج الفرعية التي لا بد أن تنبثق بالضرورة من تلك الجذور، ومنها ما هو خاص بالنظرة العلمية الواقعية إلى الأمور ما دامت أمورا لا صلة لها بمشاعر الإنسان الخاصة، ومن هنا جاءت دعوتي منذ تلك الأعوام - وإلى يومي هذا - إلى الأخذ الصارم بالنظرة العلمية التجريبية (وتفصيل ذلك موضعه في الفصل الآتي) مفرقا في حياة الإنسان بين مجالين: مجال التفكير العلمي بكل تفريعاته، ومجال الحياة الوجدانية بشتى جوانبها؛ فما يصلح لذاك لا يصلح لهذا؛ فلكل منهما مواقف ولكل منهما معايير للرفض أو القبول.

وفي خصائص النظرة العلمية المطلوبة، أحيل القارئ على كتابي «قشور ولباب» - في القسم الثاني منه - وإني لأجتزئ هنا سطورا مما ورد في مقالة هناك عنوانها «وجهة الفكر المعاصر»:

فالطابع الجوهري الذي يطبع عصرنا الحاضر، هو - فيما أعتقد - حصر الإنسان نفسه فيما يستطيع أن يشهد ويرى، ليستخرج من ذلك ما يمكن استخراجه من قوانين، يستخدمها في حياته العملية استخداما عمليا نفعيا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فكأنما السؤال الأساسي الذي يلقيه الإنسان على نفسه ويحاول اليوم أن يجيب عنه هو: ماذا أرى من العالم وماذا أسمع؟ وهل هذا الذي أراه وأسمعه يطرد وقوعه اطرادا أستطيع أن أجعل منه قانونا أركن إليه في حياته العملية؟

وإن شئت أن تضع ذلك نفسه في عبارة أخرى، فقل: إن طابع عصرنا الفكري هو العلم التجريبي وما يستتبعه من مناهج البحث والنظر، والفلسفة التي نشأت من ذلك الاتجاه العلمي هي الفلسفة التي جرى الاصطلاح أن تسمى بالفلسفة الوضعية، وجوهرها أن تجعل صدق الحواس أصلا لا يناقش؛ لأنه من تلك الفروض المطلقة التي تنبني عليها معرفة العصر واتجاهاته الفكرية. والفروض المطلقة لا يسأل عنها، وإلا فإنها لا تعد مطلقة، بل نسبية تستند إلى غيرها من مبادئ وأصول، وليس هناك بالطبع مانع مادي يحول بينك وبين أن تسأل عما يبرر افتراض ذلك الفرض المطلق. لكنك إن فعلت خرجت على روح العصر السائد.

إن الفلسفة الوضعية - التي تمثل عصرنا الحاضر - لا تكتفي بمخالفتها للفلسفات السابقة في طريقة الإجابة عن مشكلات بعينها، بل كثيرا ما ترفض تلك المشكلات ذاتها، فإن كانت تلك الفلسفة السابقة تسأل: ماذا وراء ما يدركه الإنسان بحواسه؟ ثم تختلف في الإجابات، فإن الفلسفة الوضعية تنكر السؤال ذاته؛ لأنه يتناقض مع الفرض الأول المطلق الذي جعلناه بداية وأساسا للبناء الفكري كله، وهو أن الحواس - وما تأتينا به من خبرة ومعرفة - صادقة، وهي الأساس الذي ليس وراءه شيء.

عند الفلسفة الوضعية أن الرؤية بالعين أو السمع بالأذن، هي الملاذ الأخير في إثبات الصدق لدعواك، أينا يعيش في عصر اتجاهه الفكري هو أن يقوم الرأي على التجربة بشهادة الحواس، وأن يكون صدق الرأي مرهونا بإمكان تطبيقه تطبيقا علميا.

إننا لو سئلنا: بماذا يتميز الغرب وحضارته؟ فلا نعدو الصواب إذا أجبنا بأنه يتميز بالعلم التجريبي. فإذا قمنا ننادي بوجوب الأخذ عن الحضارة الغربية الراهنة أخذا لا تحوط فيه ولا تحفظ؛ كدنا بذلك أن نقول بوجوب الاتجاه بحياتنا وجهة علمية؛ لكي نساير العصر الحاضر في نشاطه الفكري.

3

في تلك المرحلة من مراحل العمر عندما أردت أن أصور لنفسي - وللناس - نموذج الإنسان المتحضر والمثقف كيف يكون، جاءت عناصر الصورة من وحي ما هو سائد وفق المعايير الغربية الخالصة، وفيما يلي جزء من المقالة التي كان عنوانها «نموذج المتمدن»: «... لا شك أنك قد رأيت كلمات «الحق» و«الخير» و«الجمال» متجاورة في كثير جدا من المواضع، كلما أراد الكاتبون أن يعبروا بعبارة موجزة عن أحلام الإنسانية وأمانيها، فهذه الكلمات الثلاث تستطيع أن تجعلها تعبيرا آخر للجوانب الثلاثة نفسها التي يذكرها علماء النفس، وهي الإدراك والوجدان والنزوع؛ «فالحق» هو ما ننشده في حالات الإدراك ، و«الجمال» هو ما نبتغيه في حالات الوجدان، و«الخير» هو ما نقصد إليه في جانب النزوع أو السلوك، وسيرسم صورة الإنسان المتمدن على أساس هذه الجوانب الثلاثة.»

فأهم ما يميز الإدراك عند «المتمدن» في عصرنا هذا هو التقيد بالواقع، وإدراك الواقع كما هو يتطلب القضاء على الخرافة بكل ما يتصل بها من لواحق وأتباع، وللخريف مظهران أساسيان في طريقة تعليلنا للحوادث والظواهر: الأول أن تعلل حدوث الأشياء المحسوسة بأشياء غير محسوسة، والثاني أن تعلل شيئا محسوسا بآخر محسوس، لكنه لا يرتبط معه ارتباطا يدل عليه طول الملاحظة ودقة التجربة. فلو قلت - مثلا: إن المرض في جسم المريض شبيه شيطان حال في الجسم، أو أن السماء ترعد وتبرق لأنها غاضبة، فأنت مخرف من النوع الأول. ولو قلت: إن السفر يوم الأحد مشئوم، ونعيق الغراب نذير بالموت، فأنت مخرف من النوع الثاني، وفي كلتا الحالتين أنت خارج بإدراكك للأشياء على منهج «المتمدن» في هذا العصر الذي أبرز ما فيه هو العلم وما يؤدي إليه وما ينتج عنه.

حتى الآداب والفنون قد أصبح معيارها هو الواقع، ولا أقصد بذلك أن الأديب أو الفنان يقف حيال الظاهرة المعينة موقف العالم الذي يحللها ويصفها بالمقاييس والأرقام، بل أريد أن أقول: إن الآداب والفنون في ميدانها - ميدان التعبير عن النفس وما يدور فيها من مشاعر - أصبحت تنزع بقوة نحو إثبات الواقع، بغير حياء ولا خجل؛ فما قد كان يستحي منه أسلافنا لا يتحتم أن يكون عندنا نحن كذلك موضع استحياء، ومن ثم نرى اليوم أدباء لا يتورعون عن تصوير مجرى شعورهم كما هو، فيكون بين ذلك رغباتهم الجنسية وانحرافاتهم الإجرامية وما إلى ذلك، ونرى اليوم مصورين لا يجلسون أمام الشيء يصورونه كما يبدو، بل يصورونه كما يختلط بأفكارهم في لحظة التصوير، فإذا جلست مثلا إلى طائر تصوره، وأثناء ذلك دق جرس شغل بؤرة شعورك، وجب أن تدخل هذه الصورة الطارئة على نحو ما؛ لأنها جزء منك في اللحظة التي أردت تصوير نفسك فيها، ومن هنا كان كثير مما نعده «خلطا» في التصوير الحديث.

وأما الجانب الوجداني من «المتمدن» في عصرنا الحديث، فأهم ما يميزه هو التأثر بما ينتجه رجال الأدب والفن المحدثون، فأنت متخلف عن عصرك ومدنيته ، إذا لم تأخذ بنصيب - قليل أو كثير - في تقدير ما ينتجه هؤلاء الرجال من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وتمثيل ورقص وغناء، مهما يكن عملك وموضوع اختصاصك؛ فقد تكون طبيبا أو مهندسا أو رجلا من رجال الأعمال، لكنك لكي تكون إلى جانب ذلك «متمدنا» فلا بد من إضافة عنصر آخر هو التمتع بنتاج الفنون.

أقول: إنه لا بد من أخذك بنصيب في تقدير هذه الأشياء كلها، ولا أحتم عليك أن تحب كل ما تراه منها أو ما تسمعه، فلك أن تحب أو أن تكره، على شرط أن يكون حبك وكرهك قائمين على معيار هذا العصر نفسه؛ لأن الآداب والفنون كلها تعبير عن روح العصر، ويستحيل أن تتشرب روح العصر، وتتمرد في الوقت نفسه على كل آدابه وفنونه ...

وأهم ما يميز السلوك عند «المتمدن» الحديث هو مقدرته على ضبط زمام نفسه، فليس من اليسير عليك أن تثير فيه الغضب الذي يطير بصوابه، وهو لا يغلو في مظاهر الفرح ولا مظاهر الحزن، فأنت «متمدن» بمقدار ما يتصرف «الإنسان العاقل» فيك، لا ما يتصرف «الحيوان» منك، والحيوان منك هو الغرائز، تنطلق كما هي بغير ضبط ولا تعديل، وأعجب العجب أننا نفخر بسرعة انفعالنا وشدة هيجان شعورنا، ونصف الأوربي المتمدن في هذه الناحية «بالبرود»؛ لأنه لا ينفعل ولا يهيج.

كذلك ما يميز سلوك «المتمدن» الحديث: طريقته في ملء فراغه، فهو متخلف عن عصره إذا قضى فراغه نائما أو جالسا؛ لأن للفراغ في المدنية الحديثة ألوانا من النشاط كثيرة معروفة، ليس منها النوم والقعود، فهي لعب وارتحال وتغيير لمجرى الحياة المألوفة ...

لقد كنت دائما على اعتقاد بأن تهذيب الحضارة لا يدور - بالضرورة - مع الثروة وجودا وعدما؛ فقد يكون الازدهار الاقتصادي شرطا ضروريا، لكنه ليس شرطا كافيا، فقد يتوافر المال مع غير متحضر، وقد يكون متحضرا من ليس عنده مال، وإنما هي صفات أخرى تلك التي يرتهن بها تهذيب الحضارة، راجع مقالة عنوانها «مقياس الحضارة» في كتابي «هذا العصر وثقافته» تقرأ ما يلي: «إن أرقام الإحصاءات الاقتصادية وحدها لا تكفي؛ لأنها وإن أشارت إلى بعد واحد من أبعاد الموقف [والحديث هنا عن الحضارة] فهي لا تشير إلى سائر الأبعاد، على حين أن الموقف الحضاري إنما هو حصيلة هذه الأبعاد الكثيرة التي تتألف منها الحياة، وكما قد قيل: إن السائر في الحديقة قد تمتعه أشجار السنديان، ومتعته هذه هي جزء من حياته ولا شك، لكن أشجار السنديان تلك لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا بعد أن تزول من الوجود بصفتها أشجارا في الحديقة، أعني أنها لا تدخل في إحصاءات الاقتصاد إلا إذا اقتلعت وقطعت وبيعت شرائحها في أسواق الخشب ...»

إنه لا بد لقياس التفاوت الحضاري بين حياة وحياة أن تؤخذ «غزارة» الحياة أو عمقها في الاعتبار، ولا يكتفى بقياسها طولا وعرضا، فيؤخذ في الاعتبار مقدار ما ينعم به الإنسان من «يسر» بأوسع معاني هذه الكلمة؛ لأن الحياة الميسرة تتطلب - إلى جانب ارتفاع المستوى الاقتصادي - جوانب أخرى قد يصعب حسابها بدقة الحساب، كالصحة البدنية ليخلو الإنسان من المرض والضعف، والصحة النفسية التي تتيح له أن يعبر عن فطرته تعبيرا كاملا يخرج من تلك الفطرة جميع ممكناتها، وتكافؤ الفرص بين الناس في العمل وفي التمتع بأوقات الفراغ.

4

إنني إذ أدعو إلى ثقافة تساير العصر، فذلك لعلمي بأن الثقافة قد تغيرت معانيها مع تعاقب العصور، وليست هي كالعنصر من عناصر الكيمياء يظل ذا صفة مميزة، فلا يتغير مع الزمن ولا يتبدل، فما كان شرطا ضروريا للمثقف في مرحلة معينة لم يعد كذلك في مراحل أخرى جاءت بعد ذلك، ولنأخذ تاريخ المسلمين مثلا نوضح به ما نريد: كانت الثقافة قبل الإسلام لا تعني إلا رمح المحارب، فذلك الرمح كانت تطلب له قناة مثقفة؛ أي مسواة مقومة مستقيمة، فما هو إلا أن ظهرت الدعوة الإسلامية بكل ما جاءت به من بحر زاخر في مبادئ الأخلاق الفردية والاجتماعية جميعا، حتى قفز معنى «الثقافة» قفزة هائلة، نقلتها من ميدان الرماح وقنواتها إلى فطنة العقل وذكائه، وكانت النقلة على يدي أديب العربية الجبار أبي عثمان عمرو الجاحظ، لم تعد «الثقافة» تسوية العود الذي يركب عليه سنان الرمح ليصلح للقتال، بل أصبحت في استعمال الجاحظ لها (ذلك في القرن التاسع الميلادي) تسوية الفكر؛ ليصبح بفطنته وذكائه قادرا على حل مشكلات الحياة، والذي أدى إلى هذا التغير الهائل في وجهة النظر هو التغير الحضاري الذي شمل الناس بعد الإسلام.

على أن تثقيف العقل بما يتفق مع الحضارة الجديدة كانت له وسائله الضرورية من وجهة النظر السائدة، وأول تلك الوسائل وأهمها هو دراسة اللغة بكل ما تستلزمه تلك الدراسة من علوم النحو وقواعد الاشتقاق وإيراد الشواهد من الشعر الجاهلي أو النص القرآني الكريم، ولماذا جعلوا أهم سمات المثقف يومئذ إلمامه باللغة إلماما جيدا؟ كان ذلك لسببين ظاهرين: أولهما أن يتأكدوا من قدرة المثقف على فهم الكتاب الكريم فهما صحيحا، وعلى مثل هذا الفهم الصحيح يتوقف الفقه الإسلامي كله، وثانيهما أن يكون للحكام المسلمين في البلاد التي دخلت الإسلام (كمصر وفارس مثلا) ما يعتزون به في الحياة الثقافية إذا ما واجهتهم ثقافة تلك البلاد التي يحكمونها.

كان ذلك كله عندما كان الحكم للمسلم الذي هو من أصل عربي، فلما جاءت الدولة العباسية ومعها سياسة جديدة، وهي أن يكون الحكم للمسلم - عربيا كان أم غير عربي - دخلت «الثقافة» في مرحلة جديدة، وأصبح المثقف إنسانا لا يقتصر علمه على اللغة وملحقاتها والفقه الإسلامي ومذاهبه، بل اقتضى الأمر إضافة جديدة تتناسب مع الوجه الحضاري الجديد، وتلك الإضافة هي الإلمام بتراث الحضارات الأخرى وفي مقدمتها حضارة اليونان الأقدمين، وهنا أقام الخليفة المأمون دارا لترجمة التراث اليوناني العقلي من فلسفة وعلم، ولم يعنوا بنقل الأدب والتاريخ.

وسرعان ما أصبحت هذه الجوانب المنقولة عن اليونان شروطا أساسية لا بد من توافرها فيمن أراد أن يسلكه الناس في زمرة المثقفين. وبهذا تكون الثقافة العربية قد جاوزت حدود القومية الضيقة إلى حيث العالم الفسيح بآفاقه البعيدة، ولعل المسعودي كان يشير إلى مثل هذا المعنى بعنوان كتابه «نزهة المشتاق لاختراق الآفاق»، وحقا كانت نزهة من اشتاق من أسلافنا إلى حياة المثقفين في أن يخترق الآفاق إلى بلاد غير بلاده حتى يعيش عصره كاملا، وولاؤنا لآبائنا إنما يقتضينا أن نخترق الآفاق كما اخترقوا، لنعيش عصرنا كاملا كما عاشوا.

لكن هذا الاختراق للآفاق لا ينبغي أن يضيع مني ركنين أساسيين هما: العقيدة الدينية واللغة العربية، إن عقيدة أسلافنا لم تنقص مثقال ذرة حين اخترقوا الآفاق ليعبوا من حضارة الهند ومن حضارة اليونان وغيرهما، وكذلك بالنسبة لعقيدتنا إذا نحن فتحنا صدورنا اليوم لحضارة عصرنا وثقافته، وأما اللغة العربية فلا بد لها - لكي تظل حية - أن تملأ أوعيتها من ثقافات العصر، وبمقدار ما يجري في اللغة من علوم العصر ومعارفه يكون لنا الحق في الانتماء إليه مع سائر أبنائه (راجع مقالة «المثقف الجديد» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة».)

ما الذي يثير الضحك والإشفاق معا على شخصية «دون كيخوته»؟ لقد قرأ الرجل عن حياة الفرسان في العصر السابق على عصره، وأعجبته تلك الحياة فيما قرأه عنها، فأراد أن يحياها، فلو كان دون كيخوته يعيش في عصر الفروسية فعلا لما أثار ضحكا ولا إشفاقا؛ لأنه في تلك الحالة رجل يعيش عصره، أما والحالة غير ذلك إذ يعيش الرجل في عصر لاحق، ويريد أن يحيا عصرا مضى، بناء على مادة مقروءة في كتب، فذلك هو ما جعله أعجوبة تدعو إلى السخرية، فكأنما هو إنسان قوامه عبارات وكلمات قرأها وحفظها، وليس قوامه لحما ودما يسلكانه مع الأحياء، وتلك هي صورة صادقة لكل من تنكر لدواعي عصره واهتماماته ومشكلاته، ثم ربط ثقافته بمحفوظات نقلها عن صفحات كتب الأقدمين (راجع مقالة «إنسان من حروف» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

تغيرت ظروف عصرنا عما كانت عليه ظروف العصور السابقة، ولا بد - بالتالي - أن تتغير ثقافة المثقف اليوم عما كانت عليه ثقافة المثقف أمس، تلك بديهية لم تكن تحتاج إلى كاتب يعرضها على الناس ويدافع عنها، لكن فريقا من مواطنينا المعاصرين - ربما كان هو الجزء الأعظم من هؤلاء المواطنين - ما يزال مشدودا بثقافته إلى كتب الأقدمين، بغض النظر عما يعج به عصرنا من حياة جديدة لها اهتماماتها ومشكلاتها التي لم يعرفها أولئك الأقدمون، مما دعا أنصار الجديد إلى الكتابة في تلك البديهية التي لم تكن تحتاج إلى كتابة، وكنت فيما كتبته واحدا من هؤلاء الكاتبين.

كان المثل الأعلى للإنسان العربي القديم هو أن يكون ذا قلب حساس ولسان معبر عن خوالج ذلك القلب، ولقد رسم شاعر قديم صورة ذلك المثل الأعلى في بيت من الشعر الجيد، حين قال:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

أي إن كل ما عدا الفؤاد واللسان، فهو إطار جسدي خلق ليحمل ذلك الجوهر، وترانا إلى يومنا هذا نردد هذا البيت على ظن منا بأن صورة الإنسان الذي كان كاملا فيما مضى ما زالت هي صورة الإنسان الكامل بمقاييس هذا العصر. ولا عجب أن ننفق الشطر الأعظم من طاقتنا في الكلام؛ لأنه بالكلام المعبر عما يدور في أفئدتنا تكتمل الصورة، لكن عصرنا هذا قد جاء يطلب من أهله شيئا آخر هو «العمل» حتى ولو كان صامت اللسان، فوجب على العربي الحديث أن يغير من صورة الكمال التي رسمها له الشاعر القديم، وبعبارة أخرى: فإن ثقافة جديدة تحض على العمل، لا بد أن تنهض وتقوى لتحل محل ثقافة كان محورها فؤادا يخفق بالعاطفة ولسانا يعبر عما خفق به الفؤاد (راجع مقالة «من الكلامولوجيا إلى التكنولوجيا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

5

لم تكن دعوتي إلى ثقافة الغرب صيحة مجنونة مفتونة بظواهر كاذبة، بل هي دعوة دفعني إليها ما رأيته من مكانة رفيعة للإنسان - كل إنسان وأي إنسان - من حيث إنه إنسان وكفى، فعندئذ قارنت - رغم أنفي - بين ما رأيته هناك، وما كنت أعلمه عن قيمة الإنسان في ثقافتنا المصرية كيف تعلو وتهبط مع درجات السلطة والنفوذ والثراء ونوع العمل. فهل كان يمكن أن أرى ذلك الفارق الشاسع بين الثقافتين وما أنتجه ذلك الفارق من معايير يقاس بها الناس هناك وهنا، دون أن أبحث عن السر لأدعو إلى الأخذ بكل ما من شأنه أن يكسب الإنسان كرامته، وبكل ما من شأنه كذلك أن يدفع بالناس إلى الأمام في شوط الحضارة؟

ولم يكن «السر» الذي كشفت عنه في ثقافتهم سرا واحدا، بل هو عدة أسرار تآلفت كلها على صناعة المجتمع الجديد؛ فهناك العلم وهنالك العمل وهنالك العدل الاجتماعي وهنالك حرية الفرد واعتزازه برأيه وبالطريقة التي يختارها لحياته، وها أنا ذا أضيف صفة أخرى هي روح المغامرة التي تنتهي بهم إلى اقتحام الطبيعة للكشف عن مكنونها، فإذا حصيلة ذلك بين أيديهم علم وابتكار.

وحدث لي أن سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأكون أستاذا زائرا خلال العام الجامعي 1953-1954م، فأردت منذ اللحظة الأولى من رحلتي أن أفتح عيني لأرى كل ما استطعت رؤيته من طرائق التفكير وأساليب العيش عند هؤلاء القوم، وجمعت مشاهداتي وأفكاري التي تجمعت على مدى العام في كتاب «أيام في أمريكا». كانت اليومية الأولى في الطائرة التي أقلتني وعبرت بي المحيط الأطلسي لأول مرة في يوم الأربعاء 16 سبتمبر 1953م، وكان بين ما ورد فيها هذه الخاطرة: «... أطفئت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلحون من مقاعدهم ليناموا ... نظرت إلى المحيط فلم أر محيطا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوا مفضضا، فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسا على السحاب من تحتنا، فأحدث هذا اللون الفضي.

ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان؛ قارن بينك الآن وأنت تعبر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر، وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك ليتبعوه، إن خيال رجل واحد وجرأته فتح للناس عالما جديدا، وشق لهم طريقا جديدا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر، فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع ، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا ندرك فرقا بين مبتكر الطائرة - مثلا - وبين من يركب الطائرة على نموذج أمامه، سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر، فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب، ولا بين شرق وغرب! لكن الفرق - يا صاحبي - هو نفسه الفرق الذي يقع بيني وبين كولمبس في عبور المحيط، عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.»

وفي هذا المعنى نفسه كتبت يومية الثلاثاء أول ديسمبر 1953م (وكنت في مدينة كولمبس بولاية كارولاينا الجنوبية لفترة الفصل الدراسي الأول من ذلك العام الجامعي) فقلت: «قرأت في مجلة» لايف موضوعا شائقا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط؟ كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أعد كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ كل ذلك معروض عرضا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.

ويكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته؟ ثم أسأل نفسي: ماذا تصنع مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئا؟ أقول: إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا؛ لأدرك لب الفرق بين شعب وشعب، فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث رجالها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون إلى قاع المحيط، ويلاحظون ويصورون ويصفون؛ فالمسألة كلها - من أولها إلى آخرها - من تدبير المجلة؛ فهو تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق ... أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ إنها تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وما صورته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك: إنه «أديب». خلط وجهل وادعاء! ها هنا كل الفرق بيننا وبينهم، فليس الفرق المهم هو ثراؤهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا، يستحيل أن نتقدم تقدما حقيقا إلا إذا كان لنا ابتكار، وإلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانا، أما أن يبتكروا هم الطيارة - مثلا - ونحن ننقلها، ونقول: إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول: إن منا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس، فإغماض لأعيننا عن سر التقدم وسر المدنية كلها، بل سر الإنسان وهو الابتكار، يعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرق بعيد بعد ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين من يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شق وعبد بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرق بين هذا وذاك هو نفسه الفرق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرا مغامرا مفكرا مدبرا.

6

كثيرة هي تلك الخصائص التي رأيتها عند بناة الحضارة الجديدة في الغرب، وتمنيت لو رأيتها في بلدي، ولم أكن - بالطبع - أول من رأى وتمنى، فها هم أولاء أعلامنا على امتداد القرن العشرين، بل ماذا أقول؟ أأقول: أعلامنا منذ رفاعة الطهطاوي في الثلث الأول من القرن الماضي؟ ها هم أولاء أعلامنا جميعا قد رأوا كما رأيت وتمنوا كما تمنيت، وإنك لتقرأ لهم ما كتبوا، فتحس كأنما هم يشدون أذنيك شدا لتسمع جيدا بأي الصفات ينبغي لنا أن نتخلق في عصرنا هذا لنكون من أبنائه؟ ولعلك واجد عندهم ما وجدته أنا من بروز صفتين أساسيتين يريدون لهما الرسوخ في أنفسنا، وهما «الحرية» و«التعقيل» (أعني الاحتكام إلى العقل في أمور حياتنا الموضوعية)، وهما صفتان تلخصان أميز ما يميز شعوب الغرب المتقدمة.

طلبت مني الإدارة الثقافية في الجامعة العربية - في آخر الأربعينيات أو في أول الخمسينيات - أن أضع تصوري للفكر العربي كما كان قائما في ذلك الحين، فقدمت إليها ما يوضح رؤيتي، وكانت صفتا «الحرية» و«التعقيل» - فيما رأيت - أهم ما ألح مفكرونا وأدباؤنا على المطالبة به (راجع فصل «الفكر العربي المعاصر، اتجاهه وخصائصه» في كتابي «قشور ولباب»)، أما «الحرية» فقد كان الجانب السياسي منها أبرز ما شغل كتابنا، برغم أنهم كانوا في ذلك الميدان تابعين لزعماء الأحزاب السياسية، ولكنهم لم يقصروا أنظارهم على الحرية بمعناها السياسي وحده، بل وسعوا الأفق حتى شمل ضروبا أخرى من الحرية: «... إننا إذ نقول: إن الدعوة إلى الحرية سمة تميز فكرنا العربي المعاصر، نضع في اعتبارنا مظاهر قد تبدو تافهة إذا أخذت فرادى، لكنها هي القطرات التي يتكون منها التيار الدافق، فإذا رأيت الشعراء يجاهدون في تحطيم التقاليد الشعرية الموروثة ما استطاعوا إلى تحطيمها من سبيل، وإذا رأيت ألوانا جديدة تخلق في أدبنا خلقا من العدم أو شبهه كالقصة والمسرحية، وإذا رأيت البائع في الطريق يحاول أن يحدد حقوقه إزاء الشرطي الذي يمثل الحكومة، والشاب الناشئ يريد أن يثبت شخصيته أمام أبيه أو معلمه، والزوجة تجاهد في اكتساب حقها كاملا في محيط الأسرة، إذا رأيت هذا كله ممثلا فيما ينشره المفكرون بيننا، فاعلم أنه تيار فكري واحد، يدفعنا نحو الحرية ونحو الكرامة الإنسانية مهما تعددت ألوانه فيما أنتجه هؤلاء المفكرون.» (كتاب «قشور ولباب» صفحة 120).

وأما محاولة «التعقيل» - وهي الصفة الثانية مما كنت رأيته مميزا للفكر العربي المعاصر - فقد كان لها وجهان: الأول اغتراف من المدنية الأوروبية، والثاني مجهود جبار نحو إحياء التراث العربي القديم، مصحوبا بدفاع عقلي يحاول أن يبرر له مكانا من ثقافة العصر الحاضر وفكره.

إنني لو تعقبت ما ورد في كتابتي عن هاتين الفكرتين: حرية الإنسان وعقلانية النظر باعتبارهما أسسا لا بد منها في شخصية المصري الجديدة التي ننشدها له ليساير بها عصره؛ لأوشكت ألا أجد مرحلة من مراحل حياتي العقلية خالية منهما؛ فهما عندي وسيلتان، وهما عندي كذلك هدفان، فها هنا لا اختلاف بين الوسائل وأهدافها؛ فوسيلتي في الكتابة هي حرية التعبير وعقلانية الرؤية، وهدفي مما أكتبه هو أن أكون حرا وأن أكون عاقلا، وأن أجعل سواي معي أحرارا وعقلاء.

ولست أظن أن حرية الفرد وعقلانيته قد كانتا دائما صفتين للمصري في كل عصوره، لا لأنه مقصر أو قاصر، بل لأن العصور الماضية لم تكن تقتضيهما بنفس القوة التي تقتضيهما هذا العصر؛ فحرية الأفراد مطلب حيوي في يومنا ما دام حكم الشعب قد أصبح في أيدي الشعب نفسه، ولم يكن أمره كذلك دائما، وعقلانية النظر في يومنا منهج لا غناء عنه ما دام «العلم» قد أصبح أهم ركن من أركان الحضارة الراهنة، وأيضا لم يكن أمره كذلك دائما.

لكن إلحاحنا في السعي وراء هاتين الركيزتين في حياة الإنسان المعاصر لا ينبغي أن تحجب عنا حقيقة هامة، وهي أن المصري مصري قبل هذا العصر الراهن بعصور طوال، ومعنى ذلك أنه لا بد أن تكون له صفات تدوم على مراحل التاريخ، ثم تضاف إليها صفات تلائم كل عصر مما لا ينفك التاريخ له طيا ونشرا.

في مقالة كتبتها تحت عنوان «بحثا عن الإنسان الجديد» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») بدأت حديثي كما يلي: «للثقافة القومية أصول ثابتة لا تتبدل مع الأيام إلا بالحد الأدنى الذي لا يعيق التقدم، كما أن لها فروعا لا تنفك متغيرة كلما تغيرت الظروف من حولها، الأصول الراسخة تدوم، وهي التي تحدد معالم الشخصية القومية تمييزا لها من سواها، وأما الفروع فهي التي تساير حركة التاريخ دون أن تفقد صلتها الوثيقة بأصولها الرواسخ؛ فالأمر في هذا كقطعة من الذهب يشكلها الصائغ على هيئة الطائر أو على صورة التمساح، يصنع منها سوارا حول المعصم، أو حلية على الصدر، لكنها تظل هي هي بنفسها قطعة الذهب التي كانت، فقطعة الذهب هنا بمثابة ما قلنا عنه: إنه الأصول الثابتة في ثقافة القوم، وأما الصور التي تشكلت بها فهي الفروع التي تتنوع دون أن تضيع منها الصلة الحميمة المباشرة بأصولها.

وهكذا نريد لحياتنا الثقافية أن تكون، فتجيء منسوبة إلى جذورها التاريخية من جهة، ومتطورة مع ظروف عصرها من جهة أخرى.»

الفصل الرابع

التجريبية العلمية

1

كانت لحظة نادرة من ربيع سنة 1946م تلك التي كنت فيها جالسا - كعادتي كل يوم - أطالع وأكتب وأدون المذكرات، في المكتبة العامة بالمبنى الرئيسي لجامعة لندن، عندما أحسست بما يشبه اللمعة الذهنية تتوقد لتضيء لي طريقي منذ ذلك الحين وإلى الساعة التي أكتب فيها هذه الصفحات (1982م)، وكان الموضوع الذي أطالعه عندئذ هو عرض لموقف فلسفي لم يكن قد مضى على ولادته في صورته المعروضة أكثر من ربع قرن، وأسماه أصحابه يومئذ بالوضعية المنطقية، وهو نفسه الذي أطلق عليه فيما بعد اسم «التجريبية العلمية»، وأما اللمعة الذهنية التي أحسست بها في تلك اللحظة، فهي شعوري بأنني أقع هنا دون سائر التيارات والمذاهب، ولم يبد لي الأمر مقصورا على مزاج شخصي يتفق وذلك الموقف الفلسفي الجديد، كأنما هو ثوب فصل على طبيعة تفكيري تفصيلا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا.

ولا أظنني مسرفا في القول إذا زعمت بأنني منذ تلك اللحظة من ربيع سنة 1946م وحتى هذه الساعة ظللت داعيا إلى تلك الوقفة الفلسفية العلمية في كل ما كتبته بطريق مباشر مرة وبطريق غير مباشر مرات، فكانت الدعوة بالطريق المباشر كلما أخذت أتناول الموضوع بالشرح والتوضيح، وكانت بالطريق غير المباشر كلما كان موضوع الكتابة شيئا آخر غير الفلسفة، كالنقد الأدبي مثلا، لكنني نظرت إليه بمنظار الوضعية المنطقية، وحاسبت نفسي حسابا عسيرا في دقة الصياغة اللفظية كما تريد لنا تلك الوقفة الفلسفية أن نفعل تجاه اللغة كتابة وقراءة.

فماذا يقصد بعبارة «الوضعية المنطقية» التي أطلقت بادئ الأمر على تلك النظرة الفلسفية، والتي أرادت لي الأقدار أن أتخذها لنفسي هاديا ونبراسا؟ فأما أولى اللفظتين - وهي كلمة «الوضعية» - فقد كانت قبل ذلك وحدها اسما على مذهب فلسفي بلغ قمة ازدهاره في فرنسا في أواسط القرن التاسع عشر على يدي فيلسوفهم «أوجست كونت»، وخلاصة دعوته هي أن النظرة العلمية الحديثة تقتضي أن تنحصر رؤية الباحث العلمي في حدود ما هو واقع، أي في حدود ما هو ظاهر لأعضاء الحس وأدوات التجربة ، وبذلك تكون «ظواهر» الطبيعة (الحظ جيدا كلمة «ظواهر» وما تعنيه) هي وحدها محل النظر العلمي، بحيث لا تكون العوامل التي تعلل بها حدوث تلك «الظواهر» إلا مأخوذة من دنيا التجربة البشرية داخل حدود ما هو واقع، وكان أوجست كونت قد ذكر ثلاث مراحل للفكر البشري في تطوره، جعل الرؤية الوضعية العلمية ثالثتها، أما أولاها فهي ما أسماه بالمرحلة اللاهوتية، وأما الثانية فهي ما أسماه بالمرحلة الميتافيزيقية، فافرض مثلا أن موضوع التساؤل من الإنسان المتطلع للمعرفة، هو: ما الذي يكسب النبات نماءه؟ ففي المرحلة الأولى كان الجواب هو: إله النبات، وفي المرحلة الثانية كان الجواب مبدأ من المبادئ الميتافيزيقية عند الفلاسفة، فهو عند أرسطو - مثلا - أن «المادة» قد داخلها «صورة» قوامها اغتذاء ونماء، وأما الجواب في المرحلة الوضعية العلمية الثالثة فهو تعليل بيولوجي لما يحدث من امتصاص النبات لعناصر معينة من التربة والماء والضوء، إلخ.

ذلك عن معنى «الوضعية»، فماذا يراد بكلمة «المنطقية» المضافة إليها في عنوان الحركة الفلسفية المشار إليها؟ يقصد بها أن النظرة الغامضة يكفيها قبل مراجعة الظواهر الطبيعية نفسها لمعرفة الصواب أو الخطأ فيما يقال عن تلك الظواهر، يكفيها تحليل البناء اللفظي نفسه للعبارة المقولة عن إحدى ظواهر الطبيعة؛ لأن في ذلك البناء اللفظي - واحتكاما إلى منطق اللغة ودلالاتها - يمكن الحكم على العبارة المعينة إن كانت - أساسا - مقبولة لكونها ذات معنى يستحق البحث، أو مرفوضة لكونها غير ذات معنى، وبالتالي فهي ليست جديرة بمراجعتها على الطبيعة، ومن هذا يتبين أن الوضعية المنطقية ليست «مذهبا» بقدر ما هي «منهج» للنظر العلمي، يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرض صلبة لا تميد تحت قدميه، وكيف يكون له ذلك إذا لم يستوثق أولا من الأداة اللغوية التي يستخدمها في حمل أفكاره، فيعرف متى تتوافر لها منطقية البناء ومتى لا تتوافر، وهو في ذلك شبيه بالصراف في دنيا المال، لا بد له من التمييز بين العملة الصحيحة والعملة الزائفة، فتلك خطوة أولى قبل دخول المتعاملين في الأخذ والعطاء.

2

الوضعية المنطقية أو التجريبية العلمية (فهاتان عبارتان مترادفتان) تصب اهتمامها كله - لا أقول «بعض» اهتمامها أو «معظم» اهتمامها - بل أقول: إنها تصب «كل» اهتمامها في مجال التفكير «العلمي»، وليس التفكير العلمي هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزء، وقد لا يكون هو الجزء الأكبر من ذلك النشاط، فهنالك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان والفن والشعر وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية والانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبر عنها قولا وسلوكا، لكنه هو التفكير «العلمي» وحده الذي يستوعب اهتمام الوضعية المنطقية، وهذه نقطة هامة؛ لأن الشروط التي يتطلبها التفكير العلمي قد لا تكون هي التي تتطلبها الحياة الوجدانية عندما تعبر عن نفسها بصورة من الصور الكثيرة التي ذكرنا بعضها، فإذا قلنا - بناء على منهج التجريبية العلمية: إن عبارة كهذه «الشعور الوطني قيمة أخلاقية عليا» هي «بغير معنى» فإنما يكون المراد أنها عبارة لا تندرج في نوع العبارات التي تخضع لمنهج التفكير العلمي، لكن ذلك لا يخرجها من مجال العبارات الوجدانية المحركة لمشاعر الإنسان، ونقول ذلك لأن الخلط بين النوعين من الكلام سريع الوقوع، وما أهون على القارئ المتسرع أن يتهم الكاتب بزيغ في إيمانه الديني أو بضعف في عاطفته، إذا وجده يخرج هذه الجوانب من مجال العبارات ذوات المعنى العلمي، ولقد عانيت من أمثال هذا القارئ المتسرع عناء الله وحده أعلم بمداه.

إذن فهو مجال التفكير العلمي وحده الذي نعنيه بكل ما سوف نذكره عن التجريبية العلمية ومقاييسها المنهجية التي على أساسها تقبل من أنواع الكلام ما تقبله وترفض ما ترفضه، ولعله كان أعظم كشف فلسفي في عصرنا هذا ذلك الكشف الذي ميز به فلاسفة العلم بين نوعين من العبارات العلمية ذاتها، هما: العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية؛ فلكل من المجموعتين أسس خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يحكم بها على صدقها أو كذبها.

ولقد جاء هذا الكشف الفلسفي الهام في عصرنا (وسنوضح للقارئ مواضع أهميته البالغة بعد قليل) بعد أن مرت بالإنسان عصور طوال منذ بدأ فكرا فلسفيا وإلى أمس القريب يحسب أن الوقفة العلمية واحدة في جوهرها، لا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضي الطابع أو ذا خصائص تجعله من قبيل العلوم الطبيعية، ولما كان الفكر الرياضي - كما هو معلوم - يبلغ بنا درجة «اليقين» الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك؛ فقد اتجه معظم الفلاسفة فيما مضى بجهودهم نحو البحث عن الوسيلة التي يخضعون بها العلوم الطبيعية لمنهج الفكر الرياضي، لعلها تبلغ ما يبلغه هذا الفكر الرياضي من «يقين»، ولم يعدم تاريخ الفلسفة رجالا ينشدون عكس ذلك؛ إذ ينشدون إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية (ومن هؤلاء جون ستيورات مل).

أما وقد كشفنا عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها في حالة الفكر الرياضي من جهة، وفي حالة الفكر الطبيعي من جهة ثانية؛ فقد عرفنا ألا مجال لاختلاط أحدهما بالآخر، فأولهما (الفكر الرياضي) تحليلي وثانيهما تركيبي، بعبارة أخرى: العبارة الواحدة من عبارات المجال الرياضي (كالمعادلة مثلا) فيها تكرار للحقيقة الواحدة مرتين: وإن تكن واردة في كل مرة منها برموز غير الرموز التي ترد بها في المرة الثانية، فانظر إلى قولنا: «2 + 3 = 5» تجد أن الحقيقة الواردة في الشطر الأول «2 + 3» هي نفسها الحقيقة الواردة في الشطر الثاني، وإذن فالجملة تحصيل لحاصل، ومن هنا جاء يقينها؛ إذ من أين يجيء الخطأ إذا نحن قلنا: إن «س» هي نفسها «س»؟ وما كذلك العبارة من عبارات العلم الطبيعي بكل فروعه (ومنها العلوم الإنسانية)؛ لأنها وليدة «تجربة»، وبالتالي فهي تحمل إضافة جديدة إلى الموضوع الذي نتحدث عنه، من هنا يجيء احتمال الخطأ، فإذا قلنا عن الماء: إنه يتجمد في درجة الصفر المئوية كنا بمثابة من يضيف معرفة جديدة عن الماء، وما دام الأمر كذلك فهنالك احتمال أن يكون الباحث التجريبي قد أخطأ القياس، فبينما الجملة الرياضية - منطقيا - لا بد أن تكون صحيحة؛ لأن الخبر فيها لا يضيف إلى المبتدأ شيئا جديدا، بل يكرره هو نفسه برموز أخرى، نرى الجملة في العلوم الطبيعية - منطقيا - تحتمل الخطأ؛ لأنها معتمدة على «التجربة» التي تحمل في طيها معرفة لم نكن نعلمها عن الموضوع الذي نتحدث عنه.

ولهذا الفرق بين النوعين من العلوم كان لكل من المجموعتين منهج يختلف عن منهج النوع الثاني؛ فالرياضة منهجها «استنباطي» بمعنى أننا نضع «فروضنا» في صدر العملية الاستدلالية، ومنها نستولد النتائج، فإذا سئلنا عن إحدى هذه النتائج: كيف تبرهنون على صدقها؟ كان جوابنا هو أن نبين كيف أنها نتيجة متولدة من الفروض توليدا منطقيا سليما؛ أي إن برهان صوابها لا يعتمد على أنها منطبقة على وقائع العالم الطبيعي، وأما العلوم الطبيعية فيبدأ منهجها بمعلومات نجمعها من الواقع الذي نبحثه، محاولين جهدنا أن تكون تلك المعلومات معتمدة على مشاهدات دقيقة وعلى تجارب محكمة، ثم نستخرج من تلك المعلومات المتجمعة فكرة تضمها معا وتفسرها جميعا، فتكون هذه «الفكرة» التي نجحت في تفسير الظواهر المشاهدة بمثابة قانون من قوانين الطبيعة يمكن أن يتغير فيما بعد لو ظهرت شواهد جديدة يتعذر تفسيرها به، وهكذا كانت قوانين العلوم الطبيعية «احتمالية» الصدق، بينما حقائق العلوم الرياضية بالغة دائما درجة اليقين.

3

ونسأل الآن: ما أهمية هذه التفرقة بين مجموعتي العلوم الرياضية والطبيعية في مواقفنا الثقافية العامة؟ النقطة الأولى في جوابنا عن هذا السؤال هي: أن مجال التعبير الوجداني بكل أشكاله لا هو من قبيل الفكر الرياضي موضوعا ومنهجا، ولا هو كذلك من قبيل الفكر الطبيعي موضوعا ومنهجا؛ ولذلك نخطئ إذا نحن عاملناه بمقياس أي من المجموعتين.

هب قائلا زعم لك أن منظر الغروب عند البحر رائع، وكنت أنت ممن ينقبضون لرؤية الغروب أينما كان، فماذا أنت قائل عن هذا الاختلاف؟ أتقول: إن صاحبك قد «أخطأ» وإنك أنت على «صواب»؟! أم أن موقفا كهذا ليس مما يوصف بصواب هنا وخطأ هناك؟ لو كانت هذه العبارة من قبيل المعاملات الرياضية لوجدنا «الروعة» هي نفسها العناصر المكون منها «الغروب»، ولكن الواضح هنا أن أحد الطرفين لا ينحل إلى الآخر، ثم لو كانت العبارة من قبيل الكلام في العلوم الطبيعية لوجدنا المرجع الخارجي الذي يفصل بين الحكمين السالفين عن ساعة الغروب؟ وحقيقة الأمر أن كلا من المتحدثين يستند إلى شعوره الباطني الخاص الذي لا يؤيده ولا يفنده شعور باطني آخر عند شخص آخر.

فإذا قلنا باصطلاح التجريبية العلمية: إن العبارة السالفة - «منظر الغروب عند البحر رائع» - هي بغير معنى، كان المراد هو أنها لا تخضع لمقاييس العلوم بمجموعتيها، وأنها بالتالي لا يجوز أن توصف بأنها صادقة صدقا عاما ضروريا، ولا بأنها كاذبة كذبا عاما ضروريا؛ إذ إن صدقها «خاص» بقائلها، وكذبها «خاص» كذلك بمن ينقبض لمنظر الغروب ... وقل شيئا كهذا في جميع العبارات التي يقولها أصحابها تعبيرا عن وجدانات خاصة أو اعتقادات خاصة أو ما إلى ذلك من الجوانب الشعورية التي لا غنى عنها في حياة كل إنسان لكنها في الوقت نفسه لا تلزم أحدا غير صاحبها.

والنقطة الثانية في جوابنا على السائل: وما أهمية التفرقة بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة موضوعا ومنهجا في حياتنا الثقافية العامة؟ هي أن شرائح عريضة من البنيان الثقافي أيا كان وأينما كان تنصب في قالب الفكر الرياضي، وإن لم تكن فكرا رياضيا بالمعنى المحدود لهذه العبارة، وأعني بقالب الفكر الرياضي ذلك الترتيب المعين في مراحل التفكير الذي يضع في الصدر «فروضا» يجعلها مسلمة بغير حاجة إلى برهان؛ لتكون هي نفسها السند الذي يعتمد عليه في البرهنة على صدق النتائج التي تتولد منها ومن تلك الشرائح الثقافية، بل ربما كان أهمها علوم الدين في أي دين؛ لأن لكل دين كتابه الذي يبدأ منه، ويجعله أمرا مسلما لا يقام عليه برهان؛ إذ يكفيه عند المؤمنين به أنه من قلوبهم موضع «إيمان،» ومن هذا الكتاب يستخرج أنصاره - أو الفقهاء منهم - أحكام ذلك الدين المعين، فإذا سئل أحدهم عن حكم من تلك الأحكام: ما برهانك على صوابه؟ كان جوابه أنه يرد الحكم إلى الأصل الكتابي الذي استخرجه منه، وفي هذا ما يحسم الرأي، لكنه يحسمه عند أصحاب ذلك الدين، أما غير أصحابه فهم غير ملزمين بقبول السند نفسه الذي يرجع إليه عند الاحتكام.

فلو أدركنا هذه البنية الرياضية في مثل هذا المجال؛ لانتفى الخلاف بين مجموعتين إحداهما تتبع كتابا والأخرى تتبع كتابا آخر، والشيء نفسه يقال عن شريحة ثقافية أخرى تنصب كذلك في القالب الرياضي وهي شريحة الفكر السياسي؛ لأن كل مذهب من مذاهب السياسة يتخذ لنفسه بادئ الأمر «مبدأ» معينا - وانظر إلى كلمة «مبدأ» ومعناها إذ يعني: النقطة التي يبدأ منها التفكير، ومن المبدأ نستخرج النتائج والأحكام ووجهات النظر، فإذا كانت نقطة البدء عند جماعة هي الديمقراطية الليبرالية، وكانت نقطة البدء عند جماعة أخرى هي الديمقراطية الاشتراكية، كانت كل جماعة منهما ملتزمة لمبدئها عند قبول الأفكار ورفضها، وبالتالي فإن ما هو واجب التنفيذ عند إحداهما لا يكون ملزما للجماعة الأخرى، ونستطيع أن نسوق أمثلة كثيرة من حياتنا الثقافية لضروب من اختلاف الرأي القائم أساسا على اختلاف في الفروض، فلا يجوز في هذه الحالة أن يتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندا إلى «مبادئ» غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى.

النقطة الثالثة التي نذكرها جوابا عن سؤال السائل: وما أهمية التفرقة بين بنية الفكر الرياضي وبنية الفكر الطبيعي في حياتنا الثقافية العامة؟! هي أن نكون على وعي تام بأن كل من يسوق لنا كلاما زاعما أنه بكلامه ذاك إنما يصف جانبا من الوجود الخارجي الواقع، عليه أن يقبل إخضاع ما يقوله لمقياس التجربة الحسية عند الآخرين من بصر وسمع ولمس وغيرها، أما أن يزعم لأقواله بأنها وصف للواقع الفعلي، ويعجز عن بيان المطابقة الحسية بين ما يقوله وبين ما هو محسوس لنا، بل إنه أحيانا يثور غاضبا إذا طالبناه بالرجوع إلى تجربة حواسنا معيارا للصدق، فذلك ما نرفضه رفضا لا تردد فيه إذا كنا على إدراك واضح بما أسلفناه عن طبيعة الكلام المقبول في مجال العلم الطبيعي.

كان الفيلسوف البريطاني ديفد هيوم (في القرن الثامن عشر) قد أقام ميزانا منهجيا للتفكير العلمي ، ولخصه في عبارة مثيرة قال بها ما معناه: تناول الكتب الموجودة كتابا كتابا، واسأل عن كل كتاب منها: أهو من العلم الرياضي؟ لا، أهو من العلم الطبيعي؟ لا، إذن فألق به في النار ... ولقد أراد هيوم بقوله هذا أن أي كلام يريد به صاحبه صدق العلوم ودقتها لا بد له أن يكون إما خاضعا لمنهج الفكر الرياضي، وإما خاضعا لمنهج العلم الطبيعي، ولا ثالث لهذين البديلين، وإننا لنخطئ فهمه إذا ذهب بنا الظن إلى أنه يريد الكتب جميعا على إطلاقها؛ لأنه إذا كان ذلك كذلك فهو يرفض الكتب الدينية ودواوين الشعر والأدب القصصي والمسرحي بأكمله، ولا يرفض هذا كله إلا مجنون، وكان هيوم من أعقل العقلاء، فهو إذن لا يصرف عبارته المذكورة إلا على الكتب التي يدعي أصحابها أنها من «العلم» وهي ليست منه، ومرة أخرى ألفت الأنظار إلى أن ما نورده من مقاييس تضبط القول إنما يراد بها مجال التفكير العلمي دون سواه، وأما مجالات القول الأخرى فلكل منها مقاييسه الخاصة به.

4

كانت مادة «المنطق» - من سائر فروع الدراسة الفلسفية - هي نصيبي منذ ألحقت بقسم الفلسفة من كلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول في ذلك الحين) في خريف عام 1947م، لا لأن «المنطق» هو موضوع دراستي المتخصصة؛ إذ لو كان مجال التخصص أساسا للاختيار لكان نصيبي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، بل إني كلفت بتدريس المنطق؛ لأنه المادة التي لا يقبل على درسها وتدريسها إلا الأقلون، وأغلب الظن أن السادة الزملاء أرادوا التخلص منها، فألقوها على عاتق ذلك الوافد الجديد.

لا بأس، فواقع الأمر في التيار الفلسفي المعاصر الذي اتخذ من «التحليل» مداره الأساسي، هو في حكم تيار جعل درع الفلسفة بأسرها تحليلات منطقية لموضوعاتها بدل أن كان التحليل المنطقي نفسه منظورا إليه على أنه فرع من الفلسفة، فما لبثت أن نظرت إلى المنطق الذي كلفت بتدريسه من زاوية التجريبية العلمية التي كانت شراراتها قد اشتعلت في رأسي منذ تلك اللحظة المشهورة التي قضيتها في المكتبة الرئيسية لجامعة لندن أدرس فلسفة «الوضعية المنطقية» على نحو ما أسلفت عنه الحديث؛ فالمنطق شأنه في ذلك شأن فروع الفلسفة جميعا، يتشكل بالاتجاه العام الذي يتجه إليه الفيلسوف ليس هو بالشيء الذي ينصب في صورة واحدة بعينها كائنة ما كانت مذاهب الفكر الفلسفي ، وعلى هذا تراه يجيء على يدي فيلسوف مثالي مختلفا عن الصورة التي يجيء بها على يدي فيلسوف تجريبي، وعلى سبيل المثال من العصر الحديث: لم يكن منطق هيجل متجانسا مع منطق جون ستيوارت مل (وكلاهما من رجال القرن التاسع عشر).

وكانت الفكرة قد تحددت وتبلورت في ذهني على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة من تدريس المنطق من زاوية الفلسفة الوضعية الجديدة، فأصدرت الجزء الأول من كتابي «المنطق الوضعي» في أوائل سنة 1951م، وكان السر في صياغة عنوانه على هذه الصورة - كما هو واضح مما ذكرته الآن - أنه دراسة لموضوعات المنطق من وجهة النظر التي تأخذ بها «الوضعية المنطقية» (أو التجريبية العلمية): وكان مما قلته - في مقدمة الطبعة الأولى من ذلك الكتاب - هذه العبارة الدالة على اتجاهي: «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية - يكثر أو يقل - بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ... ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة والوضعي المنطقي بصفة خاصة هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه، وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها - لنفسي - ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه ... وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ... ولقد أعددت نفسي للقيام بشيء من هذا التحليل ... لكن الأمر يحتاج أولا إلى وضع قواعد المنطق الذي ينتهي بصاحبه إلى مثل هذه النظرة العلمية ...»

وأسوق هنا أمثلة قليلة من الأفكار الجديدة التي أوردتها بين الأسس المنطقية التي من شأنها أن تنتهي بالدارس إلى نظرة علمية لم يكن قد عني بغرسها أحد من قبل، وأقول ذلك ليحمل عني شيئا من الرد على زملاء جعلوا مهمتهم «العلمية» الأولى أن يسخروا من «المنطق الوضعي» وصاحبه سخرية لو كانت على دراسة لقبلناها شاكرين، لكنها سخرية الغيظ ينفثها العاجزون عن اللحاق بالركب.

ومن تلك الأفكار الجديدة تحديدنا لطبيعة الأسماء الكلية، والاسم الكلي هو ذلك الذي نطلقه على مجموعة أفراد متجانسة تندرج تحت نوع واحد، مثل شجرة، نهر، منزل، إنسان إلخ. وواضح أن الكثرة الغالبة من مفردات اللغة هي من قبيل هذه الأسماء الكلية، وإذا فهمت فهما جديدا كان لذلك أعمق الأثر على تطوير المنهج الفكري، ولقد كان السائد منذ المنطق الأرسطي - وهو نفسه السائد في العرف العام - أن أمثال هذه الأسماء التي نطلقها على «أنواع» إن هي إلا حدود بسيطة يلم السامع بمعناها كاملا فور سماعها، ما دامت اللفظة المستخدمة قد سبق لذلك السامع أن عرفها وعرف استعمالها فيما عرفه من مفردات اللغة، وكيف لا يعرف ما يقصد بقول القائل - مثلا: في الوادي «نهر» وعلى جانبيه «أشجار»؟

لكننا - وقد سلطنا أدوات التحليل الحديثة على تلك الأسماء الكلية - وجدنا كل اسم منها في حقيقة أمره إنما هو «تركيبة» مضمرة فيه، تشبه التركيبة الرياضية التي تحمل بين رموزها رمزا لمجهول، كقولنا مثلا: «س عدد فردي» فإذا سئلنا عن هذه العبارة: أصادقة هي أم كاذبة؟ أجبنا بأننا لا بد أن نعرف أولا إلى أي عدد يرمز الرمز «س»، فإذا كان يرمز للعدد 3 - مثلا - كانت العبارة صادقة، وإذا كان يرمز إلى العدد 4 (أو غيره من الأعداد الزوجية) كانت العبارة كاذبة، أما والتركيبة الرمزية على حالها، والرمز «س» المجهول الدلالة بين رموزها، فلا يمكن الحكم عليها بصدق أو بكذب، وبمعنى آخر فهي لم تكتمل فكرة من الناحية المنطقية؛ لأن «الفكرة» (أو ما يسمى في المنطق بالقضية) هي ما يمكن وصفه بالصدق أو بالكذب.

فالاسم الكلي - أيا كان - ليس في حقيقته «اسما» له مسماه في عالم الوجود الفعلي بالضرورة، بل هو بمثابة عبارة مثقوبة بما هو مجهول، وإلى أن يمتلئ الثقب بفرد معلوم، تظل التركيبة معلقة خارج نطاق الأفكار الكاملة والمقبولة في التفاهم العلمي، وللقارئ أن يتصور مدى الانقلاب الفكري الذي يحدث للدارس إذا هو أعد نفسه ألا يقبل لفظا يرد له في سياق من يحدثه حديثا يزعم له أنه حديث علمي، إلا إذا كان لذلك اللفظ «أفراد» في الوجود الفعلي يشير إليها، فإذا لم يكن للفظة مفيدة «رصيد» بين كائنات الدنيا الخارجية التي نراها بالعين ونلمسها بالأصابع، وجب تغليفها على سبيل العبارة المجهولة الدلالة، فهي مركب ناقص لم يكتمل له كيان «الفكرة» التي يجوز قبولها أو رفضها؛ فالقبول والرفض معا مرهونان باكتمال الفكرة أولا؛ أعني أنهما مرهونان بأن نضمن وجود أفراد فعلية مما يشير إليه الاسم المعين.

ومن الأفكار الجديدة التي أبرزها «المنطق الوضعي» تمهيدا لترسيخ المنهج العلمي في رءوس الدارسين: كون الجملة «التحليلية» تحصيلا لحاصل؛ أي إنها جملة لا تقول شيئا جديدا، وهذه بدورها نقطة هامة، لو أنها غرست في الأذهان غرسا ثابتا لأخرجنا شبابا مزودا بعقول ناقدة تميز بين الحق والباطل، وشرح ذلك أن هنالك في أحاديث الناس وكتاباتهم واعتقاداتهم ألوفا من العبارات التي ظاهرها أنها «حقائق»، وأما حقيقتها فهي أن من يستخدمها إنما يحدد لأحد المفاهيم معنى من عنده، وما دام الأمر كذلك، فمن حق سواه أن يحدد لذلك المفهوم معنى آخر، دون أن يكون هنالك وجه للمفاضلة بين المعنيين من الوجهة النظرية، فافرض - مثلا - أن موضوع الحديث هو «الديمقراطية» وقال قائل: إن «الديمقراطية هي مساواة الفرص أمام المواطنين» وقال آخر: «الديمقراطية هي أن تكون القرارات في المجالس العامة بأغلبية الأصوات»، فهذان قولان مختلفان عن مفهوم واحد، وكل منهما لا يزيد على كونه «تعريفا» من القائل لكلمة «ديمقراطية»، وليس هنالك ما يبرر المفاضلة بين تعريف وتعريف، وإذا عرفنا أن كلا من هذين القولين إن هو إلا «تعريف» فكأنما قلنا بذلك: إن كل جملة منهما تضع مفهوما ما ثم تكرر ذلك المفهوم نفسه بعبارة أخرى؛ أي إنها جملة لا تضيف شيئا جديدا تستمده من الواقع الطبيعي.

وحياة الناس الفكرية مليئة بأفكار من هذا الطراز التعريفي التكراري الذي لا يجيز لأحد أن يحتج بفكرته على خصمه، فاختلاف المذاهب الفكرية - في السياسة والفلسفة والاقتصاد والنقد الفني وغيرها وغيرها - هو من هذا القبيل، فبماذا تفضل ناقدا يقول لك: إن أعذب الشعر أكذبه، على ناقد آخر يقول: بل إن أعذب الشعر أصدقه؟ إن كلا من القولين قائم على «تعريف» للشعر من وجهة نظر القائل، وفي حرية التعريف يتساوى المتعارضان، وبماذا تفضل صاحب مذهب سياسي يقول: إن حكم الفرد المستبد العادل هو أفضل صورة للحكم، وآخر يقول: بل إن أفضل صورة للحكم هي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه خلال مجالسه النيابية؟ مرة أخرى تجد كلا من القولين «تعريف» للحكم الأفضل ولا مفاضلة بين تعريف وتعريف، وأمثال هذه الأقوال التعريفية - كما أسلفت - لا أول لها في حياة الناس الفكرية ولا آخر، فأي انقلاب فكري يحدث للدارس لو أنه زود بالنظرة التحليلية الناقدة التي تميز بين فكرة قوامها تعريف، وفكرة أخرى قوامها مرجع في دنيا الواقع الفعلي؟

ذلكما مثلان نكتفي بهما من أمثلة كثيرة للأسس المنهجية الجديدة في التفكير العلمي مما أوردناه في الجزء الأول من «المنطق الوضعي»، الذي لم تكن قد مضت على صدوره (1951م) إلا بضعة أعوام، حين ألحقنا به الجزء الثاني في فلسفة العلوم بشطريها: العلوم الصورية (ومنها الرياضة) والعلوم التجريبية، ولقد اضطلعنا في هذا الجزء بمثل ما اضطلعنا به في الجزء الأول من رؤية للموضوع من زاوية «التجريبية العلمية»، فلقد فصلنا القول تفصيلا في الشروط الواجب توافرها لكي تكون الفكرة المعينة فكرة علمية بالمعنى الصحيح الدقيق، وكان من أهم ما أبرزناه في هذا السبيل وجوب تحويل «الكيف» إلى «كم» ما وجدنا إلى ذلك التحويل سبيلا، ولعله أن يكون من أبرز معالم الكتاب إدراجه العلوم الاجتماعية مع العلوم الطبيعية في منهج واحد، استنادا إلى أن ما يصلح أن يكون «علما» في ظاهرة الحياة الإنسانية، هو ذلك الجانب الذي يخضع لمنهج العلم في دقة الملاحظة وإجراء التجارب، دون أن ندعي بأن ذلك المجال يستنفد الحياة الإنسانية كلها، لكن ما يتبقى من تلك الحياة مستعصيا على منهج البحث العلمي يخرج بالضرورة عن مجال العلم، ويكتفى فيه بالتعبيرات الوجدانية كالشعر وما يدور مداره من شتى الوسائل الفنية في التعبير.

ولا يفوتني في هذا السياق أن أذكر موقفا وقفته من فيلسوف العلم الأمريكي «هنري مارجنو »، وذلك حين كنت أستاذا زائرا في جامعة بولمان بولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1954م، فلقد دعت الجامعة يومئذ هنري مارجنو - وكان أستاذا في معهد ماساشوتس للتكنولوجيا أرفع معاهد أمريكا العلمية على الإطلاق (فيما يقال) - دعته جامعة بولمان ليلقي سلسلة محاضرات عن «المنهج العلمي» وقد حضرتها مع هيئة الأساتذة، وبعد أن فرغ مارجنو من الحديث عن المنهج العلمي فيما يختص بالعلوم الطبيعية، خصص المحاضرة الأخيرة لمنهج «العلوم الاجتماعية» بادئا حديثه بقوله: إن هذه المرة يريد أن يسمع منا نحن آراءنا فيما يجب أن يكون عليه ذلك المنهج، وبعد دقيقة من الصمت طلبت أنا الكلمة لأقول: إننا لا نكون على صواب من الناحية النظرية إذا نحن افترضنا مقدما بأن للعلوم الاجتماعية منهجا تختلف به حتما عن منهج العلوم الطبيعية، وأصح من ذلك أن نبدأ بتطبيق المنهج نفسه على ظواهر الحياة الإنسانية (في علوم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيرها) إلى أن نصطدم بما يجعل تطبيق ذلك المنهج مستحيلا استحالة منطقية، وعندئذ فقط نبحث لأنفسنا عن مخرج ... فكانت كلمتي تلك هي التي دار حولها الحوار كله من الأساتذة الحاضرين - بما فيهم مارجنو - واختلف الرأي بينهم في ذلك قبولا ورفضا وتعديلا، ذلك كان موقفي من علوم الإنسان، وما زال هو موقفي حتى هذه الساعة، فأنا أرفض أن تترك هذه العلوم نهبا للضرب في مجالات التخمين أو ما يشبه التخمين من أقوال لا تخضع لضوابط المنهج من ملاحظة يمكن رصدها وتجارب يمكن إجراؤها، حتى يصبح حديث العلم عن الإنسان وحياته نوعا من «الحساب» بدل أن يظل دائرا في متاهات «المناقشات».

5

لن أمل من تكرار القول بأنني كلما تحدثت عن الشروط التي يجب مراعاتها في أية جملة يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزء محدد من تلك الطبيعة، فإنما أقصر القول عندئذ على مجال واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول - كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني - فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين، أعود فأقول: إنني لن أمل من التأكيد بأن حديثي - فيما يختص بالتجريبية العلمية - مقصور على ميادين «العلوم» وحدها؛ وذلك لأنني طالما قوبلت بهجوم واستنكار من نقاد ذهب بهم الظن بأن شروط التجريبية العلمية مقصود بها أن تقيد كل ضروب القول بغير تحديد، فإذا كان أمرها كذلك فيا للهول؛ لأن لدينا كلاما من أعز الكلام على نفوسنا وأغلاه، بعيد بطبيعته كل البعد عن أن يقبل التقيد بتلك الشروط، فمثلا إذا قلنا: إن كل جملة مطالبة - لكي تكون مقبولة من الناحية المنطقية - بأن تكون صورة متطابقة مع واقعة من الوقائع الممكنة تلقيها بالحواس البشرية، وإلا كانت غير ذات معنى؛ فقد يعترض علينا مستنكر قائلا: وما قولك إذن في جملة تتحدث عن الملائكة بل عن الله سبحانه وتعالى، وما أكثر ما سمعت اعتراضات من هذا القبيل؟! فلو أن هؤلاء المستنكرين وضعوا نصب ذاكراتهم دائما هذا الذي أسلفته - وهو أن شروطنا موجهة نحو ميدان واحد فقط: هو ميدان العلوم الطبيعية وحدها - لما اعترضوا وما استنكروا.

نعم، فشرطنا الأول لأي كلام علمي هو أن تفصل ألفاظه تفصيلا محكما على واقعة فعلية من وقائع الدنيا، أو على واقعة ممكنة الحدوث ويراد استحداثها؛ فالكلام المفهوم هو ذلك الذي يتيح لسامعه أن يتحقق منه، إما بالرجوع به إلى الوقائع المشار إليها فيه، وإما بمحاولة استحداث الوقائع التي يزعم المتكلم أن كلامه مرسوم ليهدي من أراد التطبيق كيف تجيء خطواته في التطبيق خطوة بعد أخرى؟ فالأمر في كلام كهذا هو كالخريطة الجغرافية التي يحاول بها الرحالة أن يعرف طريقه، فلا بد لها أن تكون على علاقة التطابق التام مع تفصيلات الواقع.

لكن هذا الشرط الضروري الواضح كثيرا ما نراه مهملا في ضروب من القول، لا هي من قبيل التعبير الوجداني فنحيلها على معاييرها الخاصة، ولا هي ترضى أن توضع أي وضع إلا أن تكون في زمرة الأقوال «العلمية» ثم لا تلتزم بذلك الشرط الذي أسلفنا ذكره، فتراها تستخدم في عباراتها ألفاظا لا تشير إلى واقع محسوس، فها هنا تأخذنا الحيرة إذا أردنا التحقق من صدق ما يقال، ومن هذا النوع من الكلام ما قد اصطلح في الفلسفة على تسميته بالميتافيزيقا؛ ولهذا وجهت إلى الميتافيزيقا اهتماما خاصا.

في صيف سنة 1953م صدر كتابي «خرافة الميتافيزيقا» تناولت فيه ذلك الضرب من الكلام الذي يستخدم ألفاظا هي بحكم تعريفها نفسه لا تشير إلى شيء محسوس، ومع ذلك يزعم صاحبها أنه إنما أراد أن يصف بها الوجود الخارجي كله أو بعضه؛ فقد يقول لك الميتافيزيقي - مثلا: إن لكل شيء «جوهرا» تطرأ عليه الصفات العارضة، فنهر النيل تجري مياهه دفاقة لا تثبت على حالة معينة، وهو يمتلئ حينا ويفيض ماؤه حينا، ولكنه - رغم هذه الحالات العارضة - موجود بهوية ثابتة، كيف؟ إنه موجود دائما بذلك «الجوهر» الذي أشرنا إليه، والذي تطرأ عليه التغيرات ولكنه يظل هو ذا ثبات ودوام، أليس من حق التفكير «العلمي» أن يقف ليحاسب هذه اللفظة: «جوهر»، التي لا تشير إلى شيء «محسوس» بحكم تعريفها؛ إذ المحسوس هو الصفات العارضة الطارئة عليه، أما هو نفسه فذو خفاء؟! ومن هذا القبيل نفسه أسماء أخرى أشد خطورة في حياة الناس العملية؛ فقد يقال لك - مثلا: إن المواطنين الأفراد في شعب ما يولدون ويموتون، وأما «الشعب» فموجود، وأظنك في هذه الحالة تريد أن تعرف ماذا يبقى من «الشعب» إذا طرحت من حسابك المواطنين الأفراد.

لهذا كله رأيت أن أوضح في «خرافة الميتافيزيقا» أن كثيرا جدا من الكائنات الميتافيزيقية أدخل في باب الخرافة منه في باب الوقائع التي يستند إليها التفكير العلمي، على أنني فرقت بين نوعين من الميتافيزيقا؛ لأرفض منهما نوعا وأبقي على الآخر، فإذا كنت تصرف حديثك عما وراء «الأشياء» من خافيات عن الحواس، فذلك ما قد يورطك فيما ليس له معنى، أما إذا صرفت الحديث إلى ما وراء تركيبة لفظية معينة لتكشف عما استتر وراءها من فروض مضمرة فذلك مقبول ومشروع بل وضروري للفكر إذا أراد أن يتعمق فهمه للعلم وقضاياه، ولقد كان ما صنعه الفيلسوف عمانوئيل كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» شيئا من هذا؛ إذ أراد أن يكشف عما وراء الجمل الرياضية والجمل في العلوم الطبيعية من فاعلية عقلية تضمن لتلك الجمل أن تكون صادقة صدقا ضروريا وعاما، ونستطيع أن نسمي الميتافيزيقا المرفوضة بالميتافيزيقا «التأملية» والأخرى المقبولة بالميتافيزيقا «النقدية».

ولقد أحدث كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ضجة مدوية عقب ظهوره، وكان موضع الخطأ عند معظم الناقدين أنهم خلطوا بين فلسفة ودين، فحملوا كلامي الموجه إلى فكر فلسفي من طراز معين على عقائد الدين، ولو تذكروا ما كنت أحرص الناس على أن يتذكروه، وهو أن مجال الإيمان الديني مختلف عن مجال التفكير المقيد بمنطق العقل العلمي؛ لأن «الإيمان» تصديق بغير برهان، وأما منطق العقل فطريق للبراهين، لو تذكروا ذلك لاستراحوا وأراحوا.

ونفد الكتاب بعد صدوره ببضع سنين، لكني أمسكت عن إعادة طبعه حتى يتاح لي أن أعيد كتابة بعض أجزائه شارحا مواضع الغموض، غير أن الأعوام أخذت تكر عاما بعد عام، وكثرت شواغل الحياة، ثم دبت شيخوخة وأمراض، فلم أحقق ما أردت تحقيقه، وأخيرا أنقذت الموقف بأن اكتفيت بكتابة مقدمة طويلة للطبعة الثانية أوضح فيها ما قد غمض على الناقدين، ثم غيرت عنوان الكتاب وجعلته «موقف من الميتافيزيقا» ليكون أقرب إلى الموضوعية والحياد.

أما الموقف الفكري نفسه الذي عرضته في ذلك الكتاب، فهو ما يزال موقفي إلى هذه الساعة التي أكتب فيها هذه السطور، وحتى لو أردت شيئا من التعديل، لما تناولت بالتعديل ركنا من أركانه الأساسية.

6

كان كتاب «المنطق الوضعي» - بجزأيه الأول والثاني - وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» دعامتين من ثالوث علمي أقمته خلال الخمسينيات؛ لأدعم به وقفة فلسفية آثرتها على غيرها، ورأيت فيها نفعا عظيما للأمة العربية في نهوضها العلمي والفكري والثقافي؛ لأنها وقفة تستهدف - في مجال النظر العلمي - منهجا يضبط القول ضبطا يصونه من الانزلاق في سيال اللفظ الذي يلهينا عن المعنى، وأما ثالثة الثالوث فهو كتابي «نحو فلسفة علمية» الصادر في عام 1958م (ونال جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة سنة 1960م).

في هذا الكتاب بسطت في تفصيل مستفيض النظرة التي تتحول بها الفلسفة من إقامة بناءات ميتافيزيقية يقيمها عمالقة، كل منهم يحاول أن يفسر الكون كله بمبدأ واحد؛ ليصبح العمل الفلسفي تحليلات للأسس التي تبنى عليها العلوم بناء منهجيا سليما؛ فالكتاب دعوة إلى فلسفة علمية بأكثر من معنى، أولها أن تكون قضايا العلوم ومناهجها مدار الاهتمام، وثانيها أن يجيء العمل الفلسفي نتيجة تعاون بين عدة أفراد، لا صرحا عاليا يشيده فرد واحد بمفرده، وثالثها أن يكتفى في كل عملية تحليلية بجزئية واحدة صغيرة، قد تكون جملة واحدة تتخذ مقياسا لأشباهها من حيث طريقة التركيب، كما فعل برتراند رسل في تحليله لجملة: «مؤلف ويفزلي هوسكوت» فقال «رامزي» عن هذا التحليل: إنه جاء منوالا للعمل الفلسفي في تصوره الجديد.

لكن الخمسينيات لم تقتصر على تلك الكتب الثلاثة وحدها: المنطق الوضعي وخرافة الميتافيزيقا ونحو فلسفة علمية، بل إنها شهدت كذلك لتلك الكتب روافد فرعية كان لا بد منها، من ذلك كتابان: أحدهما عن فلسفة برتراند رسل (1956م) والآخر عن فلسفة ديفد هيوم (1958م)، فأما كتابي عن «رسل» فقد أردت به دراسة منهجه في التحليل الفلسفي؛ وذلك لأن «رسل» وإن لم يكن مناصرا كاملا للوضعية المنطقة (أو التجريبية العلمية) إلا أنه أمد أنصارها ببعض أدوات التحليل التي استخدموها في عملهم الفلسفي، وأما كتابي عن ديفد هيوم فهو بمثابة العودة بالتيار إلى منبعه؛ لأن هيوم (فيلسوف إنجليزي في القرن الثامن عشر) كان بغير شك أبا لمن جاء بعده ممن أرادوا أن تكون انطباعات الحواس مرجعا وحيدا لأي معرفة تساق عن الطبيعة الخارجية.

وإلى جانب دراستي لهذين الفيلسوفين: رسل وهيوم، لعلاقتهما الوثيقة - منهجا بالنسبة لرسل، ومضمونا بالنسبة لهيوم - فقد شعرت كذلك أن دراسة موسعة لفلسفة البراجماتية (أو فلسفة الذرائع كما نسميها أحيانا) ضرورية لتحديد العلاقة بينهما وبين التجريبية العلمية: فكان أن أصدرت كتابي «حياة الفكر في العالم الجديد» لأقدم به صورة عن الفلسفة الأمريكية كلها (1956م) ثم عكفت على ترجمة كاملة للكتاب الضخم الذي ألفه جون ديوي عن «المنطق، نظرية البحث» يثير وجهة النظر «الوسيلة» - والوسيلة هي فرع من البراجماتية عرف به جون ديول، وخلاصتها أن أية فكرة علمية لا تكتمل وظيفتها إلا إذا جاءت خطوة مع غيرها من خطوات، تكون هي «الوسائل» المؤدية إلى نتيجة مطلوبة لتغيير الموقف المراد تغييره - وبعد أن فرغت من ترجمة ذلك المؤلف الكبير، تكون لدي فكرة بسطتها في مقدمة طويلة للترجمة، بلغت نحو خمسين صفحة، أقول فيها إنني أرى وجوب الإفادة من الرأي الوسلي القائل بأن الفكر لا يكون فكرا بالمعنى الصحيح، إلا إذا كانت له نتائج فعالة في تغيير أوجه حياتنا على النحو المنشود، وحاولت أن أوفق بين هذا الرأي المستقبلي من جهة، وطريقة الوضعية المنطقية في تحليلها للأفكار العلمية، وخرجت من ذلك بصيغة ترضيني.

7

لم تكن دعوتي إلى التجريبية العلمية لتمضي دون أن تثير المعارضة الشديدة من جهات مختلفة، فمن المعارضين من أخذته الخشية أن يكون في تلك الدعوة العلمية الخالصة ما يمس الدين من قريب أو من بعيد، فانطلق في هجومه من هذه الزاوية، فجاء الهجوم خليطا بين حجة عقلية وعاطفة دينية، ومن المعارضين من كان دافعهم الأقوى والدفين هو المنافسة المهنية أكثر منه دفاعا عن الحق الفلسفي، وكان مما أضعف هؤلاء قصورهم عن الإلمام الكافي بما يعارضونه، ولعل علة ذلك القصور أنهم - على الأغلب - لم تكن لديهم الوسيلة اللغوية القادرة على الرجوع إلى المصادر الرئيسية لما يعارضونه، فلا هم على قدر كاف من معرفة اللغة الإنجليزية التي كتبت معظم الأصول، ولا هم على رغبة كافية في تعقب الحقيقة ليقرروا كتابتي العربية قبل أن يعارضوا، فأخذوا الفكرة بما يشاع عنها بين عابري السبيل، وكذلك كان من المعارضين من توافر له الإخلاص لكن فاتته قوة الحجة.

ولو أبعدنا الشوائب التي كثيرا ما تضاف إلى الخلاف العلمي فتفسد نقاءه، لقلنا: إن المعركة في صميمها إنما هي معركة حول وسيلة المعرفة ماذا تكون؟ فمن المعلوم أن في الفلسفة طريقين للنظر إلى هذا الموضوع: أحدهما يجعل طريق المعرفة بادئا من داخل الإنسان متجها إلى خارجه، والآخر يجعله بادئا من خارج الإنسان متجها إلى داخله، والمثاليون والعقليون هم من أنصار الطريق الأول، والتجريبيون والعلميون هم من أنصار الطريق الثاني، الأولون يرون أنه لا بد من أصول ومقولات مجبولة في فطرة العقل، على أساسها يمكن استنباط دقائق المعرفة كما تستنبط الرياضة من مسلماتها دون حاجة منا إلى اللجوء إلى مشاهدات خارجية، والآخرون يرون أنه لا معرفة ما لم تبدأ بتحصيل معطيات حسية تجيئنا عن طريق الحواس مرئيات ومسموعات وملموسات، إلى آخر ما قد تخصصت حواسنا في نقله إلينا عن العالم الخارجي، عالم الأشياء، على أن من الفلاسفة من يحاول الجمع بين الطريقين في عملية المعرفة، ليقول: إنه لا بد من مقولات العقل ومبادئه، إلى جانب معطيات الحواس لكي يتم تحصيل المعرفة، لكن المعول في تقسيم المذاهب الفلسفية في موضوع المعرفة ووسيلتها هو: لأي جانب من الجانبين تكون الأولوية المنطقية؟ فمن جعل من الفلاسفة الأولوية للعقل كان من المثاليين أو العقلانيين، ومن جعل الأولوية للحواس كان من التجريبيين.

وكان موقفي من هذا التقسيم مع التجريبيين، لكنها كانت تجريبية ذات طابع خاص، تجعل اللغة وتحليلها - لا الأشياء - مدار نظرها، فمن منطق التركيب اللغوي ذاته يستطيع الباحث أن يعلم مقدما أهو تركيب صالح للتحدث عن واقع الطبيعة حديثا ذا معنى؟ أم هو تركيب إذا ما حللناه وجدناه غير منطو على دلالة؟ ولقد أدى بنا التحليل المبدئي للغة وطرائق استخدامها إلى أنها تدور في أحد مجالين كبيرين: في أحدهما تستخدم اللغة «لتشير» برموزها إلى أشياء العالم الخارجي، وأما في المجال الآخر فتستخدم اللغة لا لتشير إلى خارج، بل لتحرك في باطن الإنسان انفعالا أو عاطفة، أو لتقيم في داخل المتلقي بناء ذهنيا خالصا ليس من شأنه أن يكتسب معناه ودلالته من مقابلته مع كائنات العالم الخارجي، وإذا أردت مثالا يوضح الفرق بين هذين المجالين في استعمال اللغة، فقارن بين هذين القولين عن الهرم الأكبر: (1) يقع الهرم الأكبر غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشر كيلومترات. (2) تثير رؤية الهرم الأكبر في نفس المصري ذكريات المجد، وجلال الخلود ... ففي القول الأول جاءت اللغة لتشير إلى وقائع خارجية يمكن مراجعتها بواسطة الحواس لنتبين مدى صدق محتواها على ذلك الواقع، وفي القول الثاني لا تشير إلى خارج ولكنها تحرك في نفس القارئ أو السامع أصداء وجدانية لا سبيل إلى التحقق منها، وإنما يكتفى فيها بمجرد تعبير المتلقي عما قد أحسه في باطنه من تلك الأصداء. والدارس إذا ما تبين الفواصل التي تميز هذين المجالين في استخدام اللغة أحدهما عن الآخر، عرف بالتالي متى يكون القول مقبولا من الناحية العلمية ومتى يكون مرفوضا؛ إذ المجال الأول وحده هو ما يصلح للتحقيق العلمي، وأما المجال الآخر فيدخل في باب التعبير الوجداني، فإذا كانت له مقاييس، فهي مقاييس الشعر أو ما إلى الشعر من وسائل التعبير.

تلك كانت دعواي في أساسها، وترتب عليها ما ترتب من نتائج بالغة الأهمية فيما نقبله وما نرفضه مما يجرى على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، فجاءت الردود من المعارضين مختلفة باختلاف أصحابها في جدية المأخذ وعمق التفكير. (راجع فصل «من معاركنا الفلسفية» في كتابي «من زاوية فلسفية»، إذا أردت أن تقرأ تفصيلا ما قاله بعض المعارضين وما رددت به عليهم).

8

لم تكن التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) بدعاواها التي قد تبدو بسيطة أمام العين العابرة بأقل من ثورة شاملة تغير من الفلسفة وسائلها وأهدافها معا، أما الأهداف فقد كان يراود الفلاسفة على تعاقب العصور أمل بأنهم إنما يبحثون عن «حقيقة» الكون و«حقيقة» الإنسان، وربما كان لهؤلاء الفلاسفة عذرهم فيما استهدفوه، عندما كان «العلم» بالأشياء متضمنا في النظر الفلسفي، أما وقد أخذت العلوم تستقل بذواتها كلما وجد علم منها أنه قد بات له من دقة المنهج ومن تحديد موضوع البحث ما يدعوه إلى أن يكون هو صاحب الكلمة في ميدانه، فلم يعد أمام الفاعلية الفلسفية - وهي فاعلية ذهنية لا تتم معرفة بدونها - إلا أن تقصر نفسها على صب الأضواء على ما تقوله العلوم في مختلف ميادينها، دون أن تضيف هي من عندها «حقيقة» إيجابية توضع في صف واحد مع سائر الحقائق العلمية .

كان مألوفا أن يكون الفيلسوف هو الذي يتولى النظر في حقائق الفلك والطب والطبيعة والنبات والحيوان والإنسان، ونظريات السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس، وكان ذلك ممكنا لأن المعرفة كانت موحدة بغير فواصل تميز ميادين التخصص بعضها من بعض، بل كان الفيلسوف من الأعلام يحاول عامدا أن يضع لنفسه «مبدأ» ترتد إليه المعرفة كلها بشتى فروعها، فإذا قال أرسطو - مثلا - بأن لكل شيء صورة ومادة؛ فالصورة هي بمثابة «الوظيفة» المعينة التي تجعل المادة هي ما هي فيما تؤديه، كان ذلك القول شاملا ومفسرا لأنواع الكائنات جميعا في ضروب نشاطها.

ولكننا اليوم في عصر تقدمت فيه العلوم وتخصصت وازدادت دقة بأجهزتها، فلم يعد أمام الذهن «المتأمل» مجال في الوصول إلى قانون من قوانين العلم، لكن بقي أمامه أهم مجال يصلح لفاعليته، وهو أن يتعقب أقوال العلماء إلى جذورها الأولى؛ ليكشف بذلك عدة أشياء ذات أهمية بالغة، فهو يكشف أولا ما تنطوي عليه نقط الابتداء في مختلف العلوم، وهي النقط التي يسلم بها العلماء جدلا لتكون محطة يبدأ منها السير العلمي، كأن يبدأ علماء الرياضة من العدد إلى الإدراك العقلي عند الإنسان، فتكون مهمة فيلسوف الرياضة هي أن يحفر تحت العدد ليكشف عن جذوره الدفينة المضمرة، وهكذا قل في فيلسوف الطبيعة وفيلسوف التاريخ وفيلسوف الأخلاق أو الجمال أو ما شئت، فكل هؤلاء ينفذون خلال الظاهرة التي وقف عندها العلماء؛ ليروا ما وراءها من فروض مستترة، فإذا كان المؤرخ - مثلا - يبدأ من الأحداث الفعلية في الميدان الذي اختاره ليؤرخ له، ففيلسوف التاريخ ينفذ إلى ما وراء تلك الأحداث لعله يكشف عما يحركها، وأما الفيلسوف من العمالقة الكبار فيضم هذه الفلسفات الفرعية كلها في بناء واحد يضمها إذا استطاع، أو بعبارة أخرى: هو لا يكتفي بالوصول إلى الجذور الأولية للفكر الرياضي أو التاريخ أو اللغة أو الفن، بل يحاول فوق ذلك كله أن يرى ما إذا كانت تلك الفروع جميعا تلتقي في أعمق الأعماق عند مبدأ واحد، وعندئذ يقرر إذا كان للمعرفة الإنسانية وحدة واحدة تجعلها كالشجرة الواحدة برغم تعدد فروعها.

فرق بعيد - كما ترى - بين أن تجعل الفلسفة هدفها بحثا عن حقائق الكائنات، وأن تجعل ذلك الهدف بحثا فيما يقوله العلماء - أصحاب الشأن - عن الكائنات، وذلك هو الفرق الذي أحدثته التجريبية العلمية في «الهدف»، وأما «الوسيلة» إلى الهدف فكانت عند معظم الفلاسفة السابقين «تأملا» بالذهن الخالص في طبائع الأشياء، ومحاولة إقامة بناء فكري تكون تلك الطبائع أجزاءه المتصل بعضها ببعض اتصالا عضويا، وأما «الوسيلة» عند التجريبية العلمية فهي البحث في منطق اللغة التي استخدمها العلماء؛ للتمييز بين جملة تؤدي إلى معنى علمي وجملة لا تؤدي.

وإذا أردت مزيدا من الإيضاح عن لب الثورة التي أحدثتها التجريبية العلمية في الفلسفة المعاصرة، فلتتصور صفحتين متقابلتين، تقول كل منهما ما تقوله الأخرى، ولكنها تقوله بلغة مختلفة، فهكذا الأمر بالنسبة للكون الخارجي بكل ما فيه ومن فيه - من ناحية - وما قاله القائلون عن ذلك الكون - من ناحية أخرى؛ فهنالك الأشياء في جهة والكلام الذي قيل عن تلك الأشياء في جهة أخرى، ومهمة العلماء تنصب على الأشياء، وأما مهمة الفلاسفة فتنصب على الكلام، وذلك بعد أن كان العلماء والفلاسفة معا يتزاحمون على دنيا الأشياء كأنهما جماعتان تتنافسان وراء ثمرة واحدة، فحل اليوم بين العلم والفلسفة تعاون لا تنافس: العلم يبحث في حقائق الأشياء ليقول ما يقوله، والفلسفة تفحص في هذا الذي يقوله العلم لتضمن سلامة بنيته المنطقية واستمرارية جذورها مع جذعها وفروعها وأوراقها وثمارها.

كان التصور القديم يقابل بين «الفكر» من ناحية و«العالم» من ناحية أخرى، وجاء التصور الجديد ليجد مفهوم «الفكر» غامضا، فاستبدل به «اللغة» التي تحمل فكرا، وجعل المقابلة بين «اللغة» و«العالم» فأصبح الأمر واضحا ومحددا، فبعد أن كنا لا ندري كيف نراجع الفكر على الواقع؛ أصبح ميسورا أن نطابق اللغة على الواقع، فنرى إن كان التصوير اللغوي للواقع دقيقا أو لم يكن (راجع الفصل المعنون «ثورة في الفلسفة المعاصرة» في كتابي «قشور ولباب»).

الفصل الخامس

دفاع عن العقل

1

لقد أسلفت لك الحديث عن الفرق في منطق اللغة بين تركيب لفظي يشير إلى كائنات العالم الخارجي، وتركيب لفظي آخر يتجه بانتباه السامع أو القارئ نحو ما يجري في دخيلة نفسه من مشاعر، وأذكر أني ضربت لك مثلا يوضح هذا الفرق بين قولين: عبارة تقول لك عن الهرم الأكبر إنه يقع غربي النيل، ويبعد عنه نحو عشرة كيلومترات، وعبارة أخرى تقول عن الهرم نفسه بأنه يثير في النفس ذكريات مجد قديم، ويوحي بجلال الخلود، وها أنا ذا أضيف إلى تلك التفرقة بين الوظيفتين اللتين تؤديهما اللغة: أن تلك التفرقة ذاتها هي أيضا تمييز بين مجالين في حياة الإنسان: مجال العقل ومجال الوجدان، ففي مجال العقل يكون التفاهم بين الناس قائما على أساس ما يمكن مراجعته وضبطه والحكم عليه بالصواب أو بالخطأ بحسب مطابقته أو عدم مطابقته للواقع الذي جاءت الجملة المعينة لتتحدث عنه، وأما في مجال الوجدان فالأمر متروك كله للمتلقي يشعر كيف شاءت له ميوله؛ إذ لا سبيل هنا إلى مراجعة ولا إلى ضبط أو حكم بصواب أو بخطأ.

عد إلى العبارتين اللتين أسلفت ذكرهما عن الهرم الأكبر، تجد الأولى ممكنة المراجعة على الواقع الفعلي جزءا بجزء، للتأكد من أن الهرم الأكبر يقع حقا غربي النيل، وأن المسافة بين الهرم والنيل تبلغ فعلا ما يقرب من عشرة كيلومترات، وللسامع أو القارئ بعد ذلك أن يحكم على العبارة بأنها صادقة أو كاذبة بناء على ما وجده في عملية المراجعة. وأما العبارة الثانية فلا سبيل فيها إلى شيء من ذلك؛ فقد تصادف سامعا ينظر إلى الهرم الأكبر فلا يثير في نفسه شيئا عن مجد قديم، ولا يوحي له بشيء عن جلال الخلود، بل لعل ذلك السامع يجهل ماذا يراد بالمجد وبالخلود، فلا مراجعة هنا ولا تصويب ولا تكذيب؛ لأن الأمر كله مرهون بصاحبه وما يشعر به أو لا يشعر.

الجانب العقلي جانب عام مشترك بين الناس، والجانب الوجداني فردي خالص، ففي الجانب العقلي إذا ما تبينت شواهد الصدق وجب على السامع أن يذعن؛ إذ لا مفر له من برهان يقيمه منطق العقل، أئذا قيل لأحد: إن الثمانية أكبر من الخمسة، والخمسة أكبر من الثلاثة، إذن تكون الثمانية أكبر من الثلاثة، استطاع السامع أن ينكر صدق القول؟ لكن ما هكذا الشأن إذا قيل له: إن غروب الشمس يبعث على كآبة النفس وانقباضها؛ لأن السامع في هذه الحالة قد تكون هذه حاله إزاء الغروب وقد لا تكون.

ومنذ حملت القلم كاتبا في صدر الشباب؛ أدركت في شيء من الغموض أولا وفي كثير جدا من الوضوح آخرا؛ أدركت الفرق في استخدام اللغة بين الحالتين، ثم أدركت فوق ذلك أن العربي بصفة عامة (والمصري عربي) أشد ميلا - بحكم ثقافته - إلى العبارة المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى عقل، وأدركت فوق هذا وذلك أن في مقدمة الإصلاح - إذا أردنا إصلاحا - أن نربي الأجيال الجديدة على وقفة أخرى، يفرق لنفسه فيها تفرقة واضحة بين ما هو عام فيحيله إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا بأس عندئذ في الركون إلى لغة الشعور.

لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن (وأنا أكتب هذا سنة 1982م) مائة وخمسون عاما على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندعي بأنها تشربت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟ لماذا أصبح المتعلمون في مصر يعدون بعشرات الملايين ومع ذلك فإذا ما أمعنا النظر في هؤلاء المتعلمين أنفسهم - ودع عنك من لم ينل حظا من التعليم - وجدنا نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجات الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة؟ أسئلة كهذه كنت ألقيها على نفسي فأجد لها جوابا واحدا، هو: نقص في تربية العقل، وإسراف في إشعال الوجدان.

2

إن شيئا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائما بأن العقل وحده لا يكفي سندا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية للعقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم فلا يسع العقل إزاءها إلا أن يقف عاجزا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم يتملكنا بدرجة قل أن وجدت لها نظيرا في شعوب أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا، فلطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل - والعقل يتبعه قيام العلم ومنهاجه - حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حد المبالغة لأحدث نوعا من التوازن في حياتنا بين عقل ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.

فكتبت بعنوان «سلطان العقل» (في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: إن الظواهر التي يقال عنها: إنها تتحدى العقل، وإن العلم يقف حيالها عاجزا عن القليل، «لم تكن أبدا - ولن تكون - من الدعائم التي تبنى عليها الحضارات، لا فرق في ذلك بين حضارة المسلمين إبان قوتها، وسائر الحضارات التي قامت وسوف تقوم، فلقد قامت حضارة المسلمين - كما قام غيرها - على واقع وعلى علم بذلك الواقع، وأما الظواهر العجيبة التي يقال عنها إنها تتحدى العقل، فهي أمور يذكرها الناس بعضهم لبعض أو لا يذكرونها، ولن يكون لذكرها أو عدم ذكرها أثر في سير الأحداث التي تصنع التاريخ».

إنني لم أكن أقنع بكل ما حدث في حياتنا الفكرية من تغيرات كان من شأنها أن تحدث لنا أسسا جديدة في السياسة والاقتصاد والتعليم وبناء المجتمع؛ وذلك لأنني برغم ذلك كله فلقد رأيتها تغيرات على السطح، ولم تبلغ من العمق حد الثورة الفكرية التي تبذل لنا وجهة النظر الشاملة، فما زال الناس - وحتى المثقفون منهم - تميل بهم نفوسهم نحو التشكك في العقل الإنساني وقدرته، وفي العلم ومداه، فكتبت بعنوان «نريدها ثورة فكرية» (في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») أقول: «لكنني أزعم أن ذلك النشاط كله شيء - وهو نشاط محمود ومشكور - وأما الثورة الفكرية كما أتصورها فهي شيء آخر، ولأبدأ بتشبيه يوضح الفكرة التي أريد عرضها، فأقول: إنه قد تكون لدينا أنوال قديمة لنسج القماش، فهل تحدث ثورة في صناعة النسيج إذا نحن أبقينا على الأنوال القديمة كما هي، ثم زدنا من كمية القماش المنسوج، وغيرنا من ألوانه وزخارفه، ومن طريقة توزيعه على الناس؟ فمثلا: كان القماش الناتج على تلك الأنوال القديمة يوزع على المدن وحدها، فنشرناه في القرى، وكان يخص الأغنياء وحدهم، فجعلنا منه للفقراء نصيبا مساويا، وكان للكبار وحدهم، فصنعنا منه شيئا للأطفال، وهكذا أقول: أيجوز لنا في مثل هذه الحالة أن نقول: إن ثورة حدثت في صناعة النسيج؟ أم أن الثورة في هذه الصناعة لا تحدث بهذه الأمور وحدها، وإنما تحدث بأن تتغير الأنوال نفسها بما هو أحدث؛ ليتغير نوع القماش الناتج تبعا لذلك؟

هكذا الحال - كما أراها - في حياتنا الفكرية، فلقد زادت حصيلة الفكر، وتنوعت طرائق توزيعها على شرائح الشعب، لكن «أنوال التفكير» باقية معنا على عهدها القديم؛ ولذلك بقيت طبيعة الفكر على حالها لم يغير منها أن تتسع دائرة الإنتاج ودائرة التوزيع، وأن نغير من اتجاه السير، فنذهب بالأفكار من المدينة إلى الريف، أو نأتي بها من الريف إلى المدينة، ونعلو بها من أدنى إلى أعلى، أو نهبط بها من أعلى إلى أدنى، فما دامت «أنوال النسيج» باقية على حالها؛ فقد تحدث تغيرات كثيرة على السطح، ولكنها تغيرات لن تبلغ أن تكون «ثورة» فكرية؛ لأن الثورة هي في أن تتغير الأنوال ...

والمنوال الفكري القديم الذي أعنيه قوامه عناصر كثيرة، لعل أهمها جميعا هو الركون إلى «سلطة» فكرية نستمد منها الأسانيد، ومثل هذه السلطة الفكرية تتمثل عادة في نصوص بعينها محفوظة في الكتب، وإن تكن تتمثل أحيانا كذلك في أقوال يتبادلها الناس، وهي التي تسمى بالعرف أو بالتقاليد، وبناء على هذا الموقف تكون الفكرة التي يقدمها رجل الفكر صوابا إذا هي اتسقت مع ما أقرته السلطة الفكرية في الكتب المحفوظة أو في الأقوال المأثورة، كما تكون الفكرة خطأ إذا جاءت مخالفة لما أقرته تلك السلطة، ومن هنا اشتد سلطان الماضي على الحاضر، وأصبح البرهان الذي لا يرد هو أن نسوق «الشواهد» من سجل الأقدمين، وانحصرت قوة الإبداع الفكري في القدرة على إيجاد السند من القول الموروث ...»

في حياتنا الفكرية والثقافية مفارقة تلفت النظر، كنت ألحظها في وضوح منذ الأربعينيات الأولى، وكنت أدرك ألا مفر من ثورة فكرية تتناول الأسس بالتعيير الشامل إذا أردنا حقا الخروج من عصورنا الوسطى إلى عصر النهضة الحقيقية، ولقد عبرت عن رأيي في تلك المفارقة في عشرات المواضع مما كتبت على طول السنين، والتشبيه الذي تخيلته مصورا للمفارقة التي لحظتها هو ساعة تسير تروسها الداخلية على غير ما تسير عليه عقاربها، أو هو الموسيقى وهي تعزف لحنا فيرقص الراقصون على لحن آخر؛ وذلك لأن سطح الحياة - كما يبدو لأعين المشاهدين - فيه كثير جدا من ظواهر الحياة العصرية: فهنالك المصانع ووسائل النقل والمواصلات والطباعة ونظم الحكم ونظم التعليم وغيرها وغيرها، كلها يجري مع العصر في ظاهره، لكن هذه الظواهر الحضارية العصرية كانت تقضي ضربا من منطق التفكير العقلي يكون مستترا وراءها، فأما ما هو واقع عندنا بالفعل فهو أن تلك الظواهر الحضارية تستتر وراءها أجهزة عقلية تفكر على نمط العصور الوسطى، وعلة ذلك أننا نقلنا عن الغرب كثيرا من ظواهر ثقافته وحضارته، لكننا لم نغير من وجهات النظر الداخلية بما يتناسب مع تلك الظواهر، فكانت المفارقة العجيبة؛ فقد ترى رجلا من رجال العلم في مركز من مراكز البحوث أو في إحدى الجامعات يعرف جيدا ما عليه علمه ذاك في أكثر البلاد تقدما، لكنه إذا ما ترك عمله لينخرط مع سائر الناس في تيار الحياة؛ وجدته يؤمن بالخرافة إيمان من لم يحصل من العلم حرفا واحدا.

والثورة الفكرية التي لا مناص من حدوثها ليعتدل الأمر ويتوازن، هي أن نغير من «المنهج» الذي ننظر به إلى الدنيا من حولنا بحيث يصبح ذلك المنهج متسقا مع السطح الحضاري الذي نقلنا منه جوانب كثيرة عن الغرب.

وشيء كهذا حدث في أوروبا إبان نهضتها، وإلا لما تحققت لها نهضة ؛ إذ غيرت المنهج الفكري المتمثل في المنطق الأرسطي القديم، وقيض الله لأوروبا الحديثة رجالا من رجالها يضعون لها منهجا جديدا يتفق مع الانقلاب العلمي الذي كان وشيك الظهور عندئذ، فكان «ديكارت» وكان «فرنسيس بيكون»، وإذا أردنا نحن الآن نهضة كنهضتهم فلا يكفي أن نقطف ثمارهم ونركبها على جذور عتيقة ، بل لا بد من تغيير الجذور المنهجية؛ لتتجاوب أجزاء الشجرة بعضها مع بعض، وتربط الجذور بالثمار بروابط تجعل الثمار ثابتة من الجذور لا مقحمة عليها قسرا، ومحور التغيير المطلوب هو أن نستبدل بفكر يحبس نفسه في مقدمات موروثة فكرا جديدا يقيم نتائجه على قراءة الطبيعة ذاتها.

ففي ختام الفصل المعنون «تحولات في المناخ الفكري» (في كتابي «هذا العصر وثقافته») قلت: «... وعقيدتي أن ثورة فكرية كهذه لم تحدث لنا من خلال هذا القرن كله برغم التغيرات الكثيرة والهامة التي طرأت على صورة الحياة؛ وذلك لأن النمط الفكري القديم باق كما كان دائما، والعجيب الذي يلفت النظر هو أن الفجوة الكائنة بين ذلك النمط الفكري من جهة وتفصيلات الحياة الجديدة من جهة أخرى لا تحدث فينا شيئا من القلق أو التوتر الذي لو حدث؛ لحفزنا إلى سد الفجوة بالملاءمة بين المبادئ العامة وتفصيلات الحياة العملية.»

3

في الأوائل الأولى من سنة 1965م أنشأت - باسم وزارة الثقافة - مجلة «الفكر المعاصر» وأشرفت على تحريرها ما يقرب من أربع سنوات، ولقد رسمت لها سياستها منذ صدورها أن تقصر نفسها على ما هو «فكر» وما هو «معاصر» من ذلك الفكر، وكان معنى اقتصارها على «الفكر» - عندي - هو إخراج «الأدب» الصرف: شعرا ورواية وقصة ومسرحية، ثم كان معنى «المعاصرة» أن ينصب اهتمامها في المقام الأول بما ظهر من فكر جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وكان من أهم معالم السياسة التي رسمتها لها كذلك أن تعنى بالفكرة الرفيعة الخصبة الموحية أيا كان مصدرها: جاءت من غرب أم جاءت من شرق على حد سواء؛ أي أن تكون مجلة «محايدة» من الناحية السياسية، ما دامت قد استهدفت جودة الفكرة بغض النظر عن «السياسة» التي انبعث منها ذلك الفكر الجيد.

وكان المناخ الفكري في مصر إبان الستينيات مليئا بأفكار جديدة تولدت عن الروح الثورية التي أرادت بطموحها أن تغير حياتنا نحو الأفضل بكل ما استطاعت من جهد وقوة، لكن كثيرا جدا من تلك الأفكار السابحة في سمائنا إبان تلك الفترة كان - فيما رأيت - شديد الغموض برغم دورانه على الألسنة والأقلام، بل إن ذلك الغموض كثيرا ما أدى إلى الخطأ الصريح الذي لم يكن يخلو من خطورة على أفهامنا وحسن تصورها للمعاني التي تريد استخدامها أداة للثورة الفكرية، فآليت على نفسي أن أنشر في مجلة «الفكر المعاصر» فصولا أتناول في كل فصل منها أفكارا رئيسية من تلك الأفكار الشائعة؛ لأحللها تحليلا أقرب إلى التحليلات الفلسفية الهادئة المنزهة عن أهواء المذاهب السياسية، وكنت في معظم الحالات أنتهي إلى نتائج لم تكن هي ما يفهمه عامة المفكرين في حياتنا الثقافية يومئذ، ولأضرب لذلك بضعة أمثلة في إيجاز: (أ)

كانت هنالك دعوة تهيب بكل المواطنين أن يتحدوا في الفكر ليكونوا من أمور دنياهم - بل وأمور آخرتهم كذلك - على رأي واحد، وسرعان ما فهم أصحاب السلطان في شتى مواقعهم هذه الوحدة الفكرية المنشودة على أنها تطابق الآراء تطابقا لا يدع فرصة لزيد أن يختلف عن عمرو، وزيد وعمرو معا إنما يتطابقان مع رأي «الجهات العليا» - كما يسمونها عادة، فكتبت تحت عنوان: «وحدة الفكر» أقول فيما أقوله: «... وسر الوحدة الفكرية - فيما نرى - هو في غلبة أهداف على أهداف؛ فالإنسان كائن عضوي هادف يوجه نشاطه الحيوي نحو غايات بعينها، تصبح هي الخيوط الرابطة لأوجه النشاط على اختلافها، فإذا وضعنا المعنى الذي نريده في جملة مركزة مختصرة، قلنا: إن وحدة التفكير هي في وحدة الهدف، وأن ذلك يصدق بالنسبة للفرد الواحد كما يصدق بالنسبة للأمة الواحدة، فإذا تعددت الأهداف كما تتعدد الأضداد، بحيث أراد الشخص الواحد شيئين متضادين؛ فقد وقع في تفكك وتمزق، يريد بعضه شيئا ويريد بعضه الآخر شيئا آخر، وليس ذلك بالنادر الحدوث، فما أكثر ما يريد الشخص أن يأكل الفطيرة وأن يظل محتفظا بها في آن واحد - كما يقولون، ولكنها تعد حالة مرضية أن توزع النفس بين النقائض والأضداد، وطريق الشفاء إنما يكون في أن يعرف المرء حقيقة نفسه ليعلم أي النقيضين أو الضدين يختار.»

نقول: إن سر الوحدة الفكرية هو في غلبة أهداف على أهداف، أو بعبارة أخرى: هو في تركيز الانتباه في غايات معينة، وإقصاء ما يناقضها أو ما يحجبها عن مجال النظر، وتغير تركيز الانتباه في هدف محدد، يتعذر - بل يستحيل - على الإنسان أن يختار من مختلف العناصر التي تعرض له في حياته ما يخدم الغرض المنشود؛ إذ كيف أختار الوسائل إلا إذا سبقت عندي الغاية التي أتوسل إلى بلوغها بهذا أو بذاك من العناصر التي تعرض لي في الطريق؟ إنه لا تناقض في أن ينشد الفرد الواحد سلسلة من الغايات يأتي بعضها في إثر بعض، فكلما حقق إحداها جعلها وسيلة لما بعدها ... (راجع كتاب «في حياتنا العقلية»).

لكن هذا الذي ذكرناه يترك مسألتين هامتين لاختلاف الرأي اختلافا حرا، أولاهما: ماذا عسى أن يكون الهدف الرئيسي الذي نبحث له عن الوسائل الموصلة إليه؟ أنترك فردا واحدا يحدد لنا هدفنا ثم يصيح فينا أن اتحدوا تحت لوائه؟ والمسألة الثانية هي: ما أفضل الوسائل للوصول إلى الهدف المختار؟ إنه إذا لم تترك للأفراد حرية القول في هاتين المسألتين؛ وقعنا في قبضة فرد مستبد حتى ولو كان في استبداده سليم النية في إخلاصه لبلاده. (ب)

وكان من الأفكار التي شاعت شيوعا واسعا وخطيرا فكرة تقسيم الناس إلى يمين ويسار، ولو اقتصر الأمر في ذلك على الحدود التي تجعل لتلك القسمة معنى؛ لهان الخطب، لكنه تقسيم اتسع حتى شمل جوانب لا يمكن عقلا أن تندرج تحت الانقسام إلى يمين ويسار، فطرحت الموضوع أمام نفسي للنظر التحليلي الهادئ التربة، ثم عرضت على القراء ما انتهيت إليه من نتائج، وكان ذلك بعنوان «يمين الفكر ويساره، ما معناهما؟» (راجع كتاب «في حياتنا العقلية») فقلت فيما قلته: «... «اليمين» و«اليسار» كلمتان أراهما يستعملان على نطاق واسع؛ للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص، فهذه الفكرة من اليمين وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك، وهذا الرجل وذاك. ولقد تساءلت - مخلصا لنفسي السؤال والبحث عن الجواب: ماذا يا ترى عساها أن تكون تلك الصفات التي إذا ما توافرت في شخص أدخلته في زمرة اليمين أو في زمرة اليسار؟ ولما حاولت الإجابة؛ وجدت الأمر أعقد من أن تجيء إجابة سريعة أطمئن إلى صوابها؛ ذلك لأنه لو كانت التفرقة مقصورة على يمين في ناحية ويسار في ناحية، لما كان للتقسيم مغزى عند من تعنيه الآثار الفعلية للأفكار النظرية، لكنني ألاحظ أن ثمة صفتين أخريين - على الأقل - تلحقان باليمين على أقلام الكاتبين، كما تلحق النتيجة بمقدمتها، وأن ضديهما كذلك يلحقان باليسار، فإذا هم وضعوا رجلا في زمرة اليمين وصفوه في الوقت نفسه بالرجعية وباللاعلمية في وجهة النظر؛ لأن اليسار وحده - هكذا ألاحظ في الاستعمال الجاري - هو التقدمي وهو العلمي، وإذا كان هذا هكذا فليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديد.

وأول ما قد ورد على ذهني عند محاولة النظر إلى هذه التفرقة بين يمين الفكر ويساره، هو أن سألت نفسي: ترى هل يتخارج هذان القسمان تخارجا تاما كما يتخارج الذهب والنحاس، فلا يكون الذهب نحاسا ولا النحاس ذهبا؟ أو هما متداخلان كما يتداخل الشعر والموسيقى في شيء واحد بعينه - هو الأغنية - تداخلا يجيز لك أن تعد الأغنية شعرا إذا شئت، وأن تعدها موسيقى إذا شئت؛ لأنها شعر وموسيقى في آن واحد؟ ...»

وهكذا مضيت ألقي أضواء التحليل على هذا التقسيم؛ لأخلص آخر الأمر إلى أنه تقسيم قد يكون له معناه في بعض المجالات كالاقتصاد والاجتماع، وحتى في هذه المجالات فالأمر مرهون بتعريف اشتراطي يحدد معنى النقطتين تحديدا عرفيا، أما سائر ميادين الفكر فمن العسير أن نرى متى يكون الموقف يمينا ومتى يكون يسارا إلا مع تعسف شديد.

ومن طريف ما أذكره في هذا السياق أنني كثيرا جدا ما فوجئت بأن أجد كاتبا قد نعتني باليمين، كما أفاجأ بكاتب آخر ينعتني باليسار، وكاتبا ثالثا يحدد موقعي بأنه يمين اليسار، وكاتبا رابعا يحدده بأنه يسار اليمين، وكان ذلك كله مؤسسا على موقف فكري واحد التزمته ولم أغير منه شيئا ذا بال، وهو الموقف الذي ذكرت بعض جوانبه في الفصل السابق، شارحا به «التجريبية العلمية» (أو الوضعية المنطقية) التي أخذت بها في بنية العلم ومنطقه. (ج)

ومن الأفكار التي تناولتها بالنظر العقلي لأحيط نفسي بمعناها، ثم أشرك القارئ معي فيما انتهيت إليه: فكرة «المثقف الثوري» من هو؟ وذلك لأنه قد شاع في حياتنا الفكرية مبدأ ينادي بوجوب أن يكون المثقف أداة بثقافته لتقدم الناس، فحاولت أن أتبين الفارق الذي يفصل بين من هو مثقف فقط ومن يكون مثقفا ثوريا، فكان مما كتبته في ذلك المجال ما يأتي: «استوقف نظري فيما قرأت منذ قريب قولان مختلفان، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة فيها من الخصوبة والثراء ما يوحي للفكر المتأمل بمعان كثيرة غزيرة، من بينها معنى قد يكون هو الفصل الحاسم عند تحديدنا للمثقف الثوري من ذا يكون؟ فمتى يكون المثقف مثقفا وكفى؟ ومتى يكون مثقفا وثوريا معا؟ أما أحد القولين فقد صادفته خلال قراءتي لديون ابن عربي «ترجمان الأشواق» الذي تولى فيه ابن عربي بنفسه شرح شعره ليبين مراميه في الرموز التي لجأ إلى استخدامها في ذلك الشعر، وقد أورد في غضون هذا الشرح حديثا للنبي عليه السلام، يقول فيه: «ما ابتلي أحد من الأنبياء بمثل ما ابتليت.» مشيرا بذلك - فيما يقول ابن عربي - إلى رجوعه من حالة الرؤية - رؤية الحق - إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم من ضل ليهديه سواء السبيل؛ أي إن رؤية الحق لم تكن عنده هي كل الطريق، وإنما يكملها أن يغير الحياة على هذه الأرض بما يجعلها تعلو إلى الكمال الذي رأى.

وأما القول الثاني فقد وجدته عند محمد إقبال، حينما عاودت قراءة كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلى، ثم رجع إلى الأرض، قسما بربي لو بلغت هذا المقام لما عدت أبدا.» وهي عبارة قالها - فيما يحكي محمد إقبال - ولي مسلم عظيم هو عبد القدوس الجنجوهي، ثم يمضي إقبال في القول بأنه من العسير - في ظنه - أن تجد في الأدب الصوفي كله ما يفصح في عبارة واحدة عن مثل الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين نمطين مختلفين من أنماط الوعي: أما أحدهما فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة، وأما الآخر فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف، ففي هذه الحالة الثانية - حالة التصوف - ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق تمنى ألا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد - كما لا بد له أن يعود - جاءت عودته غير ذات نفع كبير للناس؛ لأنه سينحصر في ذات نفسه، منتشيا بما قد شهد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغير، وأما في حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوع إلى الناس في دنياهم، لا ليقف النبي بما يجري حوله موقفا سلبيا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يغيره التغيير الذي يخلصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال، كما ارتسم في إدراكه الواعي لحظة الشهود.

إن إدراك الحق عند الصوفي هو غاية يوقف عندها، وأما عند النبي فهو بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قوى تهز أركان العالم هزا ليستفيق من سباته، فيبدل قيما بالية بقيم جديدة، فكأنما عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل هي بمثابة مقياس يقيس شيئين في وقت واحد: يقيس مدى ما تنطوي عليه المثل العليا التي شوهدت في حالة الرؤية الروحية من قدرة على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب، حتى تزيل حياة فسدت؛ لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.

هذان هما القولان اللذان صادفتهما فيما قرأت منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطة واحدة مشتركة، هي التفرقة بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى، ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورة على التمييز بين حالتي التصوف والنبوة، فلست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث يجعلها تفرق بين المثقف الذي ينعم بثقافته، ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئا، والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية يكون المثقف مثقفا وثائرا معا ...» (اقرأ تفصيلات المعنى في الفصل الخاص بهذا الموضوع في كتابي «في حياتنا العقلية»).

4

أكتفي بالأمثلة الثلاثة التي قدمتها؛ لأقدم بها نموذجا لما أخذت أكتبه في مجلة «الفكر المعاصر» شهرا بعد شهر في أواسط الستينيات، وكان من الموضوعات التي حللتها على هذا المنوال: إرادة التغيير، طراز من الفردية جديد، معنى الصراع الفكري، قيادات الفكر المعاصر، روح العصر من فلسفته، الماركسية منهجا ... وكانت طريقتي كما قد رأيت من الأمثلة التي عرضتها في الفقرة السابقة هي أن أمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكرة التي هي مدار الحديث، موقنا أن ذلك وحده كفيل بأن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي عليها تدور ثقافتنا إبان تلك الفترة، فلقد كنت تقرأ للكتاب عندئذ عن تلك الموضوعات وأمثالها؛ ليقيموا على ما يكتبونه نتائج سياسية وغير سياسية، دون أن تكون في أذهانهم أفكار واضحة عما يكتبون عنه؛ فلم يكن ينشأ لنا عن الغيوم العقلية إلا غيوم، وما «العقل» إلا ضروب من «التحليل»؛ يبين حقيقة العلاقة بين المقدمات والنتائج، وفيما يلي قصة أرويها من حياتي سنة 1958م؛ لأنها - من جهة - تسجل نوعا من النشاط الثقافي الذي اضطلعت به، ثم هي - من جهة أخرى - ذات دلالة على مدى الأهواء اللاعقلية في تشكيل مواقفنا واتجاهاتنا في شئون ثقافية كان من حقها أن تظفر من أصحاب الريادة الفكرية بقسط من ضوابط أكثر جدا مما يمارسونه.

ففي سنة 1958م دعيت للقاء زائر أمريكي قال: إنه ممثل لمؤسسة فورد، وقد جاء ليعرض علينا مشروعا ثقافيا تنفق عليه تلك المؤسسة، ألا وهو إخراج موسوعة عربية متوسطة الحجم، على غرار موسوعة كولمبيا الأمريكية، وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى قولي «على غرار»؛ إذ كان هذا هو أساس المشروع المقدم إلينا، ولم يكن «ترجمة» لموسوعة كولمبيا، وكان لمؤسسة فورد فيما تبرعت به من إنفاق مالي على المشروع - لو قبلنا تنفيذه - شرط واحد، هو أن يشرف على العمل ويشارك فيه أكبر عدد ممكن من الأقطار العربية جميعا، بمعنى أن تكون تلك الأقطار ممثلة بقدر طاقاتها الثقافية، حتى نضمن أن تكون «الموسوعة» عربية ومن صنع الأمة العربية، لا تحتكر العمل فيها بعض الأقطار دون بعض.

تم هذا اللقاء الأول في «مؤسسة فرانكلين» بالقاهرة؛ لأنها كانت هي التي ستصبح أداة التنفيذ لو كتب للمشروع أن يمضي في طريقه، فكنا في ذلك اللقاء ثلاثة: ممثل مؤسسة فورد وحسن جلال العروسي المشرف على مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، وأنا باعتباري اختيارا لرئيس تحرير الموسوعة محتمل الوقوع، وكانت أولى النقاط المطروحة بيننا لتبادل الرأي هي البحث عن الطريقة المثلى لتمثيل البلاد العربية تمثيلا كافيا، فطرأت للعروسي فكرة اللجوء إلى جامعة الدول العربية، وفي ذلك الحين كان الدكتور طه حسين هو القائم على الجانب الثقافي من تلك الجامعة، وهو الجانب الذي كان أحد فروعه معهد الدراسات العربية، الذي كان الأستاذ شفيق غربال عميدا له.

تركنا الأمر للعروسي عند هذه الخطوة؛ ليتصل بالجامعة العربية باحثا عن طريقة التمثيل الذي كان شرطا أوليا، وفي جلسة تالية نقل إلينا العروسي نتيجة اتصاله، وهي أن يوكل الإشراف الأعلى للأستاذ شفيق غربال من حيث هو عميد لمعهد الدراسات العربية، ثم يأتي بعد ذلك مجلس للإدارة يختار أعضاؤه من مختلف الأقطار العربية، وفي تلك اللحظة عرضت علي رئاسة التحرير، ويشهد الله أنني ما شعرت بالخوف من مشروع ثقافي أشارك فيه قبل ذلك أو بعد ذلك بمثل الخوف الذي شعرت به في تلك اللحظة التي قبلت فيها رئاسة تحرير الموسوعة؛ فالعمل كبير ومزالق الخطأ فيه - والخطر - كثيرة، لكني عقلت الأمر وتوكلت على الله وقبلت.

كانت أولى خطوات التنفيذ رحلة إلى أمريكا لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، أزور خلالها مقار الموسوعات الثلاث الكبرى التي تصدر هناك: اثنتان منهما في نيويورك، وهما: «الأمريكانا» و«كولمبيا»، والثالثة في شيكاغو، حيث مقر موسوعة «البريتانيكا» (وأقول هنا استطرادا بأن «البريتانيكا» - الموسوعة البريطانية - لم تعد في بريطانيا كما بدأت، بل اشترتها شركة أمريكية ، وأحدثت فيها بعد ذلك تغيرات في موادها ونسب الأهمية بين تلك المواد)، لكن كانت لموسوعة «كولمبيا» بين هذه الموسوعات الثلاث التي زرتها لمعرفة التفصيلات التي تدار بها تلك الأجهزة الكبرى من الداخل، أقول: كان لموسوعة «كولمبيا» بينها أهمية خاصة في مشروعنا، وهي أن اتفاقا تم معها على أن يصرح لمن شاء أن يأخذ من مادتها في الموسوعة العربية ما أراد أن يأخذ، ومرة أخرى أوجه رجائي إلى القارئ بأن يلتفت إلى هذا المعنى بدقة، فلم يكن مدار الاتفاق مع كولمبيا أن «نترجم» مادتها إلى العربية؛ فقد لا نأخذ منها حرفا واحدا، ولكن إذا حدث أن استعان بشيء منها الأساتذة المسهمون في الموسوعة العربية، فذلك مصرح به مقدما.

وأثناء وجودي في أمريكا دارسا - على الطبيعة كما يقولون - للموسوعات وكيف تعد مادة وإخراجا، استخلصت لنفسي مبدأ نؤسس عليه عملنا، يختص بالنسبة التي تقسم على أساسها مواد الموسوعة: فكم منها يكون للمادة العربية الخالصة وكم يكون لبقية العالم؟ ولقد تنبهت لأهمية هذه النقطة - مسألة النسبة بين الأجزاء والمواد - خلال زياراتي لمقار إدارة الموسوعات الثلاث التي ذكرتها، وكان المبدأ الذي استخلصته هو أن تكون أربعون في المائة للمادة العربية الخالصة وستون لبقية العالم. وبالطبع كان مبدأ هاما أساسيا كهذا هو أول ما يفرض على مجلس إدارة الموسوعة عندما يتم انتخاب أعضائه من مختلف الأقطار العربية؛ ليقره أو ليعدل فيه.

عدت إلى مصر مزودا بكثير من الأفكار التي تقام على محاورها صناعة الموسوعات، فوجدت ويا لهول ما وجدت! وجدت مجموعة مقالات كتبت عن مشروع الموسوعة العربية خلال الثلاثة الأسابيع التي قضيتها في أمريكا تبلغ نحو عشرين مقالة، نشرت في صحفنا الكبرى جميعا، ولحظت أن نشرها قد جاء على نسق لا أظنه وليد المصادفة، بل لا بد أن يكون مرسوما ومدبرا، وهو أن تتوالى المقالات يوما بعد يوم، بحيث تتولى كل صحيفة دورها في النشر كلما جاء موعده.

وكانت نقطة البدء مقابلة أجراها أحد الكتاب مع الدكتور طه حسين، وفيها يسأله: أليس في مشروع الموسوعة العربية هذا خيانة للثقافة العربية؟ فأجاب الدكتور طه بما معناه: بل إن فيه ما هو شر من الخيانة. وبعد هذه المقابلة انطلق الكتاب ينشرون مقالاتهم التي أشرت إليها، والتي مدارها هو سؤال كهذا: كيف نسمح للأمريكيين أن يتولوا إخراج موسوعة عربية تجيء «ترجمة» لموسوعة كولمبيا؟ وراح بعضهم يبحث في كولمبيا التي زعموا أننا سنترجمها ثم تسمى الترجمة «موسوعة عربية»، راح بعضهم يبحث في كولمبيا عن أشخاص وأحداث عربية هي غاية في الأهمية بالنسبة للثقافة العربية، فلا يجد عنها إلا قليلا، وقد لا يجد عنها شيئا، فيقول لقرائه: انظروا إلى هذا الاستعمار الثقافي البشع الذي هو على وشك أن تقع جريمته في بلادنا، وكان اسمي بالطبع بين أسماء ذكروها هنا وهناك، على أن أصحابها هم صنائع ذلك الاستعمار الثقافي المخيف.

هالني ما قرأته في تلك المقالات، فأولا: أنا أعرف عن نفسي نزاهة وصدقا ووطنية ذهبت فيها إلى حد التطرف إذا كان في مثل هذا الأمر تطرف، وثانيا: كانت الفكرة عندي هي أن الجامعة العربية - والدكتور طه حسين هو القائم بأمانتها في الثقافة - هي التي أعدت لنا طريقة التمثيل العربي، فكيف حدث إذن أن أصبح الدكتور طه نفسه أول من أعطى إشارة الهجوم؟ وثالثا - وهو أهمها جميعا - لم يكن فيما قرأته شيء من الصدق، فلا أساس المشروع هو أن «نترجم» موسوعة كولمبيا، ولا لأي امرئ سلطة على ما تختار كتابته في مواد الموسوعة إلا من سيتولى الكتابة منا، مع إشراف مجلس الإدارة الذي اختير أعضاؤه من معظم البلاد العربية، وللقارئ أن يرجع إلى هذه الأسماء، وسيراها مثبتة في أول «الموسوعة العربية الميسرة» - فهكذا جعلنا اسمها - وأنا على يقين من أنه سيدهش كيف أمكنه حشد هذه النخبة العربية كلها في عمل واحد؟

أحسست - إزاء الهجوم الذي قرأت عنه في مجموعة المقالات - بأنني أضعف من أن أحتمل تهمة «العجالة» لاستعمار ثقافي، برغم علمي عن يقين ليس بعده يقين كم هي تهمة كاذبة؛ ولذلك كتبت خطابا إلى الدكتور طه حسين أعبر فيه عن دهشتي مما قرأت ، ومؤكدا له أنني ما تحركت على الطريق إلا بعد أن علمت أن الجامعة العربية (وهو أمينها للثقافة) قد وضعت المشروع كله في رعايتها، ثم تنحيت عن رئاسة تحرير الموسوعة، بل وأبديت للمسئول عنها استعدادي التام لإعادة نفقات رحلتي إلى أمريكا لتصفو كل الضمائر من الشوائب. وانتهى الحوار الجاد الملح إلى أن قبلت عضوية مجلس الإدارة وذهبت رئاسة التحرير إلى المرحوم إسماعيل مظهر.

وتمت الموسوعة على نحو ما تمت، ولكن لماذا ذكرت هذه القصة الطويلة عنها؟ فعلت ذلك لأبين كيف وإلى أي حد تؤخذ حياتنا الثقافية - وفي أعلى درجاتها ومستوياتها - مأخذ العراك الذي تحركه الأهواء، فلأن نفرا من الناس وجد أن فرصة قد ضاعت من يديه، فلماذا لا يلطخ الساحة كلها بالوحل: وحل الاستعمار الثقافي والعمالة والخيانة وأخواتها، وكان البناء كله كذبا في كذب. وإذا كانت أدنى درجات الضوابط العقلية هي أن يتريث الإنسان فلا يصدر أحكامه على شيء إلا بعد إلمامه بحقيقة ذلك الشيء الذي يريد الحكم عليه، فكما قال القدماء: «الحكم على شيء فرع عن تصوره» أي إن التصور الصحيح للشيء المراد الحكم عليه شرط أساسي لذلك الحكم، فماذا نقول في جماعة من صفوة رجالنا يندفعون اندفاعا إلى الهجوم قبل أن تتبين لهم حقيقة ما يهجمون عليه؟

5 «أزمة العقل في حياتنا» موضوع ما فتئ يشغلني، فلقد رأيته ركنا أساسيا لمن أراد أن يغير من حياتنا الثقافية تغييرا يجعلها أقرب ملاءمة مع عصرنا، وتحت هذا العنوان نفسه كتبت (راجع كتابي «ثقافتنا في مواجهة العصر») لأبين كم هي منفرجة تلك الزاوية التي تفصل ما بين رؤيتنا للعالم ورؤية العصر له، فقلت فيما قلته عن أزمة العقل في حياتنا:

لننظر إلى أوساط الناس من حولنا، فماذا نرى؟ نراهم على عداوة حادة مع العقل وبالتالي فهم على عداوة لكل ما يترتب على العقل من علوم ومن منهجية النظر ودقة التخطيط والتدبير، فإذا انطلقت الصواريخ تغزو الفضاء ويرود أصحابها أرض القمر؛ تمنوا من أعماق نفوسهم أن تجيء الأنباء بفشل التجربة، وإذا سمعوا عن قلوب أو غير قلوب تؤخذ من آدمي لتزرع في آدمي آخر؛ أحزنهم أن يتحقق النجاح، وأفرحهم أن تخفق المحاولة، وهاك هذين المثلين من خبرتي الخاصة لم أقرأ عنهما في صحيفة أو كتاب، بل شهدتهما بعيني وسمعتهما بأذني:

أقيمت ندوة ثقافية كنت أحد أعضائها، وكان من المسهمين فيها كذلك عميد لإحدى كليات العلوم عندئذ، وكان السؤال المطروح هو: ماذا ترى في هذه الوثبة العلمية الجريئة التي هي صعود الإنسان إلى أرض القمر؟ فكان مما قاله عميد كلية العلوم بإحدى الجامعات العربية: إنه يعوذ بالله من هذا الشطط الذي قد يؤدي بالكون إلى الدمار، ثم تساءل قائلا: أليس يجوز أن يهبط الصاروخ على القمر بدفعة قوية فإذا القمر ينحرف عن مداره فتكون الطامة على البشر.

أما المثل الثاني فهو أنه سئل قطب من أقطاب الطب في الأمة العربية: ما رأيك فيما سمعناه عن زرع القلوب في أبدان غير أبدانها؟ فاستعاذ بالله هو الآخر من شر ما يسمع، مؤكدا أنها محاولات مجنونة، لن تؤدي إلى شيء ...

نعم، ملأتني الفكرة بضرورة أن يكون «العقل» بمنطقه الصارم صاحب الكلمة الأخيرة في كل مسألة لا تقع بطبيعتها في مجال الحياة الشعورية الخاصة بالأفراد، ويتبع ذلك - عندي - ضرورة الارتفاع بمنزلة «العلوم» في حياتنا العامة كلما أشكل علينا أمر، وماذا يكون «العقل» - ومعه «العلم» - إلا أن يكون طريقة خاصة في السير من مشكلة يراد حلها إلى الإجراء الخاص الذي يحلها؟ صغار الأطفال إذا ما اعترضتهم مشكلة انفعلوا لها بالصراخ والخبط بأيديهم وأرجلهم، فلا يؤدي ذلك كله إلى زوال مشكلتهم، وأما الإنسان إذا رشد ونضج فلا انفعال أمام العقبات ولا صراخ ولا خبط بالأيدي ولا دبدبة بالأقدام، بل يجلس هادئا يحلل المشكلة المعترضة إلى عناصرها، ثم يتصور لنفسه طريقا عمليا أو نظريا من شأنه أن يزيل العقبة من الطريق، ثم يأخذ في تجربة ذلك التصور على الواقع ليرى إن كان فيه الحل المطلوب أو يضطر إلى رسم تصور آخر.

والإيمان بضرورة اللجوء إلى العقل وإلى العلم الذي هو في الحقيقة تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، يتضمن إيمانا بقدرة العقل الإنساني على الاضطلاع بما خلقه الله من أجله. لكن هل هذه الوقفة هي التي لها السيادة في حياتنا؟ كلا، فنحن نفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوب عامرة بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها، ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجوب التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.

وقد تكون هذه التفرقة واضحة أحيانا، لكنها قد تغمض على الناس أحيانا، ومن هنا ركزت الكتابة - كلما كتبت في ذلك - على المواقع التي يكتنفها شيء من غموض، فماذا نقول في مجال الفكر السياسي مثلا؟ أنخدم الوطن بأسلوب «العقل» أم بأسلوب «العاطفة»؟ فكتبت لألقي الضوء لمن أراد أن يشهد الحق، فأوضحت الفرق هنا بين «الهدف» و«الوسائل»؛ فرجال السياسة - لو أنصفوا - لما حق لهم أن يجاوزوا اختيار «الأهداف»، ثم يتركون رسم الوسائل المحققة لتلك الأهداف، يتركونها لرجال العلم في مجالات اختصاصهم؛ فاختيار «الهدف» تعبير عن رغبة، وبالتالي فهو أدخل في باب الحياة الشعورية؛ لأن فيها موطن «الرغبات»، وأما رسم الخطوات الموصلة إلى الهدف فينبغي أن يبنى على المعرفة العلمية في أدق صورها؛ فقد تكون «الرغبة» عند رجال السياسة أن يعمموا في الناس حق التعلم، أو أن يوسعوا الأرض المزروعة، أو أن يتحول البلد بثقله من محور الزراعة إلى محور الصناعة، أو أن يكون بيننا وبين بلد معين صداقة أو عداوة ... هذه وأمثالها رغبات هي من حق رجال السياسة أن يبدوها في المجالس النيابية وغيرها، لكن الرغبة لا تحمل في أصلابها طريقة تحقيقها، وهنا يأتي دور العلماء في الجامعات أو في مراكز البحوث أو غير ذلك من الهيئات العلمية، فيترك لهم رسم الوسائل التي يرجحون لها النجاح (راجع مقاله «العلم مذهب رابع» في كتابي «مجتمع جديد أو الكارثة»).

وأسوق مثلا آخر لمجال لا يتضح فيه الفرق بين عقل ووجدان فيقع الخلط: مجال الدراسة الأدبية، ومجال النقد الأدبي، فمجرد ذكر لكلمة «أدب» يوحي على الفور بأن المسألة موكولة إلى أدوات أخرى غير علمية المنهج إذا لم يكن الأمر أمر إبداع أدبي في قصة أو في قصيدة من الشعر؛ إذ في الإبداع الفني نفسه يختلف الأمر عنه في أن يكون ذلك الإبداع موضوعا للدراسة؛ فالفرق بعيد بين موقف أحمد شوقي - مثلا - وهو يصوغ شيئا من شعره، وبين دارس يتناول ذلك الشعر نفسه بالتحليل والتقويم، ولقد صادفت زملاء كثيرين من أساتذة «الآداب» ينكرون أن تكون أداة الدراسة متساوية في «العلمية» و«المنهجية» مع أي بحث يجري على ظواهر الطبيعة، وإذا كان بين الموقفين فارق فهو في درجة الصعوبة ودرجة الدقة لا في علمية النظر، على أني أرجئ الإسهاب في القول هنا إلى فصل تال أخصصه لموقفي من نقد الأدب والفن، وليست غايتي في هذا الموضوع من سياق الحديث إلا أن أشير إلى أن خلطا كثيرا ما يقع بين ما هو مجال للعقل وما هو مجال للوجدان الفردي الخاص، وماذا أنت قائل في أساتذة يتخصصون في دراسة التصوف فيحسبون أن من لوازم هذه الدراسة أن يعلنوا في الناس أنهم هم أنفسهم متصوفون، فيضيع أمام الأعين ما يميز الحياة الصوفية الداخلية والنظرة العلمية إلى تلك الحياة، إنه - بالطبع - لا تناقض بين أن يكون دارس التصوف متصوفا، لكنه كذلك لا تناقض في أن يكون دارس التصوف من غير المتصوفين، وكل ما أريد إبرازه هنا هو: أين تكون الكلمة للعقل الباحث الدارس؟ وأين تكون للعواطف والمشاعر؟ (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة »).

6

النظرة اللاعقلية - واللاعلمية بالتالي - تتحكم في حياتنا العامة حتى لتمسكنا من رقابنا، ومن هنا أحسست منذ زمن طويل بأنه إذا كان لي دور أؤديه في إيمان قوي فذلك هو الدعوى إلى إقامة الخط الفاصل بين ما يجوز الاحتكام فيه إلى العاطفة وما لا يجوز، وكان مما أمدني بالقوة فيما اتجهت إليه من دعوة إلى سلطان العقل كلما كان الموضوع المطروح موضوعا عاما في دنيا السياسة أو الاقتصاد أو التعلم وما إلى ذلك، هو إدراكي التام بأن تراثنا العربي وعقيدتنا الإسلامية معا تؤكدان منزلة «العقل» في حياة الإنسان، وإذن فليس الأمر دخيلا علينا لا يربطه بتاريخنا سبب من الأسباب، وكل ما في الأمر هو أننا انحدرنا عن قمة مجدنا، فانحدرنا نتيجة لذلك إلى رخاوة العاطفة؛ إذ لم نعد نحتمل صلابة العقل وقوة أحكامه، حتى لقد أسقطنا على العالم الحديث ظلالا توحي للغرباء بأننا «دراويش» لم يخلقنا الله للعلم القائم على منطق العقل كما خلق سائر عباده ممن يمسكون بزمام الحضارة الراهنة.

فلما حدث سنة 1976م أن دعيت - مع من دعوا - من الوطن العربي لحضور ندوة ثقافية أقيمت في واشنطن، وأطلقوا عليها اسم: «الثقافتان العربية والأمريكية»، وكان الغرض منها أن يدلي الفريق الأمريكي بالملامح التي تميز الثقافة الأمريكية، وأن يبرز الفريق العربي كذلك ما يميز الثقافة العربية، تعمدت أن أجعل موضوع محاضرتي في ذلك اللقاء الثقافي الكبير عن «جانب العقل في التراث العربي»؛ لأبين بما استطعت من قوة ووضوح أن التفكير العلمي القائم على منطق العقل الصرف كان أوضح ما يميز آباءنا في دراساتهم التي تناولوا بها شتى الميادين: اللغة والفقه والفلسفة والنقد الأدبي وكتابة التاريخ، فضلا عن العلوم الخالصة من رياضة وطبيعة وفلك وغيرها؛ وذلك لأمحو من الأذهان ما استطعت فكرة ربما شاعت عنا، وهي أننا إذا أفلحنا في ميادين التعبير الوجداني كالشعر والتصوف، فليس لنا في المجال العقلي العلمي باع ولا ذراع، كانت محاضرتي تلك إحدى اثنتين: أما الثانية فألقيت في قاعة المحاضرات الكبرى بمكتبة الكونجرس وأدرت الحديث فيها عن «الحياة الثقافية في مصر المعاصرة» (وكلتا المحاضرتين منشورة بالإنجليزية في كتاب أصدره القائمون على الندوة، وأسموه: الثقافتان العربية والأمريكية، وقام على إعداده الدكتور جورج عطية).

في فصل تال سأبسط - في شيء من الإسهاب - وجهة نظري في طريقة الجمع بين ثقافة موروثة وثقافة معاصرة، مقيما ذلك الجمع على أساس الجانب العقلي الذي ساد حياة آبائنا من جهة، والذي كان ينبغي أن يسود حياتنا نحن اليوم، لكنني أسارع هنا لأذكر لنفسي إضافة جديدة قدمتها في مؤتمر عقد بالقاهرة، وكان معلوما مقدما أن عددا من المستشرقين قبلوا الدعوة لحضوره، وكان مدار المؤتمر مناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، فلقد أقمت بحثي - وعنوانه «طريق العقل في التراث الإسلامي» - على فكرة محورية هي أن المسلم - بحكم عقيدته الإسلامية نفسها - مطالب باستخدام «العقل» فيما يعترض طريقه من مشكلات، إلا إذا كان الموقف مما جاءت عنه أحكام صريحة في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف، على أن كلمة «العقل» كثيرا جدا ما تفهم بسطحية شديدة، فعنيت في مستهل الحديث بتحديد المعنى المقصود بهذه الكلمة تحديدا دقيقا، ثم أخذت أستعرض بإيجاز تاريخ المسلمين الأولين ومناهجهم في التفكير؛ لأبين كم كان نصيب ذلك المنهاج من «العقل» المنطقي بأدق معانيه (راجع النص في كتابي «هموم المثقفين»).

لم تكن محاربتي للنزعة اللاعقلية الشائعة في حياتنا قائمة كلها على نحو ما تكتب الأبحاث العلمية، بل كنت كثيرا ما ألجأ في ذلك إلى البناءات الأدبية في عرض ما أريد عرضه، وأقصد بالبناء الأدبي ذلك الضرب من الكتابة الذي يبحث فيه الكاتب عن «شكل» (فورم) ليبث فيه - بطريق غير مباشر - المعنى الذي يريد إعلانه.

وأستأذن القارئ - مرة أخرى - في كتابة نموذج كامل لمقالة من هذا الطراز الأدبي، كتبتها لأرد بها على شيخ جليل، له في أعين الجمهور أعلى مكانة، وكان يومئذ يشغل منصبا في الدولة هو أعلى المناصب، ومع هذا الوزن كله لشخصه استباح أن ينشر علينا رأيه بجواز أن نغرق الذبابة التي تسقط في شراب نشربه؛ لأنها - تماما كما هو شائع بين عامة الناس - تسقط على جناح ملوث، فإذا أغرقناها كاملة في الشراب، جاء العلاج من جناحها الآخر، وتحت عنوان: «ذبابة تعقبتها» كتبت ما يلي:

كانت الشمس في ضحاها ذات يوم من أيام الشتاء وكنت في غرفة مكتبي من البيت، وزجاج النوافذ مغلق يشف عما وراءه، ولقد راق وكأنه لا زجاج بيني وبين الخارج، لولا ذبابة كانت تجول على سطحه الخارجي، فتدل بوجودها على وجوده.

وجاءت طائرة كانت لبضعة أيام تعاودنا في مثل تلك الساعة من كل صباح، جاءت مسبوق بصوتها، تسمعه آذاننا قبل أن تراها عيوننا، وهي تحتال قريبة من أسطح المباني، تكاد تلمسها بعجلاتها، تنفث وراءها سحبا من الدخان، وقيل: إنه دخان يحمل معه قاتلات للذباب، فطافت برأسي رغبة مجنونة، وهي أن أتعقب تلك الذبابة الواحدة التي كانت تجول على زجاج نافذتي؛ لأعرف مصيرها في سحابة الغاز، وبالطبع لم يكن مصيرها في ذاته هو مبعث اهتمامي، بل كان مبعث الاهتمام في الحقيقة هو أن أعلم مقدار تأثير الغاز الذي تنفثه الطائرة في الذباب.

وقفت خلف الزجاج؛ لأرقب من قريب، فرأيت الذبابة وقد أخذتها ارتعاشة عصبية أول الأمر، لا تكاد تتجه نحو اليمين حتى ترتد فجأة نحو اليسار، ثم ما هو إلا أن تقف في مكانها هامدة أو كالهامدة، وانقطع الدخان المسموم، وعاد إلى الهواء صفاؤه، ولم تكن إلا بضع دقائق، حتى بدأت الذبابة تحرك من بدنها ساقا هنا وقرنا هناك، إلى أن امتلأت بنشاطها، وعادت تجول وتقفز وتطير، وللذباب أحيانا نقلات سريعة خاطفة بحيث تراها وقد غيرت مكانها دون أن تراها وهي في طريق طيرانها إلى مكانها الجديد.

رجعت إلى مجلسي، أنفذ ببصري مرة أخرى خلال الزجاج الشفاف، لكنها كانت - هذه المرة - هي النظرة الشاردة التي تصاحبها خيوط متفرقة من أفكار متقطعة، لا تستقر على موضوع واحد، وفي مثل هذه الحالة لا تدري عن أفكارك من أين تأتي ولا إلى أين تنتهي، فهي أفكار أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى التفكير المركز، ولكم يحدث لأحلام اليقظة وما يشبهها من الخواطر السارحة أن تجمع لصاحبها الأفكار - في غدوها ورواحها - بحيث ينظر صاحبها إلى الحصيلة التي تجمعت له، فإذا بين يديه قصة بحذافيرها، أو موضوع متكامل الأطراف، لا ينقصه - أو ينقصها - إلا أن تكتب على الورق.

فلأمر ما تخيلت الطائرة النافثة لمواد التطهير، وكأنها تمثل الحركة الفكرية التي تحرك بها أعلام نهضتنا منذ قرن كامل أو يزيد، فما انفكوا طوال الأعوام المائة - أو ما يزيد على الأعوام المائة - ينشرون في الناس أفكارا كان من شأنها - لو فعلت فعلها - أن تطهر جماجم الناس من خرافات كانت تملؤها حتى فاضت عن حوافيها؛ لتعشى بها الأبصار، فماذا صنع الإمام محمد عبده إذا لم يكن قد أدخل في تلك الجماجم أشعة من ضياء «العقل» تطارد خفافيش الخرافة؟ وماذا صنع العقاد وهو يعد - بحق - استمرارا للشيخ محمد عبده في جهوده التي أراد بها أن يمزج وجدان الإيمان بمنطق العقل؟! وماذا صنع لطفي السيد الذي أوشك أن يتحول كيانه إلى «عقل» مجسد يهتدي هو بمنطقه أولا، ثم يأمل أن تسري منه العدوى إلى الآخرين؟ وماذا صنع طه حسين إذا لم يكن قد حاول أن يعلم الناس كيف يقبلون الرأي وهم على حذر؛ حتى لا تنزلق بهم أقدامهم إلى باطل؟! وماذا صنع فلان؟ وماذا صنع من بعده علان من حملة المشاعل خلال مائة عام مضت أو ما يزيد على المائة عام؟

لا، لا، إنه لم يعد يكفيني أن ألقي السؤال هكذا في عمومه؛ لأكتفي له بجواب يغلفه الغموض، وإلا فما أسهل أن نقول: إن تلك الحركة الفكرية التي تحرك بها أولئك الرواد نحو نظرة عقلية حاولوا أن يشيعوها في الناس، بمواقفهم أولا، وبما كتبوه ثانيا، قد أثمرت ثمارها، بل لا بد من تعقب الذبابة الواحدة على لوح الزجاج؛ لنستوثق من بلوغ الرسالة إلى الفرد الواحد؛ لأن دمج الفرد في مجموعة لتغرقه مع غيره قد يوهمنا بغير الواقع.

وخبرتي في مهنة التعليم شاهد على ذلك؛ فالفرق بعيد بين أن تلقي سؤالا على المجموعة ليأتيك الجواب من خليط الأصوات المتنافسة المتزاحمة، وأن تلقي السؤال نفسه على فرد بعينه، وهو وحده، ففي الحالة الأولى كثيرا جدا ما نتوهم بأن المجموعة تعرف الجواب الصحيح، على حين أنك - في الحالة الثانية - يغلب أن تجد الأفراد عاجزين عن الجواب.

وإذن فلنتعقب أثر أعلامنا - جهابذة النهضة العقلية - في أفراد؛ لنرى كم زال من الخرافة التي حاربوها وكم بقي؟

نحن الآن في سنة 1977م وتسمع الحوار الآتي يدور بين جماعة هي من طبقاتنا الفكرية في أعلى عليين، وكان الحديث حول مريض يراد أن تجرى له عملية جراحية في جزء باطني لم أعلم ما هو:

فلان :

دع الجراحة والجراحين جانبا، وخذ هذا العنوان فابدأ بصاحبه.

المريض :

ومن يكون صاحب العنوان؟

فلان :

رجل موهوب في تحضير الأرواح، لك أن تقول عنه: إنه جراح بلا مشارط.

علان :

وكيف عرفته؟

فلان :

جربته بنفسي في عملية في المعدة أو الأمعاء، فلم يصنع سوى أن تحسس بأصابعه ظاهر ثيابي، ثم قال لي: عد إلى بيتك، حاسب على خياطة الجرح إذا استحممت.

علان :

وكيف يكون جرح وخياطة لجرح وهو لم يمسك مشرطا، بل لم تخلع أنت شيئا من ثيابك؟!

فلان :

هذا ما كان، وعدت إلى داري، وكشفت عن جسدي في مكان العلة، فإذا هناك خياطة كالتي يجريها الجراح، وشفيت من مرضي والحمد لله!

المريض :

هات لي هذا العنوان.

وأنا أسأل:

ماذا كان حوار كهذا ليصبح لو أن هذه الجماعة أو جماعة تماثلها تحدثت في أمر من هذا القبيل سنة 1877م؟ أو تحدثت في سنة 1777م أو تحدثت سنة صفر أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟

ومرة ثانية أقول:

نحن الآن في سنة 1977م، وتقرأ لكاتب - والصحيفة الأدبية تنشر له - يتساءل: كيف تعود الشمس إلى الظهور بعد مغيب؟ ثم يقدم حضرته بأنها في مخبئها - بعد المغيب - تظل تسجد لله، رافعة إليه الدعاء بأن يعيدها إلى الظهور يوما آخر فتعود. فماذا كان يكتب في هذا سنة 1877م؟ ثم ماذا كان يكتب قبل ذلك في سنة 1777م؟ أو قبل القبل في سنة صفر أو ما تحت الصفر بآلاف السنين؟

ومرة ثالثة أقول:

نحن الآن في سنة 1977م، وتسمع حوارا جادا لا يمازجه شيء من مزاح بين ثلاثة أشخاص فيهم أستاذ جامعي، يناقشون زواج الجن بالإنس، ما حدوده؟ إنهم جميعا على اتفاق بأن الرجل من الإنس قد يتم زواجه من امرأة «جنية»، ويؤكد لهم الأستاذ الجامعي أنه مارس هذه الخبرة بنفسه، لكن موضع التساؤل واختلاف الرأي بينهم هو في الموقف المعكوس؛ أي فيما إذا كان الرجل من الجن يمكنه الزواج من امرأة من الإنس، وعلى أية حالة من الحالات ماذا يكون مصير الأبناء وإلى أي فئة ينتمون؟ فماذا كان مثل هذا الحوار ليكون لو جرى سنة 1877م، أو سنة صفر وما قبلها بما شئت من سنين؟!

أويت إلى مخدعي يائسا، وكانت الساعة في عز الظهر، ونمت لأرى في حلمي تلك الذبابة نفسها التي كنت تعقبتها على زجاج النافذة عندما نفثت الطائرة بدخان التطهير، وهو دخان قيل: إنه دخان يبيد الذباب، ولكن الذبابة التي أعنيها صمدت للمبيد، وانتعشت بعد فترة وجيزة من أثر الغاز المميت، غير أن ذبابتي لم تكن في الحلم سائرة على لوح من زجاج، بل رأيتها - هي هي بعينها وقرنيها وسيقانها - تهبط على طبق فيه طعام، وتحلق حوله الطاعمون، فثار الجدل بينهم ماذا يصنعون بالذبابة الساقطة، أو بالطعام؟ فأفتى أحدهم بأن تغمس الذبابة في الطعام ثم تنتزع منه؛ لأن للذبابة جانبا فيه الداء، وجانبا آخر فيه الدواء!

وصحوت بعد تلك الغفوة الخفيفة وما رأيته فيها، وما هو إلا أن أخذتني دهشة الجزع، إذ تذكرت أن هذا الذي حلمت به إنما هو ترديد لعدة مقالات قرأتها في صحفنا عن موضوع الذبابة تسقط في الطعام، فماذا يكون من أمرها أو لا يكون؟ كأنه موضوع يحتمل الأخذ والرد والدفاع والهجوم! ومتى قرأت تلك المقالات؟ متى؟ منذ ألف عام؟ منذ مائة عام؟ منذ عام واحد؟ لا والله، بل منذ أسبوعين، وهذه هي ثقافتنا بعد كل ما صنعه محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين! وأعجب منه أن يكون هذا نموذجا من ثقافتنا اليوم: أن تراهم يدرجونه في مقولة الإيمان.

الفصل السادس

نظرية في النقد

1

لي في نقد الأدب والفن موقف واضح مؤسس على مبادئ نظرية، ولعله بدأ معي عائما غائما ثم أخذ على مر السنين يتبلور حتى أصبح محدد المعالم - في رأيي على الأقل - ولست أعرف ما عسى أن يكون بينه وبين النظريات النقدية الأخرى من أوجه شبه وأوجه اختلاف؛ لأنني - في هذا الميدان - لست ذلك الباحث الدارس المسئول عن تفصيلات المقارنات بين الفكرة المعينة وأشباهها، بل هو موقف يمكن القول عنه إنه جاء نتيجة طبيعية لميل معين في فطرتي، ولاتجاه اتجهته - بناء على ذلك الميل الفطري - في حياتي الثقافية أخذا وعطاء، وربما كان ذلك الميل هو نفسه الدافع الخفي الذي جذبني جذبا - في ميدان الفلسفة - إلى «التجريبية العلمية» (الوضعية المنطقية)، وبهذا يكون موقفي من نقد الأدب والفن إحدى النتائج التي ترتبت على عقلانية مذهبي في الفلسفة.

والموقف في جملته مرتكز على إطار بسيط ألخصه فيما يلي: ها هو ذا ديوان لشاعر ما أخرجته المطبعة واجتذب رغبة النقاد في معالجته كل على طريقته الخاصة ومن زاويته التي يفضلها على سائر الزوايا، فكم زاوية للنظر يمكن تصورها لهذا الديوان الواحد؟

هنالك (أولا):

تلك الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى الديوان المنقود نظرة يحاول بها أن ينفذ ببصره خلال الشعر الذي يقرؤه إلى «نفس» الشاعر الذي أنشأ الديوان؛ ما طبيعتها؟ أهي نفس مرحة متفائلة؟ أم هي مكتئبة متشائمة؟ أم هي كذا أم هي كيت؟ فالناقد في هذه الوقفة يتخذ الشعر «وسيلة» لغاية يهتم بها، وليس الشعر هنا غاية في ذاته بل هو - عند ناقد من هذا الطراز - وسيلة للكشف عن نفسية صاحبه، وبعبارة أجلى وأوضح: المهم عند الناقد هنا هو «علم النفس» لا «الشعر»، ومن أمثلة ذلك وقفة العقاد في كتابه «ابن الرومي» من شعره، فكأنه حين قرأ شعر ابن الرومي فإنما قرأه ليجيب لنفسه عن سؤال كهذا: من هو ابن الرومي؟ وكأن الناقد في مثل هذه الحالة لو عثر على ديوان مجهول الشاعر لما عني به؛ إذ ينعدم «الهدف»؛ لأنه لا شاعر بعينه هناك نريد أن نعرف طبيعته من شعره، وأقصى ما يمكن فعله هو أن نستخرج طبيعة نفسية لشخص مجهول، وقد نسمي هذا الاتجاه في نقد الأدب والفن بالاتجاه «النفسي»، وأستطيع أن أتصور عالم النفس «فرويد» وهو يقرأ مسرحية «أوديب» للشاعر اليوناني سوفوكليز، فيستخرج منها ذلك الطابع النفسي المميز لبطلها أوديب، وهو ارتباطه الجنسي الخبيء بأمه، مما دعا فرويد أن يطلق على مثل تلك «العقدة» النفسية في نظريته العلمية «عقدة أوديب»، أقول: إنني أستطيع أن أتصور فرويد في موقفه ذاك بمثابة ناقد أدبي من الطراز الذي ذكرناه.

وهنالك (ثانيا):

زاوية أخرى للنظر إلى الديوان المنقود، وهي شبيهة بالزاوية الأولى في كون الناقد يتخذ من الشعر الذي بين يديه «وسيلة» لغاية تثير اهتمامه في المقام الأول، وكل الفرق بين الرؤيتين أنه بينما الناقد في الحالة الأولى يبحث خلال الشعر عن «نفسية» الشاعر، نرى الناقد في الحالة الثانية يبحث خلال الشعر عن «الحالة الاجتماعية» التي كانت تحيط بذلك الشاعر، فكأنما شعر الشاعر هنا هو بمثابة وثيقة تاريخية ليصور من صور الحياة الاجتماعية، وكأنما الناقد هو أكثر اهتماما بحقائق «علم الاجتماع» منه بفن الشعر، ويمكن اعتبار كتاب طه حسين عن المتنبي مثلا لهذا الاتجاه الاجتماعي في النقد.

وهنالك (ثالثا):

زاوية أخرى للنظر، يبحث الناقد منها لا عن «نفسية» الشاعر صاحب الديوان المنقود، ولا عن «الحالة الاجتماعية» التي أحاطت به، بل يبحث في نفسه هو - نفس الناقد - عن وقع هذا الشعر فيها، فماذا ترك في جوانحه من أثر؟ هل خرج من قراءة الديوان وهو على وعي بالغايات العليا التي استهدفها الكون؟ أو خرج شاعرا بعبث هذا الكون وإفلاسه في أن تكون له غايات؟ هل خرج من قراءته راضيا عن نفسه أو ساخطا عليها؟ ... ثم يسطر هذا الناقد وصفا لطوية نفسه، والأغلب أن تجيء القطعة النقدية من هذا القبيل، وكأنها في ذاتها «أدب» بني على «أدب»، ويمكن تسمية اتجاه نقدي كهذا بالاتجاه «التأثري»، وأمثلته عندنا تملأ الصحف كل يوم. ومرة ثالثة أقول: إن الشعر المقروء لم يتخذ غاية في ذاته، بل إن الناقد قد اتخذ من قراءته له وسيلة يصبح عن طريقها «أديبا» بدوره.

ولكن ألا ترى أن سؤالا هنا يطرح نفسه علينا، وهو: أن يقف الناقد وقفته من الشعر المنقود، نفسية كانت أو اجتماعية أو تأثرية، أليس هو مضطرا - أولا - إلى التيقن من أن الذي بين يديه «شعر» يستحق المعالجة بهذه الطريقة أو بتلك؟ أكلما وقع ناقد على مجموعة شعرية مرقومة على ورق هاجمها من فوره باحثا عن «نفس» أو عن «اجتماع»؟

لا بد إذن من خطوة نقدية تسبق سائر الخطوات - إن كان بعدها خطوات - وهي أن يفحص الناقد الشعر نفسه، بغض النظر عما وراءه أو عمن وراءه؛ فها هي تي تركيبات صوتية وجدها وقيل له إنها «شعر»، فلينظر بادئ ذي بدء في صدق الدعوى، أشعر هي حقا؟ ولكنه لا يستطيع أن يجيب عن سؤال كهذا إلا إذا كان بحكم ثقافته السابقة مزودا بمعيار يقاس به الشعر بين جيد ورديء ومقبول ومرفوض، وما معنى ذلك؟ معناه أن ثمة أسبقية منطقية لأمرين؛ أولهما: فلسفة خاصة في ماهية الفن بصفة عامة والأدب بصفة خاصة، وثانيهما: تطبيق تلك الفلسفة على هذا الذي أمامه، ليتبين إن كان ذا طبيعة تؤهله للدخول في دنيا الفنون أو لم يكن، فإذا وجده مؤهلا لذلك بناء على الخصائص التفصيلية الداخلة في تكوينه، فله بعد ذلك أن يبحث وراءه عما شاء من «نفس» أو «اجتماع»، لكن هذه الإضافة - من وجهة نظري - قد تجيء وقد لا تجيء؛ فالعملية النقدية في صميمها تكون قد استوفت أركانها بمجرد الفراغ من منح الديوان المنقود تأشيرة الدخول في عالم الشعر.

وذلك هو موقفي من النقد.

2

عناصر الموقف ها هنا ثلاثة: كاتب وكتاب وقارئ، فلولا الكاتب وكتابه لما كان قارئ، وبالتالي لما كان ثمة ناقد، وكذلك لو كنت كاتب كتاب لغير قارئ - في حاضر الأيام أو مستقبلها - كأن يستخدم رموزا لا يفهمها سواه، لفقد الكتاب أخص خصائصه، وبطل بهذا أن يكون كتابا بالفعل والأداء، وإذن فعملية «التوصيل» من الكاتب إلى القارئ شرط ضروري لتكتمل للموقف عناصره.

لكن هذا القول لا يعني أن يتلقى الكتاب قراء كثيرون، فتصلهم رسالة الكاتب على درجة سواء؛ إذ ما دام الناس يتفاوتون في خبراتهم، فهم بالضرورة يتفاوتون فيما يستخرجونه من الكلمات المرقومة أمامهم، وبخاصة إذا ارتبطت تلك الكلمات بالحياة الوجدانية بسبب؛ فالكثرة الغالبة من هؤلاء القراء يقفون عند مستوى الأحداث التي تجري كما ترويها الكلمات المقروءة، أما أن يصعد القارئ بعد هذه الأحداث السطحية إلى ما وراءها - إن كان لها ما وراء - فذلك ما يتعذر على تلك الكثرة، حتى يتصدى لها قارئ ممتاز، فيدرك «الماوراء» ثم يكتب لسائر القراء ما قد أدركه، فعندئذ يكون هذا القارئ الكاتب «ناقدا»، وتكون كتابته عما قرأه «نقدا»، وبعدئذ يتغير المنظور كله أمام أعين القراء الآخرين بالنسبة إلى الأثر الأدبي المنقود.

على أنه من الضروري أن نفرق بين ثلاثة رجال قد يختلط الأمر في شأنهم عند كثيرين، بل لعله قد اختلط بالفعل اختلاطا شديدا، أما هؤلاء الرجال الثلاثة فهم: كاتب التعليق الأدبي الذي يعلق به على كتاب معين، كالتعليقات التي نراها منشورة في الصحف، والناقد الذي يتناول عملا أدبيا بالدرس المستفيض، والفيلسوف صاحب النظرية الجمالية المعينة، فأما أولهم فمهمته أن يقدم كتابا للقراء، تقديما يظهر حسناته وسيئاته، وشيئا موجزا عن محتواه، ومثل هذا الكاتب غير ملزم بأن يبسط في تقديمه ذاك مبدأه النظري الذي على أساسه ينقد ما ينقده؛ إذ هو معني بجزئية أدبية واحدة هي الكتاب الذي يقدمه إلى قرائه، وأما «الناقد» - بالمعنى الأشمل والأكمل - فلا بد أن تكون له أسس نظرية في طبيعة الأدب؛ ليقيم عليها نقده، لا بالنسبة إلى كتاب واحد بعينه يتولى عرضه، بل بالنسبة كذلك إلى أي عمل أدبي آخر، فهو بعد أن خبر على طول الأيام جزئيات أدبية كثيرة - كأن يكون قد درس لنفسه عددا ضخما من قصائد الشعر ومن الروايات والمسرحيات - استطاع أن يستخلص قواعد نظرية عامة يجعلها أسسا للحكم الأدبي على ما يريد أن يحكم عليه، فإذا كانت الجزئية الأدبية الواحدة المعينة هي التي تستغرق اهتمام المعلق الأدبي، فإن القاعدة النظرية التي تبنى عليها الأحكام الأدبية هي التي تستولي على اهتمام «الناقد» عند التطبيق على عمل أدبي معين، أو ربما على عصر أدبي بأكمله، ثم يأتي بعد المعلق والناقد معا مستوى أعلى من حيث درجة التعميم، هو المستوى الذي يصعد إليه صاحب الفلسفة الجمالية (الاستاطيقا)؛ ففي هذا المستوى يبحث الفيلسوف عن مبدأ عام شامل، نفسر بمقتضاه لا هذا الكتاب المعين وحده كما يفعل المعلق الأدبي، ولا الميدان الأدبي كله أو بعضه كما يفعل الناقد حين تتكون لديه رؤية خاصة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر أو الرواية أو المسرحية؛ بل تفسر بمقتضاه كل نتاج في دنيا الفن على إطلاقها، من موسيقى إلى شعر وتصوير ونحت وعمارة، وهكذا يتجه السير خلال هؤلاء الرجال الثلاثة، من النظر إلى جزئية واحدة، فإلى قاعدة عامة تشمل ميدانا فنيا، ثم إلى مبدأ شامل - عند الفيلسوف - يغطي كل ميادين الإبداع الفني برباط نظري واحد (راجع مقالة «الناقد قارئ لقارئ» في كتابي «في فلسفة النقد»).

أما وقد نبهتك إلى وجوب التفرقة بين «الناقد» من جهة، و«المعلق الأدبي» و«فيلسوف الجمال» معا من جهة أخرى، وذلك بعد أن أشرت لك (في الفقرة السابقة) إلى الفوارق بين التيارات الرئيسية في النقد: فتيار منها يتخذ النص الأدبي وسيلة إلى دراسة «نفسية»، وتيار ثان يتخذه وسيلة إلى دراسة «اجتماعية»، وتيار ثالث يتخذه وسيلة لإنشاء قطعة «أدبية» أخرى يعبر بها الناقد عن نفسه حين تأثر بالقطعة المنقودة، وبينت لك أن هذه التيارات كلها قاصرة ومقصرة، فهي قاصرة لأنها آثرت مجالا فكريا على مجال الأدب، مع أنها تدعي أنها معنية بالأدب أساسا، وهي مقصرة لأنها نسيت أنه لكي يدرس الناقد شيئا عن «النفس الإنسانية» أو عن «الظروف الاجتماعية» من وراء دراسته للشعر الذي تصدى لدراسته - أو غير الشعر من أجناس الفن - فإنه قبل ذلك كان ينبغي له أن يطمئن أن الذي بين يديه «شعر » حقا، وهو لا يطمئن إلى ذلك إلا إذا انكب على القطعة الأدبية (أو الفنية عموما) في ذاتها انكبابا يحصر نفسه فيها، وكأنها قطعة بغير صاحب، وبغض النظر عن الظروف الاجتماعية التي أحاطت بصاحبها؛ فالذي بين يديه تشكيلة من كلمات (أو من أصوات أو من ألوان إلخ) ركبت على نمط محدد معين، أتاح لها أن تكون جاذبة للنظر خالية للنفس، فماذا في طريقة التركيب قد أدى إلى قيمتها تلك؟ ها هنا ينصب البحث على جزئيات البناء الأدبي (أو الفني) جزئية جزئية، ثم النظر إلى العلاقات التي ربطت لفظا بلفظ وصورة بصورة، وهكذا، فإذا فرغنا من مثل هذه الدراسة التفصيلية للأجزاء وطرائق ارتباطها بعضها ببعض، كانت لدينا فكرة واضحة عن «التكوين» أو «الشكل» (الفورم) كيف قام، فنقيسه إلى فكرة مسبقة في رءوسنا هي التي أسميناها فيما أسلفناه بالقاعدة النظرية عند الناقد، فنرى كم يقترب التركيب الذي أمامنا - أو يبتعد - عما كنا نتوقعه ونريده في البناء الفني.

هذه العملية في تحليل «الشكل» - الذي بنيت عليه المنتجات الأدبية أو الفنية - هي ما وجدتني أشد إيثارا له على سائر الاتجاهات في النقد، وواضح أن دراسة الشكل وطريقة بنائه، اتجاه يجعل الأولوية عند الناقد الأدبي للقطعة الأدبية ذاتها من ناحية، ومن ناحية أخرى هو اتجاه أقرب من سواه في النزعة العلمية القائمة على تحليل موضوعي للعناصر وطريقة اجتماعها أو افتراقها دون أن يتدخل البحث بعاطفة ذاتية تميل به إلى ما يرضيه وجدانا لا ما يرضي «الحق» مجردا عن غواية الوجدان.

3

في آخر الأربعينيات، أو في أول الخمسينيات - لا أذكر على وجه الدقة - دار حوار بيني وبين الدكتور محمد مندور على أساس النقد الأدبي ماذا يكون؟ أيكون للعقل العلمي الموضوعي بأدواته التحليلية أم يترك أمره «للذوق»؟ أخذ مندور بمبدأ «الذوق» وأخذت بمبدأ «العقل»، وكانت مناسبة ذلك الحوار عرضا نشرته عن كتابه العظيم «النقد المنهجي عند العرب»، وبعد أن بنيت مواضع الإجادة في ذلك الكتاب كان لا بد لي من ذكر اختلافي مع مندور في الأساس النظري، ومن الخير هنا أن أورد أطرافا من ذلك الحوار، أوضح بها موقفي في عقلانية النقد وموضوعيته (راجع النص الكامل لذلك الحوار في فصل بعنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل» في كتابي «قشور ولباب»).

قلت - بعد فراغي من ذكر مواضع الإجادة في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» - ما يأتي: «... لا بد لي الآن أن أجادله بعض رأيه، وأول ما أجادله فيه هو هذا الرأي الذي أشفق منه على أوساط القراء أن يضلوا به ضلالا بعيدا، الرأي الذي يجعل «للذوق» الشخصي الكلمة العليا في نقد الفنون، إننا نعيش في بلد لا تضبطه القواعد، ولا تلجمه القوانين، وما أكثر ما يصادفك الفتى لم يكد يشب عن طوقه، فيتغنى لك بشعر زميله في حجرة الدراسة، زاعما لك أنه من غر القصيد! فإذا ما أردت تأديبه فطالبته بالدليل؛ أجابك بأنه يطرب له، وكفاه ذلك دليلا! ولست أذكر في هذا السياق عشرات من أساتذة الأدب عندنا - تأدبا، فماذا لو طلع عليهم أديب نقادة - مثل الدكتور محمد مندور - برأي كهذا، قد يتسرعون في فهمه، فيساعدهم على فوضاهم في الأدب والنقد؟ وأقول: «يتسرعون في فهمه»؛ لأني ألاحظ أن أديبنا الفاضل قد تحفظ بعض الشيء، فاشترط أن يستند «الذوق» إلى «أسباب»، ثم عاد فأكد لقارئه أن النقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره، فاستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل».

لكنني لا أكاد أفهم عنه حين يشترط للذوق «أسبابا» ولا حين يطالبنا بإخضاع الذوق لنظر «العقل»؛ فالأسباب والنظر العقلي لا يكونان إلا في التحليل الموضوعي، فأنت بين أمرين: إما أن يكون الحكم للذوق، وإما أن يكون للعقل بنظره وأسبابه، فأيهما تختار؟ إما أن تجمع بين «الذوق» و«النظر العقلي» و«ذكر الأسباب» في صيغة واحدة، فذلك جمع ينطوي على تناقض صريح، يرفضه المنطق ابتداء، كلا، لست أرى هذا الرأي، وأصر على أن يكون النقد الأدبي قائما على التحليل العقلي؛ أي إنني أصر على أن يكون النقد الأدبي «علما» (راجع مقالة «علمية الدراسة الأدبية» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).

تعريف «العلم» هو منهج البحث، أيا كان «الموضوع» المبحوث بذلك المنهج؛ فقد تصب المنهج العلمي على شعر المتنبي لدراسته واستخراج خصائصه، وقد تصبه على تربة بقعة من الأرض لترى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لزراعة القطن، أو قد تصبه على ضرب من المعادن لتحدده وتحدد خصائصه، فليس العلم علما بموضوعه - إذ تتعدد موضوعاته وتتنوع - ولكنه علم بمنهجه، وعلى هذا الأساس فحين أقول: إن النقد الأدبي «علم» فإنما أريد ألا أفرق في أصول المنهج المتبع في دراسته، والمنهج المتبع في دراسة أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة، اللهم إلا فرقا في درجة الدقة الرياضية عند الوصول إلى النتائج، الموقف واحد في كلتا الحالتين: عالم الطبيعة أمامه ظاهرة يريد استخلاص القانون الذي يحكمها، والناقد أمامه ظاهرة في دنيا الفن أو الأدب، يريد استخلاص القاعدة التي تفسرها.

أردت في ردي على الدكتور مندور أن أجعل الأمر واضحا في التفرقة بين أن يكون تقويم الأدب قائما على «ذوق» وأن يكون ذلك التقويم قائما على «عقل» - أعني على «علم»، فبينت في إسهاب كيف يتلقى قارئ ما قطعة أدبية معينة - قصيدة من الشعر أو رواية أو ما شئت من المنتجات في دنيا الإبداع الأدبي - فهو يقرؤها ولا يدري بادئ ذي بدء ماذا يكون وقعها من نفسه، أهو إعجاب بها أم نفور؟ فذلك القارئ - على أي الحالتين - قد يفرغ من القراءة ثم ينصرف عما قرأ، لا يريد أن يعرضه على أحد سواه، وهنا يكون قارئ القطعة الأدبية قد استقبل المادة المقروءة، واستجاب لها بحالة «ذوقية» سواء أكانت تلك الحالة إعجابا أم كانت نفورا، لكن عملية «النقد» الأدبي لا تكون قد نشأت، إنه في مثل هذه الحالة لا «نقد» ولا «ناقد»؛ إذ كل ما هنالك هو قارئ فرغ من قراءته متذوقا لما قرأ بالإيجاب أو بالسلب، لكن افرض أن ذلك القارئ بعد فراغه من قراءته الأولى تلك - التي تأثر فيها بذوقه - قد عن له أن يبحث في القطعة المقروءة عن السر الذي جعلها تؤثر في «ذوقه» بمثل ما فعلت، أليس هو في هذه الحالة يعاود القراءة مرة ثانية - وربما ثالثة أيضا ورابعة - فاحصا ومدققا في الكلمات وطرائق تركيبها معا في جمل وفي صور، بل ربما بلغت به دقة البحث أن يلجأ إلى مراجعة «الحروف» ليرى كم تكرر حرف الراء - مثلا - وكم تكرر حرف الفاء؟ إنه لن يترك وسيلة للبحث الفاحص المدقق إلا لجأ إليها، حتى يعثر على سر الحالة الذوقية التي أحدثتها في نفسه تلك القطعة الأدبية، وبعد أن يبذل في ذلك ما وسعه من جهد وقدرة؛ فالأغلب أن يدونه لنفسه ثم لينشره في الناس، وها هنا يكون «النقد» الأدبي قد ولد وأصبح له وجود، وواضح في جلاء الشمس الساطعة أن عملية النقد هذه لم تكن قد ولدت بالقراءة الأولى، بل جاءت ولادتها نتيجة للقراءة الثانية (أو ما بعد الثانية من قراءات)؛ فالقراءة الأولى خاطبت «الذوق»، ومن ثم كان القبول والرضى أو الرفض والسخط، وأما في القراءة الثانية فقد كان هنالك تحليل وتعليل والتماس للعناصر الداخلة في بناء الجسم الأدبي فرادى ومجتمعة، وهذه كلها ضروب من فاعلية «العقل» ولا دخل فيها للذوق.

الفرق بين الحالتين أوضح من أن نظل نبدي فيه ونعيد، ولكن ما حيلتنا إذا وجدناه لم يزل غامضا حتى عند كبار نقادنا؟ إنه هو الفرق نفسه بين من يرى زهرة تروعه بجمالها، فيتناولها هو نفسه بالتحليل العلمي ليرى كيف نبتت وما خصائص أوراقها وفروعها، في الحالة الأولى كان المعول على «الذوق»، وفي الحالة الثانية كانت الفاعلية تحليلا مرسوما على قواعد البحث العلمي.

وبعد أن عرضت المسألة على هذا النحو في ردي على مندور، مرت فترة لا أذكر كم طالت، وإذا أنا أقرأ له وهو يعيد فكرتي عن «القراءتين»: الأولى للذوق والثانية للنقد، ثم مضت بعد ذلك عجلة الزمان، فإذا بأحد الكتاب يؤلف عن مندور، فيضع له واحدة من مبدعات العبقرية النقدية عنده، فكرة «القراءتين» اللتين تتميز أولاهما من ثانيتهما بأن الأولى للذوق والثانية للنقد.

4

كان لا بد لي في سياق ذلك الحوار عن النقد الأدبي وطبيعته أن أستطرد في الحديث لأحدد مفهومي عن الأدب - أو قل عن الفن بصفة عامة - ما هو؟ لأن النقد إذا أراد لنفسه - أو أريد له - أن ينأى عن أهواء «الذوق» ليقيم قوائمه على «علم» أو ما يشبه العلم في موضوعية النظر وفي الركون إلى التحليل، لم يكن له بد من أن يضع أمامه تصورا واضحا لما يتوقعه من العمل الفني؛ ليقيس الحالة الجزئية المعروضة أمامه بالصورة المثلى، كي يتبين إلى أي حد تقترب أو تبتعد تلك الحالة المعروضة من هذا المثال المنشود، فكتبت أقول:

ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟

أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فحانت مني التفاتة إلى نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا ...

هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة: أنا والغراب والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).

أما أنا فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي، في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ هو أنني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.

وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء تحركت حركة معينة، ثم سكنت في مكان معين على هيئة معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف، فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل، كسكون غرابك هذا على الفنن، وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ في أي درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.

وما قلته في نفسي وفي الغراب أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.

وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب، فهكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته، يختلف ولو قليلا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها، فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما، وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين متشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.

هكذا الحياة - يا صاحبي - في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.

والفن - كما يقولون - تصوير للحياة! مقياس الفن - بل معنى «الفن» - هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا، لو قلت كلاما يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك، فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية وكان غيظي الشديد كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا: إنه شاعر لحكمته أو لصدق حكمه أو لما إلى ذلك، الحكمة والحكم الصادق أدخل في باب «العلم»؛ لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد، وإلا فخبرني - أثابك الله - وما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس» وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد» و«الغليان من صفات الماء»؟! كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله ... (اقرأ الفصل كاملا في كتاب «قشور ولباب» تحت عنوان «النقد الأدبي بين الذوق والعقل»).

5

جوهر الفن كائنا ما كان موضوعه - والأدب جزء من الفن بمعناه الأوسع - هو «الشكل» الذي أقامه الفنان إطارا يبث فيه المضمون الخبري (من «خبرة») الذي أراد أن يجسده للعين أو للأذن والشكل أو الصورة (= الفورم) تبعا لذلك هو - أو ينبغي أن يكون - موضع النظر بالدرجة الأولى عند الناقد.

ليس المراد - بداهة - هو أن نعرض على الناس أشكالا خالية، بل لا بد لهذه الأشكال أن تجيء مترعة بالمحتوى، لكن هذا المحتوى نفسه قد نعرضه سائبا لا تضمه «صورة» فيظل معناه قائما، لكنه لا يعود الفن عندئذ هو وسيلة نقل هذا المعنى، إننا إذ ننطق بصيغة البحر الطويل من أوزان الشعر العربي، فنقول: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فلا ننطق بذلك «شعرا»؛ لأن ما نقدمه به شكل مفرغ من مادته، واملأ هذا القالب بمضمون من حياة الإنسان يصبح شعرا، كقول امرئ القيس في هذا الشكل الشعري:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وكما أن الشكل وحده لا يكون شعرا، فكذلك المضمون الحياتي وحده متحللا من قالب الشكل لا يكون شعرا كذلك، فما كان ليكون شعرا ما قاله امرؤ القيس لو قال: تعاليا معي نقف عند سقط اللوى، التي هي بين الدخول وحومل؛ لنبكي معا بكاء تثيره فينا ذكرى الحبيب وذكرى الدار التي كان يسكنها.

على أننا مع التسليم التام بضرورة امتزاج الصورة وما يملؤها امتزاجا يستحيل أن ينفصل في مجرى الخبرة الحية، إلا أننا - مع ذلك - نقول: إن جانب الشكل هو الصفة التي تجعل الفن فنا، وإذن فلا بد لتلك الصفة أن تكون في عملية النقد الفني ركنها الركين، فالمجموعة الصوتية التي أصبحت «موسيقى» قد انخرطت في «شكل» فأصبحت موسيقى، والمجموعة اللونية التي أصبحت «لوحة» قد انتظمت في «شكل» فأصبحت لوحة فنية، ومجموعة الألفاظ التي أصبحت شعرا لم تصبح كذلك إلا لأنها انصبت في «شكل» يمكن أن يوزن أو يقاس.

ولقد أفردت دراسة «للصورة» في الفن وفي الفلسفة على السواء؛ لأتعقب هذا المصطلح الهام باحثا عن دلالاته الحقيقية؛ ابتغاء مزيد من الوضوح لما رأيته مفتاحا للعمل الفني كائنا ما كان ميدانه النوعي (راجع في كتابي، فلسفة النقد «موضوع» الصورة في الفلسفة والفن).

في الفقرة الأولى من هذا الفصل عرضت مختلف التيارات النقدية؛ لأختار لنفسي منها واحدا أوثره على سائرها، وكان ما اخترته هو الوقوف عند القطعة الأدبية ذاتها (أو القطعة الفنية عموما) للنظر في الطريقة التي بنيت بها، أي للنظر في الشكل أو في الصورة التي اتخذت إطارا لها، وذلك قبل البحث عن «المعاني» التي وردت في ثناياها؛ لأن القطعة أصبحت أدبا أو أصبحت فنا بفضل شكلها دون الحد من قيمة المعاني المحمولة على عريشتها، وقد ذكرت في الفقرة الأولى مدرسة نقدية يهمها البحث من وراء الشكل الفني عن «نفسية» من بناه، ومدرسة نقدية ثانية تنفذ خلال الشكل الفني لتقع على الظروف الاجتماعية التي أحاطت بالفنان وهو يصوغ فنه، وعلقنا على ذلك بقولنا: إن المدرسة النفسية أرادت أن تشتري علم نفس بالفن وأرادت المدرسة الثانية أن تشتري علم اجتماع بالفن، وفي كلتا الحالتين نزل الفن ليكون مجرد وثيقة تثبت شيئا أهم منه، وأما إذا جعل الناقد موضع اهتمامه طريقة التكوين ذاتها التي بسببها أصبح الأدب أدبا والفن فنا، فإنه بذلك يجعل الصدارة للقيم الأدبية أو الفنية ؛ لأنه أعطاها الأولوية الأولى، ونظر إليها من حيث هي غاية في ذاتها وليست مجرد وسيلة لغيرها، حتى لو سلمنا بأنها وسيلة «جميلة» مع ذلك؛ لأنها برغم جمالها فهي ما زالت «وسيلة» لما هو أهم منها عند من أراد أن يتخطاها للبحث عما وراءها.

وإذا قلنا: إن «الشكل» هو جوهر الفن؛ فقد قلنا بأن «الوحدة العضوية» بين أجزاء الأثر الفني الواحد هي سر الإبداع الفني؛ فالقيمة الفنية مرهونة - وجودا وعدما - بالوحدة العضوية حضورا وامتناعا، والوحدة العضوية هي التي تجعل من «الفرد» الواحد فردا واحدا لا تعدد لهويته برغم الكثرة الهائلة التي تدخل في كيانه، ولقد حدثتك عن وجهة نظري (في الفقرة السابقة) عن أهمية «التفرد» الذي لا يكون له شبيه بين كائنات الدنيا بأسرها - ما مضى منها وما هو كائن - في أن يكون الأدب أدبا أو الفن فنا.

لقد سئل هنري مور - إمام فن النحت في عصرنا - كيف اختلف فنه النحتي كل هذا الاختلاف البعيد عن فن النحت كما عرف أيام النهضة الأوروبية؟ فأدهش الجميع حين أجاب السائل بقوله: إنه لا فرق في الجوهر بين نحته ونحت رجال النهضة؛ لأنهم جميعا يلتقون عند الأساس وهو «الفورم»، وبعد ذلك لكل فنان أن يحقق الفورم على الوجه الذي يراه، وما هو الفورم أو الشكل أو الصورة؟ إنه هو الوحدة العضوية بين الأجزاء التي تجعل كل جزء مؤثر ومتأثر ببقية الأجزاء جميعا، وهكذا الحال في الكائن الحي، لا يستقل فيه عضو عن سائر الأعضاء، برغم أن لكل عضو منها وظيفته الخاصة، فلا الرئتان تتنفسان بغير قلب، ولا القلب يضخ دما في أوعيته بغير رئتين، ولا المعدة والأمعاء تفعل فعلها بغير دم وتنفس، وهكذا ينبغي النظر إلى ما ننظر إليه من قصائد الشعر وروايات وتصوير ونحت وعمارة وموسيقى، وهكذا تكاملت فكرتي عن العملية النقدية: الشكل محورها، والفردية الفريدة طابع مضمونها، وكلاهما يعتمد في إظهاره على يد الناقد إلى وقفة عقلية تحليلية، تجعل النقد أدخل في باب الفكر العلمي منه في باب الذوق الشخصي (اقرأ مقال «الشكل وأهميته» في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة»).

6

في صيف 1954م كنت قد فرغت من مهمة الأستاذية الزائرة التي في سبيلها قضيت في أمريكا عاما جامعيا سجلت أحداث حياتي الثقافية خلاله في كتاب «أيام في أمريكا» - كما قد أسلفت القول في موضع سابق - لكنني قبيل عودتي إلى مصر طلب إلي (أعني أنني لم أطلب بل طلب إلي، والفعل هنا مبني للمجهول) أن أواصل البقاء في الولايات المتحدة حينا أقضيه ملحقا ثقافيا بالسفارة المصرية بواشنطن، وإنني لأستعرض أيام عمري كلها منذ وعيت، فلا أجد في حياتي ما هو أشقى من الشهور التي قضيتها في ذلك الموقع، وكان ذلك راجعا إلى طبيعة الظروف أكثر مما هو راجع إلى الأفراد الذين قضيت معهم تلك الفترة المنحوسة، فما من فكرة طيبة كونتها عن نفسي عبر السنين إلا أصر شيطان تلك الظروف التعسة أن يحطمها، فإذا كنت قبل ذلك قد توهمت بأنني على شيء من العلم؛ فقد سخر ذلك الشيطان من كل علم في جعبتي، وإذا كنت قد حسبتني قبل ذلك على شيء من تماسك الشخصية؛ فقد وسوس لي ذلك الشيطان بأنني في ميزان التقدير نفخة هواء، وما أشدها مفارقة بين تلك الشهور العشرة التي قضيتها في السفارة المصرية مرغما كارها، وشهور عشرة أخرى سبقتها مباشرة، هي التي قضيتها أستاذا زائرا في الجامعات، فيشهد الله كم كان أثري وتأثيري أثناء أستاذيتي بالجامعات قويا وعميقا، وكم جذبت الاشتباه وأضحيت في القوم محور اهتمام شديد، فأين تلك المكانة من موقف أريد لي فيه أن أكون صغيرا بالقياس إلى آخرين، لم يكن عندهم شيء إلا وكان ذلك الشيء جزءا يسيرا مما عندي.

هي شهور عشرة شقيت فيها نفسا، وصغرت فيها قدرا، لولا أنني عوضت شيئا من ذلك الخسران بكسب أحصله من القراءة إذا ما أويت إلى منزلي، فكان بين ما خططت لقراءته أن أتعقب حركة النقد الأدبي في أمريكا يومئذ، وبصفة خاصة فيما كانوا يسمونه هناك بالنقد الجديد، ولم ألبث أن عثرت على ما يصح أن أجعله نقطة ابتداء ، هو كتاب «النقد الجديد» الذي صدر سنة 1911م لمؤلفه «سنجارن» الذي وجدته معدودا كالإمام في مجال النقد، يشار إلى اسمه فيشار إلى حجة تستمع إلى قوله الآذان.

فما ذلك «الجديد» في النقد كما أورده سنجارن في كتابه الذي بات مرجعا يرجع إليه كلما أشكل أمر على أحد التابعين في موضوع النقد الجديد؟ كتبت في ذلك يومئذ، فكان بين ما قلته (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»): «... الجديد عند سنجارن وتابعيه - وسترى بعد قليل أنهم هم الذين يطبعون الحركة النقدية في أمريكا اليوم (كتب هذا سنة 1954م) بطابعهم - هو باختصار شديد أن يكون الأثر الأدبي نفسه موضع الاهتمام والدرس.» «فأنت تعلم أن الناقدين ليسوا في ذلك على كلمة سواء، فإذا ما صدر أثر أدبي كان هنالك بصدوره أربعة أشياء: الكتاب الذي صدر، والكاتب الذي أصدره، والمحيط الذي ظهر فيه مكانا وزمانا، والناقد الذي يريد أن يتناوله بالدراسة الأدبية، فأي هذه الأربعة يكون محور الاهتمام الأول؟ ...» وإجابة أنصار «النقد الجديد» عن هذا السؤال، هي أن الأولوية هي للأثر الأدبي نفسه، فيدرس «النص» ذاته بغض النظر عن مؤلفه وظروفه، وبغض النظر عن أهواء الناقد نفسه وميوله، فأمام الناقد ترقيم على صفحة من كتاب، وهذا الترقيم هو مجاله الذي لا مجال له سواه، فمهمته إذن هي أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه؛ ليرى كيف ركبت أجزاؤها. «يظل سنجارن يعيد في كتابه مرة بعد مرة قوله: «النص ولا شيء إلا النص»، «الكلمات المرقومة على الصفحة» هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هي مهمة الناقد، إن الأثر الأدبي لا ينبغي أن يعتمد في تفهمه على شيء سواه، وإذن فلا بد أن تكون كل العناصر كائنة فيه وبين دفتيه، فإن اضطرتك كلمة في الكتاب، أو عبارة فيه، إلى الرجوع إلى شيء في البيئة لتفهم معناها، فلا يزال معنى الكلمة أو العبارة هو الذي يشغلك» (راجع مقالة «الليلة والبارحة» في كتاب «قشور ولباب»).

ذلك هو «الجديد»، فكتبت في المقالة المذكورة أقول: «هل يسع دارسا عربيا إلا أن يسأل: أين الجديد؟ وأين إذن ذهب عبد القادر الجرجاني والآمدي؟» والحق أني لم أجد يومئذ فرقا جوهريا بين ما أراده أصحاب النقد الجديد من الكتاب على «النص» ذاته تحليلا وتشريحا، ومعظم النقاد العرب الأقدمين حين تناولوا بالنقد قصيدة من الشعر، إذ تكاد لا ترى شيئا في نقدهم إلا الانحصار في النص الذي أمامه، وفي مقارنات يجريها بينه وبين نصوص أخرى ليزيد الأمر وضوحا.

وسواء أكانت تلك هي حقيقة الأمر أم لم تكن، فلقد جاء ما قرأته عن اتجاه النقد الجديد - وكان يمثله في أمريكا يوم أن كنت أتابعه هناك (1954-55) بلاكمير؛ فالحق أنني أحسست كأنما أتزود بزاد من جنس الزاد الذي ألفت أن أغتذي به، فموقفي «الخاص» في نظرية النقد شديدة الشبه بما قرأته عن حركة النقد الجديد، لكنني لم أستمد رؤيتي النقدية من تلك الحركة، بل لعل منشأ رؤيتي تلك هو أنها رؤية تجيء نتيجة طبيعية لمن أخذ نفسه بمنهج التجريبية العلمية (الوضعية المنطقية) كما أخذت نفسي، فكان المنهج الفلسفي والمنهج النقدي عندي متسقين اتساق النتيجة ومقدمتها، فكأنهما صفحتان من كتاب واحد.

7

الفلسفة والأدب والفن منسوجة كلها في مخيلتي في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، أميز فيها بين خيط وخيط، فأدرك أن هذه فكرة فلسفية، وتلك صورة شعرية، والثالثة لوحة تآلفت عليها الألوان والخطوط، ولكني إذ أميز الخيوط بعضها من بعض على هذا النحو، أعلم أنه لا يمكن فهم الواحد منزوعا عن الآخر في ثقافة العصر المعين، فما أيسر - بعد شيء من نفاذ البصيرة - أن أرى أن الفكرة الفلسفية المعينة ما كان لها أن تظهر في عصرها المعين إلا مقرونة بلون خاص من الشعر والرواية، وضرب خاص من التصوير والنحت والعمارة.

هل كان يمكن لعصر النهضة الأوروبية أن يشهد في فاتحته رحلات كولمبس وغيره تشق بحار الظلمات نحو هدف مجهول إلا في الخيال والأمل، وألا تؤدي تلك الروح المغامرة المخاطرة المنطلقة إلى الكشف إلى مغامرة كشفية أخرى شبيهة بها، تجول بين أنجم السماء ومجراتها وكواكبها لتعرف ما لم يكن معروفا من قبل، فيظهر جاليليو وكربرنيق ونيوتن؟ وهل للمغامرين في البحر وفي جو السماء بحثا وتنقيبا ألا يكون في أسرتهم أفراد يجوبون للكشف عن عالم آخر، عالم خبئ في الرءوس، ألا وهو «العقل» فكيف يعمل؟ وما حدوده في العمل؟ وإلى أي حد يوثق به؟ وتلك كانت مهمة الفلاسفة إبان تلك النهضة الشاملة، وإذا كان ذلك هو المناخ العام، فكيف يجيء الشعر إلا كما جاء على لسان شكسبير يجريه في مسرحياته التي حطم بها ثلاثة قيود كبرى كانت تقيد المسرحية الشعرية من قبله، هي قيود ما كان يسمى بوحدات المكان والزمان والحبكة، فلا قيد شكسبير نفسه بأن تنحصر المسرحية في مكان واحد، ولا قيد نفسه بأن تنحصر في يوم واحد، ولا قيد نفسه بأن تكون ذات حبكة روائية واحدة، ثم - مرة أخرى - إذا كان ذلك هو المناخ العام في اختراق الآفاق وجوب البحار والسماء وأنحاء الأرض، وفي الغوص إلى دخيلة الإنسان للكشف عن خفايا نفسه وعقله، فهل كان يمكن لفن التصوير - على أيدي عمالقته مايكل أنجلو ورفائيل وغيرهما - ألا يضيف إلى الصورة بعدا ثالثا بعد أن كانت طوال تاريخها الأسبق منذ تصوير الفراعنة على جدران معابدهم ذات بعدين؟

ثقافة العصر الواحد متماسكة الخيوط، فانظر إلى حياتنا الثقافية في مصر خلال العشرينيات - مثلا - وقد جاءت صدى للثورة السياسية سنة 1919م، فماذا ترى؟ ترى عدة ثورات أخرى، كل ثورة منها تتناول فرعا من فروع الحياة الثقافية لتخرجه من جموده أو لتنشئه من العدم؛ فكان في الشعر ثورة على يدي مدرسة الديوان، وكان في الموسيقى ثورة على يد سيد درويش، وكان في الاقتصاد القومي ثورة على يد طلعت حرب، وكان في النقد الأدبي ثورة على يد طه حسين، وكان في أدب المسرح ثورة على أيدي أحمد شوقي من جهة وتوفيق الحكيم من جهة أخرى، ثم كان في الفن التشكيلي أكثر من الثورة؛ إذ كاد أن يخلق ذلك الفن من العدم.

كانت تلك هي طريقتي في النظر إلى الحياة الثقافية عند غيرنا وعندنا، فإذا لم أجد بين الفروع وحدة تضمها في روح واحد، رجحت أن يكون ثمة نقص يعاب، نعم كانت تلك هي طريقتي في النظر منذ الأربعينيات وما بعدها، ولقد حباني الله ميولا فطرية تعددت حتى وسعت منطقية التفكير الفلسفي وقابلية التذوق للأدب وللفن معا، وهو تذوق قد يعقبه آنا بعد آن محاولات النقد القائم على التحليل والتعليل كما أسلفنا القول في العلاقة المتعاقبة بين التذوق والنقد، ومن هنا ترابطت في مخيلتي الفلسفة والأدب والفن في رقعة واحدة محبوكة الخيوط، كما قلت في مطلع هذه الفقرة من الحديث.

وهو ترابط لعله كان يبدأ معي بالفكرة الفلسفية أولا، ثم تنعكس تلك الفكرة في طريقة فهمي للأدب ورؤيتي للفنون التشكيلية، فلا غرابة أن جاء اتجاهي في الفلسفة نحو التجريبية العلمية أولا، ثم انعكس هذا الاتجاه في طريقتي في نقد الأدب والفن (راجع على سبيل المثال في كتابي «في فلسفة النقد» مقالة «الصورة في الفلسفة والفن» ومقالة «تحليل الذوق الفني»).

وإذن فهي لم تكن مصادفة، حين أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (ثم أضيفت العلوم الاجتماعية فيما بعد) أن وجدتني عضوا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع علي اختيار وزارة الثقافة - في الوقت نفسه تقريبا - عضوا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو يزيد عليها إلى أن سافرت لأغترب عن مصر فترة من الزمن.

وإني لأشهد الله بأني قد تعلمت من الزملاء في تلك اللجان ما جعلني أرهف ذوقا وأعمق غورا، حتى تبلورت لي نظرة خاصة في الأدب وفي الفن، تكاملت على أحكم وجه مع نظرة كانت بالفعل قد تحددت لي معالمها في منهج التفكير الفلسفي، وتستطيع أن تراجع كتابي «مع الشعراء» لترى محاولة هاوية لم تحترف دراسة الشعر ولا تدريسه، لكنها تذوقت ثم نقدت، وكان الأفق من السعة بحيث شمل شاعرا تقليديا كالبارودي إلى شاعر مجدد كالعقاد، إلى شعراء من طلائع الشعر الحديث مثل صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، كما شمل إلى جانب الشعراء العرب نابغة الشعر الإنجليزي شيكسبير، وعملاق الشعر الهندي طاغور.

الفصل السابع

عقل ووجدان معا

1

أستطيع أن أوجز العمل الفلسفي الذي أنجزت معظمه خلال الخمسينيات، والذي عرضته - أساسا وتفصيلا - في كتاب «المنطق الوضعي» بجزأيه وكتاب «خرافة الميتافيزيقا» وكتاب «نحو فلسفة علمية» في عبارة واحدة تقول: تستخدم اللغة بطريقتين أساسيتين: أولاهما تجري مع منطق العقل، وهي التي يجوز أن يقال في قضاياها إنها صادقة أو كاذبة استنادا إلى مقاييس موضوعية مشتركة بين الناس، والأخرى تجيء تعبيرا ذاتيا عما يخالج المتكلم من مشاعر على اختلاف تلك المشاعر، وها هنا لا منطق ولا قضايا تقاس بمقاييس موضوعية لتفرقة بين حق وباطل، وإنما هو المتكلم وحده الذي يؤمن بصدق تعبيره عن شعوره، ولا يغير الموقف أن يوافقه الآخرون على دعواه أو لا يوافقونه.

ولما كان التفكير العلمي وحده هو الذي جعلته مدار الاهتمام في المؤلفات المذكورة، فلم يكن حديثي فيها يمس الجانب الوجداني في كثير أو قليل، لكن انصراف الاهتمام إلى جانب واحد هو جانب العلم ومنهاجه - وهو نفسه جانب «العقل» - لم يكن يعني إنكار الجانب الوجداني من فطرة الإنسان وحياته، فلا ينكر الجانب الوجداني إلا مجنون.

وفي أوائل سنة 1960م أصدرت كتابا صغيرا أحدث شيئا من الدوي عند القراء، وهو كتاب «الشرق الفنان»، جاء بمثابة حجر الزاوية في بناء فكري جديد، ظهرت معالمه الكبرى خلال السبعينيات في سلسلة كتب كان أهمها: «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» وهو بناء فكري جاء ليكمل - لا لينتقص - ما أنجزته خلال الخمسينيات من تحديد لمنهج التفكير العلمي.

فلقد أوضحت في «الشرق الفنان» المعالم الرئيسية لثلاثة أنماط فكرية ظهرت في تاريخ الإنسان المتحضر، وتلك الثلاثة الأنماط فيها طرفان متضادان ووسط بينهما يجمع الضدين في صيغة واحدة، أحد الطرفين هو الشرق الأقصى الذي كانت السيادة في إبداعه الثقافي للحدس الصوفي، وأما الطرف المضاد فقد شهدته اليونان القديمة (ومن بعدها الغرب كله)، حيث كانت السيادة في المنجزات الفلسفية الكبرى للعقل ومنطقه في استدلال النتائج من مقدماتها استدلالا له شروطه وضوابطه، ثم جاءت الحياة الثقافية فيما نسميه بالشرق الأوسط، وسطا يجمع الضدين في كيان واحد، ففيه حدس المتصوف وفيه منطق الفيلسوف.

ولم يكن يخطر ببالي عند إقامة ذلك التقسيم منهج التفكير الجدلي عند هيجل، ولم يكن تصوري للأمر ذهنيا نظريا يقيم الدعوى ثم يخرج منها نقيضها، ثم يجمع الطرفين في تأليف جديد، كلا، لم يخطر لي شيء من ذلك على بال؛ فقد استقرأت معالم التراث الإنساني كما شهدته عصور التاريخ بالفعل، فمن هم الأعلام في الهند والصين؟ وماذا كانت أهم كتبهم التي خلفوها؟ ومن هم الأعلام في اليونان القدماء؟ وماذا خلفوه؟ وأخيرا من هم الأعلام في التراث العربي؟ وما أهم كتبهم التي خلفوها؟ ولست أظن أن حقيقة الأمر تظل خافية أمام أسئلة حتى ولو لم يكن عند المجيب إلمام واسع بتلك الثقافات وأعلامها، فمن ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه بوذا وكونفوشيوس والماهابهاراتا إذا ما ذكرنا تراث الشرق الأوسط، فإذا ما حضرت أسماء كهذه إلى الذهن، فهل تخفى طبيعة ما خلفوه؟ هل يخفى على أحد أن تراثهم كان أقرب إلى «الحكمة» التي يعبر بها صاحبها عما يحسه، وكأنه «أديب» يترجم لخبراته ترجمة ذاتية؟ ثم من ذا الذي تذكر أمامه ثقافة اليونان القدماء، فلا يقفز إلى ذهنه سقراط وأفلاطون وأرسطو وشيء مما خلفوه، وأن الطابع العام لما خلفوه كان «فلسفة» تضع المبادئ وتستنبط النتائج، وأخيرا من ذا الذي يذكر له التراث العربي فلا تقفز إلى ذهنه أسماء لوامع كالجاحظ والمعري وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون؟ ومعهم رجال من أمثال الحلاج وابن عربي، والذي قد لا تستحضره الأذهان في يسر هو أننا إذا ما حللنا عيون التراث العربي في شتى ميادينه؛ وجدناها نسيجا متآلفا بين فكر عقلي منطقي ووجدان صوفي وشعري، حتى ليخيل للمتعقب أن اللغة العربية ذاتها قد ركبت تركيبا يحمل الجانبين معا، فهي منطقية إلى حد بعيد إذا قيست إلى غيرها من اللغات، ثم هي مشحونة بشحنات وجدانية إلى حد بعيد كذلك.

وشيئا فشيئا مع مر الأيام أخذت تلك الازدواجية المتآلفة في الثقافة العربية تبدو أمام عيني وكأنها قابلية فريدة وسمة بارزة يمكن أن تكون أساسا متينا لإقامة ثقافة عربية جديدة، تصون أصالتها وتساير عصرها في آن واحد. والآن إلى شيء من تفصيلات الصورة كما أوردتها سنة 1960م في «الشرق الفنان».

2

عندما اخترت لذلك الكتاب الصغير اسم «الشرق الفنان» أردت «بالفن» أوسع معانيه، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما ذلك الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني، ونظرة الشاعر، ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته إلى العالم على خطوتين: في الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث.

فانظر إلى العالم من داخل تكن فنانا، أو انظر إليه من خارج تكن عالما، انظر إلى العالم من باطن تكن شاعرا، أو انظر إليه من ظاهر تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ الخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا أو يعقب بعضها بعضا تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل النتائج، ويقيم الحجة والبرهان، ولك بطبيعة الحال - بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين - أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا والعالم حينا.

هما نظرتان إلى الوجود مختلفتان: نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحه - إذا صح هذا التعبير - ليقف عندها لأنه ينشدها في ذاتها، ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزا من قوانينه ونظرياته؛ فالجزئية الواحدة تهم العلم من حيث هي مثل يوضح القانون، لكنها تهم الفنان لذاتها.

ولقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معا، فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن إحدى النظرتين قد تغلب على زيد على حين قد تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبا، وتسود الأخرى شعبا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر، وإني لأزعم أن نظرة الشرق الأقصى إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة اليونان (والغرب بعد ذلك بصفة عامة) نظرة العالم.

ولقد اجتمع الطرفان - العقل والوجدان معا - في ثقافة الشرق الأوسط على نحو من التوازن الذي ربما لم يتحقق بالدربة نفسها في أية ثقافة أخرى، وإذا قلنا ثقافة الشرق الأوسط فإنما يعنينا منها الثقافة العربية بصفة خاصة؛ لأنها هي التي ورثناها فباتت من أهم العناصر التي تتألف منها الهوية العربية في عصرها الراهن.

ففي تراثنا اجتمع تأمل المتصوف وتحليل العالم وصناعة العامل، حتى لقد قال «وايتهد»: إن حضارة الغرب كلها ترتد إلى أصول ثلاثة: اليونان وفلسطين ومصر، فمن اليونان فلسفة ومن فلسطين دين ومن مصر علم وصناعة.

ولقد اجتمع كثير من هذه العناصر دفعة واحدة في شوارع الإسكندرية القديمة كما يقول «إنج» في كتابه عن (أفلوطين)؛ إذ التقى رجال العلم بأصحاب النظرة الصوفية وأصحاب المهارة العملية في آن واحد، وحين انتقل مركز الثقافة من أثينا إلى الإسكندرية لم تكن النقلة تغييرا في المكان وكفى بل كانت تغييرا في منهج التفكير كذلك، حتى جاز لمؤرخي الفكر أن يفرقوا بين مرحلتين يطلقون عليهما اسمين مختلفين وإن يكونا قريبين، هما: «الهلينية» و«الهلينستية»، الأول اسم لفلسفة اليونان الخالصة التي أنتجتها أثينا، والثاني اسم لتلك الفلسفة نفسها بعد امتزاجها في الإسكندرية بالتراث الديني والتراث العلمي والتراث الصناعي العملي للمصريين؛ فقد أدى هذا المزيج إلى ضرب من الثقافة فيه - كما أسلفنا - تأمل المتأملين وتحليل العلماء، فهي إذن ثقافة فيها عبقرية الغرب وعبقرية الشرق معا.

جاءت الفلسفة الأفلاطونية من أثينا إلى الإسكندرية، فانطبعت بالطابع الشرقي الصوفي على يدي أفلوطين (ولد سنة 205 ميلادية) وهو من أبناء أسيوط، وتعلم في الإسكندرية، فأنشأ ما يسمى في تاريخ الفلسفة بالأفلاطونية الجديدة، التي كان لها بالغ الأثر فيما بعد على فلاسفة المسلمين الذين أطلقوا عليها أحيانا اسم مذهب الإسكندرانيين ...

وليس بنا حاجة إلى القول عن روحانية الشرق الأوسط، إنه هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، فلئن كان العرف قد جرى بين مفكري الغرب على تسمية الحضارة الغربية باسم الحضارة المسيحية آنا وباسم الحضارة اليهودية المسيحية آنا آخر، فيحق لنا نحن أن نسأل: ومن أين جاءتهم الديانتان؟ إنهما جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما: الشرق الأوسط، فأقل ما يقال في ذلك هو أنه إن كان من خصائص العقيدتين أن تطبعا العقل بطابع معين في الفكر، من شأنه أن يؤدي إلى طابع معين في العمل، فيستحيل أن يكون ذلك الطابع غريبا على أهل الشرق الأوسط الذين تلقوهما وآمنوا بهما قبل أن ينقلاهما إلى بلاد الغرب.

لقد كانت الإسكندرية حامية المسيحية في قرونها الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى، مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال العصور الوسطى، مما يدل على اجتماع أمرين للمصريين كما زعمنا، هما: القلب بوجدانه والعقل بتحليلاته في وقت واحد (راجع فقرة 11 في كتاب «الشرق الفنان»).

3

التفكير الفلسفي - أينما كان - مفتاح هام لفهم طبيعة الأمة التي ظهر فيها ذلك التفكير، فليس من المصادفات العارضة أن نرى الفلسفة الفرنسية عقلية، والفلسفة الإنجليزية تجريبية، والفلسفة الألمانية مثالية، والفلسفة الأمريكية براجماتية، فماذا نرى في الفلسفة الإسلامية مما نستدل به على طابع الشرق الأوسط في الفكر والشعور؟

في الفلسفة الإسلامية نرى المشكلات المعروضة للبحث هي مشكلات دينية ، ولكن طرق معالجتها عقلية خالصة، لا فرق في ذلك بين فلاسفة الإسلام وفلاسفة المسيحية إبان القرون الوسطى، لا في نوع المشكلات ولا في منهج البحث، اللهم إلا أن الفريق الأول مسلم يختار مشكلاته من العقيدة الإسلامية، والفريق الثاني مسيحي يختار مشكلاته من العقيدة المسيحية، لكن كل فريق منهما يلتمس لعقيدته الدينية أساسا من العقل، مستعينا في ذلك بفلسفة اليونان وبالمنطق الأرسطي على وجه الخصوص، يترسم خطواته في استدلال النتائج مما ورد في النصوص التي يحللها كل منهما، ونريد بهذه المقارنة أن نوضح جانب «العقل» عند المفكر المسلم، وأنه في ذلك شبيه بالمفكر الغربي في عقلانيته، لكنه يضيف إلى ذلك جانبا من الوجدان أبرز ظهورا مما نجده عند زميله في الغرب.

وليس شرطا ضروريا أن يجتمع العقل والوجدان معا في كل فرد على حدة بدرجة يتساوى فيها مع سائر الأفراد؛ إذ الحكم على الثقافة المعينة إنما يبنى على حاصل جمع الأفراد في المجموعة التي نحكم عليها، فإذا وجدنا في مجموعة معينة فلاسفة عقليين وشعراء ومتصوفة يتميزون بغزارة الحياة الوجدانية، كان من حقنا أن نحكم على ثقافة تلك المجموعة بأنها استطاعت الجمع بين العقل والوجدان بالدرجة التي لا تجعل الأمر فيها عارضا عابرا (راجع عن المتصوفة المسلمين الفقرة رقم 14 من كتاب «الشرق الفنان»).

4

إذا جاز لنا أن نضع عنوانا وصفيا يلخص اتجاه الثقافة العربية في كل عصورها المنتجة، قلنا: إنها عقل في خدمة الوجدان، فلئن كان العقل والوجدان مقومان أساسيان في بنية الثقافة العربية، فلست أظنهما يقعان معا على مستوى واحد، بل إن للحياة الوجدانية - وفيها الإيمان الديني - أولوية تجعلها أسبق، ثم يأتي نشاط العقل مجسدا في الفلسفة والعلم وما يتفرع عنهما؛ ليخدم الجانب الوجداني في تحقيق نوازعه.

ولقد صورت هذه الثنائية المتآلفة في وجهة النظر العربية بصور شتى فيما كتبته، فكتبت تحت عنوان «الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة» فصلا طويلا (راجع ذلك الفصل كاملا في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») أقول فيه: «صميم الثقافة العربية - لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها - هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل والثاني عرض يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودين على مستوى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير - لصاحب البصيرة النافذة - إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومجريها، وسواء نظرت إلى الإنسان باعتباره عالما صغيرا، أو نظرت إلى الكون كله باعتباره إنسانا كبيرا - وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين - فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين إنما هي ستار يستر وراءه روحا يمتنع على الفناء.

تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه هي المنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول قسمين، أطلق عليها حينا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينا آخر (في أيامنا هذه، والإشارة هنا إلى الستينيات) أسماء الرجعية والتقدمية، وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء كلما عصفت بهم رياح الحوادث ونظروا حولهم، فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا بالخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر أقامته حضارة أخرى أثبت العصر نجاحها، ومهد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم - أو الرجعيون - هم الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها، التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها: إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد - أو التقدميون - فهم الذين يودون لو بتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا تترك قيادة الأحياء للموتى ...» تلك هي السطور التي افتتحت بها الفصل المذكور، ورسمت بها الهيكل الثقافي الذي نحيا على أساسه، إما انصياعا له وإما خروجا عليه، وهو هيكل - كما رأيت - قائم على جوهر ثابت ومتغيرات، فأما الجوهر الثابت فمتروك أمره للوجدان - الوجدان الديني بصفة خاصة، وأما المتغيرات فكثيرا ما نراها موكولة إلى العقل يدبر لها مسالكها، وهكذا جاءت حياتنا - وتجيء - قسمة بين وجدان وعقل: الوجدان يملي أهدافه، والعقل يسعى إلى تحقيق تلك الأهداف.

5

إن سؤالا لينشأ - وكثيرا ما نشأ - فارضا نفسه على العقل يريد جوابا، وهو السؤال عن مدى إمكان الامتزاج في نفس واحدة بين عقل ووجدان، مع أن كلا منهما يطلب ما يتنكر له الآخر؛ فالعقل يطلب أن تقام البراهين على كل فكرة يتقدم بها صاحبها إلى الناس، وأما الوجدان فيقبل ما يقبله ويرفض ما يرفضه بلا برهان، وماذا نعني «بالبرهان» الذي يتطلبه العقل دائما شرطا لما يطلب منه قبوله؟ نعني أحد أمرين: فإذا كانت الفكرة المقدمة مزعوما لها أنها متولدة عن فكرة أخرى أعم منها، كان على صاحبها أن يبين للناس كيف جاءت الفكرة الأخص من الفكرة الأعم، شريطة أن تكون هذه الفكرة الأعم نفسها متفقا على صوابها، أو على قبولها على سبيل الافتراض، ولكن قد لا تكون الفكرة المقدمة وليدة فكرة أخرى، بل هي مستدلة من بينات محسوسة من مرئي ومسموع، فعندئذ يكون معنى البرهان هو أن تدل الناس على تلك الشواهد ليروها بأعينهم كما رأيتها بعينيك، أو ليسمعوها بآذانهم كما سمعتها أنت بأذنيك، فأما النوع الأول من البرهان فنراه في العلوم الرياضية وما يجري مجراها من ضروب الفكر، وأما النوع الثاني من البرهان فهو ما نراه في العلوم الطبيعية أو ما يشبهها من أفكار تتصل بالواقع الخارجي.

تلك خلاصة لما نعنيه «بالعقل»، وأما ما ندركه بالوجدان - أو بالشعور أو بالعاطفة أو بالغريزة - فشأنها شأن آخر، إن صاحب الإدراك في هذه الحالة ليس عليه إلا أن يقول: إنه «يشعر» بكذا وكيت، ولا يغير من إدراكه ذاك أن تقبله أنت أو أن ترفضه، إذا قال لك قائل: إني أحس بالقلق في هذا المكان، فلا جدوى في أن تؤكد له أنك من ناحيتك لا تجد قلقا، وأنك تشعر في المكان نفسه بطمأنينة كاملة.

نعود الآن إلى السؤال الذي بدأنا به: أيجوز أن يلتقي في نفس واحدة عقل ووجدان معا، كما قد زعمت أنهما يلتقيان في نفس العربي والمصري بصفة خاصة؛ إذ كان صاحب «علم» وصاحب «دين» في تاريخ واحد، والعلم «عقل» والدين «وجدان»؛ لأنه إيمان يصدق بما آمن به ولا يطلب عليه إقامة البرهان، ولقد ذكرنا فيما أسلفناه في فقرة سابقة شيئا من الجواب عن هذا السؤال، حين قلنا - أولا: إن اللقاء بين الجانبين لا يشترط له أن يتم في الفرد الواحد، ويكفي أن يتحقق في مجموعة الناس التي يتكون منها «أمة» ذات ثقافة متميزة، فيكون من أفرادها من هم أصحاب تفكير عقلي، ومنهم من هم أصحاب حالات وجدانية، وثانيا حين قلنا: إن العقل والوجدان إذا ما تلاقيا معا في ثقافة واحدة فإنما يتلاقيان على مستويين متعاقبين، فلا يكون بينهما صدام ولا تناقض؛ فقد يجيء الإدراك الوجداني المباشر أولا، ثم يعقب ذلك إعمال لمنطق العقل فيما يحقق أهداف ذلك الإدراك الوجداني، ومثل هذا التعاقب هو الذي نراه بوضوح في الثقافة العربية؛ إذ يؤمن المؤمن أولا، ثم لا عليه بعد ذلك أن يتناول بالتحليل العقلي ما آمن به.

وفي الفصل الذي قدمته بعنوان: «فلسفة العقاد من شعره» (راجع الفصل في كتاب «مع الشعراء») طرحت السؤال نفسه بصورة أخرى لأجيب عنه؛ إذ تساءلت بادئ ذي بدء إمكان أن تلتقي «فلسفة» و«شعر» في عمل واحد؟ ومعلوم أن الفلسفة عقل صرف وأن الشعر وجدان خالص، وكان جوابي عن ذلك كما يلي: «تستطيع الفلسفة والشعر أن يتباينا أشد ما يكون التباين بين شيئين كما يستطيعان أن يتقاربا، حتى ليوشك الناظر إليهما أن يختلط عليه الأمر، فيحسب الشعر فلسفة والفلسفة شعرا.

ذلك أن للفلسفة معنيين عرفت بهما، فهي إما أن تفهم بمعنى «الحكمة» التي استخلصها صاحبها من تجربته الحية كما مارسها في حياته وعاناها، فتجيء عبارته بيانا عن ذات نفسه وما اختلجت به تجاه الكون والإنسان، وإما أن تفهم بمعنى التجريدات الصورية التي يستخلصها المفكر من مفاهيم العلم وقضاياه؛ ابتغاء أن يصل إلى المبادئ الأولى التي تقع من العلوم مواقع الجذور من الشجر، دون أن يدع شيئا من أهوائه وميوله يتسلل إلى عمله، فإذا كانت الفلسفة بمعناها الأول كاشفة عن سرائر كاتبيها، فهي بالمعنى الثاني ذكية لكنها لا تفصح عن شيء من خوالج السريرة ، إنها بالمعنى الأول حياة ومضمونها، وهي بالمعنى الثاني فكر وصورته، بالمعنى الأول هي قلب ولسان وجنان ووجدان، بالمعنى الثاني هي ذهن وذكاء ومنطق وتحليل، إنها بالمعنيين معا تعميم الأحكام، لكن التعميم في الحالة الأولى يرتكز على خبرة حياة مشخصة في فرد واحد، وأما التعميم في الحالة الثانية فلا ذكر فيه للأفراد، وإن الفلسفة والشعر ليتباعدان أشد ما يكون التباعد بين شيئين، حين تدور الفلسفة في مثل هذا التجريد المفرغ العاري، وإنهما ليتقاربان حين تكون الفلسفة هي حكمة الحياة عند صاحبها، إنهما ليتباعدان حين تريد الفلسفة أن تقول الحق خالصا لا جمال فيه، ويريد الشعر أن يصوغ الجمال خالصا لا حق فيه، لكنهما يتقاربان حين يريد الفيلسوف أن يسوق الحق مكسوا بثوب الجمال، أو حين يريد الشاعر أن يصوغ الجمال منطويا على حق.»

ثم أخذت في ذلك الفصل الذي بدأته بتوضيح العلاقة بين الفلسفة والشعر - أي بين العقل الخالص والوجدان الخالص - وهو الفصل الذي أردت به استخلاص وقفة العقاد الفلسفية من شعره، فكان مما أوردته في سياق البحث: «إن وقفات الفلاسفة من الوجود صفان: فوقفة يرى بها صاحبها الوجود وكأنه روح تفرعت عنها مادة تجسدت في الكائنات التي تراها من حولك، ووقفة أخرى يرى بها صاحبها الوجود وكأنه مادة تفرعت عنها روح تتمثل في الموجودات اللامادية التي نعرفها من عقل وحياة وغيرهما، والعقاد ينتمي إلى الصنف الأول، لكن هذا الصنف الأول يتشعب فروعا مختلفة باختلاف الصفة الجوهرية التي توصف بها الروح: أهي في جوهرها «عقل» أم هي «إرادة»؟ أم هي شعور ووجدان؟ والعقاد - كما يبدو لي من تتبع شعره - مؤمن بأن الأصل الروحاني الأول قوامه وجدان وعاطفة؛ لأن جوهره الحب، ومن الحب تنشأ الحياة ...» وشيء كهذا هو ما قصدت إليه حين قلت: إن الثقافة العربية قوامها عقل ووجدان معا، يتآلفان فينتجان العلم حينا والشعر والتصوف حينا آخر، غير أن الأولوية بينهما للوجدان؛ لأن الأولوية عند العربي للروح.

6

وفيما أسميته «ثنائية السماء والأرض» (راجع هذا الفصل في كتابي «تجديد الفكر العربي») وضعت فكرة التآلف بين العقل والوجدان في بنائنا الثقافي في صورة أخرى، فقلت: «... لقد نشأت لنا في عصرنا صراعات فكرية جديدة، تولدت عن ظروف العصر ومناخه، فكان لا بد لنا من وقفة إزاءها. وأهم تلك الصراعات الفكرية التي عانيناها منذ أول القرن الماضي - وما نزال نعانيها في حدة - هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين علوم حديثة، شاءت تطورات التاريخ أن تظهر في أوروبا وأمريكا، وكان لزاما علينا أن نتقبلها كما هي، أو على الأقل؛ أن نتقبل منها ما نحن قادرون على متابعته بما لدينا من إمكانات تعليمية وعلمية ومعملية. أقول: إن أهم الصراعات الفكرية التي نعانيها - منذ اتصلت الأواصر بيننا وبين الغرب الحديث - هي طريقة اللقاء التي نوائم فيها بين تلك العلوم الحديثة من جهة، وبين تراثنا الفكري من جهة أخرى ... ولو وضعنا المشكلة في عبارة مبسطة، قلنا: إنه إذا كان موضع الإشكال الفلسفي عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل؛ فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان (قاصدا بذلك: بين العقل والوجدان).

لقد فشل الغرب نفسه - وهو واضع العلم الحديث - أن يقيم لنفسه مثل هذا اللقاء بين الطرفين، فكان له العلم، ولكنه فقد الإنسان. وليس هذا الاتهام من عندنا، بل يكفي أن نتتبع الأدب في أوروبا وأمريكا اليوم - والأدب هو المرآة المصورة للإنسان وما يعتمل في نفسه - لنرى ما يحسه الناس هناك في دخائل صدورهم من ملل وسأم وضيق وحيرة وضياع. إن الإنسان هناك يساير عصره العلمي في مقتضياته، لكنه لا يجد الفراغ ليخلو إلى نفسه ويصغي إليها، كأنما كل فرد هناك هو فاوست، أغراه الشيطان بأن يبيع نفسه من أجل علم يحصله أو مال يكسبه، أو قوة يستبد بها ويطغى. ولسنا نقول ذلك وفي أذهاننا أقل ذرة من رغبة في التهوين من شأن العلم والمال والقوة، بل نقوله لنؤكد ضرورة أن يضاف إليها شيء آخر هو القيم الخلقية والجمالية التي تجعل من الإنسان إنسانا بالعمق، بعد أن جعل منه العلم والمال والقوة إنسانا بالطول والعرض.

وإني لأعتقد أن مثل هذا الصراع بين الطرفين - بين مقتضيات العلم ومقومات الإنسان - والرغبة في إيجاد الحلقة التي توفق بينهما فتزيل الصراع، هو ما تختلج به نفوسنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم ...»

ثم حاولت المحاولة نفسها - محاولة أن أبين ما تكتمل به الشخصية العربية - فعرضت الأمر في صورة أخرى، نظرت فيها نظرة مستقبلية أكثر مما نظرت فيها إلى تاريخنا الماضي، وذلك في فصل بعنوان «ثنائية الطبيعة والفن» (راجع الفصل في كتاب «تجديد الفكر العربي») فبدأت فيه الحديث قائلا: «نريد للمواطن العربي أن يولد من جديد ولادة تتقاطع عندها خصائص الماضي وملامح الحاضر. والحق أن كل ولادة - لو استقام لها الطبع - هي حدث جديد، يضمن البقاء للأبوين ثم يضيف إليهما جديدا يتميز به، فردا بغير شبيه، ولو جاء الولد صورة لأبويه لكان إلى نتاج المصانع والمطابع أقرب منه إلى غرس الحياة ونبتها؛ فعجلات المطبعة تخرج لك من الأصل الواحد ألوف الصور، كل نسخة منها ككل نسخة، الخطأ هنا كالخطأ هناك، والصواب هنا كالصواب هناك، والصفحات تتماثل بداية ونهاية، وتتشابه أسطرا وسياقا. إنها كثرة عددية لكنها كثرة تحكي الحكاية عينها؛ فالواحدة منها تغني عن سائرها، وما هكذا الحياة الخصبة الغنية الولود، فشجيرات التفاح تنتمي إلى أسرة واحدة، ولكن أبت لها الحياة إلا أن تجيء كل شجيرة منها وقد تميزت من أخواتها في شيء قل أو كثر ...»

وبعد هذه الفاتحة التي بدأت بها الحديث، ملحا على أن يجيء مستقبلنا مختلفا عن ماضينا اختلافا يعلو به نحو الأفضل؛ شريطة أن تظل الروابط موصولة بيننا وبين آبائنا، ولكن كيف؟ يكون ذلك إذا نحن حافظنا على الهيكل العام الذي بنيت عليه ثقافتنا الأصلية، لكن لنا أن نملأ الإطار بمضمون حيوي جديد، فكما أن علوم الطبيعة وإبداعات الفنون تسيران معا في خطين متوازيين: ففي علوم الطبيعة «عقل» يعمل، ويسوي بين البشر أجمعين، وأما في بدائع الفن فلكل فنان طابعه الفردي الخاص يستمده من حياته الباطنية التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، فكذلك يكون موقعنا: نشارك العالم الراهن في علومه، ونتفرد بما هو وجدان قومي خاص، وأهم ما في هذا الجانب الوجداني الخاص المميز؛ عقيدتنا الدينية، وبعض تقاليدنا الأسرية، وملامح ذوقنا في مجال الأدب والفن.

7

إن هذه العلاقات المتداخلة المتشابكة بيننا اليوم وبين حاضرنا وماضينا لتبلغ من التعقيد أحيانا ذلك الحد الذي لا ندري معه ماذا ندع وماذا نختار، بل ولا ندري كيف نختار ما نختاره ولا كيف نهمل ما نهمله؛ وذلك لأن مواقف حياتنا كثيرة ومنوعة، وما يصلح لأحدها لا يصلح للآخر، فلا جدوى من أن نرسل المبادئ والقواعد إرسالا مطلقا من القيود، ثم نظن أننا قد حللنا المشكلة حلا صحيحا، فإذا كنا - مثلا - في موقف ننشئ فيه مصانع للحديد والصلب، فلا محل للسؤال: ماذا نأخذ من ماضينا؟ وإذا كنا في موقف ندرس فيه بعض معالم العمارة الإسلامية، فلا محل لسؤالنا عن العصر وعمارته. على أن الكثرة الغالبة من المواقف فيها ما يستدعي الاهتداء بماضينا - القريب أو البعيد - وفيها ما يستوجب النظر فيما يقرره عصرنا الحاضر بشأنه.

والسؤال الذي أحصر الحديث فيه الآن هو عن الحالات التي ننقل فيها عن ماضينا لحاضرنا، كيف يكون هذا النقل؟ إنه لا يعقل أن يجيء هذا النقل حرفا بحرف، فمحال أن تتشابه الظروف مدى قرون تعد بالعشرات.

فماذا يصنع العربي المعاصر تجاه ماضيه؟ لقد طرحت هذا السؤال على نفسي مرة بعد مرة، وأجبت عنه في محاولات متكررة وبصور مختلفة، لكن الفكرة جوهرها واحد في جميع المحاولات، وهو أن نجيء امتدادا للماضي من حيث الإطار لكننا نغير في المضمون الحي ما تغيرت ظروف الموقف، وما ذلك الإطار إلا أن نصنع صنيع آبائنا في المجاورة بين العقل والوجدان في توازن، فلا يكون رجحانا لجوانب الواقع الحسي والنظرة العلمية الحسابية، كما لا يكون رجحانا لجوانب العاطفة والرغبة والانفعال والغريزة، فلكل ميدانه ولكل منهاجه ولكل وسائله وأهدافه.

وكان بين تلك المحاولات ما كتبته بعنوان «ترجمة الماضي إلى حاضر» (راجع ذلك في كتاب «هموم المثقفين»)، حيث شبهت الموقف هنا بطريقة الترجمة عندما يتصدى شاعر لترجمة شعر من لغة إلى أخرى، فعندئذ يختلف الأمر عن الترجمة العلمية التي يلتزم فيها المترجم كلمات النص الذي يترجمه. «... ماذا نصنع لنعيش ماضينا في حاضرنا؟ ... لقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحول النص المترجم إلى صورة جديدة، مع احتفاظها بمعنى النص كاملا، فكذلك قد تكون عملية التحول التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لبه مصونا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته الأصلية.

وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق، وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذ عبارة كنت قرأتها لكاتب هندي، قال فيها: إن للترجمة تاريخا طويلا راسخا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «دار الحكمة» في بغداد؛ لتقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك - كما قال هذا الكاتب الهندي - إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.

فلا بأس إذن بالنسبة إلينا - نحن العرب - في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارا يقاس إليه. غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائمة أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة ؛ فهنالك - أولا - الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة، لولا أني أعلم أن ذلك محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارا؛ وعندئذ ينبغي له أن يورد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفا أو خطأ؛ فلا يجوز له أن يحول السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده. وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون - الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر - إذ قال: لا تحاول قط يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه. وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية - كما يقولون - هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل: هل يمكن وكيف يمكن أن نترجم تراثنا ترجمة حضارية؛ بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول: إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك؛ لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط - مثلا - إلى مطبوع، أو أن نحول المطبوع إلى مطبوع ومشروع، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول.

لكن للترجمة صورا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن الرأي يجمع على أن ترجمة الشعر مستحيلة ... غير أن تاريخ الآداب العالمية قد شهد ترجمات للشعر، فترجم شيكسبير إلى لغات كثيرة، وترجمت إلياذة هومر ... وترجم الخيام ترجمات ذائعة الصيت؛ كترجمة «فتز جرولد» لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئا هاما مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا الحضارية» التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات.

ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله - على أحسن الفروض - مقطوعة مقطوعة ... فالشاعر الإنجليزي عندما ترجم رباعيات الشاعر الفارسي (الخيام) كان أقرب إلى من يحول الخبز واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان أكله من لحم وخبز ... ها هنا تكون الترجمة خلقا جديدا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونا كما وجده ...»

8

علاقتنا الفكرية والوجدانية بأسلافنا تحتاج إلى مزيد من التوضيح؛ لأنها مصدر كثير من الخلط والخطأ؛ فهنالك مقدمتان يجب التسليم بهما ابتداء، ومع ذلك فهما مقدمتان قد تبدوان متناقضتين لا تجتمعان معا على صواب واحد، وهما: أولا الإقرار بوجوب أن تكون بيننا وبين آبائنا صلة موصولة الحلقات بحيث لا يتعذر على الفاحص أن يرى الخط الفكري والوجداني مستمرا بيننا وبينهم؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية ينتفي أن يكون لنا معهم تاريخ واحد مترابط الفصول والمراحل. وثانيا الإصرار على أن يكون لنا حياة فكرية ووجدانية خاصة بنا ومتميزة، وإلا كنا أجيالا من أشباح وظلال جاءت لتحاكي الأولين الأصلاء. وإذا نحن أقررنا هاتين المقدمتين معا - برغم ما بينهما من شبهة التناقض - فكيف إذن يمكن الجمع بينهما في حياة ثقافية واحدة؟

فأما المقدمة الأولى، التي تحتم أن يكون بيننا وبين الأسلاف صلة تضمن استمرارية السير في طريق واحد، فأحسب أنها لا تثير خلافا، اللهم إلا عند جماعة تريد لنا أن ننشق على ماضينا لنضم أنفسنا إلى ثقافات أجنبية وكأننا جزء منهم، لكنها جماعة يغلب عليها الانفعال الذي لا يترك شيئا يمكث في الأرض، وإنما الذي يدعو إلى الوقفة المتأنية العاقلة، هو ما جاءت المقدمة الثانية لتقرره، وهو ضرورة أن يكون لنا نحن المعاصرين استقلال متميز فكرا ووجدانا، بحيث تكون الصلة الرابطة بين الأوائل والأواخر شبيهة بالصلة بين أوراق الشجر وجذورها، فهنالك بين الطرفين خط حيوي لا ينكر، وإلا لما وجدت الأوراق غذاءها، ولكن الأوراق - مع ذلك - ليست هي الجذور، بل ولا تشبهها من الظاهر في شيء.

وأبسط برهان نسوقه على وجوب الاختلاف العميق بين حاضرنا الفكري والوجداني وماضينا، من حيث المضمون حتى وإن ظللنا على تشابه مع أسلافنا في الإطار وطريقة البنيان، هو اختلاف معاني الكلمات الأساسية بيننا وبينهم في كثير جدا من ميادين الفكر والأدب والفن؛ فاللفظة المعينة تظل قائمة بيننا كما كانت قائمة بين أسلافنا ، وأما معناها عندنا ومعناها عندهم فلم يعد بينهما إلا أوهى الصلات، حتى لأتصور أنه لو بعث اليوم سلف وأراد التحدث إلى نظرائه من المعاصرين؛ لحدث بين الطرفين من استحالة التفاهم ما حدث لأهل الكهف حين استيقظوا من سباتهم الطويل وأرادوا تعاملا وتبادلا مع أهل المدينة. وهاك مثلا لذلك: لفظتا «الجمال» و«الجلال» ماذا فهم الأسلاف منهما؟ وماذا نفهم منهما نحن اليوم؟

أما نحن اليوم فقد نختلف فيما بيننا على معنى «الجميل» و«الجليل» - في دنيا الفنون - اختلافات كثيرة، لكننا جميعا نقع في إطار فكري واحد، هو الإطار الذي يربط الفكرتين بآثار الفن أو بكائنات الطبيعة، وما قد تحدثه في نفس المشاهد أو السامع من نشوة، إذا ما حاولنا تحديدها اختلفنا في ذلك التحديد لا في النشوة المعينة التي تسري في الإنسان حين ينعم النظر أو يرهف السمع لأثر من آثار الموسيقى أو الشعر أو التصوير. والتفرقة بين نشوة المتلقي لما هو «جميل» ونشوة المتلقي لما هو «جليل» - في مجال الفنون ونقدها - هي التفرقة بين ما يحسه الرائي لزهرة رقيقة أو لآنية دقيقة الصنع أو لقصيدة غنائية، وما يحسه الرائي للجبل العاتي أو البحر الخضم أو الصحراء الممتدة. الحالة الأولى «جمال» والحالة الثانية «جلال»، وكلتا الحالتين تندرجان في مقولة النشوة الفنية.

فإذا ما ارتددنا إلى الأسلاف لنرى كيف فهموا «الجمال» و«الجلال» لعلنا نلتقي معهم أو لا نلتقي في نظرية استاطيقية واحدة، فوجئنا بشيء آخر لا يمت بصلة أو يوشك ألا يمت بصلة بما يطوف في أذهان المعاصرين من معان للجميل والجليل؛ فاقرأ - مثلا - رسالة صغيرة لابن عربي عنوانها «كتاب الجلال والجمال» لترى في أي عالم ينظر. بدأت الرسالة بتفرقة لطيفة ونافذة لم أجد لدقتها مثيلا في كل ما قرأت عن «الجمال» و«الجلال» في كتابات المحدثين؛ وذلك أنه وصف الحالة التي تعتور الإنسان أمام «الجميل» بأنها «أنس»، والحالة الأخرى التي يحسها الإنسان أمام «الجليل» بأنها «هيبة»، نعم، فنحن نأنس لرؤية بساتين الزهر وحقول القمح - مثلا - لكننا نشعر بالهيبة أمام الصحراء والبحر والجبل. ثم جاءت بعد تلك التفرقة اللطيفة ملاحظة هي عندي من أصدق ما يلحظه باحث في هذا المجال، وهي أن الشعور بالأنس والشعور بالهيبة - أمام الجميل وأمام الجليل - إنما هو شعور خاص بالإنسان المشاهد لا بالشيء الذي تنصب عليه المشاهدة، إلى هنا نرى الحديث مألوفا لا غرابة فيه.

لكن امض مع ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال، فإذا هو يعني بهما أمورا لا يتوقعها قارئ معاصر؛ إذ هو يعني بهاتين اللفظتين حالتين مختلفتين في توجيه الله سبحانه وتعالى لآياته إلى الناس، فهو آنا «يجاملهم» (وهذا هو الجمال) ويتبسط معهم ويبدي لهم جانب الرحمة، وآنا آخر يتوعدهم (وهذا هو الجلال). وينطلق ابن عربي بعد ذلك ليبين لنا أنه ما من موضع في القرآن الكريم كان فيه الجمال إلا وقد قابله بموضع كان فيه الجلال، فقوله تعالى:

غافر الذنب

يقابله قوله:

شديد العقاب ، وقوله:

وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود

يقابله

وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم

وقوله:

وجوه يومئذ ناضرة

يقابله قوله:

ووجوه يومئذ باسرة ، وهكذا يبين ابن عربي في رسالته عن الجمال والجلال أمثلة كثيرة لهذا التقابل بين «إشارات الجمال» و«إشارات الجلال» كما يسميها، فأين هذا مما يكتبه فيلسوف الاستاطيقا في عصورنا الحديثة في هذا الباب؟ ومن أين تأتي نقطة التلاقي بين مفكر عربي معاصر ينظر في موضوع كهذا ومفكر عربي قديم نظر فيه؟ (راجع مقالة «بين ماض وحاضر» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

9

سأذكر من حياتي لحظتين: حاولت في إحداهما أن أعيش مع ماضينا في حياته العقلية، وحاولت في الأخرى أن أعيش معه في حياته الوجدانية؛ لأصور بما أذكره من ذلك عمق الرغبة التي أحسستها - لا سيما منذ أول الستينيات - نحو أن أدمج الماضي مع الحاضر في كياني؛ إيمانا مني بأن هذا هو الطريق الأمثل لأمة تريد أن تصون جوهرها، وأن تضمن لذلك الجوهر نفسه أن يزداد مع الأيام غزارة وثراء.

أما أولى اللحظتين، فقصتها هي أنني كنت ذات يوم أحاضر طلابي في كلية الآداب بجامعة القاهرة في فلسفة العلوم الطبيعية، وكانت الأمثلة التي عرضتها مستمدة كلها من علماء الغرب وفلاسفتهم، ولم يكن ذلك ضلالا مني عن الجادة؛ لأنني كنت أعلم - وما زلت - أن العلوم الطبيعية إنما اكتملت ولادتها في أوروبا الحديثة بدءا من النهضة، وأما ما قبل ذلك فكانت بدايات تمهد الطريق وينقصها المنهج الصحيح لهذا المجال. وهنا لا بد لي أن ألاحظ بأن العلوم التي كان السابقون قد مهروا فيها واشتد نضجهم هي العلوم الرياضية.

وعلى أية حال؛ فالذي حدث في تلك اللحظة التي أشرت إليها هي أنني ما كدت أفرغ من محاضرتي تلك عن فلسفة العلوم الطبيعية ومناهجها حتى سألني طالب - وكانت في سؤاله رنة العاتب: لماذا لم تجعل من أمثلتك المعروضة مثلا من علماء العرب؟ ألم يكن للعرب علم يرجع إليه ويستفاد من مناهجه؟ وبرغم يقيني من أن العلم قد انتقل اليوم نقلة فسيحة، بعدت به عما كان عليه في العصور الوسطى، في الشرق وفي الغرب على السواء، وأن اختلاف علم اليوم عن علم الأمس لا يقتصر على مقدار الحقائق المحصلة وحدها، بل إن اختلافهما قد جاوز الكم إلى الكيف؛ فالأساس نفسه قد تغير، وتغير معه اللون الغالب كله. أقول: إنه برغم يقيني من ذلك، إلا أنني أحسست بشيء من الحق في اعتراض الطالب؛ لأنه مهما بعدت مسافة الخلف بين اليوم والأمس، فما كان علم اليوم لتقوم له قائمة لولا علم الأمس؛ وإذن فلا شك أن واجبنا العلمي يقتضينا أن ننظر فيما كان؛ لنقدره قدره أولا، ولنزداد به فهما لما هو كائن ثانيا. وإذا كان هذا هو ما يقتضيه الواجب العلمي على إطلاقه، فإن هذا الواجب تجاه علمائنا العرب الأولين ليزداد إلحاحا علينا بأن ينهض منا من يؤديه.

وصحت مني العزيمة منذ ذلك الحي، أن ألبي رغبة الطالب؛ لأنها في الحقيقة رغبة وطن ناهض أراد أن يجمع في نهضته النظرة إلى أمام واللفتة إلى وراء، حتى يجيء طريق السير موصول الحلقات مرتبط المراحل. وبدأت بإمام العلوم الطبيعية عند العرب، ألا وهو جابر بن حيان (راجع كتابي «جابر بن حيان»).

تلك هي قصة اللحظة الأولى، وأما اللحظة الثانية التي حاولت بها العيش مع السلف في حياته الوجدانية؛ فقد كانت بدايتها لمحة وردت عند «يروست» (الأديب الفرنسي) في حديثه عن الصلة بين الحاضر والماضي في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»؛ إذ يقول: إن الفن من شأنه أن يجمد لحظات من الماضي تظل قائمة حية في الحاضر؛ فيتيح لنا هذا أن نحطم حواجز الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيش تلك اللحظات، إن لحظة واحدة نعيشها اليوم مع من عاشوها في الماضي كفيلة وحدها أن تفك عنا قيود الزمن التي فصلت حاضرنا عن ماضينا، وأحسب أني قد عشت لحظة كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفني التأمل عند قوله: «أبكت تلكم الحمامة أم غنت؟» (راجع مقالة «لحظة مع الماضي» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

الفصل الثامن

رحلة في دنيا التراث

1

اشتدت بي الرغبة - في أواخر الستينيات - أن أرسم لنفسي صورة متماسكة غنية - نسبيا - بتفصيلاتها عن الثقافة العربية إبان القرون الخمسة الأولى بعد ظهور الإسلام، فلقد شعرت يومئذ أنني على كثرة ما قرأته من ذلك التراث قراءة كانت دائما لا تستهدف غاية تريد الوصول إليها، اللهم إلا المعرفة لذات المعرفة، لم تزل تنقصني الروابط التي تصل أشتات المقروء بعضها ببعض في صورة واحدة، فتستطيع أن تقول إنني كنت إلى ذلك الحين قد خزنت في نفسي أكداسا من حقائق عن الثقافة العربية إبان تلك القرون الخمسة التي أردت دراستها، لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير «تاريخ» يربطها في سيرة متصلة المراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها؛ فاشتدت بي الرغبة في أن أنصرف بمعظم جهدي بضع سنوات - نحو الدراسة المنشودة - لعلي أكمل النقص الذي أحسست به في معرفتي بالتراث.

لكنني ما إن هممت بالتنفيذ وحولي مكتبة جامعية على درجة كبيرة من الغنى بما احتوت عليه من أصول ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيط متسع الآفاق عميق الأغوار، قائلا لنفسي: دونك المحيط فاسبح إلى حيث شئت من شطآنه النائية! فكيف أبدأ وإلى أين أتجه؟ ماذا أختار من هذه المراجع التي تعد بالألوف؟ وماذا أدع مطمئنا لما اخترت وما تركت؟

إنه لا بد من خطة سير أرسم بها طريقي؛ أعني أنه لا بد لي من «منهج» ينظم لي الخطوات المتعاقبة في رحلتي، فكان أول سؤال طرحته على نفسي لأرسم منهج الرحلة على أساس الإجابة عنه، هو: ما هدفك مما أنت مقدم عليه؟ ولم ألبث أن أجبت: أريد أن أتعقب طريق «العقل» العربي في مساره، عندما كان العرب في ذروة عنفوانه، ولماذا «العقل» وطريقه دون سائر الجوانب التي منها ما هو خطير وهام كالوجدان الديني والإبداع الفني وغيرهما مما يتصل بالطبيعة الإنسانية في أعمق أعماقها؟ اخترت طريق «العقل» في مساره إطارا يجمع لي الأشتات التي أعرفها والتي لم أكن قد عرفتها بعد من الثقافة العربية؛ لعدة أسباب أدركتها فور اختياري: فالاتجاه العقلي أولا أبرز ما يميزني إزاء مواقف الحياة. وثانيا لأن طريق العقل هو وحده الذي تأتي فيه الخطوات المتعاقبة مكملة بعضها لبعض إما صعودا أو هبوطا؛ فالخطوة اللاحقة تجيء لتكمل الخطوة السابقة في اتجاهها وفي سرعتها وفي أهم مقوماتها. وثالثا لأننا إذا كنا نريد اليوم أن نلتمس رباطا قويا يصل حاضرنا بماضينا، فيحسن أن نلتمسه في دنيا «المعقولات»؛ لأنها هي التي يمكن أن تدوم مع الأيام، فكما كانت «معقولة» للسابقين، تكون «معقولة» كذلك عند اللاحقين.

ولكن ماذا أردت «بالعقل» عندما اخترت في تلك اللحظة أن يكون طريق العقل في الثقافة العربية منهجي في البحث والاختيار؟ أردت به شيئين ، يكفي أن يتوافر أحدهما في موقف ما لأصف ذلك الموقف بأنه عقلاني في نزعته، أحدهما أن تكون حركة الفكر حيال المشكلة المعروضة سائرة بصورة صريحة على منهج المنطق الذي يقدم المقدمات ثم ينتزع منها النتائج كما هو واضح - مثلا - في الفكر الرياضي أو في فكر الفقهاء المسلمين، أو في طريقة التناول التي نراها بين الفلاسفة ومن يطلق عليهم في الفكر الإسلامي بالمتكلمين. وأما ثانيهما فهو أن يعالج الإنسان مشكلة عرضت له معالجة لا تردها إلى «مقدماتها»، بل تسير بها إلى ما يحلها ويزيل عنها موضع الإشكال، ففي أمثال هذه الحالات تلمح ما يمكن أن نسميه بالإدراك الفطري السليم الذي يعرف كيف يخرج من مأزق تأزم في حياته، دون أن يعرف شيئا عن المقومات النظرية ولا عند قواعد الاستدلال الصحيح التي يشترطها أصحاب المنطق الصوري.

ولم يكد الأمر يتبلور أمامي على هذه الصورة، من حيث اختياري لطريق العقل في مسار الثقافة العربية محورا أنتقي على أساسه ما أقرؤه، حتى أراد لي الله أن تقفز إلى ذهني آية النور، مقرونة بتفسير الإمام الغزالي لها في كتابه «مشكاة الأنوار»، فكنت عندئذ كمن كان تائها في فلاة لا تحددها معالم، وفجأة انفتح أمامه طريق السير واضحا مضيئا مفصل المراحل والخطوات. تقول الآية الكريمة:

الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء . «النور» في تأويل الإمام الغزالي لهذه الآية الكريمة هو قوة الإدراك السليم، ولما كان مثل هذا الإدراك إنما يتصاعد درجات، جاء «النور» في الآية على درجات تزداد قوة درجة فوق درجة، وهذه الدرجات في تعاقبها بمثابة مراحل ينمو بها العقل ويكتمل، فأولى درجات الإدراك هي مجرد إحساس الحاسة بما ينطبع عليها ويؤثر فيها، وهي الدرجة التي تمثلها الآية بالمشكاة، والمشكاة كالنافذة مفتوحة تتلقى الضوء، ثم تأتي الدرجة التالية التي هي المصباح داخل المشكاة، والمصباح هنا يرمز للعقل الذي يتلقى المؤثرات الخارجية فيحولها إلى معان، وتبقى تلك المعاني مبهمة الحدود إلى أن تحيط الزجاجة بالمصباح فتثبت شعلة الضوء وتظهر حدودها ويزداد لمعانها؛ فالزجاجة هنا هي كالمخيلة عند الإنسان في عمليات الإدراك، تعمل عمل القالب الذي تنصب فيه مادة لم تتشكل؛ فتنخرط في شكل يرسم حدودها، ولكن من أين تستمد المخيلة قوتها تلك؟ إنها تستمدها من «شجرة مباركة»، وهي ترمز هنا إلى وحي أو إلهام من الله سبحانه وتعالى. وهنا ينتهي التسلسل لأن قوة الإلهام لا يسأل عن مصدرها؛ إذ هي كالزيتونة تضيء بزيتها وليست بحاجة إلى مصدر خارج ذاتها، فلو أننا رتبنا درجات الإدراك من أعلى إلى أسفل قلنا: إن الوحي الإلهي يهدي أولا، فتستقيم بهدايته مخيلة الإنسان في تشكيلها للمعاني، وكانت تلك المعاني قد تكونت بحدود مبهمة بفعل العقل، وفعل العقل إنما ينصب على ما تتلقاه الحواس بصرا وسمعا وغير ذلك. أو إذا رتبنا درجات الإدراك صعودا بها من أدناها إلى أعلاها، كانت بداية الشوط انطباعات تتلقاها الحواس من عين وأذن وغيرها، فيتناول العقل تلك المادة الحسية ليستخرج منها معانيها، ثم تؤدي المخيلة دورها في صقل تلك المعاني والدقة في تحديدها، ومصدر هذه القوة آخر الأمر مبادئ أولية يدركها الإنسان بلمعات من بصيرته، ولا موضع بعد ذلك لسؤال يسأل عن البصيرة ما مصدرها؛ لأنها عيان مباشر يتفجر من فطرة الإنسان بمشيئة الله.

أسلفت لك القول بأنني ما كدت أرسم لنفسي منهجا أختار على أساسه ما أختاره من ذلك الخضم الزاخر من حولي - الذي هو «التراث» العربي في أصوله ومراجعه - حتى قفزت إلى ذهني آية النور، وتأويل الغزالي للنور بأنه قوة الإدراك، تتدرج من مجرد الحس بما هو موجود، صعودا إلى الذروة الإدراكية المتمثلة في رؤية الحق إدراكا مباشرا.

فكان السؤال الذي نشأ عندي، هو: أتكون هذه الدرجات الإدراكية هي نفسها الخطوات التي يتدرج فيها العقل عند نمائه؟ وهي نفسها المراحل الثقافية التي تتدرج بها أمة إبان صعودها الحضاري؟ إنه مجرد فرض فرضته لأقيم عليه النتائج التي تهديني في السير، فإذا صدق هذا الفرض على الثقافة العربية كنت قمينا أن أجد أول ما أجد مرحلة من الإدراك الفطري النقي السليم، الذي يحكم على الأشياء وعلى المواقف بقوة البديهة وحدها، ولا يطالب نفسه بالتنظير الذي يبحث عن العلل والبراهين. ووجدت بعد ذلك مرحلة تتلوها، تتسم بما تتسم به العملية العقلية، ألا وهي تقعيد القواعد للمادة المحصلة قبل ذلك بقوة الإدراك الفطري. ووجدت ثالثا مرحلة تواصل العملية العقلية بمزيد من الدقة النظرية، وربط القوانين العلمية بعضها ببعض. ووجدت رابعا وأخيرا مرحلة يقف فيها صاحب الإدراك موقف المتصوفة، الذي ينشد رؤية الحق بمواجهة مباشرة، فهو - مرة أخرى - ضرب من الإدراك الفطري الذي بدأنا به، لكنه كان في المرحلة الأولى إدراكا لجزئيات تأتي فرادى، وهو الآن آخر الشوط إدراك للمبدأ الأول في صورته الكلية الضرورية اليقينية الشاملة.

هكذا فرضت الفرض، واستخرجت منه ترتيب المراحل الثقافية التي اجتازها الفكر العربي إبان قوته ونمائه، ذلك إذا صدق الفرض على الواقع.

فلم يكن أمامي بعد ذلك إلا أن أطالع نماذج من نتاج القرون الخمسة الأولى التي أردت دراستها، باحثا في كل قرن منها عن أهم ما أثير من مسائل فكرية وأهم ما قيل في تلك المسائل من آراء، وأبرز من أسهموا فيها من الرجال. فإذا بي وكأني أرى المراحل الإدراكية التي حددتها آية النور ماثلة أمامي واحدة بعد واحدة، في الأولى وجدت إدراكا للأمور بالفطرة الذكية، وفي الثانية وجدت إدراكا علميا عقليا يستخلص القواعد والقوانين والمبادئ في مجالات المعرفة كاللغة والفقه، وفي الثالثة وجدت مزيدا من دقة الإدراك العلمي والفلسفي، وفي الرابعة وجدت إدراكا موفيا للحق يعلو على عمليات العقل في استخراج القواعد وصياغة القوانين؛ إذن فها هو ذا طريقي، ولم يبق إلا أن أسير على بركة الله.

2

لم يكن عسيرا على العين في أن ترى في المرحلة الأولى من مراحل السير - وهي القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) - كيف كان الموقف مزيجا من أدب وشعر وفروسية وسياسة؛ فالسياسي أديب وفارس، والفارس أديب وسياسي. ولقد اخترت الإمام عليا نموذجا لتلك المرحلة، فهو كل العناصر التي ذكرناها، وأحكامه ومواقفه لا تحتاج منه إلى دراسة منهجية واستشارة للمراجع، بل هو بديهة قوية ترى بلمع البصيرة ولمحها.

على أن أهم ما استوقف نظري في تلك المرحلة الأولى: هو الصلة الوثيقة الحميمة بين الفكر والواقع؛ فالمشكلات التي تطرح تحت أنظار المفكرين إنما هي نبت نبت من أرض الحوادث الجارية وما تثيره من أسئلة تنتظر الحلول، فمن معركتي الجمل وصفين - اللتين نشبتا بسبب الخلافة ومن ذا يكون حقيقا بها - نشأت عدة أسئلة كانت هي أول ما طرح على المسلمين في مجال الفكر النظري، وكان من أهمها مشكلة الذنوب الكبيرة ومقترفيها؛ فها هي ذي حرب بين فريقين من المسلمين فيهم صفوة من صفوة المسلمين، وحسبنا أن يكون فيهم عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين. نعم، ها هي ذي حرب ناشبة بين فريقين من هؤلاء، سفكت فيها دماء، وما داما فريقين متخاصمين على قضية معينة، فلا بد أن يكون من الفريقين فريق واحد - على الأقل - قد جانب الحق؛ إذ لو كان كلاهما على حق لما اختلفا وتقاتلا، فماذا يكون الحكم فيمن يثبت عليه الخطأ منهما؟ ألا يكون هو المسئول عن الدماء المسفوكة؟ فهل يعد مع هذا الذنب الكبير مسلما كما كان، أم يعد خارجا على الإسلام؟ ... طرح السؤال، فجاءت عنه إجابات ثلاث، لو تحدثنا عنها هنا بمفاهيم عصرنا هذا، لقلنا: إن إجابة منها جاءت من يسار متطرف - وهم الخوارج - تقول إنهم بذنبهم ذاك يكونون كفارا، وإجابة ثانية جاءت من يمين متطرف، تقول بل إنهم جميعا يظلون مسلمين كما هم، وإجابة ثالثة جاءت من وسط معتدل، تقول بل إن من يثبت عليهم الخطأ لا هم مسلمون أكمل الإسلام، ولا هم خارجون على الإسلام، بل هم في منزلة وسطى بين المنزلتين، هي منزلة «المسلم العاصي». كان هذا الوسط المعتدل متمثلا أول ما تمثل في واصل بن عطاء، وكان في حلقة دراسية حول شيخها الحسن البصري، عندما طرح السؤال المذكور، فما كان من واصل إلا أن أبدى الرأي المعتدل الذي ذكرناه، ولعله لم يصادف قبولا عند شيخه؛ فترك الحلقة وجلس على مقربة منها ليلحق به من يؤيده في فكرته تلك، وعندئذ قال شيخه الحسن البصري عنه: قد اعتزل عنا واصل، فأصبح اسم «المعتزلة» يطلق على أتباع واصل، ثم اتسعت الدائرة على مر السنين وتشعب المعتزلة وتنوعت قضاياهم الفكرية، لكنهم عرفوا جميعا بطابع مميز هو «عقلانية» النظر واعتدال الأحكام. وهكذا نشأ تيار فكري أعتقد أنه من أقوى ما شهد المسلمون الأولون في دنيا الفكر النظري. وأعود فأكرر ما أسلفته، وهو أن ما يستوقف النظر مما يفيدنا نحن اليوم هو الطريقة التي خرجت بها المشكلة الفكرية من أحداث الواقع، كما ينبغي لكل فكر أن يكون.

ولم تلبث أن تفرعت من ذلك مشكلة أخرى كانت أول ما عرض على الفكر الإسلامي من قضايا السياسة، ألا وهي مشكلة الخلافة ومن ذا يكون أحق بها؟ وسرعان ما انتقل التفكير من مجرد النظر في الأمر على أنه مشكلة جزئية تنحصر في أشخاص الفريقين المتحاربين في موقعتي الجمل وصفين؛ ليصبح تفكيرا في النظرية السياسية من حيث هي، فهل هنالك ما يقتضي أن تنحصر الخلافة في بيت الرسول؟ أو أنها حق لكل مسلم تتبين صلاحيته للحكم دون الآخرين؟ فكانت تلك هي اللحظة التي انشعبت عندها الآراء في مذاهب، كان أهمها الرأي الذي جعل الحكم حقا لعلي وبنيه من بعده، وهؤلاء هم «الشيعة» - شيعة علي - وبجانبه رأي مضاد هو رأي «الخوارج» الذين خرجوا على تبعيتهم لابن أبي طالب، قائلين إن الحكم إنما يكون لأصلح الناس له من المسلمين أجمعين، عربا أو عجما على السواء، ومن بيت الرسول أو من خارج البيت.

وأخذت المسائل الفكرية تتفرع في موضوعاتها، ويتفرع معها المفكرون مذاهب وتيارات، لكنها جميعا تعكس واقع الحياة، حتى ما قد يظن منها أنه فكر نظري بحت، ففي أواخر المرحلة الأولى في رحلتنا الثقافية هذه - ونحن الآن قد جاوزنا مرحلة الفطرة والبداهة إلى مرحلة «العقل» ومنطقه في معالجة ما ينشأ من مشكلات - كانت دراسة اللغة والنحو على أشدها؛ فالهدف هو الكتاب الكريم وإجادة فهمه، ولا بد للفهم الجيد من إتقان لدراسة اللغة وكل ما يتعلق بها، فماذا عسى أن تقول إذا ما نظرت فوجدت جماعتين من الدارسين: إحداهما في البصرة، والأخرى في الكوفة، فإذا هما تختلفان إحداهما عن الأخرى في الأساس العميق الذي تبنى عليه الدراسة اللغوية؛ فجماعة البصرة - وفيها الخليل بن أحمد وسيبويه - ذهبت إلى أن يكون العقل بتقسيماته المنطقية هو أساس الدراسة، بمعنى أن منطق التقسيم لو أخرج لنا لفظة مشتقة من أخرى على قواعد الاشتقاق النظرية؛ وجب اعتبارها صحيحة حتى ولو لم يكن القدماء - الجاهلية - قد استعملوها. وأما جماعة الكوفة - ومنها الكسائي - فترى أن ما لم يستعمله العرب الأولون فهو غير صحيح ولا يجوز استعماله، فليست العبرة بالقواعد النظرية وتطبيقها، بل العبرة بتاريخ العرب وما قالوه بالفعل. أقول: ماذا عسى أن تقوله إذا ما نظرت فوجدت هاتين الجماعتين منهمكتين في دراستهما اللغوية إلا أن تقول إنه علم للعلم في ذاته، حتى وإن كان بينهما اختلاف على الأساس، ولكن أمعن النظر تجد في جماعة البصرة من هم من أصول فارسية، وأن جماعة الكوفة من الأرومة العربية الخالصة، أفلا تأخذك الريبة إزاء هذا أن تكون جماعة البصرة قد لجأت إلى إعمال العقل وحده حتى لا يتركوا أفضلية لمن هو سليل أصل عربي، وأن جماعة الكوفة قد جعلت مرجعهم في الصواب والخطأ ما قاله العرب أو لم يقولوه؛ ليحتفظوا لأنفسهم بالمنزلة الأولى؟ على أن ما يهمنا في هذا كله هو الصلة الحيوية القائمة بين العمل العلمي والثقافي من جهة، واهتمامات الناس وهمومهم الحقيقة من جهة أخرى.

وكان لا بد أن ينصرف المفكرون بكثير من جهدهم نحو طائفة من جوانب العقيدة الإسلامية ليتناولوها بالتحليل ابتغاء الوضوح، ومن أهم تلك الجوانب فكرة التوحيد ذاتها التي هي رسالة الإسلام الأساسية، فماذا تتضمنه «الوحدانية» من معنى؟ لأنه إذا كانت واحدية الذات الإلهية لا تتطلب كثيرا من العناء لفهمها، فماذا يقال في «الصفات» التي توصف بها تلك الذات؟ هي صفات كثيرة كالحياة والعلم والإرادة والخلق والرحمة إلى آخر ما يحفظه المسلم منها، أفلا تنطوي على «تعدد» إذا نحن فهمناها على أن لها استقلالا بذاتها؟ وها هنا كنت تجد الاختلاف قائما بين المعتزلة وأهل السنة: الأولون يقولون إن تلك الصفات لا تفهم إلا من حيث هي الذات نفسها، فإذا قلنا عن الله سبحانه وتعالى إنه «عليم» كان معنى ذلك أن العلم الإلهي هو نفسه الذات في علمها، وهو «خالق» كان الخلق هو الذات نفسها وهي خالقة، وهكذا. لكن أهل السنة لم يريدوا لأنفسهم مثل هذا التعقيد في فهم المعاني، فظاهر العبارة التي تقول عن الله إنه عليم، يدل على أن للعلم معنى قائما وحده والذات موصوفة به.

وإذا انتقلت إلى حلقة أخرى من حلقات البحث والنقاش - ونحن الآن في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وفي مدينة البصرة التي كانت تعج برجال الفكر - فترى موضوعا آخر محورا للخلاف هو موضوع «العدل» الإلهي؛ إذ من فكرة العدل ينشأ سؤال عن حرية إرادة الإنسان في فعله ليكون مسئولا أمام الله يوم الحساب عن اختياره، وبهذه الحرية والتبعة الأخلاقية التي تترتب عليها كان يقول المعتزلة، لكن فريق الجهمية يتصدى لهم؛ لأن ذلك الفريق يأخذ بالجبرية المطلقة، مستندين في ذلك إلى نصوص قرآنية كثيرة تدل على أن كل ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة الله.

3

كانت المرحلة الثانية من الرحلة الثقافية التي ارتحلتها دارسا ومتأملا في دنيا التراث في مدينة البصرة إبان القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، وها نحن أولاء على أبواب المرحلة الثالثة، وسوف ننتقل فيها إلى بغداد التي كان بنو العباس قد أنشأوها لتكون مقرا للخلافة الجديدة، وستمتد بنا هذه المرحلة ما يقرب من قرنين كاملين؛ الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من تاريخ الميلاد)، وفي هذه الفترة بلغ العرب بثقافتهم إلى أوج أوجها.

لكنني إذا أردت فهما صحيحا للروح التي سادت تلك الفترة من الناحية الثقافية، لم يكن يكفيني أن أسرد المنتجات سردا عدديا ، فأقول إنهم كتبوا كذا وكذا وترجموا كيت وكيت؛ فهذه المعلومات الإحصائية لها أهمية أولى عند الوراقين، أما من كانت الأولوية عندهم للثقافة في روحها ومعدنها، فعدد المنتجات لا يكفيه، فتراه يبحث عن العوامل التي اصطرعت لتؤدي إلى ظهور تلك المنتجات.

وفي حالتنا هذه التي بين أيدينا - وأعني الحياة الثقافية العربية خلال الفترة التي حددناها - إذا ما كشفنا عن بعض العوامل الرئيسية التي فعلت فعلها؛ انكشف لنا خبيء ما كان لينكشف لو أننا اكتفينا بالإحصاءات العددية لما كتبوه وما ترجموه، وإني لأقولها هنا في غير تواضع لكي أتحمل التبعة كلها، وهي أن تلك العوامل التي رأيتها مفسرة للروح الثقافية التي سادت عندئذ هي رؤيتي وحدي، فإذا كان استدلالي خاطئا فأنا وحدي الذي أخطأ أو مصيبا فأنا الذي أصاب.

فلقد كانت مرحلتي الثانية التي صورتها في الفقرة السابقة إبان الخلافة الأموية، وأما المرحلة الثالثة التي أهم الآن بتصويرها فقد وقعت في خلافة بني العباس، وإذا نحن لم ندرك - في انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين - كيف كان التحالف وثيقا بين السياسة والثقافة فاتنا شيء كثير.

فلنذكر بادئ ذي بدء أن البيت الأموي كان عربيا خالصا، وأراد أن تكون السيادة للعرب وحدهم دون سائر المسلمين من غير العرب وبصفة خاصة الفرس، ولقد أطلقت كلمة «الموالي» على الفرس المسلمين؛ فكان من الطبيعي أن يضيق هؤلاء الموالي؛ فهم يعلمون عن الإسلام أنه لا يفرق بين مسلم ومسلم إلا بالتقوى، ولكن ها هم أولاء يرون - من الناحية العملية - أن الخلافة العربية تتعصب للعرب وتخصهم وحدهم بمكان السيادة، فماذا يحدث لهؤلاء الموالي من الفرس إلا أن يرتد بعضهم من الساخطين إلى عقائدهم الدينية الأولى قبل الإسلام، وأن يجعلوا ردتهم تلك سرا في صدورهم؛ ومن هنا شاعت موجة من أوهام الخرافة، هي التي يطلقون عليها اسم «الزندقة»، كما شاعت منافسات وطنية إقليمية، كل فريق يعلي من شأن إقليمه وثقافته وتاريخه: العرب الخلص من ناحية، والفرس من ناحية أخرى، وتلك هي الحركة التي يطلقون عليها اسم «الشعوبية».

بدأ بنو العباس يتحركون للإطاحة بالدولة الأموية والاستيلاء على الخلافة، فأول ما يخطر لهم أن يفعلوه هو الاستعانة بالموالي الساخطين. وبهذا التحالف استطاع العباسيون أن يقتلعوا الأمويين، وأن يتولوا الخلافة سنة 750 ميلادية، وأنشئوا بغداد لتكون مقرا لخلافتهم. لكن الذي يهمنا في هذا المقام ليس هو الأحداث السياسية في ذاتها، بل هو التحولات الثقافية التي تسبق تلك الأحداث وتصاحبها وتلحق بها، فلئن كانت مصلحة الأمويين - وهم في الحكم - قد اقتضتهم أن يعلوا من شأن الثقافة العربية وحدها، وألا يعملوا جادين على فتح الأبواب لسائر الثقافات، فمصلحة العباسيين قد اقتضتهم شيئا آخر، هو أن يفسحوا المجال للثقافات الأخرى - وفي مقدمتها ثقافة الفرس - إرضاء للموالي الذين ساعدوا بني العباس في الإطاحة ببني أمية، ثم ما هو إلا أن بدأت حركة النقل على أوسع نطاق من ثقافة اليونان.

فإذا رأينا المأمون يقيم للترجمة عن اليونان فلسفتهم وعلومهم «دار الحكمة» في بغداد، فكان ما كان من سريان فكر جديد في شرايين الثقافة العربية؛ أدى بها إلى الارتفاع كما ارتفعت خلال القرنين الثالث والرابع من التاريخ الهجري (التاسع والعاشر من التاريخ الميلادي)، فمن المهم أن نحسن فهم الأسباب التي كانت وراء الحركة كلها - وهي أسباب سياسية في أساسها - لنعلم كيف تتآلف السياسة مع الثقافة في حركات النهوض.

ولن تكون لنفسك صورة صحيحة عن مدى ما تغيرت به الثقافة العربية نتيجة لذلك التحول إلا إذا قرأت لبعض الأعلام شيئا مما أنتجوه، وعندئذ ترى كم هي جديدة تلك الصورة الثقافية الجديدة، فلم يكن للعرب سابق عهد بمثل هذا التفكير، ولا كان لأصحاب المصادر المنقولة إلى العربية في حركة الترجمة سابق عهد بمثل هذه الكتابة، فنحن الآن أمام فكر جديد سيق لنا بأسلوب جديد.

اقرأ الجاحظ من القرن التاسع الميلادي، ونظيره أبا حيان التوحيدي من القرن العاشر، اقرأ لأعلام المتكلمين كالنظام والعلاف؛ لترى على أية صورة باتت الأفكار الإسلامية الخالصة تعرض في تحليل منطقي بلغ من الدقة غاية قصوى، واقرأ - من نتاج القرن العاشر - رسائل إخوان الصفا، أو من شئت من الفلاسفة في تلك الفترة: الفارابي أو ابن سينا، بل اقرأ لشعراء ذلك العصر: المتنبي أو أبي العلاء المعري، أو اقرأ لأعلام النقد الأدبي في القرنين التاسع والعاشر معا كابن سلام والقاضي الجرجاني وعبد القاهر الجرجاني، اقرأ من كل تلك الكنوز ما شئت تجد ثمرة فكرية جديدة، فيها نضج وعمق وبصيرة؛ جاءت نتيجة التزاوج بين ثقافة عربية تقليدية أراد المتعصبون من بني أمية أن يقصروا أنفسهم عليها، وثقافات أخرى مختلفة المنحنى والمذاق، أرادت لها السياسة بادئ الأمر أن تسري في العقل العربي؛ فارتفعت الثقافة وارتفع الإنسان.

4

وكأنما هو ضد طبائع الأشياء أن يولد جديد في الثقافة أو في الحضارة دون أن يتصدى له قديم ليبرز عيوبه وليمحوه من الوجود إذا استطاع، وربما كانت هذه الحراسة من التقاليد القائمة لما عسى أن ينجم من الجديد من تشويه لمعالم الشخصية الأصيلة؛ فتتصدى له بالتحدي حتى تلجم خطاه. أقول: ربما كانت هذه الحراسة الثقافية في صالح الأمة بصفة عامة حتى لا تلعب بها النزوات والأهواء، لكنها أيضا قد تكون مصدر ضرر بالغ إذا بولغ فيها مبالغة من شأنها أن تقتل براعم الإبداع الفكري والفني كلما بزغت لتينع وتزدهر. ومهما يكن من أمر فقد حدث للثقافة العربية الجديدة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة أن نهض من يقاومها مقاومة عنيدة، مقيما حجته على أساس أن الجديد غريب على الروح العربية الأصيلة وضار بها وليس بذي نفع لأبنائها، لكننا نلحظ في أولئك الذين نهضوا لمقاومة الثقافة الجديدة أنهم فعلوا ذلك بعد أن أشربوا حتى ارتووا من تلك الثقافة نفسها التي يقاومونها؛ ولذلك جاءت مقاومتهم لها مستخدمة أدواتها وأسلحتها. وأقوى مثل نسوقه لذلك هو الغزالي في حملته ضد الفلسفة اليونانية في كتابه «تهافت الفلاسفة».

ولقد كنت أتحدث عن مراحل رحلتي الثقافية في دنيا التراث، متدرجا معه خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخ المسلمين، ومهتديا بدرجات الإدراك المتصاعدة في قوتها وسطوعها، كما وردت في آية النور: مشكاة فمصباح فزجاجة فكوكب دري فشجرة مباركة. المشكاة لتأثر الحواس بما تتلقاه مما حولها من مؤثرات، والمصباح للعقل في تكوينه للمعاني بناء على ما استخلصه من إدراك الحواس، والزجاجة لانضباط تلك المعاني بما يحددها ويزيدها جلاء، والكوكب الدري للدرجة القصوى من لمع العقل، وهذه الخطوات كلها أجملناها إجمالا سريعا فيما أسلفناه، ثم تأتي الدرجة الأخيرة التي هي الشجرة المباركة رمزا لاعتراف العلم، لا من الخارج بل من النبع الباطني، من طبيعة الذات الداخلية، وهو ضرب من الإدراك يجيء إلى صاحبه برؤية باطنية مباشرة، فلا استدلال لأفكار من أفكار سواها، ولا إقامة برهان على فكرة بفكرة أخرى، فمثل هذه المعرفة اللدنية التي تغترف من خلجات النفس لا شك في يقين صوابها - عند صاحبها - حتى ولو عارضته فيها الدنيا بأسرها؛ لأنه أحسها بوجدانه كما يحس العاشق عشقه لمن يعشقه، وكما يحس الخائف خوفه، والمتألم ألمه، والنشوان نشوته.

مرحلة «الشجرة المباركة» التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، هي المرحلة الأخيرة من رحلتي الثقافية في دنيا التراث، حيث سمعت دعوة إلى رفض الحواس ورفض العقل (إلا في الميادين الخاصة بهما)، واللجوء إلى رؤية الباطن رؤية مباشرة لشهود «الحق». وكان صاحب الدعوى الذي اخترناه ليكون الناطق بها والمفصح عن فحواها هو الإمام الغزالي.

لكنها وقفة ذات وجهين؛ لأنها إذ تدعو إلى رؤية الحق بالشهود المباشر، فهي في الوقت نفسه تدعو إلى نبذ أداة العقل كما تمثل في فلسفة اليونان - وفلسفة أرسطو في صورتها السينوية (أي عند ابن سينا) بصفة خاصة؛ ومن هنا جاء كتابه «تهافت الفلاسفة» ليبين كيف تتناقض تلك الفلسفة مع نفسها، فكان كتابه ذاك بمثابة إغلاق الباب الذي تسللت منه أضواء الثقافة الجديدة الساطعة التي حدثتك عنها. ولسوء حظ الثقافة العربية أن كان الغزالي من القوة بحيث جاءت حركته تلك إغلاقا لبث فعله يؤثر في مجرى الفكر العربي نحو ثمانية قرون كاملة، لم تظهر فيها حركة فتح مضادة تلغيها إلا ابتداء من القرن التاسع عشر، وحتى رد ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت» (أي إن التناقض ليس في فلسفة أرسطو، بل هو في كتاب الغزالي) أقول: حتى ابن رشد بكتابه «تهافت التهافت» لم يغير من الأمر شيئا؛ إذ كاد تأثير ابن رشد يقتصر على الغرب، فكأنما جعلناها قسمة ثقافية: الغزالي لأبناء الشرق وابن رشد لأبناء الغرب (الرحلة الثقافية في دنيا التراث هي التي فصلت أخبارها وثمارها في كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»).

5

قل ما شئت عما في تراثنا العربي من قوة وغزارة وإبداع، فذلك كله صحيح، لكننا نغمض أعيننا عن الحق إذا نحن أغمضناها عن عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وإنه لمن العبث أن يرجو العرب المعاصرون لأنفسهم نهوضا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود؛ لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه، إنه لا بناء إلا بعد أن نزيل الأنقاض ونمهد الأرض ونحفر للأساس القوي المكين، وسأكتفي من هذه العوامل المعوقة بثلاثة:

الأول:

أن يكون صاحب السلطان السياسي هو في الوقت نفسه - وبسبب سلطانه السياسي - صاحب «الرأي»، لا أن يكون صاحب «رأي» (بغير أداة التعريف)، بحيث لا يمنع رأيه هذا أن يكون لغيره من الناس آراؤهم.

الثاني:

أن يكون للسلف كل هذا الضغط الفكري علينا، فنميل إلى الدوران فيما قالوه وأعادوه ألف ألف مرة، لا أقول: إنهم أعادوه بصورة مختلفة، بل أعادوه بصورة واحدة، تتكرر في مؤلفات كثيرة، فكلما مات مؤلف لبس ثوبه مؤلف آخر، وأطلق على مؤلفه اسما جديدا، فظن أن الطعام الواحد يصبح أطعمة كثيرة إذا تعددت له الأسماء.

الثالث:

الإيمان بقدرة الإنسان - لا كل إنسان؛ المقربون منهم - على تعطيل قوانين الطبيعة عن العمل كلما شاءوا على غرار ما يستطيعه القادرون النافذون - على صعيد الدولة - أن يعطلوا قوانين الدولة في أي وقت أرادت لهم أهواؤهم أن يعطلوها (راجع الفصل الثاني من كتاب «تجديد الفكر العربي»).

إنني حين انصرفت بمعظم جهدي إلى دراسة التراث العربي في أمهاته - وكان ذلك في أواخر الستينيات وما بعدها - لم أفعل ذلك وفي نيتي أن أكون عبدا لما أقرؤه، ولا أن أكون سيدا متعاليا عليه، كلا، ولا كان في نيتي أن أقف مما أقرأ موقف المؤرخ الذي يقصر نفسه على الفترة التي يدرسها دون أن يأذن لنفسه بالحكم عليها وتقويمها بموازين عصره هو، بل يجعل موازين أحكامه وتقديراته ما كان يحيط بالفترة التي يدرسها من ظروف، لا، لم يكن شيء من ذلك هدفي، بل قرأت ما قرأته ليكون حكمي عليه قائما على معايير عصرنا نحن، من حيث انتفاع الناس به وعدم انتفاعهم. إنني قرأت ما قرأته من التراث العربي قراءة مثقف يعيش في القرن العشرين، ويتنفس في مناخ حضاري له خصائصه ومقوماته، ويريد أن يرى الحبل موصولا بينه وبين أسلافه، لكنه في الوقت نفسه يشعر بأنه ما كل ما عاشه أولئك الأسلاف صالح له هو ولزمانه، ولكنه لا بد - بحكم طبائع الأمور ذاتها - أن يكون في حياة الأسلاف كذلك ما يجوز - بل ما يجب - أن يبقى ليبقى الرباط؛ فاللغة - مثلا - التي أتحدث بها وأكتبها «عربية»، وهي نفسها ما كان يتحدث به الأسلاف وما كانوا يكتبون به - من حيث الروح والأسس إن لم يكن من حيث التفصيلات؛ وإذن فهذا رباط يجب الحفاظ عليه، ومع ذلك فحتى هذا الرباط نفسه هو كأية أداة أخرى من أدوات العيش، ينبغي أن تستخدم فيما يخدم عصرنا نحن، فأملأ أوعيتها علما من علم العصر، ووجدا من وجدان العصر. ... لننظر في حياتنا اليوم وما تواجهنا به من مشكلات أساسية لم يعد يصلح لها ما ورثناه من قيم مبثوثة في تراثنا؛ لسبب بسيط، وهو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول، وعلى رأس هذه المشكلات مشكلة الحرية بمعناها السياسي ومعناها الاجتماعي، وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة، معظمها إن لم يكن جميعها، وهما كذلك المعنيان اللذان لم يكونا موضع النظر عند الأقدمين.

فقد كانت فكرة «الحرية» تنصرف عندهم إلى المعنى الذي يقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون حرا ذا حقوق وواجبات، وإما أن يكون عبدا مملوكا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن له به هؤلاء، وكل ما يأمره به مولاه هو واجب محتوم، فأولا قد زالت هذه التفرقة ولم يعد أمامنا إلا مجموعة من المواطنين هم أنفسهم مجموعة الأحرار، ثم اتسع المعنى - ثانيا - ليشمل جوانب جديدة لم تعرفها الحياة القديمة، وهي الجوانب السياسية التي من شأنها أن تقام الحكومة بانتخاب المواطنين، إما بطريق مباشر وإما بطريق غير مباشر ، على الصورة التي نألفها - على اختلاف أشكالها - في الدول الحديثة. لقد كان يسيرا علينا، أعني أبناء الأمة العربية في مختلف أقطارها، أن نقفو أثر أوروبا وأمريكا فيما اصطنعوه من أنظمة للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا من يمثلونهم أمام من تسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة كلها في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجة إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد، لا من قبل الحاكم ولا من قبل المحكوم. أقول: إن نقل هذه الأنظمة كان يسيرا علينا من الوجهة النظرية الشفوية، وهل يتعذر أن ننتقي عددا من المواد نجمعها في بعض صفحات، لنقول هذا هو دستورنا الذي يكفل لنا الحرية في حكم أنفسنا بأنفسنا عن طريق الذين نختارهم لينوبوا عنا في كل ما نهتم له من شئون التشريع؟

لكن الفجوة فسيحة وعميقة بين أنظمة كهذه تصون للناس حرياتهم السياسية، وبين صورة ورثناها فيما ورثناه من السلف، فعلى طول التاريخ العربي ندر - وكدت أقول «استحال» لولا أني تعمدت الحيطة في الصياغة - ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهنالك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالتين لا يزعزعه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن أو ما رأيت من سبل تكون في وسع المتآمر عليه، فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل، ولا القلة التي لهم الصدارة في المجتمع يستطيعون بإزاء الأمر الواقع شيئا إلا الطاعة أو العصيان أو المؤامرة (راجع الفصل الثالث، بعنوان «ثقافة في تراثنا لا نعيشها» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).

6

إنه كلما أثيرت قضية التراث وما ينبغي أن يكون موقفنا منه أخذا ونبذا أثارت معها الصعاب، كأنها سؤال بغير جواب أو مشكلة بلا حل، فهذا هو ما تركه أسلافنا من فكر وشعر، من علم وأدب، من فقه وتاريخ ورحلات، من فلسفة ونقد، فماذا نحن صانعون به؟ قد يكون فيه ما تظل له حيويته وضرورته إلى عصرنا هذا وما بعد عصرنا، كاللغة من حيث هي أداة لا بد منها للتعبير والتفاهم، وما فيه من شعر ونثر فني لا تبلى جدته لأنه فن، والفن لا يفنى ما دام صادقا، وجوانب أخرى كثيرة لا ضير علينا من سريانها في شرايين حياتنا، بل لا مناص لنا ولها من ذلك السريان؛ لأنه حتم تاريخي ما دامت الأمة الواحدة موصولة الحلقات حاضرها بماضيها، لكن تلك الجوانب من التراث تعرض نفسها علينا مختلطة بغيرها مما لم يعد لنا به شأن؛ ومن هنا ينشأ السؤال الذي كثيرا جدا ما يتردد اليوم على ألسنتنا وأقلامنا: ماذا نصنع أمام تراث لم يعد صالحا لنبض الحياة؟

وفي مقالة عنوانها: «نحن نصنع الماضي» (راجعها في كتاب «مجتمع جديد أو الكارثة») رسمت صورة تخيلتها لشابين كانا يتحدثان معا في حضوري، أحدهما يرفض أن نشغل أنفسنا بذلك التراث ما دام زمانه قد ذهب، وما دمنا نعيش في زماننا نحن متميزا بظروفه، وأما الآخر فلا يجد الحياة ممكنة في زماننا هذا دون أن نستمد بعض غذائها من تراث الأسلاف، ثم أكملت الصورة المتخيلة للحوار بين الشابين بأن جعلتهما يحتكمان إلي باعتباري أستاذهم فيما مضى من سنين، فقلت مجيبا بما هو رأيي في قضية الماضي: «... إنكما تتكلمان عن الماضي وكأنه قطعة من الحجر الصوان، إما قبلتها كما هي، وإما رفضتها كما هي، أو كأن ذلك الماضي كتاب اكتملت صفحاته، لم تعد تزيد صفحة ولا تنقص صفحة، وعلى القارئ أن يتلوه من فاتحته إلى ختامه، أو أن يكف عنه من غلافه إلى غلافه .»

ولكن أمر الماضي ليس كذلك، فأولا ليس باختيارنا أن نأخذ ماضينا أو نتركه؛ لأن هذا الماضي إنما هو ماض لحاضر، ولو بترنا العلاقة بينهما لما جاز لنا بعد ذلك أن نسمي الماضي ماضيا، بل يصبح مجموعة من أحداث عائمة على تيار الزمن، دون أن تربطها الروابط بهذه الأمة أو بتلك، لكن ماضينا هو ماضينا نحن، موصول الحلقات بالحاضر الذي نعيشه نحن، ولكل شعب آخر ماضيه وحاضره، وذلك يشبه أن تكون طفولتي هي طفولتي أنا دون أي إنسان آخر، موصولة الروابط بشبابي وكهولتي، وليست هي مجرد طفولة سابحة في الهواء. إنه إذا كانت حياتنا كتابا من عدة أجزاء؛ فالحاضر هو الجزء الأخير من تلك السلسلة، يتلوه بعد ذلك أجزاء جديدة تظهر على التوالي، على أن آخر الأجزاء لا يفهم إلا على ضوء سوابقه.

وثانيا: إن ماضينا كالسجادة المزخرفة بالصور المتشابكة، ويدخل في نسيجها عدد ضخم من خيوط اللحمة وخيوط السدى، تتقاطع بعضها مع بعض؛ وإذن فلا بد للرائي أن يختار لنفسه من هذا الكل المركب خطا واحدا لتعقبه، كأن يختار خط النباتات المصورة على الرقعة أو خط الحيوان أو خط الأشكال الهندسية وما شابه ذلك.

إنه قد يتبادر إلى أذهاننا أن الماضي شيء مفروض علينا، لا قبل لنا بعملية اختيارية نتحكم بها فيما نأخذه وما نتركه، وأن هذه الحرية في التركيب والبناء مقصورة على تصورنا للمستقبل، ولا تمتد كذلك إلى تصورنا للماضي، لكن أمعن النظر قليلا تجد ألا فرق في حرية الصنع والبناء بين ماض ومستقبل، كلاهما هو ما نصنعه نحن باختيارنا، كل ما في الأمر من اختلاف بين الحالتين، هو أننا بإزاء الماضي أمام أكوام مركومة من مواد البناء، فنتقدم ونأخذ منها ما يحلو لنا أن نأخذه، ثم نقيمه في البناء الذي يحلو لنا أن نقيمه لأنفسنا، على حين أننا بإزاء المستقبل نحفر القنوات التي يتسرب فيها الحاضر على نحو ما نريد له أن يتسرب؛ لتتكون الصورة التي نحب لها أن تكون.

الماضي والحاضر كلاهما من صنعنا، وإن هذا الصنع ليجيء نتيجة لاهتماماتنا نحن في الآونة الحاضرة ...

الفصل التاسع

أصالة ومعاصرة

1

إذا استعرضت حياتي الفكرية من أولها إلى آخرها، وجدت أنه ربما كانت قضية الجمع بين الأصالة الثقافية التي تضرب بجذورها إلى المقومات الأولية التي جعلت من العربي عربيا على طول التاريخ العربي ومن المصري مصريا بما قد كان قبل العروبة وبعدها، وبين المعاصرة التي تجعلنا جزءا من زماننا، لا بمجرد وجودنا الجسدي بل بنشاطنا الفكري كذلك . أقول: إن قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا ربما كانت أهم ما تعرضت له من اهتمامات بالتفكير وبالكتابة. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فقد أصبحت على يقين من أن هذه المسألة هي أم المسائل الثقافية جميعا، من أهمها من صفوة رجال الثقافة بيننا، فكأنما أزاح عن عاتقه العبء الذي بغيره يكون وجوده كعدم وجوده في حياتنا الراهنة؛ إذ هي حقا القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة هاملت في أزمته النفسية: أن أكون أو ألا أكون، ذلك هو السؤال.

والحق أنني لم أبدأ حياتي الفكرية بالرأي الذي تحولت إليه منذ أواسط الستينيات، بل لبثت أعواما وأعواما لا أرى للحياة القومية المزدهرة إلا صورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر، ولقد شاءت تطورات التاريخ أن يكون هؤلاء المبدعون هم من أبناء أوروبا وأمريكا، فهناك ولد العصر بعلومه وفنونه ونظمه؛ ولهذا فقد أصبحت درجات التحضر لسائر شعوب الأرض إنما تقاس بمقدار قربها أو بعدها من الطراز الغربي القائم. هكذا كان الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدودا من التطرف الذي لم يعرف لنفسه حيطة وحذرا، وكان الأمر في ذلك يبدو أمام ذهني وكأنه من البديهيات التي لا حاجة بها إلى مزيد من تأمل وبحث؛ فقد كان يكفيني حينئذ أن أرى في الغرب علما لا وجود له عندنا إلا نقلا عنهم ومحاكاة، وأن أرى في الغرب قوة يسيطر بها علينا ويحتل منا مراكز القيادة والسيادة، وأن أرانا في كل مناحي الحياة أتباعا، هم هناك يبدعون ونحن هنا ننقل عنهم ما يبدعونه، ونحفظ عن ظهر قلب ما يصلون إليه من معرفة، وذلك على أحسن الفروض.

حدث أثناء دراستي في إنجلترا في أواسط الأربعينيات أن التقيت هناك بطبيب مصري، أصبح فيما بعد مرموقا في بلادنا بعلمه في ميدانه، التقيت به وقد جاء إلى انجلترا في بعثة قصيرة، وكان بيني وبينه صداقة قديمة، فما كاد الجلوس يستقر بنا على مائدة حتى انطلق يبدي عجبه وتعجبه من تلك السمعة الكاذبة التي شاعت عندنا في مصر عن إنجلترا وعلمها، لماذا يا صديقي؟ سألته فأجاب: لأنه ما من كتاب طلبوا منا دراسته هنا إلا وهو معروف لنا ومدروس في مصر قبل حضورنا ... إذن فقد نسي صديقي ذاك - وهو من أنبه شبابنا حين كان شابا، ومن ألمع رجالنا حين أصبح رجلا في أربعينياته وما بعدها - نسي صديقي ذاك أن الكتب التي عرفها في مصر ودرسها، ثم وجد أنها هي الكتب التي يوصى بها في جامعات إنجلترا كذلك، هي من صنعهم في الحالتين؟ وإلى هذا الحد تحول غشاوة على أعيننا دون الرؤية الواضحة لحقيقة موقف الغرب وموقفنا من العلوم إبداعا وكشفا.

هكذا كان الأمر يبدو لي مدى أعوام طويلة؛ فهم الذين يخلقون الجديد دائما، ونحن في كل ما نحياه من عصرنا في موقف المستعير.

وفاتني طوال تلك السنين أن السؤال الحقيقي هو: ماذا وراء قوتهم وضعفنا؟ ما السر الكامن في تقدمهم وتخلفنا؟ فليست المشكلة في صميمها هي أن عندهم كذا وكذا من نتائج العلم والفن، وليس عندنا مثل ما عندهم؛ لأنه لو كانت هذه هي المشكلة في جوهرها؛ إذن لكان حلها هو أن ننقل مما عندهم ليصبح عندنا وكان الله يحب المحسنين، لا، ليست هذه هي المسألة المؤرقة، بل إنها هي «ما وراء» إبداعهم وقوتهم، فلما اختفى هذا «الماوراء» من حياتنا نحن، ذهب عنا الإبداع والقوة.

وذلك «الماوراء» هو «منهج» النظر إلى العالم بصفة عامة، وفي دنيا العلم والفن وغيرهما من مناشط الحياة بصفة خاصة، كنا نحن وهم جميعا على نهج واحد إبان العصور الوسطى، فكلنا معا في مركب واحد - كما يقولون - نطفو معا أو نغرق معا، وكان الفرق بيننا وبينهم إبان تلك العصور، ليس هو أن لنا نهجا للنظر وأن لهم نهجا آخر، بل كان الفرق عندئذ هو أننا نحن الذين أمسكوا بزمام القيادة وهم التابعون، وأما النهج الواحد المشترك الذي أشرت إليه فهو أن كلينا كان يقرأ «الكتب» ويستخرج منها طرق الحياة بجميع مشكلاتها، ثم نهضت أوروبا بأبنائها، أو نهض بها أبناؤها منذ القرن الخامس عشر وما بعده، ولم ننهض نحن مثل نهضتهم، وكان معنى النهوض هو: هناك غيروا المنهج واستبدلوا به منهجا جديدا، فبدل أن تكون الكتب القديمة هي المرجع المقروء الذي لا مرجع سواه؛ فالحق هو ما قالته تلك الكتب والباطل هو ما لم تقله أو ما أشارت هي إلى بطلانه. أقول: إنهم - بدل ذلك - جعلوا مرجعهم المقروء هو الطبيعة ذاتها، ومعها باطن النفس الإنسانية لمن يستطيع استبطان نفسه في دقة العلماء، فعلوا ذلك هم ولم نفعل نظيره (إلى يومنا هذا)، فكانت لهم نهضة ولم يكن لنا مثلها، وتغير عندهم معنى «العلم» ولم يتغير عندنا، إذا أصبح العلم عندهم كشفا عن أسرار الطبيعة وصياغة قوانينها، وأما العلم عندنا فقد ظل كما كان، وهو أن «نحفظ» ما في بطون الكتب، وليس ثمة فرق جوهري بين كتب وكتب ما دام المحور هو «حفظ» ما فيها واسترجاعه كلما دعت الضرورة؛ وأقول ذلك لأن الكتاب المحفوظ قد يكون طبا أو كيمياء أو ما شئت من مواد، ثم يحدث في أذهاننا خلط كالذي حدث لصديقي الطبيب النابه الذي أشرت إليه، عندما لم يفرق بين نفسه وقد «حفظ» كتابا وبين مؤلف الكتاب الأصيل الذي بحث في ميدانه واستخرج الحقائق العلمية وأثبتها في كتاب هو الذي «حفظه» صاحبنا فيما بعد، فكان بيننا من النابهين، وإذا كان هذا هكذا، فلم يكن عجيبا مني ومن أمثالي الذين دعوا إلى اصطناع حضارة الغرب وثقافته بحذافيرها، لعلنا نبلغ بها ما بلغوه من علم وسلطان.

2

لكن الجديد الذي استحدث في موقفي منذ أواسط الستينيات هو أن ذلك وحده - على ضرورته وحتميته - لا يكفي؛ لأنه قد يتحقق لنا يوما ما، فيكون الثمن الذي دفعناه في مقابل ذلك هو أنفسنا، فمن الضروري الحتمي كذلك أن أحافظ على هويتي العربية (وهويتي المصرية قبلها لتكون أساسا لها) فينشأ على الفور سؤال محوري هو: كيف يمكن الجمع بين منهج النظر الذي أتناول به شئون الحياة بما فيها من علوم وصناعات ونظم للحكم والاقتصاد والتعليم ... إلخ، وبين أن أظل مصريا عربيا بما يستلزمه هذا الانتماء من نواح في العقيدة وأسلوب العيش، مما قد يبدو من الظاهر أنه يتناقض مع ما يقتضيه المنهج الجديد؟

هنالك من صفوة مثقفينا من رأيته يستخف بالمشكلة حتى ليزعم أنه لا إشكال، فمن طبائع الأمور - هكذا رأيتهم يقولون - أن يكون المصري مصريا ويحيا عصره معا، كأنما المسألة في رأيهم تشبه حياة الكائنات الحية جميعا - من نبات وحيوان - حين يحافظ الكائن على طبيعة نوعه، ثم يتكيف لظروف بيئته في وقت واحد؛ فشجرة القطن - مثلا - لا تستطيع إلا أن تنتج قطنا ما دامت البذرة التي انبثقت منها هي بذرة تنبت مثل هذه الشجرة، ولكنها بالإضافة إلى ذلك قد تحاط بأحوال من المناخ والتربة تختلف قليلا أو كثيرا عما تحاط به زميلتها التي تنبت في أمريكا أو في الهند؛ وعندئذ لا بد لها من التكيف لظروفها؛ ومن ثم فهي تنتج قطنا «مصريا» له خصائصه المميزة.

لكن الأمر في حياة الإنسان وثقافته مختلف؛ لأن وجوده غير مقتصر على الوجود البيولوجي الصرف، بل يضاف إليه عنده «وجهة نظر» يقيمها على مجموعة من «القيم»؛ ومن هنا ينشأ إشكالنا: ففي رءوسنا مجموعة معينة من القيم كونت لنا وجهة نظر معينة، ليست هي وجهة النظر التي من شأنها أن تنتج مثل ما أنتجه الغرب من علوم وما يترقب عليها، فهل من سبيل إلى جمع هذين الطرفين في كيان واحد؟ بمعنى أن يظل جانب من قيمنا ووجهة نظرنا كاف للحفاظ على هوية متميزة، وفي الوقت نفسه نلبس لدنيانا منظارا كالذي لبسه الغربيون منذ نهضتهم؛ فيكون لنا بذلك شيء مما كسبوه دون أن يضيع من شخصيتنا المتميزة شيء يمس صميمها وجوهرها.

المشكلة حقيقية وعويصة، يشاركنا فيها كل أصحاب الحضارات القديمة، ولا يشاركنا فيها أبناء الحضارة الغربية الراهنة، فهؤلاء الغربيون لا يجدون أمامهم إلا حضارة واحدة وثقافة واحدة، تطورت من أصولها اليونانية والرومانية حتى باتت على ما هي عليه، فليس بين أيديهم قديم يصدم جديدا، ولا جديد يصدم قديما. وأما نحن من أبناء الحضارات القديمة فأمامنا حضارتان نريد الحفاظ عليهما معا، فبالنسبة للأمة العربية - والمصريون جزء منها - هنالك موروث في أيديها ورثته من السلف، وهنالك في الوقت نفسه حضارة أخرى وثقافة أخرى تنبني عليها، هي حضارة هذا العصر وثقافته، ولا مندوحة لها - إذا أرادت لنفسها عيشا سريا في زمانها - عن أن تتشرب عصرها بحضارته وثقافته، فماذا هي صانعة؟ إنه لو كان الأساس مشتركا بين تراثها من جهة وما تراه في عصرها من جهة أخرى لما كان إشكال؛ لأن أمرها عندئذ كان ليجيء شبيها بموقف الغربي في أوروبا وأمريكا؛ إذ يرى بين يديه حضارة وثقافة هي نفسها الامتداد الطبيعي لما كان في تاريخه الماضي يونانا ورومانا، فلا تناقض عنده بين ماض وحاضر.

لكن التباين قائم على أشده بين تراثنا من ناحية، وما يحيط بنا من ثقافة عصرنا من ناحية أخرى؛ فالاختلاف بينهما ضارب إلى الأساس، فثقافة أسلافنا المبثوثة في تراثهم ثقافة قوامها «مبادئ» تكتب لفظا على ورق الكتب ليلتقطها الأبناء والأحفاد، فتكون هي «القيم» التي ينظمون سلوكهم على منوالها، ويصوغون أذواقهم الجمالية على هداها، وأما ثقافة العصر فقوامها «أجهزة» علمية تتخذ أدوات للبحث عن أسرار الطبيعة، وتنتهي بالباحثين إلى إنتاج «آلات» تقام الحياة العملية على استخدامها. وإذا أردت عبارة واحدة موجزة تحدد الفرق بين الثقافتين، فقل إن ثقافة تراثنا هي ثقافة «أخلاق» وثقافة العصر ثقافة «علوم». وكلمة «الأخلاق» هنا مقصود بها معناها الواسع الذي هو الجانب السلوكي في تعامل الإنسان مع الإنسان، وكذلك كلمة «العلوم» هنا مقصود بها أن تشمل ما يترتب على العلوم من أجهزة يستخدمها الإنسان في النقل والتبريد والقتال والتثقيف وشتى مناحي الحياة. ثقافتنا الموروثة ثقافة مدارها «الكلمة»، وثقافة عصرنا مدارها «الجهاز» بكل ما تستتبعه هاتان السمتان من نتائج بعيدة الآماد.

وما أكثر ما يقع فيه المثقف العربي من حرج يشده هنا ويجذبه هناك، حتى لتأخذه من ذلك حيرة تشل قواه الخلاقة، فبينما «الكلمة» الموروثة توحي إليه بشيء، تجيء «الأجهزة» فتوحي إليه بنقيضه، وبين النقيضين يقع فريسة سهلة، أهي قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال العلوم - وأرجو التنبه هنا إلى كلمة «علوم» كالطبيعة والكيمياء وما إليهما، أقول: إنها ليست قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال «العلوم» هؤلاء علماء بمنهج العلم وهم في معاملهم ومراكز أبحاثهم وقاعات محاضراتهم، حتى إذا ما أووا إلى منازلهم ليباشروا حياتهم الخاصة؛ فتحوا صدورهم لأبشع ضروب الخرافة، فاستقبلوها فرحين بها كما يفرح عابرو السبيل الذين لم يظفروا من العلم كثيرا أو قليلا، لا بل إن رجال العلم هؤلاء ليصبحون أشد خطورة من عابري السبيل؛ لأن الناس يستشهدون بهم وهم مطمئنون، فإذا كان فلان حامل الدكتوراه في الكيمياء يقبل كذا وكذا، أيكون هناك ما تطمئن النفس إلى صوابه أكثر منه؟

التضاد جاد بين بعض الجوانب في ثقافتنا الموروثة، وبعض الجوانب في ثقافة عصرنا بعلومه وصناعته وفنونه ونظمه، والمشكلة تحتاج منا إلى إمعان نظر لا يستخف بحجم الإشكال وخطورته. وأزعم أني منذ أواسط الستينيات وإلى يومي هذا لم أدخر جهدا إلا بذلته في أن أدلي بدلوي بين الدلاء - كما يقولون - ابتغاء الاقتراب من حل مقبول.

3

كنت في معالجتي للمشكلة - التماسا لحلها - كمن يتحسس طريقه في مدينة مجهولة؛ فيحاول السير من هذا الشارع مرة ومن ذلك مرة، لعله آخر الأمر يقع على سبيل تؤدي به إلى الغاية المنشودة، التي هي أن نعثر على صيغة ثقافية نعيش بمقتضاها فلا تعقد هويتنا ولا يفلت منا زماننا.

فكانت بين المحاولات محاولة بدأتها بوضع أصابعي على سمة بارزة تفصل بين وجهتي النظر: وجهة النظر المستخلصة من تراثنا، والأخرى المستخلصة من ثقافة الغرب في مرحلته الراهنة. وتلك السمة هي موقف الإنسان من «الواقع»، فهنالك من الناس من يغلب عليهم الوقوف من الواقع عند ظواهره المدركة بالحواس، وهي نظرة تؤدي بصاحبها إذا ما وصل فيها إلى ذروتها تؤدي به إلى الموقف «العلمي» بما يميز المنهج العلمي من التزام الدقة في المشاهدة والتجارب التي تجري على الظاهرة المبحوثة. وهنالك من الناس من يقلقه أن يقف من الواقع عند ظواهره وكفى، بل يريد أن يجاوز تلك الظواهر إلى جوهر خبيء كامن وراءها، فكأنما تلك الظواهر لا تزيد في حقيقتها إلا أن تكون «رموزا» تشير إلى أن وراءها سرا، وعلى الراغب في بلوغ الحق أن يجاوزها ليكشف عن السر غطاءه. وصاحب هذه النظرة إذا هو سار بها إلى ذروتها كان «المتصوف» في مجاهدته لرؤية الحق رؤية مباشرة بعد أن يزيح عنه القناع. لكن هاتين النظرتين: العلمية والصوفية، قد تلتقيان في فرد واحد إذا استطاع أن يقسم حياته قسمين؛ أحدهما ينصرف به إلى دنياه، والآخر يلتمس به الآخرة. ولقد أسهبت القول في فصل سابق خصصته للحديث عن اجتماع العقل والوجدان معا في الثقافة العربية، فبينت كيف أن تاريخ الثقافات يدلنا بما تركه لنا الأقدمون، كيف غلبت النظرة العلمية على اليونان - والغرب كله بعدهم - وغلبت النزعة الصوفية على الشرق الأقصى، وأما الثقافة العربية فقد كان لها القدرة على أن تضم أولئك وهؤلاء في بناء متكامل، ففيها النظر العلمي إلى أعلى ذراه، وفيها الوجدان الصوفي إلى أعمق أغواره، فكانت هذه الثقافة العربية بجناحيها وقفة ثالثة جمعت في بنيانها بين الحسنيين.

لكن ذلك الجمع لم يتحقق لها إلا في عصور قوتها، وأما إذا دب في أوصالها ضعف؛ جنحت إلى جانب الوجدان على حساب الموقف العلمي.

ففي الفصل الذي عنوانه «الواقع وما وراء الواقع» (راجع كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») جاء ما يأتي: «... إن أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تميز العربي في ثقافته - وذلك حين يكون هذا العربي في عصور قوته - هو أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة: فللواقع المحدود المحسوس مجال، ولما وراءه مجال آخر، بحيث لا يطغى أحد المجالين على الآخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدا ولآخرته كأنه يموت غدا، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصر رؤيته فيه، ثم النظر إلى ما وراءه، باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزا يشير إلى ما هو أرفع وأسمى ؛ فالواقع مهما كانت قيمته إنما هو جزئية عابرة تجيء وتمضي، وأما ما يمكن أن يشير إليه، فمطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء.»

لكن هذا التوازن في الثقافة العربية الأصيلة، بين الوقوف عند حقائق الواقع حينا، ومجاوزته إلى ما وراءه حينا آخر، بحسب طبيعة اللحظة التي يحياها العربي وما يكتنفها من ظروف لا تتحقق على وجهها الأكمل إلا حين تكون تلك الثقافة في مرحلة من القوة والعافية، أما في مراحل الضعف - وأحسب أننا اليوم نجتاز إحداها أو قل على أحسن الفروض: إننا نجتاز منها مرحلة مزيجا من قوة وضعف - فعندئذ ترى العربي أميل إلى التركيز على الجانب الوجداني من ثقافته.

الرأي الشائع فينا اليوم هو أن العقل بعلومه (وهو لب العصر الذي نعيش فيه) عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان، فسحقا للعقل ومناهجه: «... إنه كانت المفاضلة بين رأس وقلب، فلا تردد في اختيار القلب، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالما واحدا؟ إنه لما كثرت علوم الغرب، وامتلأت الدنيا بأجهزته ومكناته قلنا عنه: إنه «مادي» لعين، وأما نحن - بما نسبح فيه من ملكوت الوجدان - «مروحانيون» أنقياء وأصفياء، كأنما العلم هو من وحي الشياطين، وكأنما أجهزته ومكناته قد ركبها الأبالسة، وحذار أن تذكر أمامهم أن العلم الذي يتجلى في هذه الآلات هو «عقل» تجسد، أو هو «روح» ظهرت فيما أبدعته، ليصبح ذلك العقل - أو الروح - مشهودا بعد أن كان كامنا وخافيا شأن كل خالق وخلقه، حذار أن تقول شيئا كهذا؛ لأن الروحانية في حياتهم يستحيل أن تتدلى إلى دنس الصفائح المعدنية تنشرها المصانع وتطويها طيارة أو سيارة أو ما شاءت ... إن أغلب الناس حولنا هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء.» (راجع «أزمة العقل في حياتنا» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

ذكاء العقل إذا توقد، خشي الناس لعنته؛ لأنه نافذ إلى الأعماق، وهم يريدون أخذ الأمور «بالبركة» من أسطحها لا من أعماقها، ولأن ذكاء العقل يتشكك قبل أن يستقر على عقيدة، وهم يريدونها عقيدة خلصت من شوائب الشك والبحث، وكثيرا ما تسمعهم ينعتون مثل هذا الشك المتسائل المتقصي «خوضا» فيما ينبغي ألا يخاض فيه. إن إعمال العقل - عند معظم الناس في بلادنا اليوم - مجلبة للشقاء؛ لأن الحياة - عندهم - تسلم زمامها إلى الذين يقبلونها كما ترد إليهم، عن عمى وصمم ... (الموضع المذكور من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

في مثل هذه الحالة الرافضة للعقل وعلومه ومنطقه وحسابه، يدهمنا عصرنا بثقافة تدور رحاها حول محور العلوم ودقة الحساب، فلا خيار لنا إلا واحدا من بديلين: فإما عناد وإصرار على رفض العقل وعلومه فنذبل ونفنى ونصبح نهبا مباحا لكل من أراد أن يغزو ويستعمر، وإما يقظة نسترد بها ما هو في مقومات العربي إبان قوته، وأعني توازنا بين عقل ووجدان في بنيانه الثقافي؛ وبذلك يسهل عليه أن يساير العصر بكل علومه وصناعته وتقنياته، ثم يضيف بعدا وجدانيا قد يتميز به دون أن يلحق به ضرر التخلف الحضاري. «... فتستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أي شيء تريد، لكنك لا بد ناعته بأنه عصر علمي من الرأس إلى أخمص القدم، ولا ينبغي عن العصر علميته هذه أن تراه يلجأ في دنيا الأدب والفن إلى ضروب يتحلل فيها من روابط المنطق، مستهدفا بذلك أن يزيح عن ظهره صرامة العلم ومنطقه ولو لبضع ساعات ليستريح. وإذا قلنا عن العصر: إنه ذو طابع علمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته؛ فقد قلنا بالتالي إنه عصر يرتكز على «الواقع» وحده وإلا فهل يترك عالم الضوء - مثلا - ظاهرة الضوء لننظر إلى ما وراءها؟ هل نريد لعالم الطبيعة الذرية أن يغض النظر عن الذرة التي هي موضوع بحثه ليبحث عن خفاء كامن خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوط بالواقع بأوثق الروابط، والعالم مشدود العنق إلى موضوع بحثه، يصب عليه المشاهدة ويجري عليه التجارب؛ ليستخرج خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغ له القوانين آخر الأمر في صورة رياضية؛ ليتمكن الإنسان بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكل ما استطاع من شكائم، فيركبها ويوجهها كما يفعل مهرة الفرسان في جيادهم.

فإذا شاء العربي أن يعاصر زمانه، فلا مندوحة له عن العلم ثم العلم، ثم لا ثم بعد العلم. وإنما عنيت العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوره بعضنا «حفاظا» لما ورد في صحائف الأقدمين، فلن تزداد عصرية لو رويت عن ظهر قلب ألف ألف بيت من الشعر، لكنك تزداد عصرية لو شاركت في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمة الإنسان، وكما أن الحياة يقظة للنشاط المنتج ونعاس للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية؛ يقظتها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن» (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»). «... ولو أمعنت النظر حولك في أحاديث الناس ومسالكهم؛ لرأيت هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيك، لا، بل إنك لتراها ملقاة أمامك على قارعة الطريق، لا تطلب منك إمعانا للنظر، وهي أننا لا نكاد نغفل عما وراء الواقع في حياتنا لحظة، فذلك هو طابعنا الثقافي الأصيل المميز، ولا عجب أن كنا نحن الأمة التي عن طريقها عرفت الدنيا رسالات السماء. ومعنى ذلك أننا - بحكم الوراثة الثقافية نفسها - معدون أتم إعداد لإضافة الباطن الخفي إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا - بالمشاركة في الحركة العلمية - أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسر علينا بعدئذ أن نميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفي الباطن» (الفصل المذكور).

4

ولو كانت النظرة العقلية التي جعلنا إضافتها إلى الحياة الوجدانية شرطا ليكون العربي أصيلا ومعاصرا معا، أقول: لو أن تلك النظرة العقلية في كل مجال يتطلب رؤية موضوعية، شيئا غريبا على الفكر العربي، لكان مطلب الأصالة والمعاصرة عسير التحقيق؛ لأنه مطلب مضاد للعربي وطريقة تكوينه الثقافي، لكن ماذا نقول والنظرة العقلية هذه هي في صميم الرؤية العربية بصفة عامة والعربية الإسلامية بصفة خاصة؟

لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعو إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام، أليس العقل - كما يقول الجاحظ - هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع للجاحظ رسالة «المعاش والمعاد»)، وإنما سمي العقل «عقلا» - كما يقول الجاحظ أيضا - (في رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»)؛ «لأنه يزم اللسان ويحظر ... عن أن يمضي فرطا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة كما يعقل البعير ...»

إنه إذا كان من أهم السمات التي تميز الوقفة العقلية من سواها، تلك الحركة الاستدلالية التي ينتقل بها الإنسان من المعلوم إلى معرفة ما كان مجهولا، وذلك التعميم الذي يجمع الجزئيات المتناثرة والمتشابهة في الوقت نفسه، يجمعها معا في حكم واحد يوحد بينها، فذلك هو ما تميز به العربي القديم كلما تأمل أو نظر، وكان من شأن تلك الوقفة أن استطاع ذلك العربي رد الأشتات المتفرقة في جنبات الكون الفسيح إلى وحدة تضمها ضمة الفكر الواحد لفروعها، أو ضمة العلة الواحدة لمعلولاتها، إنه وقد رأى العالم من حوله كثرة كثيرة من كائنات، لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الذي يوحد بينها، وحين رأى اللغة تجري على قواعد أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها (واقرأ في هذا لابن جني كتاب «الخصائص»). ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على أسس عامة تجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» - وما «فهم» شيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره - فوقف من العالم ومن حياته وقفة بصيرة واعية. وهكذا أيضا ينبغي للعربي المعاصر أن يقف من عالمه ومن حياته إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه وصلا حيا نابضا (راجع فصل «قيم باقية من تراثنا» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).

لقد عرضت في كتاب «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان: «ياقوتة العقد للعلم والعلماء» بعض ما أورده صاحب العقد الفريد - ابن عبد ربه - عن تصوره للعلم ومكانة العالم؛ لأنه يقدم لنا - في أجلى بيان - برهانا على أن العربي المعاصر إذا ما أراد أن يضيف إلى حياته الوجدانية علوم العقل كذلك لكي يستطيع بهذه الإضافة أن يندمج مع عصره في أهم اهتماماته، فلن يجد نفسه غريبا على الروح العلمية، وكل ما يطلب منه هو أن يستفيد في نفسه روح آياته، وهاك بعض ما ورد في الفصل المذكور من كتاب «تجديد الفكر العربي»: «... قضيت ساعة مع كتاب الياقوتة (وهو أحد فصول «العقد الفريد») الذي خصص للمختارات التي قيلت في العلم والأدب، وقد قصدت إلى هذا الاختيار عامدا في أيام نروج فيها للعلم وللنظرة العلمية، وللحياة العلمية، وللتخطيط العلمي، وللإشادة بالقائمين على الحياة العلمية. أقول: إني قد قصدت إلى هذا الاختيار عامدا؛ لأعيش مع السلف ساعة، أستمع إليهم في موضوع هو مشغلة اليوم، لا من حيث مادة الموضوع نفسها، ولكن من حيث القيم التي كانت تضبط عمل العاملين به؛ فنحن إذ نقول ونعيد - في إصرار وإلحاح، وفي إيمان وعقيدة: إن جهودنا الثقافية اليوم ينبغي أن تسير بنا نحو ثقافة «عربية معاصرة» تحمل موضوعات العصر واهتماماته، مصوغة في قيم موروثة عن السلف؛ لنحقق بها معاصرة وطابعا قوميا في آن معا، ونجمع خصوصية تاريخنا إلى عمومية الحياة العصرية المشتركة بين سائر الأقوام في نتاج واحد. نحن إذ نقول هذا ونعيده، لا يجدر بنا أن نترك القول عند هذا الحد من التجريد والشيوع، بل لا بد أن نضيف إليه محاولات في التطبيق، وها هنا يتبين متى تكون تلك المبادئ معقولة ومقبولة، ومتى لا تكون ...» ... أما بعد، فإلى القارئ صورة عشتها مع كتاب الياقوتة من العقد الفريد، وهو الكتاب (أي الياقوتة) الذي خصص - كما قلنا - للحديث في العلم والأدب. على أنني قصرت اهتمامي هذه المرة على العلم وحده، ومع ذلك لم أتجاوز بضع صفحات، تفاعلت بها مع المادة المقروءة أخذا وردا وقبولا ورفضا.

يبدأ المؤلف - ابن عبد ربه - كتاب الياقوتة هذا، يبدأ كما يبدأ سائر الكتب بما يسمه «فرشا» أي مقدمة يمهد بها لموضوعه، وفي «الفرش» للياقوتة - وهو لا يزيد على صفحة ونصف صفحة - لمحات هي أنفذ اللمحات، وقفت إزاءها متسائلا في عجب وإعجاب: أتكون هذه هي الأصول والمبادئ عند أسلافنا، ثم تجد بيننا اليوم من يعد مثل هذا الحديث خروجا يكاد يبلغ عندهم حد الإلحاد والكفر؟ وأعني هنا بصفة خاصة ذلك المبدأ الذي يوجزه ابن عبد ربه ليكون أساسا لكل معرفة علمية، ألا وهو أن تبدأ المعرفة بالحواس، ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية بحيث تنتقل من المحسوس إلى التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينها يكون ما نسميه فكرا، فإذا ما ترويت في مضمون هذا الفكر وجدته مثيرا للإرادة، وما دامت الإرادة استثيرت فلا بد عندئذ من الأخذ بأسباب العمل.

إنني أوجه الدعوة إلى قارئي ألا يتعجل وأن يقف هنا لحظة؛ ليشبع وليرتوي بهذا المبدأ المنهجي، وها أنا ذا أعيد أمامه أركانه الأساسية: لا معرفة مما يصح أن يسمى علما إلا إذا بدأت بتجربة الحواس؛ أي بضرورة أن ترى بالعين شيئا، وأن تسمع بالأذن شيئا، وبعبارة أخرى: فإن العلم لا ينبثق من باطن الإنسان كما تندفع حمم البركان من جوف الأرض، بل هو يجيء إلى الإنسان من خارجه من الدنيا التي حوله عن طريق الحواس، وإذا أنت قد شبعت من هذا المبدأ وارتويت، رفضت بعد ذلك القبوع في عقر الدار تستنزل رحمة العلم من السماء، وأخذت تسعى في دنيا الشهادة وفي معامل التجربة والاختبار .

هذه واحدة، والأخرى أنك بعد أن تبني لنفسك بناء فكريا من حصيلة المحسوسات هذه، كان المقياس الذي تقاس به سلامة البناء هو مدى استطاعتك تحويله إلى إرادة تريد وإلى عمل يعمل. وأكررها مرة أخرى: «المعرفة العلمية هي في صميمها مخططات لأعمال، وليست هي بناءات تبنى في الذهن ليتأملها الإنسان، ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح ...» (راجع الفصل كاملا في كتاب «تجديد الفكر العربي»).

5

لست أشك لحظة في أن أولى المشكلات في حياتنا الثقافية، والتي من تلك الحياة بمثابة قطب الرحى، هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها؛ لتستقبل - في رحابة صدر - أسس الحضارة العصرية، كما يحياها اليوم روادها.

وفي فصل عنوانه «التوفيق بين ثقافتين» (في كتاب ثقافتنا في مواجهة العصر) عرضت محاولة على شيء من التفصيل للطريقة التي يمكن أن نخرج بها صيغة تؤدي لنا ما يوجد حلا للمشكلة كما عرضناها لتونا. ولقد أسلفت القول في الفقرة السالفة بأنني خلال الأعوام التي شغلت فيها بتلك المشكلة - مشكلة الأصالة والمعاصرة - قد تناولت الموضوع من زوايا مختلفة لعلني أقع على الاتجاه الصحيح، كمن ضل طريقه في مدينة مجهولة؛ فأخذ يجرب أحد الطرق مرة، وسواه من الطرق مرة ثانية فمرة ثالثة. وفي الفقرة السابقة عرضت إحدى تلك المحاولات، وهي محاولة المعالجة من زاوية العلاقة في الرؤية الثقافية بين الارتكاز على ما هو «واقع» والارتكاز على «ما وراء الواقع» وإمكان الجمع بين الركيزتين في نظرتنا الجديدة؛ فنجمع بذلك في لوحة واحدة نشاط العقل في ميدان العلوم، وفاعلية الوجدان في ميادين الدين والفن والأدب؛ وبهذا يمكن الجمع بين ما هو أصيل في تراثنا وما هو معاصر.

وها أنا ذا في هذه الفقرة من الحديث أعرض محاولة أخرى أجريتها من زاوية أخرى هي التي عنونتها «التوفيق بين ثقافتين»، جاء فيها: ... إن الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم يتركز في سؤالين، لو أحسنا الإجابة عنهما تبدت لنا حقيقة ذلك الموقف جلية لا يشوبها غموض، السؤال الأول هو: ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن «الشخصية العربية الأصلية»؟ وأما السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمس السبيل إلى خلق المركب الواحد الذي يضم ما يمكن ضمه من أجزاء الصورتين، دون أن تضيع من أيهما صفة جوهرية فينتفي بذلك وجودها.

ولنبدأ لسؤالنا الأول: من نحن على الأصالة؟ ما هي مقوماتنا التي إذا تحققت في فرد أو في مجموع قلنا عنه إنه عربي أصيل من الناحية الثقافية؟ ... وأول ما يرد إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفة العربية، عقيدة راسخة عند العربي بمستويين من الوجود، بحيث يستحيل عليه أن يخلط بينهما في التصور: فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة كائن أراد خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة اؤتمن على حملها ونشرها، وذلك هو الإنسان، وفي هذا الإطار العام تتحدد وجهة النظر العربية الأصيلة، ومن هذا الأصل الأول تتفرع فروع.

منها أن الإنسان كائن خلقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمة أخلاقية محددة معينة، أمليت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، وأن يضيف إليها ما يناقضها، ولما كان هذا التكليف الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفرد الإنساني مسئولا عما يفعل، فإن هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة إلى كل فرد على حدة تصبح أمرا لا مفر منه، فلا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر. قد تجد من الثقافات الأخرى أنماطا أخرى، بل إن في عصرنا هذا نمطين آخرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكرناها، أحدهما يقول: إن القوانين الأخلاقية كغيرها من القوانين، هي وليدة الحياة الواقعة؛ فما قد ثبت على التاريخ أنه نافع جعلناه قانونا خلقيا ننظم به سلوكنا، وما قد تبين على التاريخ أنه ضار حذفناه من قائمة الأعمال المقبولة ، ولما كان النفع والضرر يتغيران بتغير الظروف؛ وجب علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنها نسبية لا مطلقة، بحيث نكون على استعداد لأن نغير منها ما لا بد من تغييره؛ لئلا يقف عقبة في سبيل التقدم مع ما يقتضيه الزمن وحضارته.

ذلك أحد النمطين الآخرين، وأما النمط الآخر فيقول أصحابه: إن المسألة هنا ليست مرهونة بتقدم أو تأخر في طريق الحضارة، لكنها مسألة الإنسان وحريته المطلقة في أن يتخذ لنفسه ما شاء من قرار، بشرط أن يكون مسئولا عن قراره ذاك، فليس هنالك أحد فوقه أو إلى جانبه يملي عليه ما يجب وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءا غير مسبوق بمبدأ صاغه سواه.

وواضح أن الوقفة العربية الأصيلة مختلفة عن كلا النمطين من حيث المبدأ والأساس، حتى وإن اتفقت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفة عن النمط الأول الذي يجعل المعول في السلوك الإنساني الصحيح على التجارب، على حين أن الوقفة العربية تفرض أسبقية المبدأ الخلقي على التجارب؛ فالصواب صواب والخطأ خطأ، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في تجارب الحياة العملية، وليست حدود الصواب والخطأ من صنع الإنسان، ولكنها حدود شاءها الله للإنسان.

والوقفة العربية مختلفة عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار؛ وذلك لأن وجهة النظر العربية - كما ذكرنا - تفترض أسبقية المعيار الذي يقاس به القرار في صوابه أو خطئه. وسؤالنا، في حدود هذه النقطة الأولى الخاصة بفلسفة الأخلاق من وجهة النظر العربية في مقابل وجهات النظر الأخرى القائمة في عصرنا، سؤالنا هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيا يحمل وجهة النظر العربية، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يحمل إحدى وجهات النظر عند المعاصرين؟ لست أدعي بأن مسافة الاختلاف بين الجانبين هنة هينة بحيث يمكن رأبها في سهولة، ولكنها على كل حال مشكلة تستحق منا النظر الطويل والعميق؛ لأننا لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا؛ تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبحنا أحرارا مع تيار الزمن وتغيراته؛ تعرضنا لزوال الشخصية وانحلالها. وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة فيها من السعة ما يمكننا من التصرف في إطارها بدرجة من الحرية تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا ...

ومن مميزات الثقافة العربية كذلك تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذا بما هو ثابت ودائم. إن كل ما في الأرض والسماء فان وزائل، متغير أبدا متجول أبدا، ففيم التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته؟ أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال؛ لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن فنستطيع أن نلتمسه حتى ونحن لم نزل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث من التحول لما حولها، وهنالك مثل هذا المرفأ بمعنى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.

هذا هو العربي نظرته، ينشد الخلود برغم الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات التي نراها في الأشياء المحيطة بنا؛ لكان الكون - من وجهة نظر العربي - عبثا في عبث.

وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر، فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تجمع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر ... بما في ذلك الإنسان نفسه؛ فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون، أو يحسها هو في باطنه دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خضم من ظواهر، ما تنفك متصلة بعضها ببعض أو منفصلة دون أن يكون وراءها شيء.

مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظا بهذه السمة العربية في نظرتي ؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي - كزميلتها السابقة - مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان، بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر: في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني وفيها المثل العليا وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها؛ لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، أما في الساعات الوجدانية من حياتي فإني أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.

لقد ذكرنا فيما أسلفناه جانبين من طبيعة العربية الأصيل في وقفته الثقافية، مقرونتين بما نراه منهما في الغرب المعاصر، هما: جانب الفلسفة الأخلاقية، وجانب النظرة إلى طبيعة الكون والإنسان، وليس هذان الجانبان هما كل ما هنالك من جوانب، نريد أن نحللها في حياة العربي في أصالته كما نحللها في حياة الغرب المعاصر؛ لنرى كيف يمكن - أو لا يمكن - اللقاء (راجع فصل «التوفيق بين ثقافتين» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

6

منذ شغلت بالتفكير في صيغة تجمع في كيانها الواحد قيم تراثنا الأساسية وقيم العصر الراهن بعلومه وتقنياته وصناعته ونظمه، وجهت قراءتي وجهة تمكنني من الرؤية الجديدة التي نشدتها، فأقرأ ما أقرؤه من تراثنا، وما أقرؤه من فكر الغرب وأدبه، قراءة أبحث فيها عن نقط اللقاء ما كان لهذا اللقاء من سبيل، وماذا أعني بلقاء الرافدين في نهر واحد؟ أعني أن أقرأ موروثنا من زاوية عصرنا فأجد له معنى ذا دلالة حيوية، ثم أقرأ عصرنا فأجده مطابقا لما كان يمكن لأسلافنا أن يقولوه، وليس التقاء كهذا ممكنا في كل الحالات بالطبع؛ وإذن فقد كان هدفي في الاختيار وطريقة الفهم هو البحث عن المواضع التي يمكن استثمارها.

فهنالك فيما خلفه لنا السلف كتابات لا نكاد نحصيها عما وراء الواقع، لكن شطرا كبيرا من تلك الكتابات تقرؤه فلا تدري ماذا عسى المعاصرين أن يصنعوا به، لكنك إلى جانب هذا قد تقع هنا وهناك على درر فكرية مما يمكن نقلها بحذافيرها إلى حياتنا اليوم، فإذا هي دستور صالح للعمل به مع كل ما في عصرنا من سمات، وفي مثل هذه إذا ما امتلأت شرايين حياتنا بجوانب كهذه من تراثنا، فسواء قلت عن حياتنا عندئذ إنها أمينة على تاريخها وهويتها الأصلية، أو قلت إنها سايرت عصرها؛ فالمعنيان هنا مترادفان؛ لأنهما متلاقيان متطابقان.

من هذا القبيل ما وجدته عند الإمام الغزالي في كتاب صغير له عن أسماء الله الحسنى من أنها في حقيقتها «صفات» تكون مطلقة بلا حدود بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، وتكون هي نفسها منقوصة محدودة بالنسبة إلى الإنسان، ولكنها صفات إذا اتخذ منها الإنسان هاديا يهديه سواء السبيل في مسالك حياته تدرجت به نحو الكمال.

بعبارة أخرى: أسماء الله الحسنى تمثل منظومة من «القيم» لعلها لو وجدت المفكر القادر على ترتيبها في بناء نسقي واحد - وليس في علمي أن أحدا من فقهاء المسلمين حاول هذه المحاولة - بمعنى أن يقام منها بناء هرمي يوضع فيه ما هو أعم في معناه فوق ما هو أخص، إلى أن نصل بهذا التدرج الصاعد إلى الصفة التي هي أكثرها تعميما، فيمكن القول عندئذ عن ذلك البناء النسقي إنه خريطة للأخلاق الإسلامية، تنبع كلها من الذروة، فليس كل ما نريده هو شرح تلك الأسماء شرحا يبني لكل اسم معناه، ثم يتركها مفرقة، ذلك بالطبع تنوير مطلوب، لكن الهدف الأخلاقي يتحقق بطريقة أفضل لو أننا أدركنا ما بين المعاني من علاقات تتداخل بها بعض في بعض من حيث درجات التعميم والتخصيص؛ لأن مثل هذا البنيان المترابط يؤدي بمن يتشربه في سلوكه العملي إلى أن يكون هو بدوره موحدا في رؤيته ووجهة نظره توحدا ينقذه من التمزق الذي يعاني منه إنسان عصرنا، وإني لأخشى - في هذه المناسبة - أن يذهب الظن بقارئ إلى أن ما ندعو إليه من ترتيب نسقي لأسماء الله الحسنى هو بدعة، وإلا لحاولها فقهاء السلف، فأقول: إنهم حاولوا ولكنهم اكتفوا بخطوة واحدة على الطريق، وهي أنهم استخرجوا من تلك الأسماء عددا قليلا - أظنه بلغ سبعة عند بعضهم وتسعة عند آخرين - قالوا عنها إنها هي الأساس الذي تنبثق منه بقية الأسماء.

قارن بين حالتنا القائمة حين نحفظ - حتى ونحن صغار في المدارس - هذه الأسماء عن ظهر قلب، ونرددها في حياتنا اليومية بغير انقطاع، دون أن ننتبه إلى كونها صفات أخلاقية تصف الله تعالى بمعانيها المطلقة، ثم تطالب الإنسان بأن يتصف بها بما استطاع من درجة؛ فعندئذ نعلم أن كل صفة منها هي بمثابة إيمان ديني وتوجيه إلهي لطريقة الحياة كيف تكون؛ وإذن فالعلم والإرادة والإبداع والرحمة وغيرها أهداف للحياة كما يأمر بها الإسلام، وإني لعلى يقين من أن دستورنا الأخلاقي كما يتمثل في الأسماء الحسنى، يستغرق كل صفة يتطلبها عصرنا وغير عصرنا من سائر العصور.

ولنأخذ اسم «الحي» مثلا نسوقه لنبين به كيف يمكن أن يتسع له الفهم ليصبح نورا يهدينا هداية عملية، وبعد أن نفرغ مما نريد قوله في صفة «الحياة» على خريطة الأخلاق الإسلامية كما كان ينبغي لها أن تكون، سأعقب بعرض صفة رئيسية من الصفات المميزة لعصرنا وهي صفة «التقدم» ليرى القارئ مثلا مجسدا لما أعنيه. عندما أقول إنني ألتمس بين تراثنا ومقتضيات عصرنا نقاطا للالتقاء.

فصفة «الحياة» - المتمثلة في اسم الله تعالى «الحي» - لها صدارة بين مجموعة الصفات المتمثلة في الأسماء الحسنى، وليست هي الصدارة التي تشير إلى مجرد الأولوية في الترتيب العددي، بل صدارة تتضمن كذلك أسبقية منطقية؛ إذ منها تتفرع سائر الصفات (وأشار إلى ذلك الفقهاء ومنهم الغزالي في كتابه الذي أشرت إليه «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»، راجع شرح الزبيدي لكتاب «إحياء علوم الدين»).

فماذا نعني «بالحياة» حين ندعو الإنسان إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيا»؟ المقصود بالحياة هنا جانبان أساسيان، هما: «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياة بقدر ما لديه من إدراك ومن فعل، إنه قد يتنفس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كله لا يعد «حيا» بهذا المعنى المقصود، فشرط المعنى المقصود أن يكون على «وعي» كامل بما يدور حوله وبما تعتلج به نفسه، ثم لا يقف أمام إدراكه هذا ووعيه موقفا سلبيا؛ لأنه لو أدرك كل ما حوله ووعاه ثم لبث ساكنا إزاءه لما تغيرت الدنيا على يديه، بل لا بد أن يكون «فاعلا» نشيطا منتجا مشاركا في دفع تيار الحياة بحياته وإلى أين يدفعه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي؛ فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى ركب الحياة ولا يسهم في دفعه ليس حيا، والذي يحاول الرجوع بتيار الحياة إلى وراء ليعود به إلى حيث بدأ ليس حيا، بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحي يقود ولا يقاد، ويكون متبوعا لا تابعا، ما دامت «الحياة» بحكم تعريفها السابق خلقا وإبداعا وابتكارا وإضافة للجديد.

كان العربي من الأولين «حيا»؛ لأنه ما انفك بانيا في كل مجال: بانيا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة؛ ولأنه كان تام الإدراك لدنياه، وشديد الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل كما أسلفنا هما عصب الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيت العربي من المتأخرين - وأعني العرب في حالتهم الراهنة - إذا رأيته سطحيا تحت وطأة المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يعطي، فاعلم أنه قد فقد من نفسه قيمة عليا من قيمه، ولو استردها لاسترد عروبته بها. إن العربي لا يكون عربيا لمجرد تكراره لهذه اللفظة ملايين المرات، إنما يكون العربي عربيا حين يتشرب القيم العربية الأصيلة، وأولها صفة «الحياة» بالمعنى الذي قدمناه (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

والآن فلننتقل إلى فكرة «التقدم» التي تعد من أهم المعاني المعاصرة تحريكا لعجلات السير، ففي فصل بعنوان «لمسات من روح العصر» (في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») عرضت لأربعة مفاهيم لها تأثير عميق في حياة المعاصرين في الغرب هي «التقدم» و«المبادئ» و«التغير» و«الفردية»، وقد اخترت هذه الأفكار الأربعة لأوضح أبعادها في الفكر المعاصر، زاعما أن معظم القراء عندنا يمرون على هذه الأسماء وكأنهم يمرون على مفردات لغوية وقفت بمعانيها عند ما تحدده القواميس لها، مع أنها قد اكتسبت بالاستعمال - على أقلام أعلام المفكرين في عصرنا - أعماقا لها دلالات قوية على روح العصر، فأردت أن أطلع القارئ العربي على تلك الأبعاد ليرى روح عصره خلالها. وسأكتفي هنا بذكر ما أوردته عن فكرة «التقدم» لما بينها وبين صفة «الحياة» التي ألقيت عليها بعض الضوء منذ قليل؛ وذلك لورود اسم «الحي» اسما لله تعالى، وما ينبني على ذلك من وجوب أن يصبح المعنى إحدى القيم الأخلاقية عند المسلم، فمن يتشرب معنى «الحياة» كما أريد بها في ذلك السياق، ثم وجد نفسه يواجه العصر في أحد مفاهيمه الرئيسية - وهو مفهوم «التقدم» - وجد نفسه وكأنه يعيش في داره وبين ذويه. وهاك ما أوردته في الفصل المذكور: «... أحسب ألا خلاف على أن فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يميز العصر الحديث كله لثلاثة قرون مضين إلى يومنا، فلا أظنك مصادفا في جموع الناس أحدا يرضى لنفسه أن يكون عدوا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية، فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه فهو يزعم لنفسه وللناس أنه مذهب يعمل على تقدم الحضارة بكل فروعها، وإلا لما دعا إليه.»

إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظل صامدا في دعوته إلى «التقدم»: إنك لكي تتقدم من حالة إلى حالة لا بد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية؛ فالنقلة لا تكون تقدما إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلا عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ، ومعنى ذلك في عبارة صريحة هو أن «الماضي» دائما وفي كل الظروف أقل صلاحية من «الحاضر»، ذلك إن زعمنا أن الحضارة «تقدم» وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.

وها هنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نشرب بروح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال، فمهما تكن وسائل الماضي الثقافية والحضارية ملائمة لظروف عصرنا، فإذا وجدت مكابرا يدعي بأنه عصري الوقفة والنظر، ثم وجدته في الوقت نفسه يتمنى لو كرت الأيام راجعة، بحيث يعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤية وسلوك، فاعلم أن سطحه الفكري مناقض لأعماقه، وأنه بعيد عن عصره بعد ما بين السطح والأعماق، وليس يعني هذا بترا للماضي، كلا، فبغير الماضي لا تكون للحاضر هويته، وإنما يعني تطويرا له؛ فالشاب لا ينسخ الطفولة نسخا، لكنه يطورها بحيث تظل هوية الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنها تطوره ليكون حاضر الإنسان امتدادا لماضيه، امتدادا لا يكرر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنا جديدا، يحمل من ماضيه بعض ملامحه، ويضيف إليها حاضره ملامح أخرى.

إذا آمنا «بالتقدم» إيمانا يجاوز نطقنا باللفظة صوتا تفوه به الشفتان، كانت النقلة الفكرية بعيدة بعدا فسيحا؛ لأننا عندئذ سنقلب الميزان فنجعل معيارنا هو المستقبل المرجو بعد أن كان الماضي الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إن معيارنا بعدئذ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان، بل ما سوف يكون، فلو سئلنا عندئذ: ماذا ترى في هذا السلوك المعين يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تسنه الدولة أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة؟ لم يكن جوابنا: انتظر حتى أقيسه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسب النتائج المترتبة على هذه الأشياء، فإذا وجدت النتائج مزيدا من علم ومن صحة ومن حرية ... إلخ قبلت السلوك ورضيت بالتشريع، وأقبلت على الأوضاع الحضارية الجديدة. إن المعول عندئذ لا يكون: «ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدا؟»

7

وقد يحسن أن أختم هذا الفصل بشيء مما ختمت به كتاب «تجديد الفكر العربي»، وهو تصوير للإنسان في درجة كماله؛ ليرى القارئ أنني إذ ألح على أن يكون «العقل وأحكامه» - لا الهوى ونزواته - هو أساس البناء، فإنني بتلك الدعوة لا أستهدف تيسير الالتقاء مع عصرنا الذي يسوده العلم فحسب، بل كذلك - وفي الوقت نفسه - أعمل على إحياء تقليد عربي قديم.

المدار في نموذج الإنسان الكامل عندهم (أعني أسلافنا من العرب) هو أن يكون «عاقلا» بالتعريف الفلسفي الدقيق لكلمة «عقل»، فهي كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، ولكن ما أعسر أن نجد لها التحديد المحكم ... وقد كان من الأفكار المألوفة عند المفكرين العرب فكرة جاءتهم من اليونان الأقدمين مع الترجمة التي نقلوا بها تراث أولئك اليونان، وهي أن يقاس كمال الشيء بأدائه للفعل الذي خلق من أجله، فشجرة البرتقال كمالها ليس هو نفسه الكمال بالنسبة إلى شجرة الورد، وكمال النمر أن يكون نمرا، وكمال القط أن يكون قطا، ولا يجوز أن يحاسب نوع بكمال نوع آخر؛ وعلى هذا الأساس نفسه يكون كمال الإنسان مرهونا بجوهره، وجوهره هو العقل، فأفضل الناس هو أقدرهم على التزام أحكام العقل فيما يفعل وما يجتنب ...

وإن الناس ليتفاوتون في الطرق التي يسوسون بها حياتهم - وفق حكمة العقل - تفاوتا ليس له نظير في أي نوع آخر؛ لأن سائر ضروب الكائنات الحية تسير على قوانين طبائعها، ليس لها في ذلك اختيار، فلا فرق يذكر بين نمر ونمر ولا بين قط وقط إذا ترك وطبيعته، أما الإنسان ففي فطرته أن يختار؛ ولذلك فمن واجبه أن يكون مسئولا عن اختياره، ومن هنا جاء التفاوت الفسيح بين إنسان وإنسان في مقدار احتكامه إلى العقل حين يختار. ويذكر لنا ابن مسكويه (في كتابه «تهذيب الأخلاق») في هذا السياق حديثا شريفا: «ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان»، كما يذكر كذلك هذا البيت من الشعر:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا

إلى المجد حتى عد ألف بواحد

على أنني أحب ألا أمضي بالحديث عند هذه النقطة، دون أن أنبه القارئ إلى فكرة هامة لو أفلتت من أيدينا فقد أفلت ركن ركين في بنية الفكر العربي، ألا وهو أنهم - أعني أسلافنا من مفكري العرب - لم يتصوروا قط أن يقتصر الإنسان على حكمة العقل، دون أن يمدها إلى فعل يؤديه بناء عليها، فلا يكون العلم علما عندهم إلا إذا أعقبه العمل على أساسه ... «فالقوة العالمة» - على تعبيرهم - التي تتمثل فيما نحصله من معارف وعلوم تكملها «القوة العاملة» التي تتمثل في تنظيم أمور الحياة وترتيبها.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم ابن مسكويه حين يقول: «إن ما يخص به الإنسان من حيث هو إنسان وبه تتم إنسانيته وفضائله هو الأمور الإرادية.» كما نفهمه كذلك حين يحدد الخير أنه «فعل» ما قصد به وجود الإنسان، ويحدد الشر بأنه هو ما يعوق ذلك الفعل. وتطبيقا لهذه القاعدة لا يكون الخير أبدا فيمن «يتأمل» وهو ساكن، بل لا يكون الخير أبدا فيمن يملأ رأسه بثقافات الأولين والآخرين، ثم لا «فعل» بعد ذلك يؤديه على ضوء ما قد عرف ... ... وفي هذه العلاقة الوثيقة بين «العلم» و«العمل» عند المفكرين العرب، نذكر الإمام الغزالي وكتابين له، أراد بكل منهما أن يكون قسيما للآخر، كأنما أراد أن يعلن بألا حياة على أي درجة من الكمال إلا إذا اجتمع فيها قسط من ذينك القسيمين، وأما الكتابان اللذان أعنيهما فهما: «معيار العلم» و«ميزان العمل»، ففي الكتاب الأول يضع للعلم حدوده ويقيم له الأسس التي تضمن له الصواب، وفي الكتاب الثاني يبين كيف يجيء العمل وفق ذلك العلم.

ويرى الغزالي - كغيره من المفكرين العرب - أن صورة الإنسان الكامل لا تتحقق لنا إلا إذا حللنا النفس الإنسانية أولا، فنراه يهيب بالباحث أن يعرف نفسه - كأنه في ذلك سقراط - فيقول: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. كما يروي في هذا السياق حديثا شريفا: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.» ثم يقرر لنا في السياق نفسه أن معرفة النفس ومعرفة الله أمران متلازمان، «ومن رحمة الله على عباده أن جمع في شخص الإنسان - على صغر حجمه - من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم؛ ليتوصل الإنسان بالتفكير فيها إلى العلم بالله» ...

هكذا كان اتجاه أسلافنا في تصويرهم للإنسان الكامل أن يضعوا الزمام في منطق العقل لمعرفة ظاهر الكون وباطن الإنسان، فيكون ذلك مؤديا إلى معرفة الله، فلو أننا اليوم أعدنا لأنفسنا الصورة نفسها؛ ألفينا أنفسنا في عصر العلم هذا وكأننا صانعوه لا غرباء بين أهله (اقرأ الفصل العاشر من كتاب «تحديد الفكر العربي»).

الفصل العاشر

مصري يكتب عن مصر

1

في أوائل عام 1956م تلقيت عرضا من دار كبرى للنشر في الولايات المتحدة الأمريكية، يعرض علي أن أكتب كتابا متوسط الحجم عن مصر، يصور لقارئه أهم ما يتعلق بمصر في ماضيها وحاضرها، فما لبثت بعد ذلك يوما واحدا حتى انكببت انكبابا في جمع المادة المطلوبة لأصوغها في كتاب. وأذكر أني إذ أخذت في الكتابة؛ شعرت شعور العاشق ينظم قصيدة يتغزل بها في الحبيبة، دون أن يسمح لعاطفته - على شدتها - أن تجرفه فينحرف عن الحقيقة الواقعة كما يقررها التاريخ وتقرها المشاهدة العلمية، وحسب تلك العاطفة أن تكون صادقة، فلا يضير الحقيقة الواقعة أن ينظر إليها الرائي بعين مفتونة بجمالها وجلالها معا.

فرغت من كتابة الكتاب في نحو ستة أشهر، وجعلت عنوانه «أرض مصر وأهلها»، ورسمت به صورة مشرقة عن هذا البلد الخالد، ملتزما علمية الحقائق المعروضة ودقتها في كل كلمة أوردتها في سياق الحديث، ولكن ما حيلتي إذا كانت الحقائق - التي لا ينكرها إلا جاحد ظلوم - تشع الضياء الباهر كما تشعه شمس الضحى؟ وما حيلتي إذا كان المصري، إذا ما أنصفت في تصويره ظاهرا وباطنا، وجدته يحمل في سلوكه البادي حكمة الخبير، كما يكن في عمقه الخافي خشية الله ونقاء الضمير؟

لقد وقع الغرب في مغالطة كبرى، وكان ذلك على أيدي مؤرخيه، عندما ابتكروا له قسمة التاريخ ثلاثة أقسام: قديم ووسيط وحديث، فظن أن هذه الأقسام متساوية الطول والوزن، ولما كان القسم الثالث هو ما يهم الغربي بصفة عامة رأيته إذا ما أرخ للإنسان لخص القديم في بضع صفحات، واكتفى من الوسيط بلمحات، ثم أفاض القول في الحديث، فإذا الصورة التي أمامه توهمه بأن الدنيا بأسرها إنما اجتمعت له في تاريخه الحديث، وأما القديم الذي امتد عشرات القرون وشهد أكثر من عشرين حضارة (في تقدير آرنولد توينبي) فلا يرى منه في صفحاته القلائل إلا طفلا يحبو أو قزما وقف به النمو عند حد محدود.

فلكي أوقظ القارئ العادي لكتابي «أرض مصر وأهلها» من هذه الضلالة؛ صرخت في وجهه قائلا ما معناه: عندما كان شيكسبير في إنجلترا يكتب مسرحياته شعرا، لم تكن أمريكا قد ولدت بعد، مع أن شيكسبير يعدونه في تاريخ الأدب شاعرا من العصر «الحديث»، وعندما كان الشاعر الروماني «أوفيند» يكتب شعره لم تكن الدنيا قد عرفت بعد شيئا اسمه «إنجلترا»، وعندما كان الشاعر اليوناني هوميروس ينظم ملحمته الإلياذة، كانت الأمة الرومانية كلها ما زالت في جوف العدم، وأما حين كان هوميروس ذاك ينظم ملحمته تلك، فقد كانت مصر قد أمضت من تاريخها نحو أربعين قرنا تنشئ أدبا وشعرا وديانة.

لقد رسم ليوناردو دافنشي على شفتي الجيوكوندا ابتسامة وقف عندها العالم كله - ولا يزال يقف عندها - فتونا بسرها وسحرها وغموضها، وكان الفنان المصري القديم قد انقضى على عهده تلك العشرات من القرون بعد أن نقش على حجر الجرانيت مثل تلك الابتسامة العميقة الدلالة على شفاه من خلدهم بفنه، وإنها لابتسامة تراها على كل تمثال مصري قديم، فترى فيها شيئا من السخرية الهادئة بمن تغره الدنيا بحوادثها العابرة فيفوته التعلق بالخلود. وهنا أسمح لنفسي بأن أستطرد في حديثي قائلا : إنه قد حدث لي أثناء زيارتي لمتحف المتروبوليتان بنيويورك في ديسمبر من سنة 1953م (ووصفت تلك الزيارة في كتاب «أيام في أمريكا»)، أن بدأت الزيارة بالقسم المصري، وكان لا بد لي أن أفعل بحكم مصريتي من جهة، وبحكم أنه أول الأقسام موقعا من المتحف من جهة أخرى، وسرت خلال الغرف العشر المفتوح بعضها على بعض في تسلسل واحد بخطوات وئيدة ونظرات فاحصة تتأمل العظمة فيما هو معروض أمامها، وعند تمثال صغير من الحجر الأسود أطلت الوقوف، فهتف بي صوت من الخلف سائلا: أيعجبك هذا التمثال؟ ونظرت خلفي لأجد سيدة أمريكية عرفت فيما بعد أنها فنانة وتقوم بتعليم الفن في معاهده، أجبت على سؤالها بكلمة واحدة: بالطبع. فعادت إلى الحديث قائلة: إنني لو رأيت هذا التمثال في كفة والفن المعاصر كله في كفة، وقيل لي اختاري إحدى الكفتين، لما ترددت لحظة في اختيار هذا التمثال الصغير، الذي اجتمعت فيه روعة الفن النحتي في أبهى صورها.

تلك هي مصر التي طلب إلى كاتب مصري أن يصورها في كتاب متوسط الحجم، فلما أن فرغت في سبتمبر من 1956م من إعداد الكتاب بما يرضي عقل العالم وقلب الأديب وضمير الوطني المفتون بحب وطنه، وهممت بإرسال المخطوط إلى دار النشر في نيويورك، كانت المواصلات بيننا وبين أمريكا قد اضطربت نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر إبان تلك الفترة، فأرسلت المخطوط مع صديق مسافر حتى لا يفوتني موعد التسليم كما اتفقنا عليه.

ومضت ثلاثة أشهر أو نحوها، ثم جاءني خطاب من الناشر يحمل اعتراضات على نقاط معينة مذكورة في الكتاب، كان أهمها ما هو متصل بالاحتلال البريطاني وبالمشكلة العربية الإسرائيلية، فأرسلت من فوري أطلب رد المخطوط وإلغاء الاتفاق، فأنا المؤلف وأنا المصري فلي في كتابي عن مصر الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة، فما كان من دار النشر - بعد بضعة أشهر - إلا أن ترسل إلي بالموافقة على نشر الكتاب، وصدرت طبعته الأولى سنة 1958م. ولست أعزو النجاح الذي لقيه لشخصي بقدر ما أعزوه لمصر ومجدها اللامع وشعبها العظيم، فليست المسألة تاريخا طويلا يعد بآلاف السنين، وإلا لكانت القيمة كلها قيمة عددية، بل المهم في الحديث عن المصري وبلده وتاريخه هو الجوهر الأصيل الذي عبر عن نفسه بالدين والعلم والصناعة والفن، والسيادة بهذا كله على سائر الدنيا طيلة عشرات من القرون تلاحقت سطوعا بعد سطوح كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.

2

نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكاديين والآراميين والحيثيين والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين ... ذهبوا جميعا وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.

بقي المصريون من أول الدهر كما كانوا مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزا ناطقا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، وارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي بسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين. وهل كانت مصادفة شاردة من مصادفات التاريخ أن قويت المسيحية في كنف الإسكندرية قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأة ورعاية (راجع مقالة «المصريون وسر خلودهم» في كتابي «هذا العصر وثقافته»). ... إن روح التدين التي تغلغلت في أعماق هذه الأمة منذ أقدم القدم، قد نتج عنها نتيجة أعانتها على الخلود، وهي جمع الإنسان الواحد بين أن يكون فردا وأن يكون في الوقت نفسه مواطنا؛ وذلك لأن هاتين الصفتين قد تجتمعان معا في شخص واحد وقد لا تجتمعان؛ لأن الإنسان الواحد قد يغوص إلى أذنيه في فرديته، وكأنه في هذه الدنيا وحيدا لا يجاوره أحد سواه، وكذلك قد تجد الإنسان الواحد يغوص إلى أذنيه في خدمة الآخرين؛ لينسى أنه بدوره فرد يجب أن يعيش ... ولقد اجتمع الجانبان معا في المصري؛ لأنه يحمل في قلبه عقيدة دينية، فهو بحكم عقيدته الدينية مسئول عما يفعل مسئولية فردية، وبحكم هذه العقيدة نفسها أيضا هو مطالب بألا يعيش بمعزل عن الناس، بدليل قيام الشعائر التي تحتم أن يجتمع العابدون في مكان واحد وهم جماعة، ومن روح التدين العميقة العريقة عند المصري تعلم أن يجمع الجانبين في صدره بغير عناء؛ فهو يشعر بأنه فرد مسئول، وهو في الوقت نفسه يشعر أنه ملتزم بأمته ... (راجع «المصريون وسر خلودهم» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

خذ ما شئت مما تراه في حياتنا ولا ترى مثله في حياة الآخرين؛ تجد فكرة الدوام - أي فكرة الخلود - الذي يعلو على اللحظة العابرة، تجدها كامنة فيه قريبة إلى الظهور أحيانا عميقة الخفاء أحيانا؛ فالدوام هو معيارنا في التغير الذي نقبله أو التغير الذي لا نقبله، فما جاء على أطر حياتنا العميقة إضافة تفيد ولا تضر قبلناه، وأما ما جاء ليهدم لنا الأطر الأساسية ذاتها فهو مرفوض.

وعندنا أن حرية المفكر وحرية الفنان وحرية الإنسان بصفة عامة مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم (راجع «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

ولكي أدلل على صواب هذا الرأي؛ طالبت نفسي بأمثلة تفصيلية من ثقافتنا تقوم برهانا أو بيانا يوضح ما أجملته في الأسطر القليلة السابقة. إن ثقافة الشعب المعين إنما تتجسد في معالم معينة؛ فاخترت مجموعة من تلك المعالم، راعيت فيها أن تكون منوعة في طبيعتها، متفاوتة في أزمانها من تاريخنا، اخترت القرية المصرية في طريقة تكوينها: أبو الهول، الأزهر، أم كلثوم، أحمد شوقي، مولد السيد البدوي، خان الخليلي ... وهو اختيار شبه عشوائي كما ترى، وتناولت هذه الأمثلة بشيء من التحليل، لعلي أجد الأساس الواحد الذي تلتقي كلها عليه، فيكون ذلك الأساس هو قطب الرحى من الثقافة المصرية:

ولنبدأ حديثنا بالقرية المصرية وطريقة تكوينها، فأول ما يلفت النظر من ذلك هو تكتلها وتلاصق مبانيها، حتى لتبدو للقادم من بعيد كأنها كومة واحدة، تنبثق من رأسها مئذنة، أغلب طرقها مغلق من أحد الطرفين، وهي طرق تتعرج مع المباني فلا يراد لها أن تستقيم؛ لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرة واحدة، تجد الدفء في الجوار، وتجد الطمأنينة في أن يتعانق الكل في جسم واحد، فلا بأس في أن تضيق الطرق وفي أن تنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض. إن مثل هذه القرية لا تقبل الغريب إلا إذا انخرط في كيانها، إنها ترفض أن يدخلها دخيل يغير لها ركنا أساسيا من قواعد حياتها فيعكر عليها تلك الحياة وصفوها؛ فدوام بقائها هو معيارها، وكل تغير مقبول إذا جاء في إطار ذلك الإطار الدائم.

وأبو الهول - كسائر الآثار المصرية - يبني العقل على أساس الفطرة ليكسب الدوام، إنه رأس إنسان بما يتضمنه من بصيرة واعية ، لكنه رأس ركب على حقيقة فطرية ليكون لاصقا بالطبيعة، وأعني بها جسم الأسد، فها هنا كذلك جاء الرمز دالا على التمسك بالأساس الفطري الثابت، حتى ولو كان التغير الطارئ هو عقل بإدراكه الواعي.

والأزهر تتلخص رسالته الحضارية الكبرى في أنه هو الذي جمع أشتات التراث العربي عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء على أيدي التتار، ولولا هذا الجمع الذي اضطلع به الأزهر لما كان بين أيدينا اليوم ما يسمى بالتراث العربي، ومرة أخرى نجد «الدوام» ومقاومة التفتت والفناء هدفا رئيسيا تنتظم خطوات السير على هداه.

وأم كلثوم التي ترسل الغناء وكأنها تقيم عمارة على عمد مكينة ثابتة، إنها لتسلك أرق العواطف في جو من الوقار المهيب، لا تكاد تفرق فيه بين قصيدة في مدح النبي عليه السلام ونشيد وطني وقطعة غزلية مما يتبادله العاشقون، كل ذلك في إطار الفن الغنائي عندها، يتخذ الصورة التي تضمن له «الدوام». وشيء كهذا يقال في شعر أحمد شوقي، إنه يقول الشعر - كائنا ما كان الموضوع - وكأنه يخاطب به الزمن غير المتقيد بأفراد من البشر يجيئون ويذهبون، والحقيقة هي أن هذه الخاصية تبدو لي مميزة للشعر العربي كله.

ومولد السيد البدوي - كأي مولد آخر يقام في مصر مع اختلاف الحجم - يعطيك إحساسا عجيبا بالحياة المصرية بشتى عناصرها، إنها ليست تعبدا كلها، ولا هي مرح كلها، ولا هي تجارة كلها، إنها كل ذلك في مزيج واحد، تحمل في طيها من الرمز مثل ما تحمل من الواقع، إن حلقة الذكر الصوفي قد تنعقد بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان معا على مقربة لصيقة من بائع الحمص والحلوى وحب العزيز ... حياة لها عرفها الذي يتكرر عاما بعد عام، لم توضع لها القواعد والقوانين، ولكنها تجري في انبثاقها الفطري، كما جرت في أعوام مضت، وكما ستجري في أعوام تتلو.

وماذا عن خان الخليلي؟ إنه في مجمله رواسب عصور تأبى أن تزول، تدخل عليها عوامل العصر الجديد، كما تلبس الحسناء سوارا حول معصمها، فهو حلية مضافة، لكنه ليس هي، وهذا هو ما يشد السائحين الأجانب إليه، إنهم لا يذهبون إلى شارع قصر النيل وشارع طلعت حرب؛ لأنهم لو فعلوا كانوا ما يزالون في بلدهم وفي عصرهم وضاعت عليهم تكاليف السفر، لكنهم يذهبون إلى خان الخليلي؛ لأن الماضي يزاحم الحاضر ويزحمه، والمعنى نفسه قائم في كل قطعة مصنوعة هناك، ففي كل قطعة معروضة تلمح التكامل البشري الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، كما هي الحال في الصناعة الآلية الجديدة، ففي مصنوعات الخان تمتزج الصناعة بالفن، ويمتزج المصنوع بالصانع (من «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

3 ... لكم سأل منا كاتب: من نحن؟ ما حقيقتنا؟ وأين نكون؟ لكم قال منا قائل: إننا في هذه المرحلة المرتجة من تاريخ العالم، نريد البحث عن هويتنا حتى لا تذوب وتنمحي في هويات الآخرين ... هكذا طرحت السؤال على نفسي، وحاولت الجواب بالبحث عما يميزنا من خصائص وسمات، فكان لي ما يأتي:

إننا أمة تتحقق وحدتها بفعل موحد مشترك، فلقد قالها الإمام ابن تيمية منذ زمن بعيد، حين قال: إن فكرة «الأمة» لا تتحقق لمجموعة من الناس إلا إذا اشتركوا في «فعل» واحد. إن فكرة «الأمة» لا تتحقق - عند ابن تيمية - لمجرد أن يعيش أفراد المجموعة على رقعة جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغة واحدة، بل تتحقق فكرة «الأمة» في حالة واحدة وبشرط واحد، هو أن تلتقي فاعلياتهم في «فعل» واحد، يستهدف هدفا واحدا؛ وذلك لأنه بالفعل المشترك يجاوز كل فرد حدود نفسه لينفتح على الآخرين الذين يشاركونه في أداء ذلك الفعل. إن التجاوز المكاني وحده لا يكفي في إيجاد الرابطة الحيوية العضوية التي تجعل من الأمة أمة واحدة ...

ومن أبرز سماتنا - نحن المصريين - هذا الرابط الأسري الذي يجعل العلاقة بين أفرادنا تجاوز حدود المصلحة إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهي علاقة قد تخفى على الرائي في فترات الحياة العادية، لكنها تشتد ظهورا في لحظات التأزم ...

سمة أخرى تتميز بها أكثر مما تتميز بها أمة أخرى، وتلك هي الحاسة المرهفة التي تميز بها بين ما يستحق الاهتمام الجاد وما لا يستحقه، إننا أمة قطعت على طريق الزمن أكثر من ستة آلاف عام، وحملت على كتفيها أربع حضارات متعاقبة، وهي الآن تدخل الخامسة، ومحال أن يكون وراءها هذا الرصيد الضخم من خبرات متراكمة دون أن يترك على وجهة نظرها أثرا باقيا، يشبه ما تتركه الأعوام في حياة الفرد الواحد، فعلى خلاف الحديث الغر، ترى من أثقلته السنون بخبراتها بطيء الانفعال أمام الحوادث، فلا يستثيره منها إلا ما يمس صميم الحياة ... وهذه هي صورة المصري. إنني كثيرا ما أتفرس ملامح الفلاح المصري وهو ما يزال في نقاء الريف، خصوصا من تقدمت به السن، فأجد على وجهه وفي نظرات عينيه تلك الرصانة الرزينة والحكمة الهادئة - مع صمت لا يلغو ولا يثرثر - التي يراها الرائي في تماثيل الفن المصري القديم ... والمصري - بل العربي بصفة عامة - متفائل بطبعه، فهو مهما ضاقت عليه الدوائر آمن بكل كيانه أن بعد العسر يسرا. ولا يجيء تفاؤله هذا عن سطحية النظر، بل هو تفاؤل صاحب النظرة العميقة التي تعلم أن في الكون تدبيرا يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر إلا أن يعقب عليه بما يوازنه ... (من مقالة «هذه بعض سماتنا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

من ذا الذي لا يحس الشعور الديني العميق الذي يملأ النفوس ويعمر القلوب في أبناء مصر؟ ذلك الشعور الديني - في عمومه وبغير تخصيص عقيدة بعينها - الذي يجعل الإنسان يجاوز الشهادة إلى الغيب، ويجاوز اللحظة العابرة الحاضرة إلى حياة الخلود، ويجاوز حدود الأشياء إلى ما يمكن أن ترمز إليه تلك الأشياء. أقول: إن ذلك الشعور الديني العام مميز ثابت لنا مهما يطرأ على تياره الدائم من متغيرات الشعائر في مراحل التاريخ ومتعاقب الديانات؛ ذلك إذن أحد الأصول الثابتة في نظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، وأما ما «ينبع» من تلك الطبيعة فينا فأمور كثيرة، من أهمها في حياتنا العصرية الحاضرة: التسوية بين الناس على اختلاف أعمالهم؛ لأنه إذا خيل إلينا أن الأفراد يتفاوتون في اللحظة العابرة، فهم بالنسبة إلى الأبدية سواء، على غرار ما نقوله إذ نقول: إن جميع الأشياء على وجه الأرض يتساوى بعدها عن الشمس.

ولهذه النقطة نفسها وجه آخر «ينبع» مباشرة من نظرتنا الدينية العميقة التي ذكرناها، وهي أن القيمة العليا التي يقاس بها الناس ارتفاعا وانخفاضا ليست هي النجاح المادي في الحياة العملية؛ فهذا النجاح الذي يقاس بالمال والمنصب إنما ابتكرته شعوب أخرى حديثة العهد في تاريخها، لكننا - حتى وإن تظاهرنا بقبوله - لا نحس أنه يضرب بجذوره في أعماقنا. إن الواحد منا يعمل العمل ثم يأخذ أجره المالي وهو في حالة من الخجل لا يستطيع إخفاءها، وكثيرا ما نسمع المتحدث منا يقول في سياق حديثه: إن ما يهمني ليس هو المال، وإنما المهم هو كذا وكذا. والخلاصة هي أن الإنسان في نظرتنا إنسان بإنسانيته الطيبة الورعة المستقيمة أكثر منه إنسانا بما يملكه أو لا يملكه (راجع مقالة «طبيعتنا وما ينبع منها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

4

لبثت على ضلال فيما يختص بالعلاقة بين مصر والوطن العربي إلى سنة 1956م، فلقد كنت قبل هذا التاريخ معتقدا بأن مصر وحدة قائمة برأسها من الناحية الحضارية، ولا يجوز لنا أن ندمج أنفسنا في قومية عربية تأخذ منا ولا تعطينا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أنني عندما زرت متحف المتروبوليتان بنيويورك، ووجدت الجناح المصري ممتدا على عشر غرف متلاصقة، ويسطع ضياؤه كأنه هو الجوهرة النفيسة على تاج الماضي كله في تاريخ الإنسان، عدت إلى غرفتي بالفندق مسرعا لأكتب يوميتي التي كنت أتابعها يوما بعد يوم (ونشرت بعد ذلك سنة 1955م في كتاب «أيام في أمريكا») فكتبت يومئذ ما عبرت به عن خوالج نفسي إزاء آبائنا القدماء، وزل قلمي وانحرف عن حدود اللياقة عندما تساءلت في دهشة الذاهل: كيف يمكن أن يكون هذا هو مجد مصر، ثم نجد فينا من يدعونا إلى «عروبة» تكاد لا تملك في يديها ما تقدمه إلى العالم، وإلا فأين معروضها في متاحف الدنيا؟ ... فلما أن نفدت الطبعة الأولى من ذلك الكتاب في عام أو بعض العام، ولم أكن أنوي إعادة طبعه؛ وجدتني قد غيرت رأيي في هذا الموضوع الحيوي، فكأنما أراد لي الله هداية بعد ضلال، فرأيت الحقيقة أنصع من ضوء النهار المشرق بشمسه الساطعة؛ وهي عروبة مصر، واشتد إيماني بأن عزة مصر لا تكتمل إلا وهي - برغم مصريتها المتميزة بماضيها وحاضرها معا - جزء من وطن عربي كبير؛ فأعدت طبع «أيام في أمريكا» لأمور كان أبرزها عندي وأهمها أن أحذف ما ورد في تلك اليومية مما اجترأت به على الحق، والحق أحق أن يتبع؛ فذلك خير ألف مرة من أن يمضي الضال في ضلاله. وكان ذلك في سيرتي العقلية فاتحة خير وبركة؛ لأنه دفعني بقوة إلى التزود من الثقافة العربية كما هي واردة في تراثها، وكان ما كان من وقفات فكرية سجلتها خلال السبعينيات في عدة كتب، بدأتها بكتاب «تجديد الفكر العربي».

وكان من الأسئلة الفرعية التي طرحتها على نفسي وبحثت لها عن جواب سؤال عن الصورة التي اقترحت بها الرؤية المصرية الخالصة والرؤية العربية العامة، فماذا حدث بعد الفتح العربي؟ وكيف حدث؟ لتخرج مصر بما خرجت به آخر الأمر من وجهة نظر اختلطت فيها - بغير شك - قيم الصحراء وحياتها بقيم الوادي الأخضر وحضارته على مدى التاريخ؟

ولقد أعانني على الجواب عن هذا السؤال تلك اللفتة البارعة التي وجدتها عند ابن خلدون، حين تناول فكرة الصراع بين «البداوة» و«الحضارة» بالمعنى الخاص الذي قصد إليه ابن خلدون بهاتين الكلمتين، فنظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير تكفينا لندرك الصورة في إجمالها، وهي أن ذلك الوطن قوامه الصحراء التي هي أوسع الصحراوات اتساعا على وجه الأرض، تطرز حوافيها مراكز عريقة في الحضارة، تمتد مع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعبر بلاد الشام إلى العراق، لتعود فتمتد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر، فكأنك إذ تنظر إلى خريطة الوطن العربي فإنما تنظر إلى رقعة فسيحة من النسيج الأصفر توشي أطرافها - دائرا ما تدور - زخارف الألوان.

وهنا تأتي الملاحظة البارعة النافذة التي ذكرها ابن خلدون، وهي أن الصراع ما انفك قائما بين ثقافة الوسط وثقافة الأطراف، والثقافة الأولى هي ما أسماه «بالبداوة» والثقافة الثانية هي ما أسماه «بالحضارة»؛ أي إن الأمر بينهما لم يكن أمر تخلف هناك وتقدم هنا، بمعنى أن تكون البداوة مرحلة تجيء سابقة على طريق التطور، ثم تأتي بعدها مرحلة الحضارة، بل الأمر بينهما هو أمر ثقافتين متجاورتين، لكل منهما خصائصه التي يتميز بها. ولما كانتا متجاورتين على النحو الذي ذكرناه فقد شهدتا تفاعلا هو الذي حدد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، ولكنه تفاعل فيه طغيان البداوة على الحضارة أحيانا، فتهجم الثقافة الأولى على ظهور جيادها وفي ظلال سيوفها؛ لتغزو الثقافة الثانية في حصونها وقلاعها.

وأبرز العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة «البداوة»: العصبية للقبيلة أو للعشيرة، والركون في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث، هي «المروءة» التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج. ويقابل هذه الخصائص في المركب الثقافي الآخر - الذي نطلق عليه اسم «الحضارة» في سياق حديثنا هذا - الانخراط في بناء الدولة، والانصياع عن طواعية للقوانين التي تسنها تلك الدولة لتنتظم شئون الحياة، وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية هي ادخار المال الفائض، ادخارا يبقيه كما هو، أو يستثمره في إنتاج جديد.

والآن فلننظر إلى مصر، فما الذي حدث لها في كيانها الثقافي خلال هذا الصراع بين بداوة الوسط وحضارة الأطراف؟ لقد كانت مصر على امتداد تاريخها الطويل مركزا هاما من تلك المراكز الحضارية، التي قال عنها ابن خلدون: إنها ما فتئت مهددة بهجمات البداوة تأتيها من خارج حدودها، وإذن فلا بد أن تكون قيمها الأساسية قد ارتجت آنا بعد آن، حتى تداخلت فيها عناصر البداوة مع عناصر الحضارة، في مزيج قد يتعذر فيه أن نرد كل عنصر إلى أصله إلا بعد تحليل هادئ ودقيق.

وربما كان من أوضح المعالم التي تستوقف النظر عند التحليل أن ثمة ينبوعا مشتركا بين ثقافة البداوة الوافدة إلينا من الصحراء، وثقافة الريف الزراعي كما انتهى أمرها تحت سيطرة الطغاة الذين استبدوا بالحكم في مصر قرونا طويلة، وهذا الينبوع المشترك هو فقدان الأمان في كلتا الحالتين، لأسباب تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى؛ فنتج عن الشعور بقلة الأمان مجموعة من القيم في بداوة الصحراء، ومجموعة أخرى من القيم في حضارة الريف الزراعي، فلما غزت ثقافة البداوة بمجموعة قيمها، ثقافة مصر بمجموعة قيمها؛ حدث مركب خليط هو الذي نحياه اليوم (مأخوذ من مقالة «بداوة وحضارة» في كتاب «هذا العصر وثقافته» فارجع إليه لمعرفة تفصيلات التحليل الذي أوردته عن ثقافة المصري).

على أن عروبة المصري لا تنفي عنه مصريته بكل ما يميزها عن سائر أجزاء الوطن العربي، كالفرد في الأسرة الواحدة تكون له خصائصه الفردية كما تكون له سمات الأسرة في وقت واحد، فمهما يكن بين أبناء الأمة العربية من ضروب التباين من حيث العرق أو الأصول التاريخية أو غير ذلك، فبينهم وحدة «ثقافية» فيها من السعة والعمق ما يكفل لها القوة والدوام، وإذا نحن أنكرنا القومية الثقافية فلن نستطيع أن نعلل الوحدة القومية لشعوب كثيرة كالولايات المتحدة الأمريكية - مثلا - وغيرها.

فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل العربي عربيا، سواء كان قبل عروبته مصريا أم سودانيا أم عراقيا؟ أول خصائص العروبة لغتها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها، ومع ذلك لا ندرجه في العروبة ابنا من أبنائها، وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما يتكلمها ويكتبها من السطح - إذا جاز هذا القول - وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من الجذور.

وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءا من فطرة الإنسان التي منها تنبثق اللغة المعينة، فمن خصائص اللغة العربية - مثلا - أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت كيف تفجر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة «كتب» فجرتها بعد ذلك فأخرجت منها: كاتب، كتابة، مكتوب إلخ إلخ، فهي على غرار القبيلة أو العشيرة العربية يتعدد أفرادها، لكن هؤلاء الأفراد جميعا ينتمون إلى رأس واحد.

فإذا قلنا: إن اللغة العربية هي أول خصائص العروبة، فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ما تتميز به لغتهم من صفات.

وثانية الخصائص الإدراكية التي تتألف منها عروبة العربي هي ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في أنواع وأجناس، فهو لا يهمه «هذا» الطائر المفرد المعين الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع بأسره من الأحياء؛ انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي كما تراها - مثلا - في سجادة أو فوق آنية فخارية؛ تجد الفنان العربي يتعمد إهمال التفصيلات، كما هي الحال اليوم في الفن التجريدي المعاصر، فكأنما هو يرسم تخطيطا لطائر ولا يرسم طائرا، أو يخطط لغزالة ولا يرسم غزالة، وهكذا، لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة؛ ليسهل حملها معه وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة، فهو يحرص على الأصل الثلاثي ليحمله معه أينما سار، وأما ما يتفجر من ذلك الينبوع اللغوي فيتركه إلى حين الحاجة إليه ... (مأخوذ من مقالة «العروبة ثقافة لا سياسة» في كتاب «هموم المثقفين»، راجع المقالة للمزيد من جوانب الثقافة العربية التي تتألف منها الذات العربية.)

अज्ञात पृष्ठ