1
في طليعة الأربعينيات كنا - الأستاذ أحمد أمين وأنا - قد اتفقنا على المشاركة في مشروع جديد وهو أن نخرج قصة للأدب في أهم أقطار العالم وعلى تعاقب العصور، على غرار ما صنعناه في قصة الفلسفة، وكنت قد فرغت من الجزء الأول من هذه القصة الجديدة «قصة الأدب في العالم» سنة 1942م، ثم فرغت من إعداد الجزء الثاني - مخطوطا - وتركته بين يدي الأستاذ أحمد أمين قبيل سفري إلى إنجلترا في سبتمبر من سنة 1944م. ولم يكن ما تركته قبيل سفري هو مخطوط الجزء الثاني من قصة الأدب فقط، بل تركت كذلك مخطوطا آخر لكتاب «فنون الأدب»؛ وهو تعريب لكتاب إنجليزي من تأليف ه. ب. تشارلتن. وأقصد بالتعريب هنا أن عملي في هذا الكتاب لم يكن «ترجمة» تساير الأصل كلمة كلمة، بل كان عرضا لمادته، حتى إنني لم أتقيد بالأمثلة التي أوردها المؤلف في سياق كتابه؛ لأن تلك الأمثلة لا تصلح شواهد على ما سبق لتوضيحه إلا إذا بقيت في لغتها الأصلية؛ ولذلك حاولت أن أستبدل بها شواهد من الأدب العربي لتكمل الفائدة.
لم يكن قد بقي على سفري إلا أسابيع لا أظنها تزيد على الثلاثة عندما أردت أن أضطلع بتعريف «فنون الأدب»، ولم تطمئن نفسي للتخلي عن أداء ذلك الواجب الأدبي؛ لأن الكتاب لم يكن وحدة مستقلة بذاتها، بل كان حلقة في سلسلة خططت لجنة التأليف والترجمة والنشر لإخراجها تحت عنوان «سلسلة الفكر الحديث»؛ فلو تخليت عن نصيبي في المشروع لبقيت الحلقة الخاصة به خالية، فواصلت نهاري بليلي في الأسابيع الثلاثة الباقية حتى فرغت من الكتاب في آخر لحظة متاحة، ولم أجد نصف الساعة الذي أكتب فيه مقدمة تشرح لقارئ الكتاب منهجي في العمل، فلما كنت في طريقي إلى إنجلترا أعلنت إدارة الباخرة التي كنت على متنها - وكانت الحرب العالمية الثانية ما زالت ناشبة - أنها على استعداد لأخذ الرسائل التي يريد المسافرون أن يبعثوا بها إلى ذويهم؛ لتطبع على أفلام صغيرة (ميكروفيلم) ثم ترسل ليعاد إخراجها على الورق ثم تسليمها لأصحابها، فكتبت رسالتين: إحداهما خطاب إلى أسرتي، وأما الأخرى فكانت مقدمة لكتاب «فنون الأدب» الذي تركته في لجنة التأليف بلا مقدمة.
و«فنون الأدب» كتاب صغير يشرح أصول النقد الأدبي للشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالة، شرحا لم أصادف في كل ما قرأته في هذا الباب أوضح منه ولا أنفع منه؛ إذ يستحيل على قارئه أن يخرج من صفحاته إلا وقد عرف معرفة دقيقة ناصعة بطبيعة الأجناس الأدبية، ما يجوز لها وما لا يجوز، وبالتالي يتكون عنده ذوق نقدي لا أظنه إلا مقيما معه بعد ذلك ما بقي له اهتمام بالأدب والنقد.
2
وصلت إلى لندن والتحقت بجامعتها، ولكن جامعة لندن هي بمثابة عدة جامعات في جامعة؛ فإذا كانت تلك الفروع تسمى «كليات»: الكلية الجامعة، وكلية الملك، وكلية بيركبك، وكلية بدفورد، إلخ، فما هي بكليات بالمعنى المألوف عندنا لهذه الكلمة، فكل واحدة من تلك الكليات هي جامعة بأسرها، وكان التحاقي أول الأمر بالكلية الجامعية في قسم الفلسفة.
كنت خلال الأعوام السابقة على ذلك، وأنا في مصر قد انتسبت إلى جامعة لندن، وأضفت تلك الدراسة إلى سائر أوجه نشاطي، واستطعت الحصول على إجازتين: إحداهما هي ما يؤهل الدارس للمضي في الدراسة، والثانية إجازة وسطى يجتازها الدارس فيما بين الالتحاق والبكالوريوس. فلما أن شاء لي الله أن أسافر إلى هناك مبعوثا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة سجلت من فوري لامتحان البكالوريوس، وشرحت لرئيس قسم الفلسفة موقفي - وكان هو الدكتور س. ف. كيلنج الذي عرف بكتابه المشهور عن ديكارت - فأجاب بأن عشرة أشهر (وهي المدة الباقية على موعد البكالوريوس) لا تكفيه هو استعدادا لذلك الامتحان لو كان ليتقدم إليه؛ فالكتب المقرر دراستها من أعمال الفلاسفة أربعة عشر كتابا، يدرسها الطالب دراسة تفصيلية ولا يترك فيها سطرا واحدا؛ لكنني أصررت على خطتي؛ فلم أكن يومئذ في سن الطلاب، بل كنت قد اقتربت من الأربعين، ولقد جاءتني هذه البعثة الدراسية وكأنما هي معجزة من السماء جاءت لتفتح أمامي طريقا يئست من أن يفتح، وها هي ذي فرصة سنحت، فهل أترك منها دقيقة واحدة لتمضي في حياة مسترخية؟!
وكان أن سجلت لأتقدم بعد عشرة أشهر إلى امتحان البكالوريوس الشرفية في الفلسفة؛ ومهما اتسع خيال القارئ ليتصور كم بذلت من جهد إبان تلك الشهور العشرة، كم ساعة كانت للعمل من ساعات اليوم وكم منها للنوم، فلن يستطيع أن يبلغ بخياله ما عشته إبان تلك المرحلة من عمل لا يعرف الراحة، فلكل دقيقة عندي قيمتها وحسابها، وقد تسأل: وفيم هذا كله؟ وأجيب: قد لا يكون لهذا كله داع عند الطالب الذي يسير في حياته سيرة طبيعية مألوفة، أما عندي أنا يومئذ - أنا المحروم من اقتطاف الثمرة بعد كل ما زرعت - فكان الأمر عندي أمر حياة وموت؛ فماذا لو مضت الأشهر العشرة ولم أحقق غايتي؟ ألا يجوز أن يئول أمري إلى عودة بغير ما جئت من أجله ، فأعود مرة أخرى إلى السير في طريق مسدود؟
والحمد لله حمدا لا ينقضي؛ فقد وفقني توفيقا استطعت به أن أظفر بالبكالوريوس الشرفية في الفلسفة من الدرجة الأولى، وهي عندهم درجة لا يظفر بها إلا أقل من القليلين؛ ولذلك تجعلها جامعة لندن بمثابة ماجستير، ويصبح من حق صاحبها أن يسجل لإجازة الدكتوراه مباشرة، وهذا ما كان: طلبت من الجامعة تحويلي إلى كلية الملك؛ لغياب أستاذ الفلسفة في الكلية الجامعة التي كنت ملتحقا بها، ومرة أخرى شرحت لأصحاب الأمر هناك كيف لا تسمح لي ظروفي بالإرجاء يوما واحدا، فوافقوا على التحويل، ووضعت تحت إشراف الدكتور ه. ف. هالبت في موضوع «الجبر الذاتي»؛ ومعناه أن الإنسان لا تسيره إلا ذاته. وهو قول من السهل أن يطلق على عواهنه، ولكنه ليس بهذه السهولة كلها إذا أخضعه الباحث للمنهج الفلسفي الدقيق.
3
अज्ञात पृष्ठ