الفصل التاسع والعشرون
كانت سهير لائذة بسريرها، مرغمة على الاستلقاء فيه إرغاما، ولو تركت وشأنها ما استقر بها قرار، ولظلت حائرة بين السجن وأولي الأمر، ولكن تكاثروا عليها وأرغموها على أن تظل بسريرها، وكانت أقوى حجة في يدهم أن وصفي قطع الأمل عندها أن يستطيع أحد من ذوي السلطان عملا، فابنها متهم في جريمة يعاقب عليها القانون، والقضاء وحده هو المختص، ولا سبيل لأحد عليه ... ولكن ماذا يجدي استلقاؤها هذا، وقلبها هو المريض، والألم يعتصر قلبها، وسيظل يعتصره مهما تلجأ إلى الراحة؟ إن المرض في نفسها، فأين لها المهرب من نفسها؟! أحمد في السجن، ويلي مما صنعت الأيام!
ودق جرس التليفون، وكان المتكلم هو وصفي باشا، وقد ألقى إليها أنه استطاع بعد جهد أن يجعل النائب العام يعجل بالتحقيق مع أحمد، وقد تقرر أن يبدأ التحقيق معه في الغد.
وما لبث سليمان أن دخل الحجرة فأنبأته، فما زاد على أن أطرق صامتا، وراحت سهير تنظر إليه وتطيل النظر، لقد رأت في وجهه معالم حياة، لقد رأته يتألم، وأحست ألمه، كانت تحس ألمه في نفسها، كما تحسه في وجهه، لقد التقيا آخر الأمر على إحساس واحد، وإن يكن هذا الإحساس هو الألم، إلا أنهما التقيا عليه آخر الأمر، عجيبة هذه الأيام! أكان لا بد لنا من هذه الفواجع حتى نلتقي؟! وهل كان لا بد لنا من اللقاء؟ عجيبة؟ إن التنافر الذي كان بيننا هو الطريق الذي أدى إلى لقائنا اليوم، لقد نشأ ولدانا فوجدانا متنافرين، لم نتحد يوما على تربيتهما، ولم نتآزر يوما من أجلهما، كانت الصلات بين الأبوين مفككة هشة فنشأت أخلاق طفلينا مفككة هشة، بذلت أنا الأم ما في وسعي، ولم يكن للأب وسع، فلم يبذل شيئا، ولكن هل بذلت ما في وسعي حقا؟! أتراني كنت أقوم بما يجب علي؟ أكان كل واجبي أن أحقق رغبات طفلي مهما تكن هذه الرغبات؟ أكان يجدر بي أن أترك أباهما أمامهما يتضاءل ويضمحل حتى يصبح شيئا كالهباء من العدم، فإذا هما ينشآن بلا قدوة أمامهما، ولا إيمان بشيء ولا احترام لشيء، أكنت أستطيع أن أقيم من سليمان شيئا؟ ما أظنني كنت مستطيعة؟ ولكن هل حاولت؟ لا، لم أفعل، ولم أحاول حتى أن أقيم خلق طفلي، لم أحاول لهما شيئا إلا أن أنفذ ما يريدان، ثم أنطوي على ألمي ضنينة به، أخشى أن يزول، كنت ألتذ ألمي، لأنه يحمل لي ذكريات من الشباب والهوى، وفي غمرة من اللذة والألم والذكريات والشباب والهوى، لم أحفل أمر ولدي فنشآ ضائعين في بيداء لا هدف لهما فيها، تائهين لا يحدد أملهما مطمح أو غاية.
كنت ضعيفة أمام ألمي، كما كنت ضعيفة أمام طفلي، كنت ضعيفة أمام ألمي منذ اللحظة الأولى، لقد هيأت لنفسي حينذاك أنني قوية، وأنني أنتقم لحبي المهجور.
فإذا بي أنتقم من نفسي، وخيل لي أنني في انتقامي لنفسي قوية، ولكن ها أنا ذي على الأيام أتبين أنني ما انتقمت إلا عن ضعف، فالانتقام جميعه ضعف، إنه لا يصدر إلا عن إنسان عجزت نفسه أن ترد الشر الصاخب فيها، ولا يصدر إلا عن إنسان هانت عليه نفسه، فعقله ضئيل، وعاطفة النقمة عنده طاغية، فهو مغلوب على أمره من عاطفته، ومن عاطفة شريرة فيه، كنت ضعيفة حين تزوجت سليمان، هدني هجر وصفي لي، فلم أتمالك أمر نفسي وقسوت، ثم ها أنا ذي أرى أن قسوتي لم تكن مني إلا ضعفا.
وكنت ضعيفة أمام طفلي، فما زلت أجسم لنفسي أن ليس لي إلا هما، فضعفت وكنت أعلل ضعفي دائما بأنني لا أمل لي إلا هما، ولو كان هذا المعنى عميق الغور في نفسي لاستطعت، أو لحاولت على الأقل أن أجعل منهما شيئا آخر غير هذا الذي صارا إليه، ولكن الواقع أنني عشت في الألم الذي خلقته لنفسي منذ أول حياتي، ثم أبيت أن أخرج عن هذا الألم، فكان ما أقاسيه الآن من ابنة مطلقة، وهي لا تزال في أول بواكير الشباب، وابن سجين وهو لا يزال في أول بواكير الحياة.
بكرت الأشعة الأولى من الشمس فلم تجد سهير في فراشها، بل كانت استيقظت في زوال الليل، وارتدت ملابسها، ومكثت تنتظر أن تعلن إليها هذه الأشعة أن اليوم الجديد قد جاء، وأنها تستطيع أن تلتقي بابنها، على أي حال ستراه، إنها لا تدري ولا يهمها أن تدري، كل ما تصبو إليه أن تراه.
واستيقظ سليمان مبكرا، وعجل بارتداء ثيابه، ونزل هو وزوجته إلى مقر النيابة التي سيحاكم فيها أحمد.
ودخلت سهير المحكمة، الله للأيام، لماذا يقسو عليها الزمان هذه القسوة، أتدخل هي المحكمة لترى ابنها مقبوضا عليه؟!
अज्ञात पृष्ठ