عرف أحمد السجن، وما كان يتصور أن يعرفه، قاده إليه شرطي فظ ينفذ الأوامر في خشونة صماء، فالجميع عنده سواء، لا فرق ثمة بين متهم في سياسة، أو متهم في جريمة، وإنما كلهم في عرفه مساجين، ثم لا شيء بعد ذلك، ألقي أحمد في حجرة ضيقة، أدار عينيه فيها فرأى دلوين، وما احتاج لسؤال، فقد كان يعرف أمرهما، أحد الدلوين للشراب، والآخر لإفراغ الشراب، وغير الشراب، وهكذا يلتقي الإنسان بالحيوان في كثير من الأحيان، أي فارق إذن بينه وبين البهيم في حظيرته، يفرغ طعامه حيث يأكله، ويلقي بجسمه إلى الأرض في مساواة بينه وبين الدلوين ومساواة بينه وبين الحيوانات.
كان يفرح أنه مسقط العيون من الأمن، وكان يفرح أنه مثار اهتمام من السلطات، وكان يفرح باسمه الحركي، وبالأسرار والتهاويل والطقوس، وكان يفرح بلهفة أخته عليه، وكان يفرح بأنه متحرر الفكر، لا يدين بالله، كما يدين عامة الناس والغوغاء الذين يطالب لهم بالإنصاف من الأغنياء، وكان يفرح أنه قطعة خارجة عن نظام القطيع الذي يسعى للحياة في طريق تقليدي يسير على آثار السابقين، وكان يفرح بأنه مهدد بالخطر، وبأن أصدقاءه يخشون عليه هذا الخطر.
أما وقد وقع ما كان مهددا به، فذاك ما لم يتوقعه، فجميل أن يكون ذا أهمية، وأن يشعر بأنه ذو خطر يسعى رجال الأمن خلفه، ولكن ليس جميلا أبدا أن يوقع به رجال الأمن في السجن، فالواقع أن أحمد، برغم أنه كان فرحا بأنه مهدد، إلا أنه لم يكن يتوقع أبدا أن يدخل السجن، فما كان يتصور أنه هو ... ربيب القصر، وحاكمه، والسيد الأول فيه والأخير، يدخل السجن! وما كان يتصور أن يلقى إلى السجن، وعمه وصفي باشا يتمتع بهذا النفوذ، كان في عميق نفسه يستبعد فكرة دخوله السجن، ولكنه كان يترك هذه الفكرة طافية على سطح شعوره ليستاف منها هذا الأريج الحلو من الإحساس بالأهمية.
وأجال أحمد نظرة ثانية في حجرة السجن، وعاد إلى نفسه يسألها، إذن فهذا هو السجن، فمن هنا إذن عرف الناس الحرية، وذكرته كلمة الحرية بالخطبة التي ألقاها فؤاد، جميلة هي الحرية، إن شيئا في العالم لا يساوي الإحساس بالحرية، حرية الحركة، وحرية الشعور، وحرية التفكير، وحرية القول، من هنا يستطيع أن يدرك قيمة الحرية، لم يستطع أن يدرك قيمتها إلا حين فقدها، كم هو غبي وإن ادعى تحررا في التفكير، كيف قبل أن يؤيد نظاما لا يعترف بالحرية، ويرى فيها معنى رخوا لا يسير بالحياة إلى أهدافها السامية، وما أهداف الحياة السامية؟ أليست هي معاني تقف الحرية منها موقف الزعامة.
إن الله أعطى عبيده حرية التفكير والعمل ثم حاسبهم، الحرية أساس النظام الذي أقامه الله، سبحانك يا رب! يا رب ... فك قيدي لأقدس الحرية، إني ألجأ إليك يا رب؟!
يا ماذا؟ ماذا أقول؟ أقول يا رب؟ يا للضلال الذي كنت فيه! لجأت إليه عند أول نازلة، وكفرت به في النعمة، أي هباء كنت أعيش فيه؟ أأقول يا رب بهذه البساطة، وكأنني لم أكفر به، ولم أخرج عليه، ولم أعتبر التابعيه بهائم مخدرين ؟ أأقول يا رب وأجد لها في نفسي هذا الرنين؟ بل إني أحس الآن أني قريب إليه، وأحس أملا يشيع في نفسي من بعد ضيق، وأحس صدري وقد أشرقت فيه أضواء جديدة باهرة حلوة، أكل هذه المعاني تتواكب في نفسي المظلمة من كلمة واحدة تنطلق من صميم الفؤاد، يا رب، نعم إننا نحسه ولا نحلله، إننا نؤمن به فنصل إليه، ولكننا لا نفحصه ولا نضعه على أسس من المنطق والعقل، وإلا فما هذا الشعور الحلو الذي ينساب في نفسي، ما قول المنطق والعلم والفلسفة في هذا الشعور؟ ما رأي العلوم جميعا في هذه الراحة التي أتملاها منذ قلت يا رب، وما رأي المذهب الذي أدين به في هذا الهدوء الذي يتمشى في أوصالي من بعد اضطراب وضيق ويأس، لا يفصل بين الشعورين إلا كلمة واحدة قلتها ... يا رب ... فإذا أنا سعيد!
أي ضلال كنت أسعى فيه؟ إن مذهبي فيما أذكر تعرض لهذا الشعور الذي أحسه، نعم إني أذكر نظريته في هذا الصدد، لقد أحسوا بالخطر الذي يطالعهم من قول الناس «يا رب» فأنشئوا نظرية ليحاربوا بها الخطر، يقولون إننا لو هيأنا للإنسان حياة مستقرة، ينال فيها ما يطمح إليه، ومشت به الحياة في الطريق الهادئ الأمين، لو فعلنا ذلك ما احتاج الإنسان أن يقول يا رب. يا للضلال الذي كنت فيه! وهل حياة الإنسان كلها مادية لا يحتاج فيها إلا لمطالب الجسد التي يريد مذهبهم؟ أليس للإنسان رغبات أخرى؟ ألم يدركوا تلك الحياة التي تمور في نفس الإنسان، متقلبة بين السخط والرضى، أو الإقبال أو النفور، أو الانشراح، بلا داع إلى السخط، أو الرضى أو الإقبال أو النفور أو الضيق أو الانشراح؟ أين نولي وجوهنا عند الضيق؟ وأين نولي وجوهنا عند الرجاء؟ وأين نولي وجوهنا عند الخوف؟ وأين نولي وجوهنا عند المرض؟ ولماذا هذا التساؤل جميعا؟ أين نولي وجوهنا في هذا السجن الذي ألقيت إليه؟ أنا الآن لا أحتاج إلى طعام ولا شراب، بل إنني هنا في السجن مكفول الرغبات، مهما تكن هذه الرغبات محققة بأبخس ما تقبله النفس من خبز أسود وأدم حقير، إلا أنني على أية حال مكفول الرغبات، فهل أنا مستقر الحياة، هادئ على الطريق، لا أحتاج إلى أن أقول «يا رب»؟ فما لها انطلقت من صميم الفؤاد؟ ما لي وجدت نفسي أقول «يا رب»، دون أن أفكر في قولها؟ إنني الإنسان، أنا عالم في نفسي، عميق الغور، جموح العواطف، موار الأمواج، وويل للإنسان إن ضحل غوره، أو هدأ عاصفه، أو استكانت الأمواج فيه، إن جمال الإنسانية في هذه الإشراقات التي تعقب الضيق، وفي هذه التقلبات التي لا يستقر بها قرار، فمن لي في هذه الأنواء؟ وماذا أقول إن لم أقل يا رب؟
لقد فكر المذهب في كل شيء ونسي الإنسان الكامن في نفس الإنسان، الطبيعة الإنسانية هي أشد أعداء المذهب عنفا.
ولكن ما لي أجهد في إقناع نفسي بأن أترك اقتناعي بمذهبي؟ هل مر علي حين من الأحيان كنت فيه مقتنعا بمبدئي كل الاقتناع، هل أذكر لنفسي فترة كان المبدأ خلالها مستقرا في عميق إيماني؟ لا أذكر ... أنا لا أذكر أنني كنت عميق الإيمان بشيء على الإطلاق، لم أكن خالص الإيمان بمبدئي، كما لم أكن خالص الإيمان بشيء، كان هذا هو سر شقائي، حاولت أن أهرب من القلق والفشل إلى المبدأ، فخيل لي أنني مؤمن به، ولكنني كنت أعلم دائما أنني أحب فيه الاسم الحركي، وأحب فيه الاستخفاء عن الأمن، وأحب فيه إثارة هذه السحابة من الإبهام والغموض والأسرار حولي، وأحب فيه لهفة أختي علي كلما رأتني نازلا على موعد اجتماع، وأحب فيه الاجتماع نفسه ومناقشة أمور الكون جميعا، كنا نتحدث عن العالم أجمع، وكأننا نحن حكامه، وكنا نتخذ العالم أجمع مجالا لتطبيق النظريات التي تعلمناها، والمبادئ التي نعتنقها، كنت أرى نفسي في هذا الاجتماع ندا لله ذاته، فحق لي إذن أن أبحث في وجوده وفي تعاليمه، لم أكن أحسه فكفرت به، واعتقدت أنني آمنت بمبدئي، ولو أنني أزلت عن نفسي ما تتخذه من أقنعة، ولو أنني التقيت بنفسي لقاء خالصا من كل زيف نتستر خلفه، لعرفت أنني كنت أومن بمظاهر مذهبي، دون أن أومن بمذهبي ذاته.
إني أعرف ذلك في نفسي، ولن أنسى تلك الانتقاضات التي كنت أواجهها من نفسي بين حين وآخر، ولن أنسى أنني كنت أقر مضطربها وأسكن مائجها، لقد كنت محتاجا لمذهبي، لأقنع نفسي به أنني ذو شأن، لم أستطع أن أكون ذا شأن في شيء، فاتخذت هذا المذهب، وإنه والحق يقال، يمد النفس بشعور ضخم من الأهمية، إن هذه مشكلة لا بد لي أن أواجهها الآن ما دمت ألتقي مع نفسي في هذه الصراحة التي لم نتعودها، وما دمت أنتوي أن أترك المذهب ... هل سأتركه؟ نعم، لقد آمنت بالله وأحسسته، والمذهب لا يقبل مؤمنا بالله، إذن ففيم يكون تفوقي؟ لو أن المذهب يقبل منضما له ومؤمنا بالله؟ إذن؟ إذن ماذا؟ إذن لظللت منتظما في سلكه، إن للمذهب ألفاظا حلوة الرنين، سريعة النفوذ إلى الإحساس، كان يعجبني فيه أنه لا يساوينا بالقطيع، ولكن أي قطيع يقصد؟ أليس القطيع هو الشعب الذي يريد المذهب له العدالة والإنصاف من الأغنياء، ويريد أن يسوي بينه وبين جميع الأغنياء، فلا يكون في العالم غني، ولا يكون في العالم فقير، لا شك أن هذا معنى من معاني القطيع، وهناك معنى آخر ... قطيع الذين سبقونا، ولكن أليس المذهب نفسه يقدس قطيعا سبقه من الذين أسسوه ووضعوا دعائمه الأولى، قطعان نحن في كل منحى من مناحي الحياة، ولكن ماذا يضيرنا أن نسير في طريق قطعه من قبلنا، بل كيف نعرف أخطاء السابقين، إذا كنا لا نرود طريقهم، بل كيف نتقدم إذا نحن لم ندر أين وقفوا؟! إن نقطة النهاية في سير من سبقونا، هي نقطة البداية في سيرنا، وهكذا يتقدم العالم، لا يستطيع كل جيل أن يكفر بما سبقه، وإلا ظل العالم واقفا في مكان واحد لا يتقدم، إن تقدم العالم خطوات من الأجيال المتلاحقة، واعتراف من اللاحق بفضل السابق، وتصحيح من اللاحقين لأخطاء السابقين ... وهناك قيم إنسانية وضعتها الأجيال ، ثم لم تغيرها الأجيال، وهناك مشاعر إنسانية بدأت مع الإنسان، ولم يستطع الإنسان أن يغيرها، لأنها جزء منه، هل يحق لنا نحن اللاحقين أن نعدو على هذه القيم فنغيرها، أو هل يحق لنا أن نغير هذه المشاعر؟ هل يجوز لنا أن نغير ما استقرت عليه الأجيال من تقديس الحرية والعدالة والآداب العامة التي تعارف الناس عليها، والأمانة والشرف والوطنية؟ هذه القيم وأمثالها، هل يجوز لنا أن نعدو عليها؟ لا نستطيع، فهل يجوز لنا أن نغير المشاعر؟ السؤال في ذاته غير جائز، لأنه ليس في طوع الإنسانية أن تغير المشاعر ... كيف نغير مشاعر الحب والبغض، والضيق والسرور والفرح والألم، والراحة والاضطراب، أجيال مضت وأعقبتها أجيال، والقطيع سائر يتقدم في العلم وفي الفن، ولكنه يقف عند هذه المشاعر، كل جهده إزاءها أن يحللها ويصفها ويرسمها، ولكنه أبدا لم يستطع أن يغير منها شيئا، فالقطيع إذن كلمة نقولها فنبغضها، ولكننا إذا مشينا قليلا وراء معناها، وجدنا أن سير القطيع هو الذي بلغ بالمدنية إلى هذا المدى الذي بلغته اليوم، على أن يكون في القطيع عقول واعية تدرس وتفكر وتطمح إلى التقدم، وتسعى إليه وتبلغه، أو تترك من الآثار ما يجعل الإنسانية تبلغه، هو ليس قطيعا إذن، إنه الإنسان يسير في طريق الحياة، وله هدف محدد واضح، هو نمو الإنسانية وتقدمها وبلوغها إلى أسرار الكون، وانتفاعها بهذه الأسرار فيما يفيد الإنسانية جميعا ... الإنسانية إذن تجمع السابقين واللاحقين، ومن يخرج عن ركابها عضو أبتر فلا نفع فيه، إن من يقف على حافة الطريق، ويسخر من السائرين ولا يشجعهم، عضو أشل ضعيف، أشفق من السير، وخاف الطريق، فوقف يريد أن يعرقل السائرين ويعوق تقدمهم، ولكن الإنسانية أقوى منه ومن كيده، فهو يسخر ثم لا يصنع شيئا، لقد كنت كذلك، إنني لم أسر مع أحد، لم أسر مع مذهبي ولم أقتنع به، ولم أسر مع غير مذهبي، وسخرت منه، لقد كنت إذن على هامش الطريق، الإنسانية لم تستفد مني شيئا، لعلي كنت مشفقا لأني لم أستطع أن أكون ذا موهبة في شيء، ولكن هل لا بد أن أكون حتى أسير الطريق؟ هل كل إنسان في العالم ذو موهبة، كيف تستقيم الحياة، وكيف يكون صاحب الموهبة فذا إن كان يستوي فيها مع الناس أجمعين؟ إنني الآن أعرف أنني لست صاحب موهبة، ولكنني أيضا تبينت الطريق والهدف، إن خير ما أستطيع أن أفعله أن أكون إنسانا، إنسانا يسع العالم أجمع في قلبه، يشفق على الضعيف ويعينه، ويفرح للناجح ويشجعه، ويؤيد القوي إن كان على حق ويضعه على الطريق إن أخطأ، ويثور في وجهه إن عدا وظلم وبغى، فلن ترى الإنسانية أبشع من قوي يظلم ولا يجد من يقول له ظلمت، إنني الإنسان، أهم عنصر في هذا الوجود الضخم، المواهب جميعها تسعى لإسعادي أنا الإنسان، فهل أستطيع أن أكون إنسانا يستحق ما تقدمه له المواهب؟ هل أستطيع أن أتذوق الفنون وأحسها؟ وهل أستطيع أن أتابع التقدم العلمي وأعينه بجهدي الذي لا يتمتع بموهبة، وقبل كل هذا هل أستطيع أن أسع في قلبي المخطئ ولا أهينه، والمحسن ولا أحقد عليه؟ وهل أستطيع أن أغالب نفسي فلا تسعى إلى الشر؟ بل هل أستطيع أن أتيح لخير نفسي أن يتغلب على شرها؟ لكن هل أصادق الشرير؟ لا، فليس هذا من الإنسانية في شيء، فصداقته تشجيع له على المضي في شره، فهل أجازيه الشر بالشر؟ إن اقتصر العقاب عليه فنعم، هل أستطيع أن أحب الجميع؟ هل أستطيع أن أحب أبي؟ نعم. نعم؟! إنني أدري أنه هو الذي ألقاني إلى هذا الشك، وإلى هذه الحيرة، لم أستطع أن أحترمه أبدا، ولكن ما ذنب أبي؟ إن في نفسه عوجا، ولكن من يستطيع أن يحتمله إن لم أحتمله أنا؟ ومن يعينه إن أنا لم أعنه، إنني أريد أن أكون إنسانا، فهل أستطيع؟ الطريق وعر، ولكنني سأستطيع.
अज्ञात पृष्ठ