54

وإذا عاب الماديون على الفكريين أنهم يتوارثون أوهام الأقدمين في المسائل الروحية، ولا يتخلصون منها على ضوء العلم الحديث، فمن واجبهم أن يذكروا نصيبهم من هذه الوراثة، ومن هذا العجز عن الخلاص من بقايا القرون الخالية، فما يزال في أذهانهم أثر - بل آثار - من صورة الأرض التي تقابل السماء وتناقضها في الجوهر والبناء، فلا ثبوت عندهم إلا لهذا القرار الذي يصدم القدمين، ولا معنى عندهم لما بعد الطبيعة، ولا يجوز عندهم أن تكون الطبيعة نفسها حقيقة وراء الحواس ووراء العقول.

الفصل الخامس

الإيمان

لم يكن العلماء المفكرون في القرن السابع عشر أفضل تفكيرا من خصومهم الجامدين من رجال الدين في زمانهم أو من عامة الجهلاء المقلدين.

كان الخصمان المتنافران يصلان إلى النتيجة الواحدة من المقدمة الواحدة.

إثبات دوران الأرض حول الشمس ينفي وجود الله، ويبطل الإيمان به عند هؤلاء وعند هؤلاء، فهم من الجانبين المتقابلين يفكرون على نسق واحد، ويرجعون إلى قضية واحدة في فهم الكفر والإيمان.

ولم يخطئ العلماء المفكرون هذا الخطأ؛ لأنهم أساءوا فهم العلم، وعجزوا عن التفكير القويم، وإنما ساقهم إلى الخطأ أنهم خلطوا بين الإيمان وبين رجال الدين، وخيل إليهم أن رجال الدين هم أصحاب قضية الإيمان وهم المختصون بفهمها وتفسيرها، والهداية إلى أسرارها، فإذا بطلت دعواهم بطلت دعوى الإيمان من أساسها، ولم يبق لأحد حق بعد حقهم في تجديدها واستئنافها.

ولو تمادى العلماء المفكرون كلهم في هذا الخطأ حتى اليوم لصح القول بقضاء العلم على الدين منذ ثلاثة قرون، وتقرر في الأذهان أن العالم يبتعد من الدين كلما ازداد نصيبا من معارف العلم الحديث.

ولكننا اليوم بعد ثلاثة قرون لا نستطيع أن نقول: إن العالم أبعد من الدين مما كان عند ظهور طوالع العلم الحديث، ونستطيع أن نقول على التحقيق: إن نصيبه من العلم الحديث أوفر وأوفى من نصيب العالم في القرن السابع عشر، بل من نصيبه عند بداءة القرن العشرين.

ما الذي تغير من تفكير علماء الأمس وعلماء اليوم؟

अज्ञात पृष्ठ