وكان الوقت وقت شتاء، وقد هاجمهما بلعمان ببروقه وأصوات رعوده، فتعذر عليهما السير وضلا عن الطريق، فدخلا مغارة ليلتجئا فيها من البرد والأمطار، وكانت الشمس قد أفلت، ونشر الليل جناحه على تلك الجبال الجرداء، ثم ساد السكون المخيف، وكانت الأرض قد تغطت بالثلج الناصع البياض، ولم يكن إلا هنيهة حتى سمعا صوت زئير الوحوش الضارية تقترب منهما، كأنها تقصد المبيت في ذلك الكهف، فهرولا متسللين.
وكان حبيب قابضا على ساعد فاتنة، يساعدها على المسير فوق تلك الثلوج، ولم يسيرا طويلا حتى سقطت على الأرض خائرة القوى، وهي ترتجف من البرد والتعب، فاحتملها على ذراعيه، وسار بها يبحث عن مكان آخر يأوي إليه؛ لأن الليل اشتدت ظلمته، وتكاثف الضباب، وهبت من الغرب ريح عاصفة ضربت السحائب ضربا عنيفا، وانقضت من السماء صواعق متتابعة، يتخللها تألق البروق، وقصف الرعود، وزئير الوحوش، فداخله رعب شديد، ولا سيما أن فاتنة لم تعد قادرة على احتمال تلك الحال، فجلس بها في ذلك القفر، وأخذ يفرك يديها ورجليها؛ ليعيد إليها ما فقدت من الحرارة.
ولم يمض عليهما ساعة وهما على تلك الحال من المشقة، حتى سمعا صوت جرس عن بعد، وظهر حالا أمامهما كلب كبير يتبعه شيخ بلباس أسود، بيده سراج صغير يستنير به في أعماق تلك الظلمات، فلما رآهما الشيخ أسرع إليهما وقال: هلما إلي أيها الولدان المباركان.
فنهضا للحال، وتبعاه وهما يشكران الله الذي أرسله لنجاتهما، فقادهما إلى منسكه، ولما دخلاه واستقر بهما الجلوس أخذا يشكران الشيخ على إنقاذهما من يد الهلكة. فقال: بل اشكرا الله الذي قاد خطاكما إلى هذه الناحية، حتى اتفق لي العثور بكما، فإني مثل هذه الأيام أخرج كل ليلة؛ لتفقد من عسى أن يكون قد ضل عن الطرق، فيأوي إلينا، وقد علمت كلبي أن يطوف في ليالي البرد والثلج، ويشم رائحة المسافرين الذين يدفعهم القدر إلى هذا القفار، فإذا عثر بأحد منهم عاد إلي فقادني إليه، أو سمع المسافر صوت الجرس الذي علقته في عنقه فاهتدى به إلي.
ثم إن الناسك قدم لهما طعاما يقتاتان به، وبسطا من العشب اليابس ليناما عليه، فأكلا هنيئا ثم استغرقا في نوم عميق.
ولما أصبحا خرجا إلى باب الكهف، وكان المطر قد انقطع وانجلى وجه الأفق، وبرزت الغزالة من وراء الجبار، فرأيا أمامهما السهول الشاسعة والأودية الوعرة مكسوة بثلج يتلألأ بنور الشمس، وللحال ركع الناسك وصلى صلاة الصبح، فركعا معه، وبعد ذلك جلسوا، فأخذت فاتنة تحدثه بما لقياه من العذاب في ذلك السفر العنيف، وقصت ما كان من أمر الفتنة الجبلية، وأن أباها كان من أعظم الموقدين لنارها، وكانت في أثناء ذلك تتفرس في وجه الناسك؛ لترى ما يبدو منه متى علم أن التي صنع معها ذلك الجميل وأضافها كهفه، هي ابنة ألد أعداء قومه، ولما لم يبد منه ما تتوقع، سقطت جاثية على قدميه والدموع تترقرق في مآقيها وقالت: ما هذا الكرم يا أبت، وكيف لم تطردني بعد ما علمت من أنا، ولم تعاملني بما استحققته بخطيئة ذوي وأهلي، والآن فاعلم أيها الأب الفاضل بأني مسيحية، ولست بدرزية كما سأقص عليك من أمري.
فأجابها الراهب بصوت رزين: يا بنية، إن الله يأمرنا بمصافاة الجميع على حد سواء، وهو وحده يجزي المرء كما يستحق، فاجلسي وقصي علي خبرك. - اعلم يا أبت أني ولدت من أسرة مسيحية في مدينة دير القمر، أثناء الثورة التي حدثت سنة 1842، وقتل والدي وأنا في الأسبوع الرابع من العمر، ولم ترزق والدتي من الأولاد سواي، فربيت في مهد اليتم والهموم، واحتملتني والدتي على ذراعيها، وسارت بي هاربة من مكان إلى آخر، حتى انتهت إلى مدينة بيروت، فأقامت بها مدة أربعة أشهر، غريبة وحيدة تعيش من تعب يديها إلى أن سكنت الثورة، واستتب الأمن، فعادت بي إلى دير القمر.
إلى أن كانت سنة 1845 فعادت الثورة، وقامت رحى الحرب بين الطائفتين المتعاديتين، وعاد الناس إلى التشتت في أنحاء البلاد، وكان لوالدتي معرفة بأسرة بني جنبلاط، الذين كان زمام الأمر في تلك الأيام في أيديهم، ودار حكمهم في بلدة قريبة يقال لها المختارة، فأسرعت والدتي إلى تلك البلدة، ولجأت إلى الأسرة المذكورة، فصادفت عندها كل رعاية وصيانة.
غير أنها لكثرة ما احتملت من الخوف والشقاء مدة خمس سنين أصابها مرض عضال قضت بسببه، وبقيت وحدي في تلك الدار لا أعلم لي أبا إلا رب الأسرة، وكان يعزني إعزازا شديدا، فأحسن معاملتي وجعلني كإحدى بناته، حتى لم يكن هناك من يرتاب في كوني ابنته، وبودي لو أتيح لي أن أشكر نعمته قبل مزايلة منزله والمكان الذي ترعرعت فيه، وقضيت خمس عشرة سنة على أتم الرفاهية والهناء، ولكن قضت الأقدار بما أوجب خروجي عن هذه الحالة.
وكان حبيب كلما أوغلت في الحديث يشعر بأن حملا ثقيلا يزول عن صدره، وهو لا يتحقق هل كان في يقظة أو في منام، فلما انتهت إلى آخر عبارة من حديثها عقب عليها بقوله: لقد خرجت أيها الأب الفاضل من ذلك المنزل الذي كان ملجأها الوحيد ومقر سعادتها ونعيمها، واحتملت من المشقات والأهوال والتعرض للأخطار ما يعجز وصفه؛ لتنقذني من عذاب السجن، وتخلصني من مخالب الموت، وتشاطرني بعد ذلك أنواع الشقاء والبلاء، فليس لدي ما أقدمه لها مقابل تهورها وحبها سوى قلب لم تبق لي النوائب غيره، ويد لا تمتلك غير قبضة السيف لصيانتها، فبارك يا أبت حبنا، وكن شاهدا على صدق ودنا.
अज्ञात पृष्ठ