الفصل الثاني
شرك الحب
وبعدما سكن جأش الفتنة، جعل حبيب يتردد إلى البلدة التي فيها فاتنة، وتسمى بالمختارة، وهو غير مبال بشدة الخطر الذي كان يترصده من الأعداء، فكان يتنقل من مكان إلى آخر متنكرا، حائما حول منزلها حتى يفوز منها بنظرة تلطف حر قلبه، ثم يعود من حيث أتى وقد امتلأ فؤاده بهجة وسرورا، وكثيرا ما كان هذا الحب سببا لوقوعه في يد أناس من أعدائه، فينجو منهم بقوة ساعده وشدة بأسه، إلى أن جاءه يوم لم تنفع فيه بسالة ولا جهاد، فوقع في أسر أبيها وغل في سجن مظلم، فأقام يتوقع الموت في كل آن لما كان يعلمه من قساوة الحاكم واستبداده، وحبه للانتقام وسفك الدماء.
ودام على تلك الحال بضعة أيام لم يذق في خلالها لذة الكرى؛ لشدة ما لقي من سوء المعاملة، ومن أثقال القيود والسلاسل التي لم يقدر على احتمالها.
وجلس في إحدى الليالي أمام نافذة السجن يراقب النجم في كبد السماء، ويفكر فيما آل إليه حاله، وكيف أبعد عن فاتنة لبه كل تلك المدة، وهي لم تبال بمصابه الذي سببته له، ولا سعت في إنقاذه من مخالب الموت الذي كان يتهدده، مع تيقنه أنها لا بد أن تكون قد علمت بما جرى له، فأخذ يؤنب نفسه؛ لتورطه في هواها وتعرضه للأخطار بسببها، وهي تعرض عنه في أوان الضيق، ولا تحتال لتخليصه من عذابات السجن، ولكنه مع كل هذه الأفكار لم يكن يشعر إلا بقوة سلطانها على فؤاده، وأنه سيموت سعيدا لأجلها، وعلى هذا الأمل أطبق جفنيه واستغرق في نوم عميق.
الفصل الثالث
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولم يمض على نومه إلا قليل من الزمن حتى شعر بأيد تحل قيوده، فاستيقظ للحال وهو يظن نفسه في حلم، ونظر فوقه فرأى شبحا أبيض منحنيا عليه، لم يتمكن من تمييز وجهه بسبب الظلام، فهم أن يتكلم مستفهما لو لم يشعر بيد لطيفة يعرفها قد وضعت على فمه، فهمس قائلا: فاتنة ...
فلم تجبه بشيء، بل أخذت بذراعه وسارت به في ذلك الظلام الدامس حتى انتهيا إلى باب السجن، فخرجا دون أن يعترضهما الحراس؛ لأنها كانت قد سبقت إليه بالأصفر الرنان الذي غل أيديهم وأخرس ألسنتهم، ولما خلا لهما الجو تنفس حبيب نفس الراحة، ومال إلى حبيبته يشكرها على حسن صنيعها، وما اقتحمت لأجله من الخطر والتعرض للوقوع بين مخالب المنية، فقالت له: إن حياة أنت سبب بقائها لحرية بأن تبذل لأجلك وتكون وقفا عليك، والله يعلم أني منذ بلغني وقوعك في هذا الأسر، لم يأخذني منام ولا غفلت ساعة عن السعي إلى أن فزت بأمنيتي، بعد أن اتخذت لذلك أعظم نصير، وهو الرشوة التي لم يكن لي بد منها في مثل هذا الحال، حتى تمكنت من إنقاذك من سجن سيكون قبرا يدفن فيه أولئك الأبرار المساكين ... فهيا بنا نرحل من هذا المكان الذي يتهددنا فيه الخطر من كل الجهات.
وعلى ذلك خرجا يجدان المسير حتى ابتعدا عن البلد، واقتربا من دير القمر ... وعندئذ ظهرت أشعة الغزالة على تلك المروج الخضراء، فجلسا على أكمة ليستريحا من مشقة الطريق، ثم خافا أن تراهما عين عدو من أتباع الحاكم، فنهضا يسيران بين تلك الأدغال، ويتستران بالأشجار الكثيفة، وبقيا يمشيان تارة ويجلسان تارة حتى قطعا مسافة طويلة، وكان التعب قد أخذ منهما كل مأخذ، وكلت قوى فاتنة عن مواصلة السير، ولكنها تجلدت ولم تبد الشكوى.
अज्ञात पृष्ठ