وبين دكاكين الصبة بيوت التجارة والشركات الإنكليزية والأوروبية، وفيها النظام والاجتهاد، والمطامع المستغلة لضعف العباد. إن فيها المال والسيطرة، وليس فيها شيء من الوداعة والقناعة، وليس فيها من اللطف غير المكتسب، ابن التعمد والاجتهاد، وهو من لوازم النجاح في المعاملات التجارية وفي المشاريع الاقتصادية والمالية.
هي ذي بعض المناقضات، ومنها كذلك المخازن والمستودعات التي كانت «أحواشا» في الماضي. فإنك لترى فيها البغداديين، على اختلاف أديانهم وعناصرهم، وكلهم واحد في القناعة والاحتراس، وقل في التقاعد والنعاس، لا يبالون، جاء أم لم يجئ الزبون.
إن شارع المستنصر، خلاف شارع الرشيد، ساكن الطرف، بالرغم عما أسلفت من وصف إحدى نواحيه، قليل الضوضاء، فقلما تجد فيه غير العربة يجرها الخيل، وبعض السيارات، وإن فيه، بما أنه على النهر، الحمامات للرجال والنساء.
وقفت أمام باب مفتوح مهجور، فغرني حب الاستكشاف، فنزلت الدرج، فسمعت قهقهات أنثوية فعدت أدراجي، فإذا بوليد يعدو إلي ويقول: ممنوع، ممنوع! فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا الحارس، والحريم تحت في الحمام.
أما حمامات الرجال فهي كذلك تحت مستوى الشارع - وقد تكون سراديبها تحت مستوى قعر دجلة، بيد أن القسم الأعلى منها باد للعيان، فالباب مفتوح، والستر مكشوف، والقيم والخدامون في جيئة وروحة حاملين المناشف والقباقيب.
أطللت على واحد من هذه الحمامات فإذا بغرفة الاستقبال تحت قبة مستوى سطحها يعدل مستوى الشارع - قبة تحت الأرض! - وكل ما تحتها زاهي الألوان، منعش للأرواح والأبدان ... طابت حمتك يا شوق الزينات. طابت حمتك يا فتنة القلوب ...
إنه ليصعب على المرء المشغوف بباهر ذلك الزمان الغابر، أن يجول في هذه المدينة، دون أن يستسلم إلى طيف من أطياف الأساطير أو التاريخ، وينعم بشيء من الخيال الذي تتجلى فيه عرائس الإنس وأبطال الجن، فإن في هذا الشارع الكثير المباغتات أزقة قصيرة، هي «الدربونات» التي تفضي بك إلى النهر، وقد استهوتني إحداها، فسرت بين «أحواش» أبوابها عريضة فخمة دكناء، لبعضها خوخات، ولجميعها مطارق من حديد تنوعت أشكالها، وجودت صنعتها.
ومع أن أكثر هذه الدور أمست مستودعات للخشب الذي تجلبه بغداد من الموصل ومن الهند فما زال الإنس فيها يكنسون ، والجن يزمزمون، خصوصا عند الضفة بين الدارين المشرفتين على النهر، وقفت هناك أتأمل تلك الرواشن القائمة بعضها فوق بعض، وما كان وما يكون من باطن أمرها. هي الحياة في حقائقها الرائعة المروعة، وفي أحلامها الباهرة المبهجة. هي الحياة في الأمس، وهي الحياة اليوم وغدا، أحوال تحول، وآمال لا تزول. قلوب تذوب، وأشواق تذهب وتئوب.
إن هذه الأحواش إسلامية البناء أو بالحري عربية، فقد رأيت في جدة وفي الحديدة مثل هذه الرواشن، ومثل هذا الاضطراد في هندستها. إنما هي تمتاز في بغداد بما يجاورها ويهيمن تحتها.
لقد شغفتني الدار القائمة على دجلة. شغفتني حبا؛ لأنها في آخر الزقاق، فلا تتقيد بكل ما فيه من مضايق وظلمات؛ ولأنها على طريق النهر، فيستطيع من فيها الفرار، في ضوء القمر أو في نور الشمس، دون أن يراهم الحارس أو الشرطي أو أحد من الجيران؛ ولأنها كثيرة الرواشن، فترحب في الأقل بالهواء وبالنور؛ ولأنها مقفلة الأبواب والنوافذ، ساكنة مستسرة، كأنها قصر لبنات الجان، أو مركز لأرباب الجن.
अज्ञात पृष्ठ