مواكب الماضي
الحقائق ...
الزيارة الأولى
الزيارة الثانية
شارع المستنصر
مغزى اللبنة
آثار العباسيين
الآثار التترية
المقامان الأعظم والأشرف
كنج عثمان والباز الأشهب
अज्ञात पृष्ठ
في مقبرة الكرخ
الصوفي الأكبر
المرأة المجهولة
غزوات الأثريين
خطبة بين كربتين
ضعف المعارضة
قوة المعارضة
عثرات التعليم الوطني
مبارزة في علم التعليم
في واحات الشعر
अज्ञात पृष्ठ
الصولجان والرمح والعصا
مواكب الماضي
الحقائق ...
الزيارة الأولى
الزيارة الثانية
شارع المستنصر
مغزى اللبنة
آثار العباسيين
الآثار التترية
المقامان الأعظم والأشرف
अज्ञात पृष्ठ
كنج عثمان والباز الأشهب
في مقبرة الكرخ
الصوفي الأكبر
المرأة المجهولة
غزوات الأثريين
خطبة بين كربتين
ضعف المعارضة
قوة المعارضة
عثرات التعليم الوطني
مبارزة في علم التعليم
अज्ञात पृष्ठ
في واحات الشعر
الصولجان والرمح والعصا
قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
تأليف
أمين الريحاني
مواكب الماضي
وكان الكهان في معبد عنليل بأور ونبور يؤلهون ملوك سومر، الدولة الأولى في وادي الرافدين.
وما الذي صنع أولئك الملوك والكهان لخير السواد من الناس؟
وسرجون الأول - ملك أكاد - اكتسح السومريين، وفتح بلادهم، ومد ملكه جنوبا إلى الخليج، وشمالا إلى الجبال.
अज्ञात पृष्ठ
وما الذي قام به سرجون وخلفاؤه لخير السواد من الناس؟
ومن الجبال في الشرق والشمال انحدر بجيشه كدور ناخنتا، ملك عيلام، فغزا بلاد سرجون واكتسحها، وحمل تماثيل آلهتها الكلدانيين إلى أشمونا عاصمة عيلام.
وما الذي صنع كدور هذا، وما الذي شاد خلفاؤه العيلاميون لخير السواد من الناس؟
مدينة القصور والمعابد
للملوك والكهان
والجهل والفقر والعبودية
للسواد من الناس
وكان كهان عشتروت بنينوى، وكهان مردوخ ببابل، يتعاطون السحر والشعوذة، ويملئون بطونهم من ضحايا الهيكل، بينما ملوك بابل وآشور يحتربون ويتطاحنون من أجل السيادة والمجد.
السيادة والمجد للكهان وللملوك، والسحر والنير للسواد من الناس.
وحمورابي أول المشترعين، وآشور بنيبال أول المحبين للعلم والعلماء.
अज्ञात पृष्ठ
واحتان في البادية، مصباحان في الليل الدامس.
وسنحاريب الفاتح، ونبوخذ نصر المصلح.
ناهب فينيقية.
من جبال الشمال تدفق الثتيون، ومن جبال الشرق انحدر إكزارس يقود جنوده الماديين، ومن السهول في الجنوب سارع جيش بابل إلى نجدة جيش مادي، وقد حالف النهران المحاصرين - طغى الفرات، وطغى دجلة طغيان الجيوش الفاتحة - وصاحوا كلهم قائلين: لتسقط نينوى! سقطت نينوى، وبعد ست وثمانين سنة سقطت بابل.
دول تدول، ومجد بعد مجد يحول، مجد سومر وعيلام، ومجد بابل وآشور، ثم ينتقل صولجان الملك من يد الساميين في وادي الفرات إلى يد الآريين من الملوك.
وما الذي صنع الآريون من أجل السواد من الناس؟ أفي سبيل المجد تشيد الدول أم في سبيل الإنسان؟ إنهم لظلامون، الساميون والآريون جميعا. إنهم النهابون الفاسقون. شيدوا المعابد والقصور، وسخروا لها العباد. ألهوا أنفسهم، وكانوا قساة عتاة، وكانوا عبيدا للشهوات. •••
ومن مهد الثقافة الغربية جاء تلميذ أرسطو، الشاب العجيب إسكندر المقدوني. اجتاز البحر إلى الشاطئ الآسيوي. قاد ألوفه الثلاثين، وكان ظافرا في كل مكان. هزم الفرس في واقعة الغرانيق وفتح فينيقيا، واستولى على مصر، وتعقب الملك دارا إلى بلاد الرافدين، فأدركه قرب أربيل، وكانت الواقعة الفاصلة بين الشرق والغرب (331ق.م).
في أربيل أبدل نير من حديد مصقول بنير من حديد عتيق. راح الفرس وجاء الإغريق.
كان الإسكندر فاتحا باسم العلم والنور.
كان الإسكندر مصابا بداء الصرع. غزا الشرق باسم الآلهة، وعاد منه ناقما على الأرض والسماء.
अज्ञात पृष्ठ
ولكنه في بابل كان مجددا.
شاء الإسكندر أن «يأغرق» العالم، فكانت بابل النهاية لصرعة - لسكرة - مفجعة، وكانت النهاية لحلم ذهبي.
قد تحقق قسم من ذلك الحلم، فبدت بعد الإسكندر دلائل التآخي بين الشرق والغرب.
بدت ثم ردت، فقد تغلب البرثيون التورانيون على السلوقيين الإغريق يوم كان ذاك التآخي في ازدهاره الأول، فقضوا عليه.
زرعت بذوره في أرض طيبة في الشرق الأدنى.
فجاءت رومة بجيوشها تدوسه وتسحقه سحقا. وما كانت رومة ممن يحلمون الأحلام.
ومع ذلك فقد كان للرومان فضل يذكر في الرقي والعمران.
عمروا المعابد لآلهتهم، وعبدوا الطرق لجيوشهم. وكانت الآلهة، مثل الجيوش، تستولي على الشعوب والأمم باسم رومة، ومن أجل رومة، بل من أجل القياصرة في رومة.
مدنية المعابد والطرقات هي خير من مدينة القصور والمعابد. القصور للملوك، والطرقات للملوك والصعاليك.
ولكن السواد من الناس في عهد الرومان كان كالسواد في عهد بابل وآشور - عبيدا للكهان والملوك، وحطبا للحروب.
अज्ञात पृष्ठ
وما أفلح الرومان في وادي الرافدين. بعد مائتي سنة من الإغارات والحروب سلمت رومة إلى سلوقية. وما خلا الجو لسلوقية طويلا. عاد الفرس إلى العراق فاستولوا عليه، واستمرت فيه الدولة الساسانية أربعمائة سنة.
والنزاع بين الشرق والغرب، ذلك النزاع الذي كاد ينتهي بعد واقعة أربيل، تجدد بشكل ديني بين المسيحية والوثنية.
وما الذي أثمر جدال أرباب الدين، المتنطعين والمتعصبين، لخير السواد من الناس، بل لخير الناس جميعا؟ •••
وفي ظلمات الجاهلية، في سماء الحجاز، سطع نور النبوءة، نور دين جديد. ومشى المؤمنون مكبرين، وسلاحهم الإسلام وكلمة التوحيد، فاجتازوا البوادي إلى الأرض الخضراء يرومون الفتح لله، والخلاص للناس. فحملوا على الروم في سوريا، وعلى الفرس في العراق. فكسروا جند هرقل في اليرموك وبددوا جنود فارس في القادسية، وبعد عشر سنوات من وفاة النبي رفعت أعلام العرب فوق قصور فارس، وفوق حصون دولة الروم.
هي نار النزاع بين الشرق والغرب تزداد اضطراما. وهي كذلك أول شعلة من نزاع يجدد بين الساميين والآريين، بين العرب والعجم.
ولكن الإسلام دين التوحيد، ودين العدل والإخاء والمساواة.
المساواة والإخاء في الحروب بين السنة والشيعة! والمساواة والإخاء في الحروب بين التتار والترك والمغول والعرب!
إنما الحكام المسلمون - وخصوصا العرب منهم - يفوقون سواهم في العدل والإنصاف، بل في كرم الأخلاق والمبرات؛ فقد كانوا على الإجمال أكثر حلما وعدلا من أكثر ملوك الفرنجة.
يصح هذا في الخلفاء الراشدين، وفي بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين. أما الدولة العباسية في العراق فما كانت، على الإجمال، المثل الأعلى في العروبة، ولا كانت المثل الأعلى في الإسلام. أول خلفائها «السفاح» وآخرهم العاجز المستعصم بالله.
وهرون الرشيد؟
अज्ञात पृष्ठ
شخصية باهرة اجتمعت فيها الأضداد؛ فقد كان هارون ورعا تقيا، وخليعا أنانيا. وكان كثير المبرات والشواذات، عادلا يوما، ويوما ظالما. تارة حريصا على أبهة الملك، وطورا يرمي بها إلى الصيادين ... ولا أذكر بنكبة البرامكة ...
والمأمون، ما تقول بالمأمون؟
المأمون، غفر الله ذنبه في أخيه، هو مثل حمورابي في آشور.
المأمون نجم العباسيين الساطع، ونورهم اللامع على الدوام.
جسر الملك فيصل على دجلة (تصوير الدورادو).
وجاء هولاكو بجيشه الجرار صائلا فاتحا.
هولاكو من كبار القواد المسلمين الذين وقف الإسلام على شفاههم، وما دخل إلى قلوبهم. فهو الذي اكتسح بغداد ودمرها، وأعمل السيف بأهلها.
الدجلة عند بغداد (تصوير الدورادو).
وحكم التتار في العراق نحو مائتين وخمسين سنة، وعاد الفرس فنزعوا السيادة منهم، ثم جاء الترك، بعد ربع قرن، فنزعوا السيادة من يد الفرس واستولوا على البلاد، وظلوا سادتها أربعمائة سنة.
أربعمائة سنة مظلمة، يبدو إلى جانبها العهد التاتاري عهدا سعيدا! •••
अज्ञात पृष्ठ
وفي العقد الثاني من هذا القرن العشرين جاءت الجيوش من الغرب، رجال زرق العيون، متحدرون من ألفريد الكبير السكسوني ووليوم الفاتح النورمندي، وبمساعدة العرب انتصروا على الترك لكنهم حاولوا الحلول محلهم. •••
وبنضال دءوب، عنيف حينا وسلمي حينا آخر، انتصرت الإرادة القومية وقام العراق الحديث مملكة حرة متطلعة نحو المجد.
الحقائق ...
جئت بغداد من أفق كان في قديم الزمان كثير الأنوار والألوان. جئتها وفي القلب أثر عميق مما لا يزال من تلك البهجة في كتب التاريخ والشعر. بل جئتها من عالم الأحلام المدبجة حواشيه بالذهب والأرجوان. وبكلمة أخرى لقد جئت بغداد من عالم «ألف ليلة وليلة». فهل يعجب إذن لخيبتي، وهل يستغرب غمي؟
بيد أن تباين الحقيقة والخيال هو في يومنا هذا كما كان في الماضي. ولكن الزمان يلبس الأشياء ثوبا من التقليد والتقديس، ويرفعها في عيون الناس إلى منزلة الوحي المنزل. يحق لنا إذن - ونحن في هذا الزمان نعرض للبحث حتى الوحي المنزل - أن نبحث وننتقد ما يجيئنا به التاريخ قبل أن نقبله مصدقين معجبين، أو نرفضه مستنكرين.
وليس هذا بالأمر السهل. من ذا الذي يستطيع أن يجيب مثلا على هذا السؤال: أين تنتهي الحقيقة في عهد العباسيين الذهبي، وأين يبدأ الخيال؟ وما هي الحقيقة في عصر هرون الرشيد؟ وما هي الحقيقة في بغداد الرشيد؟ هل ننكر ما جاء بخصوصها في «ألف ليلة وليلة» وفي التواريخ كثير مما في تلك الحكايات؟ لا شك أن بغداد كانت كدمشق أو كالقاهرة، أو كانت تفوقهما في عمرانها وبهجتها. ولا شك أن الرشيد كان يفتخر بها، ويفاجئها من حين إلى حين بطرائفه وغرائبه. ولا شك أن الصيادين كانوا ينعسون بل ينامون على شاطئ دجلة، وهم يرمون بشباكهم للأسماك. إني أصدق كل ذلك؛ لأنه الحقيقة بعينها حتى في هذا الزمان. فهناك بغداد تزين البلاد، وهناك مليك مثل الرشيد من صميم العرب، وله مثل ذلك العباسي رغبة بالتنكر فرارا من أبهة الملك، وحبا باستطلاع أخبار الرعية. وهناك كذلك الشعراء والصيادون.
أما تلك الصلة الأخوية، الرشيدية، «الألفليلية»، بين الملك والصياد فإنك لا تجدها. قد يكون الملك ديمقراطيا، وقد يكون الصياد فيلسوفا سقراطيا. ولكنهما يسيران كل في سبيله، في خط مستقيم أو معوج، ولا يلتقي الخطان حتى يجيء صاحب «أعذبه أكذبه» أو صاحب الحكايات الشهرزادية، فيرى ذات يوم ظل الملك قريبا من ظل الصياد، فيلفق القصة، يؤلف الأسطورة، التي يتذبذب فيها الخطان - الظلان - ويدنو الواحد من الآخر، ثم يتلامسان، ثم يلتفان ويشتبكان، ويتلونان بألوان قوس قزح، ويتكونان أشكالا فنية، رومنطيقية، «ألفليلية» تبهر الأبصار، وتسحر ألباب الصغار والكبار. •••
لست أنكر سحر الآيات، وأعاجيب الحياة، حتى في هذا الزمان. فالصياد البغدادي موجود كما قلت، والملك كذلك من حقائق الوجود. ولا يستغرب إذا أمعن الصياد في الأحلام، وود أن يكون ملكا من ملوك الزمان. ولا يستغرب إذا اشتهى الملك في بعض الأحايين، أن يكون من الصيادين. وقد تتحقق رغبة الاثنين، فيهتف الشعراء قائلين: لا حقيقة ثابتة غير حقيقتنا. الحقيقة الشعرية فوق كل الحقائق.
وإني أسأل سؤالا آخر: كم كان حظ عامة الناس من تلك المدينة العباسية الباهرة؟ هل كان يتمتع الصياد والملاح والإسكاف والفلاح بشيء من تلك النعمة التي كانت تبسط أجنحتها الذهبية في البلاط وفي قصور البرامكة؟ وفي كل مكان قريب من ظلال القصور الملكية والأميرية؟ هل كان للسواد من الناس بعض ما للخاصة من الثروة والثقافة والسعادة؟ هل عم بغداد ذلك الزهو والسرور، وذلك الترف والتأنق في العيش ، وذلك المجد والعز والتذوق؟
لا يلزم أن نعود إلى التاريخ لنجيب على هذا السؤال. فإن لدينا في الحاضر الدليل والبرهان. إن في شرقنا اليوم - في المدن التي لا تزال شرقية، أو لم تمس بغير القليل من مدنية الغرب في العمران - إن فيها من ظلمات الأسواق ومقاذرها، ومن ازدحام الحياة وموبقاتها، ومن النتانة والعفونة والأمراض، ما لا تجده في المدن الأوروبية إلا محصورا في بعض أحيائها التي تدعى
अज्ञात पृष्ठ
Slums . وأما الفرق بين المدينة الغربية والمدينة الشرقية، فهو أن مثل هذا الحي في الأولى جزء صغير منها، وهو في الثانية الجزء الأكبر.
وهذا الجزء الأكبر هو المدينة. أما الدور والقصور، وإن كانت في قلبها، فليست هي منها. وفي الدور والقصور المرافق والأثاث والأعلاق، وفي غيرها الفقر والأمراض والأقذار، والقناعة والاستسلام بين الأقذار. هناك أقلية تستمتع بخيرات الأرض وبطيبات الحياة، وهنا السواد من الناس وهم قانعون بالنعيم المنتظر، وبما تعدهم به الكتب المنزلة.
وبما أن السواد من الناس يعيشون محرومين في الدنيا تراهم شغفين أكثر من سواهم بالقصص والأساطير التي تمثل النعيم المنشود.
حقيقة النعيم، أو بعض حقيقته، للأمراء والأغنياء، وحديث عنه - حكاية أو أسطورة أو قصيدة - للسواد من الناس. ومع أن السينما تغزو اليوم بلاد القصاص، فيتهافت العرب عليها ليروا ويسمعوا شهرزاد هذا الزمان - الشاشة البيضاء وما وراءها - فإن القصاص لا يزال مالكا سعيدا. وله عرشه في القهاوي.
وهذا الشغف بالحكايات والآيات والمعجزات، هذا التعظيم للخيال، هذا التقديس للمحال، لا يزال في الشرقي من الخلال البارزة. فهو يقنع بظل الحقيقة، ويقبل متورعا محبورا ما يحاك من الظلال كما لو كان حقائق دينية، ثم يعلل النفس بلحم تلك الحقيقة ودمها، بجسمها المادي. كذلك كان الشرقي، ولا يزال على الإجمال كذلك.
وقد شحذت هذه الخلة المخيلة منه، فأصبحت بعامل الوراثة شقيقة العواطف في السيطرة على نفسه - في عقائده وأحكامه، وفي آرائه وأهوائه. ولا عجب إذا خضعت كلها للخيال، واعتصمت بالمحال. فمن يستمتعون بطيبات الحياة لا يضيعون الوقت في أحاديثها. ومن يحرمونها يسترسلون في الأحلام التي تزينها المخيلة وتذهبها الأهواء. فتتمثل أمامهم؛ إذ يسمعون القصاص أو يجلسون اليوم أمام الشاشة البيضاء، صورا مستغربة، خلابة.
ومن هذه الصور صورة بغداد في عهد العباسيين الأول. وحسب اللبيب الإشارة إلى ما يولده الشغف بالخيال، والتلذذ بالمحال، من حب المبالغة والغلو، حتى في النظر إلى حقائق التاريخ، وحقائق الحياة اليومية. فالمؤرخ من هذا القبيل شاعر، والشاعر مؤرخ، والقصاص مؤرخ وشاعر معا. بل هم ثلاثة أقانيم لشخص واحد عجيب.
وكلهم مجمعون على ما كان من عظمة بغداد ومدينتها، فقد كان فيها، كما يقول المؤرخون، عشرة آلاف حمام، وثلاثون ألف مسجد! فإذا كان عدد سكان المدينة مليوني نفس، كما جاء في التواريخ، يكون لكل مائتي شخص حمام، ولكل ستة وستين مسجد واحد. والمئتان يقيمون في ثلاثين بيتا، والستة والستون في عشرة بيوت. فهل يعقل أن يكون لكل ثلاثين بيتا حمام عمومي، ولكل عشرة بيوت مسجد؟ •••
العربي يرى ولا يعد. وهو في التقدير، إذا كان ما يراه كثير العدد، يعول على الخيال دون العقل. وهاك المثل. إذا دخل أعرابي إلى بغداد اليوم من الجهة الغربية يرى في ناحية الكرخ، عند الجسر، إلى الجانبين، عددا من المقاهي، ثم يرى صفين آخرين في ناحية الرصافة؛ كذلك عند الجسر، بينه وبين شارع الرشيد. وإذا ما مشى في شارع الرشيد إلى جامع مرجان، يرى بين كل مائة متر وأخرى جماعات من الناس يدخنون الأراكيل ويلعبون الطاولة والدومينو. فإذا سئل بعد ذلك ماذا رأى في بغداد؟ يقول: المقاهي المقاهي في كل مكان. فيحدث عنه من يسمعه ويقول: ليس في بغداد غير المقاهي. فيحدث الثالث ويصفها بالمئات. فإذا سمعه المؤرخ يجزم بالمئات، وقد يتجاوزها إلى الألف أو الألفين. ولكن الشاعر يفضل عليها لفظة الألوف؛ لأنها في الشعر أعذب من مائة، وأبلغ من ألف. وعندما يسمع القصاص الشاعر، ويطفق يلفق الحكايات، فحدث عن مقاهي بغداد ولا حرج.
كذلك تجيئنا الإحصاءات وقد بلغت عشرة آلاف من الحمامات، وثلاثين ألفا من المساجد، وعشرات الألوف من المقاهي. وليس في بغداد اليوم ما يتجاوز الأربعمائة مقهى، أكثرها في الشارع الجديد، شارع الرشيد. وليس فيها من الجوامع أكثر من خمسين، أضف إليها حوالي ضعفيه من المساجد.
अज्ञात पृष्ठ
ويلي من الأرقام! فسينبري لي غدا أحد أرباب التاريخ الحديث المحققين المدققين ويوبخني قائلا: إن في بغداد خمسة وخمسين جامعا وأربعمائة وعشرة مقاه. فينبري له محقق مدقق آخر ويقول: المقاهي هي ثلاثمائة وتسعون عدا، والجوامع تسعة وأربعون. وتحتدم بعد ذلك المناقشة، فيخرج من أحد المقاهي جاحظها ليعدها، ويتبرع أحد الأئمة أو المؤذنين بإحصاء الجوامع والمساجد!
وعندئذ يتبين أننا كلنا في خطأ معيب. وإن كان الفرق، صاعدا أو نازلا، لا يتجاوز العشرة أو العشرين. بيد أن ذلك في علم التاريخ ارتقاء يذكر. والفضل فيه لمن وجه السؤال ذات يوم إلى أحد الصيادين الذي كان يسقف السمك على شاطئ النهر، تحت المقهى، بالقرب من جسر مود، إلى جانب الكرخ. سألته: وهل تعرف كم ببغداد من المقاهي؟ فأجاب: بقدر ما في دجلة من السمك. فقلت: وكم تظن عددها في طرف هذا الشارع؟ فقال: كله قهاو، ولا يحصيها إلا الله!
فرحت أعدها - أحصيها - فإذا هي، من تمثال الملك فيصل إلى الجسر، تسعة مقاه لا غير.
ويلي من الأرقام! فقد يتعطل الفونوغراف في أحد هذه المقاهي، فيولي «أبناء الدومينو والشيشة» وجوههم شطر مقهى آخر، فونوغرافه عامر، وألحانه صياحة - كردية تركية مصرية - فيضطر صاحب المقهى المعطل فونوغرافه أن يقفل بابه، ويودع أصحابه. أو قد يجيء كردي بفونوغراف جديد، وينصبه تحت النخيل، ويضع حوله طاولتين وديوانين من الخشب العادي المسوس، فيزداد عدد هذه المقاهي أو ينقص، قبل أن يصدر هذا الكتاب، مقهى أو اثنين. •••
أعوذ بالخيال من الأرقام. وأعيذك، أيها القارئ العزيز منها. تعال إذن نعتصم بالخيال الشعري. وعندي منه الآن ما لا ينكره العقل، ولا ينفر منه التاريخ.
هاك دجلة، وهاك القفة فيه. تلك القفة التي صنعت بعد الطوفان في مرفأ أور الكلدانيين. وهي اليوم، كما كانت في زمن العباسيين على الأقل، تصنع من الخوص، وتطلى بالقار داخلا وخارجا. فلو عاد إلى هذا الوجود أحد نواتي بغداد القديمة لكان يهلل للقفة، وبحمد الله أنها لا تزال على شكلها الأول، وأن ألف سنة لم تغير شيئا فيها. وقد يكون النوتي البغدادي الذي يحرك مجذافها اليوم من سلالة صياد الرشيد، وقد يكون الجد كذلك لسلالة مقبلة من الصيادين تستمر ألف سنة أخرى. فيجيء رحالة القرن الحادي والثلاثين، ويقف فوق دجلة على جسر معلق من حديد، فيرى القفة، ويعثر بعد ذلك على نسخة من هذا الكتاب، فيستشهد مؤلفه على ألف سنة في الأقل من عمرها.
بائعة اللبن «أم اللبن» (تصوير الدورادو).
وما هذا كل ما في القفة! فبينا صاحبها يجذف من حين إلى حين؛ ليحفظ خط سيرها في مجرى النهر، يبدو لك كنز آخر من الكنوز التي لا تمسها يد الفناء، ولا تعبث بها يد التغيير. هناك، على وجه دجلة، في صباح يوم شمسه كريمة، ترى اللؤلؤ في نقط الماء التي تتساقط من المجذاف، وهو يرتفع فوق الموجة، وترى حول الموجة، وهو يغطس فيها، ذوب اللجين وقد تخلله الذهب الوهاج.
فلو عاد إلى هذا الوجود شاعر من شعراء نينوى، أو غادة من عيد بابل، أو كاهن من كهان أور لهلل - لهللوا كلهم - لهذه الشمس الشارقة، المقيمة على عهدها، الثابتة في خيرها، الناثرة على دجلة، حتى حول مجذاف «القفاف» لؤلؤ الذكريات، وذهب الآمال، الذكريات والآمال التي تنعشنا اليوم وتحيينا، كما أنعشت وأحيت أهل أور، وأبناء نينوى وبابل.
وفي هذه الأرض المنبسطة أرض العراق تجيء الشمس في الشروق والغروب لطيفة النور؛ ناعمة الوهج، لا تحمل الكنانة، كما يصورها الشعراء، لتطارد النجوم، وترمي بسهامها القباب والأبراج.
अज्ञात पृष्ठ
هي شمس الأم تحضن الأرض في الصباح، وتتغلغل حبا وحنينا في قلب العراق وأبنائه.
هي شمس الفنان، تلمس اللازورد في قباب الجوامع، فيستحيل ياقوتا أصفر، وتكسو المآذن البيضاء بحلل من الدمقس المعصفر.
هي شمس المحسن الأعظم، تسير فوق السطوح المسورة، ولا تكشف سرها، وتقف فوق الجفون النائمة، فتبشرها بعودة الحياة.
ساعة في الصباح من السحر المبرور.
ساعة من نعيم الحرارة والنور.
الزيارة الأولى
يقول المؤرخون الثقات: إن بغداد بابلية الأصل، فقد أسسها نبوخذ نصر في المكان الذي دارت فيه رحى الحرب بينه وبين أعدائه؛ تذكارا لانتصاره عليهم، وأسماها بعل داد؛ أي مدينة البعل. ومما يثبت ذلك، ما اكتشفه العالم الإنكليزي السر هنري رولنسون سنة 1848 في الجانب الغربي، فقد اكتشف في الكوخ بقية حصن مبني بالآجر المحفور عليه اسم «نبوخذ نصر» وفتوحاته. وكانت بعل داد لا تزال قائمة، إلا أنها مشرفة على الخراب يوم فتح العرب العراق وجعلوا الكوفة عاصمة البلاد. وظلت الكوفة العاصمة إلى بداءة العهد العباسي، فعقد النية الخليفة المنصور، الذي كان يكره تلك المدينة وأهلها، على بناء عاصمة جديدة، فساح في وادي دجلة شمالا يبحث عن مكان يسره، فآثر السهل المجاور لبعل داد، المقابل لما هو اليوم البلاط الملكي في الجانب الشرقي، فبنيت فيه المدينة المدورة. وقد دعيت بالزوراء؛ «لأن أبوابها الداخلة جعلت مزورة «مائلة» عن الخارجة»، ولكن لمادة زور من المعاني غير المأنوسة، ما تلاعب به أعداء المنصور غمزا ولمزا عليه، فحمله ذلك على إسمائها باسم آخر؛ ولكي يبرهن لهم مروءته وحلمه، وأنه مسالم على الدوام، أطلق على العاصمة الجديدة الاسم الذي كان يعرف به وادي دجلة وهو دار السلام. •••
في الربع الأخير من القرن السادس للهجرة، رحل الأديب الأندلسي ابن جبير رحلته في البلاد العربية، فوصل بغداد سنة تسع وسبعين وخمسمائة (1184م) وكان لما شاهد من المدينة المشهورة من المحزونين. فجع في ما حمله إليها من الشوق والحب والأمل. ولا عجب. فكان قد ولى مجد العباسيين، وذهبت صولة آل بويه، وأشرف عهد السلاجقة في فساده على الزوال، وأمست دار السلام مهدا للفتن، ونهبا للتتر الفاتحين.
بغداد دار الأنس والسرور «قد ذهب أكثر رسمها»، كما جاء في كتاب ابن جبير:
ولم يبق منها غير شهير اسمها.
अज्ञात पृष्ठ
وهي بالإضافة لما كانت عليه كالطلل الدارس، والأثر الطامس. «وما رأى ذلك الرحالة الأندلسي من حسن فيها يستوقف البصر غير دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة الصقيلة.»
تالله، كيف تتشابه المرئيات في القرنين الثاني عشر والعشرين ؟ وكيف تتماثل التأثيرات؟ تأثيرات السائح العربي الأندلسي، والسائح العربي اللبناني. أفما تغير شيء ببغداد منذ أيام ابن جبير؟!
بلى، قد تغيرت أشياء، بل تغيرت المدينة جميعها. وذلك في سنة 1258م؛ أي بعد أربع وسبعين سنة من رحلة ابن جبير، يوم جاء هولاكو حفيد جنكيزخان يغزو بغداد، فاكتسحها وبعد ذلك دمرها.
وعندما أعيد بناؤها كان الناس لا يزالون في ظل النكبة، فما همهم في البناء الأصول الهندسية أو المحاسن العمرانية، ولا كانوا يحفلون بغير اللازم للمأوى والسلامة. بعثت بغداد وما حسنت حالها، إلا بعد ثمانين سنة أخرى؛ أي في أول عهد الدولة التترية الثانية، التي أسسها (1339م) حسن الجلائري.
ثم نكبت بغداد نكبة أخرى في أواخر القرن الرابع عشر، لما زحف تيمورلنك بجيشه عليها، ففتحها وأعمل فيها بعد اكتساحها السيف والنار. فأعيد بعد ذلك للمرة الثالثة بناء ما هدم وتهدم منها.
ومنذ ذاك الحين إلى يوم احتل العثمانيون العراق (1535م)، دالت في هذه البلاد دولتان من التركمان، دولة الخروف الأسود، ودولة الخروف الأبيض. وقد أخذت كل منهما اسمها من الصورة المنقوشة على علمها، لكن ما كان من الخروف الوديع في ذلك الملك التركماني غير الاسم والرسم، وكان للاثنتين في التاريخ آثار بربرية دموية، ثم جاء من بلاد فارس (1509م) الصفوي الكبير إسماعيل، فقضى على «الخروف الأبيض» الذي كان قد ابتلع «الخروف الأسود»، وجدد لفارس عهدا في العراق قصيرا، استمر سبعا وعشرين سنة لا غير، فجاء الترك العثمانيون (1535م) يخرجون الصفويين من العراق وكان لهم ذلك. فما استطاع أولئك الفرس المتحضرون المثقفون أن يعيدوا إلى بغداد خلال عشرين سنة، شيئا من ذلك العمران وذلك الرونق الذي كان لها في الزمن العباسي الأول. فغدت، وقد توالت عليها الفتوحات، وتعددت النكبات، كما كانت يوم رآها ابن جبير «كالطلل الدارس والأثر الطامس.»
وهل دامت كذلك في عهد العثمانيين؟ ألم تهدم مرة أخرى خلال الأربعمائة سنة وتشيد في فترة من الخير والهناء تشييدا حسنا شائقا، كما لو كان سيدها المنصور أو الرشيد؟ يقول العارفون من العراقيين اليوم: إن بغداد كانت على جانب عظيم من العمران، لما حسن الترك في عمرانها الخارجي والداخلي. ولكن الوباء - الطاعون - فتك بأهلها منذ مائة ونيف من السنين، فحالفه دجلة في طغيانه، وكان الاثنان أشد عليها، وأفعل بها، من غزوات هولاكو وتيمورلنك، فقد كان الوباء يذهب بخمسة عشر ألف نفس كل أسبوع، والذين نجوا منه ذهبوا ضحية دجلة، الذي طغى على المدينة فغدا القسم الأكبر منها تحت المياه الجارفة. •••
بعد النكبة الرابعة - وهي الأخيرة إن شاء الله - تهافتت الشعوب على الأرض التي أمست يبابا، وكادت تكون مشاعا، فملكوا ما ملكوه منها، وشرعوا يبنون كما بنى سكان المدينة الغابرون بعد النكبة الأولى. جاء المهاجرون جماعات من كل حدب وصوب، من الجوار ومن بلاد الأكراد، ومن بلاد الأناضول، ومن إيران، ومن البوادي العربية. وما كان بين هذه الشعوب معرفة ما، ولا كان بينهم صلة وطنية، أو حس قومي أو مدني. بل كانوا كلهم غرباء، بعيدين بعضهم عن بعض، ومعادين غالبا لبعضهم لبعض. الرائد يصدق أهله كما يقال. وقد كان لكل جماعة رواد يصدقونها، ولا يصدقون غيرها. فتعيش لنفسها متحفظة متحفزة.
ومع أنهم كلهم كانوا مسلمين، فما جمعت رابطة الدين شملهم، ولا لطفت شعورهم، وما أزالت غير القليل من التنافر والتنابذ فيما بينهم. هؤلاء المهاجرون المتوطنون بغداد، بعد كارثتها الأخيرة، هم أجداد سكانها اليوم. وما كان فيهم من العريقين في النسب العربي غير القليل، منهم آل سويدي وآل سعدون وآل شاري وآل جميل وبيت الألوسي.
أما السواد من الناس، وقل الأخلاط، فلا يزالون اليوم، على الإجمال، كما كانوا في الماضي بعيدين من بوتقة الإدغام والامتزاج. وما غير التزاوج المختلط بينهم - وإن قل - شيئا جوهريا في أحوالهم القومية، ونزعاتهم الجنسية. فالإيرانيون والأتراك والأكراد، وإن تزاوجوا بعضهم ببعض، لا يزالون كما كان أجدادهم منذ مائة سنة أكرادا وأتراكا وإيرانيين. أو إنهم على الإجمال مثل اليزيديين والآشوريين والصابئين، يعيشون عقليا في الأقل بعيدين بعضهم عن بعض، كل جماعة منفردة في شئونها. وما هم سكان بغداد، بل هم سكان الأحياء التي يقيمون فيها، كل جماعة وكل طائفة في حيها.
अज्ञात पृष्ठ
وقد تتجاور الأحياء وتتلاصق بعضها ببعض، ولا تتجاور القلوب، ولا تتلاصق الإحساسات القومية. فالعقلية في كل جماعة لا تزال في الغالب عقلية بدوية، مفتوحة لإخوانهم، ومقفلة دون الآخرين. والعرب في هذا مثل سائر الجماعات، خصوصا العشائر التي لا تزال في ما كانت عليه. فهي تحافظ على عاداتها، وتقاليدها، وأحكامها الخاصة، ولا تنسى، وشرف العرب، ما بينها من دم، ومن عداء قديم. هي ذي المعضلة الكبرى الاجتماعية والوطنية في العراق.
أما بغداد فقد بناها أجداد هذا المزيج من الشعوب، بعد نكبة سنة 1831، كما بنى تقدمهم بعد كل نكبة من نكباتها. بنوها كما يبني من لا يأمن حتى يومه ولا يأمل بطول الإقامة. بنوها كل على ذوقه، وحسب اقتداره، وعملا بالأحوال القاهرة، بدون تصميم، وبدون اتساق، وبدون نظام مدني يرعونه، أو أوامر مجلس بلدي يلتزمونها. بنوها على عجل كأنهم كلهم مسيرون بحاجة يومهم، أو مهددون بكارثة أخرى، ووكلوا أمرهم إلى رب الصدف والتقارير. فنشأت من الجدران المستقيمة جدران معوجة، وعلت السطوح سطوح، ودرجت الأدراج من النوافذ، ولاذت الأواوين بغرف النوم، واشرأبت الشرفات إلى الشرفات، بل امتدت بعضها إلى بعض، فتوسعت البيوت، وتضيقت الجادات، فصارت تدعى بلغة البغداديين «دربونات». ولهذه الدربونات، من الشرفات المتعانقة فوقها، سقوف ظليلة! إنها لهندسة عجيبة أوحت بها الفوضى، وأيدتها التقادير. وما كان الأتراك ليكترثون بهذه أو تلك، ما دام أبناء التقادير والفوضى يدفعون الضرائب. «دربونة» في بغداد القديمة (تصوير الدورادو).
إن في بغداد شارعا واحدا طويلا عامرا يمتد من الجنوب إلى الشمال، من باب شرقي إلى بوابة الأعظمية، في خط مستقيم، إنما لا كالرمح، فيقسم الصوب الشرقي قسمين، كما يفعل الإسفين في الكتلة. فينبسط القسم الأول شرقا في سهل رحب، ويتكون القسم الثاني إلى جانب دجلة في شكل «هرمي» قاعدته العيواضية، ورأسه دار شركات النفط بباب شرقي. وفي هذه المظاهر من نشوء بغداد تبدو بوضوح قبيح تلك الآفات التي ذكرت: الفوضى في البناء، والصدف في التخطيط ، والقدر في أهواء السكان.
وفيها كذلك المتناقضات المدهشات المكربات. فهي قديمة وهي جديدة، وهي متراصة وهي متبعثرة. وهي مدنية وهي بدوية. فالشارع الطويل الذي دعاه الإنكليز بالجديد، ثم غيرت أمانة العاصمة اسمه فدعته شارع الرشيد، هذا الشارع بما فيه من مخازن حديثة، ودكاكين قديمة، ومقاه ودور سينما، وأنوار كهربائية وأسلاك برقية، وعربات وسيارات و«بصات» ومنافذ في جانبيه إلى «الدربونات»، إنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية. والبلدة أو المحلات شرقا منه. وإن كانت بمجملها لا تتجاوز المائة سنة، هي جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها، والتهدم فيها، والقتام، والروائح العجيبة! أما القسم المحاذي للنهر، وفيه الأندية والمقاهي والسراي، وبعض بيوت للسكن جميلة، وبعض البساتين التي تزينها أشجار النبق والنخيل، فما هو بشرقي ولا بغربي! إنما هو جدير بحسن الذكر والتقدير. ولكن في الجهة اليمنى من دجلة - أي الصوب الغربي الذي لا يزال يدعى الكرخ، وخصوصا في الناحية التي تمتد من جسر مود إلى كرادة مريم - دورا على شاطئ النهر، جميلة بوداعتها، وفسحاتها، ونخيلها، وبشرفاتها التي تجري من تحتها المياه. •••
وبين شعراء العرب شاعر من الطبقة الوسطى، ظفر بالشهرة في قصيدة واحدة نظمها، بل في بيت واحد من تلك القصيدة. وقد تكون الشهرة للبيت لا للشاعر، فقد تغنى ابن جهم بمجازفة له غرامية في الجهة اليسرى من النهر قرب الجسر. ومن لا يذكر مطلع تلك القصيدة التي خلد فيها اسم الصوب الشرقي من بغداد:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
يذكرني ابن جهم بالشاعر الإنكليزي طوماس هود الذي وثب إليه قلب الشهرة وثبة عجيبة في قصيدة واحدة أو قصيدتين. ويندر بين الإنكليز من لا يعرف المقطع الأول في الأقل من قصيدته «جسر الزفرات» الذي كان مجلبة للعيون، التي هي مجلبة للهوى. وموضوع القصيدة حسناء قضت نحبها هناك عند الجسر.
كأن الجسور في كل المدن مغناطيس القلوب، أو كأنها شباك للغرام. وقد يكون فضلها أو إثمها في المياه الجارية تحتها، في رائحة الأنهار القرقفية أو رائحة البحار الزنجبيلية، فتبعث في النفس نشوة يعقبها سكرة - سكرات! وقد يكون فضلها أو إثمها في دنوها من الأجل المحتوم المقدر؛ أي من المكان الذي يصلح للانتحار ... «وأوله سقم وآخرة قتل.»
إن كثيرا من الأنهار عند الجسور بأوروبا تشهد بصحة قول ابن الفارض. أما دجلة فلست أدري إذا كان قد شهد مرة هذا النوع من نهاية الحب. ولست أدري إذا كان أهل الغرام في أيام ابن جهم كانوا يؤثرون الجسور للمواعد على المنتزهات والبساتين. إنما كانت هناك مواعد، ولا ريب، واجتماعات. وما فقدت بغداد هذه المزية الاجتماعية، الغزلية في الأقل، حتى في عهدها الأخير يوم أمها ابن جبير. ولا عجب - وهو الأديب الأندلسي - إذا أشار إلى ما للماء من الفعل بالقلوب في قوله: «والحسن الحريمي بين هوائها - هواء بغداد - ومائها ينشأ. هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة.» ولكنه، على غير عادة الأندلسي، يتخوف من فتنة الهوى «إلا أن يعصم الله منها.»
अज्ञात पृष्ठ
وفي بيت ابن جهم؛ إذ يقول: «من حيث أدري ولا أدري» شيء من هذا التخوف. بيد أن أمره الآن لا يجلب هما، أو يستوجب اهتماما. إنما هناك سؤال لا بد في هذا الموقف منه. ما الذي أكسب بيت ابن جهم الشهرة وضمن له الخلود؟ المكان بين الرصافة والجسر أم عيون المها؟ وهل كانت حسان بغداد يسفرن عند الجسر يا ترى؟ وهل كانت مجازفة ابن جهم شعرية خيالية أم واقعية؟ هذه المسائل جديرة بالنظر، وقد تدعو للمستحب من البحث. وقد تثير الجدل.
ولكن هناك حقيقة لا تقبل الجدل والبحث، وهي أن الصوب الشرقي من بغداد لا يزال يدعى باسمه القديم - الرصافة - المخلد في بيت ابن جهم، كما يدعى الصوب الغربي بالكرخ. إن هاتين الناحيتين قديمتان اسما ورسما. أما النواحي الأخرى فهي حديثة في هندستها وفي أسمائها. •••
كان عدد سكان بغداد في زمن العباسيين يبلغ ألفي ألف نفس؛ أي مليونين. وكانت المدينة مقسمة إلى سبع عشرة ناحية. إنما بغداد اليوم تختلف في تقسيمها، كما تختلف في إدارتها، وعدد سكانها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف نفس.
أما المحلات التي أشار إليها ابن جبير وذكر أسماء بعضها، فقد كانت كلها في الصوب الشرقي «مع أن الخراب كان مستوليا عليه.» وكان الصوب الغربي؛ أي الكرخ قد تقدمه في الخراب، فما شاهد ابن جبير فيه غير «الأثر الطامس.»
وقد ذكر شكل المحلات في الرصافة فقال: إن كل محلة منها مدينة مستقلة. يفهم من ذلك، أنه كان بين المحلة والمحلة أرض خالية من السكان، أو أن بعض المحلات كانت مسورة. وقد امتدت الرصافة يومذاك إلى مكان الأعظمية اليوم. وكانت بوابة البصرة مكان باب شرقي أو دونه جنوبا. ومع أن هذه المساحة هي نحو سبعة كيلومترات طولا، ولا أظن أن الرصافة تجاوزت الكيلومترين عرضا، فقد كانت - ولا شك - مزدحمة بالسكان؛ إذ كان عددهم ينيف على المليونين.
والمدينتان - مدينة اليوم ومدينة الأمس - تتشابهان من هذا القبيل. فإذا استثنينا الشارع الجديد، شارع الرشيد، وبعض الأحياء الجديدة، يجوز أن نقول إن كل الجادات و«الدربونات» في الرصافة وفي الكرخ تفتقر إلى النور، والهواء النقي، والنظافة، والتفريج. بيوت متراصة متعرجة، في جادات ضيقة متعوجة، ما رأيت مثلها في المدن العربية الأخرى التي زرتها. وهي تتعجج من القتام والأنام.
إنما أهل بغداد يختلفون في طبائعهم عن أهل الكويت مثلا أو أهل البحرين. والظاهر أنهم لم يتغيروا كثيرا منذ أيام ابن جبير، الذي خصهم بصفحة من كتابه تسود منها وجوه، ولا تضمن للأندلسي الأديب - لو عاد اليوم حيا إلى بغداد - السلامة والأمان. وأقل ما يقال في البغدادي العريق ببغداديته، أن صوته يهز الأرض، ويلقي الرعب في القلوب - أنا بغدادي مو عجمي. فك عينك زين!
والبغدادية العاملة السافرة هي في عنجرتها مثل البغدادي. رأيتها في «دربونة» جالسة على الأرض، وأمامها بعض الخضر تبيعها، ورأيت أحد المارين يتعثر بطرف منديلها المفروش. وسمعتها تصيح به، وتصب عليه جام غضبها، بلغة ممتازة في علم المسبات. كأنها أخذت من إحدى رسائل الخوارزمي إلى بديع الزمان الهمذاني. أين عينك، يا ملعون الوالدين؟ حرمك الله الرجلين! يا ابن الطريق ، يا ابن البطريق، الله يضيق طريقك! لا أظن أن بين نساء العرب من هن أذرب لسانا، وأمضى بيانا من البغدادية. ولا أظن أن ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحاذ البغدادي.
سمعت أحد أولئك الشحاذين يردد آيات من الكتاب، وهو جالس على مزبلة في الجادة، ثم يسأل قائلا: أين أهل الصلاح؟ أين الكرام ولد الصباح؟ أين بحر الجود؟ نقطة منه يا معود، نقطة ولا تزود.
وما كان ثمة، في ذاك الصباح، أحد من المعودين، فقد رأيت شحاذا آخر، في جادة أخرى، جالسا عند الحائط، وسمعته، وقد رفع يديه، و«وفك» عينيه، يصيح: اللعنة عليك، يا بغداد، وعلى ذكرك، وعلى أهلك! الدود يأكل عظامك، يا بغداد، وعظام أبنائك! النار والشط والوبا عليك وعلى بنيك، فلا يبقى منك ومنهم غير الرماد والتراب!
अज्ञात पृष्ठ
وما استوقف مع ذلك أحد المارين، ولا استرعى نظر أحد السامعين.
إنما هناك صنف آخر من المستجدين، ولهم في المهنة لغة غير اللغة التي أسمعتك أمثلة منها. ومع أن التقوى تتمشى بين أضلعهم، والورع يتساقط شعرا من أفواههم، فالناس قلما يقفون، وقلما يسمعون.
هاكم درويشا يرفع صوتا كصوت ربابة في خابية، ويشدو الشعر شدوا محزنا، وفيه الغزل والحنين، وفيه أن كل شيء يزول، ولا يبقى غير وجه ربك القيوم.
خيالك في قلبي وذكرك في فمي
وصوتك في أذني وحبك في دمي
هو صوت سمعته ذات يوم في محلة الشيخ، فاستوقفني وأنا أكتب في غرفتي، فوقفت في الشرفة، فإذا بدرويش في قارعة الطريق يحمل عصا طويلة، وصحنا من التنك. ورأيت العربات تسير إلى يمينه وإلى يساره، دون أن تدنو منه، كأنه شرطي. وكان إذا سمع صوت بوق السيارة يرفع عصاه - هو درويش ضرير - فتميل السيارة عنه، ويستمر هو في طريقه وشدوه!
أين فؤادي؟ أذابه الوجد
وأين قلبي؟ فما صحا بعد
يا سعد زدني جوى بذكرهم
بالله قل لي فديت يا سعد
अज्ञात पृष्ठ
وها قطعة من النقود ترن في الصحن بيده، فيقف عند القرار شاكرا، ثم يرفع صوته فوق ما كان منه.
يا أهل ودي أنتم أملي ومن
ناداكم يا أهل ودي قد كفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
كرما فإني ذلك الخل الوفي
إنه ليشجي هذا الصوت، وإنه ليبهج. هو يبهج أهل الحب؛ لأنه يردد من أصوات الماضي ذلك الصدى الخالد، صدى ما صفا من الروحيات والذكريات. وهو يشجي؛ لأنه يمثل طيفا من الأطياف التي يرسلها الماضي شادية في شوارع بغداد المسيرة اليوم بأصوات - وقل بسياط - العمل المرهقة، بتكاليف الحياة المدنية المادية.
إنما هناك، في قلب المدينة، الذي لا يمسه الشارع الجديد بعامل من عوامل المدنية الغربية، أصوات من الماضي يظهر أنها أبدية. هي الأصوات التي تسمعك إياها المطارق تطرق النحاس، والمنافخ تنفخ في نار الصاغة والحدادين. وهناك في قلب بغداد، يمشي العمل الهوينا مشية الورع القنوع، ولا يماشيه الهم، ولا يزاحمه التكالب. هناك يجري في عروق العامل والتاجر والصائغ والصانع؛ ذلك الدم الذي يجري في عروق الدرويش. وإن كان الشعر لا يجري على ألسنتهم كما يجري على لسانه، فإن لغة قلوبهم هي كلغة قلبه من قاموس واحد، هو قاموس القناعة والوداعة.
وهناك أيضا تتجسم تلك الظاهرة العربية - الشرقية - التي تناقض العبارة الذهبية، وهي أن النظافة من الإيمان. ولعمري إن بين الإيمان والنظافة - إن كان في الدراويش أو في الصاغة - وهدة سحيقة. وهاكم في السوق المثال الحي النابض لما في العامل العربي من الصبر والمثابرة، ومن التجويد والجمود، ومن الذوق والإهمال، ومن الورع والوداعة والقناعة والقذارة.
تعال فأريك أجمل الأشياء من ذهب وفضة تصنع أمام عينيك، تصاغ وتصقل في أماكن فرشت بالغبار، وطليت بالدخان، وازدانت بالعنكبوت. ليس الولد صاحب المنفخ من العبيد المناكيد. هو أسود الوجه واليدين، ولكنه عربي من الفتيان البيض، تراه مقرفصا أمام النار ينفخ بها، ويمسح عينيه بطرف قميصه الدكناء، وترى سيده في ثياب الزيات يمسح العرق من جبينه بالمنديل الذي يستعمله لمسح جواهره، وهو ينقش سوارا، أو يدق قطعة من الذهب على السندان.
وهذه امرأة في عباءة وحجاب تجلس على حافة الدكة، إلى جانب ركمة من الفحم والرماد، ثم ترفع طرفا من حجابها وتلقي السلام وتلوم، فيعتذر الصائغ إليها، ويقسم بالله إنه ما نسيها، ثم يفتح خزانة صغيرة، ويخرج منها صندوقا جميلا من النحاس المطعم، ثم يخرج من الصندوق منديلا أدكن كان في قديم الزمان أبيض أو أحمر، فيفكه ويأخذ مما فيه قرطين من الذهب المنقوش مرصعين بالماس، فيرفعهما بالإبهام والبنصر أمام السيدة، ثم يمسحهما بطرف المنديل، ويقدمهما قائلا: حلت البركة. فتتناولهما باسمة شاكرة، وتربطهما بطرف منديلها، ثم تفك الطرف الآخر وتدفع ثمنهما ذهبا وفضة، ثم تنهض وتمشي، ولا تبالي بما قد يكون لصق بثوبها من وسخ المكان.
अज्ञात पृष्ठ
قال رفيقي الأديب البغدادي، ونحن نمشي في تلك السوق المسقوفة ذات الدكاكين الدكن والجواهر الثمينة: إن المياه في الشتاء تجري فيها كالساقية، فتستمر الأشغال مع ذلك ولا أحد يبالي. وقد يكون هناك يومئذ الرجل الذي يحمل دكانه في عبه، وهو جالس - كما رأيته - على الأرض وظهره إلى الحائط، وأمامه منديل مفروش وميزان صغير. قد يكون هذا التاجر بالحي هناك في اليوم الماطر، إلى جانب الساقية، وهو ينتظر الرزق من كرم ربه.
في سوق الصفارين (تصوير الدورادو).
أتقول، أيها القارئ: إن ما شاهدناه في سوق الصاغة أو سوق الصفارين، لا يستغرب في مدينة شرقية قديمة كبغداد، تعال إذن! ليس في أحياء الفقراء بلندن أو نيويورك أو بمباي، على ازدحامها، وقذارتها، وظلماتها، وفساد الهواء، وفظاعة الحياة فيها، ما يفوق ما ستشاهده في الخان الذي نسير إليه.
هو خان تلكيف وهو من أوقاف بغداد. بناء مربع، ذو طابقين وصحن كبير مكشوف، حوله صفوف من الحجرات الصغيرة المظلمة، الشبيهة بالأكواخ. وفي كل كوخ عائلة لا تقل عن ثلاثة أنفس وقد تتجاوز الستة. وفي الصحن مرابط للدواب، فيلعب الأولاد بين حوافرها وبين الحمالين والمكارين، ويتلقنون منهم اللغة التي أسمعتك نموذجات منها، من فم البائعة والشحاذ.
كان مستشار الأوقاف يومئذ الرفيق الدليل، فسارعت النساء إليه شاكيات متظلمات. وما شكون الازدحام والمقاذر، وما شكون صياح المكارين وروائح المرابط، ولا شكون دخان الجيران والأوساخ التي تلقى في الإيوان؛ إنما لفتن نظر المستشار إلى جدار يتداعى أو إلى باب لا قفل له ولا مزلاج، أو إلى قسطل ماء مسدود أو مكسور، أو إلى سقف تتساقط أخشابه. وجاءت إحدى النساء تحمل ثلاث آجرات، وتقول: إنها سقطت على أولادها وهم نيام، ثم كشفت رأس أحدهم ترينا الجرح فيه.
وكنا، ونحن نمشي في الإيوان، نرى النساء أمام أكواخهن يقمن بأشغالهن البيتية: يغسلن الثياب، يشببن النار، يخبزن، يطبخن، يرضعن أطفالهن. ومنهن من كن يمشطن صغارهن فيقع القمل في أحضانهن، وعلى الأرض حولهن. وهناك في وسط الصحن «مزين» يحلق رأس أحد الرجال، وينثر الشعر وما فيه من «المتحركات» بين أرجل الصبيان، وهم يلعبون، ويغنون، ويصيحون، ويفحشون في ألفاظهم.
إن مدخل الخان كمدخل القلاع عميق مظلم، وإلى جانبيه بضعة خروق لا يتجاوز الواحد عشر أقدام عرضا، ومثلها طولا، ومثلها علوا. هي كذلك للسكن. وقد استوقفتنا امرأة هناك، جاءت تحمل طفلا على صدرها وتقول للمستشار، وهي تومئ إلى أحد تلك المآوي، إن أجرته ثماني روبيات كل شهر، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من خمس، وترجوه أن يأمر بالتخفيض. فوعدها خيرا. •••
قلت: خان تلكيف من الأوقاف. والوقف في التعريفات هو «حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعته». ومن أجدر بالصدقة يا ترى من هؤلاء البؤساء. ولكن للأوقاف إدارة هي على ما يظهر مثل إدارة الشركات المالية. لا روح لها، ولا قلب، ولا عين غير تلك التي ترى الأرقام، وتعد الأموال. ومن هذه الأموال ما هو مخصص بالمساجد فلا يصرف في غير سبيلها. وفي المساجد من فضل ربك ما لا يجده البائس الفقير في بيته، أو في حيه، أو مدينته. المساجد هي الملجأ اليقين، والميناء الأمين، ملجأ الأتقياء والأغنياء والأشقياء والمتشردين. وميناء كل ذي وزر ثقيل وأمل دفين. فالحمد لله أن في بغداد أوقافا يحبس بعض ريعها، وإن كان من دم الفقراء، على هذه الأماكن المقدسة التي هي لجميع المؤمنين.
وكان المؤذن في مأذنة جامع الحيدر خانة يؤذن الظهر، وكانت قباب الجامع في شمس الظهيرة تشع وتتلألأ، فيبدو الأصفر خلال زرقتها كالذهب على طبق من اللازورد. وكانت مياه الشاذروان في صحن الجامع تتناثر كالفضة. وكانت الرحبات الهادئة والظلال الناعمة تبدو من الباب كأنها من لدن الرحمن، وهي تلوح للمارين أن ادخلوا آمنين.
دخلنا فإذا نحن في الصحن المبارك، والهواء فيه نقي كالنور وكل ما فيه منعش كالهواء. مكان رحب نظيف شريف هو للغني والفقير على السواء. وهناك ما هو فوق ذلك في المكرمات. هناك داخل الصحن، في الجامع تحت القبة اللازوردية، عين السكينة وروح السلام. هناك البحر الإلهي الذي تغرق فيه - ولو إلى حين - دنيا الهموم والأحزان البشرية.
अज्ञात पृष्ठ