وفي هذه الساحة، وسط الجنينة، تمثال الملك فيصل في القيافة العربية، على جواد شبه عربي، صنعه المثال الإيطالي المشهور بياترو كانونيكا. وقد صنع أيضا تمثال عبد المحسن السعدون القائم في باب شرقي. أقف عند هذين التمثالين لأقول الكلمة الواجب قولها، لا تأسفا على خمسة آلاف الدنانير ثمنهما، ولا تنقصا من شهرة صانعهما، بل تنبيها للحكومة العراقية التي تحتاج حقا إلى مستشار في الفنون الجميلة، فلا تقدم مرة أخرى على هذه مثل هذه الفعلة في تكريم رجالها الخالدين.
إن في هذين التمثالين البرهان الموجع على افتتاننا بما هو للغربيين من الآثار الفنية، وعلى ظننا أنها كلها ممتازة، وعلى جهلنا بما يكون من إسفاف الفنان الغربي، إذا انتدب لعمل وطني فني في بلادنا. إني على يقين أن حاضر هذين التمثالين لخير من مستقبلهما. فإنهما قائمان اليوم فوق مرمر سدتيهما بسلام وأمان. أما غدا، عندما تنشأ الفنون الجميلة في البلاد، وينبغ في الأمة الفنانون، ويصبح المثقف البغدادي في تذوقه جمال الفن، كما هو في تذوقه الشعر والأدب، فلا أمان على التمثالين ولا سلام.
غدا تحمل صحافة بغداد عليهما؛ لأنهما من سقط المتاع، لا فن فيهما ولا حقيقة، لا الوجه وجه فيصل ولا الجواد جوادا فيصليا، ولا الوجه وجه «عبد المحسن» ولا الوقفة وقفة من وقفاته الوطنية الرائعة. غدا - أقول - يحم القدر، فيثور ثائر الشعب على التمثالين، فينزعهما من مكانيهما، ويرمي بهما في دجلة، غير آسف على تلك الدنانير التي قبضها ذلك الفنان الإيطالي، ثم تنتدب الحكومة العراقية، التي تكون قد استنارت بنور الفنون، مثالا عراقيا أو سوريا أو مصريا ليصنع للرجلين الخالدين ما يليق بهما من التمثيل بالصفر أو بالرخام. عندئذ يتم التكريم لهما، وخصوصا للملك فيصل في ذكريه - شارعه وتمثاله.
هيا بنا، قد انفتح الجسر، وهو لا يزال ذلك الجسر الخشبي الذي يفتح مرتين في النهار لعبور السفن. ولا يزال القسم الذي يفتح منه كما كان. أما القسم الأكبر فقد فرش ممر السيارات منه بالزفت، فخفت الأصوات تحت الدواليب. والعلمان - تبارك العلمان الأبيض والأحمر - فهما مقيمان على عهد مخترعهما العبقري، فلا يزالان قيد أيد بشرية ترفعهما وتخفضهما لضبط سير بين الكرخ والرصافة، وهما على ما يظهر من الآثار الفنية الخالدة، تبارك العلمان. •••
أما ونحن الآن في بغداد للمرة الثانية فإننا نتوكل، بعد الله، على الملازم سردست ليهدينا إلى ما أصلح وأنشئ وجدد خلال السنين العشر الأخيرة. إن أولها النزل ذات الأسماء الإنكليزية المضللة - نزل وندزور، نزل كارلتون، نزل كرزون، نزل مادجستك - وأحسنها، هو هذا النزل الذي نحن فيه، فقد كان اسمه نزل مود، فتغير بعد ذلك مرارا، وصار يدعى نيغريس بالاس؛ أي قصر دجلة.
إنه صادق في الشطر الأخير من اسمه، فهو على دجلة. أما الشطر الأول فهو مثل أسماء النزل الأخرى كذب وتضليل. ليس في بغداد اليوم قصور، إلا إذا قلنا قول القاموس: إن القصر كل بيت من حجر، وقد سمي كذلك لاقتصاره على بقعة من الأرض بخلاف بيوت الشعر، فلا ينتقل مثلها. إذن كل بيوت بغداد قصور. إما إذا كان القصر قصرا لقصور الناس عن الارتقاء إليه - لا نزال رهن القاموس - فليس في بغداد قصر واحد؛ لأن أعلى بيوتها لا تتجاوز الثلاث طبقات، ولا يقصر دون ارتقائها لا العرج ولا ذو الفتوق.
لنصرف النظر عن الاسم إذن، ونسرحه في هذه الغرف القائمة حول صحن كبير التي ينشد فيها المسافرون - وجلهم من الأوروبيين - الراحة والهناء - والأوروبي من مأكول ومشروب، وإنهم ليجدون كل ذلك. ويجدون فوق ذلك ما هو حقا جديد؛ أي الغرف المجهزة بالحمامات الخاصة.
لأول مرة نزلت في هذا «القصر» كان صحنه بستانا، فيه أشجار النخيل والرمان، وأزاهر الفل والمرجان، وظلال بينها وشاذروان.
ولما زرته ثانية كان قد اضمحل البستان، واختفى ترابه تحت فراش من البلاط الأبيض، وما بقي من أشجاره غير نخلة واحدة، أقامت في قلبه وحيدة، وكان إلى جنبها قسطل من حديد، يرفع رأسه إلى ما فوق صدرها، ويحمل إليها - على ما أظن - روائح ما تحت أرض الصحن من مجارير. رثيت حقا لحال تلك النخلة، التي فرض ذلك الرفيق عليها، فظللته كرما، فأفسد جوها لؤما. وأظنني لفت نظر المدير يومئذ إلى هذه الفجيعة في الاقتران، فقلت: «اقطع النخلة أو أجرها من هذا الفظيع قرينها.»
وإنه ليسرني أن أقول الآن إن مدير التيغرس بالاس عمل برأيي، ولكنه تحرى فيه المساواة فقضى على القسطل والنخلة معا، وقد أمسى الصحن ساحة بيضاء، عارية، جامدة، عقيمة، يتسابق فيها ابن المدير ورفقاؤه على الدراجات، وتدخلها فتحط فيها السيارات. إنا لله ...
अज्ञात पृष्ठ