وهي بالإضافة لما كانت عليه كالطلل الدارس، والأثر الطامس. «وما رأى ذلك الرحالة الأندلسي من حسن فيها يستوقف البصر غير دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة الصقيلة.»
تالله، كيف تتشابه المرئيات في القرنين الثاني عشر والعشرين ؟ وكيف تتماثل التأثيرات؟ تأثيرات السائح العربي الأندلسي، والسائح العربي اللبناني. أفما تغير شيء ببغداد منذ أيام ابن جبير؟!
بلى، قد تغيرت أشياء، بل تغيرت المدينة جميعها. وذلك في سنة 1258م؛ أي بعد أربع وسبعين سنة من رحلة ابن جبير، يوم جاء هولاكو حفيد جنكيزخان يغزو بغداد، فاكتسحها وبعد ذلك دمرها.
وعندما أعيد بناؤها كان الناس لا يزالون في ظل النكبة، فما همهم في البناء الأصول الهندسية أو المحاسن العمرانية، ولا كانوا يحفلون بغير اللازم للمأوى والسلامة. بعثت بغداد وما حسنت حالها، إلا بعد ثمانين سنة أخرى؛ أي في أول عهد الدولة التترية الثانية، التي أسسها (1339م) حسن الجلائري.
ثم نكبت بغداد نكبة أخرى في أواخر القرن الرابع عشر، لما زحف تيمورلنك بجيشه عليها، ففتحها وأعمل فيها بعد اكتساحها السيف والنار. فأعيد بعد ذلك للمرة الثالثة بناء ما هدم وتهدم منها.
ومنذ ذاك الحين إلى يوم احتل العثمانيون العراق (1535م)، دالت في هذه البلاد دولتان من التركمان، دولة الخروف الأسود، ودولة الخروف الأبيض. وقد أخذت كل منهما اسمها من الصورة المنقوشة على علمها، لكن ما كان من الخروف الوديع في ذلك الملك التركماني غير الاسم والرسم، وكان للاثنتين في التاريخ آثار بربرية دموية، ثم جاء من بلاد فارس (1509م) الصفوي الكبير إسماعيل، فقضى على «الخروف الأبيض» الذي كان قد ابتلع «الخروف الأسود»، وجدد لفارس عهدا في العراق قصيرا، استمر سبعا وعشرين سنة لا غير، فجاء الترك العثمانيون (1535م) يخرجون الصفويين من العراق وكان لهم ذلك. فما استطاع أولئك الفرس المتحضرون المثقفون أن يعيدوا إلى بغداد خلال عشرين سنة، شيئا من ذلك العمران وذلك الرونق الذي كان لها في الزمن العباسي الأول. فغدت، وقد توالت عليها الفتوحات، وتعددت النكبات، كما كانت يوم رآها ابن جبير «كالطلل الدارس والأثر الطامس.»
وهل دامت كذلك في عهد العثمانيين؟ ألم تهدم مرة أخرى خلال الأربعمائة سنة وتشيد في فترة من الخير والهناء تشييدا حسنا شائقا، كما لو كان سيدها المنصور أو الرشيد؟ يقول العارفون من العراقيين اليوم: إن بغداد كانت على جانب عظيم من العمران، لما حسن الترك في عمرانها الخارجي والداخلي. ولكن الوباء - الطاعون - فتك بأهلها منذ مائة ونيف من السنين، فحالفه دجلة في طغيانه، وكان الاثنان أشد عليها، وأفعل بها، من غزوات هولاكو وتيمورلنك، فقد كان الوباء يذهب بخمسة عشر ألف نفس كل أسبوع، والذين نجوا منه ذهبوا ضحية دجلة، الذي طغى على المدينة فغدا القسم الأكبر منها تحت المياه الجارفة. •••
بعد النكبة الرابعة - وهي الأخيرة إن شاء الله - تهافتت الشعوب على الأرض التي أمست يبابا، وكادت تكون مشاعا، فملكوا ما ملكوه منها، وشرعوا يبنون كما بنى سكان المدينة الغابرون بعد النكبة الأولى. جاء المهاجرون جماعات من كل حدب وصوب، من الجوار ومن بلاد الأكراد، ومن بلاد الأناضول، ومن إيران، ومن البوادي العربية. وما كان بين هذه الشعوب معرفة ما، ولا كان بينهم صلة وطنية، أو حس قومي أو مدني. بل كانوا كلهم غرباء، بعيدين بعضهم عن بعض، ومعادين غالبا لبعضهم لبعض. الرائد يصدق أهله كما يقال. وقد كان لكل جماعة رواد يصدقونها، ولا يصدقون غيرها. فتعيش لنفسها متحفظة متحفزة.
ومع أنهم كلهم كانوا مسلمين، فما جمعت رابطة الدين شملهم، ولا لطفت شعورهم، وما أزالت غير القليل من التنافر والتنابذ فيما بينهم. هؤلاء المهاجرون المتوطنون بغداد، بعد كارثتها الأخيرة، هم أجداد سكانها اليوم. وما كان فيهم من العريقين في النسب العربي غير القليل، منهم آل سويدي وآل سعدون وآل شاري وآل جميل وبيت الألوسي.
أما السواد من الناس، وقل الأخلاط، فلا يزالون اليوم، على الإجمال، كما كانوا في الماضي بعيدين من بوتقة الإدغام والامتزاج. وما غير التزاوج المختلط بينهم - وإن قل - شيئا جوهريا في أحوالهم القومية، ونزعاتهم الجنسية. فالإيرانيون والأتراك والأكراد، وإن تزاوجوا بعضهم ببعض، لا يزالون كما كان أجدادهم منذ مائة سنة أكرادا وأتراكا وإيرانيين. أو إنهم على الإجمال مثل اليزيديين والآشوريين والصابئين، يعيشون عقليا في الأقل بعيدين بعضهم عن بعض، كل جماعة منفردة في شئونها. وما هم سكان بغداد، بل هم سكان الأحياء التي يقيمون فيها، كل جماعة وكل طائفة في حيها.
अज्ञात पृष्ठ