Slums . وأما الفرق بين المدينة الغربية والمدينة الشرقية، فهو أن مثل هذا الحي في الأولى جزء صغير منها، وهو في الثانية الجزء الأكبر.
وهذا الجزء الأكبر هو المدينة. أما الدور والقصور، وإن كانت في قلبها، فليست هي منها. وفي الدور والقصور المرافق والأثاث والأعلاق، وفي غيرها الفقر والأمراض والأقذار، والقناعة والاستسلام بين الأقذار. هناك أقلية تستمتع بخيرات الأرض وبطيبات الحياة، وهنا السواد من الناس وهم قانعون بالنعيم المنتظر، وبما تعدهم به الكتب المنزلة.
وبما أن السواد من الناس يعيشون محرومين في الدنيا تراهم شغفين أكثر من سواهم بالقصص والأساطير التي تمثل النعيم المنشود.
حقيقة النعيم، أو بعض حقيقته، للأمراء والأغنياء، وحديث عنه - حكاية أو أسطورة أو قصيدة - للسواد من الناس. ومع أن السينما تغزو اليوم بلاد القصاص، فيتهافت العرب عليها ليروا ويسمعوا شهرزاد هذا الزمان - الشاشة البيضاء وما وراءها - فإن القصاص لا يزال مالكا سعيدا. وله عرشه في القهاوي.
وهذا الشغف بالحكايات والآيات والمعجزات، هذا التعظيم للخيال، هذا التقديس للمحال، لا يزال في الشرقي من الخلال البارزة. فهو يقنع بظل الحقيقة، ويقبل متورعا محبورا ما يحاك من الظلال كما لو كان حقائق دينية، ثم يعلل النفس بلحم تلك الحقيقة ودمها، بجسمها المادي. كذلك كان الشرقي، ولا يزال على الإجمال كذلك.
وقد شحذت هذه الخلة المخيلة منه، فأصبحت بعامل الوراثة شقيقة العواطف في السيطرة على نفسه - في عقائده وأحكامه، وفي آرائه وأهوائه. ولا عجب إذا خضعت كلها للخيال، واعتصمت بالمحال. فمن يستمتعون بطيبات الحياة لا يضيعون الوقت في أحاديثها. ومن يحرمونها يسترسلون في الأحلام التي تزينها المخيلة وتذهبها الأهواء. فتتمثل أمامهم؛ إذ يسمعون القصاص أو يجلسون اليوم أمام الشاشة البيضاء، صورا مستغربة، خلابة.
ومن هذه الصور صورة بغداد في عهد العباسيين الأول. وحسب اللبيب الإشارة إلى ما يولده الشغف بالخيال، والتلذذ بالمحال، من حب المبالغة والغلو، حتى في النظر إلى حقائق التاريخ، وحقائق الحياة اليومية. فالمؤرخ من هذا القبيل شاعر، والشاعر مؤرخ، والقصاص مؤرخ وشاعر معا. بل هم ثلاثة أقانيم لشخص واحد عجيب.
وكلهم مجمعون على ما كان من عظمة بغداد ومدينتها، فقد كان فيها، كما يقول المؤرخون، عشرة آلاف حمام، وثلاثون ألف مسجد! فإذا كان عدد سكان المدينة مليوني نفس، كما جاء في التواريخ، يكون لكل مائتي شخص حمام، ولكل ستة وستين مسجد واحد. والمئتان يقيمون في ثلاثين بيتا، والستة والستون في عشرة بيوت. فهل يعقل أن يكون لكل ثلاثين بيتا حمام عمومي، ولكل عشرة بيوت مسجد؟ •••
العربي يرى ولا يعد. وهو في التقدير، إذا كان ما يراه كثير العدد، يعول على الخيال دون العقل. وهاك المثل. إذا دخل أعرابي إلى بغداد اليوم من الجهة الغربية يرى في ناحية الكرخ، عند الجسر، إلى الجانبين، عددا من المقاهي، ثم يرى صفين آخرين في ناحية الرصافة؛ كذلك عند الجسر، بينه وبين شارع الرشيد. وإذا ما مشى في شارع الرشيد إلى جامع مرجان، يرى بين كل مائة متر وأخرى جماعات من الناس يدخنون الأراكيل ويلعبون الطاولة والدومينو. فإذا سئل بعد ذلك ماذا رأى في بغداد؟ يقول: المقاهي المقاهي في كل مكان. فيحدث عنه من يسمعه ويقول: ليس في بغداد غير المقاهي. فيحدث الثالث ويصفها بالمئات. فإذا سمعه المؤرخ يجزم بالمئات، وقد يتجاوزها إلى الألف أو الألفين. ولكن الشاعر يفضل عليها لفظة الألوف؛ لأنها في الشعر أعذب من مائة، وأبلغ من ألف. وعندما يسمع القصاص الشاعر، ويطفق يلفق الحكايات، فحدث عن مقاهي بغداد ولا حرج.
كذلك تجيئنا الإحصاءات وقد بلغت عشرة آلاف من الحمامات، وثلاثين ألفا من المساجد، وعشرات الألوف من المقاهي. وليس في بغداد اليوم ما يتجاوز الأربعمائة مقهى، أكثرها في الشارع الجديد، شارع الرشيد. وليس فيها من الجوامع أكثر من خمسين، أضف إليها حوالي ضعفيه من المساجد.
अज्ञात पृष्ठ