فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
لا يذكر التاريخ اليوم إلا أفرادا ممن ناوءوا رجال العقل الرجيح، والنقل الصحيح؛ اشتهروا لاحتكاكهم بالحكام، وموهوا على العامة بحسن حالهم؛ لمظهر دنيوي أرادوه وحطام من الدنيا تطالت نفوسهم لأن يقتنوه؛ كأن يكون أحدهم قاضيا يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه، أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضائل الدنيا والآخرة.
أمثال هؤلاء الممخرقين المنافقين، بدلوا المعالم والتعاليم؛ مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات، وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما لم ينزل به سلطان، وجازوا حد الشرع وهم يتظاهرون بأنهم المؤتمنون عليه، ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن، كما تشكو المدنية والإنسانية:
وهل أفسد الدين إلا الملو
ك وأحبار سوء ورهبانها
إن من يتظاهرون بالدين وباطنهم منه بريء أضر على الدين ممن يعقونه، ومن يدعو في الغالب إلى الإصلاح ويتخذ التقية أمام العامة درعه، يكون أقرب إلى الانحلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم دعاة الدين والقائمون عليه، وعنهم يؤخذ وبهديهم يهتدى. وشر الناس من يسرون غير ما يظهرون، ويتلونون باللون الذي يرون أنه أوفق لهم؛ لجر مغنم وإحراز مظهر.
إن هؤلاء العامة ممن يتطالون إلى مقامات العلماء، هم أفسد من العامة؛ لأن شيطانهم يتكلم، وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد. هم سوس الفساد في كيان هذا المجتمع، يدعون معرفة كل شيء وهم لم يتقنوا شيئا إلا ما سولته لهم أنفسهم، وحدثتهم به شياطينهم. شعارهم التدليس والتظاهر بالغيرة على المحارم، ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع وهم يقدسونها بلسانهم، والعابثين بحدودها وهم يدعون الناس إلى الوقوف عند مراسيمها، والسعاية بالمصلحين ليفتوا في أعضادهم، ويفسدوا عليهم أمرهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء.
لو كان أعداء المصلحين على شيء من التدين الحقيقي، لكانوا اشتغلوا منذ القديم بإرشاد العامة وإنكار المنكرات الماثلة في كل عصر أمامهم مثول الشمس في السماء رأد الضحى، ولكن المتدلسة أمثالهم يتعلمون من قشور العلوم ما يستعينون به على الأخذ من أموال الحكومات والأغنياء والتغرير بالعامة؛ ولذلك كان أكثر اشتغال من سموا أنفسهم بالعلماء في كل عصر بالفقه؛ لأنه سلم إلى ما يتطاولون إليه من الجاه والمال وحسن الحال.
قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: اعلم أن الخلافة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
अज्ञात पृष्ठ