يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم؛ ليعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته، ومثيله في فضيلته، ويطعن الجامد الممخرق على من يحب أن يعبد الله بعقل، ويبحث في عالم الكون والفساد بروية؛ ليتظاهر بأنه بعيد الغور شديد الغيرة، وما أقواله إلا رياء، وما أفعاله إلا وساوس وأهواء.
لقي المصلحون من الأهاويل في الأمة العربية أكثر مما لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى فيما نحسب، وخصوصا بعد القرن السابع، وقد توزعت بلاد الإسلام ملوك الطوائف، وكان أكثرهم على جانب من الجهل والغباوة، لا يهمهم إلا رضاء المشعبذين بالدين؛ ليحولوا العامة إليهم فيقوى بهم ضعفهم، ويستعينوا بهم على تكبير رقعة ممالكهم، وبسط ظل سلطانهم على النفوس، فيستمتعوا بشهواتهم وبذخهم ورفاهيتهم.
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
ساعد على الانتقام من العالمين العاملين أناس من أرباب المذاهب سرت أحكامهم بقوة أربابها، فكان الحكم يجري على المبتدعة وأرباب الأهواء بزعمهم بموجب قوانين لهم سنوها، ومنها المذهب المالكي الذي كان بحكم قاضيه يقتل أكبر عالم في الأمة - والقتل يعد من التعزير في مذهب مالك - خالف المألوف من العادات التي اعتقدتها من أصل الدين، وعد الخروج عنها كفرا وإلحادا، وما أسهلهما وأسهل صدور الحكم بهما من أعداء الإصلاح المماحكين.
سالت الدماء كالأودية في بغداد؛ للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات، وسالت دماء كثير من الخاصة في كل قرن، وعذبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر من المتنطعين، ممن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب، فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة إن لم يتمكنوا من إسقاطهم؛ ليخلو لهم الجو، ويقتصر في تقبيل الأيدي، وطلب الدعوات والتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة.
ومن غريب أسرار الله في خلقه أن جميع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا ودثرت أسماؤهم، وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة.
أين أعداء الغزالي والسهروردي والآمدي وابن جرير وابن تيمية وابن رشد؟ ذهبوا كلهم كأمس الدابر، وبقيت الأمة تردد على وجه الدهر أسماء هؤلاء المصلحين العالمين، وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح:
अज्ञात पृष्ठ