निदा हकीकत
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
शैलियों
يعرف قارئ هيدجر أن كتاباته ورسائله ومحاضراته تتميز بالبناء الشكلي المحكم، كما يعرف أيضا أن الإلمام بهذا البناء أمر لا غنى عنه لفهم مضمون النص والنفاذ إلى أغواره، وتلمس الطريق الذي يهديه في متاهاته ويصل به إلى لحنه الأساسي الذي تشبه جميع الأنغام أن تكون تنويعات عليه، وهنا تطل علينا مشكلة الدور المشهور الذي يأخذه عليه الشارحون، أضف إلى هذا أنه كثيرا ما يلجأ إلى ما يسميه المناطقة بالمصادرة على المطلوب؛ إذ يفترض صحة النتيجة في بداية البحث ثم يحاول ما وسعه الجهد إثباتها والبرهنة عليها! ولهذا نجد من يسارع باتهامه بالمغالطة أو التحايل على الكلمات أو التعسف في الاشتقاقات أو لوي أعناق النصوص أو الغموض والإرباك المتعمد، ولعل خير السبل لإنصاف الرجل والبعد عن مزالق الاتهام هو محاولة فهمه «من الداخل»، وهذه ضرورة يفرضها أسلوبه في الكتابة والتفكير واستخدام المصطلحات، فكلمات كالحرية أو الوجود أو الحقيقة تكتسي على يديه ثوبا مختلفا عن ثوبها الذي تعودنا عليه أو تعلمناه من التراث، ولو أصررنا على قراءتها بمنظار معانيها التقليدية، لكانت النتيجة الوحيدة هي الوقوف على بابه وقفة الشحاذ أمام قصر الأمير أو الريفي في محطة المدينة أو الكافر على باب الجنة! ولا بد لنا للنجاة من هذا المصير من السير خطوة خطوة في داخل المتاهة، وتلمس الخيط الهادي الذي أنقذ ثيسيوس من فم الوحش الخرافي «القنطور»، وعرض أفكاره وتأملاته ومراحل استدلاله في صبر وأناة.
نود قبل كل شيء أن نشير إلى الروح السقراطية التي تتغلغل في ثنايا هذه الرسالة وتبث الحياة والحركة الجدلية في بنيتها، وتشد حلقاتها وتتجاوزها في آن واحد، ولعل السباحة في تيار هذا الجدل الحي أن تكون أهم من الوقوف عند نتائجه؛ لأن النتائج لا تكتسب معناها الحق إلا من أنفاس التطور الذي يحركها وينفخ فيها شعلة الحياة، والأمر يعتمد بعد كل شيء على الدخول في دائرة هذا الفكر والتحرك في مجاله والحوار مع إشكالاته والمشاركة في محنة السؤال ولو كلفنا العمر كله! ولا بد في النهاية من أن نثب الوثبة التي تحتمها علينا مخاطرة اللقاء مع كل فكر جاد!
والواقع أن التمهيد الذي وضعه هيدجر لهذه الرسالة يدور حول الإعداد لهذه الوثبة، فهو يؤكد منذ البداية أن السؤال ينصب على ماهية الحقيقة لا على «الحقائق» المألوفة، عملية كانت أو اقتصادية أو سياسية أو علمية أو دينية أو فنية، وهو يدعونا للخروج من دائرة التفكير اليومي الساذج ، والنظر إلى مشكلة الحقيقة نظرة جديدة مختلفة كل الاختلاف عما تعودت عليه عيون «الحس السليم» (الفهم العام أو الذوق الفطري)، هذه مسألة أساسية لا يفتأ ينبهنا إليها منذ البداية، بل إننا لا نكاد ننتهي من قراءة هذا التمهيد حتى نشعر أن هذا الحس السليم، أو ما شئت له من أسماء، هو أعدى أعداء الروح الفلسفي، إنه ضيق الأفق، معصوب العينين، عاجز عن العلو إلى الأسئلة الأخيرة أو الغوص في أعماقها، مطمئن إلى القريب المحسوس الذي يلمسه أو يقبض عليه بكلتا يديه، وهو إلى هذا كله عنيد مكابر، متشبث بحصنه الحصين في داخلنا، ومن أصعب الأمور أن نطرد شيطانه المقيم في نفوسنا مهما تذرعنا بالرقي والتمائم ونثرنا البخور والأدعية لإخراجه من قمقمه!
صحيح أن الحس السليم كامن فينا جميعا، وأننا لا نستغني عن الرجوع إليه في شئوننا العملية واليومية، وصحيح أيضا أن له فلسفته التي يستند إليها، وإن تكن هذه الفلسفة قد تجمدت مع الزمن وانطفأت فيها شرارة الاندهاش، بل إن هناك فلسفات مشهورة تقوم عليه منذ القدم، ابتداء من السفسطائية والتجريبية حتى فلسفة مور التحليلية وغيرها من الفلسفات الوضعية، وليس من الصواب أن نهون من شأن هذه الفلسفات أو نتعالى عليها، فقصة الصراع بين الفلسفة والحس السليم مستمرة منذ عهد أفلاطون حتى عهد هيجل ونيتشه، ولكن المشكلة أن التفلسف الحق لا يبدأ أولى خطواته حتى يكافح هذا الحس السليم الرابض في أنفسنا ويتغلب على النزوع الطبيعي - أو الموقف الطبيعي بتعبير هسرل - الذي يسلم بالوجود ببساطة ويهرب من مشقة البحث في الماهيات والعودة للبدايات، ويضيق بالسؤال ويتجنب الإشكال، ويصر دائما على أن كل شيء واضح مفهوم وعلى ما يرام!
هكذا يبدأ هيدجر رسالته باستبعاد «الحقائق» المألوفة التي لا تتصل بماهية الحقيقة، وبيان العقبات التي تحول دون التفكير في مشكلتها تفكيرا جديرا بالنظر الفلسفي، وهي عقبات يضعها «تفكير» الحس السليم أو الفهم العام الذي يتحتم علينا أن نبدأ بقهره والعلو عليه إلى مستوى فكري آخر لا ينفر من البحث في الماهية ولا يفزع منه! وتحديد الماهية أمر عسير محفوف بالصعاب، فليست الماهية بالطبيعة الماثلة على الدوام في أفق تفكيرنا ومعرفتنا، وإنما هي الطبيعة الخافية التي لا تكتشف بغير الجهد الجهيد، يبذله فكر اختار أن يرتفع فوق يقين الحس السليم وبداهة الحياة العملية، هكذا يدفع هيدجر الإشكال ويحرك السؤال، إنه يثير الاعتراضات الممكنة من جانب «الفكر» اليومي على جدوى البحث عن الماهية، فهذا «الفكر» الذي يزعم أنه يصدر عن حس سليم (لم يقصر هيدجر في الاعتراف به وبيان ضرورته ولا قصر في اتهامه بالعمى والصمم!) يدعي أن الأمور التي يغفلها السؤال عن الماهية هي بعينها الأمور الواقعية التي يجب أن تبقى بمنجاة من الشك، أي هي الأمور التي تتصل بحقيقة الحس السليم نفسه! والحس السليم «يؤكد حقه بالسلاح الوحيد الذي يملكه، وهو الإهابة ببداهة دعاويه واعتراضاته»، ولا جدوى من دخول الفلسفة في جدال معه؛ لأن كل جدال يفترض أساسا مشتركا بين الطرفين، وهذا الأساس لا وجود له على الإطلاق، كما أن البحث في حقيقة الحس السليم نفسه يستلزم النظر في ماهية الحقيقة من حيث هي كذلك، أي الحقيقة التي ينبثق عنها كل ما يحمل صفة الحق أو يدعيه لنفسه، فالحس السليم مدان في كل الأحوال.
ولكن هل نحن أبرياء من هذا الوزر الذي يتحمله الحس السليم؟ ألسنا نحن أيضا على مستواه؟ إن الفيلسوف يتجه إلينا بالسؤال حتى نصبح نحن السائل والمسئول، ولن يتسنى لنا أن ننصت لصوته أو ننتبه لتحذيره حتى ننتشل أنفسنا من براثن الحس السليم، وندير ظهورنا لجنته الزائفة، ولن نبلغ هذا حتى نشعر بالمحنة، حتى نعرف أنا نحن الممتحنون. •••
بعد التمهيد للسؤال وإيقاظ شعلة الإشكال يبدأ الفصل الأول بالحديث عن التصور الشائع عن الحقيقة، هذا التصور الشائع - كما يفهم من اسمه - يعلن عن نفسه بنفسه كأنه أمر بدهي، ولكن جذوره ممتدة في أرض التراث الفلسفي منذ العصر الوسيط الذي يمتد بدوره إلى بعض العبارات المأثورة عن أرسطو، ورجعة هيدجر إلى التراث لا تعني أنه سيتناول المشكلة تناولا تاريخيا، فما كان في يوم من الأيام مؤرخا للفلسفة بالمعنى المألوف من هذه الكلمة، إنه يلتمس من التاريخ والتراث «شهادة»، ويستمد منهما دليلا على معنى الحقيقة المتأصل في نفوسنا جميعا.
ما هو تحديد الفكر الشائع بين الناس لمعنى الحق؟ إنه التوافق والصحة، وهو التطابق والصواب، علام يقوم هذا التحديد؟ يقوم على تحديد أسبق منه تكون عند المدرسيين في العصر لوسيط، ليس الأمر وليد الصدفة، ولا هو شيء نقصد به الموازنة التاريخية ، فالواقع أن هذا التصور الشائع لم يكن تصورا متعسفا منبت الجذور عن الماضي، إنه نتيجة تمخضت عن تفسير قديم لوجود الموجود، وإذا كان هذا التفسير قد نسي أو أصابه الوهن وسوء الفهم، فإنه لم يفقد مع ذلك أثره القوي على تفكيرنا وحياتنا اليومية، نحن جميعا - عن قصد أو غير قصد - نفهم الحقيقة بمعنى التطابق، ولكننا ننسى أصله اللاهوتي في تفكير العصر الوسيط، وقد ننسى كذلك عبارة القديس توماس الأكويني التي ختمت على هذا الفهم بخاتمها المعروف: «الحقيقة هي تطابق الشيء مع العقل»، وقد يرجع البعض بهذا الفهم اللاهوتي لمعنى الحقيقة إلى أرسطو، فيجعل من الحكم مكان الحقيقة، ويتصور هذه بمعنى تطابق الحكم مع الشيء الذي نحكم عليه، ولكن هل نظلم أرسطو وننسب إليه شيئا لم يقله، أم نأخذ منه رأيا دون رأي؟ لقد أشار هيدجر نفسه إلى هذا في «الوجود والزمان»،
138
حين قال: «ليس الحكم هو الموضع» (أو المكان) الأصلي للحقيقة، وإنما الحكم - بوصفه أسلوب امتلاك لما يكتشف ونحوا من أنحاء الوجود-في-العالم - هو الذي يقوم على فعل الكشف، أي على الانفتاح الكاشف للموجود-الإنساني، وهيدجر يعزز هذا المعنى فيشير إلى أهمية كتاب الثيتا (الكتاب العاشر)
अज्ञात पृष्ठ