والميدان لم يكن واسعا بالمعنى المفهوم من تلك الكلمة، فأوسع ميدان من ميادين فيينا لا يمكن أن تبلغ مساحته مساحة أضيق ميادين القاهرة، ميدان والسلام تحده بناءات عجوز مهيبة الطلعة، مزخرفة بعدد لا نهاية له من التجاعيد والأفاريز، ومطلية بألوان طوبية وقورة غير زاهية، وكأنما اختيرت خصيصا لتلائم الجو شبه المظلم الذي يحيا فيه أهل الشمال. بناءات تحس أن الذين بنوها لا بد أناس أوروبيون، بشرتهم حمراء من شرب النبيذ، وعيونهم صغيرة زرقاء ماكرة. ودرش كما هو واضح من اسمه مواطن مصري سافر كما يسافر الناس إلى أوروبا، موفدا في مهمة مصلحية اسما، وللتفرج والفسحة في حقيقة الأمر. موظف في وزارة التجارة عمل ألاعيب الدنيا والآخرة، وظل أكثر من ستة شهور يكافح ليوفد دونا عن بقية زملائه في تلك المهمة الرسمية الخاصة بالتبادل التجاري مع هولندا، وتم له الانتصار ووقع عليه الاختيار، وقضى أياما كثيرة يجري من إدارة الجوازات إلى مراقبة النقد إلى القنصليات والسفارات وحتى إلى مشايخ الحارات ليستخرج «الباسبور». وركب البواخر والقطارات، ووصل إلى أمستردام عاصمة هولندا، وأنهى مهمته الرسمية بنجاح، وغادرها، وها هو ذا في قلب فيينا بالذات. فالأمر يتطلب منا كشف ناحية من نواحي صديقنا درش لا يزال يحرص حرص الموت على إخفائها؛ ذلك أنه لم يأت إلى أمستردام أو لأوروبا لمهمة رسمية، ولا حتى للتفرج أو الفسحة، ولكنه جاء بهدف واحد فقط، للنساء، رغبته الدفينة كانت أن يجرب تلك المرأة الأوروبية ذات الشخصية، وقد شبع من نساء بلده وإيقاعهن في حبائله.
ونقول إنه شبع مجازا، فدرش لا يشبع من النساء.
هو محترم جدا في مظهره، طويل أنيق، على الأقل أكثر زملائه وموظفي مصلحته أناقة، له شامة سوداء كبيرة إلى جانب فمه، حليق اللحية والشارب، لونه قمحي، ومع هذا فشعره أكرت أسود، جاد وقور يحدثك بصوت الواثق من نفسه، ويستعمل دائما كلمة يا حبيبي، حتى إذا حادث الغرباء، وهو مصري حرك، لا يترك فرصة للقفش والتنكيت إلا وانتهزها، وكلمة والثانية وينظر إليك بعينين عسليتين وبزاوية خاصة ويقول لك: ما تبقاش كروديا أمال. وكأي مصري طبعا إذا غضب يقول لك: وديني أحط صوابعي في عينيك. ويزعل وينفعل، ولكن أقل كلمة ترضيه. وموته وموت من يحاول استكراده أو الضحك عليه. وفرق كبير بينه في العمل وبينه في حياته الخاصة، فسمعته في المصلحة حريص عليها كل الحرص، ومعاملته للناس بالأصول، وتلك الأصول لا تمنعه طبعا من زجر مرءوسيه أحيانا وإزجاء بعض الملق لرؤسائه ... ودرش متزوج وله ابنة صغيرة (كما جرت عادة الصحف عندنا في تعريفها للشخصيات)، هوايته هي النساء. وهي هواية سرية يزاولها في تكتم شديد، حتى إن بعض أصدقائه ليذهلون إذا عرفوا عنه تلك الهواية. هواية يمارسها بفن وحذق، ومن نظرة واحدة إلى المرأة يستطيع أن يعرف أي الطرق يوصل إليها، وفي كم من المرات تقع، وهل يوقعها بتجاهلها أو بالإقبال عليها أو بأن يمثل أمامها دور الفارس المغوار. وهواية النساء هواية واسعة الشعب: فهناك هواة البيض، وهواة السمر، وهواة الخادمات، وهواة نجوم السينما، وهواة التلميذات، وحتى العجائز لهن أيضا هواة. أما درش فقد تخصص في نوع غريب على هذا كله هو النوع الخام، مزاجه كله أن يظفر بامرأة يكون هو أول ظافر بها، إذ هنا تتبدى عبقريته ويتفنن في استدراجها خطوة خطوة، وعلى مهل الصائد الماهر الذي يستمتع بكل ما في عملية الصيد من صبر وتمهل وحنكة. ومن كثرة تجاربه في ذلك المجال أصبحت له ثقة بنفسه لا حد لها، حتى إن أحد أقواله المشهورة بيننا قوله: المشكلة أبدا ليست في إيقاع المرأة، المشكلة الكبرى هي في التخلص منها.
كان درش إذن قد انتهى من النساء في مصر، وذهب وفي نيته أن يغزو أوروبا المرأة. ومن لحظة أن وضع قدمه على سلم الباخرة بدأت عيونه تزوغ هنا وهناك، كمن فقد لتوه شيئا راح يفتش عنه في وجه كل امرأة يراها أو يلمحها.
وصحيح أنه خلال الرحلة وخلال إقامته في أمستردام، تعرف إلى فتيات ونساء، ولكن الظروف كانت دائما ضده، ولم تحن له فرصة واحدة. وفي أمستردام بالذات كانت المدينة تعج بالقادمين إليها من كل مكان يحتفلون بمناسبة لا يعرف ماذا كانت، وخلال هذا الازدحام الهائل بآلاف الزوار لم تحن له أيضا الفرصة. ولم يضايق هذا درش في شيء إذ هو صاحب مزاج، والحمى التي تجتاح أمستردام في أثناء الاحتفال لا يمكن أن تتيح له ذلك التلذذ الذي يريده. ولكنه عرف أين يمكن أن يتاح له هذا، فقد قابل بعض مواطنيه الشرقيين الخبراء في هذه المسائل، وما أسرع ما كان صريحا معهم، ولم تكن صراحتهم أقل من صراحته، فقد قالوا له: إذا أردت النساء يا أخ فاذهب إلى فيينا. وحتى بغير نصيحتهم كانت فيينا هي ضالته المنشودة، فيينا التي كان يسمع أسمهان تغني بصوتها الحلو الرنان: ليالي الأنس في فيينا. كان جسده يقشعر بأحلام لا حدود لها، أغنية وقشعريرة ربما كانتا من أهم العوامل التي جعلته يدبر هذه الرحلة.
وها هو ذا له يومان في فيينا، وتلك هي ليلته الثالثة في مدينة الأنس والأحلام ولم يحدث شيء، مع أن النساء أمامه وخلفه وحوله وفي كل مكان، نساء نمساويات فيهن تتركز روح أوروبا، نساء من مختلف الألوان والأعمار والأشكال، وكلهن بلا استثناء يتمتعن بقسط وافر من الجمال. حتى القبيحة لا بد أن جسدها جميل، أو لا بد أن تجدها صاحبة ذوق رفيع في اختيار ملابسها. كل واحدة فيها شيء، شيء من أوروبا، وكل واحدة لها ميزة. وعقله مشتت موزع، وبصره لا يزال كما بدأ الرحلة حائرا زائغا.
كانت الساعة تقترب من الثامنة والميدان مضيء، كل ما فيه مضيء، وكانت هناك جريدة مضيئة تتوالى كلماتها فوق أعلى مبنى في الميدان تذيع آخر الأنباء، كلمات مضيئة بلغة لا يعرفها، وهو الوحيد الذي يحدق فيها، إذ هو الوحيد الغريب الذي انقطعت عنه أخبار بلده منذ غادره.
قرأ كلمة مصر. ودق قلبه بانفعال، فلا بد أن الجريدة تتحدث عن شيء حدث هناك. وفي غمضة خاطر واحدة كان قد احتوى مصر بكل ما فيها وما له فيها، غمضة جاءت سريعة وذهبت سريعة، ولكنها خلفته خجولا لا يكاد يطيق النظر إلى نفسه، إذ كان لا يزال واقفا في الميدان يفتش بعينيه عن المرأة.
وتحرك. ولم تكن هذه أول مرة يتجول فيها، فله يومان وهو يتجول في المدينة سيرا على قدميه، ويقف أمام واجهات المحلات ويتناول القهوة الفرنسية التي لم يستسغها أبدا، ويجرب مع النساء كل الوسائل التي أتقنها في بلده، فيبتسم تلك الابتسامات الخفيفة الباهتة الموجهة، ويهيم بعينه بطريقة خاصة لا تلحظها إلا المقصودة فقط، ويدعي أحيانا أنه لا يعرف ثمن تذكرة الأتوبيس، وينتقي أجمل راكبة بجواره ليسألها عن الثمن. ومن جهة الإحراج فإن كل سيدة أو فتاة سألها كانت في غاية الأدب ولطيفة إلى آخر حد! لم تكسفه واحدة، ولم تشح إحداهن بوجهها وتقول: يا سم ... كن يرشدنه بدقة، ويبتسمن له بظرف، ويرددن على أسئلته بطريقة مهذبة للغاية، ويتعمد أن يقول للواحدة مثلا محاولا إدهاشها: أنا مصري. فتدهش صحيح وتقول: أحقا؟ إنه لشيء مثير! ولكن دهشتها لا تلبث أن تزول، ولا تلبث ابتسامة الاستئذان أن تلوح على فمها، ثم تنسحب من أمامه أو من جواره بكل خفة ورشاقة وبرود. لقد خدعوه ما في ذلك شك، هؤلاء الملاعين الذين قالوا له: يكفي أن تمشي في الشارع بلونك الأسمر وشعرك الأكرت حتى تجد النساء يتساقطن تحت أقدامك، بل يكفي أن تقول لأي واحدة إنك مصري حتى ينتهي كل شيء ... وها هو ذا قد قالها إلى الآن ألف مرة، ولم يبدأ أي شيء ...
ظل مصطفى يدور في الميدان بلا هدف، بل حتى دون أن يستطيع تغييره أو الانتقال إلى سواه، فهو الميدان الوحيد الذي يعرف منه الطريق إلى الفندق، وهو لا يريد أن يتوه في بلاد الناس، خاصة إذا كانت كل حصيلته من اللغات هي الكلمات الإنجليزية التي ما زالت عالقة بذهنه من دراسته في كلية التجارة، وبعض جمل بالفرنسية من التي كان يحفظها في أثناء دراسته بالثانوي من أمثال: كل المراكب من كل البلاد راسية في الميناء، وعلي كامل تلميذ مجتهد في المدرسة الثانوية.
अज्ञात पृष्ठ